شموئيل موريه

العرب والمسرح من الجاهلية وإلى القرن الـ19 شموئيل موريه: عندما بدأ المستشرقون الأوربيون وعلى رأسهم المستشرقون الألمان دراسة نشوء المسرح في الإسلام، توصلوا إلى نتيجة إلى أن العرب عرفت تمثيليات خيال الظل (2) ومسرح الدمى ولم يمارسوا التمثيل البشري سوى في تمثيليات التعزية الشيعية ومن هؤلاء هـ. رايخ وجورج ياكوب وجـ. هوروفيتس وبروفر. وردد أراءهم دون تمحيص كل من د. إبراهيم حمادة ود. محمد عزيزة ومحمد عزيزة ومحمد عنبر وعمر الدسوقي وتوفيق الحكيم وغيرهم، وقد أنكر هؤلاء وجود مسرح بشري محتجين بعدم وجود تمثيليات مخطوطة من القرون الوسطى. أما القسم الثاني من الباحثين فقد قالوا بوجود تمثيليات عربية في القرون الوسطى لم تدون لان اغلبها كانت باللغة العامية، وهي مسرحيات مرتجلة. ومن هؤلاء الباحثين البروفيسور يعقوب لاندو ومحمد كمال الدين ومحمد حسين الاعرجي وعلي عقلة عرسان وعمر الطالب ود. نادية رءوف فرج وغيرهم. ولعل د. يوسف إدريس القصصي والروائي والكاتب المسرحي المصري الكبير هو من أعظم الباحثين المصريين بل العرب كافة من الذين كتبوا عن المسرح العربي عامة والمسرح المصري خاصة وأعمقهم في فهم المسرح الشعبي المصري وبلور خلاصة ملاحظاته القيمة وقراءاته الواسعة عن المسرح العالمي والشعبي في مقدمته الرائعة لمسرحيته "الفرافير" (الطبعة السابعة: القاهرة، 1988، الطبعة الأولى: 1964)، وأكد على وجود مسرح مصري بقوله: "إنه متى وجد شعب ما فلا بد أن يخلق هذا الشعب فنونا، كافة ألوان وأشكال الفنون، فنونا متميزة عن فنون الشعوب <الـ>أخرى ومختلفة اختلاف الحياة عند هذا الشعب وعند ذاك، نستطيع أن نقول إن هناك مسرحا مصريا كائنا في حياتنا وموجودا، ولكننا لا نراه لأننا نريد أن نراه مشابها ومماثلا للمسرح الإغريقي والأوروبي الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعرّبناه ونسجنا على منواله من أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم". ورأى عن حق أن مسرح "السامر" (3) هو "الشكل المسرحي الذي تبلور لدى الغالبية العظمى من جماهير شعبنا في الريف والمدن". (4) و في بحثه عن المسرح العربي قال إنه يشعر بحدسه أن العرب عرفت المسرح البشري ولكنه لم يستطع مثله مثل باقي الباحثين تقديم الأدلة الدامغة على قيام مثل هذا المسرح إلى جانب "السامر" الذي لا يعرف أصله. ونحن نرى أن حضارة زاهرة مثل الحضارة العربية التي هضمت الحضارات الفارسية والبيزنطية وغيرها من الحضارات التي ازدهر فيها التمثيل لا بد وأنها سمحت بمواصلة التمثيل البشري، على الأقل في الأماكن الشعبية مثل الأسواق والحانات التي يتعاطى فيها الرواد الخمور وتدخين الحشيش. وقد لاحظت أثناء دراستي لمسرح يعقوب صنوع (1831-1912) (5) انه يذكر في مسرحيته "موليير مصر وما يقاسيه" (بيروت، 1912) بأن بين اللاعبين ممثل شعبي يقوم بدور الخلبوص (الراقص والممثل الهزلي) – ففي مسرحيته هذه يقول صنوع بأنه لا يخشى من إضراب ممثليه عن التمثيل لأنه يستطيع أن يأتي بدلهم بـ "عشرين لعيب من أولاد البلد اللطاف". ومن الجدير بالملاحظة أن مصطلح "أولاد البلد اللطاف"، وكلمة "ظراف" وردت في بعض النصوص العربية القديمة والحديثة كصفة للممثلين الشعبيين، على أقل تقدير، منذ على ابن مولاهم الخيالي مؤلف مسرحية "المقامة المختصرة في الخمسين مرة" التي أكتشفها البروفيسور يوسف سدان، (6) معاصر مؤلف بابات خيال الظل محمد ابن دانيال الموصلي (توفي في القاهرة، 1311)، (7) وعبد الرحمن الجبرتي (ت 1825) في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" (1688-1821) ويعقوب صنوع (توفي في باريس 1912) في مسرحيته "موليير مصر وما يقاسيه".
وإذا عرفنا المسرح البشري بأنه المسرح الذي يقوم فيه ممثلون بإعادة تمثيل واقعة أو حادثة حقيقية أو خيالية عن طريق الحوار والحركات والملابس الملائمة واستحضار الماضي في الحاضر أمام المتفرجين إلى جانب مسرح خيال الظل والدمى والتعزية، فسنجد أن الباحثين انقسموا إزاء ذلك إلى قسمين: قسم يُنكر وجود مسرح بشري عند العرب ويدعي وجود مسرح خيال الظل ومسرح الدمى فقط بدعوى أن الإسلام ينهى عن المزاح والمحاكاة وان العرب كانوا بدوًا رحلا وان المسرح لا يقوم على ظهور الجمال وإنما يحتاج إلى بناء ثابت كالمسرح اليوناني. هذا بالإضافة إلى أن الإسلام يحرم الصراع العبثي بين المخلوق والخالق والتمرد على القضاء والقدر، وهو موضوع يدور حوله الصراع الدرامي في المسرح اليوناني والأوروبي.

أما المستشرق الانكليزي وليم لين فقد ذكر في كتابه Manners and Customs of the Modern Egyptians فيحدثنا عن تمثيلية موسمية تعرض في موسم وفاء النيل عندما يبلغ فيضانه أوجه (في شهر أكتوبر الموافق لشهر مسرى القبطي من كل سنة، وذلك قبل بناء السد العالي)، ويتمثل في الحفل المعروف بكسر السد أو الخليج، يمثل في الحقيقة حفل زواج رمزي بين النيل (الذكر) وأرض مصر (الأنثى) يقوم بعملية إفتضاض السد المكون من حاجز ترابي، ضابط مصري ينقضّ بقاربه على الحاجز الترابي ويهوي مع شلال المياه إلى قناة الخليج مع انطلاق الزغاريد بمشاركة رقص الراقصات أو العوالم والخلابيص وعزف الموسيقيين وغناء المغنين وإطلاق الشنك والصواريخ والبنادق ونثر الباشا لنقوط الذهب عند كسر الخليج، محاكيا حفل الزفاف في الأعراس وتفاصيله عندما يدخل العريس على عروسه (8).

أما التمثيل المسرحي الثاني الذي يذكره المستشرق البريطاني إدوارد لين فهو أن بعض الممثلين المعروفين بالمحبظين قاموا بعرض تمثيلية أمام محمد علي باشا عام 1834 كان الغرض منها لفت نظر الباشا إلى استفحال ظاهرة الرشوة في المجتمع المصري. وإبطال هذه المسرحية هم الناظر والكاتب القبطي والفلاح وزوجته وشيخ البلد وخادمه وجميعهم يستغلون الفلاح بسبب ديونه. وبعد حبس الفلاح تذهب زوجته لرشوة الناظر وشيخ البلد لفك زوجها من سجنه. أما الجبرتي المؤرخ المصري فيذكر أن المحبظين من الممثلين كان لطائفتهم شيخ وكانوا في القرن السادس عشر يمثلون في الأعراس والموالد وفي القصور والأسواق مؤكدا ما ذكره إدوارد لين.
واعتمادا على هذه الحقائق التي تؤكد وجود مسرح عربي قبل احتكاك العرب بالمسرح الأوربي في البلاد العربية، فقد عقدتُ العزم على بحث موضوع الممثلين المحبظين وغيرهم في التراث العربي في القرون الوسطى ونشرت خلاصة بحثي فيما بعد في كتابي Live Theater and Dramatic Literature in the Medieval Arab World الذي صدر عام 1992 عن مطبعة جامعة ادنبره وجامعة نيويورك (9).

تطور المسرح العربي في القرون الوسطى:

إن خلاصة ما توصلت إليه في كتابي هذا هو أن العرب في فجر الإسلام عرفوا المضحكين أمثال النعمان، وهو المعروف بمضحك النبي محمد، وكان لعائشة امرأة تضحكها وتقلد النساء تدعى "سويداء"، أما الحكم بن أبي العاص فقد كان يدعى بالحاكي "لأنه كان يحكي مشية رسول الله" حسب رواية الجاحظ (ت868) في "البيان والتبين". وقد جاء في الحديث النبوي أن لاعباً من المهاجرين كان يلعب بالكرّج (وهو فرس العود الذي كان يلعب به المخنثون في الجاهلية والإسلام) كَسَحَ رجلاً من الأنصار فتداعى الأنصار بدعوى الجاهلية فزجرهم النبي محمد. وفي ديوان جرير إشارة إلى المخنثين اللاعبين بالكرج فحين يهزأ جرير من الفرزدق يشبهه بلاعب كرج:

أمسى الفرزدق في جلاجل كرّج بعد الاخيطل زوجة لجرير

وفي نقيضه أخرى يسخر فيها جرير من الفرزدق واصفا إياه بأنه يبدو بملابسه كلاعب كرّج وعليه جلاجل وله سبال قرد (أي أن شاربيه يشبهان شاربي القرد). ويقول شراح النقائض بان الممثلين (المخنثين) كانوا يلعبون لعبة الكرّج ويحاكون كرّ وفر الفرسان في الحروب وغير ذلك من المحاكاة. كان التمثيل في فجر الإسلام يعرف باللعب أو المحاكاة أي تقليد الآخرين. غير أن هذا المصطلح تغير في القرن التاسع الميلادي وأصبح يعرف بالخيال وأطلق مصطلح "الخيالي" على الممثل بعد أن كان يدعى بالمخنث أو اللاعب أو الحاكية. وعندما وصل التمثيل الظلي من الشرق الأقصى أي الصين والهند إلى العالم الإسلامي أطلق عليه العرب مصطلح "خيال الظل"، أي التمثيل الذي تقوم به دمى من جلد جمل شفاف ملون يقوم اللاعب أو الخيالي بوضعها على شاشة بيضاء ينعكس عليها ظل الشخوص الجلدية من فانوس أو مصباح على الشاشة ويقوم المخايل بتحريك أطرافها وبإجراء الحوار بين الدمى.

وهكذا نرى أن التمثيل البشري عند العرب، أي الخيال، سبق التمثيل بالدمى أي خيال الظل. ولا نجد في الأدب العربي سوى فقرات قصيرة يلخص فيها بعض المؤلفين مضمون التمثيليات التي شاهدوها. ففي زمن الخليفة العباسي المهدي (755-785) كان احد الصوفية يقوم بتمثيل محاكمة خيالية للخلفاء المسلمين من أبي بكر والى الخليفة المهدي في سبيل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر":

وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الاثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة. فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلاً وينادي بأعلى صوته: "ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم، قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فاخذ غلام فاجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراُ يا أبا بكر عن الرعية فقد عدلت... اذهبوا به إلى أعلى عليين... ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس فسكت. فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين، قال بلغ أمرنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً.

أما التمثيليات الموسمية فأشهرها موكب أمير النيروز في يوم النيروز في مصر والعراق في القرون الوسطى الذي كان يمثل العام المنصرم الهرم ثم طرده. يركب هذا الأمير على حمار دميم أعرج ليجبي الضرائب وبيده دفتر يقيدها فيه وحوله لابسو الأقنعة وراكبو الكرّج ولاعبو الخيال، وهي تمثيلية معروفة عند أمم عديدة تمثل حكم أمير ليوم واحد في جمع الضرائب وإنفاقها على حاشيته من اللاعبين في مهرجان تهتكي يشاركه فيه جماهير الشعب الغفيرة محتفلة بذهاب الشتاء بأمراضه وآفاته وقدوم الربيع والدفء. وفي كتاب الأغاني إشارة واضحة إلى أن بعض التمثيليات الهزلية كانت تدون وتقدم إلى الممثلين الزفانين والراقصين لإخراجها، مثل التمثيلية التي كتبها عـُلـّوَية المغني يسخر فيها من صلافة وكبر القاضي الخلنجي أيام الخليفة العباسي الأمين (809-813) وقدمها للزفانين أي الممثلين الراقصين "ليخرجوه فيها"، أي ليقوموا بتمثيل حاكيته، كما يقول مؤلف الأغاني.

ومعظم هذه التمثيليات كانت تمثيليات هزلية باللهجة العامية وإشارات مستهجنة وألفاظ فاحشة تسخر من رجال الدين والحكام والقضاة خاصة، فابن الحاج العبدري الفاسي (1336) في كتابه "المدخل" أو "مدخل الشرع الشريف"، يذكر كيف أن المخايلين كانوا يلبسون ثياب القاضي بطول أكمامها وكبر العمامة ويرقصون بها أي يمثلون أثناء رقصهم ويذكرون فواحش عليها، وقد قام بديع الزمان الهمذاني (968-1007) بإعادة صياغة هذه التمثيليات باللغة الفصحى ومحاكاة حوارها في مقاماته بأسلوبه المبتكر المسجوع المزخرف. ونحن نرى ان المقامة هي تقليد لحوار التمثيليات الهزلية المشهورة في العالم العربي. إذ نجد أن بعض هذه المسرحيات الهزلية الواردة في "نثر الدرّ" للأبي أعيدت صياغتها في "حكاية أبي القاسم البغدادي" لأبي المطهر الازدي (10) وفي مقامات الهمذاني وبابات ابن محمد ابن دانيال (ت 1310)، مما يدل على تأثير هذه التمثيليات الهزلية على صياغة الحوار في المقامات.

ومن المرجح أن تكون "حكاية أبي القاسم البغدادي" لأبي المطهر الازدي تمثيلية تتيح لمن يريد تمثيلها الارتجال، وذلك لان هذه الحكاية (بمعنى المحاكاة) تحتوي على حوار بين الشخصيات المختلفة، وبالإضافة إلى ذلك يقول المؤلف أبو المطهر بان هذه الحكاية تستغرق يوما كاملا أي نهارا وليلة (هذا هو طول المسرحيات اليونانية عند أرسطو)، ثم يضيف بان هذه الحكاية هي مثل حاكية الجاحظ في كتابه "البيان والتبين". فالحاكية يحاكي كلام الفأفاء وحركات الأعمى وأصوات الحمير والطيور. ويقدم المؤلف إرشادات للممثل ويقترح عليه ما يقول في مناسبات مختلفة، فإذا حدثه إنسان ذو مهنة ما أو قدم له طعام ما، يقترح عليه أن يقول كذا وكذا من الكلام المناسب.

أهمية المؤلفات اليهودية باللغة العربية لفهم التمثيل المسرحي عند العرب في القرون الوسطى:

وإذا كان المؤلفون العرب يذكرون هذه التمثيليات بصورة مقتضبة وعابرة فان المؤلفين اليهود الذين كتبوا باللغة العربية وبحروف عبرية، أسهبوا بعض الشيء في وصفها. فالعالم الديني موسى بن ميمون الأندلسي (1135-1204) الذي أصبح بعد هجرته إلى مصر طبيبا في البلاط الأيوبي يصف آلة الكرّج في كتابه "مشنيه تورا" بأنها "فرس العود يركب عليه الملهيين (!) يلعبون به في الخيال وهو مشهور عند أهل اللعب".

وفي فصل أخر يذكر موسى بن ميمون مصطلحا أخر لأهل اللعب مرادفا له وهو الزمرة والخيالين (!) فيقول: "فرس العود الذي يلعب به الزمرة وهو مشهور عند أهل اللعب والخيالين (!)". أما داود بن أبراهام الفاسي فيعرف في كتابه "جامع الألفاظ" (الذي كتبه باللغة العربية وبحروف عبرية) اللاعب في عصره بأنه "المتلاهي المتميمس (من اليونانية: mimos) الذي يرمي الشرار والسهام وسائر آلات الموت". وبالإضافة إلى ذلك فان موسى بن ميمون (11) يتحدث أيضا عن وجود ممثلات فهو يعرفهن بقوله: "????? ???? "، وهي التي تخرج الوجوه والألعاب، فهي تلبس هذه الثوب المشوه الذي لا يصلح للباس ليضحك منها. وكثيرا ما يفعل الخيالون (!) ذلك. ثم يضيف في مكان أخر معنى كلمة ???? أي الشبكة التي تلبسه الممثلة فيقول: "والغرض أن تكون هذه (السيباخا) للعب في الخيال".
ولعل "الثوب المشوه" الذي ذكره ابن ميمون هو القميص الذي يصفه الشاعر العادلي الطوسى (ت حوالي 1256) حين يقول يصف جارية مخيلة [الطويل]:

مخيلة مثـل الخيال إذا سـرى متى ما ترد اتمامة منه ينقص
عليها قميص يطلع البدر طوقه عـلاه ظلام بالنجوم مفصص
فحـورية إنسـية حين تجتـلي وجنية من خـفة حين ترقص
التمثيل العربي في الأندلس

وتعريف موسى بن ميمون لمصطلح ????? ???? (أي المرأة الخارجة): "بأنها التي تخرج الوجوه والألعاب..." يلقى ضوءا على مصطلح غامض ذكره ابن شهيد في كتابه "رسالة التوابع والزوابع" حيث يطلق على الممثلات مصطلح "خراجيات الخانات" وكلمة "خراجيات" غير واضحة في المخطوطة التي اعتمد عليها د. إحسان عباس في تحقيقه لكتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لابن بسام (ت 1147)، ويرى انه يطلق على المومسات اللواتي يسكن الخانات ويدفعن الخراج. ولكن الخراج يدفع على الارض لا على "المهن". لذلك فإننا نرى أن هذا المصطلح قريب من "المرأة الخارجة" الذي وظفه ابن ميمون، ولعل الصواب هو "خارجات الخانات" وهن اللواتي "يخرجن الوجوه" (أي أقنعة التمثيل) والألعاب التمثيلية في خانات المسافرين وفيها يقوم بعض النزلاء بشرب الخمر وتدخين الحشيش. فابن شهيد في معرض رسالته في حديثه عن ابن الافليلي الكاتب يقول إن أبن الإفليلي كان من الكتاب والمعلمين القلائل الذين لم ترو قصائدهم ورسائلهم في الأندلس، فقد كان من البخل بحيث لا يحاول رشوة تلامذة المساجد ولا "خارجات الخانات" ليروين قصائده ورسائله قرب "المياه الاسنة ومطارح الزبول"، مما يمكنا من الاستنتاج أنه كان لأغنياء الكتاب من المغنيات والراقصات اللواتي كن يقمن بتمثيل رسائلهم في الرياض الغناء وقرب الجداول الصافية بضفافها ذات الخضرة الكاسية، ولذا فهو يقوم بنفسه بعرض تمثيليته "لعبة اليهودي": "وحكوا انه إذا تقدم قليلا ورجع القهقري والعصا بيده والخرج على عاتقه كان أحذق الناس في إخراج لعبة اليهودي". ونحن نرى أن "رسالة التوابع والزوابع" لابن شهيد هي مسرحية تمثيلية سنحاول في مناسبة أخرى مناقشتها وإظهار عناصرها التمثيلية والبرهنة على أنها لم تكتب للمطالعة فقط. وذلك بدليل أن الجواري المغنيات في الأندلس كن يقمن باللعب بالكرّج والإخراج في الخيال ورواية الرسائل وغناء الموشحات حسبما ذكر احمد التيفاشي مما يؤيد قول ابن شهيد في سخريته من ابن الافليلي بان خراجيات الخانات يقمن برواية الرسائل أي تمثيلها.
وبالإضافة على ذلك فإننا نجد في احد الأزجال التي نظمها ابن قزمان (ت1160) إشارة إلى فرقة تمثيلية تقوم بتمثيل مسرحي إيماني مثل بكاء يعقوب على ابنه يوسف وغير ذلك من العروض المسرحية.
أما دي الكالا في Pedro de Alcalaa, Vocabulista aravigo en lietra castellana, Granada, 1505; فيعكس تأثير المسرح العربي الأندلسي على الاسباني ومصطلحاته، مثل "الممثل أو لعاب الخيال"، وأما رئيس الممثلين فهو "كبير لعاب الخيال"، والشاعر هو الذي "يمثل الملهاة والمأساة"، واللعاب هو "المحاكي"، المسخرة، واللعب للمسرح (انظر موريه، المصدر السابق).

المقامة والمسرح

لقد عثر البروفسور يوسف سدان أستاذ الأدب العربي القديم في جامعة تل- أبيب على مخطوطة "المقامة المختصرة في الخمسين مرة" لمحمد بن مولاهم الخيالي. ولعل محمداً هذا هو من أقرباء علي بن مولاهم الخيالي الذي كتب إلى محمد بن دانيال رسالة يطلب فيها منه تأليف بابات الخيال لان التمثيليات التي كانت تعرض في ذلك الحين "مجتها الاسماع" من كثرة التكرار، فيستجيب ابن دانيال بتأليف ثلاث بابات هي "بابة طيف الخيال" وبابة "عجيب وغريب" وبابة "المتيم".

وفي مقدمته لهذه المقامة يقول محمد بن مولاهم حين التقى بمضيفه: "وسألني من أنت وما مهنتك، فقلت أنا محمد بن مولاهم، الخيالي"، وهكذا نفهم أن المؤلف يقول أن اسمه محمد بن مولاهم ومهنته "الخيالي" أي الممثل. وفي نهاية "المقامة" يوجه المؤلف نداءه إلى إخوته الممثلين بقوله: " (يا) أولاد مولاهم". والمقامة تحتوى على شخصيات نسائية ومن بينها الخيالية بالإضافة إلى الخياطة والراقصة والطبيبة والمغنية الخ. وبإمكاننا أن نستنتج من تعريف الخيالية لمهنتها بان مصطلح "خروج" يطلق على التمثيل الذي يقوم به الممثلون وان التمثيلية التي تقول الخيالية بتمثيلها وهي الخصام بين "أم قاوشتى وضرتها". يقول محمد بن مولاهم: "قالت الخيالية: عهدناكم ظراف، كأنكم أم قاوشتي وضرتها وقت يتقايسوا، اخرجوا من دي البابة وادخلوا غيرها يا خوارج، قوموا اشغلوا الطابق برقصة قبل ما نصبح، وأنشدت شعر (كان وكان):

إن الخروج لي أصلح من الدخول بيناتكم، فكل من هو داخل بيناتكم مخروج

ويقول الباحث البروفيسور أمنون شيلواح، في كتابه القيم عن الموسيقى العربية، بأن كلمتي الدخول والخروج في الموسيقى العربية هما مصطلحان موسيقيان. وهكذا نرى أن المؤلفين في القرون الوسطى لم يميزوا بين هذه الأنواع الأدبية وأطلقوا على التمثيليات مصطلحات مختلفة مثل "حكاية"، "خيال"، "لعبة"، "بابة"، "مقامة"، "رسالة"، وعلى الممثلين أطلقوا مصطلحات مثل "المخنث"، "اللاعب"، "المحاكي"، "الحاكية"، "الخيالي"، "الصفعان"، "المساخر"، "المضحك"، "المهرج"، "الممثل"، و"الخلبوص" وغيرها. وهذه المصطلحات المختلفة والمتداخلة هي التي جعلت الباحثين يشكون في معرفة العرب للمسرح. فللحكاية أصبح معنى مشهور أخر هو القصة وأهمل معنى المحاكاة ونسي و"الخيال" ظنوه مختصرا لمصطلح "خيال الظل"، و"الخيالي" أصبح في عرفهم المثل الذي يعرض خيال الظل. وهكذا جنت هذه المصطلحات على المسرح العربي البشري، ولم يحاول الباحثون الوقوف على معناها عند الأدباء العرب في القرون الوسطى وأنكروا وجوده.ولم يزل هذا الاصطلاح "الخروج" دارجاً عند العرب إلى يومنا هذا.

المحبظون

وفي القرن الثالث عشر الميلادي ظهر مصطلح جديد للممثل البشري وهو المحبظ. ومن أوائل من استعمل هذا المصطلح هو الشاعر ومؤلف تمثيليات خيال الظل محمد بن دانيال (ت1311) في بابته "طيف الخيال" وفيها يقول الأمير وصال: "أنا محبظ الشيطان، أنا ملاكم الحيطان". ويميز ابن إياس في تاريخه "بدائع الزهور" بين لاعب خيال الظل الذي يأتي بعدته (كالشاشة أو الستارة والفانوس والشخوص الظلية وصندوقين لوضع الشخوص مرتبة حسب ظهورها على الشاشة في صندوق اليمين وهو الذين يرمز إلى رحم حواء وبعد انتهاء دورها يضعها اللاعب في صندوق اليسار الذي يرمز إلى القبر) وبين المحبظ وهو الممثل وبين لاعب خيال الظل الذي يحرك الشخوص الظلية على الشاشة ويجري الحوار بينها، وفي أحداث شهر جمادى الثاني (سنة 924/أيار – حزيران 1518)، يقول: "وفيه توفي الريس محمد فتات العنير، ريس المحبظين وكان أستاذا في صنعة الخيال وكان قد فاق على "بريوه" في هذا الفن.

وفي أحداث شهر ربيع الأول عام 904/ أيلول- تشرين أول 1498، يقول عن السلطان الملك الناصر انه "أرسل من يستدعي أبو (!) الخير، بعدة خيال الظل ومغاني العرب وبريوه ريس المحبظين، أي الممثلين ولم يحفظ لنا التاريخ سوى تمثيلية (خيال) ليمثلها ممثلون كتبها عبد الباقي الاسحاقي، وتعرف بعنوان "مسطرة خيال، منادمة أم مجبر"، عثر عليها د. محمد زكريا عناني وظنها مسرحية ظلية، أعدت نشرها في كتابي Live Theater (ص 170-173)، ولحسن حظ المسرح العربي في مصر سجل لنا المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين وصفاً لتمثيلية قام بها المحبظون المصريون أمام محمد علي، وهي تمثيلية تشبه تمثيليات المسرح الأوروبي من حيث الحوار وارتداء الملابس الخاصة بالطبقة التي تنتمي إليها الشخصيات. وقد سجل الرحالة والمستشرقون الذين بعثتهم حكومات الدول الأوروبية المستعمرة إلى البلاد العربية لوصف هذه البلدان والتعرف على طبيعتها وثرواتها المعدنية والزراعية وموقعها الجغرافي تمهيدا لاستعمارها، سجل هؤلاء الرحالة والعلماء الأوروبيون أمثال الكسندر رسل (Russell) الذي زار حلب عام 1750، ما شاهده من مثل هذه العروض المسرحية، ثم أعقبه بعد حوالي العشرين عاما المستشرق نيبور (Niebuhr) الدانماركي الذي سجل بدوره ما شاهده من التمثيليات في القاهرة. ويضيف قائلا بأن الممثلين كانوا من المسلمين والمسيحيين واليهود ويمثلون باللغة العربية. وفي عام 1798 ذكرت الجريدة التي كان يصدرها الجيش الافرنسي المحتل لمصر Courrier de l’ Egypte بان المعلم يعقوب قائد الفرقة القبطية أولم وليمة على شرف القائد العام نابليون بونابارته وجنرالاته وضباطه، عرضت بعدها مسرحية عربية هزلية Comedie arabe. هذا وقد ذكر الرحالة بلزوني (G. Belzoni) انه شاهد مسرحيتين في القاهرة عام 1815. ثم أعقبه المستشرق لين الذي قدم لنا تلخيصا للمسرحية الهزلية التي شاهدها. وقد بالغ جميع المستشرقين في حديثهم عن المستوى الأخلاقي والفني والتمثيلي المنحط لهذه المسرحيات.

أولاد رابية

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر يذكر لنا علي باشا مبارك (1823-1893)، في روايته التعليمية "علم الدين" (الإسكندرية 1882) فرقة تمثيلية أطلق عليها اسم "أولاد رابية" تقوم بتمثيل مسرحيات هزلية بذيئة باللغة العامية. وذلك في أثناء وصفه للمسرح الأوروبي ومسرحياته التهذيبية والتاريخية الرفيعة المستوى وأشار إلى أن مستوى تمثيليات يعقوب صنوع شبيه بمستوى تمثيليات أولاد رابية.

أما المستشرق الألماني بروفر فقد ذكر في مقالته عن الدراما عند العرب (Drama Arabic) في Encyclopaedia of Religion and Ethics التي صدرت في نيويورك عام 1914، إن لأحمد فهيم الفار المصري المعروف باسم ابن رابية تمثيليات شعبية.
ولحسن الحظ وصلتنا مخطوطات هذه المسرحيات. وقد قام المستشرقان البروفيسور يعقوب لاندو من الجامعة العبرية والمستشرق الألماني مانفريد فوديش بنشرها مع الترجمة الألمانية بعنوان: "المسرح الشعبي العربي في القاهرة سنة 1909: احمد فهيم الفار ومسرحياته الشعبية"، وقدما لها بمقدمة عن تاريخ المسرح العربي مع نصوص مسرحيات احمد فهيم الفار العربية، قاما بترجمتها إلى اللغة الألمانية، وقد صدر الكتاب في 496 صفحة في بيروت عام 1993 عن دار النشر فرانس شتاينر في شتوتكارت، في سلسلة النشرات الإسلامية رقم 38:

(Arabisches Volkstheater in Kairo, im Jahre 1909, Ahmad il-Far und seine Schwanke. Herausgegeben, ubersetzt und eingefuhrt von Manfred Woidisch und Jacob M. Landau. Beirut 1993, in Kommission vom Franz Verlage, Stuttgart. Bibliotheea Islamica).
وهذا الكتاب هو في غاية الأهمية، وقد قطع الشك باليقين حول نتائج بحثنا هذا، ويؤكد ما توصلنا إليه في بحثنا حول استمرارية هذا التراث الرائع والغامض للمسرح العربي الشعبي وممثليه من اللاعبين بالكرج والمخايلين والمؤلفين المبدعين. وفي مقدمة رواية الشيخ الطرقي، أي ضارب الرمل، ذكر أن كتاب "كشف الستار عن بلديات احمد الفار" هو من تأليف الممثل "الشهير بابن رابية". وهذا الكتاب في غاية الأهمية لفهم استمرارية المسرح الشعبي العربي إلى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ومحافظته على نفس المصطلحات القديمة التي حاولنا تفسير معناها الأصلي في كتابنا هذا حسب مصطلحات التراث المسرحي العربي في القرون الوسطى والبرهنة على مصداقية ما توصلنا إليه من نتائج خطيرة بالنسبة إلى التراث المسرحي العربي. فالممثل احمد فهيم الفار يقوم بدور "الخلبوص"، أي الممثل الهزلي أو المساعد للراقصة (العالمة). وقد اشتهرت فرقته التي كانت تعرف بأولاد رابية بتمثيل هزليات وتمثيليات مختلفة في الأعراس وحفلات الختان ويقوم الممثلون قبل العرض بأداء رقصة وفاصل موسيقي كما هو الأمر في وصف المستشرق ادوارد لين المسرحية التي شاهدها أيام محمد علي. ويحتوي هذا الكتاب على خمس مسرحيات يطلق عليها اسم رواية وهي:

  1. رواية ابن البلد "في 5 فصول"،
  2. رواية الشيخ الطرقي والمرأة وزوجها،
  3. رواية الصعيدي،
  4. رواية الحجاز،
  5. رواية النجار. ثم تليها خمس العاب وهي:
    (1) حكاية الطرقي،
    (2) تقليعة الصعيدي،
    (3) تقليعة الحجية،
    (4) تقليعة ابن البلد،
    (5) تقليعة النجار.

وفي مقدمة تقليعة ابن البلد نجد وصفا مسهبا لهذه الألعاب أو التمثيليات ويؤكد صحة الوصف الذي ورد عند المؤرخين العرب والرحالة الأوروبيين. ويصف الممثلين وجمهور المشاهدين ومتى تعرض هذه الألعاب (ص350).

"العاب احمد الفار المصري في أفراح المصريين، عم احمد الفار المصري، رجل يحضره المصريين (كذا في الأصل) للإفراج عند الزواج (كذا) أولادهم ولكن الذين يستحضرون ذلك الرجل هم أهل الطبقة الذنية قبل ليلة الدخلة بيوم أو يومين صحبة طائفة رجال الطبل البلدي ورجل طبال وأخر زمار ومشاعلي. المشعل والع أمامه عند اللعب، وتبتدي هذه الحفلة بدق الطبل البلدي وأصحاب العريس يرقصون على صوت الطبل من بعد العشاء لغاية الساعة أربعة عربي مساء. بعد ذلك يخرج الخول (أي الراقص) في صفة مرآة ويرقص.

وهذه العبارة "يخرج الخول في صفة مرآة ويرقص" تذكرنا بقول عبد الوهاب الشعراني (توفي 1565) في لطائف المنن (القاهرة، 1321/1903) ح3، ص172، حيث يقول: "خلبوص المغاني إذا خرج في بابة الخيال في صفة قاض أو عالم". ومن هنا نعلم أن "خلبوص المغاني" أصبح يسمى "الخول" حتى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وهو مرادف لمصطلح "الممثل" الذي عرفناه في الأندلس من قاموس دي الكالا، وهذا الخول هو احمد فهيم الفار، الشهير بابن رابية والذي "يخرج في صفة مرآة ويرقص". وبهذه التمثيليات نجد الحلقة الذهبية التي تربط المسرح العربي القديم ومصطلحاته وتوضح لنا الأساس الذي شيد عليه المسرح العربي الحديث. وهكذا فتح الباب على مصراعيه لدراسة المسرح العربي التقليدي في العصور الوسطى من الناحية النظرية والدراسة المقارنة المؤسسة على أرض ثابتة.

أما أول تمثيلية كتبت باللغة العربية الفصحى وطبعت طبعة حجر فهي على ما بلغنا حتى اليوم، مسرحية "نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق"، طبعت في الجزائر عام 1847 تأليف المترجم في المحكمة المركزية الجزائرية أبراهام دانينوس.

وكان الدكتور فيليب سادجروف من جامعة مانشستر قد عثر عليها في مكتبة Institut National des Langues et Civilisations Orientales في باريس، أهداها المؤلف إلى الجمعية الأسيوية الافرنسية Societe Asiatique عام 1847، وتعد هذه التمثيلية همزة وصل بين المسرح العربي الشعبي التقليدي وبين المسرح العربي الحديث المتأثر بالمسرح الأوروبي، وقد ألفها أبراهام دانينوس بطريقة التلفيق المعروفة في التمثيليات العربية العامية ومسرح خيال الظل وحكاية أبي القاسم البغدادي، ففي مثل هذه التمثيليات يقوم المؤلف بالاقتباس من أشعار ومقامات ونوادر مؤلفين آخرين يلفق بينها في حواره بين الشخصيات بأجواء اجتماعية وحبكة يبتكرها. وقد استمد دانينوس الكثير من أبيات تمثيليته من ألف ليلة وليلة ومن كتاب عز الدين بن عبد السلام المقدسي "كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار" (Les Oiseaux et les fleurs… avec une tuaduction et des notes, par M. Garcn de Tassy (paris, 1821).) التي أثارت اهتمام المستشرقين الألمان والفرنسيين وكتبوا عنها. وبذا يكون أبراهام دانينوس قد سبق مارون النقاش منشئ المسرح العربي في لبنان بمسرحيته "البخيل" التي اقتبسها عن موليير.

يبدو أن مسرحيته "نزاهة المشتاق" لدانينوس- الأنفة الذكر- تشكل حلقة الوصل بين المسرح العربي التقليدي الذي تمتد جذوره إلى العصور الوسطى، وبين المسرح العربي الواقع تحت تأثير الحضارة الغربية، ذلك أن هذه المسرحية تجمع في ثناياها ميزات ومظاهر نوعي المسرح: المسرح التقليدي والمسرح المتأثر بالغرب. فمن مظاهر المسرح التقليدي: أشعار الغزل، أسلوب ألف ليلة وليلة، النثر المسجع، اقتباسات من أمهات الكتب القديمة، مشاهد لألعاب الشطرنج، الغناء وغيرها. وبينما تعرض المسرحية التقليدية فكرة أن الإنسان محكوم بقدره ولا يستطيع الإفلات من قبضته، نرى أن الحضارة الغربية والمسرح المتأثر بها تضع الإنسان في مركز الكون سيداً لنفسه.

أما الكتاب الثاني الذي يلقى أضواء ساطعة على نتائج بحثنا فهو: The Egyptian Theater in the Nineteenth Century (1799-1882), Berkshire, Itbaca, 1996 (المسرح المصري في القرن التاسع عشر 1799-1882)، تأليف الأستاذ الدكتور فيليب سادجروف من جامعة مانشستر، وقد أضاف هذا الكتاب الرائد الكثير من المعلومات الهامة عن نشاط المسرح الشعبي وتاريخ المسرح الأوروبي في مصر استقاها من الصحف اليومية والمجلات الأوروبية والكتب والمذكرات التي نشرها الرحالة الأوروبيون والتي صدرت في القرن التاسع عشر بلغات أوروبية مختلفة وذلك إلى جانب تنقيبه في الصحف العربية المعاصرة لها. وقد عثر في كتب الرحالة الأوروبيين التي لم تكن معروفة لدى العاملين في حقل المسرح العربي على معلومات تأكد وجود المسرح العربي الشعبي وممثليه من المسلمين والمسيحيين واليهود ومن العرب والأتراك أيضا. فإلى جانب كتب نيبور (1696) وبلزوني (1815) ولين (1834) ووارنر (1874-1875) المعروفة فانه يورد مشاهدات جيمس سانت جون (1833) وجون بورينك (1839) ور.ل.ن. ميشيل (1788) وبتلر (1881) وكلها تصف مسرحيات مصرية شبيهة بالمسرحيات الأوروبية وورد ذكر بعضها في المصادر العربية وتلقى ضوءا ساطعا على العروض المسرحية الشعبية التي وردت في كتب التاريخ العربي.

وبعد كل هذه الشهادات التاريخية التي أدلينا بها من بطون التاريخ لهذا المسرح العربي الحي، فبإمكاننا القول بثقة بأن المسرح العربي الضارب جذوره في القدم هو فن عربي أصيل، تناول المشاكل الاجتماعية والدينية والأخلاقية والإدارية والطبقية في المجتمعات العربية. لكن شعبية هذا المسرح وتوظيفه للهجات العامية وتطرقه إلى المواضيع الجنسية والهزل ونقد العلماء والقضاة والحكام المسلمين، كل هذا ابعد عنه كبار الشعراء والأدباء العرب الذين تجنبوا الهزل، فاللغة العربية الفصحى لغة القرآن والكتب الدينية، تأنف من المجون والإسفاف إلا في القيل النادر، وعلماؤها يفضلون الجد على الهزل والحقيقية والواقع على ما يعد سخفا وخيالا، فتركوا هذه الفنون الشعبية إلى اللهجات العربية العامية والمؤلفين الشعبيين الذين فشلوا في نظم القصيدة العربية التقليدية والمقامة الجدية اللتان تعنيان بمدح المتنفذين والثاني ينفق سوقهما في ميدان نفاق الحكام والأغنياء.

هذا ولا نستطيع في هذا المجال غض النظر عن جناية المصطلحات المسرحية العربية وتسببها في غموض تاريخ المسرح العربي في تطوره الطويل عبر القرون الطويلة للتاريخ العربي وتداخل هذه المصطلحات المسرحية وتشابهها مع الفنون الأدبية المختلفة في القرون الوسطى كمصطلح الحكاية والخيال واللعبة والرواية والمقامة والمسامرة والمناظرة والمحاورة، والتباسها هذه المصطلحات على الباحثين. وقد بقي المسرح العربي الشعبي المتأثر بالمسرح التركي الشعبي تحت وطأة الحكم العثماني، يواصل كفاحه المستميت في البقاء إلى مطلع القرن العشرين رغم الغزوة الثقافية الأوروبية المتعالية التي أخذت في القرن التاسع عشر، قرن الاستعمار الأوروبي، تقيس الحضارات الأخرى بميزانها وبمقاييس حضارتها المادية والفكرية والتي أخذت بخناق الحضارات الشرقية حتى أجبرتها على التخلي عن ثروتها الحضارية. وقد آزر هذا الموقف المجددون العرب. وخير مثال لهذه المؤازرة هو ما فعله علي مبارك في دعمه لموقف درانيث باشا (Draneth Bey) "رئيس الأوبرا والتياترو الفرنساوي" في القاهرة المناوئ لمسرح يعقوب صنوع بسبب توظيف اللغة العامية المصرية في تمثيلياته واهتمامه بالهزل. وما زال بعض الباحثين العرب المعجبين بالحضارة الأوروبية ينكرون على العرب معرفتهم لفن المسرح والتمثيل البشري ويرددون آراء الباحثين الأوروبيين الذين اعتمدوا في القرن التاسع عشر على نظريات التفوق العرقي والعنصري ليبرروا الاستعمار الأوروبي على الدول الشرقية والإسلامية.

*- محاضرة على شرف البروفيسور يوسف سادان، استاذ الادب العربي في القرون الوسطى لمناسبة احالته على التقاعد

ايلاف
الأربعاء 20 فبراير 2008