في الأدب العربي المعاصر

(رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ و قصيدة " طباق" لمحمود درويش)

بنعيسى بوحمالة
(المغرب)

-1-

بنعيسى بوحمالةمن المحقّق أن الرواية العربية، كنوع تعبيري له مواصفاته الشكلية و الجمالية و المضمونية المخصوصة، لهي من الجدّة، بحيث إن أول نص روائي عربي يعود إلى عام 1914، و يتعلق الأمر برواية "زينب" للكاتب المصري محمد حسين هيكل؛ أمّا ما سبقها، أو وازاها لا فرق، من نصوص سردية كأعمال كلّ من إبراهيم المويلحي و أحمد فارس الشّدياق، على سبيل التمثيل لا الحصر، فهي أوثق صلة بالنموذج السردي الذي ساد في التراث الأدبي العربي بدءا من فترة ما قبل الإسلام، مرورا بالنص الباذخ "ألف ليلة و ليلة" و "مقامات" بديع الزمان الهمذاني و محمد القاسم الحريري خلال العصر العباسي، و انتهاء إلى مختلف النصوص السردية التقليدية التي ظلت منتعشة إلى حدود مطلع القرن العشرين.

و إذن، و انطلاقا من رواية "زينب"، التي تشكّل مفتتح التعبير الروائي العربي بوصفه ثمرة لمجمل المتغيّرات التاريخية و المجتمعية و الثقافية التي عرفها الوضع العربي جرّاء حلول الاستعمار و بداية الانفتاح على الغرب، كنموّ الحواضر العربية الكبرى و تخلّق بنيات مادية جديدة و شيوع قيم التقدمّ و الحداثة و ولادة طبقة برجوازية عربية ناشئة كانت في حاجة، شأنها شأن مثيلتها الغربية، إلى أداة فنية لتمرير رؤيتها للحياة و تمثّلها للعالم، لم تكن الصيغ السردية التقليدية بقادرة على النهوض بها، ألم يقل المنظّر الهنغاري جورج لوكاش بأن الرواية هي بمثابة ملحمة برجوازية ؟ ستأخذ، إذن، في البروز أجيال من الروائيين العرب ممّن سيكبّون، كلّ و صوته و حساسيّته، على تصوير حياة عربية جديدة كل الجدّة و التقاط، بالتالي، النّبض الحيّ لجماع من التفاعلات السياسية و المجتمعية و الأخلاقية ستكرّس، لا محالة، و رغما من عدد لا يستهان به من ترسّبات و الماضي و تجلّياته، انخراط العالم العربي في مناخ تاريخي عارم يكاد يرين على سائر الدول الحديثة و يقوم على منظومة من الماهيات المستحدثة التي ستصير لها صبغة كونية حاسمة، كالدولة و المجتمع و الطبقة و النّخبة و الفرد.. الحزب و النّقابة و المجتمع المدني و الجامعة.. الحرية و الديمقراطية و الإعلام و الشّفافية.. و في هذا المضمار جدير بنا أن ننوّه، من باب الإشارة، إلى بعض الأسماء الروائية الشهيرة عربيا، و قسم منها أصبح له شيوع عالمي، كالمصريين يحيى حقّي و نجيب محفوظ و يوسف إدريس و إدوار الخراط و خيري شلبي و جمال الغيطاني و علاء الأسواني و نوال السعداوي و سلوى بكر.. و العراقيين غائب طعمة فرمان و فؤاد التّكرلي و عبد الرحمن مجيد الربيعي و سميرة المانع و عالية ممدوح.. و السّوريين حنّا مينه و هاني الراهب و حيدر حيدر و نبيل سليمان و غادة السّمان و سلوى النّعيمي.. و اللبنانيين سهيل إدريس و إلياس خوري و رشيد الضعيف و نجوى بركات و هاديا سعيد.. و الفلسطينيين جبرا إبراهيم جبرا و يحيى يخلف و سحر خليفة.. و الأردنيين غالب هلسا و إلياس فركوح.. و السعوديين عبد الرحمن منيف و هاني النّقشبندي و رجاء عالم.. و السوداني الطّيب صالح.. و الليبيين أحمد إبراهيم الفقيه و إبراهيم الكوني.. و التونسيين محمود المسعدي و صلاح الدين بوجاه.. و الجزائريين الطاهر وطّار و عبد الحميد بن هدّوقة و واسيني الأعرج و أحلام مستغانمي.. و المغربيين عبد الكريم غلاب و مبارك ربيع و محمد شكري و ليلى أبو زيد.. و الموريتاني موسى ولد ابنو..

و يعدّ نجيب محفوظ (*)، بتكوينه الفلسفي العميق و ثقافته الواسعة و درايته بالمكان و استيعابه لروحه و كذا احتكاكه بحياة التّحت المصري؛ زد على ذلك قوة مخيّلته، من أهم الروائيين العرب المعاصرين، بحيث سيقتدر على تصوير كبريات و مستدقّات مظاهر التحول الجارف الذي عرفه المجتمع المصري بالأساس، ممّا ينطبق كذلك على أقطار عربية أخرى، و تشخيص المستجدّات التاريخية و السياسية و القيميّة و تأثيرها في تفكير و مسلكيّات الشرائح المجتمعية و خاصة منها شريحة البرجوازية الصغيرة المتنوّرة، الشريحة الأكثر ارتباكا و عرضة للقلق بحكم تموقعها بين شريحة الفقراء التي تمثّل الأغلبية الساحقة في المجتمع و شريحة البرجوازية الكبرى التي و لو أنها تمثّل أقلّية سوى أنها هي من تستحوذ على أجهزة المال و السلطة و الإعلام.

هكذا، و من خلال استفادته من قراءاته في المتن الروائي الغربي و استئناسه بطرائق معالجة روائيين متميّزين لوضعيات حياتية شائكة تجسّد ملتقى حتميّا لإكراهات التاريخ و السياسة و نوازع طبقات اجتماعية بعينها و مآلات أفراد إشكاليّين، و تحديدا من عوالم الإنجليزيين شارل ديكنز و جوزيف كونراد، و الفرنسي هونوري دي بلزاك، و الروسي فيدور دوستويفسكي و الأمريكي ويليام فولكنر..؛ سيوجّه نجيب محفوظ طاقات مخيّلته السردية المذهلة نحو رسم لوحات للمجتمع المصري في أنقى تحقّقات هويته، للحارة المصرية التي سيتسامى بها إلى مرقى الأسطورة، و للنّخبة السياسية و المجتمعية و الثقافية المصرية في تموقفاتها المركّبة من أفكار الحرية و الديمقراطية و الحداثة، مسلّطا الضوء على الصراع بين التقاليد الراسخة و هبّات التحديث المتدافعة.

و لعلّ روايته "ثرثرة فوق النيل" (الصادرة عام 1966 ، في 160 صفحة من القطع المتوسط، و التي تحوّلت إلى شريط سينمائي سيلقى نجاحا لافتا) تعتبر نموذجا لمنجزه الروائي في هذا الإطار. و يتناول محكي الرواية مجموعة من الشخوص ينحدرون من أصول ريفية أو مدينيّة متواضعة لكنهم سيوفّقون، بفعل طموحهم الدّراسي و تطلّعهم نحو الأحسن، إلى تسلّق السّلم الاجتماعي و الحظوة بوضعية برجوازية صغيرة سوف تنتشلهم، ما في ذلك شك، من درك العوز و الجهل، إلاّ أن كلفة هذا التّسلق لن تكون فقط مجرد انتقالهم إلى التّأفف من الحياة المزرية التي تعتقل في ضيقها و ركودها الأغلبية الواسعة من مجتمعهم و إنّما كذلك الزّج بهم في حالة قلق و حيرة و ضياع و استيهامهم في مثل أعلى حياتي، وجودي و ثقافي ضمنيا، متعذّر لا تسعف على إدراكه لا المشترطات التاريخية و السياسية و المجتمعية لبلدهم و لا الضوابط و الحدود التي تستحكم في نسيج الحياة و تمفصلاتها الملتبسة و المفارقيّة.
يتصل الأمر، إن شئنا، بعصبة أصدقاء حميمين هم على التوالي: أنيس زكي أفندي؛ بطل الرواية؛ الكهل الموظف في وزارة الصحّة؛ و المتبرّم من بؤس الإدارة و تبلّد المتنفّذين في دواليبها؛ زوج سابق و أب سابق؛ مثقف نابه و يؤمن بمواطنته الكونية.. أحمد نصر؛ مدير حسابات؛ متزوج و لا يخون زوجته.. مصطفى راشد؛ محامي ناجح؛ يتطلّع إلى المطلق.. علي السيّد؛ ناقد فنّي؛ يحلم بمدينة طوباوية، متزوج من امرأتين.. خالد عزوز؛ كاتب قصة؛ إباحي؛ يملك عمارة و فيلا.. رجب القاضي؛ ممثّل؛ مستهتر و زير نساء.. سنيّة كامل؛ متزوجة زواجا فاشلا؛ يخونها زوجها.. ليلى زيدان؛ عانس في الخامسة و الثلاثين من عمرها؛ خرّيجة الجامعة الأمريكية في القاهرة و تعمل مترجمة بوزارة الخارجية.. سمارة بهجت؛ صحفية؛ تحمل إجازة في اللغة الإنجليزية.. سناء الرشيدي، شابّة تتابع دراستها في كلية الآداب، تخصّص تاريخ..

و بقدر ما يفرّق شملهم النهار في متاهات اليومي بمشاقّه و اختلاطاته، بزيفه و قنوطه، يكادون يلتقون على رأس كل مساء تقريبا في عوّامة راسية في نهر النيل ليمضوا الليل في تدخين الشّيشة و احتساء الخمرة و ممارسة الجنس، يخدمهم عجوز من عامّة الشعب اسمه عمّ عبده، إذ هو من يحرس العوّامة نهارا و يرعى مجلسهم المداوم ليلا.
فالعوّامة كفضاء منعزل و حميمي هي عالمهم الافتراضي البديل للواقع بينما الحلم هو معتنقهم ضدّا على ثخونة نهار الآخرين أو، لنقل، بالحريّ، إن الليل، بما هو مجلى يقظتهم و حيويتهم، هو نهارهم الرمزي الخالص و حيث تنشط بصيرتهم لا بصرهم. إنها، أي العوّامة، بمثابة مهرب أو منفى بالداخل من وطن لا قدرة لهم على ترجمة تعلّقهم به من خلال مواطنة بئيسة، خنوع، و متهاونة مع أعطابه و نقائصه، ألم يرد في سياق أحد الحوارات التي تحفل بها الرواية ما يؤكّد، بكيفية أو بأخرى، هذا الاختيار:

"- عوّامتنا هي الملاذ الأخير للحكمة البشرية
- هل الاستغراق في الأحلام هروب ؟
- أحلام اليوم هي حقائق الغد
- هل التطلّع إلى المطلق هروب ؟
- أف.. و هل علينا من عمل سواه ؟ " (ص 97)

و هكذا، ففي تضاعيف جلساتهم الممتعة تلك تمتلئ جلساتهم الليلية بالمؤانسات و الحوارات و الأفكار و التخيّلات و الهلوسات و يؤثّتها فائض من البوح و النقد و التّبرم، مثلما تلتئم في سيولتها الحالمة دسائس و تآمرات و تواطؤات صغيرة، لكنها دالّة بوصفها رأسمالهم الرمزي الذي يستثمرونه في مغالبة الواقع و الالتفاف على قبضته الخانقة، و " تألّقت الجمرات في المجمرة بفعل النّسائم المتدفّقة من الشرفة. و بلغ نشاط أنيس أقصى مداه، و اكتسى وجهه الطويل العريض بغبطة مستقرّة، و قال: إن الذي جعل من تاريخ الإنسانية مقبرة فاخرة تزدان بها أرفف المكتبات لا يضنّ عليها بلحظات مضمّخة بالمسرّة " (ص 19 )

فهم، أي الشخوص، ليسوا أكثر من ضحايا لفترة تاريخية انقلابية كانت فيها مصر تحت سيطرة نظام استبدادي متشدّد، بقيادة الزعيم العالمثالثي الذائع الصيت جمال عبد الناصر، يرفع شعار تأميم الثروات الوطنية و العدالة الاجتماعية و مناوئة الاستعمار و الإمبريالية، و إذا ما كانوا على بيّنة بالماضي القريب لبلدهم، أي مصر الملكيّة و اللّيبرالية نسبيا، فإنهم لم يكونوا يملكون، تماما كما الروائي و الشاعر الروسي بوريس بّاسترناك غداة الثورة البلشفيّة، ضمانات موثوقة عن مستقبل تاريخي يتلامح لهم غامضا و مخيفا مع سلطة شعاراتها الثورية في واد بينما أفعالها على الأرض في واد آخر. و لأنهم انوجدوا مرغمين في أتون هذا المأزق الحياتي و الرؤيوي، و لكونهم طوباويين فوق اللّزوم تنغّص على روحهم مفارقيّة المثل الأعلى و الأمر الواقع، فسيكون مخرجهم الرمزي من مأزقهم هذا هو مشايعتهم لحساسيّة عدميّة متطرّفة و تقديم استقالتهم من معضلات الحياة و العالم متماهين، هكذا، مع المبدأ الفلسفي الرّواقي المعروف "احتمل و ازهد لتنعم بالسلام الداخلي". و كإشارة في الرواية إلى هذا الموقف ستقول سناء الرشيدي على سبيل الفضول الذي لا يخلو من مغزى:

" – ألا تخافون البوليس ؟

فتساءل مصطفى راشد باسما:

- بوليس الآداب ؟
فقالت بعد أن سكت الضحك:
- و المباحث أيضا ؟

فقال علي السيّد:

- لأننا نخاف البوليس و الجيش و الإنجليز و الأمريكان و الظاهر و الباطن، فقد انتهى بنا الأمر إلى ألاّ نخاف شيئا " ( ص 29)

إلى هذا الحدّ، إذن، بلغ تعاطيهم مع الواقع ممّا لا يشتطّ بعيدا عن التمثّل السريالي للواقع الذي من فرط شراسته قد ينمسخ، في اللاّوعي، إلى محض فكرة غير مزعجة و كفى بل و أدعى إلى الشّفقة إن لم تكن التسليّة.

و عليه، و عبر توالي السرد الذي ينهض في الرواية على تقنية تداخل الأصوات و المحكيات و أسلوب الفلاش باك، مع استدماج ما لا يحصى من العناصر و التلوينات ذات الطعم المفارقيّ و السّخروي ينبني خطاب مثقّفي لا يتحرّج في تأثيم الآخرين، بل و الوجود بأسره، و استذمام مشاكل التّسلط و الظلم و الحاجة و الجهل، سعيا إلى تبرئة ذمّة البرجوازية الصغيرة المتنوّرة من تبعاتها المادية و الروحية المتراكبة. و لعل ما يعمل على تبئير هذا الصنف من الخطاب أنه حتى عندما التمع في ذهن سمارة بهجت و روحها أن الحياة لربّما تستأهل ما هو أفضل من ردّ فعل جماعة الأصدقاء العدمي المجنّح، و ذلك إثر عودتها مفعمة توهّجا و انشراحا من رحلة سياحية قامت بها، مجيبة مصطفى راشد لمّا سألها: كيف عثرت على المعنى رغم أنك تنتمين إلى نفس طبقتنا السائرة إلى الهاوية ؟ فقالت له: إنها الحياة لا المعنى.. مع هذا فإن الكاتب سوف لن يحجم عن تخيّل حادث جولتهم الليلية بالسيارة و دهسهم، مصادفة، لرجل مجهول أردوه قتيلا حتى يحسم، و بما لا يدع مجالا للشك، في سلبية مسؤوليتهم بإزاء الحياة و حيال الآخرين، ذلك أن هذا الحادث، ذا الحمولة الفائقة، بما فجّره بينهم من ملاسنات و مصادمات و تباين آرائهم حول مصيره: هل ينقذونه أم لا ؟ هل يعترفون بخطيئتهم أم لا ؟ ليكثّف، تكثيفا بليغا، حجم استهانتهم بالإنسان ككائن و كقيمة عليا فأحرى كمواطن تجمعهم به أواصر الجغرافيا و التاريخ و المصير.

-2-

و على العكس من فنّ الرواية يعتبر الشعر أحد الأجناس القديمة و المتأصّلة في الثقافة العربية، إذ بدأ تكرّس هذا اللون الفني قبل الإسلام بحوالي قرنين لينتعش و يزدهر، من حيث أشكاله و تقنياته و موضوعاته و رؤاه، خلال العصر العباسي، بما هو العصر الذهبي للثقافة العربية الكلاسيكية التي ستنفتح، و تغتني كنتيجة، بفعل تلاقحها مع الفكر الهللّيني، و هو ما ستشهده، على نحو لافت، إسبانيا الإسلامية التي ستعرف في ظلّ مناخ التسامح و التّمدن الذي ران عليها طوال ما يناهز الثمانية قرون ظهور أسماء علمية و فلسفية و صوفية و شعرية و فنّية سيكون لأفكارها و إبداعاتها تأثير كبير في النهضة الأروبية.

هذا و إذا كان النموذج الشعري الكلاسيكي قد ساد حتى نهاية أربعينيات القرن العشرين فإن ما اكتنف العالم العربي من تحولات نتيجة الاستعمار و هبوب رياح التحديث و كذا انفراز فئات مجتمعية متحمّسة للغرب، إن سياسيا أو ثقافيا أو حضاريا، سيفضي إلى تبلور طريقة مستجدّة في الكتابة الشعرية متحرّرة من قالبيّة النموذج الشعري التقليدي و أثقاله، على صعيد اللغة و التركيب و الموضوع و التّخييل و الرؤية، و منشدّة أكثر إلى قيم الكتابة و الأداء التي كانت قد توطّدت في الآداب الغربية بدءا من منتصف القرن التاسع عشر. فعلا سيكون العراق أول بلد عربي يحضن ولادة هذه الطريقة الشعرية الثورية لكن إن هي إلاّ سنوات معدودة حتى اكتسح المثال العراقي معظم البلدان العربية، و من ثمّ أخذت في التبلور أسماء أخرى شابّة بديلة في الشعرية العربية سوف تنتظمها أجيال و حساسيّات متعاقبة جعلت من الشكل الشعري الجديد وعاء لحياة عربية غير مألوفة هي الأخرى، لا مادّيا و لا معنوّيا، تتشابه و حيوات شعوب لا يستهان بها، هنا و هناك، في أنحاء العالم. و من بين هذه الأسماء نستطيع التّنويه إلى العراقيين بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و بلند الحيدري و سعدي يوسف و حسب الشيخ جعفر و فاضل العزاوي و نازك الملائكة و آمال الزهاوي و ميّ مظفّر.. و السوريين نزار قباني و أدونيس و محمد الماغوط و ممدوح عدوان و فايز خضّور و سنيّة صالح و عائشة أرناؤوط.. و اللبنانيين يوسف الخال و أنسي الحاج و فؤاد رفقة و شوقي أبي شقرا و وديع سعادة و عباس بيضون.. و الفلسطينيين إبراهيم طوقان و معين بسيسو و محمود درويش و سميح القاسم و عز الدين المناصرة و فوّاز عيد و أحمد دحبور و محمد القيسي و فدوى طوقان و سلمى الخضرا الجيوسي..و البحريني قاسم حداد.. و اليمني عبد العزيز المقالح.. و المصريين صلاح عبد الصبور و أحمد عبد المعطي حجازي و أمل دنقل و محمد عفيفي مطر و فاطمة قنديل.. و السودانيين محمد الفيتوري و محيي الدين فارس و صلاح أحمد إبراهيم و محمد عبد الحي.. و الليبي علي صدقي عبد القادر.. و التونسيين طاهر الهمامي و منصف الهمامي و نور الدين صمّود و منصف الوهايبي.. و الجزائريين عبد الحميد بن هدّوقة و بلقاسم خمّار و عمر أزراج و بوزيد حرز الله و زينب الأعوج و ربيعة الجلطي.. و المغربيين أحمد المجاطي و محمد الخمار الكنوني و محمد الميموني و محمد بنيس و مليكة العاصمي.. و الموريتاني أحمد ولد عبد القادر..

و باعتبارهم فلسطينيين فستعمد مجموعة من الشعراء، منهم محمود درويش و سميح القاسم و عز الدين المناصرة..؛ إلى إفراد جانب وفير من منجزها الشعري للقضية الفلسطينية، بما هي قضية احتلال أرض و حصار شعب و مصادرة حقوقه الإنسانية الجوهرية في الحرية و الكرامة مثلما هي، قبل هذا و ذاك، تمثيل للوجه السلبي، بله المأساوي، لاحتكاك العالم العربي بالغرب، و بريطانيا بخاصة التي شكّلت قوة استعمارية كبرى خلال القرن التاسع عشر. من هذا الضوء التزام الشعراء الفلسطينيين المعاصرين، لا أخلاقيا و لا شعريا، بمحنة مواطنيهم التاريخية العويصة و معاناتهم اليومية، أفرادا و جماعات، في العمل و التّنقل و الأمن و التعبير، و دفاعهم عن الهوية الوطنية الفلسطينية ضدّا على استراتيجيات الاقتلاع من الجذور و التهجير، ممّا يجعلهم قريبين من شعراء آخرين انخرطوا، شعريا، في دينامية مقاومة الاستعمار أو الاحتلال كالهندي ربندراناث طاغور و الجزائري مفدي زكرياء و الروسية آنّا أخماتوفا و السرياليين الفرنسيين لويس أراغون و بول إيلوار و روبير ديسنو..

و بوصفه أبرز شاعر فلسطيني معاصر يعدّ محمود درويش (**) الصوت الشعري الأعمق و الأنصع في استرفاد مأساة شعبه و التوفّق إلى بناء متخيّل شعري حالم لوطن لم يعد ملكا لذويه؛ أفلم يكن هو القائل "ما أصغر الدولة، ما أكبر الفكرة" لمّا امتنع عن تولّي منصب وزير الثقافة الذي اقترحته عليه السلطة الوطنية الفلسطينية غداة اتفاقيات أوسلو، عام 1994، متنائيا بحلمه و بقصيدته كليهما عن سابقة الروائي أندري مالرو في فرنسا الديغولية و الشاعر إرنستو كاردينال في نيكاراغوا الساندينيّة، متخيّل يقوم على حافزيّات الأرض و التاريخ.. الذاكرة و الطفولة.. اللغة و الثقافة.. و يعضّد جوهريا، هاجس الهوية كنوع من الاحتماء من عوارض النفي و الاغتراب و الامّحاء في سديم مغتربات ليس بمقدورها تعويض دفء مسقط الرأس و حميمية العيش تحت السماء الأولى و احتساء قهوة لذيذة صنعتها يدا أمّ حنون.. على شاكلة ما يقوله الشاعر في إحدى قصائده الشهيرة، "لم يكن محمود درويش يتكلم دفاعا عن فلسطين و لا يأخذ مكان فلسطين، كان بشكل طبيعي صوت فلسطين: صوتها و ليس الناطق باسمها"، على نحو ما يقوله الشاعر الفرنسي برنار نويل، أو لنقل، مستعيرين رأي الناقد الأردني فخري صالح، بأننا "يمكن أن نلخص تجربة محمود درويش بأنها تطمح إلى كتابة الحكاية الشخصية المعجونة بالحكاية الجماعية الفلسطينية و إضفاء معنى على هذه الحكاية من خلال تصعيد التجربة الفلسطينية و أسطرتها و الكشف عن البعد الملحمي فيها"، و في هذا الملمح تشفّ كفاءة مخيّلته الشعرية و قوّتها ، و ".. هذه القوة تأتي ممّا هو أعمق في الكائن البشري، من واقعه نفسه؛ من هويته (...) فالعيش هو أن نبني، نعم، و العكس هو الموت، و شعر درويش إتقان، جمال و قوة (...) أي أنه الحياة ضد الموت كواقع شعري شامل، لهذا فإن محمود درويش سيكون دائما حيّا بيننا" مثلما تعبّر الشاعرة الكاطالانية كلارا خانيس في كلمتها التأبينيّة التي كتبتها إثر وفاته.

إن محمود درويش لينضاف، بهذا المعنى، إلى سلالة الشعراء الكبار الذين جعلوا من قصائدهم محفلا للتعبير عن تراجيديا اغتراب الكائن الإنساني و تجشّمه عناء الالتفاف الروحي على سوء المآل في جغرافيات نائية و فضاءات غير مستأنسة، و كيف لا و هو من جرّب مثلهم، و معه جزء من شعبه، أهوال هذه التراجيديا القاسية، كالشاعر المصري النيوكلاسيكي محمود سامي البارودي و العراقي عبد الوهاب البياتي و التركي ناظم حكمت و الألماني بول سيلان و الإسباني رافائيل ألبرتي..؛ الذين ليس بوسعنا قراءة شعرهم خارج هذا الأفق الدّال في سيرهم و كتاباتهم سواء بسواء.
و حسبنا أن نلقي نظرة عجلى، لكن متبصّرة، على دواوين محمود درويش الشعرية حتى نلتقط هذه الخصيصة في شعريته. و إذا كان المنفى يتمظهر أرضيا في جانب عريض من دواوينه الأولى فهو سيتخذ، في الدواوين المتأخرة، طابعا أونطولوجيا غائرا تغدو معه فلسطين، مستمرأة في سحنة جغرافيات و فضاءات أخرى مهادا كونيا لأنا شعرية، تنوب مناب الشاعر في التجربة الشعرية، تأخذ بزمام غربة وجودية ضارية تنصهر جرّاءها المأساة الفلسطينية في مأساة المجموعة الإنسانية الشاملة و تتأكّد، نتيجتها، نسبية أو، بالأولى، هشاشة كل المعاني: الأوطان، الهويات، المغتربات.. أمام المطلقيّة الفادحة لمؤرّقات أزلية عابرة للخصوصيات كاليأس والمصير و الموت و المجهول..

و في قصيدته " طباق" (المتضمّنة في ديوانه "كزهر اللّوز أو أبعد" الصادر عن دار رياض الريّس للكتب و النشر، بيروت 2005) التي يهديها إلى صديقه المفكر و الأكاديمي الفلسطيني – الأمريكي إدوارد سعيد (***)، و كان قد كتبها في رثائه، لتتعضّد هذه العلامات و يتسامى المرثي إلى مرتبة رمز، على درجة كبيرة من الأيقونية، يشعّ بالهالة الكونية للمشترك الإنساني، أي لأسئلة الأرض و الذات و الهوية و المنفى في تعالقها العضوي مع أسئلة الآخر و الإنسان و العالم، خصوصا و أن إدوارد سعيد، الرمز في القصيدة، سيفرغ كامل جهده النظري و التحليلي، و مجمل إصداراته و محاضراته الأكاديمية، في تدبّرقضايا الأرض و الذات و الهوية و المنفى.. الآخر و الإنسان و العالم، و يشيّد سمعته الدولية على هذا المشروع الفكري الذي جذب إلى مداره، ممّا أمسى يعرف جامعيا و إعلاميا بالدراسات الثقافية و ما بعد الكولونيالية، باحثين آخرين مرموقين كالمارتينيكي إيمي سيزير و الهنديين هومي. ك. بهابها و غياتري شاكرافورتي سبّيفاك..؛ معتمدا منظورا ثقافيا منفتحا و مستندا، في المقام الأول، على خبرته الشخصية بهذه القضايا لكونه فلسطينيا في الأصل و أمريكيا من بعد تتصادى، و الحالة هذه، في كيانه التعدّدي نداءات ذاكرته الشرقية الروحية الرهيفة و موجبات مواطنته الغربية و اقتضاءاتها البراغماتية المقنّنة. يقول الشاعر:

- نيويورك / نوفمبر / الشارع الخامس
الشمس صحن من المعدن المتطاير /

قلت لنفسي الغريبة في الظلّ:

هل هذه بابل أم سدوم ؟
هناك على باب هاوية كهربائية
يعلو السماء، التقيت بإدوارد
قبل ثلاثين عاما،
و كان الزمان أقلّ جموحا من الآن
قال كلانا
إذا كان ماضيك تجربة
فاجعل الغد معنى و رؤيا !
لنذهب،
لنذهب إلى غدنا واثقين
بصدق الخيال و معجزة العشب.

بهذه الصورة المكثّفة يفتتح الشاعر قصيدته بحيث تستقيم نيويورك، بؤرة الجبروت العمراني و المالي الأمريكي، حاضرة ميثولوجية منبجسة، لتوّها، من رحم المرويات الميثولوجية أو من ثنايا أسفار العهد القديم، شقيقة لبابل و سدوم اللتين بلغ فيها الإنسان مبلغا لا يقاس من التّجبر و الاستكبار و المعصيّة. ففي مناخ قيّامي بهذا الزخم الدلالي و الرمزي كان لقاء المغتربين ذات تاريخ، لقاء الشاعر و المفكر المنذورين إلى أصلهما الفلسطيني الثابت لكن الموالين، بأثر من انفتاح المخيّلة في حالة الشاعر و العقل في حالة المفكر، لمستقبل أرحب من تضايق الحاضر لا يني يتمخّض عن معنى و رؤيا:

- على الريح يمشي.. و في الريح
يعرف من هو. لا سقف للريح،
لا بيت للريح. و الريح بوصلة
لشمال الغريب
يقول: أنا من هناك، أنا من هنا
و لست هناك و لست هنا
لي اسمان يلتقيان و يفترقان
و لي لغتان، نسيت بأيّهما
كنت أحلم.

فمن داخل إدراكه لهويته الفلسطينية يعي المرثي مأزق، الذي هو اغتناء و رفاه أيضا، توزّعه بين مكانين، بين هناك و هنا، نفس انشطار اسمه الشخصي بين شقّين متنافيين أحدهما لاتيني (إدوارد) و الثاني عربي (سعيد)، و كذا لسانه بين جاذبية اللغة العربية و إغواء اللغة الإنجليزية إلى حدّ، و لعلّه تلوين ممركز و دالّ من لدن الشاعر لهذه الثنائية اللغوية، أنه لم يعد يتذكّر بأيّ من اللغتين يحلم، بما أن الحلم طاقة للارتفاع عن محدودية الواقع و انفلات من انحصاره، و بهذا:

- لا الشرق شرق تماما
و الغرب غرب تماما
لأن الهوية مفتوحة للتعدّد
لا قلعة أو خنادق.

و كيف لا تكون هوية المرثي تعدّدية بينما هو من دافع عن كونها غير ثابتة أو نهائية لأنها تفضل رهن التأسيس في نطاق ما يرضخ له صاحبها من سيرورات و مصائر. و بهذا فليس هناك من هوية محسومة و لعل خبرته، هو بالذات، بالموضوع لتقدّم دليلا قطعيا في هذا السياق، إذ هو فلسطيني المنشأ ولد في القدس، عربي مسيحي، بيد أنه سيقضي شطرا وافيا من شبابه في مدينة الإسكندرية بمصر ثم ينتقل إلى الولايات المتحدة قصد الدراسة فكان أن استقرّ هناك و اكتسب الجنسية الأمريكية:

- و الهوية ؟ قلت
فقال: دفاع عن الذات...
إن الهوية بنت الولادة، لكنها
في النهاية إبداع صاحبها، لا
وراثة ماض. أنا المتعدّد. في
داخلي خارجي المتعدّد... لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم
أكن من هنالك لدرّبت قلبي
على أن يربّي هناك غزال الكتابة
فاحمل بلادك أنّى ذهبت...
و كن نرجسيّا إذا لزم الأمر
منفى هو العالم الخارجي
و منفى هو العالم الداخلي
فمن أنت بينهما ؟

على أن تعدّدية الهوية و انفتاحها الإنساني اللاّمشروط لا يصحّ أن يعفيان، بالمرّة، على المشاعر الإنسانية الصميمة و النبيلة، و التي بدونها لا يمكن للتاريخ أن يخطو نحو الأفضل و الأجمل، و بتعبير رديف فإن الانخراط الأسلم و الخلاّق في الأفق الكوني يجب أن يكون مقرونا بانتفاء وضعيات الإقصاء و الظلم و الإهانة في مختلف أرجاء العالم، و ما دامت هذه النقاط السوداء لمّا تزل تشوّه صفحة التاريخ فإن الوازع الأخلاقي، و لا مبدأ الانحياز إلى الضحية، لممّا يلزم أن يكون جزءا لا يتجزأ من أيّما خيال أو فكر كوني:

- عندما زرته في سدوم الجديدة،
في عام ألفين و اثنين، كان
يقاوم حرب سدوم على أهل بابل
و السرطان معا،
كان كالبطل الملحمي الأخير
يدافع عن حقّ طروادة
في اقتسام الرواية
نسر يودّع قمّته عاليا
عاليا،
فالإقامة فوق الأولمب
و فوق القمم
قد تثير السأم
وداعا
وداعا لشعر الألم !

إن فلسطين لهي، بالنسبة للمرثي كما هي لدى الشاعر، طروادة الزمن الحديث، و لهذا لا نستغرب أن يعتبر محمود درويش نفسه شاعرا طرواديا، ضمن الشريط الوثائقي "محمود درويش.. حيث الأرض مجاز" (1998) الذي أنجزته السينمائية المغربية / الفرنسية / الإسرائيلية سيمون بيتون. فما نعرفه، كما يقول، هو الرواية الإغريقية لتلك الحرب الضّروس؛ هو أمجاد المنتصرين: أغاممنون، مينيلاوس، عوليس، أخيل، أجاكس.. التي خلّدها هوميروس في "الإلياذة" و، بالتالي، فنحن لا نمتلك حقيقة بّريام، هكتور، بّاريس، إينياس.. لأن "طروادة لم ترو حكايتها" مثلما يؤكد، في حواره مع الشّابة الإسرائيلية أولغا برودسكي المتعاطفة مع الفلسطينيين، في الفيلم الوثائقي – الخيالي الكبير "موسيقانا" (2004) للمخرج الفرنسي / السويسري الطليعي جان – لوك غودار، الذي سيسند إليه، رفقة الكاتب الإسباني، المقيم في مدينة مراكش المغربية، خوان غويتيسولّو، دورا بارزا يؤدّيه داخل أنقاض المكتبة الوطنية لسراييفو.. طروادة الأخرى، أليس كذلك !؟

(*) ولد نجيب محفوظ في القاهرة عام 1911، و كان عمره ثمانية أعوام حين اندلعت ثورة 1919 المصرية بمطالبها التحرّرية و الدستورية و الاجتماعية فكان أن ارتسمت آثارها في ذهنه و روحه و اختمرت طويلا في مخيّلته قبل أن يستعيدها سرديا في رواية "ما بين القصرين"، الجزء الأول من ثلاثيته الروائية الشهيرة. التحق بجامعة القاهرة عام 1930 و حصل على إجازة في الفلسفة. انضم إلى القطاع الحكومي ليشغل منصب سكرتير برلماني في وزارة الشؤون الدينية، ثم منصب مدير مكتب وزير الإرشاد، فمديرا للرقابة على المؤلفات الفنية في وزارة الثقافة، و مستشارا للمؤسسة العامة للسينما و الإذاعة و التلفزيون قبل أن ينهي مساره الإداري كرئيس لمجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما و يتفرّغ، بعد تقاعده، لتحرير أعمدة مداومة لفائدة جريدة "الأهرام" الشهيرة، و إعداد سيناريوهات بطلب من مخرجين سينمائيين مصريين كبار. يعدّ أول كاتب عربي، و الوحيد لحدّ الآن، ينال جائزة نوبل للآداب (1988). توفيّ عام 2006 إثر مشاكل صحّية و حظي بجنازة وطنية كبيرة تقديرا لدوره الإبداعي عربيا و عالميا.

من أعماله: المجموعات القصصية: "همس الجنون" (1938)، "دنيا الله" (1962)، "بيت سيّئ السمعة" (1965)، "خمّارة القط الأسود" (1969)، "تحت المظلّة" (1969)، "الحب فوق هضبة الهرم" (1979)، "أحلام فترة النّقاهة" (2004).. و الروايات (التي تحوّل معظمها إلى أفلام سينمائية): "عبث الأقدار"، رواية تاريخية، (1939)، "كفاح طيبة"، رواية تاريخية، (1944)، "القاهرة الجديدة" (1945)، "خان الخليلي" (1946)، "زقاق المدقّ" (1947)، "السّراب" (1948)، "بداية و نهاية" (1949)، "بين القصرين" (1956)، "قصر الشّوق" (1957)، "السكّرية" (1957)، "اللصّ و الكلاب" (1961)، "ثرثرة فوق النيل" (1966)، "أولاد حارتنا" (1967)، "الحب تحت المطر" (1973)، "الكرنك" (1974)، "قلب الليل" (1975)، "رحلة ابن فطّومة" (1983)، "حديث الصباح و المساء" (1987)..

(**) ولد محمود درويش عام 1941 في قرية البروة بالجليل، و بعد احتلالها عام 1947 من طرف القوات الإسرائيلية سينزح مع عائلته إلى لبنان في انتظار العودة ثانية إليها، و كانت قد دمّرت، عام 1949. التحق بالحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) عام 1961 و عمل محرّرا بصحيفته. اعتقل أكثر من مرة بسبب مغادرته حيفا بدون تصريح، و بحلول عام 1970 سيلتحق بموسكو ليدرس الاقتصاد السياسي ليغادرها في اتجاه القاهرة عام 1971 و يلتحق بهيئة تحرير صحيفة (الأهرام). بعد سنوات من الإقامة في بيروت سيعيش بين 1982 و 1995 متنقّلا بين القاهرة و تونس و باريس. عام 1993 سيستقيل من منظمة التحرير الفلسطينية رفضا منه لاتفاقيات أوسلو الموقّعة بين إسرائيل و منظمة التحرير الفلسطينية، و في عام 1996 سيتوزّع مقامه بين رام الله و العاصمة الأردنية عمّان. توفّي يوم السادس من غشت 2008 بمدينة هيوستن الأمريكية إثر عملّية جراحية على القلب.
عمل في مؤسسات النشر و الدراسة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية و تحمّل، لسنوات، مسؤولية رئاسة رابطة الكتّاب و الصحفيين الفلسطينيين، كما رأس إدارة مجلة (شؤون فلسطينية) و مجلة (الكرمل) الفلسطينيتين.

من دواوينه الشعرية: "أوراق الزيتون" (1964)، "عاشق من فلسطين" (1966)، "آخر الليل" (1967)، "حبيبتي تنهض من نومها" (1970)، "مديح الظلّ العالي" (1983)، "هي أغنية، هي أغنية" (1986)، "ورد أقلّ" (1986)، "أحد عشر كوكبا" (1992)، "لماذا تركت الحصان وحيدا" (1995)، "سرير الغريبة" (1999)، "جدارية" (2000)، "حالة حصار" (2002)، "لا تعتذر عمّا فعلت" (2004)، "كزهر اللّوز أو أبعد" (2005)..

حقّقت دواوينه أعلى المبيعات في العالم العربي كما ترجم شعره إلى أكثر من ثلاثين لغة، و تثمينا لشاعريته سينال عدّة جوائز عربية و دولية منها: جائزة اللّوتس (1969)، جائزة البحر الأبيض المتوسط (1980)، لوحة أروبا للشعر (1981)، جائزة ابن سينا في الاتحاد السوفياتي (1982)، جائزة لينين للسلام في الاتحاد السوفياتي (1983)، جائزة العويس للإنجاز الثقافي في الإمارات العربية المتحدة (2002 – 2003)، جائزة الأمير كلاوس في هولندة (2004)، جائزة القاهرة للشعر العربي (2007).. و كان اسمه دائما واردا كأحد المرشحين الأقوياء و المؤهّلين لنيل جائزة نوبل للآداب. و بالنظر إلى مكانته الدولية ستقيم أكثر من أربعين دولة في مختلف القارّات، يوم 3 أكتوبر 2008، احتفالات شعرية و مسرحية و موسيقية و كوريغرافية.. تحية لروحه و تكريما لذكراه، و ذلك تلبيّة للنداء الذي وجّهه مهرجان برلين الأدبي العالمي من توقيع صديقيه الحميمين، الشاعر الألماني جواكيم سارتوريوس و الشاعر الجنوب – إفريقي بريتين برينتنباخ.

(***) ولد إدوارد سعيد عام 1935 بالقدس لعائلة فلسطينية مسيحية. قضى جزءا من طفولته في مصر و انتسب إلى كلية فكتوريا في الإسكندرية. رحل إلى الولايات المتحدة و التحق بجامعة بّرينستون التي سينال فيها شهادة الإجازة عام 1957 ثم الماجستير عام 1960، فجامعة هارفارد التي سيحصل فيها على شهادة الدكتوراه عام 1964. أمضى إدوارد سعيد معظم مشواره الأكاديمي أستاذا للأدب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك، و أستاذا زائرا في عدد من الجامعات الأمريكية المرموقة، مثل ييل و هارفارد و جون هوبّكينز. كان يتكلم، بطلاقة، اللغات العربية و الإنجليزية و الفرنسية، و له كذلك إلمام باللغات الإسبانية و الألمانية و الإيطالية و كذا اللاّتينية. كان من أتباع الكنيسة البروتستانية الإنجليزية و كانت له صداقات مع مثقفين و فنّانين من ديانات أخرى و من بينهم صديقه الموسيقار اليهودي دانييل بارينبويم الذي سيؤّسس و إيّاه أوركسترا الديوان الغربي الشرقي كخطوة رمزية لكسب رهان التسامح العرقي و الديني و الثقافي بين الفلسطينيين و الإسرائيليين و بين الشعوب على اختلافها. توفّي في أحد مستشفيات نيويورك عام 2003 إثر إصابته بمرض اللّوكيميا (سرطان الدم).
من مؤلفاته: "جوزيف كونراد و رواية السيرة الذاتية" (1966)، "بدايات: القصد و المنهج" (1975)، "الاستشراق" (1978)، "مسألة فلسطين" (1979)، "العالم، النص و الناقد" (1983)، "متتاليات موسيقية" (1991)، "الثقافة و الإمبريالية" (1993)، "خارج المكان، سيرة ذاتية" (1996)..

- قدّمت هذه المداخلة ضمن ندوة "الحياة و معضلات راهننا كمحكي في أدب اليوم" التي انعقدت في إطار فعاليات المؤتمر الثاني لكتّاب العالم في جزيرة كريتا باليونان بين 15 و 18 شتنبر 2009، و ذلك بدعم من وزارة الثقافة اليونانية و بلدية كاندانوس و الجمعية الثقافية الدولية للكتّاب و نادي اليونيسكو بمقاطعة جزر بّيرايوس.