علي الديري
(البحرين)

علي الديري مقدمة
تمثل هذه الدراسة جزءا من الفصل الثالث من كتاب سيصدر تحت عنوان (كيف يفكر الفلاسفة بأجسادهم؟) وفي هذا الفصل حاولت أن أنطلق من بحث العلاقة بين خطاب التصوف وخطاب الفلسفة، ووجدت أن حركة الحب هي التي تحرّك كلا الخطابين نحو الرغبة في معرفة الأصل (الحكمة)، وأن مسار الفلسفة ومسار التصوف يلتقيان في اعتماد المجاز آلية لصياغة حقائقهما، فكلاهما يبني خطابه بهذه الآلية التي تتيح له أن يرى شيئاً من خلال شيء آخر (المجاز). إنهما يفكران في العالم وأصله وعلّته وألوهيته بهذه الآلية. وبهذه الآلية أنتجا (مجازات مبدعة) تعيننا على التفكير في الألوهية والعالم والإنسان والعلاقات القائمة بينها، منها مجازات (النور والمشكاة والكهف والمرآة والظلال والتجلي والفيض والحب والدائرة والعالم الصغير والعالم الكبير والسريان والكنز والشجرة والجوهر والجزء الذي لا يتجزأ والهيولي والقابل). لقد وجدت أن خطاب ابن عربي يمثل نموذجاً لعمل هذه الآلية، وخطابه الصوفي محبوكٌ بهذه المجازات التي لا يمكن تجريدها من خطابه، فهي بمثابة الأرض التي يحفر فيها مفاهيمه الصوفية والفلسفية عن الوجود والله والإنسان، وقد وقفت في هذا الفصل على خمسة مجازات صاغ من خلالها ابن عربي مفهومه لوحدة الوجود، أو لنقل بلغته إنّ (وحدة الوجود) تتجلى في كل مجاز من هذه المجازات الخمسة، فهذه المجازات صورة لهذه الوحدة ترى فيها وجودها، وإن هذه الوحدة مرآة لهذه المجازات ترى فيها جانباً من جوانب تحققها.

***

كيف نُدرك بالخيال؟ ما المجازات التي يستخدمها خطاب ابن عربي لبيان مفهومه للخيال؟ ما العلاقة بين الخيال والصورة والكثرة؟ ما العلاقة بين الأضداد والخيال؟ كيف ندرك بالصور حقائق العالم؟ كيف يعمل الخيال وسيطاً وجودياً؟ هل الخيال نقيض العقل أم للخيال معقوليته؟ هل الخيال وسيلة لتجاوز الموجودات أم لفهمها؟ هل الخيال عند ابن عربي (فنتازيا) (1) تتجاوز الواقع الموضوعي؟ كيف يبدو مفهوم الإنسان من خلال الخيال؟ كيف تبدو وحدة الوجود من خلال مفهوم الخيال؟
"اعلم أن الإنسان شجرة من الشجرات أنبتها الله شجرة لا نجماً لأنه قائم على ساق، وجعله شجرة من التشاجر الذي فيه لكونه مخلوقاً من الأضداد، والأضداد تطلب الخصام والتشاجر والمنازعة ولهذا يختصم الملأ الأعلى، وأصل وجوده في العالم حكم الأسماء الإلهية المتقابلة في الحكم لا غير" (2)
الإنسان شجرة (3) بخياله، فالخيال اتصال بين المتضادات أو هو وسط يجمع المتضادات ويتيح لها أن تتعايش فيه، والإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يكون محلاً لجمعية المتضادات، بل هو يدرك الوجود عبر هذه الجمعية، فالإدراك في الإنسان هو حاصل جمع متضادّين، وما يحصل لديه من علم هو نتاج هذا الجمع. وعليه فالإنسان شجرة بخياله المتصل بالألوهة، والألوهة هي مجموع العالم المتجلّي بالأسماء الإلهية، والأسماء الإلهية فيها التنوّع والتعدّد والكثرة والجمعية، جمعية العالم بتضاداته. والإنسان هو خلاصة هذه الأسماء، فيه من كل اسم روح ، لذلك هو عالم مصغّر، وإذا كان العالم شجرة كبيرة من المتضادات، فالإنسان شجرة صغيرة من المتضادات أيضاً، ومقولة ابن عربي "رأيت الكون كلَّه شجرة" (4) تعني أنني رأيت الكون من خلال الإنسان شجرة، أو رأيت الكون من خلال ما في الإنسان من تشجّر في النطق والتكوين والإدراك، رأيته شجرة. إن تشجّر المتضادات في الإنسان، جعلت منه الكائن الوحيد الذي يتميز بالخيال، فخاطب الله فيه ما تميّز به وأنشأ علاقته به بالخيال، وأقام صورته فيه بالخيال وجعله يتصل بالألوهية بالخيال.
الخيالُ وسيلةٌ من وسائل الاتّصال بين الله والعالم، ونظرية وحده الوجود هي نظرية في الاتّصال أساساً، ويستلزم الاتّصال خلق وسائط بين عالم الألوهية وعالم الخلق، وابن عربي يدرج سلاسل من الاتصالات بين الله والعالم.
هناك أربع مجموعات للوسائط بين الخالق والخلق: (5)
المجموعة الأولى هي البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق. المجموعة الثانية من الوسائط هي عالم المعقولات أو عالم الأمر كما يسميه ابن عربي. تبدأ المجموعة الثالثة من الوسائط بالعرش أو الجسم الكلي، وهذه المجموعة بدورها تتوسط بين عالم الأمر والعالم الحسّي المشهود، وهي في ذاتها تمثّل عالم الخلق. المجموعة الرابعة وهي الأفلاك السبعة المتحركة من السماء السابعة إلى السماء الأولى إلى الأرض التي يسكنها الإنسان خليفة الله وآخر الموجودات الحسّية.
وتندرج المجموعة الأولى: وسائط الألوهية والعماء وحقيقة الحقائق الكلية والحقيقة المحمّدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى. الألوهية هي الوسيط الذي يجمع بين الذات الإلهية والعالم من حيث إن الألوهة هي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة في العالم. وهذا الوسيط يمكِّن ابن عربي من حل ثنائية الذات والصفات، وهي معضلة أساسية في علم الكلام الإسلامي. أمّا العماء فهو يمثل وسيطاً من نوع آخر بين الوجود المطلق والعدم المطلق. إنه وسيط حالة الإمكان التي توجد فيها أعيان الموجودات بالقوة لا بالفعل. وتمثِّل حقيقة الحقائق الوسيط العلمي الكلّي. إنها الحقائق الكلّية المعقولة التي تجمع بين القدم والحداثة. أمّا الحقيقة المحمّدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى فهي وسيط بين ثنائية الله والإنسان.
هذه الوسائط الأربع تتوحَّد في فكر ابن عربي، وتُعَدُ مستويات مختلفة لحقيقة واحدة يطلق عليها البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق. هذا البرزخ أو الوسيط تتعدّد أسماؤه ومراتبه ووظائفه، ولكن وظيفته الأساسية هي التوسّط بين طرفي الثنائية الأولية بين الذات الإلهية والعالم.

1.1 تشجّر الخيال

الخيال وسيط من الوسائط التي تتحقّق بها وحدة الوجود، ويعدّه ابن عربي النوع السادس من علوم المعرفة، وهو علم متّصل بسلسلة من العلوم المركّبة وهي:(6) علم البرزخ وعلم عالم الأجساد التي تظهر فيها الروحانيات وعلم سوق الجنة، وعلم التجلّي الإلهي في القيامة في صور التبدّل، وعلم ظهور المعاني التي لا تقوم بنفسها مجسّدة مثل الموت في صورة كبش، وعلم ما يراه الناس في النوم، وعلم الموطن الذي يكون فيه الخلق بعد الموت وقبل البعث، وعلم الصور، وفيه تظهر الصور المرئيات في الأجسام الصقيلة كالمرآة.
ويصف ابن عربي الخيال بمجازات تبجيلية تعطيه القدرة على الخلق والتحكم والتصرف والتجسيد والرؤية وتوليد المعنى "إليه تعرج الحواس، وإليه تنزل المعاني وهو لا يبرح من موطنه، تجبى إليه ثمرات كل شيء، وهو صاحب الإكسير الذي تحمله على المعنى فيجسّده بأي صورة شاء لا يتوقف له النفوذ في التصرّف والحكم، تعضّده الشرائع وتثبته الطبائع فهو المشهود له بالتصرف التام وله التحام المعاني بالأجسام يحيّر الأدلة والعقول" (7)

الخيال مشهود له بالتصرّف التام، لأنه يتصرّف في الصور والفتوح والظهور والغيب والتجلّي والتوالج والمعنى والروح. هو المرجع الذي يُفَسِّر من خلاله ابن عربي العالم وعلاقاته وحقيقته وصلته، ويفسّر به الإنسان ومقاماته وحالاته وتجلياته وظهوراته. ليس هناك شيء في الوجود خارج الخيال(8)، وليس هناك جنبة في خطاب ابن عربي خارج الخيال، فكل تفصيلاته تجد مكانها في حضرة الخيال، وهو يتّسع لها، وبقدر اتساعه يحتاج إلى تفصيل، وأول تفاصيله الخيال المطلق "إن حقيقة الخيال المطلق هو المسمّى بالعماء الذي هو أول ظرف قبل كينونة الحق" (9)
في هذا العماء فتح الله صور كل ما سواه من العالم، فتحها (بكن)، أو باليد الإلهية أو باليدين، وفتح العماء بالنَفَس "وكان أصل ذلك حكم الحب والحب له الحركة في المحب، والنَفَس حركة شوقية لمن تعشق به وتعلق له في ذلك النَفَس لذة" (10)
ترجع صور العالم كلّه إلى هذا الخيال المطلق (العماء)، الذي فيه كل المخلوقات، يتّسع هذا الخيال لكل هذه الصور لأن الله خلقه بالنَفَس، والنَفَس هو الاتساع(11)، وهو متّسع بحركة الشوق والحبّ والتعلّق واللذّة. كنز العالم في هذا الخيال، والقوة التي تحرّكه لإيجاد الصور هي الحبّ الذي أوقع التَنَفس "فظهر النَفَس فكان العماء" (12) لقد أوجد الله العالم بسبب رغبة الحب في التعرف على كنز ألوهيته، وعليه فكل ما يرتبط بعلاقة مع هذا الكنز، فهو يدور في دائرة الحب التي هي دائرة الوجود أو دائرة وحدة الوجود، من هنا لابدّ أن نفهم النَفَس الرحمني والعماء والخيال بمجازات الحب وصوره الكثيرة. ماذا يوجد في هذا الخيال؟
كلّ الأشياء توجد في هذا الخيال المطلق، إنها وحدة واحدة وهي باطن العالم وأصله، وما يظهر من هذه الوحدة الخياليّة يشكّل ظاهر العالم. إذاً باطن العالم كنزُ حبٍّ يحتفظ لكل موجود بصورة محاطة بالحبّ والشوق. العالم موجود في هذا الباطن/العماء/الكنز، لذلك ابن عربي لا يستخدم (الخلق) بالمعنى الذي يقصده علماء الكلام وهو الإيجاد من عدم، بل يستخدمه بمعنى الإيجاد من وجود مقدّر، أو من كنز مخفي أو من باطن مستور أو من عماء أو من نَفَس، فما يوجد في العالم وجوداً حسيّاً هو موجود في الأصل في هذا العماء. ويستثمر ابن عربي المعنى اللغوي العربي للعماء وهو السحاب الرقيق، وهو معنى يشي بما في العماء من لطافة واتساع وقابلية للتشكّل والنفاذ والسريان، فالعماء هو باطن العالم، والعالم يحتاج إلى روح تحرِّكه في الوجود، روح لطيفة ورقيقة كما السحاب "قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وإنما قال هذا من أجل أن العماء عند العرب هو السحاب الرقيق الذي تحته هواء وفوقه هواء"(13)
العماء هو الخيال المطلق، ويحدّد ابن عربي ملامحه بمجازات القبول والاتساع والحبّ والحركة والسحاب والشوق والجمع والنَفَس. يبدو الخيال بهذه المجازات كائناً حيّاً مليئاً بالحركة والحياة والولادة والقوّة، إنه يشبه العقل في نظرية الفيض، فكلاهما يمثّلان الرتبة الأولى التي قَبِلت عن الذات أو الواحد، وكلاهما يتّسعان ويحيطان بكل ما يتكوّن في الطبيعة والعالم مما يليهما.
ويعبّر ابن عربي عن هذه الإحاطة "بالحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة" (14) في هذه الحضرة كل شيء حاضر في الخيال المطلق، لا غيب فيه، لكنه غيب بالنسبة لنا، وما يظهر في العالم هو ما يتفتّح عنه "وأجناس العالم مخلوقون من العماء وأشخاص العالم مخلوقون من العماء أيضاً" (15) بقدرة الخيال المطلق على الإحاطة، تتوافر له القدرة على الوصل والاتصال، وصل العالم بعضه ببعض في حضرته التي هي الحضرة الإلهية.
يجعل ابن عربي (الخيال المتصل) من بعض وجوه الخيال المطلق، وهو بهذا الوجه يحقّق الوصل والاتصال الدائم بين الألوهية والعالم. لا يغيب العالم لحظة عن علم الله. فالله في وحدة وجودية مع العالم عبر الخيال "ولولا قوة الخيال ما ظهر من هذا الذي أظهرناه لكم شيء فإنه أوسع الكائنات وأكمل الموجودات ويقبل الصور الروحانية وهو التشكّل في صور مختلفة من الاستحالة الكائنة" (16)
الخيال قوّة إيجادية، تشكّل الوجود على أنحاء مختلفة، من الثبوت إلى الوجود، ومن الروحانية إلى الجسمية، ومن الغيب إلى الظهور، ويقبل الاستحالات على اختلافها: منها ما فيها سرعة كما في استحالة الأرواح صوراً جسدية، والمعاني صوراً جسدية. ومنها استحالات بطيئة كاستحالة الماء هواء، والهواء ناراً، والنطفة إنساناً، والعناصر نباتاً وحيواناً.
كأن الخيال يمثّل العلّة الهيولية، بقدرتها على الاستحالة في صور كثيرة متعددة، وفق ممكنات الطبيعة التي هي عليها. الهيولي جوهر الصور، فهو مصدرها (17). وكذلك الخيال هيولي الصور التي نشاهدها في الكون.
إن الهيولي هي فيض من فيوضات الله التي خلق منها الطبيعة وكذلك الخيال (العماء) هو الكينونة الأولى عن الله، وهي كينونة من خمس كينونات: (18) كينونة في العماء (الخيال)، وكينونة في العرش، وكينونة في السماء، وكينونة في الأرض، وكينونة عامة. تعمل هذه الكينونات كوسائط بين الله والعالم. إن هذه الكينونات وما ينتج عنها كلّها تحيل إلى الأصل الذي تكونت عنه، وهو الله "ثم إذا فهمت هذا الأصل علمت أن الحق هو الناطق والمحرك والمسكن والموجد والمذهب فتعلم أن جميع الصور بما ينسب إليها مما هو له خيال منصوب وان حقيقة الوجود له تعالى"(19)
الحق هو العلّة الأولى المحرّكة لهذه الكينونات وما يتجلّى عنها، ووجوده معها لا ينافي التنزيه، فهو موجود معها عبر وسائطه من الكينونات، ويستعين ابن عربي بوضع خيال الستارة ليوضّح رجوع الأسباب إلى العلّة الأولى "ألا ترى إلى واضع خيال الستارة ما وضعه إلا ليتحقق الناظر فيه علم ما هو أمر الوجود عليه، فيرى صوراً متعدّدة حركاتها وتصرّفاتها وأحكامها لعين واحدة ليس لها من ذلك شيء، والموجد لها ومحركها ومسكنها بيننا وبينه تلك الستارة المضروبة وهو الحد الفاصل بيننا وبينه، به يقع التمييز فيقال فيه إله، ويقال فينا عبيد وعالم أي لفظ شئت"(20)
الخيال الذي خلف الستارة بكل ما فيه من حركة وصور وتصرفات وأحكام، يرتدّ إلى عين واحدة هي المُوجدة لكلّ ذلك، كذلك ما يوجد خلف ستارة الغيب في الخيال المطلق من حركة وصور وتصرفات وأحكام وتلوّنات وكثرة هي صادرة عن عين واحدة أو ذات واحدة، واحدة بالعين كثيرة بالصور. الخيال هنا هو وسيط بين العين والكثرة، العين المستترة والكثرة الظاهرة.
والظهور مراتب، والخيال هو مرتبة ظاهرة عن غيب الله، لكنه غيب بالنسبة إلى العالم المحسوس. فالخيال بوظيفته المتوسطة هو برزخ كما يسميه ابن عربي "إن هذا العماء هو عين البرزخ بين المعاني التي لا أعيان لها في الوجود، وبين الأجسام النورية والطبيعة كالعلم والحركة" (21)
تتحدّد فاعلية الأشياء وكمالها عند ابن عربي بالقدرة على الجمع بين حالتين متضادتين. وأكثر الحالات التي شغلت ابن عربي هي حالة الظاهر والباطن، ووحدة الوجود هي نظريةٌ للجمع بين هاتين الحالتين (22). والخيال هو أحد أخصب المفاهيم في نظريته القادرة على هذا الجمع والفصل بين الباطن والظاهر"عندما يستعمل ابن عربي لفظ (برزخ) غير معرّف. يقصد به حقيقة أو مرتبة لها عدة صفات: هي مرتبة الجامع الفاصل بين عالمين أو حالين أو مرتبتين أو صفتين ... هما في الواقع متناقضان" (23)
ما العلاقة بين الخيال والبرزخ؟ الخيال لديه القدرة الجامعة، والبرزخ لديه القدرة الفاصلة. فالبرزخ هو أحد نِسب الخيال، والخيال نفسه هو برزخ (24)لأنه يجمع متناقضين لكن لا يماهي بينهما (هو لا هو)، بل يبقي على فاصل بينهما "لن نستطيع أن نعدد البرازخ عند ابن عربي فهذا ما لا يمكن أبداً، لأن كل جامع فاصل بين مطلق أمرين هو: برزخ. فعالم المثال: برزخ بين عالم الأرواح المجردة وعالم الأجساد. وعالم النبات: برزخ بين الحيوان والمعدن والنفس: برزخ بين حكمين الفجور والتقوى والخيال: برزخ لأنه لا موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا منفي ولا مثبت" (25)
تتوسّع الحضرات بالقدرة على الجمع والفصل "فإن البرزخ أوسع الحضرات جوداً، وهو مجمع البحرين: بحر المعاني وبحر المحسوسات، فالمحسوس لا يكون معنى، والمعنى لا يكون محسوساً، وحضرة الخيال التي عبرنا عنه بمجمع البحرين هو يجسّد المعاني ويلطف المحسوس ويقلب في عين الناظر عين كل معلوم فهو الحاكم المتحكم" (26)
تصير وحدة الوجود ممكنة بالاتساع والجمع والفصل، والاتّساع والجمع يحققهما الخيال"فما أوسع حضرة الخيال"(27)، والبرزخ يتّسع ويجمع بفضل الخيال، والخيال يفصل بفضل البرزخ، وهذا الفصل يبقي الاثنينية الاعتبارية بين الخلق والخالق، يبقيها متصلة منفصلة في وحدة وجودية.
يوسّع الخيال العالم لأنه يوسع معرفتنا به، لقد اعتبر ابن عربي الخيال من علوم المعرفة ومن لا يتوافر له ليس لديه من المعرفة رائحة "ومن لا يعرف مرتبة الخيال فلا معرفة له من جهة واحدة، وهذا الركن من المعرفة إذا لم يحصل للعارفين فما عندهم من المعرفة رائحة"(28) لقد نفى ابن عربي رائحة المعرفة عن من يجهل مرتبة الخيال، لأن معرفة الخالق لا يمكن أن تكون من غير الخلق، ومعرفة الخلق لا يمكن إدراك حقيقتها من غير الخالق، والخيال هو الذي يجمع بين الخلق والخالق ويجعل معرفتهما ممكنة "فقد ثبت أن الحكم له بكل وجه، وعلى كل حال في المحسوس والمعقول والحواس والعقول، وفي الصور والمعاني، وفي المحدث وفي القديم وفي المحال وفي الممكن وفي الواجب" (29)
ما الحكم الذي للخيال؟ إنه الحكم في المعرفة، معرفة المحسوس والمعقول والصور والتجلّيات والظهور والاستتار، وهو له هذا الحكم بحكم قدرته على الخلق والإيجاد وتفتيح الصور والجمع والفصل وإظهار الغيب في صور كثيرة، الخيال بهذا الحكم هو أداة معرفة، لكنها معرفة متغيّرة ومتبدّلة ومتحوّلة، لا حقيقة ثابتة.
"وهكذا كل حال تكون فيه، لا بدّ لك من الانتقال عنه وتبقى مثل ما كنت عليه في خيالك المتصل وفي قوة كونه كان على الحقيقة في الخيال المنفصل، إذ لو كان حقيقة ما تغيّر ولا انتقل، فإن الحقائق لا تتبدل وحقيقة الخيال التبدل في كل حال والظهور في كل صورة فلا وجود حقيقي لا يقبل التبديل إلا الله فما في الوجود المحقق إلا الله" (30)
الخيال هنا يقابل الحقيقة، الخيال يتبدّل ويتغيّر وينتقل، والحقيقة لا تقبل ذلك، والله وحده هو الحقيقة التي لا تتبدّل. إن التبدّل والتغيّر والانتقال (الخيال) أدلّة على الله، والله يتصل بنا عبر الخيال، ويدل على نفسه عبر الخيال، ويفصلنا عنه عبر الخيال ويجمعنا به عبر الخيال، الخيال هو القوّة التي يستخدمها الله في تكويننا وإيجادنا في حالة مستمرة لا تعرف التوقف.
نحن (العالم والوسائط وكل ما هو غير الله) ما يسميه ابن عربي (الخيال المنفصل)، وهو يشمل مراتب الوجود من أعلاها (الخيال المطلق) إلى أدناها (الخيال المتّصل)، هو منفصل عن الذات المجردة الأحدية، يمثّل هذا الخيال المنفصل مرتبة الألوهية وحقيقة الحقائق والعماء والحقيقة المحمدية وعالم الجبروت (31).
الخيال يصلنا بالله لكنه منفصل عن الله، الله يوجد في الخيال بمختلف مراتبه لكن الخيال لا يوجد مع الله بل هو منفصل عنه ودالٌّ عليه، لذلك له الجمعية وله الشمولية وله الاستمرارية وله الإبداع، إنه (الخيال الخلاق) (32) فكل الصور مخلوقة فيه.
إن كل ما عدا الله نسبٌ وإضافات، فالخيال أيضاً نسبة واعتبار وإضافة، وهو بحسب هذه النّسب يطلق عليه خيال مطلق أو خيال منفصل أو خيال متصل، وهو بكل حالات نسبه قادر على الجمع والفصل والوصل والتوسّط والإظهار والإخفاء وإيجاد الصور المتضادة، وجمعها. يضعنا الخيال في حالة ارتباك أمام الحقيقة "كالميت في قبره يشاهد ساكتاً وهو متكلم يسأل ويجيب، فإن قلت لمن يرى هذا إنه خُيّل له يقول لك: بل أنت خُيّل لك أنه ساكت وهو متكلم وخُيّل لك أنه مضطجع وهو قاعد" (33)
الخيال هو دوماً في حالة الأكمل، لأنه يجمع طرفين فيه، فيكمل نقصهما أو يكمل ما غاب عنهما واستتر. وهذا هو ما يعنيه ابن عربي حين يقول: والخيال له الكمال. عين الخيال هي أتمّ نظراً، لأنها تجمع نظرين إليها لم يكونا يلتقيان، بل كل واحد منهما يرى الآخر أعمى، وهنا يتجلّى لنا كمال نظر عين ابن عربي وتمامها، بقدرتها على الجمع بين متناقضات الآراء والأقوال والعقائد والفلسفات، ويكون هو واسطتها التي تجمعها وتؤلّف بينها. إن الأمر أشبه بلعبة صور ورؤى، بقدر ما تستطيع أن تجمع عينُك وقلبُك من الصور، وتكون أنت واسطتها، تعرف عن تمام وكمال، ويقدّم ابن عربي مثالاً حسيّاً من المرآة "ومن ذلك الصورة في المرآة، وكل جسم صقيل إن كان الجسم الصقيل كبيراً، كبرت الصورة المرئية فيه، ثم إذا نظرت إلى الصورة من خارج، وجدتها غير متنوعة فيما ظهر فيها من التنوّع بتنوّع المرائي حتى في تموّج الماء تظهر الصور متموجة وكل عين أي كل نظرة تقول للأخرى إنها في مقام الخيال، وأن الحق بيدها" (34)
إن الحقّ ليس بيد أحدٍ من المرايا( أديان، مذاهب، آراء، طوائف)، الحق خارج المرايا، ولا سبيل إلينا إليه إلا صوره السارية في العالم، ونقترب من الحقّ بقدر ما نجمع في خيالنا من صوره، ونأتلف معها ونؤلّف بينها، فالحقّ على صوره الظاهرة، والإنسان هو أكمل وأتمّ صوره، وهو في الوقت نفسه أكثر الكائنات نزاعاً حول الصور، وذلك لتشّجر الصور فيه بسبب ما فيه من تضادات، فكلّ ماسكِ صورةٍ يظنّ أن الحق فيها وحدها.
لذلك يذهب ابن عربي إلى أن اعتقاد المسيحيين بأن الروح القدس لعيسى وأنه ابن الله، ليس خطأً، لكن الخطأ يكمن في الاعتقاد بأن الله في هذه الصورة فقط، في هذا الابن فقط، الصحيح أن نعتقد أنه في كل صورة، فنجمع صور المعتقدات (المرايا) كلّها في خيالنا.
الخيال ليس ضد المعقولية بل ابن عربي يحدثنا عن عين معقولية الخيال "ولا شيء مما سوى الله أعني ذات الحق على حالة واحدة بل تتبدل من صورة إلى صورة دائماً أبداً وليس الخيال إلا هذا فهذا هو عين معقولية الخيال" (35) ما هي عين معقولية الخيال؟
أن ندرك أن طبيعة الموجودات محكومة بالتبدّل والتحوّل والزوال وأنها ظلال ومرايا لعقل لا نبلغه ولحقيقة لا نطالها، فمن المعقولية إذن أن نحسن فهم هذه الطبيعة، وتلك مهمة الإنسان، فهو الكائن الوحيد الذي يتوافر فيه خيال على صورة الخيال المطلق.
الخيال المتصل (36) محلّه الإنسان، وموقع هذا الخيال في الإنسان يجسّد صورة من صور علاقة الجزء (الإنسان) بالكل (الله)، فهذا الجزء (الخيال المتّصل) متّصل بالكلّ (الخيال المنفصل). ربما يوحي وصف الاتصال هنا بعكس المضمون، مضمون تسميته، ودفعاً للبس، نقول إن الاتصال لا يعني هنا الاستمرار والديمومة للصور، فتلك من اختصاص الخيال المنفصل، بل تعني اتصال هذا الخيال بالخيال الأكمل منه (الخيال المنفصل)، وقلت هنا الأكمل لأنه الأوسع ويجمع صوراً أكثر وهو محل توسّط مخلوقات أكثر.
والخيال المتّصل في الإنسان هو تحقق نسبة من نسب الخيال المنفصل "ومن هذا الخيال المنفصل يكون الخيال المتّصل" (37). هو منه، أي من نسبه الاعتبارية وليس هو ذاتاً أخرى لها وجودها الحقيقي المستقل، فليس في الكون أصلاً ذات حقيقية غير الله، وما سواه صور وظلال ونسب وإضافات متّصلة بعضها ببعض ومنفصلة بعضها عن بعض.
ويوضح ابن عربي هذا الانفصال الفارق بين الخيال المنفصل والخيال المتصل بقوله: "فالفرقان بين الخيال المتصل والخيال المنفصل إن المتصل يذهب بذهاب المتخيل، والمنفصل حضرة ذاتية قابلة دائماً للمعاني والأرواح فتجسدها بخاصيتها" (38).
الخيال المنفصل حضرة ذاتية دائمة الاتصال على الرغم من انفصالها عن الإلوهية في المرتبة. بقاء العالم قائم على اتصاله بهذا الخيال، والإنسان هو أكمل عين وأتمّ عين لديها القدرة على الاتصال بهذا الخيال والأخذ عنه ووصله بالظاهر في العالم، إنه الخيال الإنساني، ويجعله ابن عربي على نوعين: (39)
ما يوجد عن تخيّل وهو ما صوّرته القوة المصوّرة. وما لا يوجد عن تخيّل كالنائم ما هو عن تخيّل ما يراه من الصور في نومه.
ما يتخيّله الإنسان يتجلّى في صور "فالصور بما هي صور هي المتخيلات" (40)، ومتخيلات الإنسان قائم على المحسوسات "لكن جميع آحاد المجموع [مجموع الصورة] لا بد أن يكون محسوساً" (41) يعني أن أجزاء الصورة حسّية، لكن تركيبها وجمعها في صورة مركّبة ليس من الحسّ "إنشاء لصورة لم يدركها الحسّ من حيث مجموعها" (42) يستطيع الخيال المتّصل (الجزء) أن يركِّب صوراً أو آحاداً من الصور تركيباً خلاّقاً، وهو بهذه القدرة يحاكي الخيال المنفصل (الكل).
صور الخيالين زائلة وفانية، لكن الخيال المنفصل دائم التجلّي بالصور، وحضرته لا تفتر من الصور، فكلما انعدمت صورة تجدّدت صور أخرى، في حين أن الخيال المنفصل صورة تفنى وهو يفنى. ومع ذلك فالخيال المتّصل هو صورة من صور الخيال المنفصل، بل هو خلاصة هذه الصورة، أو لنقل إن الخيال المتّصل (الإنسان) مخلوق على صورة الخيال المنفصل (الألوهية)، وبذلك هو خلاصة الخيال في العالم.
يطرح الخيال بما هو رؤية شيء في شيء آخر، لا رؤية الشيء في نفسه مشكلة معرفية تتعلق بمعقولية عين الخيال، تتعلّق بحقيقة ما نعلمه، فما نعلمه في ذاته على ما هو عليه، هو العلم الصحيح والإدراك التام، ومتى برز في غير صورته فقد تمامه وحقيقته وداخلَه التلبيس، ويحدث ذلك بسبب ما يسمّيه ابن عربي بقعر حوض الخيال "إن العلوم وأعني بها المعلومات إذا ظهرت بذواتها للعلم وأدركها العلم على ما هي عليه في ذواتها فذلك العلم الصحيح والإدراك التام الذي لا شبيهة فيه البتة وسواء كان ذلك المعلوم وجوداً أو عدماً أو نفياً أو إثباتاً أو كثيفاً أو لطيفاً أو رباً أو مربوباً أو حرفاً أو معنى أو جسماً أو روحاً أو مركباً أو مفرداً أو ما أنتجه التركيب أو نسبة أو صفة أو موصوفاً" (43)
مبلغ علمنا عن هذه المعلومات لا يمكن يصل إلى ذواتها دون العبور إليها من صورة أخرى، فالخيال المتّصل لا يمكنه أن يبلغ حقائق المعلومات إلا بالصور، وفي هذه الحالة يبلغ شيئاً آخر ليس هو ذاتها "فمتى ما خرج شيء مما ذكرناه عن أن يبرز للعلم بذاته وبرز له في غير صورته فبرز العدم له في صورة الوجود بالعكس والرب بصفة المربوب والمربوب بصفة الرب والمعاني في صور الأجسام كالعلم في صورة اللبن" (44) هكذا تحيل الصور المعلومات معلوماتٍ أخرى، لا تُعلم ذواتها، بل تُعلم صور تمرئيها في أشياء أخرى، لذلك تحتاج إلى قوّة إلهية، تعدِّيك ما عبرته هذه الصور وما أصابها من كدر في عبورها "فذلك هو الكدر الذي يلحق العلم فيحتاج من ظهر له هذا إلى قوة إلهية تعديه من هذه الصورة إلى المعنى الذي ظهر في هذه الصورة فيتعب وسبب ذلك حضرة الخيال والتمثيل والقوة المفكرة وأصل ذلك هذا الجسم الطبيعي وهو المعبر عنه بالحوض في هذا المنزل وقعر هذا الحوض هو خزانة الخيال وكدر ماء هذا الحوض المستقر في قعره هو ما يخرجه الخيال والتخيل عن صورته فيطرأ التلبيس على الناظر بما ظهر له" (45).
لا يعوّل على العقل وقدرته على تنظيف قعر الحوض، فالعقل محكوم بقعر حوض التقييد، إنه يعوّل على الخيال، فالمعرفة بالمعلومات حيث خزانة الخيال، هناك التمثّل والقوة المفكِّرة والتركيب. حيث تبلغ بك هذه الخزانة وهذه القوَّة، تعلم وتعرف، لست مطلقاً منها، وما يظنّه العقل أنه يقين ومعرفة مجرّدة من الصور، هو وهم فلا سبيل إلى المعرفة اليقينية في نظر ابن عربي إلا بالوهب من الله، وما دون ذلك يقع في الحيرة "فما يدري أي معنى لبس هذه الصورة فيتحير ولا يتخلص له ذلك أبداً من نظره إلا بحكم الموافقة وهو على غير يقين محقق فيما أصاب من ذلك إلا بإخبار من الله" (46)

1.2 تشجّر الصورة (هو لا هو)

النوم حالة من حالات الخيال، ويحتفي ابن عربي بحالات الخيال كلّها، فهي حالات إيجاد ونتاج وزيادة وكثرة، فالكثرة في العالم من قوّة خلق الخيال، ويحتفي ابن عربي احتفاءً خاصاً بمقام النوم (47)، ويبرّر احتفاءه بما ورد عن النبي "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" (48)، ويجعل النبي يوسف محمديّاً لأن حكمته النورية في بسط الخيال بالتأويل، كانت تشرح حديث النبي محمد، يقول ابن عربي في مقام النوم "اعلم أيدك الله أن النوم حالة تنقل العبد من مشاهدة عالم الحس إلى شهود عالم البرزخ وهو أكمل العالم فلا أكمل منه هو أصل مصدر العالم له الوجود الحقيقي والتحكم في الأمور كلها يجسّد المعاني ويرد ما ليس قائماً بنفسه قائماً بنفسه وما لا صورة له يجعل له صورة ويرد المحال ممكناً ويتصرف في الأمور كيف يشاء" (49)
يحتجّ ابن عربي بقدرة النوم على خلق المُحال، ويتّخذ من هذه الحجّة دليلاً على قدرة الله على خلق المحال، فالله هو خالق الخيال الذي لديه القدرة على الإيجاد والجمع والتوسّط وإيجاد صور المحالات. يكتسبُ الخيال المطلق صفة الإطلاق من تحررّه من قيود العقل والمستحيل، فهو خيال يخلق ما يشاء ويجمع ما يشاء ويشمل ما يشاء من غير حتى أن يقيّده حسّ كما هو أمر الخيال المتّصل، ولا يقيّده زمن ولا مكان ولا مدّة، فهو دائم غير زائل، ومتحرر من الصور فهو يستبدّلها باستمرار.
يخصّص ابن عربي (فصّ حكمة نورية في كلمة يوسفية) لنور الخيال، ويجعل من حلم النبي يوسف وقدراته التأويلية (50) نموذجاً لظهور نور الخيال، ونموذجاً للقدرة على تعدي صور الخيال إلى ما وراءها من حقائق، وقد تجلّت هذه القدرة في التعدي والعبور في يوسف من خلال تأويلاته الصادقة لأحلامه، وتأويلاته لرؤى من كانوا معه.
إن (حكمة يوسف) كما يقدّمها ابن عربي، تبسط نورها على حضرة الخيال، فتكشف أسراره وظواهره وعلاقته بالحضرة الإلهية والحقيقة، أنها الحكمة التي تشرح معنى النوم ومعنى الحلم ومعنى اليقظة ومعنى التأويل "إنما هو منام في منام. وكل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال، ولهذا يُعَبَّر، أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب كظهور العلم في صورة اللبن" (51). في النوم الصور تحيل إلى صور أخرى، وفي الحياة التي نعيشها الصور أيضاً تحيل إلى صور أخرى، فنحن أيضاً نيام، وعلينا أن نعبر ونجتاز نومنا الذي هو خيال، لأنه يحيل إلى حقيقة أخرى، فالعالم ونحن لسنا إلاّ صورة ظاهرة تحيل إلى باطن مستور هو الحقيقة.
إن خيال ابن عربي (الخلاّق)، مكّنه من الجمع بين حديث النبي وتأويل يوسف، ليلتقوا في يوسف المحمدي، وكأن يوسف يعبر ويجتاز حديث النبي ليصل إلى حقيقته، أي حقيقة النوم المقصودة في الحديث " ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً" أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في الخيال" (52).
الخيال يصوغ المعرفة في صور حسيّة، ويُعْلِمُنا بها في صورها الحسيّة (53) ويتيح لنا أن نؤوّلها لنصل إلى حقيقتها، والحقيقة الحسيّة التي أظهرها تأويل يوسف هي بمثابة صورة أخرى لا حقيقة في ذاتها، تماماً كما يستيقظ النائم في حلمه وهو نائم، فالحقيقة التي تتحقّق من أحلامنا لا تعني أننا كنّا نحلم، بل إننا ما زلنا نحلم وما زال نومنا مستمراً "فكان قول يوسف: "قد جعلها ربي حقاً" بمنزلة من رأى في نومه أنه استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها. ولم يعلم أنه في النوم عينه" (54).
واليقظة في الحلم هي حلم آخر أي حلم داخل حلم، كما الصور هي داخل صور أخرى أو داخل خيال آخر أوسع، فالاستيقاظ هو حلم داخل النوم، والصور الحسيّة هي صور داخل الخيال وإن كنّا نظنّها حقيقة.
إن ما رآه يوسف في نومه من صور تُظهر إخوته في صورة الكواكب، وتظهر أباه وخالته في صورة الشمس والقمر، كان من خزانة خياله "كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله" (55) يتوافر في يوسف خيال خصب وقدرة تأويل خصبة، وقد استيقظ في نومه وليس من نومه، استيقاظ الحالم حين أوّل حقيقة الصور بما تحقّق له في الحسّ، والتحقّق في الحسّ هو ما يسمّيه ابن عربي اليقظة في الحلم وليس اليقظة من الحلم، نحن لا نعلم إلا بقدر ما يعلم المستيقظ في الحلم، يعني أننا نعلم الصور بصور أخرى، نعلم صورة الحلم بحلم آخر داخله، وأما اليقظة فتحصل بعد الموت "فهو كمن يرى أنه استيقظ في نومه وهو في منامه وهو قوله عليه السلام الناس نيام" (56)، "فالوجود كله نوم ويقظته نوم" (57)، "فإذا ارتقى الإنسان في درج المعرفة علم أنه نائم في حال اليقظة المعهودة وإن الأمر الذي هو فيه رؤيا إيمانا وكشفا" (58)
النوم حالة إدراك، وليس حالة غفلة، ويمكنك أن تدرك وتعرف في النوم، كما تعرف وتدرك في اليقظة التي هي نوم آخر"اعلم أيدك الله أن للإنسان حالتين حالة تسمى النوم وحالة تسمى اليقظة وفي كلتا الحالتين قد جعل الله له إدراكاً يدرك به الأشياء تُسمى تلك الإدراكات في اليقظة حساً، وتُسمى في النوم حساً مشتركاً" (59) يحتفي ابن عربي بحديث النبي (الناس نيام)، إلى الحد الذي جعل يوسف شارحاً لهذا الحديث وباسطاً نور حكمته، يجد مسوّغه في نظريته في الخيال.
فالنوم حالة إدراك حسّي، والخيال إدراك حسّي، فالنوم يجسّد حالة الخيال بامتياز، نحن ندرك في النوم بالحسّ، بحسّنا الخاص وتجربته مع الصور والمشاهد التي تمر بنا، وندرك بحسّنا المشترك الذي هو حسّ الحواس (الخمس)، فالأصل الحسّ وما نُدرك به في اليقظة "فالأصل الحسّ والإدراك به في اليقظة والخيال تبع لذلك" (60).
وفي حال نقص شيء من الحواس، فإن ما يفوت إدراكه في الحسّ بسبب هذا النقص، يفوت أيضاً إدراكه في النوم كما فات في اليقظة. وابن عربي يعطي الشرف في الإدراك للحسّ "الشرف كلّه في الحس" (61). فالنقص في الحسّ نقص في خزانة الخيال، فالحواس تعمل على تزويد خزانة الخيال، والنقص في هذه الخزانة يكشف عن نقص في الحواس، قد يكون سببه عاهة في إحدى الحواس "وعلى قدر ما كمل لهذه النشأة من الآلات التي هي الجوارح والخدّام الذين هم القوى الحسية يكون الاختزان فثَمّ خزانة كاملة لكمال الحياة وثَمّ خزانة ناقصة كالأكمه فإنه لا ينتقل إلى خزانة خياله صور الألوان والخرس لا ينتقل إلى خزانة خياله صور الأصوات ولا الحروف اللفظية هذا كله إذا عدمها في أصل نشأته" (62)
إن النقص في هذه الخزانة يعوق الخيال، "فالخيال من حقيقته أن يصوّر كل ما حصل عنده في صورة المحسوس لا بد من ذلك" (63). إن النقص في الخزانة نقص في الخيال، ونقص في الإدراك، ونقص في المعرفة ونقص في القدرة على الجمع بين الأطراف ونقص في العالم. فالجمع يعتمد الصور، والصور في الخيال مرجعها إلى الحسّ (64). والانتقال من صورة حسيّة إلى صورة معنوية انتقال يعتمد على ما في خزينة الخيال، والحسّ طرف في المعنى والمعلوم "الحسّ طرف أدنى والمعنى طرف أعلى وألطف والخيال بينهما" (65).
يحتاج الإدراك إلى عبور بين الطرفين، والصورة لا تعبر في الإدراك حتى يتم تصويرها في الخيال بما لدى الخيال من صور في خزانته "إن الذي يعبرها لا يعبرها حتى يصورها في خياله من المتكلم، فقد انتقلت تلك الصورة عن المحل الذي كانت فيه حديث نفس أو تحزين شيطان إلى خيال العابر لها وما هي له حديث نفس، فيحكم على صورة محققة ارتسمت في ذاته فيظهر لها حكم أحدثه حصول تلك الصورة في نفس العابر" (66) يستخدم ابن عربي مجاز العبور والعابر والتعبير (67) باستفاضة في معرض شرحه لطريقة العلم بالخيال بما هو انتقال بين طرفين، بل انه يستخدم صورة الجسر وضفّتيه في توضح ذلك "وجعل هذه الحضرة كالجسر بين الشطين للعبور عليه من هذا الشط إلى هذا الشط، فجعل النوم معبراً وجعل المشي عليه عبوراً" (68)
تأويل رؤيا المنام هو عبور من شاطئ الصورة الحسيّة إلى شاطئ المعنى، وعبور هذين الشطّين لا يعني أنك وصلت إلى الحقيقة ولا إلى اليقظة "فالوجود كلّه نوم ويقظته نوم" (69) إنما أنت عبرت نوماً إلى نوم آخر، وصورةً إلى صورة أخرى، وطرفاً إلى طرفٍ آخر، وشطّاًً إلى شطٍّ آخر، وينتظرك في الأفق شطٌّ آخر تعبره. الإنسان عابر بخياله وخزانته وما تحويه من صور المحسوسات، ولا يمكنه أن يجتاز موجوداً من موجودات العالم إلا بهذه الصور، وهو بقدر ما يجمع فيه من أطراف يعرف وتتكثّر معلوماته ويكتمل، وهو يكتمل باكتمال خزانة خياله، حيث صور الأسماء الحسنى التي وضعها الله في خزانته.
"إن الصورة البشرية تتغير بما يرد عليها في باطنها مما تتخيله من صورة تبصرها أو كلمة تسمعها إما بحزن أو فرح، فيظهر لذلك أثر في البَشَرة لا بدّ من ذلك فإنه حكم طبيعي أودعه الله في الطبيعة فلا يكون إلا هكذا" (70).
يتّخذ ابن عربي من أمثلة: صورة جبريل في عيسى، وصورة قبضة أثر جبريل في العجل، نموذجاً لما تعطيه استعدادات المظاهر بحسب ما في باطنها، والبَشَرة هي أكثر ما يظهر في الإنسان من صور الحسّ، وأكثر ما يظهر فيها من صور التأثّر. إن الخيال وما تستحضر خزانته من صور، يعبر باطن الإنسان ويظهر في بشرته "لأن الخيال هذه حقيقته أن يجسّد ما ليس من شأنه أن يكون جسداً وذلك لأن حضرته تعطى ذلك" (71).
إنه يجسِّد ما في خزانته في بشرتنا، بوصفها علامة من علامات الظاهر. إن مادة الخيال هي الحسّ المستودع في صور خزائن خيال الإنسان، وأثره يظهر في الحسّ لكن عبوره يتم في الروح والقلب، إنه المكان الذي يعبر به الإنسان أشياء العالم وصوره ويجعل بعضها تؤثّر في بعض، وبعضها يظهر في بعض، وبعضها يرى بعضاً، هو وسطها الذي يتيح لها أن تتصّل، ليس في العالم ما يعطي ذلك غير الخيال "وما ثَمّ في طبقات العالم من يعطي الأمر على ما هو عليه سوى هذه الحضرة الخيالية فإنها تجمع بين النقيضين وفيها تظهر الحقائق على ما هي عليه" (72).

إنه يعطي الأمر على ما هو عليه في غيره، لا على ما هو عليه في ذاته. أي على ما هو عليه في صورته، وفي عبورك تدرك أنه لا هو "الحق في الأمور أن نقول في كل أمر تراه أو تدركه بأي قوة كان الإدراك أن ذلك الذي أدركته هو لا هو كما قال "وما رميت إذ رميت" فلا تشك في حال الرؤيا في الصورة التي تراها أنها عين ما قيل لك إنه هو، ما تشك في التعبير إذا استيقظت أنه ليس هو، ولا تشك في النظر الصحيح أن الأمر هو لا هو قيل لأبي سعيد الخراز: بم عرفت الله؟ قال بجمعه بين الضدين فكل عين متصفة بالوجود فهي لا هي، فالعالم كله هو لا هو والحق الظاهر بالصورة هو لا هو، فهو المحدود الذي لا يُحدّ، والمرئى الذي لا يُرى، وما ظهر هذا الأمر إلا في هذه الحضرة الخيالية" (73) لا سبيل إلى المعرفة إلا الجمع بين الضدّين، تجمع (هو) و(لا هو) تعبر بينهما، بين إيجاب الصورة ونفيها بحثاً عن شيء آخر، بين الشطّ والشطّ. بين النوم واليقظة (نوم آخر).
معرفة الله طريقها جمع الضدين، وجمع الضدّين تعني العبور بخيالك، أي العبور بأطراف صور خيالك. وكلما رأيت صورة وظننتها هو فهي ليست هو، فهو فيها ومعها لكنها ليست هو، العالم كلّه هو ولا هو، ومعرفتنا مركبّة على طريقة ظهور العالم، فالعالم شاهدنا على الله وهو ليس الله، هو صورة من صور الألوهية التي يجسّدها لنا الخيال، وعلينا أن نعبِرها لنتعرف باطنها حيث الله. لكن ما دمنا نعلم العالم بالخيال، فلن يكون علمنا سوى خيال ونوم وظلالٍ وحلم ويقظة في حلم.
سنحتاج أن نعبر (نهر) هذه المعلومات التي ليست هو، ولن نعبرها إلا حين نعبر الحياة، أي حين نموت. حينها سنستيقظ من نومتنا وهي نومة وجودية لا فكاك منها، وليست نومة غفلة كما كان يعتقد إخوان الصفاء، غفلة يمكن الاستيقاظ منها بالفلسفة والعلم والتطهّر ومن ثم التشّبه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية (74)، مع ابن عربي الطاقة الإنسانية لا تستطيع أن تستيقظ إلا بموتها، وستبقى محكوماً عليها بالصور، تنتقل من صورة نوم إلى صورة نوم أخرى، إنها تجسّد وتتخيّل وتخلق المحال، لكنها لا تغادر نومها." فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيل " (75) الحق المتخيَّل يُدرك على طريقة (هو لا هو)، كان من رحمة الله بنا واتّساعه أن خلق الخيال وجعل الإنسان خلاصة هذا الخيال، وصار هو الخيال المتّصل بالخيال المطلق، وهو اتصال يحقّقه عبر قبول إمكانه تجلّي الأسماء الإلهية فيه، وأُختصّ الإنسان وحده بتعلّمها، فصار اتصال خياله بحضرتها، التي هي حضرة الإلوهية والخيال المطلق والنفس الإلهي والعماء.
الإنسان متّصل بالحق بما هو غيره، و(ما هو غيره) هو الحق المتخيّل، والحق المتخيّل نعرفه بخزانة صورنا التي بها نعرف الأشياء ونعلمها، هذا يعني أننا نُدرك الحقّ المتخيّل بالحسّ والصور والظلال والعالم والتجليّات والكثرة والمعلومات بما هي لا هو. هي معرفة قائمة على وصل طرف بطرف وضدّ بضدّ وشطّ بشطّ وعبور.
الحقّ المتخيّل هو محصّلة طاقة الخيال المتّصل على عبور الصور ووصلها وتركيبها للاتّصال بالخيال المطلق، ليس في الكون المدرك من طرفنا غير الخيال وكثرته " فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة . فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم. ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمي" (76)
حين أراد ابن عربي الإشارة إلى الحق في ذاته، لم يجد غير الصورة، صورة النور الشديد الإضاءة الذي لا يمكن رؤيته مباشرة، فنراه عبر حُجُبٍ تخفف من شدّة نوره، والنور عَبر الحجب ظلال، وعلى هذا يكون علمنا بالذات الإلهية علم ظلال "فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال" (77) وتبقى معرفة الحق في ذاته في منطقة الجهل "ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل. فمن حيث هو ظل له يُعلم، ومن حيث ما يُجهل ما في ذلك الظل من صورة شخص من امتدت عنه يجهل من الحق" (78) تبقى معرفة الحق المتخيّل معرفة ظٍّل، ومعرفة الظلّ تريك وجهاً وتغيِّب عنك وجهاً آخر " فلذلك نقول إن الحق معلوم لنا من وجه مجهول لنا من وجه " (79).
إن الوجه الغائب يجعلنا في فقر دائم إليه ويجعله في شوق أكثر لنا ليعرفنا به، ويعطف على جهلنا به، ويخلق من الصور ما يدّلنا بها عليه (80)، بل ويجعل من أنفسنا دليلاً عليه، لكن يبقى دليلاً يعتوره نقص الظل، الذي يحجب شيئاً ويدل على شيءٍ، والإنسان هو أدلّ الأشياء على نفسه، ومع ذلك فبشريته تحجبه وتكون له ظلاًّ، "وقد يكون الحجاب بشريته" (81) من هنا يخاطب ابن عربي حجاب البشرية بقوله "فاعرف عينك، ومن أنت، وما هويتك، وما نسبتك إلى الحق، وبما أنت عالَم، وسوى وغيرٌ وما شاكل هذه الألفاظ" (82)

1.3 تشجّر التشبيه

تثير وحدة الوجود بما تقتضيه من وجود الله مع الأشياء أو ظهور الله في الأشياء مشكلة عقائدية، تتعلق بإشكالية علماء الكلام حول التشبيه والتنزيه، تطرح هذه الإشكالية نفسها في خطاب ابن عربي بمسمّى مختلف وبمضمون مختلف، المسمّى هو التقييد والإطلاق، والمضمون هو الله والعالم أو وحدة الوجود. نقل هذا المضمون الجديد الإشكالية من بعدها العقائدي فقط إلى بعدها المعرفي، و أقصد بالبعد المعرفي هنا أن إشكالية الإطلاق والتقييد تتعلّق بكيفية التعرف على الله لا الإيمان بالله. لا يمكن أن نعرف الله في ذاته كما لا يمكن أن نرى الشمس في ذاتها، كما لا يمكن أن نرى النور في أصله، نحتاج وسائط نرى من خلالها ذات الله والشمس والنور، والنور والشمس هما من أكثر المجازات اشتغالاً في خطاب ابن عربي عن الله والعالم، وهما يشتغلان في خطابه لأنه لا يمكن أن يتحدّث عن ذات الله حديثاً مباشراً، لا بدّ أن يعرفه من خلال وسائط تجلياته وفتوحات عبارته. لا يمكننا معرفة الله في ذاته، بل نعرفه عبر ظواهره، وظواهره هي صوره المتجلّية في العالم.
المشكلة ليست لغوية ولا عقائدية، إنما هي مشكلة معرفية (83) كما قلنا. فنحن لا نعرف الأشياء إلا عبر أشياء أخرى، والأشياء في العالم متّصلة وتحيل بعضها على بعض في وحدة الوجود، وهي كالمرايا التي تُظهر صور الذات لكنها لا تُظهر الذات الحقيقية في نفسها، بل تُظهرها متصلة في أشياء أخرى "ما في الوجود شيء أصلاً لا يكون بينه وبين شيء آخر ارتباط أصلاً حتى بين الرب والمربوب" (84)
تحيلُ مفاهيم الارتباط والتعلق والطلب الأشياء في العالم وحدةً واحدةً، جامعها الله، وهذه الوحدة هي صوره التي تقيّده في ظهورات معينة، والله هو حقيقتها التي لا نعرفها إلا عبر الصور.
يريد الصوفي أن يرى بقلبه ويشاهد به، وهولا يشاهد ولا يرى إلا صوراً لا غير، مهما تجرّد من المحسوسات، لأنه يرى صورها أو يرى الله في صورها. لا يقف عند صورة، لكنه لا ينتقل من الصور، إنما هو ينتقل من تجلٍّ إلى تجلٍّ آخر، لا يستطيع أن يرى الله من غير تجلّي صوره، لذلك لا يقول ابن عربي بالتجلّي الذاتي، فالذات لا تتجلّى بذاتها لأي أحد، فهي تتجلى عبر صور.
تتعلّق المشكلة بطريق المعرفة (85)، والطريق مشكلة الصوفي دائماً، فهو دائم البحث عن طريق يوصله إلى الله. لكن هذا لا يعني أن هذه المشكلة المعرفية لا مشكل عقائدي معها. لكنه ليس الأصل في المشكلة، وإن تحوّل أصلاً في الاعتراض على نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي، لقد عثر ابن عربي على طريقه إلى الله في الصور، صور العالم وكائناته. فكيف سيحلّ مشكلته مع هذا الطريق ؟
لا يتجلّى الله في صورة واحدة، ليس هناك صورة تقيّده، ولا صورة تستغرقه، هناك طريق فائض بالصور المتجلّية، لا حد لتجلّياته ولا ترادف فيه، وهذا ما يجعل تعيّنات الله في الصور لا تتكرر ولا تترادف "وصور العالم لا تنضبط ولا يُحاط بها، ولا تُعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته. فلذلك يُجهل حدُّ الحق، فإنه لا يُعلم حدّه إلا بعلم حدّ كل صورة، وهذا محال حصوله، فحد الحق محال" (86)
يتعالى الله هنا على كل صورة، ولا يمكن لأحد أن يستوعب حدود هذه الصور اللا متناهية التي هي تجلّيات للحق لا نهائية. الله هو المحيط بالصور وهي في قبضته واحتوائه، على الرغم من أن هذه الصور تمكّننا من رؤية الله، إلا أننا لا نستطيع أن نحُدّه، فهي صور ترينا الله من زوايا معيّنة، لا من كل الزوايا، وهذه الصورة الكثيرة لا وجه شبه بينها وبين الله، فالله لم يتجلّى فيها لأنها تشبهه كما هو الأمر في إشكالية التشبيه عند المتكلمين، بل تجلّى فيها لأنها مخلوقاتها وتكويناته فهو من وهبها الوجود برحمته وهو من وهبها الروح.
يظهر الله في الصور باسم من أسمائه، يفتح غيبها على العالم فتظهر. ليست الصورة هنا شكلاً محدد القسمات، بل هي أثر من آثار قوة تكوينه للعالم، أو أثر من آثار أفعاله في العالم، ويسمّي ابن عربي هذا الأثر روح الصور التي في العالم "فإن للحق في كل خلق ظهوراً: فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلا فهم من قال إن العالم صورته وهويته: وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن. فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة" (87)
إن هذه الروح التي هي ظهور الله في العالم وصوره، تمثّل الأسباب والعلل أو الأسماء الإلهية التي تدلّ على أن الله متعيّن في خلقه وحاضر معهم لكنه غير محاط بهم، يمكنهم أن يروه متجلياً في أنفسهم وصورهم، لكنهم لن يروا ذاته، بل سيرون تجلياته التي لا تنفد. بالنسبةِ لعقولنا المحدودة، جعل الله لنا هذه الصور لنعرفه، فهي بمثابة الحدّ الذي يناسب حدود علمنا "فالحق محدود بكل حد" (88) المحدود هنا بمعنى معلوم، فكل صورة تجعل الله معلوماً من وجهٍ لأفهامنا، أي تجعله ممكن الإدراك والتعرف والتعيّن، لكن الله في ظهور لا يقف عند صورة أو حدّ أو علم فهو دائم التجلي، وبقدر اتساع قلبك تعرف الله، وحين تقف عند صورة ما ولا تستطيع أن تتجاوزها، فأنت تكشف عن حدود طاقة معرفتك وعلمك وليس عن حدود الله . ومحالٌ للإنسان أن يدرك صور الله كلّها ، فهي من الكثرة التي يستحيل معها تحديد، من هنا فالصور لا نهائية وإن بدت أنها تحدّ الله ، فإن إدراكنا في الحقيقة هو الذي يحدّه (89)، لذلك فالفتوح التي تحصل للعارف توسّع قلبه، فيتوسّع إدراكه فتتكثّر كشوفه ومشاهداته فلا يقف.
يعتبر ابن عربي أن التنزيه هو في نفسه أيضاً تحديد وتقييد "اعلم أيدك الله بروح منه أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد" (90) ينتقد ابن عربي هذا التنزيه المطلق، الذي يقف على الجهة المضادّة من التشبيه. إن هذا التنزيه يُطلق الله من كل تشبيه إطلاقاً، وكأنه يطلق عليه حكماً، والحكم تقييد وتحديد للمحكوم عليه. أما المعنى الذي يرتضيه ابن عربي للتنزيه فهو التعالي عن إحاطته بأي وصف "الله مُنزّه بمعنى أنه إذا نظر إليه من ناحية ذاته فهو يتعالى عن كل وصف وكل حدّ وتقييد" (91) لكن هذا التعالي لا يمنع تجلياته من أن تتعين في صور تشبه ما نعرفه "ولكن الله من ناحية أخرى مشبه، وذلك إذا نظرنا إليه من حيث تعيّنات ذاته في صور الوجود" (92)
يفسّر ابن عربي معنى (جوامع الكلم ) التي تميّز بها النبي محمد، بأنها الجمع بين التشبيه والتنزيه (94) في دعوته، كما أنه يُرجع المعنى اللغوي لـ (الجمع)، الذي هو أحد معاني القرآن، إلى الجمع بين التشبيه والتنزيل (93) . وفي السياق نفسه، يفسّر دعوة نوح ليلاً ونهاراً بأنها دعوة قد تمّت مرة بالتشبيه ومرة بالتنزيه، وهذا السبب هو الذي جعلهم لم يستجيبوا له، ولكن (جوامع الكلم) عند النبي محمد، جعلته يزاوج بين الاثنين ويداخلهما فتحقّق دعوته الجمع في الوقت نفسه بين التشبيه والتنزيه "فما دعا محمد صلى الله عليه وسلم قومه ليلاً ونهاراً، بل دعاهم ليلاً في نهار ونهاراً في ليل" (95)
إن ثنائية الظاهر والباطن التي تخترق مجمل نظرية ابن عربي، تفترض المزاوجة بين الأمرين، فالظاهر هو التشبيه الذي يظهر فيه الله سمع الإنسان وبصره، والباطن هو التنزيه الذي يكون فيه الله مستغنٍ عن العالمين، ويجعل ابن عربي من الباطن روحاً ومن الظاهر جسداً، ولا يقوم أحدهما دون الآخر في العالم "فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبرة لصورة جسدك" (96) يطلّب العالم - بما هو صورةٌ جسمية للألوهية- الحياة َبما هي روح تعطيها له الألوهية كي يظهر، ويكون بهذا الظهور شاهداً على الله ، فنرى فيه الله، لكن الله ليس محتاجاً له ولا فقيراً إليه، بل هو مستغن عنه، وفي مقابل هذا الاستغناء يحتاج العالم إلى الله ليظهره. ويؤول ابن عربي آية "ليس كمثله شيء" تأويلات كثيرة مبثوثة في فصوصه وفتوحاته، وهي تأويلات تجمع بين والتشبيه والتنزيه أو التقيد والإطلاق (97)
وتتّصل هذه التأويلات بالإنسان بوصفه المَثَل الذي خلقه الله على صورته وهو الكائن الأكثر دلالة على التشبيه والتقييد، وذلك لما تجمّعت فيه من الأسماء الإلهية وآثارها، حتى صار سمع الله وبصره. الإنسان هو الصورة الأكثر ابتلاء بالتشبيه، أو الصورة التي يظهر الله فيها مشبّهاً أو مبتلى بالتشبيه.
التشبيه بهذا المعنى الذي يستخدمه ابن عربي (98) - وليس بالمعنى الذي يبحث عن وجه شبهٍ - نسبة، نسبة من نسب الحق تتعلّق بالخلق، وعبر هذه النسبة يكون الله في الخلق معهم في وحدة وجودية، يكون الخلق فيها مضافاً إليه، وعبر هذه النسبة يمتد الله بأسمائه لا بذاته في العالم، فيسري فيه ويتخلّله ويتعيّن فيه، كل ذلك عبر ألوهيته، أما ذاته فهي في تنزّهها في الغيب، لا تتجلّى للخلق.
عبر النسبة يكون الله معلوماً من جهة النسبة التي يظهر فيها، وهي نسبة تتحقّق في نفوسنا (من عرف نفسه عرف ربه) فالله متعينٌ فينا فهو معنا لا يغادرنا طرفة عين "اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام... ونعني بعين الله تعالى ما يتعين سبحانه وتعالى فيه، وهو العالم بمجموعه" (99) ليس مجاز الحدقة هنا يعني أن هناك وجهاً من وجوه الشبه بين حدقة عين الله وحدقة عين الإنسان، بل يعني أننا نفهم الألوهية من تعيّناتنا المحدودة والمألوفة، نراها من حدقتنا النسبيّة، فالمجاز هو الصورة التي نجتاز من خلالها إلى الله لمعرفته ورؤيته من دون أن يعني أن هذه الصورة تشبه الله.
إن الصورة لا تكشف وجه شبه بل تكشف ظهوراً وحضوراً من نسبةٍ ما. والله حاضر وظاهر في العالم بنزول أسمائه الإلهية إلى العالم، لقد أنزلها مع آدم حين علّمه هذه الأسماء وصارت صور الألوهية تتعيّن في الخلق بهذه الأسماء. إن حركة الحبّ من جانب هذه الأسماء دفعتها إلى الانتساب إلى العالم، وفتح جزء من غيبها على العالم، فظهر لنا جزءاً من باطنه وأرواحنا كائنة من حركة هذا الظهور.
من هنا فالتشبيه بما هو نسبةُ هو فتحٌ، فتح شيء من الغيب للظهور، تفتّح الصور هو ظهورها لنا في العالم. لا نملك اسماً يفتح ذات الله، لكننا نملك أسماء تفتح فيناً صوراً من ألوهيته، وبقدر استعدادنا تتفتّح فينا هذه الصور فتوح عبارة ومكاشفة وحلاوة. كذلك تفتح كتابة ابن عربي في وحدة الوجود بمجازات التخلّل والسريان والحلاوة والّلذة والحب والحركة والمكاشفة والفتح، فلا يمكن لخطابه أن يرفع حجب الألوهية من دون هذه الصور التي تتجلّى فيها، والكتابة هي كشف حجبٍ وإظهار وتبيين، فتحتاج هي أيضاً إلى نسب، وهي الصور التي يمكنها أن تنتسب إليها في رؤيتها للحقيقة. وخطاب ابن عربي ينتسب لهذه المجازات في رؤيته للحق، وهي تشكّل ظاهر خطابه الذي يحيلنا إلى باطنه الذي لا يمكن بلوغه إلا عبر هذه المجازات. إنها الدليل عليه، كما نحن بصورنا والعالم بصوره دليل على الله. دليل يفتحنا على الغيب لنعرف جانباً من جوانبه، ومتى فقدنا صورنا فقدنا دليلنا على الغيب، فتمتنع رؤيته في أنفسنا، فالدّليل كما يقول ابن عربي دليل نفسه( )، والصور دليلنا، دليل لأنفسنا.

25- لا نستخدم صفة الخلاق هنا بالمعنى الذي استخدمه هنري كوربان، متبنين إلى حد ما الملحوظة النقدية التي أثارها محمد مفتاح، فقد أثار (مفتاح) سؤالاً نقديا على مقاربة هنري كوربان للخيال عند ابن عربي: هل يصح أن يوصف تصور ابن عربي للخيال بأنه هو تصور أصحاب الخيال الخلاق؟ ويذهب في إجابته إلى أن المؤلف كان يعيش في جو ثقافي ظاهراتي يقول بالانكشاف وتجلي الشيء لنفسه بنفسه والوعي والقصدية وغيرها من مفاهيم المذهب الظاهراتي مع اندماج كل هذا مع عقيدة المؤلف المسيحية، فوقع تحت هيمنة ثقافة عصره وعقيدته فأغفل الأصول التأريخية الأمر الذي جعل مفهومه للخيال الخلاق عند ابن عربي قابلاً للنقد أو مرفوضا. إن مفهوم الخيال الحديث أفسح المجال لمركزية الذات ومركزية الذهن فانتقل المركز من الله والواقع إلى الذات الإنسانية، أي أن الإنسان صار قادراً على خلق الكينونات، وقد ارتبط هذا المفهوم للخيال عند (كانت) والمثاليين الألمان مثل فخته وشيلينغ بالحرية.
يذهب (مفتاح) إلى أن صفة (الخلاق) التي وضعها هنري كوربان صفة للخيال عند ابن عربي لا تناسب هذه الأجواء الثقافية وسياقها التاريخي الذي تولدت فيه فكرة الخيال الخلاق، فالخيال عند ابن عربي ليس قوة خالقة مستقلة وإنما هو مرآة عاكسة لتجليات الأسماء الحسنى المتعددة والمتجددة التي تؤدي إلى تعدد الكائنات وتجددها، ولكن هذا التعدد يؤول إلى الوحدة. أن الخيال عند ابن عربي مرآة أو مرايا صقيلة كما يتجلى في إلحاحه على استعارة المرآة وعلى استعمال مفهوم التجلي الذي هو في علاقة مع المرآة. انظر: محمد مفتاح، مشكاة المفاهيم، ص21-27.

50- تشير آنا ماري شيمل إلى أن الحلم يمنح رؤية أوضح "أما المسلمون فكانوا (وما يزالون) ينظرون إلى الأحلام على اعتبارها أمراً يمنح رؤية أوضح من تلك التي يتسنّى للمرء إدراكها من خلال نظرته إلى الواقع"ص18. ولنتذكر أن الصوفي يعتبر الرؤية عطية من الله يفتح به قلبه ومعرفته، لذلك تربط شيمل فعل الحلم بالعطية والهبة "وهنا لنا أن نتساءل عن المعنى الدلالي للفعل (حلم)، فهل معناه أن الإنسان هو الفاعل الحقيقي لحدث (الحلم)؟ أم أن هناك فاعلاً آخر هو الذي يمنحه هذا (الحلم) ليوجه له من خلاله رسالة ما؟ وعلى هذا فإنني أرى أن التعبير الألماني القديم (وُهبت حلماً) الذي نعرفه من خلال نشيد عيد الميلاد:اضطجعتُ فكان المنام فوهبت أجمل الأحلام، أوقع واصدق بكثير من أن يقول الإنسان (حَلمتُ)" أنا ماري شيمل، أحلام الخليفة، ص20.

93 - "إن الأشعرية يدرجون عند مؤرخي الفرق الكلامية, في مسألة الصفات, ضمن ( الصفاتية) ـ أي أولئك الذين يقولون بوجود الصفات الإلهية وإثباتها على نحو يفيد الإضافة والزيادة إلى الذات في حين أن الأشاعرة أنفسهم ينعتون قولهم في الصفات بكونه طريق (الاقتصاد في الاعتقاد). والاقتصاد، عندهم هو التوسط في القول بين ما يرونه من المعتزلة (إفراطاً) في التنزيه وفي تعرية الذات الإلهية من الصفات مما يحمل على التزام القول بـ(التعطيل)، وما يعدونه عند الحنابلة ( تفريطاً) وجموداً يجر أصحابه إلى القول بالتشبيه والتجسيم" سعيد بنسعيد العلوي، الخطاب الأشعري، ص90. يمضي ابن عربي بالخطاب الأشعري من التوسط في القول في الصفات إلى الوسيطية، أي يجعل الصفات في عوالمه الوسيطة التي يضع فيها الخلق والخالق في وحدة وجود، وبدلاً من مقولة الأشعرية (الاقتصاد في الاعتقاد) يضع مقولة (الجعل في الاعتقاد)، "فالإله في الاعتقادات بالجعل" ابن عربي، فصوص الحكم، فص كلمة هودية، ص113

97- انظر: ابن عربي، فصوص الحكم، فص كلمة نوحية، ص70،71. والفتوحات، ج3، ص257، ص260. ربما تكون تأويلاته المتعددة لهذه الآية محاولة للتوفيق بين إله وحدة الوجود وإله أهل السنة والجماعة، وهي المحاولة التي يعتبرها (عفيفي) فاشلة في خطاب ابن عربي"لكن ابن عربي لَم يكن يفعل هذا على الدوام. فهو يحاول أحيانا التوفيق بين الفكرتيْن المختلفتيْن عن الله : فكرة أصحاب وحدة الوجود وفكرة المؤلِّهة، وهو ما يفشل فيه في النهاية تماما. فكيف يمكن التوفيق بين فكرة إله "ليس كمثله شيء" وفكرة إله وحدة الوجود الذي هو موجود في كل مكان في كل شيء" أبوالعلا عفيفي، الفلسفة الصوفية عند ابن عربي، ص104.