فؤاد أفراس
(المغرب)

فؤاد أفراسيعتبر (عبد الكريم الطبال) من أكثر الشعراء المغاربة انشغالا بالتصوف واندماجا فيه، لدرجة تصبح معها ثقافته الصوفية مكونا طبيعيا من مكونات حسه وشخصيته وتفكيره و لغته وغيب معها كل قصدية وكل نية مسبقة وواعية في تشغيل الخطاب الصوفي في شعره وإبداعه وتجربته، فهي (تجربة شعرية يحيط بها الذهول الذي يشبه ذهول التجربة الصوفية. فهي إذن لغة التجربة لا لغة القصد والاستعمال، يقول الطبال: (... سئلت مرة ( .... ) لم تستعمل الصوفية في شعرك؟ فحرت في الجواب لأني ما كنت أقصد استعمال هذه اللغة ولا كنت أعي ذلك. فهي إذا كانت في شعري أو هي لغة شعري فليس لي في ذلك يد ولا حول ) (1)، و ثقافته الصوفية هي وليدة قراءات عاشقة متأملة ، لأنه وجد يها نموذجه الذي بحث عنه، يقول الطبال (نعم في هذه المرحلة الأخيرة التي أعبش فيها الآن أميل كثيرا إلى القراءات الفلسفية والصوفية أكثر من القراءات الأخرى وأحس الآن ومن قبل الآن أن عندي إمكانات عدة للكتابة في موضوعات ميتافيزيقية... لقد عاشرت في السنين الأخيرة ابن عربي وأبا حيان وغيرهما، و لا أزال أعيش مع هؤلاء و بتعمق ، ولربما كان هذا مني هروبا أو بحثا عن النماذج التي كانت تمثل في تاريخنا الإنسان الذي عاش حياته بكل عمق ، الإنسان الذي ناضل في عصره و تاريخه ، الإنسان الذي كتب عن العالم الذي نبحث عنه) (2)، وهكذا فحديث الطبال عن هذه المرحلة الأخيرة التي اتصل فيها بالتصوف، تجعل هذه المرحلة من شعره على ما عرفه هذا الشعر نفسه من تحول وثراء في بنيته الدلالية والتركيبية مما يدل على إفادته من التصوف ، وبالتالي يمكن أن نقسم مساره الشعري إلى محطتين:

محطة أولى لم يكن قد اتصل فيها بالتصوف مما جعل شعره خافتا و إضافة كمية - فقط -إلى ما حوله من شعر الآخرين ، ثم محطة ثانية و هي التي اتصل فيها بالتصوف مما حذا به أن يفجر طاقاته الشعرية الكامنة والحقيقية، ليكون شعره - ولا زال - إضافية نوعية إلى مشهدنا الشعري المغربي، فـ (في الأعمال الشعرية الأولى، كان عبد الكريم الطبال مخلصا لطبيعة الإكراهات التي طبعت مرحلتي الستينات والسبعينات، فالقصيدة عنده كانت تنصت لنبض الواقع مكتفية براهنية الحدث، أو بما يجعل من هذا الحث لحظة تمثل للواقع بشكل أو بصورة كاشفة. في ضوء هذا النوع من التمثل، كانت القصيدة تؤجل جماليات كتابتها أو تضعها خارج سياق الحدث. فـ(الرسالة) كانت هي نواة النص وأساسه، وهذا ما سيهيمن على المشهد الشعري المغربي خلال عقدين من الزمن. سيغير الطبال مجرى تجربته، سينتبه كباقي الشعراء المغاربة إلى الشرط الجمالي للقصيدة. وهو الشرط الذي نخفى في تجربته الأولى، وظل حبيس خطاب آخر كان بمثابة الحجر الذي يعيق انسراب النص، أعني مادته أو شعريته بالأحرى، بداية من ديوان (البستان) بدأت تتضح معالم كتابة أخرى، وبدأ الشعري يؤجل ما دونه (....) ولعل في الدواوين التي جاءت بعد (البستان) ما يسمح بإدراك هذا التحول في تجربة الطبال، وفي إقدامه على التخلص من الشوائب التي كانت تعيق انفتاح النص، وانشراح أبعاده الدلالية ) (3)، وهذا التحول في تجربة الطبال قد رصده باحث آخر، وهو يقف على قولة للطبال يزاوج فيها اللغة الشعرية باللغة الصوفية، فـ(فالشاعر عبد الكريم الطبال يماثل اللغة الشعرية باللغة الصوفية: فاللغة الصوفية هي أساسا لغة شعرية لأنها بطبيعتها لغة رمزية، فكل كلمة فيها رمز لكشوف، وكل جملة فيها نشيد عن المخبوء و المكنون تأخذك إلى عالمها الشفاف والغامض في نفس الوقت. ولعل فهم التماثل بين اللغتين أدى بعبد الكريم الطبال إلى أن تكون لغته الشعرية رمزية إيحائية لأن تجربة الشعر عنده خصوصا في دواوينه الأخيرة هي تجربة كشف في مخبوء الذات و مخبوء الكون معا ..) (4)، و هذه المقارنة التي فيها الكثير من المماثلة بين الإبداع الشعري و الإبداع الصوفي تنم على أن (...عبد الكريم الطبال - كأمثاله من الذين أعجبوا بتجربة المتصوفة - نجده يكني على لغة الإبداع الصوفي، فهي لغة تختزل الأجناس الأدبية إذ أن النثر الصوفي يتضمن شعرية التصوف، فـ اللغة الصوفية شعر دائما، فالفتوحات المكية كلها شعر بل إن الذي هو موزون فيها قد يكون دون الذي ليس بموزون - ونحن لا نشك في أن رأي الطبال هذا، يدل على شغفه بالإبداع الصوفي، الذي وجد فيه ما لم يجده في إبداع غير المتصوفة ..) (5)، وهذا الإبداع الصوفي قد رآه الطبال على شاكلة بحر (هناك البحر الذي رأيته في كتب التصوف، رأيته في كتابات ابن عربي، و كتابات النفري، وآخرين. وهو بحر ليس بأزرق ولا أخضر ولا أحمر، ربما له لون لا نعرفه) (6). كما أن الكثير من الباحثين أجمعوا على أن عبد الكريم الطبال غائص في ذلك البحر وسالك فيه مسالك بما يتفق مع طريقته ورؤيته، فـ(عبد الكريم الطبال اختار الشعر منذ نعومة أشعاره، اختاره مأوى و سلوى على طريقة المتصوفة النساك يحياه و يتنفسه كتابة وعشقا و نثرا و نشرا ) (7)، وبالتالي فقصائد الطبال يمكن قراءتها من عدة مداخل لعل أبرزها (...المدخل الصوفي: فعبد الكريم الطبال أصبح يعتمد في قصائده المتأخرة بشكل أساسي على السجل الصوفي بما يعنيه هذا السجل من توق للتوحد مع الطبيعة بجميع مكوناتها ومن رؤية خاصة للعالم ومن نبرة حكمية ) (8)

لكن رصد تجليات الخطاب الصوفي في شعر الطبال هو من الصعوبة بمكان، لأنه يحتاج إلى عين متفحصة ونافذة في جذور القصيدة و أعماقها، على اعتبار أن التجليات ترتبط بما هو خفي ومتوار، فـ(التجليات هي ما يبدو خفيا خلفيا، ينوارى بين ركام الألفاظ وتحجبه أساليب التعبير، وتخفيه المعاني. حتى إذا بلغت قراءة النص الشعري مستوى بدأ ذلك الخفي يخرج من الخفاء، ليصير ظاهرا. ومن ثمة فإن الخلفي المحتجب إلى بنية مشهودة، معروفة النسب المرجعي ، وفي هذا المستوى يمكن أن تتحدد هوية الكتابة الشعرية، عن طريق إعادة لغتها إلى مصدرها اللغوي تستمد منه أساليبها، وتعابيرها ، وألفاظها و بنياتها ) (9)، لكن هذا ليس متيسرا دائما، فثمة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح، ف( ... متى يحق أن نتحدث عن حضور التصوف في الشعر؟ ومتى يتهيأ انتساب قصيدة إلى الأفق الصوفي؟) (10)، إن هذه المساءلة المتشككة و الحذرة من شأنها أن تشطب على العديد من قصائد شعراء جعلوا من التصوف محط ادعائهم و تباهيهم و مزايدتهم ، فتوظيف مصطلح صوفي هنا أو تصدير هناك لا يعني بأي حال من الأحوال أن القصيدة تنتمي إلى الأفق الصوفي فـ(قد تقتصر إعادة الكتابة على ما هو تقني كأن تستثمر الخطاب الصوفي في بناء النص الموازي أو إدماج قول صوفي في السياق النصي أو تكثيف الخطاب والاقتصاد فيه مقابل ثراء المعنى. وقد تتجاوز ذلك إلى طرق التواصل مع الموضوع أو اللغة، والتوسل بآليات الالتذاذ الصوفي بالوجود و تذوقه والسفر فيه، مع الرهان على الخيال والانفتاح على الوجود بوصفه صورة ) (11)، وبالتالي فإن هذا النوع من الشعر الذي ينشغل _فقط_ بالجوانب التقنية والجمالية للخطاب الصوفي موسوم بالقصور والتسطيح إن هو لم يذهب أبعد من ذلك وهو استلهام الخطاب الصوفي في أبعاده الوجودية و المعرفية .

وإن الصعوبة الأخرى التي تواجه محاولة تجلية الخطاب الصوفي في الشعر، تتعلق بالعمليات العقلية والنفسية التي يطبقها الشاعر على ما يعيشه من تجارب مباشرة أو غير مباشرة، وخصوصا الشاعر المبدع، هذا الأخير الذي يمارس عمليات التحويل والتحوير لما يعيشه من تجارب، أو التجويف حسب اصطلاح (العياشي أبي الشتاء)، الذي شغل هذا المصطلح (التجويف) على قصائد عبد الكريم الطبال، ملاحظا ما يجريه الشاعر على مادة معطاة سلفا من إعادة خلق وتشكيل وانزياح، (... وبدءا نقول إن رزمة قصائد (يوميات غجري) تعيد قصة الخلق الكوني المعروفة في الكتب المقدسة، ولكنه خلق يعيد تشكيل العالم، وخلق الأشياء بعيدا عن مسار قصة الخلق المقدسة المعروفة، أي أن (يوميات غجري) تحيل إلى مرجعيتها و لا تحيل في نفس الآن، وبعبارة صريحة واضحة هي قصائد (تجوف) هذه القصة الدينية، وتعيد تشكيلها شعريا و مخياليا كمادة دينية معتقدية معطاة سلفا، إن قصة (يوميات غجري) ضمن ديوان (عابر سبيل) تعيد الخلق لا بالتكرار، ولكن بالخلق الشعري المبدع، حينما أجرت في القصة المعروفة (تجويفا) و(تحويرا) مبدعا...) (12) ولنلاحظ جملة وردت في الكلام السالف للعياشي أبي الشتاء وهي (..تحيل إلى مرجعيتها ولا تحيل في نفس الآن)، لنتبين مدى صعوبة ومدى مأزق تتبع جهاز مرجعي في قصائد شاعر مبدع، وهي هنا الخطاب الصوفي في شعر عبد الكريم الطبال، وبالتالي علينا أن نحاول قدر الإمكان إلغاء ثنائية الأصل والفرع في شعر يعتمد على آليات المحو والطمس و الحذف والتحويل والتحوير و الإخفاء والتجويف لمادته ومرجعيته

أقرأ أيضاً: