التقديم : تمثّل الاشتغال بالعتبات النصيّة بما هي لواحق ومقدمات ... موضوعا معرفيّا حديث العهد بالدراسة . ويتنزّل ضمن تقاطع مشارب معرفيّة مختلفة يمكن أن نجملها في قضايا إنشائيّة النصّ والدراسات اللغويّة والمباحث المتّصلة بعلم الجمال وفلسفته . ويترجم اهتمام الباحثين ،على مختلف اختصاصاتهم، بهذه العتبات الخطورة التي تحوزها هذه العناصر في ضوء الكتابة الحديثة بشقيْها الإبداعيّ والنقديّ ـ وإن كان النقد مُدرَجا لدى البعض ضمن خانة الإبداع من جهة كونه كلاما على كلام وبحثا عن المعنى ـ عربيّا وعالميّا.
وقد اخترنا أن نشتغل بالعتبات النصيّة الواردة في رواية للكاتب التجريبيّ البحرينيّ " أمين صالح " بعنوان : والمنازل التي أبحرتْ أيضا" . وهو اختيار لم يكن وليد الصدفة أو نتاج خاطر عفويّ . وإنّما مرجع الأمر عندنا أنّ الوقوف على بعض الكليّات المتحكّمة في الرواية العربيّة يفترض موضوعيّا أن ننطلق من عيّنة منخرطة في تجربة إبداعيّة لها رصيدها وثقلها إن كميّا وإن نوعيّا . وقد مثّلتْ تجربة أمين صالح نموذجا توفّرت فيه الشروط والمعايير السابقة (2) . أضفْ إليها رغبتنا في الخروج من أسر المتروبولات الثقافيّة العربيّة التقليديّة ورغبتنا في استجلاء خصائص الحداثة الروائيّة في عالمنا العربي عبر تجارب جغرـ ثقافيّة مختلفة متنوّعة . ولا نزعم أنّنا قد اطّلعنا على المنجز الروائي العربيّ برمّته . ولكنّنا نزعم أنّ ما توفر لدينا من نصوص ابداعيّة وما وصلنا من قراءات نقديّة قد سمح لنا بالوصول إلى قناعة عمدتها أنّ الرواية العربيّة في العقود الثلاثة الأخيرة ، على الأقلّ، وإن كانت واقعة تحت تأثيراللغة الواحدة واستحقاقات تاريخيّة مشتركة ، كانت تتحرّك ، في مستوى المُنجَزِ ، وفق قانون التمرّد والمغايرة . هي مغايرة لروايات المركز سواء كان غربيّا أو عربيّا وهو تمرّد على الإرث السائد بغاية تجسيد المتفرّد وتنكّر للضوابط والتحديدات .
وهو مسلك يحوز فيما يحوز مشروعيّته النظريّة مادُمنا نتحرّك في عالم محكوم باللاتحدّد و اللاتعيّن على حدّ ما تذهب إليه المباحث الفزيائيّة وفلسفة الأنظمة اللاخطيّة non- linear systems dynamics . وما دامتِ البنى الكبرى المستقرّة في الظاهر و متشابهة إنّما تخفي في أعماقها حركة مستمرّة وحالة من التبدّل والتغاير الأبدييْن . وفي هذا السياق يذهب أوكتافيو باث إلى أنّ " الرؤية الشعريّة هي تلك التي تقوم على المقاربة بين الأشياء المختلفة... وفضلا عن ذلك هي تلك الرؤية التي تستجلي الكون ليس باعتباره تتابعا من الأشياء ، ولكن باعتباره منظومة من العوالم في حالة من الدوران" (3).
على أنّنا قد رأينا من الضروريّ أن نضبط في مرحلة أولى المنطلق النظري الذي نصدر عنه في تمثّل النصّ من حيث هو مفهوم مجرّد ومن حيث هو مادّة اشتغال موصوفة بالتعدّد والانفتاح اللانهائيّ على حدّ عبارة الناقد الإيطالي " أمبرتو إيكو" في كتابه الأساسيّ " الأثر المنفتح " (1) . ونزعم أنّ ضبط المصطلح في سياق عملنا هذا يعتبر ضرورة لازمة للوصول إلى الحدّ الأدنى من التوافق بين النصّ والطروحات الموظّفَة في استنطاقه وتأويله. وهو ضرورة ـ فيما نرى ـ لتحديد مشروعيّة العناصر التي نروم دراستها ونقصد بالعناصر ما يُصطلح على تسميته " بالعتبات" التي يبدو حضورها مادّة بحثيّة مبرَّرًا في سياق مفهوم للنصّ يتجاوز حدود الخطاب بما هو سلسلة من المتواليات اللغويّة القائمة على بنية لغويّة مخصوصة .
العتبات النصيّة في رواية " والمنازل التي أبحرتْ أيضا "
2 - الحدّ : يتفق الباحثون وعلماء الأدب على أنّ مسألة العتبات و توظيفها في قراءة النصوص وتحديد سماتها تُعتبرُ ـ مسألة العتبات ـ من المباحث الحديثة العهد في سياق الممارسات المختلفة لوحدات البحث السرديّ ومخابرها . وممّا تؤكّده السرديّات أنّ العتبات اسم جامع للعديد من العناصر والموادّ التي تتعلّق بالتجسيد الماديّ للرواية من حجم الورق ولونه وطبيعة الغلاف والصور المصاحبة و المقدمات والفواتح التي يستهلّ بها المؤلف روايته خاصّة وأيّ كتاب عامّة والعناوين... ويذهب الفرنسي " جيرار جينات" إلى تعريف العتبات كما يلي " يكمن الأثرُ الأدبيّ عامّة أو جوهريّا في نصّ . أي ( أدْنَى تحديد ) في سلسلة طويلة نسبيّا من الملفوظات الشفويّة الحائزة نسبيّا على دلالة . غير أنّ هذا النصّ نادرا ما يرد عاريا من مَدَدِ عدد من عناصر الإنتاج وملازمتها ، وهي بذاتها قد تكون شفويّة أو غير شفويّة ، مثل اسم مؤلف ،عنوان ، تمهيد ، صُوَر لا ندري بعْدُ إن كان يجب أن نعتبرها من النصّ أو لا . ولكنّها ، في كلّ حال ، تطوّقه وتُمدِّدُه إن أردنا التدقيق ، لتعرضه " (2) . وما يعنينا في هذا التعريف الدقيق ليس حجم العناصر المندرجة تحت باب العتبات فحسب . وإنّما الدور أو الوظيفة التي يمكن أن تجعل تلك العناصر/ الموادّ فاعلةً في توجيه عمليّة القراءة وتحديد الأبعاد الدلاليّة والرمزيّة والأسلوبيّة للرواية . وفي سياقنا هذا يندرج موقف "أندريا دالْ لونغو" الذي يرى وهو يحلّل العلاقة بين العتبات والقارئ " أنّ الأمر ينسحب على الاستهلالات الروائيّة . إذ كلّ بداية هي تعبير عن موقف تحت الشعور بالخوف من حُكْمِ القارئ الذي يجب بالتالي شدّ انتباهه وفِتْنَتُهُ " (3). وهو ما يعني أنّ المسألة ليستْ مجرّد ديباجة أو " موضة" دارجة بل تتنزّل ضمن إستراتيجية الكتابة الحديثة ونزوعها إلى التمهيد بهدف الإغواء و التأطير بغاية الإغراء وهو مسلك يُترجم إلى حد كبير التفاعل بين الكتابة الإبداعيّة والفعل الإقتصاديّ المترجَمِ في تقنيات الإشهار والتسويق.
2-1 تجلّي العتبات في الرواية: أعتقد أنّنا نتّفق جميعا في أنّ دراسة ظاهرة ما والوقوف على سماتها وخصائصها لتحديد القوانين الكليّة المتحكّمة في العمليّة الإبداعية يفترض حصر الظاهرة من الناحية الماديّة الكميّة وضبطها في جُرُود وخاناتٍ لتيسير عمليّة القراءة والاستنطاق . وعليه فقد ارتأينا ، ونحن ندرس رواية " والمنازل التي أبحرتْ أيضا" ، أن نهتمّ بالعتبات التالية :الإهداء ـ التصديرـ العنوان الرئيسيّ ـ العناوين الفرعيّة ـ العناوين الثانويّة ـ الترقيم ـ التأْريخ.
2-1 الإهداء لقد أسلفنا الإشارة إلى عمليّة التأطيرالتي تمارسها العتبات على ما يذهب إلى ذلك " لوري لوتمان " و" فيليب هامون" . وفي سياق التأطير تندرج عمليّة تحديد جنس المكتوب و منزعه . وما لفت إنتباهنا في رواية أمين صالح هو أنّ الإهداء لمْ يكن عامل تعيين وتوضيح بقدر ما ساهم في قذف القارئ ضمن أتون عوالم غريبة في هويّتها ـ إذ لم يستخدم المؤلف معجما يشي بطبيعة الخطاب الموظّف والجنس المنتسب إليه ويكون مشتركا في سَنَنِه مع القارئ ـ وغريبة من حيث أشكال التعبير عنها وأصناف الإحالات الدلاليّة المتّصلة . أمّا الغرابة الأولى فتتعلّق بهويّة المفْتَتَحِ بها قسم الإهداء " أنيسة المساء" . فالهويّة غدتْ في هذا الاستهلال مرهونة بالوظيفة ـ أنيسة ـ القائمة على توفير ظروف نفسيّة مخصوصة مدارها الأنس وعنوانها الحبور وغايتها التخفيف من حدّة المعيش وثِقَل وطأة الواقع وإن كان تأثير الوظيفة محدودة في الزمان " المساء" . ومن هذا الضرب في تعريف الذوات والوقوف على الهويات تنبجس أسئلة الحيرة تطوّق القارئ وتستفزّ رصيده من الفرضيات والاحتمالات ردّا على سؤال مركزيّ مضمونه " منْ تكون أنيسة المساء هذه ؟" أَ هي حبيبة الكاتب التي تؤثث عوالمه الظاهرة وتسكن أقصى أعماقه ؟ أم تراها الحكاية بما هي عنوان فصل من كتاب الطفولة ليتماهى الاثنان ـ الحكاية والطفولة ـ في ذاكرة المؤلف وينفلتا من قمقم الماضي عندما يشيخ العمر؟ أم تكون " أنيسة المساء" رؤية تخترق المناطق الحميمة والجوّانيّة وتعمُر خيال المؤلف كلّ مساء لمّا تسكن الحركة مثيل ما يعتري الأنبياء والأولياء والشعراء؟ ولعلّ ما يقويّ هذه الفكرة هو التشبيه المستخدم لتوصيف " أنيسة المساء" التي وردتْ على خواطر الكاتب " كالومض" . والومض هو الضوء السريع الظهور السريع الخفوت والغياب . إنّها القادح الفاعل في حكاية المؤلف سواء كانت الحكاية معيشة أم منتسبة إلى العوالم السرديّة .
ومن شأن هذا الغموض أن يأسر القارئ ويشدّه إلى متون الرواية علّه يظفر بأنيسة المساء التي كانت عتبة من العتبات المفضية إلى الرواية . وليست الغرابة فحسب هي ما يشدّ القارئ بل التلميح إلى البعد العاطفيّ الذي يستثير رغائب الإنسان و منازل حميمته . على أنّ الغرابة لا تخترق الإهداء في مستواه الدلاليّ فحسب وإنّما تجوز إلى مستواه الإنشائيّ ـ الأسلوبيّ . والقول بالجوانب الإنشائيّة لا يعني أنّها مجرّد أشكال لا تخضع لمنطق الدلالة بل على النقيض من ذلك إذ أنّ التقنيات لها هي الأخرى محمولاتها الدلاليّة الناجمة حتما عن تفاعل خصيب بين المتلقّي و معاني النصّ في ظلّ ما يحمله المتلقّي من تصوّرات ومفاهيم . وما يلوح جليّا من الناحية الأسلوبيّة هو اعتماد الكاتب اللغةَ المجازيّة لتحميل العبارة فنونا من الدلالة ليستْ مندرجة تحت باب المواضعات التي ألفها الإنسان واعتادها . والعدول بالعبارة عن مألوف معانيها يُكسب هذه العتبة بعدا شعريّا موغلا في الشعريّة . وقد تجلّى الشعر أوّل ما تجلّى في طريقة توزيع سواد الحبر على بياض الصفحات . فالقارئ يعاين أنّ الكاتب قد أرسل خطابه منتقيا السطر، في دلالته العروضيّة ، لتجسيد ما رنا إليه . وبذلك يتعاضد المجاز والتوزيع البصريّ للكتابة ليُقِيم عمود الشعر. وهاهنا تنبثق أولى المفارقات . إذ كيف تُقدُّ الرواية المفتَرَضُ إنتسابها إلى جنس يهدف تصوير لعوالم غير شعريّة إن لمْ نقلْ ضدّـ شعريّة ببوّابةً شعريّة ؟ ويُؤتى بالتركيب النحويّ ليرسّخ المعنى المطلوب ويثبّته من خلال مركّبٍ موصوليّ اسميّ يقتضي على عرف النحاة واللغويّين اسم موصول وصلته . والصلة تعني فيما تعني الترابط والتواصل والاستمرار ومن الصلة يكون الوصل مطلبا شعريّا ساهم في نسبة كبيرة من تراثنا الشعريّ . فهل مغزى ذلك أنّ الكاتب يجهد إلى تعويض الغياب والقطيعة الفعلييْن بتواصل وحضور لغويّيْن أي تخييلييْن وافتراضييْن ؟ . ويشدّنا في الصورة الواردة في الإهداء توا شجها بالمفعول المطلق " كالومض" لتتأسّس بعد ذلك علاقة تناقض بين دلالة المفعول المطلق في صيغته النحويّة ودلالته المعجميّة. فأنيسة المساء تأتي يلفّها حضور مختزل عبّر عنه الكاتب بالوميض في سرعة ظهوره وخفائه ويتأكّد المعنى بالربط بينها و بين الحلم بما هو تجربة خياليّة عابرة بعدما ربط أنيسته بوميض الضوء. لكنّ الصيغة الصرفيّة الموظفة لتعيين هذه الذات الهلاميّة تأتي مفارقة لهكذا دلالة لأنّ المصدر يعني مطلق الحدث مجرّدا من الزمن والذات في حين أنّ الشاعر يروم التحديد والتعيين وهما ـ الإطلاق والتحديد ـ ضدّان . وبذلك بعدل الشاعر بالصيغ الصرفيّة عن دلالاتها الموضوعة حسب الأعراف اللغويّة .. حتّّى لكأنّه يتقصّد نحت لغة جديدة لروايته وذاك مطلب عزيز من مطالب الحداثة.
ومن هذا المنطلق ينطرح سؤال اللغة التي تمثل نسقا علاميا هدفه تسمية الموجودات وتقييدها وتحقيق التواصل والتشارك في المعاني والدلالات . لكنّ الرواية تبني باللغة خيمة للغرابة وتقيم للعبارة ملاذا وتغدو فضاء الفرادة والقطيعة . و يؤدّي مثل هذا المسلك إلى خلخلة العلاقة القائمة بين شبكة العبارة المنتظمة في الخطاب وفق قوانين التعليق والصيغ الصرفيّة وبين شبكة المعاني المنتظمة وفق سنن معيّن في إجراء اللغة و أداء الكلام . ومادام هذا هو حال خطاب العتبة فإنّ الكاتب مضطرّ إلى أن يلوذ بالبلاغة ليعيد تأسيس مملكة المعنى . وقد استعان أمين صالح ، تبعا لذلك بالتشبيه" جاءتْ إليّ كالومض " والاستعارة " أهزّ سنابل الغواية جذرا جذرا" فكان الشعريّ وسيلة إلى تقييد العجائبيّ و اللامتحدّد . غير أنّ الأمر كان سيبدو طبيعيّا لو بقي المعجم الشعريّ حبيس الإهداء. لكنّنا وجدناه ينسحب من خارج الرواية إلى متونها ليخلط خطابها وفق كيمياء لفظيّة جديدة تعدل بالرواية عن مسارها السرديّ إلى لغة البويزيس .. وفي أكثر من موطن ألمح الشاعر إلى العلاقة المريبة بين روايته والشعر" تنزوي مع حفيدتها في ركنٍ ومعها تنسجُ من نول الذاكرة حكاية عامرة بالمفاجآت تطرزها بالحكمة تارة والتشويق تارة . ثمّ ترشّ حلم الحفيدة ـ آن تنام ـ بأنداء الطمأنينة" (1)
وليس منزع الشعر في الرواية محدودا بل نراه حاضرا بقوّة في مواطن مختلفة قائما في سياقات متعدّدة وجليّا في كلّ العناصر المكوّنة للخطاب الروائيّ . ومنذ الفصل والكاتب يؤطر الشخصيّة تأطيرا معه يلوح المجاز سمة قارّة في تبيّن بورتريه الصيّاد " جهما وحيدا ، كجرحٍ ، يعود الصيّاد السمك حاملا شبكته ... فيما الأصيل ـ هذا الوقت المتلبّد بالضجر ـ يمتصّ ما تبقّى من حُمَمِ الشمس و يضرّجها بالحمرة " (1) . ويستخدم أمين صالح الوسيلة ذاتها في تقديم صورة الصبيّ المنهك تعبا وجوعا وهو يقف على واجهة أحد المطاعم " ليس ثمّة فاصل بين هذا الصبيّ المغروس كالفزّاعة في رصيف منهك تتطاحن عليه الخُطى" (2) . ولا يختلف الأمر عندما يقوم الراوي بالوقوف على سمات المكان " في الطريق الواهب شغافه للمجازفات كما للمصادفات الذي سلكته نهارا بغال مرْهَقَةٌ تحمل على ظهورها الضباب الكثيف " (3).
وتصير الرواية فضاء التلاقي بين جنسيْن أدبييْن مختلفيْن أحدهما قديم قِدمَ الوجود البشريّ على الأرض وثانيهما يعود إلى فترة متأخّرة تعود إلى العصر الحديث ونشأة المجتمع البرجوازيّ وتلاشي السرد في ما هو غير السرد ما يثير قضايا نظريّة وإجرائيّة معقّدة تخلخل الثوابت النموسيّة العائدة على فنّ الرواية وأصولها البنيويّة والنموذجيّة والنموذج هو" الشكل المختزل والمجرّد لما تكرّر من عديد التجارب " (4) في مستوى الخطاب وما ينجرّ عنه من تأثيرات ستطال حتما الحكاية. والحديث عن الأصول البنيويّة للرواية لا يعني أن نتحدّث عن جنس نقيّ خالص لأنّه لوجود لهذا الجنس أصلا . فالرواية نشأتْ وتبلورتْ في ظلّ تداخل تخومها مع أجناس أدبيّةّ أخرى ولهذا يقول الباحث والكاتب المغربيّ محمّد برّادة " وليس من الدقّة في شيء أن نعرّف الخطاب الروائيّ بخصائص جوهريّة أو بصفات تمايز بينه وبين خطاب جنس أخر لأنّ المسار التاريخي الذي رسمنا بعض محطّاته ، أوضح أنّ الخطاب الروائيّ تكوّن بتماسّ مستمرّ مع خطابات الأجناس الأخرى"
ولكنّ القول بالتماسّ لا يجب أن يمنعنا من التمييز بين التواصل الأجناسيّ والتلاشي في جنس من غير الجنس المُبْدَعِ في ثناياه . إذ تنهض لغة الرواية عادة على تسلسل الأحداث في الزمن تنهض الرواية بسرد حكاية : أي مجموعة أحداث متسلسلة في الزمن من بداية إلى نهاية . والروائيّ يخضع الأحداث التي يروم سردها إلى عمليّة تقطيع وانتقاء ذي ترتيب زمنيّ . ولذلك يبدو الخطاب الشعريّ خطابا مجازيّا / إستعاريّا نازع إلى الوقوف والوصف وهو لذلك يصوّر مغامرة الشاعر عادة في اقتناص العبارة بينما الروائي يسعى عبر اللغة إلى اصطياد الحكاية وميّالا إلى استشراف المنابع الثرّة للغة في بكارتها " وفي التمثيل الشعريّ وفق المعنى الدقيق للعبارة ( في الصورة ـ الاستعارة) تتمّ الحركة كلّها (ديناميّة الكلمة ـ الصورة) بين الكلمة والموضوع (تحت كلّ مظاهره) . وتسيل العبارة في المعين الثرّ للموضوع ذاته، وفي تعدّدية أشكاله
المتناقضة ، في طبيعته البكر والمجهولة إلى الآن " (1) . ويبدو توظيف المجاز في الرواية بتلك الكثافة مشكليّا وفكريّا . هو مشكليّ لأنّه يضع بين يدي القارئ رواية تخالف في ضوابطها الكبرى على الأقلّ الرصيد الكبير من المدوّنة الروائيّة العربيّة وغير العربيّة . وهي مخالفة تؤدّي ضرورة إلى مجموعة من النتائج يجوز نعتها بغير الإيجابيّة . وأوّلها تفجير التعلّق الأجناسيّ برمّته لتنسل نصّا متمرّدا على المعايير والضوابط ، نصّا غير شرعيّ حتّى لكأنّه يروم أن يؤسس جنسه الخاص به وأصل روايات أخرى تكون منه إذ تكون مثله. و مثل هذه الرواية المتّصفة بالعقوق ، إذ هي تتصف بالشعريّة ، تخالف المعتاد في الذائقة وتنبو بقارئها عن المسالك المعهودة في تناول هذا الجنس من الإبداع الأدبيّ القائم على الحكايا بما تعنيه من مغامرة تكشف المجهول ويولّد تعاقب الأحداث تشويقا وتخويفا هما معا رصيد الروائيّ والحيلة المخفيّة في جعبته ليتيح لعمله أن يكون موضوع تلقّ واستهلاك و يرفع من نسب مقروئيته .
ومن شأن هذا النبوّ أن يطرح مسألة الدلالة التي تبدو لنا مسألة مركزيّة رغم الإصرار في سياق الأعمال الأدبيّة والفنيّة عامّة على الجوانب الجماليّة التي تبرّر النصوص وتضفي عليها فرادتها وبالتالي مشروعيّتها . ويتفق الجميع قرّاء وعلماءَ لغة ولسانيات وعلماءَ نفس على أهميّة التشارك في السنن والقواعد ليتحقّق التواصل بين منتج الخطاب ومتلقّيه . وفي صورة غياب هذا الشرط الأساسيّ فإنّ العمل الأدبيّ يصبح أشبه بالمتاهة من حيث الماهية وهو أقرب إلى الترف الفكريّ من حيث منطلقاته وهنا تكمن النتيجة السلبيّة الثانية من وجهة نظرنا طبعا . أمّا النتيجة الثالثة فتتعلّق بالقراءة من جهة كونها عمليّة نقديّة تفترض القدرة على ولوج ثنايا النصّ واستنطاق خفاياه الجماليّة والدلاليّة ممّا يسمح بتحديد منزلته ومقامه من مجمل الأعمال التي يتموقع معها .
أمّا السمة الثانية المتعلّقة بتبعات هذا المنحى في شعرنة الرواية Poétisation Du roman فتعود إلى المنطلقات الفلسفيّة التي صدر عنها أمين صالح في إبداع روايته . ولعلّنا لا نختلف في أنّ الخلفيّة غربيّة حداثويّة تؤمن بالفرد كذات خلاّقة لا يمكن أن تحقّق وجودها إلاّ بمحالفة السائد والمعهود والمسنون وغير خاف ما لهذا التوجه من أبعاد وجوديّة . وقد تجلّت سمات الفلسفة الوجوديّة في كلّ مناحي الحياة اليوميّة ولمْ يكن الفنّ بمنأى عن تأثيراتها . فتهاوتْ مقولات نقديّة عديدة وتغيّرت النظرة إلى الإبداع . ودعا علماء الجمال إلى زوال الحدود بين الأجناس ويدفعون إلى توحيد التعابير والمعايير في صلب العمل الواحد على حد ما يصرّح به الفيلسوف الإيطاليّ " بنيديت كروتشي " الذي نفى ثنائيّة التعبير والجميل" إنّ التعبير والجميل ليسا بمصطلحيْن وإنّما مصطلح واحد يجوز أن نعيّن بأحدهما أو بالأخر المفردة ذاتها" (2)
وهي وهنا يكمن أحد مبرّرات عملنا ألا وهو : التجريب . وهو مصطلح غير متوفّر في أغلب المعاجم العربيّة القديمة . ولم يتواتر استخدامه ضمن المتون النقديّة والنظريّة العربيّة إلاّ في فترة متأخّرة . وهو يعني من الناحية الاصطلاحية أنّ أيّ نصّ أدبيّ لا يستطيع أن يكون تجريبيّا إلاّ متى" جدّد في الأشكال وكان صريح الرفض لسنن الإبداع والقراءة " (1) . و لا يُعتبر التجريب مدرسة مستقلّة بذاتها أو توجّها له مقوّماته النظريّة الخاصّة بل هو منزع يَسِمُ أعمالا فنيّة مختلفة راغبة عن المناويل السائدة والنماذج المتداولة. وربّما كان وصفه بالقطيعة الفنيّة ـ نهجا على عادة الفلاسفة في الحديث عن القطيعة الإبستيمولوجيّة ـ أقرب إلى الحقيقة . ويورد الباحث والكاتب التونسي محمّد الباردي في هذا الخصوص أنّ " الأدب التجريبيّ كما تعرّفه بعض القواميس المختصّة يشخّص فترات القطيعة في التواصل الإبداعي ويوافق بالنسبة إلى الكاتب والقارئ تحرّرا من المصطلحات السائدة" (2) . وجماع ما سبق ذكره ينصبّ في الحداثة بما هي مفهوم فلسفيّ مرتبط بثورة اجتماعية كليّة مسّت العلوم والفلاسفة والاقتصاد والنظرة إلى الفرد والأخر.
2-1-1 التصدير: ينتسب التصدير إلى العتبات من جهة الأصول وينهض بدور جماليّ ودلاليّ في مستوى النصّ ويقود القرّاء / الباحثين إلى مقاربة معيّنة والتأثير في النتائج التأويلية المتوصَّل إليها . ولذلك جاز القول " إنّ كلّ استهلال ليس إذا بريئا ولا يستطيع أن يكون كذلك بحكم أن أنّه يجب أن يتصادم مع مناويل معروفة إلى درجة أنّها غدتْ أحيانا وحدها دالّة على الجنس الروائيّ " (3) . والناظر في تصدير الرجل " عيناك مفتوحتان على الضوء .. لكنّك لا ترى" يجد نفسه ـ نحويّا ـ أمام جملتيْن اسميتيْن متقابلتيْن تركيبيّا ودلاليّا . ونردّ التقابل النحويّ بينهما إلى تصدير الجملة الثانية بأداة استدراك " لكنّ " التي تعدّل من مسار الدلالة وتنزاح بالحاصل في ذهن المتلقّي عن الجملة الأولى إلى الطرف . والعادة عند اللغويّين أنّ الاستدراك يُؤتى به لرفع اللبس أو تنسيب الحكم والقاعدة أو للتذكير بالشاذ والمُستثْنى ليكون شبيها بعدول منشئ الكلام عمّا قصد إليه أوّلا ونستطيع أن نجد تواشجا بين العدول النحويّ والعدول الأجناسيّ الذي أشرنا إليه سابقا . أمّا التقابل الثاني فمردّه الدلالة إذ تبني اللغة في جملتها الأولى دلالتها على الإبصار والمعاينة من جهة الحاسّة " عيناك " ومن ْ جهة الوضعيّة " مفتوحتان " ومن جهة المحيط " الضوء" وهو ما يؤهّل الذات إلى استيعاب العالم من حولها . غير أنّ هذا المعنى سرعان ما يتلاشى بالحكم الوارد في الجملة الثانية " لكنّك لا ترى " فتكفّ الجملة الأولى عن التأثير ويغيب معناها أو يُغيَّب تحت وقع دلالة الجملة الثانية وفعلها . والسؤال الحارق والذي نراه متّصلا بوظيفة سرديّة ودلاليّة ينهض كالتالي : لِمَ لا تبصِر رغم أنّ الشروط متوفّرة ؟ وهل معنى ذلك أنّ الشروط والمعايير الخارجيّة الماديّة بالضرورة ليستْ كافية لتحقيق عمليّة الإبصار؟
أم أنّنا نواجه عوالم متوازية مختلفة والعين لا تبصر إلاّ الظاهر والمزيف منها؟ وما غاية الكاتب من وراء هذه الوضعيّة المربكة ؟ أسئلة عدّة وغيرها كثير تؤكد الوظيفة السرديّة للتصدير من ناحية ودوره في تهيئة القارئ ليرتاد تضاريس مجهولة من ألوان الكتابة الروائيّة . وطرافة التصدير لا تقف من وجهة نظرنا عند حدود المسألة اللغويّة بتركيبها ودلالتها . وإنّما تتجاوز ذلك إلى الخلفيّة الجماليّة والفلسفيّة التي صدرتْ عنها الرواية . وقد أشار أمين صالح إلى المصدر الذي استقى منه الجملتيْن / التصدير وهو الشاعر والمسرحي اليونانيّ سوفوكل ( 495 ـ 406 . ق . م ) . وفي العودة إلى هكذا مصدر أكثر من دلالة فللرجليْن اتفاق في الشعرـ وإن كان سوفوكل مبدعا شعريّا فإنّ أمين صالح كاتب الرواية الشعريّة دون أن يؤلف الشعر الصرف المنتسب إلى جنسه ـ والتجديد الذي مارسه سوفوكل في مستوى بنية الترا جيديا وفي مستوى معناها (1) نجده مندسّا في رواية أمين صالح من خلال تغيير جلد الرواية من لغة الخاصّ" التاريخ والأحداث" إلى لغة العامّ والكليّ " الشعر" على حدّ عبارة أرسطو. وسنرى في سياق عملنا هذا مدى التجديد الذي أنجزه أمين صالح بقطع النظر عن النتائج المنجرّة عن التجديد وبقطع النظر عن موقف بعض النقّاد من مسألة التجريب والتجديد الروائييْن وتأثيرهما في تواصليّة النصّ مع القارئ .
ونستطيع أن نرى في هذا الاستهلال أكثر من كونه مجرّد تمهيد أو ديباجة صارتْ متواترة في عرف المبدعين حديثا والأسباب الداعية إلى ذلك كثيرة والداعمة لمثل هذا الموقف متنوّعة . فمِنَ الناحية الروائيّة لمْ يكن التقاطع من النصّ المسرحيّ تقاطعا عدديّا بل تقاطعا هندسيّا يتفشّى في ثنايا الرواية وتطالعنا في سياقات عدّة شخصيّات ووضعيّات تستحيل فيها الرؤيا رغم توفّر الشروط المناسبة والوسائل المساعدة " في خضمّ كلّ هذا لا أحد يتمعّن في حال ذاك الصبيّ الواقف بلا حراك وراء الحاجز الزجاجيّ والذي تتخبّط نظراته بين وعورة حاضر والتباس ماض ...كأنّه غير موجود، كائن أثيريّ أو محض شبح لا يُرى" (2). ومعنى ذلك أنّ المتن الناهض على الشاهد المسرحيّ الوارد في التصدير قد هيمن على جزء من المناخات السرديّة للرواية. وأنت تتقدّم في " و المنازل التي أبحرتْ أيضا " تلامس أكثر التناصّ بين الرواية والمسرح في الفصل المعنون بـ " نزيل العزلة" المبنيّ على شخصيّة الأعمى وخفايا عوالمه الباطنيّة " اعتاد الرجل الأعمى أن يخرج من بيته كلّ صباح مستعينا بحواسّه الأخرى ، بغرائزه التي تؤازره أحيانا وتخذله أحيانا ، بالحدس الشفيف ، بما وهبته له التجربة من خبرة ومكر وفراسة يعلّقها على زنده كالتمائم " (3) .
كان العمى وسيلة انفصال الرجل عن العالم الخارجي المبتذل لكنّه ـ أي العمى ـ كان وسيلته كذلك إلى التواصل مع العالم من جهة الخيال والفانتازيا . فتبدو الحياة صنو الجمال ومرادفة الحبور وفضاء خاليا من كلّ أشكال التصادم بين الذات الحالمة والواقع المحكوم بقوانين نفي الذات وتهميشها قبل إخضاعها لمنطق الإستيلاب " لقد انفصل عن العالم الواقعيّ بصريّا لكن اتّصل به غريزيّا ومن خلال بوّابة الخيال" (1) . ولعلّنا نتّفق في أنّ ظاهرة الإغراب متوفّرة في هذا الشاهد حيث يصبح العمى جسرا يحقّق تحرّر الإنسان من السائد و تخلّصه من المعلوم والمشتَرَك . ويوغل الكاتب في الإنشائيّة والفرادة عندما نراه يدفع الأشياء إلى أقصاه و بالنصّ بلوغ منتهاه عندما يجعل من العمى ـ وهو في الأصل إعاقة وقعود آلة الجسد عن القيام ببعض من وظائفهاـ مناسبة لإعادة تأسيس علاقة الذات بالمحيط وفق معاييرالتناغم والإندماج اللذيْن يعودان بالمرء إلى مرحلة التفكير الأسطوري التي كانت ـ على سلبيّتها الفعليّة ـ تتيح للإنسان أن يعيش في عالم تؤثثه علاقات حميمة بين الذات والمحيط دون إحساس بالغربة أو العداء . وليس الخروج عن الرأي العام والمشترك سوى تمرّد على سلطة اللوغوس التي تشيّئ العالم وتحنّط علاقتنا به خالقة بذلك وضعيّة غربةٍ و حالة اغتراب . ونستطيع أن نطلق على هذه الوضعيّة نعت العمَهِ Le chaos . وحتّى لا يكون تحليلنا ضربا من ضروب التأويل وحتّى لا يذهبنّ في ذهن القارئ أنّ في الأمر تعسّفا على النصّ بإقحامه في مجالات دلاليّة هو بريء منها ، فإنّنا نجد أنفسنا ، ونحن نجوس المتن الروائيّ ، أمام حالة غريبة تتلاقى فيها الأضداد ويغدو المعقول لا معقولا و تسقط مقولات المنطق ونواميس العرف والعادة . إذ لا يستطيع المرء أن يستوعب حالة الإحباط التي مسّت " نزيل الوحدة " بعد أن استرجع بواسطة العلم بصره" لقد استعاد بصره حقّا لكنّه بدّد ، أو بالأحرى خان ، مخيّلته . الآن يُبصر كلّ شيء ، كلّ كائن حيّ كما هو وعلى حقيقته بلا زينة بلا سحر يكتشف كينونته و لا فتنة تجمّل وجوده . يرى الواقع في رتابته والحاضر في ابتذاله والأماكن بكلّ جمودها وعاديتها . أمّا البشر فأضحوْا أكثر فظاظة معه وتجاهلا له منذ أن علموا بزوال عاهته" (2). وبالخروج من العمى تسقط الشخصيّة في ما يسمّيه علماء الفيزياء " بالكيوتيكا " . وما إن نعمل منطق الحفر الدلاليّ حتّى نعاين في صدمة الأعمى الذي إذا مبصرا أو البصير الذي غدا أعمى أزمة المثقف والفيلسوف والمبدع وهمْ يصطدمون بحقيقة الواقع البائس والمبتذل والمتلاشي في الرتابة والتكرار وما يجرّ ذلك من تضييع للمعنى الذي يبرّر الفعل الإنسانيّ ويمنحنا مشروعيّة الوجود والأمل بالغد والإيمان بالقدرة على تغيير مسارنا وبالتالي مسار العالم . إنّها هزيمة العقل / نور البصر أمام واقع يشوّه الجمال و يُقصي الخيال و يئد الروح في مملكة المادّة المزيّفة والصورة المدنّسة . على أنّ التماس بين الروائيّ والمسرحيّ لا ينحصر في هذا المستوى الأوّل المتعلّق بالدلالة إلى حدّ كبير. وإنّما يتسلّط ـ أي التماس بين الفنّيْن ـ على المعجم المستخدم لتطالعنا أبجديات الفنّ المسرحي في عبارات ومصطلحات عدّة منها القناع والتخفّي " ألا تودّ هذه الأنشوطة أن تكون لعبةً يلهو بها طفل أو قناعا يتخفّى وراءه وجه لا يُضمرُ شرّا " (3) ومن القناع ينبجس المشهد في حديث متّصل بالجلاّد" جلاّد لا يُحسن ترجمة المشهد . ويحسب أنّ إيماءاته الملولة قادرة على أن تُبدّد ما هو ملتبس ... لذا يعبّ من الفكاهة المرّة ما شاءت له نفسه المرّة " (1) مشهد ، إيماءات ، فكاهة مرّة عبارات تنضح مسرحا و تنغرس في قاعات العرض حيث الجمهور يتابع المشاهد والممّلون يوظفون تعابيرهم الجسديّة / الإيماءات للنهوض بدلالة / قيمة يحملها نصّ مسرحيّ كوميديّ تتعمّق فيه مأساة الذات من خلال تمثُّل الألمْ من قِبَل الأخر على أساس انّه مزحة ويمتزج عندئذ الألم بالقطيعة والغربة لتتعمّق قساوة الحياة وتزداد وطأتها. ومتى وصلت القراءة ولعبة الرضوخ للغواية فإنّك واجد نفسك لا محالة أمام جمهور ضجِرٍ لا يبالي بما يرى أو يسمع أو هو لا يرغب في الرؤية أو السمع" جمهور يستعين بالضجيج كي لا يُنصت إلى ما يهمس به ضميره ... مولع بالفرجة هذا الجمهور... ما الذي يفتن في دم يتّكئ الآن متخثّرا على أطراف المشهد ؟ أم أنّ للموت رائحة تخلبُ الحواسّ قبل أن يميط اللثام عن حضوره الفاجع " (2) .
جمهور وفرجة ومن الكوميديا إلى الترجيديا بهكذا أدوات يبني أمين صالح معمار روايته ويقدّ أركانها ويشدّ أطرافها. ومع ذلك تستمرّ الحيرة ومعها قادح السؤال ينوس بالذات من خشبة المسرح إلى واقع المدينة الحديثة حيث الإنسان فيها فَقَد هويّته وأضاع ، تحت زخم رأسمال والشركات المتعدّدة الجنسيات ، عناصر فرادته ومبرّرات وجوده ليغدوَ مجرّد رقم من جمهور تنفخه الإحصائيات المزيفَة وتجزره إشهارات كاذبة لا تولّد فيه غير العطالة وبلادة التفكير وجنوح الروح إلى السبات في مجتمع الصور النمطيّة . ونخلص من هذه العتبة إلى حقيقتيْن : الأولى مشدودة إلى منطق التجريب وتحرير النصّ من سيطرة الجنس الأدبيّ أو من وهم الجنس الأدبيّ ممّا سمح للكاتب والقارئ والدلالة بالإبحار من فنّ إلى أخر ومن جنس أدبيّ إلى ما يخالفه أو يناقضه في مستوى البنية وأدوات العمل ومواد الإنتاج . والثانية تعود إلى الوظيفة المركزيّة التي تلعبها العتبات بما هي العناصر خارجة عادة عن المتن ، في المتن حيث بدا لنا التصدير سلطة عليا أو قاعدة منتمية إلى المتعاليات النصيّة على حدّ عبارة " جيرار جينات " الذي أعدّ كتابا مخصوصا لدراسة المتعاليات النصيّة بحكم أنّها نواميس ملازمة لكلّ عمليّة إنتاج نصّيّة بقطع النظر عن طبيعة هذا النصّ أدبيّة كانت أم غير أدبيّة (3) . وعليه يبدو الكاتب مضطرّا إلى التقيّد بالحواشي / العتبات التي غدتْ النصّ مصغّرا .
2 - 1 - 1 العناوين
2 - 1 - 1 العنوان الرئيسيّ : تشكّل العناوين بأنواعها المختلفة مادّة معرفيّة يشتغل بها علماء العناوين ضمن مشغل جديد هو Titrologie الذي يزعم الباحث أنّه يؤكّد التحوّل الذي شهدته حواشي النصّ من مستوى الحضور الزخرفيّ المصطنع إلى مستوى العناصر البنيويّة الفاعلة في تشكيل الخطاب وتحديد سمات النصّ وهندسته . وهي صيرورة منطقيّة وضروريّة مادامت العناوين تنهض بأكثر من وظيفة . فهي عتبة إعلاميّة تنبئ عن النصّ وتشير إليه وتميّزه عن غيره ليسهل الإطلاع ويتيسّر البحث . وهو ـ أي العنوان ـ فضاء التلاقي الأوّل بين القارئ والمقروء مع ما يستتبع من التأثير الممارس للترغيب في عمليّة الاستهلاك على حدّ عبارة بارت. بنى أمين صالح روايته وفق مستويات ثلاثة من العناوين : عنوان رئيسيّ خارجيّ . وعناوين داخليّة وشفعها بضرب أخر من العناوين الثانويّة . وسنسعى إلى ضبط المادّة العنوانيّة في مداخلتنا هذه في مرحلة أولى لتتيسّر عمليّة القراءة والتأويل في مرحلة ثانية .
* العنوان الرئيسيّ : " والمنازل التي أبحرتْ أيضا "
البنية النحويّة / التركيبيّة : لا يخلو هذا العنوان من طرافة وغرابة وشعريّة وفي اجتماعها تعبير عن وعي المبدع بأهميّة العنوان / مفتاح الرواية وترجمة للحرفيّة التي يحوزها مؤلف " أغنية ..أ . ص . الأولى" ونهجه في نحت فعل الكتابة واصطياد القارئ والتهويم به في عوالم سرديّة مُترعة برحيق الشعر . وتنجلي تلكمُ السمات التي اجتمعتْ أوّل ما تنجلي من خلال البنية النحويّة التركيبيّة إذ وظّف الكاتب مركّبا نعتيّا تحكمه علاقة الموصول والصلة " التي " لكنّ الغريب أو الطريف هو حرف " الواو " الذي افتتِح بها العنوان وقد بدا حرفا ملتبسا باعثا على الحيرة ومردّ ذلك تغاير الوظيفة النحويّة فهو إمّا حرف عطف أو حرف استئناف . ومتى ارتأينا أن نعامله معاملة " العطف" فإنّ السؤال سيتّجه صوب المعطوف عليه الغائب في هذا العنوان ونحن نعلم أنّ المركب العطفيّ مركّب تلازميّ مهما تباعدتْ أطرافه أي لا يستقيم في عرف النحاة وعلماء اللغة إلاّ متى تعاضد "المعطوف عليه" و"المعطوف " لكنّ أمين صالح يأبى إلاّ أن يخرق القاعدة النحويّة ويأبى إلاّ أن يهتك المعلوم من لغة العرب في سياق الحداثة أو التجريب أو الإبداع .
أمّا إذا ذهبنا مذهب الإسناد فإنّ " والمنازل التي أبحرتْ أيضا" ستكون مركّبا إسناد يا / جملة منقوصة المُسنَدِ / الخبر إذ يكتفي الكاتب بالمبتدإ تاركا الخبر وتكون القاعدة الغويّة من هذه الزاوية مختلّة كذلك حتّى لو قلنا بالحذف والاختزال لأنّ هذه العمليّة تفترض اتفاق منشئ الكلام ومتلقّيه في السياق / المقام قبل حذف العناصر التي ستغدو ضربا ممجوجا من التكرار وهي وضعيّة غير قائمة في علاقة أمين صالح بقرّائه والسؤال أين الخبر المتمّم للمبتدإ . وعليه يجد القارئ نفسه أمام عنوان افتراضيا هو منقوص من جهة البدء ( المعطوف عليه ) ومن جهة المخْتَتَمِ ( الخبر) وفي الحالتيْن تتجسّد رغبة الكاتب في التمرّد على قواعد النحو والإعراب ممّا يعود بنا إلى الخلفيّة الإيديولوجيّة المتحكّمة في عمليّة نسج المتخيّل السرديّ في رواية أمين صالح ومقصود تحليلنا هو المنزع التجريبيّ الواسم كلّ روايات الرجل.
والمسألة من وجهة نظرنا لا تنحصر في مجال التركيب النحويّ وإنّما تنسحب على مجال الدلالة مشكّلة طبقة سديميّة تحول دون الوقوع على كلّ مكوّنات عوالم أمين صالح السرديّة . ولا يملك القارئ غير السؤال نهجا في تحقيق المعرفة وجسرا يفضي من خلاله بمكنون نفسه التائهة بين افتراضات عدّة واحتمالات جمّة . ومردّ الغرابة والحيرة حضور المفعول المطلق" أيضا" الذي يفترض وجود عناصر أخرى تندرج في إطار المُبحرين. فمنْ هو المسافر / المبحر وما عددهم حتّى يحتمل العنوان " أيضا" ؟ وهل التركيب النحويّ الحاضن للمفعول المطلق يكتفي بتصوير كمّ المسافرين ؟ أم يصوّر فيما يصوّر موقفا فرديّا وحالا نفسيّة تعصف بالكاتب؟ وتفرض عليه قول ما قال ؟ أسئلة عدّة تظلّ معلّقة فوق سقف العنوان قاذفة الرواية وقارئها في عوالم غريبة منذ الفواتح وتعدّد الأسئلة يثير حيرة القارئ ورغبته فيدفعه إلى الإقبال بنهم على العمل المكتوب علّه يظفر بما يُسكت أسئلته الحرّى ويبلّ غليل الفضول وطلب الوقوع على المجهول .
البنية البلاغيّة : يتّفق علماء البلاغة والشعريّة على أنّ المجاز هو عماد الصورة البلاغيّة ومدار المعنى فيها متعلّق بهذا الجواز باللفظ من مسمّى إلى أخر رغبة من المتكلّم في تقوية المعنى أو بلوغ الأقاصي في التأثير في السامع / المتلقّي وفي هذا السياق يقول الجرجاني " وأمّا المجاز قفد عوّل الناس في حدّه على حديث النقْل . وأنّ كلّ لفظ نُقِلَ عن موضوعه فهو مجاز. والكلام في ذلك يطول وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موقع أخر" (1) غير أنّ المجاز اسم جامع تندرج ضمنه مفاهيم متنوّعة ومصطلحات متعدّدة من أهمّها التشبيه والتمثيل والاستعارة ويعرّف الجرجاني الاستعارة قائلا " فالاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء فتَدَعَ أن تُفصحَ بالتشبيه وتظهره وتجئ إلى اسم المُشَبَّهِ به فتُعيره المشبّه و تجريه عليه" (2). و يلتقي الجرجاني مع بول ريكورـ مع التنصيص على إختلاف المنطلقات المعرفيّة والهواجس الفكريّة بين الرجليْن ـ في بعض المعاني المتّصلة بحدّ الاستعارة حيث يرى أنّه بالإمكان " أن نتبنّى في تخمين أوّل ، تعريفا للاستعارة يماهيها بعمليّة نقل اسم غريب إلى شيء أخر الأمر الذي يحول دون إكساب هذا الشيء تسمية خاصّة" (3).
وعندما يعود القارئ إلى رواية أمين صالح يلفي العنوان ناهضا على صورة بلاغيّة عمادها الاستعارة المكنيّة فالمنازل وقع تشبيهها بالإنسان أو السفن وأسقط منشئ الكلام المشبّهَ به جزئيّا لمّا أبقى في خطابه واحدة من لوازم المشبّه به وهي الإبحار. على أنّنا وجدنا المبدع في هذه الصورة لا يميل إلى الإختزال والتقريب وإنّما يروم فتح ضفّة التأويل أمام الذات القارئة . ولن نطرح الصورة الغريبة مطرح السؤال : كيف تستطيع المنازل أن ترحل ؟ .بل سنبني أطروحتنا على أنّ هذه الإبحار حقيقة قائمة لا مجال للتشكيك فيها فاتحين في الآن ذاته مصراعي السؤال والاستفهام على تخوم أخرى بعضها عائد إلى الدواعي والمبرّرات التي حدتْ بالمنازل إلى الرحيل وبعضها عالق بالنتائج الفكريّة المنجرّة عن هكذا ترحال أو إبحار.
تتنازع في أعماقنا ، ونحن نفكّ شفرة العنوان ، صورتان عن المنازل . صورة الاستقرار والثبات إذ من البديهيّ أنّ المنازل أُطر مكانيّة منغرسة في الأرض مشدودة إلى اليابسة وحاضنة للنازلين بها المتّسمين بالحركة والتنقّل . وعلى هذا الأساس تبدو مناقضة لفعل الذات الإنسانيّة بل إنّها تقف أمام ترحال الذات وسفرها وإبحارها . كانت هذه صورة الواقع والمنطق والعادة المألوفة. أمّا الصورة الثانية فهي التي تنضحها رواية أمين صالح وتتجلّى لنا على نقيض الأولى إذ هي لا تنشد البقاء وما تتّصف بالثبات ولن تمنع أصحابها من الإبحار بل نراها تسابقهم إليه أو تلحق بهم " والمنازل التي أبحرتْ أيضا" وربّما كانت "أيضا" هذه عائدة على موقف المتكلّم وهو يرى المنازل تبحر مثل أصحابها ويجوز لنا في سياق تأويليّ أن نجد رابطا قويّا بين العنوان الرئيسيّ / الخارجيّ والفصل الأخير من الرواية المعنون بــ" صور شخصيّة لعائلة في سفر" ويغدو سفر النازلين / العائلة سببا في انتقال عدوى الرحيل إلى المنازل التي اختارت أن تهاجر أو تسافر عبر البحر. وبمثل هذا النهج في الكتابة وتخريج الصور يشوّش الكاتب الرصيد الراسخ في الذاكرة ويقذفنا نحو عالم غريب يقُدّهُ من طينة الخيال وينفخ فيه من روح التمرّد و يبثّه لواعج الكشف و ريادة المجهول بحثا عن التجربة البكر. إنّها كتابة ، بطريقة ما ، تحرّر الطاقة الكامنة فينا والمتكلّسة بفعل الزمن والتنشئة ودروس المنطق المتبلّد . وبتحرّكها ـ أي المنازل ـ نعود إلى زمن الطفولة والأسطورة حيث يبدو كلّ شيء ممكنا وحيث يتبدّى العالم أليفا حميما غير مختلف عنّا . هي عودة إن شئتَ أو هي خلق من جديد إن ارتأيت والصيغتان تبدوان من صميم الشعر. وسيكون هذا الخروج بالصورة عن المألوف والمقبول تعبيرا عن خلفيّة التجريب الذي صدرتْ عنه الرواية .
وفي خروج الثابت عن ثباته ، منزلا كان أن نزيلا ، والرواية عمل فنيّ فيه ما فيه من الرمز والتماهي والتماثل ، عدول صوب المغامرة وما تحتويه من معاني التيه باعتبار حداثة التجربة وغرابة العالم الجديد. فالمعتاد على اليابسة ليس من الهيّن عليه أن يقيم في البحر لذلك يُصاب بعض المسافرين بدوار البحر . ومع المغامرة تكون المخاطرة لأنّه ضرب في غير المعتاد ومواجهة غير محسوبة وغير مأمونة النتائج. ولكن ما الذي دفع المقيم إلى الرحيل والثابت إلى الإبحار؟ حتما سيكون الدافع قويّا والحاثّ جليلا ليحدث الانقلاب وتتبدّل النواميس . وما عساه يكون ترك الأصول والتمرد على الجذور غير رفض للواقع وتطلّع نحو مناطق و تضاريس لم يعرفها الجغرافيّون ولم يدنّسها المؤرّخون بمآربهم " إلى التخوم البعيدة ، التي نسيتها الخرائط ، يمضي وفي عينيه يتلألأ تضاريس مكان غريب لم ينبشه قطّ جغرافيّون مأخوذون بالفتح ، ولم يعبث به مؤرخون لهم مآرب خفيّة" (1).إنّها فلسفة الحداثة ترنو إلى التحرّر ممّا يكبّل الذات وحركتها . إنّها فلسفة الحداثة بما تعنيه من خلق على غير منوال وسلوك مبتَكَرٍ وفكرٍ ثائر هائج عبّر عنها الشاعر التونسي في كثير من قصائده نختزلها في البيتيْن التالييْن:
خُلِقْتَ طليقا كطيف النسيم *** وحرًّا كنور الضحى في سماهْ ...
أَلاَ انهضْ و سرْ في سبيل الحياةِ*** فمنْ نامَ لمْ تنتظرْهُ الحياهْ (2) .
وإذا كانت هذه بعض المبرّرات فإنّ النتائج ستتوزّع على مستويات عدّة معرفيّة ووجوديّة وحضاريّة لأنّ الرحيل صوب المجهول ـ وإن كانت مغامرة ومخاطرة ـ سيتيح للذات تمثّل صورة مغايرة عن العالم مع ما يفترضه التمثّل من طرائق معرفيّة مختلفة ومناهج غير معهودة والتواصل مع عالم مخالف إيجابا وسلبا . والمستوى الوجودي فيرتبط بالمستوى المعرفي من ناحية ويتعلّق بعمليّة التثاقف التي تعمّق الوعي بالذات
وسماتها الخاصّة نازعة عنها أوهاما ترسّختْ لديها عبر قرون . لكنّ البعد السلبيّ سيتعلّق بحالة الغربة التي سنعاينها في منازلنا التي ستختلف عمّا عهدناه . ومنْ يفكّر في منزله لحظة سيدرك أنّها يتحرّك في منزل غريب عنه في منزل أثّثه الآخرون من السجّاد إلى تصميم الغرف والأجهزة القادمة إلينا من أقصى الشرق و الغرب.
2 - 1 - 1 - 1 العناوين الفرعيّة: تحتوي الرواية أربعة عشر عنوانا داخليّا يمثّل جميعها صورا مختزلة للرواية إن أسلوبا وإن دلالة وقد وردتْ كما يلي: مساء يُضرم المكائد / الغزال الذي مضى مطأطئا / العجوز التي حاكت حلما خجولا / مدى فسيح تتراكض فيه الرياح / عند قناديل تُبارك اليقظة / أُفُقٌ لا يمسّه جناح / هو والهاوية .. وجها لوجه / ضغينة الخارج من نومه مكفهرّا / غريب في الخلاء ذاته / نزيل العزلة / باب مفتوح على الخاتمة / ندف ظهيرة باردة / عن مصائر تُهرول نحو ضفاف سماويّة / صور شخصيّة لعائلة في سفر.
لِمَ يصرّ الكاتب على الوصل والموصولات في رواية تنتسب إلى الروايات الحديثة المتشظيّة ؟ * ويقول الباردي" في هذه الروايات تتشظّى الحكاية إلى حكايات عديدة وينعكس تشظّي الحكاية على بناء السرد برمّته . فينقطع ذاك الترابط المُحكَم بين الشخصيات الروائيّة وتغيب تلك الشخصيّة المحوريّة.. وعندئذ يصبح التشظّي مظهرا من مظاهر انحلال الشكل الروائيّ " (1). ومن جدليّة التشظّي والموصول تنهض الرواية وتقوم إنشائيّتها متّسقة موصولة أطرافها وإن كان بخيط واهٍ أوهى من بيت العنكبوت. لقد عوّض الوصل النحويّ ما عَمَرَ " والمنازل التي أبحرتْ أيضا " من تمزّق حِبَكيّ وتشتّت حكائيّ وهو ما يدفع إلى تمثّل الرواية وهي تنسج خيوطا جديدة في البناء متمرّدة على أشكال الربط والترابط التقليديّة لتنخرط في صميم الحداثة الروائيّة وتحديدا في منزعها التجريبيّ . بذلك يكون التركيب النحويّ مرّة أخرى دليلنا إلى تلمّس جماليّة الرواية ومنطلقاتها الفلسفيّة والفكريّة .
على أنّ المركّبات الموصولة لا تشي بأسرار الحكاية المتشظّية فحسب بل تغوص في أعماق الذات ومن خلفها المجتمع لتُبين عن التهميش والتلاشي المهيمنيْن على الذوات دون الوقوع في النسخ وإعادة تصوير الموجود وفي هذا السياق يذهب الباحث بيير. ف . زيما عندما يورد " إنّ الأثر الفنيّ الجدير بهذه التسمية ( الأثر العظيم ، غولدمان ) لا يعكس ولا يعيد ، فورا ، إنتاج الوقائع الاجتماعية والبنى الإيديولوجيّة ولكنّه [ الأثر الفنيّ] ينهض بوظيفة هي في الآن ذاته معرفيّة ونقديّة تمنح الشفافيّة لحقيقة في ظاهرها عدميّة " (2). فالمركّبات الموصولة الناهضة بوظيفة النعت تعني أنّنا إزاء ذوات فقدت الهويّة وتلاشتْ أسماؤها ولمْ تبق في جرابها غير النعوت الدالّة على الأحوال أو الأفعال . وفي غياب الأسماء نكتشف غياب المسميات والذات الإنسانيّة واحدة من المسميات التي فقدت مع الاسم ما يميزّها عن غيرها وهو عنوان المجتمع الرأسمالي الذي يطارد الخصوصيّة باسم العالميّة ويحارب الهويّة باسم الكونيّة و يقصي الحميم بتعلّة الوصول إلى الآخرين .
وعليه يكتشف القارئ سرّ الكاتب في التعتيم على شخصيات روايته وسكوته عن أسمائها ويدرك سبب اكتفائه بالنعوت ( المركبّات الموصولة تنهض بوظيفة النعت أي التعريف ) والوظيفة أو الاسم المستغرق للجنس أو النوع " لا يعرف كيف وصل إلى هنا ، إلى هذه الغرفة العارية... وقبل أن يتحرّك الرجل يسترعي انتباهه شيء أخر أكثر غرابة وخرقا للعادة " (3). والتقنية ذاتها تُوظَّف في الفصل الخامس حيث تتّضح حدود الشخصيّة بمحمولتها المصنّعة " إلى هنا جاء الشابّ حاملا حقيبته الجلديّة وبقايا حلم رأى نفسه فيه يدخل غرفة لا يستطيع الخروج منها والفكاك من أسرها " (4).
ونتصوّر أن توظيف العناوين الفرعيّة وتقصّي كيمياء الدلالة وآلياتها الإنشائيّة يتطلّب منّا أن نعقد مقارنة بين العنوان الرئيسيّ / الخارجيّ وهذه العناوين الفرعيّة / الداخليّة أوّلا ومع المتن الروائي ثانيا . ويبدو الوقوف على القوانين المتحكّمة في العناوين الفرعيّة بما هي عتبات نصيّة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار البنى النحويّة لأنّ الخطاب " مجموعة من المنطوقات أو الملفوظات التي تكوّن بدورها مجموعة من التشكيلات الخطابيّة المحكومة بقواعد التكوين والتحويل " (1) . ثمّ يقودون الأمر إلى النظر في البنى البلاغيّة على غرار ما أنجزنا في مستوى عنوان الرواية ذاتها لنخلص فيما بعد إلى قضايا الجماليّة وأبعادها الشعريّة .
* البنى التركيبيّة والبلاغيّة : وقد وجدنا العلاقة ، بعد المقارنة ، مبنيّة على التماثل الذي تجسّد في مستوييْن : نحويّ ومجازيّ . وعليه يلاحظ الباحث أنّ أمين صالح قد اختار أن يؤثث متن روايته ـ رواياته ـ و فصولها بعناوين قائمة على مركّبات موصوليّة نهجا على عنوان الرواية " والمنازل التي أبحرتْ أيضا " . والأمثلة على ما نذهب إليه كثيرة منها الفصل الثاني " الغزال الذي ذهب مطأطئا" ( ص 17) و الفصل الثاني "العجوز التي حاكتْ حلما خجولا" (ص 21) و خامس الفصول " أُفُقٌ لا يمسه جناح "( ص 45) و الحادي عشر " باب مفتوح على الخاتمة"( ص 77) . وبذلك يتكشّف لنا أنّ الرجل قد خضع في صياغة عناوين روايته لبعض النواميس اللغويّة مكرّرا إيّاها ممّا خلق ضربا من التشابه والتماثل دون أن يُفهم من وراء ملاحظتنا السقوط في الرتابة والتكرار لأنّنا نتبيّن الدواعي الجليّة والخفيّة الكامنة وراء هكذا تمشّ ولأنّنا ثانيا لا نعتقد أنّ مبدعا في قامة أمين صالح وحجمه يمكن أن يُجري اللغة مجرى العفويّة والبداهة . بل في المسلك مشروع وفي النهج تقصّد وفي الصورة حكمة . لكنّنا نطرح سؤالا أخر يبدو من وجهة نظر شخصيّة أهمّ وأخطر:
وهي تعمية مقصودة في مستوى الإبداع باعتبارها تضفي على النصّ مسحة من الغموض والغرابة من شأنهما أن يقحم القارئ في مناخ العجائبيّ وبذلك يعوّض المؤلف عمليّة التفكّك التي هزّت الحبكة في الرواية التجريبيّة بخلق لحمة وتآلف على مستوى الأساليب. وهي تعمية مقصودة في مستوى الإيديولوجيا لأنّها، وهي تحجبُ، تفضح حقيقة المعيش في مدن الاستهلاك ومدن رأسمال أو مدن الملح كما يريد عبد الرحمان منيف. وكيف يطلب القارئ من الرواية أن تحدّد هويّة الشخصيات والحال أنّنا نجوس في عالم هلاميّ يحارب الهويّة ويلغي الذاكرة و يقزّم الذات جاعلا منها نسخة باهتة لأصل مفقود . ونخلص ممّا سبق ذكره إلى إلى العناوين الفرعيّة في تركيبها النحويّ قد فرضتْ بنيتها على المتن الروائيّ الأمر الذي يؤكّد الترابط والتفاعل الجدليّ بين العتبات والمتون وفي ذلك تأكيد للمفهوم التجريبيّ للكتابة وتدليل على حرفيّة أمين صالح وقدرته على تحقيق معادلة داخليّة صفيف تواصل بين أجزاء الحكاية في مستوى المغامرة اللغويّة .
غير أنّ التماثل في مستوى البنى النحويّة يطابقه تماثل أخر في مستوى البنى البلاغيّة من جهة المجاز الذي شكّل وسيلة النصّ للدخول في فضاءيْن أسلوبييْن هما شعرنة الرواية من ناحية واقتحام العجائبيّ من ناحية أخرى . والمجاز متوفّر في الكثير من العناوين الفرعيّة قد نذكر منها الفصل الأوّل " مساء يُضرم المكائد" وإليه يمكن أن نستدعي الفصل الثالث " العجوز التي حاكتِ حلما خجولا". والناظر في المثال الأوّل يُدرك بيسر أنّ البؤرة الاستعاريّة والرمزيّة مرتهنة بالفعل " يُضرمُ" الذي يحوّل المساء من مجرّد إطار ماديّ حاف يحدّد موقع الحدث من دورة الكواكب إلى كينونة واعية مع ما يعني الإدراك من تمثّل واختيار وتقصّد . ويلقي الفعل فيما بعد بضلاله على "المكائد " التي تستحيل بحكم الفعل الذي أنجزه المساء حطبا يفعّل حقائقيّة " يضرم" و يجعل ، في نطاق البعد الرمزيّ ، المكائد / السبب نارا / نتائج .
وما قيل عن النموذج الأوّل يمكن أن نسحبه على الثاني مع ضرورة التمييز الدلاليّ المتعلّق بالبؤر الإستعاريّة والرمزيّة" العجوز التي حاكت حلما خجولا" وجليّ أنّ الحركة المجازيّة في مستوى العنوان الفرعيّ تتمّ في الاتجاهين ومنطلقنا الفعل " حاكتْ " الدال على معنى التقليد ومنه المحاكاة و " حكى" الفعل السرديّ المؤسس للرواية والحكاية و"حاكتْ" بمعنى نسجتْ . ولكنّ المشكلة الأصلية تُطرح عندما ينتهي القارئ إلى الموضوع الخاضع لفعل الحياكة وهو " الحلمُ" . والسؤال المتبادر إلى الذهن هو كيف تمّ للمؤلف أن يُجسّد المجرّد" الحلم المجرّد صار صوفا مادّة " ؟ هذه المفارقة الأولى أمّا الثانية فتعود إلى عمليّة التحوّل من الكينونة الخياليّة إلى الماديّة وانتهاء بالكينونة البشريّة التي وردتْ نعتا للحلم " خجولا " وصيغة المبالغة هذه المشتقّة من جذر: خ/ ج . ل " تعتبر واحدة من الأحوال العائدة على الذات الإنسانيّة . غير أنّ الرواية تنزاح بالصفة / النعت من الأصل اللغوي الذي وُضِعتْ له و تُلحِقَه بكيان ثان هو منطقيّا و معرفيّا لا يمكن أن يردَ خجولا لانعدام الصفة .
* شعريّة العناوين الفرعيّة : إنّ التطرّق إلى قضايا الشعريّة في مستوى العتبات يخرج بنا ضرورة عن التصوّر التقليديّ الذي يزجّ عادة بالشعر والشعريّة في مستوى التجليات الصوتيّة والتوزيع الخارجيّ للكلام لتحديد نسبته إلى الشعر والشعريّة من عدمه . غير أنّنا نعالج المسألة من زاوية مختلفة منطلقها طرائق استخدام منشئ الكلام لخطابه من ناحية وما يجريه من مجازات تقرن المعنى بالصورة والتمثيل ـ وليس حتميّا أن يؤديّ كلّ تشبيه أو أسلوب بليغ إلى توفّر الشعريّة ـ ثانيا والغوص في الأعماق الحميمة للذات من ناحية ثالثة . وبإمكان الباحث أن يختزل الشعريّة في هذه الصور التي تخترق المألوف وتعيد تأسيس العلاقة بين الذات والكون بين الناطق وغير الناطق وتُقصي الحواجز الذهنية والمعرفيّة التي صاغها الإنسان في تعامله مع الكون حتّى صار غريبا عنه . وتأتي الشعريّة لتؤلّف بينهما في وتيرة متناسقة متناغمة حميمة وهوما ينهض به الشكل الفنيّ الذي يرى فيه الناقد الإيطالي " بنيديت كروتشه " أنّ الشكل الفنيّ ، وهو يُفردنُ ، يخلق تناسقا بين الفرديّة والكونيّة . ولذلك فهو بالفعل ذاته يجعل الأشياء كونيّة " (1).
وأنت تقرأ / تنقد رواية أمين صالح تدرك ذاك الخيط الرفيع المتأسس بين المتناقضات والجامع بين المختلفات في تناسق عجيب وانسجام بديع حتّى لكأنّنا نروم الدخول في عالم غيرالذي نعرفه . لكنّ الأكيد هو أنّ الكاتب الحقيق بمثل هذه التسمية هو الذي يخلق عالما جديدا يكون وسطا بين المسمّى واللامسمّى والشعريّة في نصّ الرجل هي وليدة التفاعل القائم بين الذاكرة واللغة والبؤر المجازيّة والاستعاريّة الناهض عليها النصّ الروائيّ . وقد سبق أن أشرنا إلى أنّ المجاز في رواية " والمنازل التي أبحرتْ أيضا" لا يتعلّق بموطن واحد وإنّما هو حركة عموديّة وأفقيّة تخلخل اللغة وتأسر القارئ شاء أم أَبى . وقد ساعد التمثيل نهوض الصورة بالبعد الشعريّ وقد تواترت هذه النوعيّة من الصور منذ العنوان الفرعي الأوّل" مساء يضرم المكائد" و" الغزال الذي مضى مطأطئا " و" عند قناديل تبارك اليقظة" و "مصائر تهرول نحو ضفاف سماويّة " ... تبدو الرواية أشبه بمونتاج شريط سينمائيّ يلغي الحدود بين الذات والموضوع ويُقصي الحواجز بين الإنسان والعالم ويحقّق التناغم المفقود في الواقع الخارج روائيّ وفي الأمثلة التي أوردناها من باب الذكر لا الحصر نلحظ العدول الذي ينجزه النعت في المنعوت وهو عدول صوب ما هو بشريّ إنسانيّ. فالمساء يترك مجاله الماديّ ليكتسب سمة إنسانيّة . وكذلك الغزال المنتسب إلى عالم الحيوان أوّل العنوان لكنّه يتماسّ بالعالم الإنسانيّ عندما يمضي "مُطأطئا" تعبيرا عن هزيمة أو خيبة أو خجل . وتوغل الرواية مع فصل " عند قناديل تُبَارك اليقظة" حيث تتحوّل الآلة " قنديل" إلى ذات تحوز المقدّس وتمنح البركة والطريف هو الموضوع الخاضع لفعل " بَارَكَ" وهو اليقظة فالقناديل تبارك الأحوال التي مثّلتْ البؤرة الدلاليّة في كلّ العتبات والمتن .
على أنّ العتبات الشعريّة وردتْ كذلك في معنى يُدين الواقع المأساويّ في مستوى الأطر المكانيّة كما رآها المؤلف في الفصل الرابع " مدى فسيح تتراكض فيه الرياح" الذي توزّع بين حقل موجب " مدى فسيح" وحقل سالب " تتراكض فيه الرياح" فيفقد المكان جماليته وحيويّته لأنّه يبدو مقفرا موحشا وبذلك ترفض الرواية الربط بين السعادة والأطر الماديّة الموجودة ونطالع الفكرة ذاتها في الفصل السادس" أفُقٌ لا يمسّه جناح" وبعدما كان المكانة مقفرا من الذات البشريّة ينتقل المؤلف إلى الفضاء الذي بدا غير مختلف عن المكان حيث يصبح فقدان الملامسة دليلا على غياب الطير بما يحمله من رمزيّة الحياة والجمال والسفر والطهارة والقداسة إنّه فضاء مناقض في مجمله للوجود الإنسانيّ وقيمه . ولعلّنا نستطيع أن نفهم من هذه الزاوية حرص الكاتب على شعرنة اللغة / الخطاب الحاضن للواقع المرويّ والبحث عن جماليته المنعدمة في الحقيقة . إنّ العناوين الفرعيّة ـ قسما من العتبات النصيّة ـ مع المتن الروائيّ تقدّم عالما بشعا شنيعا فاقدا لكلّ المياسم الجماليّة وفاقدا بالتالي للشروط الوجوديّة للذات الإنسانيّة وهي شروط يبدو أنّها لمْ تتغيّر منذ رواية " أغنية أ ص الأولى " التي تحدث فيها السارد عن العوامل المعرقلة واللاأنسانيّة" لكنّ هذه الذات وهي تسعى نحو هذا المنشود الإيديولوجي تعترضها عوائق جمّة تفوق بكثير ما تجده من فواعل مساعدة . وتسلّط عليها قمع متعدّد المصادر ، من ذلك شيوخ القبائل والقواعد العسكريّة.. والمخبرون .. والمحقّقون .. ومخافر الشرطة ومختلف أساليب التعذيب .. والزنزانة .. والسجون المكدّسة على ضفاف الخليج .. وسجن بحجم وطن عربيّ"(1) . ومن شأن هذه الشعريّة / العدول أن تذهب بالرواية إلى آفاق التجريب التي بنينا عليها مداخلتنا أوّلا وتؤكّد التواشج الموجود بين العتبات بدءا بالعنوان الرئيسيّ ثانيا . وأنّ أمين صالح كان واعيا بكلّ قسم من أقسام الرواية وكان يصدر الرجل عن رؤية جماليّة و وجوديّة وسمتْ الرواية بأكملها .
يبقى أن يتساءل الباحث عن النتائج المترتّبة عن هذا التمشّي في استدعاء الشعر والاتكاء على آليات الخطاب الشعريّ في مستوييْن أحدهما متعلّق بطبيعة العلاقة بين الرواية كواقعة خاصّة والجنس الروائيّ بما هو معطى نظريّ يستوعب ، وفق جملة معايير، مجمل الآثار المتفقة نسبيّا في بنيتها الحكائيّة ولغتها السرديّة والثاني يعود إلى التواصل المفترض أن يقوم بين الرواية وقارئها إذ جماليّة الخطاب الشعريّ تفترض التحرّك في نصّ محكوم بالتجاور المكاني والتمثّل الفوريّ المباشر والمستقلّ عن الصيرورة الزمنيّة بينما الجنس الروائيّ ينهض على التعاقب والتتالي الزمنييْن المفترض أن يتجسّدا في نصّ جميل دون أن يكون الجمال سببا في تفكيك الأواصر الواجب أن تكون موجودة في الرواية باعتبارها موصولة بالسرد والسرد في معنى من ْ معانيه هو الترابط والتوحّد ممّا يعود بنا إلى " الحبكة " وفي هذا السياق يرى " رولان بورنيف أنّ " الحكاية تستوجب شخصيات ـ إذن أفعالا ـ وأحاسيسها ، مصائرها وإجمالا عنصرا بشريّا نحن لا نفكّر فيه فوريّا أو خصوصا عندما نتحدّث عن حبكة . نحن نسرد الحكاية في الرواية لكنّنا نقتفي خيط الحبكة " (1) وبذلك نرى أنّ اللغة الجميلة بمواصفات معيّنة وبكثافة كبيرة قد تخلق حالة من التفكّك والتجاور التي تقعد بالرواية عن بلوغ مراميها وجماليتها الخاصّة .
ونحن لا نصادر على العتبات وإنّما نصدر في رأينا هذا عن تدبّر المتن الروائيّ والتفكّر فيه حيث نحتْ لغة المتن صوب الشعر ومالـتْ إلى تصوير الانفعال . والأمثلة على ذلك متعدّدة ويستطيع الباحث أن يتّخذ من الفصل الحادي عشر مادّة يستقي بها دواعم الأطروحة " لكن الذي لمْ يتوقّعه هذا الجوّال بلا شغف ، المتدثّر بالرصانة والذي لا يعرف كيف يفاوض حاضره ـ أن يصادف شبيهه هنا ، في هذا المنتزه العامر بالهدوء والطمأنينة، واقفا أمامه كلغز ساخر لا يعلن من ْ أين جاء و لا كيف يملي على الصدفة أهواءه " (1) . و يعاضد ذلك ما ورد في الجزء المعنون ب " ياقوتة السفر"حيث نطالع " بيمينها تهزّ مهدا تتزاحم فوقه الفراشات وبيسارها تؤرجح بيتا تطفر من نوافذه عصافير بلّلها المطر القاطن في الغرف . بعد العشاء ،في هدأة حاضر متخم ، تبسط الخرائط على منضدة السفر وتطرق أهداب المماليك البعيدة كي تفتح لنا ثلجها وحدائقها" . (2) .
وفي الفصل الثامن يكتشف القارئ ولع الرواية التجريبيّة باللغة الشعريّة التي تحاول إعادة تشكيل العالم من جديد وفق شروط إنسانيّة تعيد الذات إلى لحظة البدء الأولى في الوجود والوعي والمعرفة " وأنّ الحلبة تذوب حنانا كلّما مرقتْ مأساة تولولُ فتفرش لها شراشف الطمأنينة و أنّ الشرفات ترخي قرميدها و ظلال زوارها ليتفيّأ تحتها مارّةٌ يتلظّون من شدّة الرذائل " (3)..... في هذه النماذج وغيرها لغة شعريّة تؤثثها استعارات راقية طريفة مبتكرة وتعابير تنضح وجدانا و إيقاعا صوتيّا (تفرش / شراشف / شرفات ) ولكنّها تخرج بالقارئ من مناخ الرواية الذي يُفتَرَض فيها أن تقصّ علينا حكاية في المستوى الأوّل وتتقيّد بآليات إنشائيّة وشعريّة خاصّة بهذا الجنس . ونحن لا ننفي أنّ الرواية ليستْ جنسا نقيّا وأنّها تُطَعَّم بألوان من الخطاب الشعريّ خاصّة في الوصف أو المونولوغ لكن يجب أن يبقى الأمر في حدود معقولة لا تلقي بظلال الشكّ على الطبيعة السرديّة للرواية . ولسنا نملي على الكاتب ما يجبل أن يكتبه لكنّنا من جهة كوننا قرّاء نطالب باحترام الميثاق الروائي / السرديّ حتّى يكون الرواية فضاء نحقّق من خلال سننه التقاء بيننا .
2 - 1ـ 1 - 2 العناوين الثانويّة :
الخرائط والحقائب والطريق / ياقوتة السفر / جسورا كالوله يتقدّم / شتاء داخل حقيبة / مباخر من أجل نهار هادئ / المتجانس مع اللهب / على هواه يضيع / رفيق القمر / الذي يروي كلّ هذا . تشكّل العناوين الثانويّة العتبة التالية المكوّنة للنصّ الروائيّ ونقترح قبل الشروع في تدبّرها وتأويلها أن نقسّمها قسمين : المرويّ ويضمّ العناوين الثامية الأولى والميتاروائيّ المُكتفي بالعنوان الأخير" الذي يروي كلّ هذا " . ونعتقد أنّ موقع الميتاروائيّ يطرح إشكالا لأنّه يغطّي موضوعيّا كامل الرواية ولا يتعلّق بالفصل الأخير فحسب. لكنّ الكاتب أبى إلاّ يضعه حيث وضعه ليواصل معنا لعبة المخاتلة والمغالطة الروائتيْن . ولعمري ما عساها تكون الكتابة الإبداعيّة إن لمْ تكن مراوغة وتلاعبا بالنصّ والجنس والقارئ ؟ و ما تراه يضيف النصّ الذي يطابق معناه و خصوصا مبناه المناويل الراسخة في الذاكرة والنماذج المكرورة ؟ . وما يحظى بتوافق الدارسين شرقا وغربا هو كون الميتاروائيّ بما هو إضافة يُعتبَرُ سمة جديدة من سمات الكتابة الحداثويّة عامّة والتجريبيّة خاصّة . أمّا من حيث المفهوم فإنّه يعني نظر الرواية في الرواية ذاتها سواء كانت عوالم مرويّة أم كانت نظرا نقديّا في الأسس التي تنهض عليها الرواية .
وهو يندرج ضمن فعاليات اللغة الواصفة (1) . وعموما يرى محمّد الباردي في سياقنا هذا أن " نستعمل هذا المصطلح بمعنى حديث الحكاية عن الحكاية كما استعمل من قِبَل رولان بارت مصطلح ميتا أدب méta littératureأي حديث الأدب عن الأدب " (2) ولهذا يصرّح السارد في روايتنا قائلا " أمّا أنا / فحسبي أن أشهد ما يشهده القدر من سيرة المصائر وأسرد كلّ هذا . أن أروي بعطر الكتابة أبجديّة السفر وأمتدح الصحبة المباركة ... أرنو إليهم ، ومعهم أتبادل صدى العواصم " (3).
واللافت للنظر في المقطع على اختزاله هو تحديد مفهوم الرواية " سرد لسيرة المصائر وبالتالي الإنسان " وهذا تعريف الرواية في الأدبيات الكلاسيكيّة التي تصرّ على أنّ الرواية تصوّر الذات بواسطة شخصيّة تتحرّك في إطار زمكاني" مخصوص وتُقدّم للقارئ وفق ترتيب زمنيّ يراعي طبيعة الحكاية والحبكة و مادامت الرواية تصويرا فنيّا للحياة فهي ترتبط أشدّ الارتباط بالإنسانيّة والحريّة " (4). وهذا مظهر من مظاهر طرافة رواية " والمنازل التي أبحرتْ أيضا" وتناقضها إذ هي تدمّر التعاقب الزمنيّ في المتن الروائيّ تشدّد عليه في الميتاروائيّ ومن هذا التناقض تنشأ شعريّة الرواية التي تذكّرنا بروايات إلياس خوري . لكنّ الشاهد الذي أوردنا يحتمل كذلك من المعاني ما يحتمل ومنها تحديد وظيفة الكاتب ممثّلة في السرد وهو بمعنى القصّ وتشخيص الأشياء والوقائع كما هي دون تدخّل أو إعادة تنظيم أو تبويب . و في المقابل الحياد في نقل الوقائع يبدو الكاتب مهتمّا بأسلوب السرد عند قوله " أن أروي بعطر الكتابة أبجديّة السفر" وهو العهد الذي وفى به أمين صالح قبل غيره من العهود متجسّما في اللغة الشعريّة التي وسمت الرواية يبقى أن نتساءل عن السفر المُشار إليه فهل تراه سفر في الزمان من فترة سوفوكل إلى العصر الحديث ؟ أم هو سفر في المكان من أثينا وبغداد إلى الخليج المزدحم بالسجون والقواعد العسكريّة ؟ ام هو سفر داخل الذات الإنسانيّة لتلمّس أفُقِها المنسيّ في عصر العولمة ورأسمال المتوحّش؟ أم لعلّه يكون سفرا بين الفنون وأشكال الإبداع ؟. وينتهي الميتاروائيّ بالوقوف على وظيفة ّ الرواية القائمة على التواصل بين العواصم وما يتضمّنه من تواصل بين الثقافات والتجارب والأزمنة والرؤى وما يفترض من قدرة على صهر العناصر المختلفة. أمّا القسم الثاني من العناوين وهو الأهمّ من حيث الكميّة والحضور فيهيمن عليه معجم الحركة و الترحال بدءا بـ" الخرائط والحقائب والطريق " وتعريجا على " ياقوتة السفر " و مرورا بــ " شتاء في حقيبة " وهي علامات لغويّة تؤكّد الدور المركزيّ للسفر في حياة الشخصيات وتدلّ على أنّنا إزاء عمليّة تهيؤ لسفر مطوّل تأكّد ذلك من خلال صيغ الجمع " الخرائط / الحقائب" المستخدمة . لكنّ الأكيد أنّ السفر يقرن الصفحة الأخيرة بالعنوان الرئيسيّ " والمنازل التي أبحرتْ أيضا " أليس الإبحار سفرا في المياه؟ ومن هذا الاقتران ينشأ التعاضد بين الخارجي " العنوان الرئيسيّ " والداخليّ " العنوان الثانويّ " . وبين سفر المكان وسفر الأشخاص يسافر السفَرُ " يتأهّب السفر للسفر" . وأين يسافر السفر ؟ وكيف يسافر ؟ وإذا سافر السفر فماذا يبقى للإنسان الراغب في السفر؟ هل ضاقت الأرض بما رحُبتْ وتقلّصت الحريّة وصار العالم سجنا بحجم القارات الخمس ؟ أم أنّ المجسّد والمجرّد قد ضاقا بالصحراء فقرّرا تركها بعيدا عنهما ؟ و يبدو طرح الأسئلة تعبيرا عن القوّة الدلاليّة التي تتحرّك خلالها روايات أمين صالح عامّة . ومن خصوبة الرواية أن تشرّع ذهن القارئ على السؤال حتّى يخلخل الواقع ويعيد تفكيكه لصياغة عالم بديل يكون أكثر رحابة وأكثر إنسانيّة .
أمّا من الناحية الفنيّة فيبدو أنّ الترابط بين السفر في مستوى العنوان الرئيسيّ للرواية والسفر في أخرها يضعنا في مواجهة نصّ دائريّ في مستوى الخطاب على الأقلّ (1). ومن الضروريّ التمييز بين البنى الدائريّة المتعدّدة و "إن كان التمييز الأكثر جوهريّة هو الذي يقابل الدائرة باعتباره مبدأ في صياغة الحكاية المسرودة بالدائرة باعتبارها قانون بناء الخطاب الذي يسرد الحكاية " (2) وينحو الفصل الأخير ، من حيث عتباته ، منحى تفسيريّا تبريريّا إن في مستنوى المرويات أو الميتاروائيّ . وينحو منحى فنيّا في مستوى الروائيّ لأنّ الطابع الدائريّ يجعل النصّ يتحرّك في أطر مترابطة منشدّة إلى بعضها البعض وفي هذا المسلك مناقضة للتجريب القائم على فكرة تفجير الصيغ القديمة بما في ذلك مبدأ التعاقب والتتالي والتسلسل وفيه مناقضة للرؤية التفكيكيّة التي تحكّمتْ في مجمل فصول الرواية التي بدتْ أحيانا كثيرة أشبه بقصص قصيرة منها بفصول رواية . وفيه محاولة بارعة من الكاتب لتحقيق وحدة تختلف عن الوحدة المألوفة والسائدة . وبذلك ،ومن هذا المنطلق ، نلاحظ أنّ أمين صالح يستمرّ وفيّا في رؤاه السرديّة و مُناخاته الجماليّة للنهج الذي فتح به الرواية وشرّع النصّ على أوجاع الحاضر و آفاق الحداثة ديدنه تطريز النصّ وشدّ عراه إلى منطق واحد رغم تعدّد التجليات. ولا يقف التماثل بين هذه العناوين والعنوان الرئيسيّ عند حدّ التيمات والحقول الدلاليّة بل نراه يعود ـإلى السمة الشعريّة التي وسمت كلّ العتبات وكلّ المتن تقريبا وفي هذا السياق ندرج القسم الممهور
بــ" شتاء في حقيبة" والاستعارة فيه تقوم على فكرة تصغير الأحجام والمساحات " الشتاء معيار زمنيّ له امتداداته المكانيّة يتمّ اختزاله في إطار ضيق هو الحقيبة التي تظلّ صغيرة مهما كبُرتْ أمّا متى نظرنا إلى المجاز نظرة الرمز فإنّنا الشتاء موسم المياه يغدو تعبيرا عن الطهارة والنبل والسفر به داخل حقيبة يعنى أن نترك المكان للدنس والخطيئة أو أنّ المكان يرفض الطهارة والقداسة وبالتالي لا فائدة من الحفاظ على القيم النبيلة في مجتمع سدوميّ فاسد مهترئ على حدّ عبارة جورج لوكاتش القائل " إنّ البطل الروائي يسعى إلى غرس قيم أصيلة في مجتمع مهترئ" . وضمن السمة الشعريّة يمكن للباحث أن يدرج " المتجانس مع اللهب" و " رفيق القمر" وهما صورتان وردتا لنعت الشخصيّة . فـ"الأب " الذي يُطالعنا منذ السطر الأوّل " هذا أبوها الذي يجلب للعائلة كفاف يومها، معها يتقاسم الخبز والورد ومع الأصحاب يتقاسم الموج واللهب... لا يعرف أن يتجانس إلاّ مع منْ يُشعله ثلج الحرف " (1) .
والمجاز في مثل هذا العنوان يخرج بالشخصيّة من حدودها البشريّة إلى حدود عجائبيّة تتيح للفرد أن يتلاشى في اللهب / النار وهي صورة مزدوجة الدلالة بله متناقضة فاللهب من ناحية هو البشير بالثورة والتمرّد على الظلم واللهب هو المعاناة تخترق الفرد أو يخترقها لتلبية كفاف العيش للعائلة ويفترض تحصيل الأدنى من القوت / الكافي لليوم أنّنا نتحرّك في عالم المساكين على ما يذهب إليه الفقهاء في تعريف الفقير الذي لا يملك قوت سنة والمسكين الذي لا يملك قوت اليوم . والدلالة الثالثة التي نقف عليه مرتبطة بحركة اللهب نحو الأعلى ممّا يشي بالعلوّ وبالتالي السفر والترحال وقد أورد السارد ما يؤكّد ذلك أكثر من مرّة في القسم المعنون بـ " المتجانس مع اللهب " هذا أبوها ... الشغوف بالسفر ـ أن يرفعه حقيبته حتّى تهرول إليه المطارات ، تهرول إليه المرافئ ، وتهرول إليه التخوم "(2). ومرّة أخرى تحضرنا تيمة السفر لتربط الفصل الأخير بالعنوان الرئيسيّ للرواية " والمنازل التي أبحرتْ أيضا " وتكون متون الرواية / فصولها / أقاصيصها محكومة بالسفر منطلقا ومُختتما .
أمّا في "رفيق القمر" فإنّ الشاعريّة حاضرة في أكثر من مستوى وأوّلها مصدره معجميّ متعلّق بما تولّده عبارة القمر في النفس من أحاسيس وأخيلة عدا الموروث الشعريّ العربيّ الذي يقرن القمر بالمرأة والجمال وعدا الموروث الرومنطقيّ الذي يرى فيه الهادي إلى حقيقة الروح و سرّ الخلود وهو مصدر إلهام شعريّ بالدرجة الأولى , لكنّ هذا الكوكب مرتبط بالليل و ما فيه من حنين ومرتبط ـ الكوكب ـ بالتنقّل والتبدّل والغياب( الهلال ـ البدر ـ الخفاء ـ الهلال) وهي أطوار قريبة من السفر إذ يبدو كأنّه ذات في سفر دوريّ متواصل تحضر وتقترب فيكون البدر وتبتعد وتسافر فيكون الهلال ثمّ الخفاء . والخلاصة أنّ الكاتب لمْ يحدْ عن الطابع الشعريّ في صياغة عناوينه الثانويّة تماما كما فعل مع العنوان الرئيسيّ والعناوين الفرعيّة .
2 - 1 - 1 - 3 : الترقيم
ينوّع الكاتب المداخل إلى روايته و يستخدم طرقا مختلفة في هداية القارئ إلى عوالمه السرديّة و ينتقل من أسلوب إلى آخر للتأثير في شروط التقبّل والتأويل . ومن هذا المنطلق يصبح من المبرَّر التجاء الكاتب إلى الأرقام لضبط حدود بعض الأقسام من روايته وتعريفها . ونتيجة لذلك يجد الباحث نفسه مدفوعا إلى تناول هذه التقنية بالضبط والتدبّر للوقوع على أسرار جماليّة الرواية والخلفيّة الصادر عنها الفعل الإبداعيّ.
وتتجلّى الأرقام تقنية في العنونة في أربعة مواطن مع شيء من الاختلاف وهذه المواطن هي التالية :
| عنوان الفصل | عدد الأجزاء | سمات خاصّة |
5 | عند قناديل تبارك اليقظة | 1-2-3-4-5 | مسبوقة بمادّة سرديّة / الموضوع هو انتخاب شخصيات قصصيّة .المساحة المغطاة حسب كلّ رقم ? الصفحة |
12 | ندف ظهيرة باردة | 1-2-3-4 | تحديد المراحل الهامّة في حياة الشخصيّة المحكوم عليها بالإعدام. و تدرّج المساحة من صفحة إلى فقرة مختزَلَة |
13 | عن مصائر تهرول نحو ضفاف سماويّة | 1-2-3-4 | غياب التمهيد السردي . إعادة سرد بعض الفصول السابقة مع التخلّي عن التفاصيل |
14 | صور شخصيّة لعائلة في سفر | 1-2-3-4-5-6-7-8-9 | كلّ رقم ورد مصحوبا بعنوان : 1الخرائط والحقائب والطريق.2 ياقوتة السفر.3 جسورا كالوله .4 شتاء داخل حقيبة.5 مباخر من أجل نهار هادئ. 6 المتجانس مع اللهب .7 على هواه يضيع .8 رفيق القمر .9 الذي يروي كلّ هذا . هذا الفصل أشبه بألبوم صور لكنّها سرديّة . |
يحاول هذا الجدول البسيط أن يضبط بعض الخصائص الماديّة والدلاليّة لتقنية الترقيم التي وظّفها أمين صالح ليحدّد هويّة بعض أجزاء الرواية ويخرج بالإبداع السرديّ من مجال العلامة اللغويّة إلى العلامة الرقميّة .ويلاحظ الباحث بعض السمات التي تبدو لنا هامّة ومنها :
- بريد أن نذكّر القارئ بأنّ توظيف الأعداد / الأرقام في الأعمال السرديّة لا يمثّل ظاهرة جديدة في الرواية العربيّة عامّة ورواية أمين صالح خصوصا ومردّ ذلك أنّ الكاتب الأمريكي " إدغار ألآن بو" قد عمد في بعض قصصه إلى لغة الأرقام التي تعوّض العلامات اللغويّة وقد وُظّفتْ في سياق لغزيّ كان دور السارد / الشخصيّة فيه تفكيك الشفرة ونقل المعنى من الغموض إلى الوضوح . لكنّ أمين صالح وإن لمْ يكن مجدّدا فإنّ ذلك لم يمنعْه من الطرافة والابتكار. وأوّلها أنّ الأمر لا يتعلّق بأسرار وغموض في المرويّ بما هو كتابة مغامرة / حكاية و إنّما في الروائيّ بما هو خطاب يتعلّق بمغامرة الكتابة .
- إنّ الأجزاء المرقمّة وردت مع الفصل الخامس أي بعد التقدّم الحاصل في تجسيد الرواية . وهو ما يعني أنّ الأساس في الكتابة الروائيّة هو الكلمة ثمّ يأتي دور العلامة الرقميّة .
- إنبنت الأجزاء على التقارب ( تراوح الأرقام بين أربعة أجزاء وخمسة ) في المواطن الثلاثة الأولى ثمّ التباعد في الفصل الأخير الذي ضمّ تسعة أرقام / أجزاء . ومن شأن هذا التمشّي إن ربطناه بالتاريخ والجغرافيا أن يعبّر عن الوظيفة و بالتالي المكانة التي غدتْ تتمتّع بها الأرقام في الفترة الأخيرة من تاريخ البشريّة حيث غدا كلّ واقعنا رقميّا من الأجهزة إلى التقنيات والوظائف الإداريّة بل لا نبالغ متى حشرنا الذات الإنسانيّة ضمن العوالم المرقّمة و إلاّ ما الفرق بين ذات وذات داخل الوطن الواحد ؟ أليستْ أرقام بطاقات الهويّة هي المحدّد والفيصل ؟. وما الوسيلة لمعرفة العملة والموظّفين غير معرّفاتهم الاجتماعية ؟ وفي توظيف هذه التقنيّة يقترب أمين صالح من الواقع ويوهمنا بأنّه يشخّص المعيش على علاّته وينقله دون تحوير وتغيير على حدّ ما ورد في القسم الميتاروائيّ . على أنّ هذه الحيلة لا تنطلي على الباحث لسببيْن أوّلهما أنّ العمل الفنيّ ليس نسخا للواقع حتّى لو سعى الكاتب إلى ذلك . وثانيهما أنّ كاتبنا يروم من وراء الأرقام تحقيق تماسّ مع الفنّ التشكيليّ حيث يعمد الرسّامون إلى الأرقام للتمييز بين اللوحات و يعتبر التداخل بين الفنون علامة على الحداثة والتجريب .
- وردت الأرقام منفردة باستثناء الفصل الأخير حيث أردفها الكاتب بالعناوين الثانويّة . وهو بذلك يلغي القطيعة بين عالم الأدب وعالم الحساب . وهي مسألة مثلت موطن خلاف في تراثنا بين أنصار العدد/ الحساب وأنصار الأدب / البلاغة " ولو أنصفْتَ لَلمتَ أنّ الصناعة جامعةٌ بين الأمريْن .أعني الحِسَابَ والبَلاَغَةَ ، والإنسَانُ لا يأْتِي إلى صِنَاعَةٍ فيشقَّها نصفيْنِ ويشرّف أحد النصفيْن على الأخر"
- حضر الأسلوب الرقميّ بكثرة في الفصول الثلاثة الأخيرة من الرواية . ونعتقد أنّ غياب منطق واضح يحكم الحضور الرقميّ في الرواية يستجيب لمنطق التجريب الذي نهضتْ عليه الرواية وهو منطق يرفض الخضوع لقوانين مضبوطة أو نواميس محدّدة ممّا يؤكّد لدينا مسألة الحرفيّة الموسومة بها رواية أمين صالح وكذلك الوعي الحادّ بأبسط التفاصيل والدقائق في العمل الروائيّ . ولسنا نجانب الصواب عندما نؤكّد أنّ مؤلف " والمنازل التي أبحرتْ أيضا " مؤلف لا يستسهل الرواية رغم عشرات السنوات التي أمضاها في تدبّر السرد وكتابة الرواية وهو يخالف من هذه الزاوية على الأقلّ بعض الذين يكتبون أعمالا هشّة حتّى لا أقول إنّ نسبتها إلى الرواية هي نسبة مدنيّة ( مادام الكاتب يدّعي أنّها رواية ) ونسبة مجازيّة لأنّ أصحابها يعتقدون أنّ التجريب يبيح لنا أن نلفّق مقاطع من نصوص سابقة مضافا إليها بعض الخواطر ونُتَف من السيرة الذاتيّة لنصوغ رواية. ومتى تبنّيْن تصوّرا كهذا فإنّه يصبح بإمكاننا أن نؤلف رواية كلّ ثلاثة أيّام .
التوحيديّ أبو حيّان : الإمتاع والمؤانسة . المكتبة العصريّة . ج 1 . ص .100 .
2ـ1ـ1ـ4 التواريخ :
لقد مثّلت التواريخ عتبة من العتبات التي وسمت رواية" والمنازل التي أبحرتْ أيضا " وشكّلت في الآن ذاته عنصرا قارّا من العناصر البنائيّة في الرواية ذاتها و الناظر في الرواية بحثا وراء المعنى وشوقا إلى الثاوي من الدلالة واللطيف من الجمال يدرك أنّ الكاتب قد أقحم التأريخ جاعلا منه أصلا من الأصول التي تنهض عليها روايته التي حفلت سابقا بالأرقام والتعداد . ومثلما أنجزنا جدولا يضبط قضيّة
الأرقام وحضورها فإنّنا سنطبّق القاعدة نفسها في تدبّر أمر التواريخ حتّى نضع القارئ موضعنا وحتّى نُيسّر الاستنطاق التأويليّ والحفر الدلاليّ فيما بعد .
التأريخ | الفصول | الصفحات |
ابريل 2005 | مساء يضرم المكائد | ص 15 |
أبريل ـ ماي 2005 | الغزال الذي مضى مطأطئا | ص 20 |
ماي 2005 | العجوز التي حاكتْ حلما خجولا | ص 26 |
ماي 2005 | مدى فسيح تتراكض فيه الرياح | ص 32 |
ماي ـ يونيو 2005 | عند قناديل تبارك اليقظة | ص44 |
يونيو 2005 | أفق لا يمسّه جناح | ص49 |
يونيو 2005 | هو والهاوية... وجها لوجه | ص57 |
يوليو 2005 | ضغينة الخارج من نومه مكفهرّا | ص 64 |
يوليو 2005 | غريب في الخلاء ذاته | ص 69 |
يوليو 2005 | نزيل العزلة | ص 76 |
يوليوـ أغسطس 2005 | باب مفتوح على الخاتمة | ص 84 |
أغسطس 2005 | ندف ظهيرة باردة | ص 89 |
أغسطس 2005 | عن مصائر تهرول نحوضفاف | ص 100 |
سطس 2005 | أغصور شخصيّة لعائلة في سفر | ص119 |
ونخلص بعد قراءة الجدول إلى جملة من الملاحظات التي تتناسق مع الأهداف الجماليّة والدلاليّة التي يتحرّك في أفقها الرواية . وسنشرع بالمسألة الفنيّة الإبداعيّة لنرى أن الرواية وضمن منزعها التجريبيّ تتخّذ من التواريخ وسيلة تربط بين مختلف أقسامها وأجزائها لكأنّنا بالمؤلف قد شعر وهو يهدم البنية الترابطيّة للحكاية ، بضرورة توفير صيغة جديدة من صيغ الترابط التي تحفظ للرواية حدّا أدنى من التعاقب والاستمرارية . إنّ الرواية التجريبيّة التي هدمتْ شكلا تقليديّا للوحدة شعاره تتابع الأحداث واتساقها قد استبدلته بشكل رقميّ / تأريخيّ يساوق طبيعة المجتمع الذي أنتجتْ الرواية فيه و يتماشى وشروط التقبّل الراهنة للنصّ الروائيّ . وبذلك نستبدل تعاقبا سرديّا داخليّا بتعاقب خارجيّ غير سرديّ ليلمّح المؤلف من ورائه إلى الترابط الداخليّ الحقيقيّ قد زال ولم يتبقّ أمامنا غير الترابط المصطنع و أيّا كان التدليل والتمعين فإنّ رواية" والمنازل التي أبحرتْ" أرادتْ أن تكون وفيّة لمنطلقاتها التجريبيّة غير عابئة بما ترسّخ في المتون وما قبع في الذاكرة والأذهان .
وقد وجدنا الرواية تنوّع تواريخها التي وردت مرّة مفردة مستقلّة (أبريل 2005 / يونيو 2005 / أغسطس 2005 ...) وأخرى مزدوجة مشترَكة أبريل ـ ماي 2005 / ماي ـ يونيو 2005 / يوليو ـ أغسطس 2005 ) وفي هذا التنوّع تأكيد لفرادة الرواية وفرادة فصولها و رفضها الخضوع لنمط واحد والركون لهيمنة نموذج مخصوص ممّا يترك للقارئ أن يستنتج طبيعة الوعي بالتجريب الذي لمْ يتعامل معه أمين صالح تعاملا كليّا عامّا بل تعاملا تخصيصيّا تفصيليّا.
غير أنّ الخطورة لا تقف عند حدود الفرادة والتميّز فحسب بل تطال فيما تطال دلالة الأشهر التي وُظّفت . وأوّلها كون الشهور مستمدّة من الروزنامة الغريغوريّة الغربيّة إن شئنا وفي هذا تأكيد لانفتاح الرواية على ثقافة مغايرة للثقافة التي نهضت على لغتها وأنساقها ومثلما صدّر أمين صالح روايته بمقطع من نصّ سوفوكل فإنّه أبى إلاّ أن يعتمد تقويم مولييار وإليوت وأمبرتو إيكو. إنّها الحداثة بما تعنيه من زوال القطيعة بين الثقافات والمجتمعات و زوال النفي والإقصاء أو هي العولمة بما تعنيه من غزو ثقافيّ وتهميش للهويّة . وأيّا ما كان الأمر فإنّنا إزاء رواية تنخرط في واقعها غير عابئة بما سيلحقها من مدح أو قدح . وليس ترتيب الشهور بأقلّ قيمة من تسميتها إذ نلاحظ تحرّك الرواية بين فصلي الربيع والصيف وهما الفصلان اللاحقان بالخريف والشتاء فصليْ السبات والتلاشي والموت . وعليه يغدو اختيار شهور معيّنة يخدم غاية محدّدة فهذه الأشهر تعني الربيع والخصوبة والحبّ في مستوى المنطق الموضوعي العاديّ وهي مجال دلالات وجوديّة وشعريّة كثيرا ما تغنّى الشعراء بها . ولا يجب أن تغيب عن أذهاننا الدلالة الأسطوريّة والوجوديّة لتمّوز وهو ما يُستشفّ منه أنّ الرواية تتغنّى في مستوى التواريخ الواردة عتبات بالحياة والخصب . ويبدو الأمر طبيعيّا لكنّ الغريب هو كون الرواية مسكونة بعالم الموت وصورة المقصلة والمشنقة اللتيْن تطالعاننا منذ الفصل الأوّل " مشنقة . من العمود الخشبيّ تتدلّى أنشوطة تتأرجح في الهواء مثل مهد تأرجحه يد خفيّة ... وعلى بعد خطوتيْن من الكرسيّ يقف رجل مقيّد اليدين من الخلف ل تبدر منه ارتجافة أو يعتريه اهتزاز... جانبا ، الجلاّد جالس على كرسيّ ذي مسند للظهر" وعليه يتساءل القارئ عن المغزى من تغليف واقع تراجيديّ بإطار مشرق ؟
أمين صالح . م . ن . ص .12 - 13
ونعتقد أنّ التضاد بين الموت الذي تحتفي به الرواية وعوالمها والحياة في الخارج إنّما تعبير عن رغبة الكاتب / المثقف في مقاومة الدمار بالفنّ و تطويق الموت بالكتابة ,. ويعبّر عن نزعة تفاؤليّة في باطن المبدع أساسها أنّ الحياة يجب أن تستمرّ مهما كان حجم الموت وحضوره .
الخاتمة :
لقد اتخذ أمين صالح من الرواية ـ فنّا سرديّا بامتياز ـ فضاء يسعى بواسطته ومن خلاله إلى تشكيل عوالمه السرديّة والفلسفيّة . وقد وجدنا الرواية عامرة بأساليب مبتكرة من فنون القول الشعريّ في مستوى الصور والنماذج المجازيّة . وقد منح الشعر الرواية عمقا إنسانيّا أعاد للعالم السرديّ وغير السرديّ حميمته التي فقدها وجماليّته الفطريّة في لحظة تاريخيّة صار الجمال فيها يُقدّ حسب الطلب وغدا الحسن فيها رديف القبح لأنّ المقاييس غدتْ رجراجة ولا يستطيع المرء منّا أن يُميّز طبيعة الجمال ودرجته لأنّ حضارتنا بلغتْ من الزيف والقدرة على التزييف شأوا بعيدا لا يُمكن حدّه أو ردّه .
وفي سياق الجماليّ أثّث الرجل روايته بتقنيات غير سرديّة أهمّها الترقيم والتأريخ وهو في هذا المسلك ينحو منحى كتّاب كبار ويسير مسار تجارب إبداعيّة كان لها تأثيرها في مسار الرواية عالميّا . وفي نطاق التمشّي ذاته خلخل أمين صالح بنية الحكاية ونظام الحبكة ليجدّد الرواية من ناحية ويفتح وعي القارئ على حقيقتيْن
تتمثّلان في ضرورة تكسير الرتابة والتمرّد على السائد من ناحية وأنّ الواقع ليس مترابطا وأنّ الأحداث لا يحكمها المنطق الذي تصوّرها بلزاك ونجيب محفوظ في فترات من تجربته بل يبدو الواقع متشظّيا منفصلا وغدتْ الذات تائهة في عالم ما فتئ يناصبها العداء تحت تسميات وشعارات متنوّعة. على أنّنا لا يجب أن نسقط من قراءتنا أنّ الرواية بتلاشيها في الشعر تكون قد فكّت أواصرها بالسرد والرواية . صحيح أنّها عمّقت الإحساس بالتراجيديا التي تسكن المجتمع الحديث لكنّها خلقت نصّا متجاورا مفكّكة أجزاؤه ومقاطعه . وتبدو محاولات المؤلف تعويض الحبكة القديمة بصيغ ترابطيّة جديدة معقولة في السياق الفنيّ الذي تحرّك خلاله . ولكنّها غير مجدية تاريخيّا لأنّ العلاقة المفترض أن تتأسس بين الرواية والقارئ قد تلاشت بحكم تغاير السنن التواصليّة بين القارئ من ناحية والمؤلف من ناحية أخرى وتتلاشى بالتالي الدلالة .
ونحن لا ننفي مشروعيّة التجريب وأحقيّة المؤلف بالتصرّف في نصّه "على هواه " لكنّنا لابدّ أن نذكّر الكاتب بأنّه يتحرّك في مجتمع محكوم بقوانين مخالفة لتلك التي عاش فيها "آلان روب غرييه ، وجون ريكاردو ، وناتالي ساروت ... وغيرهم " لأنّ الكاتب الأوروبيّ يكتب أحيانا منن باب الترف الفكريّ لأنّ النواميس الموجودة تنهض بوظائف النقد والتوعية ولأنّ المؤسسات مقودة بنظم تتيح للفرد التدخّل في صياغة مستقبل المجتمع على خلاف مجتمعنا العربيّ حيث مازال المبدع ـ أيّا كان فنّه ـ ملتزما بالمعنى السارتريّ للعبارة تجاه الواقع والمجتمع الذي ينتسب إليه.
* هذه المداخلة أعدّت في سياق ندوة عتبات النصّ التي نظّمتها كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقبروان.مارس 2007 .
المصادر
- صالح أمين . والمنازل التي أبحرتْ أيضا . المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر . ط 1 . 2006 .
المراجع
- أنقار محمّد :الصورة الروائيّة . مجلّة فصول / م 11 / ع 4 / شتاء 1992 /
- التوحيديّ أبو حيّان : الإمتاع والمؤانسة . المكتبة العصريّة . ج 1
- الباردي محمّد : الرواية العربيّة والحداثة. الجزء الأوّل . دار الحوار . سوريا . ط . 1 . 2002 .
- الباردي محمّد : سحر الحكاية: المرويّ والروائيّ والميتاروائيّ في أعمال إلياس خوري . مركز الرواية العربيّة . 2004 . تونس . قابس
- برّادة محمّد : الرواية أُفُقًا للشكل والخطاب . فصول . العدد الرابع . شتاء 1993 . الجزء الأوّل
- التوحيديّ أبو حيّان : الإمتاع والمؤانسة . المكتبة العصريّة . ج 1 .
- ابت محمّد رشيد . التجريب وفنّ القصّ في الأدب العربيّ في السبعينات والثمانيات .كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة .سوسة . ابن زيدون . تونس . 2005
الجرجاني عبد القاهر: دلائل الإعجاز. موفيم للنشر. الجزائر . 1991 - Andrea Del Lungo . pour une poétique de l'incipit . Poétique .n 94 . avril 1993 . Seuil
- Benedetto croce . Brevario di estetica Aesthetica in nuce . Adelphi Edizioni .Milano quarta edizione . 1998 ..
- Gérard Genette . Seuils . Editions du Seuil .2002 .
- Gérard Genette: Palimpsestes. La littérature au second degré Editions du Seuil. France . 2003
- Jan Baetens : Qu'est – ce qu'un texte circulaire ? Poétique n° 94 . avril . 1993
- Jean Ricardou : Le nouveau Roman.Edition du Seuil . 1990 .
- Mikhail Bakhtine : Esthétique et théorie du roman .Gallimard . 2004 .
- Michel Saucet . La sémantique générale aujourd'hui . 1996 .
- Paul ricoeur . La Métaphore vive . Edition du Seuil . 2002 .
- Philipe Hamon: texte littéraire et métalangage . in Poétique .N ° 31 . 1977
- Pierre . V . zima : L'ambivalence Romanesque . proust; kafka ,Musil . L'Harmattan . France . 2002 . .
- Roland Bourneuf , Réal Ouellet : L'univers du roman .Cérès . Tunis . 1998 . .
- Umberto Eco . Opera Aperta . Forma e indeterminazione nelle poetiche contemporania . bompiani .II ed . maggio ..