مقدمة :
يعد الفضاء محورا من محاور النص الأدبي، وليس مجرد مسرح تقع على ركحه الأحداث، أو قطع ديكور تملأ الفراغ، ولا معادلا موضوعيا للمكان الفيزيقي الذي نحيا فيه، إن الفضاء عنصر بنائي يدخل في تشكيل النص، بل ويشكل لحمته في العديد من التجارب التي جعلته عماد نصوصها بنائيا ودلاليا. وغني عن البيان أن علاقة الإنسان بالفضاء مختلفة عن علاقته بالزمان، ففي الوقت الذي يدرك فيه الإنسان الزمان بشكل غير مباشر من خلال فعله في الأشياء، فإن الفضاء يُدْرَك بطريقة حسية ومباشرة، والارتباط القسري بين الفضاء الإنسان لم يجعل علاقة الأول بالثاني علاقة حميمية فقط، بل جعل منها علاقة وجودية، لأن الفضاء لا يوجد إلا في وبذواتنا.
لهذا أخرج الإنسان علاقته بالفضاء من دائرة الارتباط القدري إلى فسحة الارتباط الواعي والعاطفي، وقام بتنسيب هذا الفضاء اللامحدود وتقسيمه إلى أحياز، أضفى على كل واحد منها قيمة معينة، وغلفها بتصورات خاصة وفق خلفيته السوسيوثقافية، فلم يعد الفضاء مكانا رحبا ومفتوحا نمارس فيه ما نشاء، بل فضاء مجزأ يحمل طابعا ثقافيا وذهنيا وانفعاليا محددا.
ومقاربتنا الفضاء الأدبي عموما والشعري خصوصا تنطلق من فرضية بسيطة وهي أن الأشياء لا تتخذ داخل الأدب حجما ولا بعدا إلا من خلال سلطة الذات المرسلة والمتلفظة، والتي تشتغل على بعض من ذاتها، وهنا تصبح التجربة بمعناها الوجودي حجر الزاوية في العملية الأدبية، ويصير المتخيل حاسما في مسار هذه التجربة، لأنه يصوغ أحياز مكانية، ويقتطع أخرى من كليتها وواقعيتها، ويعيد صوغها شعريا بحيث يكون لكل واحد منها واقعيتها، موسومة بمحدداتها الحسية لكن بحمولات قيمية ورمزية، تجعل منها عالما مستقلا.
فالشعر يجعل الفضاء يقتات على ذاته، ويتشرب من غرابة المتخيل ومن القدرة على التجاوز، لدرجة يصبح فيها الحديث عن فضاء واحد موحد أمرا صعبا، فالتعدد والتنوع والهشاشة واللاتماسك سمات لازمة للفضاء الشعري خصوصا، مما يدفع الشاعر حتى يصبح صانعا وخالقا أن يمارس نوعا من الحفر على مستوى اللغة، لأنها زاده وعتاده، حتى يستطيع أن يمتلك "صلصال" الفضاء، ثم يجعله عالما سويا، خصوصا وأن الفضاء على حد قول "باشلار" ليس شيئا جاهزا ومؤكدا، بل هو "مجرد شك، فيلزمنا دائما أن نَسِمَهُ، أن نحدده، فهو أبدا ليس ملكنا، وليس معطى جاهزا، بل يجب أن نستكشفه" (1).
ولقد شكل الاشتغال على الفضاء في الشعر شيئا مميزا للعديد من التجارب نذكر منها لا الحصر تجربة بدر شاكر السياب مع قريته "جيكور" في مجمل دواوينه خصوصا "المعبد الغريق"، وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي، وهي تجارب تعكس هوس وقلق الشاعر بالفضاء، فهو حلم وكابوس في نفس الوقت. لكن التجربة التي سنقف عندها بالقراءة والتحليل هي تجربة الشاعر أحمد العمراوي، الذي جعل من الفضاء في ديوانه الثالث المعنون بـ"باب الفتوح" (2) محور كتابته ومدار نصوصه، ففي هذا الديوان اشتغال نوعي على مستوى الفضاء الطباعي للنص، وهو فضاء الإنتاج والتلقي الشعريين، إضافة إلى أن نصوص أحمد العمراوي تعمل على جعل المتلقي يتقاسم معها وفق اصطلاح الظاهراتية (Phénoménologie) تجربة الفضاء المعيش، الذي يقود عبر القراءة الفاعلة نحو بناء فضاء ثالث يتخذ شكل عالم ذهني يمكن أن نسميه تجاوزا "الفضاء الشعري".
فمقاربة هذه الفضاءات الثلاثة (الطباعي والمعيش والشعري) ستشكل النصف الأول لدراستنا شبه النظرية للفضاء كما يعرضه ديوان "باب الفتوح"، على أن نستثمر بعض تصورات ومفاهيم شعرية الفضاء في بعدها السيميوطيقي خلال الشق الثاني ، والذي سنجعل منه محايثة إجرائية للفضاء الشعري لهذا الديوان.
I. الفضاءات الثلاث وبناء المعنى : (مقاربة نظرية وإجرائية)
1- الفضاء المحاكي وجمالية معمار الصفحة :
الفضاء الأدبي عموما ينتج أساسا عن التماثل مع العالم الحقيقي عبر تكييف محددات هذا الأخير مع المعايير اللغوية المتداولة عموما، وليس العكس كما قد يعتقد البعض. فالعالم الذي يصوره الخطاب الشعري يتم عبر قدر معين من الوصف، وتتم رؤيته من خلال وجهة نظر محددة. وبالتالي يصير هذا العالم مرهونا بمدى تزامنيته بواسطة النص وداخله، أي أننا لا نلتقي بهذا العالم/الفضاء إلا في النص وبالنص، لأن هذا العالم الذي يتم رسم ملامحه على شكل فضاءات ليس سوى صنيعة الحروف والكلمات. إنه نتاج عملية الكتابة على الصفحة، ورسم الحروف على أديمها.
إن العلاقة بين حالة الأشياء كما يتم إدراكها وبين والتجربة الكتابية/الخطية تتبدى للوهلة الأولى على المستوى الشكلي للكتابة، وذلك من خلال تنضيد وتوزيع الكلمات على الصفحة. وعندما يقرر الشاعر عند نشر قصائده أن يجعل من هذه التجربة الفضائية تجربة أصيلة، فإنه يخضع تدوين نصوصه لنموذج محدد لما نسميه تجاوزا بـ "معمار الصفحة"، مما يجعله يرصف الأبيات والسطور الشعرية وفق طريقة خاصة، مع استغلال تشكيلي لعلامات الترقيم ولبنط ونوع الخط، وللونين الأبيض والأسود، لذلك " مهما اختلف وعي الشعراء بهذا الأيقون، فإن محلل الخطاب الشعري مطالب باستكناه دلالته، و أبعاده، لأنه ليس تحصيل حاصل، أو حشوا يمكن الاستغناء عنه، ولكنه أحد مكونات الخطاب الشعري، فبنية القصيدة مرتبطة -ضرورة- بالأيقون ؛وبالمؤشر الكنائي مهما كان نوعهما " (3)
ومن المعلوم أن تجربة الاشتغال على ما يسمى عادة بالفضاء النصي تجربة قديمة، كان "مالارمي" قادح أزندتها في ديوانه "رمية نرد" Coup de dés ، ثم ذهب بها "أبولينير" إلى أبعد مدى عبر قصائده الكاليكرامية، التي كان يصور فيها عبر سطور شعرية متصلة ومنفصلة أشكالا هندسية وأشياء ملموسة. وكيفما كانت طبيعة أو نوعية المعمار المعتمد في صوغ الصفحة وبناء الفضاء النصي للقصيدة، فإنهما في مطلق الأحوال يعتمدان أساسا على فعل المحاكاة، أي محاولة تمثيل شيء، لذلك تسمى هذه التجربة الفضائية بـ"الفضاء المحاكي". (4)
كما أن العلاقة بين وضعية الأشياء كما يتم إدراكها وبين والتجربة الكتابية/الخطية تنعكس على مستوى ثان هو الجانب الدلالي للقصيدة، ففي إطار سينوغرافية الخطاب الشعري يعمل الشاعر على توظيف كل أدوات الفعل الإبداعي وعلى رأسها اللفظ، الذي هو عماد الكتابة الشعرية والمؤثث الرئيسي لفضائها النصي والطباعي، وذلك لبناء المعنى وتشكيل الإيحاء. فالمبدع في وبواسطة اللفظ يجد نفسه ملزما بتحديد الحقل الفضائي-الزمني لملفوظه، يضطر لملائمة الكتابة على مستواها البلاغي والمجازي مع الشكل الطباعي المناسب (5). فاختلاف كتابة القصيدة العمودية مثلا عن نظيرتها التفعيلية ليس اختلافا طباعيا محضا، بل هو في المقام الأول اختلاف في البنى الدلالية، فالتواتر الزمني للقصيدة العمودية الموجه بالإيقاع العروضي يشتغل دلاليا على السمعي والإنشادي، بينما القصيدة التفعيلة وقصيدة النثر فضاءان لفظيان أولا، يخاطبان العين قبل السمع غالبا، من خلال دفع القارئ للتلقي البصري قبل الصوتي.
لذلك نعتقد أن جعل الملفوظ الشعري يحتل حيزا مكانيا على الصفحة مرحلة ضرورية في عملية التلفظ أولا، ثم هي ثانيا تجربة أولية مع الفضاء ، تدخل في صميم التجربة المكانية والفضائية التي يعيشها الشاعر مبدئيا على بياض الصفحة، والتي هي جزء أصيل مما سميناه سابقا بالفضاء المحاكي.
وهنا نجد الشاعر أحمد العمراوي لا يغرق في شكلنة الفضاء النصي لقصائده، ولا يذهب بعيدا في جانبها التشكيلي، ليس عجزا أو قصورا، لأنه في مجموعته الشعرية السابقة المعنونة بـ "الينابيع" اشتغل جنبا إلى جنب مع فنان تشكيلي متميز حتى صاغا تجربة شعرية/تشكيلية فريدة، عمادها اللفظ والشكل، هذا إضافة إلى أن ديوان "باب الفتوح" نفسه يضم في بداية كل نصوصه رسما تشكيليا إما تجسديا أو تجريديا لفكرة الباب، فالشاعر هنا يقتصد في كاليغرافية قصائده موجها بوعي رصين بمحددات الفضاء المحاكي الذي يعمل على تمثيل الأفعال والأحاسيس ومحاكاتها بالاشتغال على كاليغرافية الكلمات، ويتبدى ذلك في النموذجين التاليين لا الحصر :
" مد يدك أيها الرجل
التمس حلمتيها
طال شتاتك " (ص 21)
" طاقية العجوز المدورة في وسط الرأس
تنشد الرغبة في شيء ما
تستطيل الصفوف " (ص 28)
فالعمراوي يعمد لتطويل كلمات بعينها والتي تفيد الطول (طال-تستطيل)، وهذا أمر منطقي للدلالة على الاستمرار في الزمان والمكان عبر تطويل الكلمات، مما يجعل معنى الطول يتناغم دلاليا مع طول الكلمات الدالة عليه.
كما يختار كذلك ترصيف بعض كلماته بشكل عمودي للتعبير على نوع من النـزول أو السقوط :
" وأوراق تتساقط من كل ناحية " (ص 73) | | " مهما الأول هاء والآخر واوه " (ص145) |
ورغبة الشاعر في وإعادة تزمين القصيدة عبر استثمار الفضاء الطباعي للصفحة من خلال كل أدوات التلفظ المتاحة، بما فيها علامات الترقيم، تدفعه لتوظيف هذه العلامات بطريقة تشكيلية في بعض الأحيان كما يبدو في الشكل التالي (ص 89) :
صمت .... يتدلى
صمت ....
................ صمت ........................
..................................................
إن الفضاء النصي عند أحمد العمراوي يستثمر ويوظف فضاء نصيا وطباعيا له سمات ومميزات محاكية، وليس مجرد حشو شكلي على هامش النص. لكن التجربة الفضائية لا يمكن اختزالها في مجرد الاشتغال على فضاء الصفحة، لأن الشاعر يعايش الفضاء كذلك كإطار مرجعي يحيل على واقع معين، وهذه التجربة هي ما سميناه سالفا بالفضاء المعيش. فما هي محددات هذا الفضاء ؟ وما خصوصياته في تجربة العمراوي ؟
1- الفضاء المعيش وتمديد حميمية المكان :
التحليل بمختلف مستوياته لا يضمن الإمساك بهذا الملتبس والزئبقي المسمى بالفضاء الشعري، خصوصا وأن " الإلقاء الخطي المنظم والمتوالي زمنيا يجعل الإدراك الشامل لكلية هذا العالم صعبا " (6). وهناك شيء آخر يجعل إدراك الفضاء أمرا عسيرا هو أن هذا الإدراك بدوره نسبي ومتحول ومغرق في الذاتية، فقد أكدت التصورات الظاهراتية على الطابع المتغير لمقاربة الفضاء، لأن هذا الأخير لا يتبدى كمحيط يغلف حياة الفرد، ولا كمكان مغلق ومنتهي، بل يبدو كبؤرة للتصورات والتمثلات التي تتناوله.
إن الفضاء وفق المفهوم الظاهراتي ليس معطى جاهزا وناجزا، بل هو فضاء يتشكل من الرؤى المختلفة والمتعددة والتي تتضافر من أجل تحقيق إدراك محدد. هذه الرؤى الذاتية من حيث طبيعتها، تصبح بفعل التداول والتجربة مشتركة دون أن تفقد فرادتها، وبالتالي فالفضاء المعيش هو نتاج تضافر رؤية الذات للعالم مع كل الرؤى الممكنة.
وهذا الفضاء يتسم بالقدرة على التحكم في إدراك المحيط، فأن نعيش فضاء يعني أن نمتلك منظورا نتمكن من خلاله من إدراكه، فرؤية الأشياء ليس في الحقيقة إلا تعيينا لها، "والتعيين في الفضاء ليس ملمحا طارئا، بل هو وسيلة تجعل الذات تعي نفسها كموضوع " (7).
فإذا كان الفضاء المعيش ناتجا عن إدراك الذات للعالم، فإنه يتحدد من خلال المنظور الذي يسمح للذات بالتقاط الأشياء التي تحيط به، فكل منظور إذن هو بالتالي نوع من التموقع الذي ليس من الضروري أن يكون اختياريا، لكن يجب أن يكون محددا بشكل قبلي. ومن هنا نؤكد مع "موريس ميلوبونتي" على أن الفضاء ليس " المكان (الحقيقي أو المنطقي) الذي تتموضع فيه الأشياء، بل هو الوسيلة التي بواسطتها يصبح تموقع الأشياء ممكنا " (8) . وبالتالي نعتقد أن الفضاء المعيش ليس هو هذا العالم المشترك الذي ندركه عبر جسدنا وحواسنا، بل هو تجربة أصيلة وفريدة تتجاوز الصيغ المعتادة للإدراك المكاني والزماني للعالم، وللمبادئ المنطقية للتلفظ، إنه إعادة بناء رؤية خاصة للعالم ما تلبث أن تتغير وتتحول.
لكن ميزة الفضاء المعيش تكمن أساسا في كونه تجربة عاطفية متميزة لا علاقة لها بالتجربة الحسية، فالتجربة العاطفية للفضاء هي تجاوز لفضاء مؤسِّس ومشترك، مما يُنتج عند المبدع عموما نوعا من الهوس بالأماكن التي يفتقدها، ويقوده إلى الغربة والشعور بالحنين الدائم إليها. هذا الشعور الأخير يدفعه غالبا للبحث الدائم والنشيط عن "الفضاء الأُمُومِي"، وعن الفضاءات الحميمية. فالفضاءات التي يكون المبدع خارجها تظل تسكنه، وتعيش فيه كما يعيش فيها، وهنا تصبح معايشة الفضاء أكبر من أن تُشترط بالتفاعل الحسي والإدراك المادي الصرف. فالتجربة العاطفية للفضاء هي في عمقها محاولة لإعادة الوجود لما لم يعد موجوداً، والعمل على تحيين هذا الآخر الذي نفتقده، وعليه يقفز "المتخيل" على السطح كظل وتجسيد لهذا المفقود، لأن "الواقعي" وحده ليس بمقدوره تحقيق الإشباع الناتج عن الافتقار لهذا الفضاء الأمومي. (9)
إن الفضاء الحميمي بحمولاته الرمزية يستطيع ترجمة ظواهر الداخل عبر تفاعل مضطرب ومتذبذب مع الخارج، وعند التعبير عن هذا الفضاء شعريا، نجد أن هذه الحميمية ومعها التجربة الذاتية تحاول أن تتخفى في ثوب التجربة المشتركة، لذلك تعمل على التمدد على مستويين : على مستوى الخارج أي كل ما يقع خارج الذات، ثم على مستوى السالف أي كل ما يقع في حيز الماضي، " فالفضاء الشعري بما أنه معبر عنه، فهو يتضمن قيم التمدد والاتساع، إنه ينتمي لفينومينولوجيا السابق والسالف " (10).
يوكد "باشلار" هنا على أهمية نقل انفعالية الشاعر وعاطفته إلى الفضاء الذي يحيط به وإلى الأشياء، هذا النقل يضفي نوعا من الشاعرية على الأشياء الخارجية، مما يؤدي لتمديد الفضاء الحميمي ونشوء تدريجي للفضاء الشعري. فالفضاء يكتسب فعاليته حسب "باشلار" من رغبة الشاعر في جعله يمتد ويتسع ويطول، ويتجاوز ضيق الداخل، ويضفي الحميمية الذاتية على الخارج، " فجعل شيء ما فضاء شعريا يعني جعل هذا الفضاء أكبر مما هو عليه في الحقيقة ... إنه استمرار في تمديد الشاعر لفضائه الحميمي" (11) .
في ضوء هذه التحديدات النظرية، سنلاحظ عند مقاربتنا لتجربة الفضاء المعيش في ديوان "باب الفتوح" ما يلي :
- الحضور اللافت لمدينة "فاس" باعتبارها فضاء حميميا متميزا، فضاء الذكريات والحنين إلى الماضي الطفولي، إلى مرابع الصبا والشباب، حيث يصور الشاعر فضاءات المدينة القديمة، أزقتها الضيقة وأبوابها، أسواقها وأضرحتها، جوامعها ومكتباتها، ففي قصيدة "نواعير فاس" يمارس الشاعر نوعا من تمديد الفضاء الحميمي عبر تحيين شعري للمعايشة السابقة للمكان، ففي المقاطع الشذرية المعنونة على التوالي بباب الحمراء واللمطيين والعطارين والنجارين، وسيدي بوجيدة وسيدي العواد والنخالين وجامع الأندلس، وأسوار والمكتبة القادرية ووادي الزيتون وعسالة، يتجول بنا الشاعر ليس في أماكن حقيقية لازالت معالمها قائمة، بل في فضاءات حميمية ممدة تخييليا، أي أنها ليست هنا فضاءات إسمنتية وطينية بمحدداتها الطوبوغرافية ، إنها فضاءات حقيقية تُنقل لنا عبر ذات أخرى، ليس كما هي في الحقيقة بل عبر رؤية خاصة، تعكس حميمية يسعى الشاعر لسبك لغة تُكنِّي هذه الفضاءات دون أن تسميها. هكذا يصبح "باب الحمراء" :
"رمسٌ ريشي
يفصل بين قيمتين:
الباب والاحمرار" (ص119)
أما "اللمطيين" فيصير بالنسبة للشاعر :
"منعرج مليء بوحل
رمم طلاء فمه
باللحظة الزئبقية"(ص119)
في حين أن "العطارين" تغدو :
"تاريخ بيع للتاريخ
تجاويف مرصعة بلون الماء
السالك بين اللثغة والنار"(ص120)
- إن جمالية الفضاء تصطبغ عند العمراوي ببناء الجمال انطلاقا من الخيال، هذا الأخير عادة ما يكون مشحونا بوعي نوستالجي وليس باستهامات مكانية، فالعمراوي يستدعي ذاكرته المكانية بشكل بنائي يتساوق مع دلالة نصوصه، فعندما يسترجع فضاءات حميمية معينة لا ينثر عليها أصباغ الكلام وزخرف الألفاظ، بل يتركها تتسلل من ذاكرته على سيجيتها، تاركا لها حرية القول، مما يسقطه في بعض الأحيان في نوع من النثرية التي تفقد نصوصه بعضا من كثافتها الشعرية، وتضعف طاقتها الإيحائية، إنه يضحي بجمالية القول الشعري لصالح جمالية الفضاء، لأن هذا الأخير قد يبدو أكبر من أن تنسجه لغة، أو تسبكه كلمات.
فمثلا في المقطع السابع عشر من قصيدة "أبواب باريس" المعنون بـ "في اللغط" يسترجع مشهد طقس صوفي - مباشرة بعد كلامه في نهاية المقطع السابق عن كاتدرائية نوتردام بباريس – ويعرض هذا المشهد المتميز على النحو التالي :
الصمت القاسي
واللغط الذي لا يتوقف
وسابلة تقطع الطريق المؤدي إلى بيت الله
وهتاف بباب الدخول المخيف
يرج الرهبة بالرهبة
و "على بابك واقفين" "على بابك واقفين"
نشيد متماوج يصاحب الجثة
ويسابقها لمخرج باب الفتوح
أو مدخلها سيان "
فهذا المقطع الذي لا يخلو من نثرية، يصور ذلك الإحساس المشترك عند دخول أماكن العبادة، فالرهبة التي تهز قلب الداخل، وأصوات المصلين والذاكرين كلها أشياء مألوفة حقا، لكن الشاعر يعمل على تصويرها بطريق بسيطة إلا أنها لا تخلو من عمق، فالفضاء المكاني ذي الإيحاء الروحاني العميق يكاد يكون بؤرة هذا المقطع بنائيا ودلاليا ليس عبر الانزياحات والصور الشعرية المركبة، بل من خلال نسجه خيوط الأجواء الشعرية القريبة من الروح، وتمديده لنفس شعري قوامه التجربة الفضائية، وليس التجربة اللغوية التي لا تغيب في هذه النصوص، بل تبدو محتجبة وراء تضخم معايشة المكان، والرغبة في ومراودة وترويض الفضاءات الحميمية، المستدعاة أساسا من ذاكرة موشومة بالحنين والنوستالجيا.
2- الفضاء الشعري وسيميائية التفضيء :
انطلاقا من الفضاء المحاكي الذي يحتضن القصيدة طباعيا، واعتمادا على التواصل المفترض مع الفضاء المعيش، يقوم القارئ بتحيين الفضاء المسمى"شعريا" بناء على الروابط التي تجمع هذا الفضاء بموضوع القراءة (أي القصيدة)، متوسلا بفهم تأويلي يسعى لبناء الدلالة وليس البحث عنها في ثنايا النص.
وإذا كان الفضاء الشعري ينتج بالتالي عن التفاعل التشاركي بين النص والقارئ النموذجي، ويتبدى كبناء ثقافي ومادة ذات طبيعة سيميائية (12)، فإنه من الضروري التساؤل حول طبيعة هذه العلاقات البنائية والتشييدية المتحكمة في بناء الفضاء، وحول التماسك الذي نسلم بوجوده عادة بالنسبة لهذا البناء الذهني المسمى فضاء شعريا.
إن الفضاء حسب تعبير "فيسجربر" طريقة وأسلوب في معايشة المكان الذي يتشكل على السواء من الظواهر الروحية والأشياء المادية. (13) وهذه المعايشة تتدفق من منابع اللغة التي هي جسم وروح القول الشعري، وعليه تصبح ما يمكن تسميتها تجاوزا بـ "الاستعارة الفضائية" فاعلا أساسيا في تشكيل الفضاء الشعري، لأن هذا الأخير لا يتشكل من المؤشرات والمحددات المكانية الدالة على الفضاء، والتي ما على القارئ سوى جردها وترتيبها وتبيان دلالاتها لبناء هذا المكون النصي، بل الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو.
فالاستعارة عموما ليست هي استبدال صورة مجردة بأخرى محسوسة، بل العكس هو الصحيح، وبالتالي عندما تعمل "الاستعارة الفضائية" في الشعر على "تفضيء" شيء ما (14) (أي إضفاء الخصائص الفضائية عليه)، فإنها تنـزاح عن الدلالات المكانية الاعتيادية للكلمات، ولا تلزم نفسها بما هو متداول، فتصير بالتالي الصور ذات البعد المكاني غير معنية بأن تتناسب أو تتنافر مع الصور المسكوكة التي تجعل مثلا من المنزل فضاء للحميمية والألفة والطمأنينة، والشارع فضاء عاما ومشتركا وصداميا. ثم وحتى وهي تصور فضاء معينا باستعمال ألفاظ ذات دلالات فضائية مثل أعلى وأسفل، فإنها تؤشر على مواضعات اجتماعية ليس مطلوبا من الشاعر المواطئة عليها.
وهنا نجد كما أشرنا سالفا أن المؤشرات الفضائية وأسماء الأماكن لا تلعب داخل بنية الفضاء الشعري سوى دور ثانوي وأداتي، خصوصا إذا ما قارناها بما يطلق عليه "جورج ماطوري" بالتماسات الإنسانية، وهي فعل وجودي مغرق في الذاتية، لا تربط ميكانيكيا بين فضاءات بعينها ودلالات جاهزة، بل تعمل على صوغ دلالات فضائية خاصة ذات بعد أنتربولوجي وثقافي ونفسي. فالألفة والعزلة، والتجمع والتفرق، والانجذاب والتنافر كلها تماسات إنسانية تحمل حتما دلالات مكانية صريحة أو ضمنية، لكن هذه الدلالات غير ثابتة، إذ لا تتغير فقط من نص لآخر، بل تتنوع وتتغاير كذلك حسب السياق، وبالتالي يصير البعد الفضائي والمكاني داخل النص مرهونا باللغة الشعرية ذاتها من جهة، وبمدى القدرة على تأويل وبناء دلالتها من جهة ثانية.
وفي هذا الصدد نؤكد على أن الشبكة الدلالية الخاصة بالفضاء الشعري تُنسَجُ من خلال الاستعارات الفضائية، فهي وحدها القادرة على تجسيد هذا الفضاء، فخارج هذه الاستعارات لا يمكن الحديث إلا عن أماكن مسطحة وهلامية الملامح، لا تحمل دلالات فضائية في ذاتها، فسميح القاسم مثلا عندما يقول في قصيدته الشهيرة " أمشي " : "قلبي قمر أحمر ... قلبي بستان" فكلمة بستان هنا لا تحمل أي دلالة فضائية، بل الصورة الشعرية - والتي قوامها الاستعارة الفضائية "قلبي بستان" - هي التي تمنح لهذا المكان قيمته الفضائية، والتي تحفز في ذهن القارئ بفعل التوتر الدلالي الحاصل بين "الدلالة المقبولة" لهذا الفضاء والمتعارف عليها، و"الدلالة الملائمة" من وجهة نظر هيرمينوطيقية صرفة حسب تعبير "دافيد كولونطوب" (15)، تحفزه على الانتقال من فضائية البستان كمكان حقيقي إلى تفضيئه كدلالة تؤويلية قابلة لقراءات متعددة.
إن الفضاء الشعري تجسيد لقوى مادية (أماكن-أحياز-مؤثثات...) وروحية (أحاسيس-انطباعات-قيم...) عبر ما قد نطلق عليه جزافا بالتشبيك الدلالي، أي بناء المعنى الفضائي ليس فقط بواسطة الإحالة على الدلالة المرتبطة بالحس المشترك والعقل الجمعي، أو على مرجعية الدليل المتواطئ عليها لسانيا وثقافيا، ولكن بربط دلالة الفضاء والأماكن كذلك بتاريخية فِعْلَيْ إنتاج وتلقي النص الشعري، وبالسياق الاجتماعي والثقافي المزامن لهذين الفعلين، وبالدلالات الحميمية والمغرقة في الذاتية والتي قد يبنيها كل من الشاعر و"القارئ النموذجي".
إلا أن هذا الفهم لطبيعة الفضاء الشعري لا يجب أن يدفعنا للاعتقاد بأن المهم هو الانتقال من الدلالة الفضائية المقبولة والمتواطئ عليها، إلى الدلالة الملائمة والسياقية، فالأنجع هو المزاوجة بين منطقين، منطق المقبولية والملائمة من جهة، ومنطق الاكتشاف من جهة ثانية، لأن الفضاء الشعري بناء دلالي تشييدي لا يعتمد على الدلالات المتواترة أو المفترضة، لكونه سعي لاستكشاف دلالات جديدة من خلال تشبيكها وربطها بسياقات التلقي والإنتاج، ولأنه كذلك لا يحمل في طياته دلالات جاهزة أو ناجزة، ولا أخرى خفية وعتية، فهو بناء يولد المعنى وينتج الدلالة التي تبقى في مطلق الأحوال تشييدية الطابع، أي كما قلنا سالفا بناء ذهنيا يتقاطع في إنتاجه كل من الشاعر والقارئ النموذجي.
وإذا ما أدرنا الدفة نحو ديوان "باب الفتوح"، وحاولنا مقاربتها وفق التحديدات النظرية المشار إليها آنفا فسنقف عند حضور لافت ومتميز للاستعارات الفضائية، ومن خلال وقوفنا عند نموذجين اثنيين من هذا النوع من الاستعارة، سنتبين في ما هو آت أهمية التشبيك الدلالي في صوغ الصورة الشعرية ذات البعد الفضائي :
- ففي المقطع الشذري المعنون بـ "باب الحمراء" يقول الشاعر (ص 119) :
" رَمْسٌ ريشيٌّ
يفصل بين قيمتين :
الباب والاحمرار "
فالرمس هنا وهو القبر، ليس مجرد مكان لإقامة الموتى، فهو إلى جانب دلالته الفضائية المعجمية، يصير حاملا لدلالات غير فضائية، خصوصا عندما يُنْعَتُ بالريشي، حيث أن هذا النعت يخلق توترا دلاليا سببه المفارقة المعجمية بين القبر الذي يحيل على الثبات والجمود والسكون، وبين الريش المحيل على الحركة والخفة والتحليق. لكن الأبرز هنا هو أن القبر يتحول إلى برزخ فاصل ليس بين فضائين هما عالم الأحياء وعالم الأموات، بل بين شيئين آخرين هما الباب والاحمرار، واللذان اعتبرهما الشاعر قيميتين، أي نقلهما من صفتهما المادية المحسوسة إلى صفة معنوية مجردة.
لكن التوتر الدلالي يتعمق أكثر لكون دلالة الفصل لا يحيل عليها القبر فقط، فالمفصولان بالرمس هما كذلك فاصلين، فالباب فاصل بين الداخل والخارج، وبين الحميمي والغيري، والاحمرار (الدال على لون الدم) فاصل بين الحياة ( فغالبا ما يسمى الدم إكسير الحياة)، والموت (فإراقة الدم واستباحته مرادف للقتل).
هكذا بفضل الاستعارة الفضائية نصبح أمام حد فضائي فقد دلالاته المكانية وهو القبر، ويفصل بين حدين أولها فضائي (الباب)، والثاني تم تفضيئه، أي تلبيسه دلالة مكانية (الاحمرار)، لكن ومع التشبيك الدلالي يصير كلا الفضائين - الحقيقي (الباب) والاستعاري (الاحمرار) - بدورهما فاصلين فضائيين كذلك، أي أن صفة الفصل والتفريق التي كانت للقبر، تم ربطها معجميا بنفس الصفة الملازمة للباب، وإعارتها للاحمرار.
- وفي مقطع آخر بعنوان "النجارين" (ص 120) :
" ضيقة أبواب الواقف
متسع صدر العابر
وللماء وحده حق التلاطم
في ردهات اللوح
على أستار ترفض التيه
لتتأمل وجه التابوت الزعفراني
المقابل لمكتبة "الحلوي" القديمة
حياة أخرى، لحياة أخرى "
السطران الأولان هما بلغة البلاغة القديمة عبارة عن طباق، إذ تتقابل وعلى التوالي لفظتا "ضيقة" و"متسع"، و"الواقف" و"العابر"، لكن اللغة الشعرية هنا تتجاوز هذه الصيغ التقليدية، لتصوغ استعارة فضائية مركبة قوامها تشبيك دلالي قائم على تفاعل الدلالات المعجمية مع الإيحاء الفضائي. ولكي يتضح هذا الأمر سنعمل على تبسيطه وفق الترسيمة التالية:

فالباب فضاء يتسم هنا بالضيق، بينما الصدر (وهو بشكل من الأشكال يحمل دلالات مكانية) على النقيض واسع، أما الماء فيتصف بصفة جديدة هي الحركية، لأنه وحده القادر على التلاطم، وهنا نفترض أن متوالية من الفضاءات المتعارضة دلاليا ستتحكم في بنية الفضاء الشعري في هذا المقطع. هكذا سنجد فضاء مواليا سيوحي بالثبات هو اللوح، لكننا قبل ذلك نجد فضاء آخر يتسم هذه المرة بالاتساع وهو الردهات، وفي الأخير يأتي الطرف الثاني المكمل للتقاطب الفضائي والمتصف بالقدرة على الحجب والفصل والرافض للتيه وهو الأستار، والذي يتحيل على الثبات كذلك.
هكذا نصبح دلاليا أما قطبين فضائيين متعارضين، أولهما يتصف بالاتساع والحركية ويضم على التوالي الصدر والماء والردهات، وثانيها يتسم بالضيق والثبات ويضم الباب واللوح والأستار، وبالتالي نصير أمام ثلاثة من أزواج التقاطبات الفضائية هي :
وعندما نقف عند السطرين المواليين سنجد أمامنا فضائين آخرين يشكلان امتدادا لتقاطب الحركية والثبات هما :
- التابوت الزعفراني : وهو فضاء دال على ضريح أو قبر أحد المتصوفة، يحيل على الروحانية والعرفان والكشف، أما صفة "الزعفراني" فهي مرتبطة بحاسة البصر من خلال الإشارة إلى شدة الصفرة.
- مكتبة الحلوي : وهو فضاء يدل على مكان تخزين وبيع وتداول الكتب، ويحيل على العقلانية والبرهان والقراءة، بينما صفة "الحلوي" فترتبط بحاسة الذوق من خلال الإشارة إلى الحلاوة.
وكلا الفضائين يبدوان متقابلين كما هو واضح من لفظة "مقابل" المثبتة في السطر ما قبل الأخير، فالتابوت ذو اللون الأصفر أو الأحمر الفاقع الدال الحركية والحيوية أقرب إلى قطب الاتساع والحركية المشار إليه سالفا، فيصبح التابوت بالتالي صنوا للصدر والماء والردهات، بينما المكتبة الحاملة لصفة الحلاوة الدالة على ثبات هذا المذاق، فتحيل على الجمود والقدم، فتصير بدورها أقرب لقطب الثبات والضيق، وتتساوق مع الباب واللوح والأستار.
فروحانية التابوت تتعارض دلاليا كما هو واضح مع عقلانية المكتبة، لكن لفظة "لتتأمل" تأتي لتضفي على هذه الاستعارة الفضائية توترا دلاليا آخر، ذلك أن هذا الفعل لا يتلاءم مع مفعوله وهو "وجه التابوت"، فالتأمل فعل ذهني وعقلي لا يليق بمفعول به ذي إيحاءات غيبية وصوفية وروحانية، بل هو أليق بالفضاء الآخر المتمثل في "مكتبة الحلوي"، فهذا الأخير هو الفضاء المفترض للتفكير والتأمل اللذان تستلزمهما قراءة ومطالعة الكتب، لكن الشاعر يأبى إلا أن يسند فعل التأمل لفضاء روحاني، بينما وبالمقابل ينعت فضاء المكتبة بصفة "قديمة"، وهي صفة تبقى رغم كل شيء ذات دلالات ملتبسة، فهل هي وصف حالة أم صفة قدحية ؟ أم ترى "التأمل" الصوفي أفضل من قراءة الكتب العتيقة ؟ والتذوق العرفاني أنجع من التفكير البرهاني ؟ أسئلة تبرز عمق هذه الاستعارة الفضائية ومركزيتها في بناء المعنى الشعري، لدرجة أن عملية بناء هذا المعنى تجعل من الفضاء الشعري البوابة الضرورية لولوج عالم القصيدة، والطريق الالتفافية والأقصر للإمساك بشبكاته الدلالية.
II. المسارات الثلاثة لمقاربة التجربة الفضائية : (قراءة تطبيقية)
إن مقاربة الفضاء الشعري في ديوان "باب الفتوح" للشاعر المغربي أحمد العمراوي تستلزم منا محاولة الإمساك بالخيوط التي تنسج التجربة الفضائية الخاصة التي يصوغها الشاعر، هذه التجربة تتشكل كما هو واضح سلفا من تفاعل فضاء الصفحة الشعرية والفضاء المعيش والفضاء الشعري. لكن هذه التجربة الفضائية إذا كنا قد أوضحنا بعضا من بنيتها العميقة التي تتحكم في تشكيلها وبنائها، تحتاج هذه المرة للحفر والتنقيب في بنيتها السطحية، كي نستطيع استجلاء الميكانزمات التي تسهم في تمظهرها النصي وجلائها التلفظي على مستوى القول الشعري.
هكذا سنتجه رأسا نحو تحديد المسارات المفترضة لمقاربة التمظهر النصي للتجربة الفضائية في هذا الديوان، باعتبارها مداخل محتملة لقراءة هذه التجربة، ولكي نحدد لنا طريقا نسير عليه يقينا شرور "الزيغان النظري" و"العمى المنهجي" و"الفارق النصي" والتي تتهدد عادة أي مقاربة نقدية علمية جادة للنصوص الإبداعية. فلا يمكن أن نهيم على وجهنا في لجة القصائد، ونضيع في التفاصيل التي تحجب عنا الغاية.
لذلك سنختار ثلاثة مسارات اشترطنا أن تكون مسنودة نظريا، أي مدعمة بمعرفة نظرية ذات مرجعية علمية محددة، بعيدة عن التلفيق والتعالم، ومدعومة منهجيا، بتقديم أدوات للمقاربة النصية وآليات تسمح بالتدليل على قيمتها الإجرائية، وأخيرا ملائمة نصيا ومتوائمة مع الواقع النصي للقصائد، بدون لَيِّ لأعناقها ولا سلخ لجلودها.
1- الباب كحد فاصل وواصل :
الباب حاجز، الباب فارق بين الداخل والخارج، بين الذات والآخر، إنه الحد الذي يفصل بين الأشياء ويمنع من اختلاطها وتمازجها، ويحفظ لكل حيز كينونته ووجوده في منأى عن العالم، ويحمي حميميته من جحيم الآخرين.
فعند ملاحظته لعملية انتظام الفضاء داخل النص، يرى "يوري لوطمان" أن البنية الفضائية لا تشكل داخل أي نص وحدة منسجمة، ولا كُلاًّ متناغما ومتسقا، بل ينقسم الفضاء إلى أحياز متمفصلة، أي متصلة ومنفصلة في الآن ذاته، هكذا سيبلور "لوطمان" مفهوم الحد الذي يكتسب بوصفه عنصرا فضائيا أهمية كبيرة، لكونه يقسم الفضاء إلى شقين لا يمكن أن يتداخلا، "ويتميز الحد بخاصية أساسية هي استحالة اختراقه، وتمثل الطريقة التي يفصل بها الحد بين شقي النص من خصائص النص الجوهرية" (16)
فهل يمكن اعتبار الباب في ديوان "باب الفتوح" بمثابة الحد الفاصل بين أحياز متمفصلة ؟ وهل حقا يستحيل اختراقه ؟
إن أي ناظر للتجربة الفضائية عند العمراوي سيكتشف دون كثير عناء أن هذا الشاعر يتخذ من الباب أيقونة شعرية وتيمة مهيمنة تزين وتلحم قوله الشعري، فمن عنوان الديوان "باب الفتوح" إلى أطول قصيدة فيه "أبواب باريس"، نجد الشاعر يجعل من الباب موضوعته المفضلة، لكن من خلال الإحالة على أبواب حقيقية، مثل "باب الفتوح" بمدينة فاس المطل على المقبرة القديمة، وأبواب "مايو و كليشي و لافييت" التي تخترق مجموعة من الساحات الباريسية ومحطات الميترو، فتصير بالتالي معظم مفاصل الديوان غضروفها الرئيسي هو الباب.
لكن الشاعر في مجمل مقاطع الديوان، وإن جعل الباب حدا وبرزخا يفصل ويفرق، فقد جعله في نفس الوقت يصل ويُرَتِّق. ففي قصيدة "أبواب باريس" (ص 47) نجد الباب تتخذ شكل الفاصل والواصل الذي يترك الحدين متجاورين :
وكأنها باب الفتوح القادم من مقبرة الشيخ
ومن تأويل الخاصة لفوضى العامة.
باب الأبواب تسح لبهاء الشعر
وموسيقى الإلكترون المزاحمة
لبحة سيدة الميترو الغنوج.
انفتاح لانغلاق ومعادلة مرتبة وغير ...
تهدم جدارا هنا
وتضبط تأشيرة المرور
الجماعي صوب النار هناك
أو صوب الجنة
فالباب إذا كانت فاصلا طوبولوجيا طبيعيا، فهي هنا لا تفصل بين المتعارضين فقط بل تصل بينهما، إذ تسمح بتجاور تأويل الخاصة وفوضى العامة، ومزاحمة موسيقى الإلكترون لبحة السيدة الغنوج، وتداخل الانفتاح مع الانغلاق، لتعود الباب في نهاية المقطع بعد أن تزيل الفاصل "تهدم جدرا هنا"، تعود للفصل من خلال ضبط المرور، مراقبة العابرين نحو النار أو صوب الجنة.
إن مرونة الباب كحد فاصل تعود في اعتقادي لكونها لا تفصل بين أحياز فضائية ذات طبيعة مادية كما يرى "لوطمان"، بل تقف على خطوط التماس بين أحياز ذات طبيعة ذهنية، يسهل تجاورها دون أن تبغي إحداها على الأخرى، فحكمة الخاصة لا تكتسب قيمتها إلا داخل فوضى العامة، ولا يظهر البعد العفوي والطبيعي لبحة السيدة الغنوج إلا عندما نضعه بجوار تصنع وصخب موسيقى الإلكترون، فلا أحد يقصي الآخر لأن كينونة كل واحد منهما لا تكتمل إلا بوجود نقيضه.
هكذا يصير الباب كفاصل بين الفضاءات والوضعيات المتعارضة ملمحا لذلك التمزق الذي يطول الوعي الشعري، بحيث يصبح تعبيرا متوترا عن تقاطب فاصل/واصل و فرقة/وحدة، فالشاعر واع بصلابة الباب كحاجز وبصلادته كحد يفصل قبل أن يصل، لكنه يكابد من أجل تليين تلك الصلابة مدفوعا بحنينه للوحدة والائتلاف، ورغبته في إبعاد شبح العزلة والاختلاف، هذا الحنين وتلك الرغبة التي تتعزز بشعوره النابع لست أدري أ من قناعة أو وهم، بأن لا فرق بين "باب الفتوح" الفاسي و "باب كليشي" الباريسي، فالأولى تتبدى في الثانية، فكلها تفصل وتصل في نفس الوقت.
لكن الدافع وراء هذا التمزق يكمن في نظري قريبا مما لاحظه "جورج بولي" في دراسته القيمة للفضاء عند الروائي الفرنسي "مارسيل بروست"، إذ يعتقد بأن الفضاءات تعمل على تقليص، بل وحتى محاولة إزالة الفارق الذي يفصل بينها، والشيء الأبرز الذي يخلفه الشخص المتنقل بينها، سواء أكان حقيقيا أو متخيلا، هو ما يبدو أنه يحمل إليها من حركية ومن نشاط توحيدي عادة ما يكون هاجسه وشاغله الرئيسي. (17)
وهذا الهاجس هو ما قد نراه في المقطع الآتي، والذي تتساوى فيه الأشياء لدرجة أنها تتوحد في إطار إشكالي، تتناسل فيه الأسئلة المؤرقة بدون إجابات شافية (ص 48) :
لمن توضع الأبواب ؟
للخاصة ؟ أم للعامة ؟
من يملك قرار الفتح ؟
الشيخ أم مريده ؟
وأيهما الأصل ؟
الفاتح أم المفتوح ؟
2- فاس وباريس وتفضيء الذات والآخر :
إنه ارتباط دفين ذلك الذي تطفح به العديد من مقاطع الديوان، ارتباط بمدينة فاس مسقط رأس الشاعر ومربع صباه ومرتع شبابه، إنها ليست مجرد فضاء بل هي امتداد لذات الشاعر، وجوهر كينونته، ففاس القديمة البالية تتبدى في كل شيء، في الصمت وفي اللغط كما يقول، في الأبواب والأزقة والأسواق التقليدية، بل إنها تتبدى له كذلك حتى في أكثر المدن عصرنة وحداثة، يراها في أبواب وكنائس وميترو مدينة باريس، إنها تتناسخ في الزمان والمكان، وتحضر بإلحاح في الذاكرة، لتصير قدرا محتوما لا يمكن الفرار منه. إنها جسده وعقله وروحه، بل هي في بعض المرات تبدو كذاته التي يحدد من خلالها تمايزه عن الآخر.
لقد تحدثنا سابقا في الجزء الأول من هذه الدراسة عن تمديد الشاعر لحميمية المكان، وأوضحنا كيف أن أحمد العمراوي يعمل على أن يسكن هو ويسكن القارئ معه في نوستالجيا مدينة فاس كفضاء أمومي، جاعلا من هذا الفضاء وسيلة شعرية للبحث عن ذاته وللتعبير عنها في نفس الوقت. لكن هل يكون الفضاء الشعري كذلك وسيلة للبحث عن الموضوع/الآخر ؟
يؤكد "باشلار" على أن "الفضاء داخل الشعر يرتبط بالبحث عن الذات أو الموضوع، باعتبارهما تمثلين متصلين بشكل وطيد بحساسية وشخصية المؤلف" (18)، فالشاعر كذات فاعلة ومتفاعلة يسعى لإيجاد سبل تقربه من هذا الآخر، فباكتشافه وعبر تحديد معالمه تتضح كينونة الذات وتتبدى تقاسيمها، فالآخر ملمح رئيسي للذات ومحدد لهويته.
وفي هذا الإطار نجد الشاعر أحمد العمراوي لا يستنكف في جعل فاس أيقونة لذاته، وذاتا مجازية تتقمصها ذاته الحقيقية لكي يمسك ببعض ملامح كينونته، ولكي يحس بذاتيته التي لا وجود لها شعريا خارج مدينة فاس (ص 122) :
قد يكون للمكان نفس التأنيث
وما يختلف هو مقدار الفراغ
الذي يتركه الشرخ على الذات علاقة بالجسد
ضوئية نارية
هي فصل في الجحيم
رائع
لكن ما يستوقف الأنظار هو أن فضاء فاس في هذه التجربة الشعرية لا يحضر وحده بل إزاءه مدينة باريس، مما يجعنا نصبح أمام زوج فاس/باريس بإيحاءاته التي قد نفترض مبدئيا أنه تقاطب فضائي، أي زوج يتضمن فضائين متعارضين ومتناقضين، يحيل الأول على العرب والثاني على الغرب بحمولاتهما الحضارية والثقافية المختلفة.
إلا أننا ومن خلال الاقتراب أكثر من قصيدة "أبواب باريس" نكتشف أن زوج فاس/باريس ليس تقاطبا فضائيا لكون الفضائين لا يتعارضان ولا يتقابلان، بل ولا حتى يختلفان، إذ نجد الشاعر يجعلهما في مستوى أول فضائين متجاورين ومتقاربين، يقول في الصفحتين 86 و87 :
صديقي في بوابات الله
في أبواب الدنيا
في سين باريس وتخنث راءاتها
المشابهة لعُمُر يحملني كالرعد
في باب الفتوح
في جامع الأندلس
في باحة القرويين
في سِينِ باريس وسَبُو فاس
أمام كاتدرائية القلب المقدس لنوتردام.
فالفضاءات في فاس وباريس تقف جنبا إلى جنب، وبوابات الله الفاسية مع أبواب الدنيا الباريسية، وجامع الأندلس بجوار كاتدرائية نوتردام، ونهر السين الذي يخترق باريس صنو نهر سبو الذي يمر بضواحي فاس، فلا فرق بين هذه وتلك. بل نجد الشاعر في مستوى ثان يذهب بعيدا عندما يجعل هذين الفضائين متشابهين ومتساويين (ص 60) :
ينفتح الاسم، ينفتح الفم ينفتح الباب
والحظ حظوظ
و"سيدي" قُبالة "سَّانْ"
سَّان جِيلْ، سَّان جِيرمانْ، سَّان بُّولْ
سيدي بُوجِيدةَ، سيدي بليوط، سيدي حِرْزِهِم
فالشاعر يجعل من تسمية "سيدي" الصوفية مشابهة لكلمة "سان" الفرنسية التي تعني القديس، فيصير سادة الصوفية الفاسيين مماثلين للقديسين الكاثوليك البارسيين، ولا تستطيع هكذا باريس أن تدعي بأنها أفضل من نظيرتها فاس، فللأخيرة كذلك أبوابها ونهرها وقديسوها.
ويتمادى شاعرنا - في مستوى ثالث - في ربط فاس وباريس بعروة وثقى لا انفصام لها، عندما يجعلهما يتوحدان وفق فهم صوفي لا تخطئه العين والأذن عندما يقول (ص 93 و94) :
لا فرق بين الباء الباريسي
والفاء الفاسي
فالقلم واحد
والنون واحدة
والكون واحد
وما ثمة غير حجاب العزة
يفضح آلة الوقت
وما يتبقى إلا ظل الظل.
تتوحد أحرف باريس وفاس لكون القلم واحد، والمداد واحد بدلالة النون الذي تعني وفق بعض المفسرين الدواة، فقط حجاب العصبية والاعتزاز بالخصوصيات هو الذي يمنع من رؤية الحقيقة التي هي أن كل تلك الفروقات هي مجرد ظلال وأوهام، فالوحدة هي الأصل، أما الاختلاف فهو من صنيع "الشوفينية" البغيضة التي لا ترى في الآخر إلا ما يفصله عن الذات، هذه الأخيرة لا تستطيع تحقيق وجودها بغير التقابل المَرَضي مع الآخر.
صحيح أن الشاعر قد استطاع من خلال الزوج الفضائي فاس/باريس الانتصار لفكرة انفتاح الحضارات وتآلفها، وتجاوز النظرة السائدة التي تجعل من الخصوصية الثقافية درعا واقيا من الاختراق الخارجي، متمترسة خلف ذاتيتها التي تنظر دائما بعين الريبة للآخر. متوسلا للوصول لهذه الغاية برؤية فنية وجمالية متميزة قوامها تفضيء الذات والآخر، فذات الشاعر تصبح فضاء قائم الذات هو مدينة فاس مدينة العلم والتصوف، والمحيلة على المرجعية العربية الإسلامية الصوفية المنفتحة كونيا، بينما الآخر المحيل على المرجعية الغربية المسيحية الكاثوليكية فيتقمص فضاء مدينة باريس مدينة الأنوار والتنوير.
لكن هذه الرؤيا الفريدة المعبر عنها فضائيا تفقد، كما هو واضح في المقاطع السالفة، نَفَسَها الشعري لصالح نفس نثري يُغَلِّب الفكرة على الصورة، ويضحي بالتركيب الانزياحي والتكثيف الدلالي تاركا المجال للغة انسيابية تقريرية. فالجري وراء بهاء الرؤيا يجعل النفس الشعري يتقطع، فتفقد الجملة الشعرية إشراقها، وتصير مجرد كلمات تنوء بحمل الفكرة التي لا نجادل في أصالتها وفرادتها، لكن جذوة الشعري تخبو كلما اقتربنا من رياح النثري، ويكفي أن نقارن بين المقاطع السابقة وبين المقطع الشعري التالي، لنتأكد أن نار الشعر قد تخبو أحيانا، لكنها لا تنفك تلفح وجوهنا في الكثير من الأحيان ( ص 111 ) :
تحيط بسوادك أسوار زيزفونية
مالحة صلبة كأيام القيظ الفاسي
وحين تنشر لعابك أسفل تضاريس المحنة
تجد ماء مبحوحا في حوضك الأهوج
المرشوش بنيزك فاضح
3- الأعلى و الأسفل أو الطهراني والشهواني:
إن التفكير في مقاربة الفضاء تقتضي إدراك هندسة الفضاء الأدبي عموما كما تتجلى داخل النصوص، لذلك عمل أغلب الدارسين - إضافة إلى التأسيس النظري للفضاء الأدبي – على صوغ أدوات تتمكن من الإمساك ببنيته داخل النص واستكشاف دلالاته، وفي هذا الإطار صاغ "يوري لوطمان" مفهوم الأنساق المكانية عند دراسته لأشعار الشاعرين الروسيين "تيوتشيف" و "زابولوتسكي"، بالتركيز على الزوج الفضائي "أعلى/أسفل" (19) ، وكذلك جاء "جان فيسجربر" ليمشي في نفس الطريق ويعمل على تطوير وتعميق تصورات "لوطمان"، من خلال مفهوم "التقاطبات الفضائية" التي هي ثنائيات ضدية تتضمن تقابلا بين قوتين أو عنصرين متناقضين.
فهذه التقاطبات الفضائية، حسب "فيسجرير، إلى جانب تضمينها لقوى وعناصر متناقضة ومتقابلة، هي تتوافق بل وتتماثل مع العلاقات الموضوعية التي يقيمها الكاتب مع الفضاء، فهي تترجم التوترات التي تجمعهما، وتعكس الانطباعات التي يولدها الشاعر/المبدع عند مواجهته للفضاء (20) ، هذا علاوة على كونها مشحونة بالقيم التي يجب أن تفهم في سياقها الكلي. فرغم كون مفاهيم هذه التقاطبات تبقى متناقضة خارج كل السياقات، إلا أنها لا تحافظ على هذه المدلولات، فالتعارض القائم بين طرفي هذه الأزواج قد يتقلص ويختصر في شكل تكامل، بل وقد يتلاشى ليترك مكانه للترادف، إذ نجد "بودلير" مثلا يجعل في نفس الوقت من علياء السماء ومن أعماق القعر مصدرا للجمال.
إن السمة الطباقية التي تمنحها اللغة لهذه التقاطبات الفضائية لا يمكن، في اعتقادي، التعويل عليها وحدها في تحديد دلالات طرفي التقاطب الفضائي، لأن الكاتب والشاعر خصوصا لا يلزمان نفسيهما بالدلالات القبلية والمتعارف عليها، فالشعر خلق وإعادة بناء للممكن والمستحيل، وبالتالي نرى أن أي مقاربة لهذه التقاطبات الفضائية لن تكون ناجعة إلا إذا انطلقت من قناعة بسيطة كنا قد أكدنا عليها سالفا مفادها أن الدلالة تُبْنى ولا تُعْطى، فالدلالات القبلية والجاهزة تضيع ملامحها دائما عندما نلج عالم النصوص، فمن الأفضل أن نتأبط المعنى البنائي التشييدي النابع من تفاعل الدارس/القارئ مع النص، بدل البحث عن المعنى الحقيقي الذي لا وجود له في عالم القصيدة.
من هذا المنطلق نجد أن التجربة الفضائية لأحمد العمراوي والتي نحن بصدد مقاربتها، يهيمن عليها التقاطب الفضائي "أعلى/أسفل"، فكل قصائد هذا الديوان تنضح بـ "الأسفل" الذي يحضر بقوة في مقابل الأعلى الذي لا يحضر إلا لماما، ليس باعتباره مقابلا موضوعيا للأسفل، فالأعلى عند العمراوي لا يحيل على الدلالات الاعتيادية المتمثلة في العلو والسمو والروحانية والقداسة، بل يدل على الماضوية والروحانية المفقودة (ص 67) :
يعرف البدوي أسفار الطريق بجسد كلبه الأجرب
يضع يده الخشنة على جرح الحضارة الملساء
يتبوأ زمنا كان ...
كان فيه الأعلى مسيطرا على الأسفل
والطريق واحد، والجبة واحدة.
فالأعلى المقدس بروحانياته صار مجرد ذكرى في عالم مادي، عالم لا يعير اهتماما لما سلف، ولا يرى فيه إلا نكوصا وتخلفا، لكن الشاعر يأبى إلا أن يعاكس التيار محاولا السير إلى الخلف، عله يتصل بهذا الأعلى المفقود (ص 116) :
أسير إلى الخلف
فأغفو
وأراني ممدد العين إلى الأعلى
تحت مشارف المومياء
المومياء ذاتها.
فالمحاولة كما هو واضح لا تكتمل في الواقع بل في الحلم والرؤيا، حيث يجد الشاعر نفسه ينظر إلى الأعلى، فلا يلمح إلا مشارف المومياء المحنطة فقط. فالأعلى إذن ليس سوى جسد فارقته الحياة، إنه مقدس لم يعد كذلك، فقد سلطته وسطوته فصار مجرد ذكرى وحلم لا موطئ قدم له في عالم الواقع.
أما الطرف الثاني من هذا التقاطب الفضائي والمتمثل في الأسفل فنجده يهيمن على أغلب نصوص الديوان، حيث نجده يحضر نصيا أزيد من خمس عشرة مرة، بدلالة واحدة تقريبا.
فالأعلى يحيل على الشهواني من خلال الإيحاءات الإروتيكية، والتي تعمق البعد الدنيوي والبشري في مقابل السماوي والمقدس كما هو واضح في هذه المقاطع الثلاثة :
لا تستسلمي أيتها العاصفة الجموح
لالتهاب فخذيك
لا تستديري
حركي آهاتك للأسفل قليلا
بلا احتشام (ص 12)
رجل شديد بياض الشعر، شديد سواد الثياب، يضع يده على نهد امرأة مكوكبة العينين شقراء، يضع يدا أخرى للأسفل، ينزل قليلا، تمازج، صياح، آهات ... (ص 72)
الصهد والصد والحب وأنا وصبرينا، يا عيون صبرينا، ويا قامة صبرينا، ويا أطراف صبرينا السفلية المتأملة كائنات تمزج الرغبة بلواط الدار البيضاء، والجزائر ووهران لتبقى منتصبة القد. (ص 144)
فالجزء السفلي من الجسد وتحريكه نحو الأسفل علامة على بشرية الإنسان، وعلى أن شهوانيته ليست قيمة سلبية في حد ذاتها، فالجنس كمحرم ومسكوت عنه يعكس دنيوية وواقعية الأسفل، إنه ضد طهرانية الأعلى المزعومة، وتمسك بمادية الإنسان الأرضي بحقه الجسدي، وما الجسد والعري والأسفل إلا تجل لذلك الحق الذي يكسر الطابوهات، ولا يعترف بالخطوط الحمر (ص 42) :
طعم الملوحة ينسل من فخذيها
لا آخر لليلها لا انتهاء لصداها
وازدواجية الخلق والخلقة تصفف
أوراق الذكر والأنثى في عينيها
بعبادة بحق الاختلاف
بحق الاتفاق
بحق الفرد في عريه الأسفل
المنفلت من الخط الأحمر
خاتمة :
وقبل أن نتخطى أخر سطور هذه الدراسة نقول، أن التجربة الفضائية كما عايناها في ديوان "باب الفتوح" للشاعر المغربي أحمد العمراوي تتميز بالفرادة والتنوع، وتتسم بعمق رؤيوي بارز قوامه التشكيل النص والاعتناء بمعمار الصفحة الشعرية، ونوستالجيا المكان وتمديد حميميته، وكذلك التشبيك الدلالي المعتمد أساسا على الاستعارة الفضائية، زد على ذلك تلك القدرة المتميزة على تفضيء الذات والآخر، وترجمة الأشياء وفق لغة فضائية ذات دلالات خاصة.
إن أي تجربة فضائية شعرية لا تعكس إذن تلك القدرة على توظيف الدلالات المكانية أو إسقاطها على الأشياء، بل هي قبل ذلك وبعد كما أكدنا وشددنا في سالف الصفحات بناء تشييدي مشترك، يصوغه الشاعر والقارئ المتفاعل مع النص، هنا تصبح قراءة هذه التجربة بناء جديدا، لا ادعاء فيه للقدرة على الإمساك بالمعاني التي في صدر الشاعر.
ذلك لأن معايشة الفضاء كما يحياها الشاعر لا تتم في نظري على مستوى الواقع إلا لماما، إنها معايشة لفظية وتلفظية مشتركة بين الشاعر والقارئ، وهي كذلك قدرة على جعل حميمية الفضاء شيئا مشتركا متحررا من سطوة ذات المبدع، قادرا على التواصل مع الآخر، فالعمل الإبداعي لا يكون كذلك إلا إذا صار شيئا حميميا بالنسبة للذي يبدعه والذي يتلقاه على السواء (21).