عقيل بن ناجي المسكين-السعودية

"قراءة في ديوان ( دَع الملاك ) لقاسم حداد"

عقيل بن ناجي المسكين

قاسم حداد ذلك الشاعر المسكون بالبحر من الخليج إلى المحيط، والمملوء من دُرَر أعماقِ النفس الإنسانية الصافية، والمزدانُ بزركشات ألوان الروح وحِبر الضمير.. الشاعر الذي غنّى منذ عقود ولا يزال يغني على شاطئ الخليج، ومن صدى أغنياته الماضية التي لا تزال محفورة في ذاكرة الأيام ما أصدره من البوح وأسكنه على صفحات أوراقه وكتبه ففي عام 1970 م أصدر (البشارة)، وفي عام 1972م أصدر ( خروج رأس الحسين من المدن الخائنة)، كما أصدر عام 1975م ( الدم الثاني )، وفي عام 1980م أصدر ( قلب الحب)، و (القيامة)، وفي عام 1982م أصدر ( شظايا )، و ( انتماءات )، كما أصدر بالاشتراك مع أمين صالح عام 1989م ( الجواشن )، و عام 1990م أصدر ( يمشي مخفوراً بالوعول)، وفي 1992م أصدر ( عزلة الملكات )، و ( نقد الأمل ) عام 1995م، و (أخبار مجنون ليلى)، بالاشتراك مع الفنان ضياء العزاوي، عام 1996م، و ( ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر ) عام 1997م، و (الأعمال الشعرية )، و ( علاج المسافة )، و ( له حصة في الولع ) عام 2000م، و (المستحيل الأزرق ) بالاشتراك مع المصور صالح العزاز عام 2001م، و (ورشة الأمل)، و (أيقظتني الساحرة) عام 2004م، و (ما أجملك أيها الذئب) عام 2006م، و (لستَ ضيفاً على أحد ) عام 2007م، أما في 2008م فأصدر ( فتنة السؤال).

ويأتي ( دَع الملاك ) آخر إصداراته في 2009، عن دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية بدمشق، ويتكون الديوان من 112 صفحة من القطع الوسط، ويضمّ بين دفتيه أربع وعشرين نصاً نثرياً، قرأتها من ألِفِها الأول إلى الياء الأخيرة في آخر صفحاته وقد اخترتُ لهذه القراءة في هذا الديوان أن أتطرق إلى موضوع لا يقل أهمية عن أي موضوع آخر في عوالم قصيدة النثر ومكوّناتها ألا وهو موضوع مركزية الدوال اللغوية في نصوصه النثرية، وذلك من خلال بعض الأمثلة المختارة من نصوص المجموعة، ومركزية الدوال في النص الشعري الحديث أحد الروافد الذي اكتسبه هذا النص لصالحهِ وهو نوعٌ من التغيير والتجديد فيه على مستوى الشكل وليس المضمون، وكما يقول علي جعفر العلاق من أن مفهوم الحداثة يقوم على تغييرات الشكل، بينما يبقى الموضوع بلا تغيير وهو رأي ناضج وصريح، فالحداثة كما يقولون لا تقوم على عكازة واحدة بل على ثلاث، واحدة هي تجديد الشكل، والثانية هي تغيير جذري في الموضوعات – أي أن الموضوعات ذاتها تبقى رغم التغييرات التي تطرأ عليها - ، والثالثة هي ذاتية الشاعر الكونية، وقد وجدتُ مصاديق ذلك في النصوص النثرية من إبداعات قاسم حداد ومنها مركزية الدالّ اللغوي الذي يعتبر من التي تُبحث في النص الشعري أياً كان شكله الخارجي، وتتأكّد هذه المركزية في العديد من النصوص النثرية التي اتّخذت في خارطتها الداخلية مخططاً فلكياً منتظماً له بداية ونهاية، كما اتخذت هذه النصوص من المجازات الذهنية قوالب تآلفت من خلالها لتكوّن لكل نص جسداً خاصاً به له وجود خارجي وملامح وسيماء، و" المجاز الذهني عبارة تستعمل للدلالة على مدى شاسع من الظواهر الشعرية... وخلال السنوات التي كانت فيها ضروب المجاز الذهني تسِم الشعر الانجليزي كانت عبارة المجاز الذهني تشمل صنوفاً من المعاني جعلت غموضها مُثمراً على يد الشاعر – تماماً كالغموض الفني الذي نجده في نصوص هذه المجموعة- ، ففي ختام القرن السادس عشر كانت تستعمل كما سبق أن استعملها (جوسر) مرادف لكلمة فكرة، وفي سياق غير شعري غالباً، يضارع مانقصده اليوم بكلمات مثل مفهوم، صورة فكرية أو مثال ذهني؛ ولكنها كانت تطلق كذلك على أشياء شتى من قبيل الفرضية عديمة الأساس، الملاحظة أو الفكرة الظريفة، فعلة الخديعة البارعة، وما ينتج عن الخيال الفني، وكان ثمة ضروب من المجاز الذهني طيّبة يتداولها الفلاسفة، وضروب غيرها خبيثة "، وتتعدد صور هذه المجازات الذهنية في نثريات قاسم حداد إلى حدٍّ كبير، ومن ملامح هذه الصور والأسلوب الذي صِيغتْ فيها اللجوء إلى مركزية الدّوال في النص مع اختزان هذه الدوال على الكثير من المجازات الذهنية بأنواعها واختلاف أشكالها، حيث يتجه قاسم حداد في هذا الديوان إلى مجموعة من الدوال اللغوية التي أخذت شكل المركزية في النصوص، بحيث تتمحور كلّ الحقول اللغوية في أدوار النص حول هذه المركزية، ولو قرأنا نصّ (ملاك) وهو أوّل نصوص المجموعة لرأينا أنه اتّخذ من الملاك نقطة ارتكاز لعالَم هذا النص، ويوجد العديد من القرائن التي تدلل على ذلك سواء من المفردات كوحدة صوتية مفردة، أو الجُمل كوحدة صوتية مُركبة، فالشاعر بدأ بقوله: ( دَعِ الملاكَ يتولاكَ ).

وهو في هذه الجملة إما أن يخاطب نفسه أو يخاطب المتلقي وذلك ما توحي به الضمائر التي يستخدمها، ثم يفصّل ويعود بعد ذلك بإعادة فعل الأمر المقرون بضميرٍ يعود إلى الملاك ذاته، ويعود إليه مرة أخرى في جملة لاحقة عندما قال: ( برفقةِ ملاكٍ )، ويستمر في السرد الشعري متماساً مع هذا الدال اللغوي الذي يحشد في داخله العديد من التأويلات، فقد يأتي على سبيل الحقيقة وهو ذلك المخلوق الذي لا نراه وهو يعيش في ملكوت الله الواسع، وقد يكون ذلك الملاك الحبيبة، وقد تكون الحرية، وقد تكون شيئاً آخر يحتفظ به الشاعر لنفسه إلا أن تآويله تدلّ على كونه أحد الأشياء المقصودة لدى الشاعر وقد يفسره في النص لاحقاً بقرينةٍ ما، وقد لجأ الشاعر إلى الضمائر للتمحور حول هذه المركزي ونلاحظ ذلك في قوله: ( يرويكَ ويروي عنكَ )، ويكرر كلمة ( دعهُ ) مخاطباً نفسه، على اعتبار أن الشاعر في أغلب نصوص هذه المجموعة يلجأ إلى تقنية إسقاط الشخصية حيث يسقط المؤلف جوانب من نفسه، وكثيراً ما تكون متناقضة، وهو تعبير مستعار من فرويد الذي يقول إن الفرد يسقط على الآخرين أو يحيل إليهم أو ينسب إليهم ما لا تقبله ذاته، أو إنه قد يقصد المتلقي أيضاً وهي تقنية مُتوارثة من أدبنا العربي القديم أيضاً و " يكاد معظم البلاغيين القدماء يتفقون مع ابن الأثير في قوله عن الحقيقة اللغوية هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء نفسه وعينه، فالحقيقة اللفظية إذن هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة، والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره " ، ثم يشرح عن الملاك وماذا يفعل بك أيها المتلقي وهو ( ملاكٌ ينتابكَ مثل الشغف)، ( يفتحُ لك الطريق )، ويلعب الشاعر هنا على الأفعال المضارعة التي تفيد الزمن الحاضر والمستقبل مثل قوله: ( يفتح )، (يمسح)، ( يصقل )، كما يعود إلى فعل الأمر العائد إلى المتلقي المقرون بالضمير العائد إلى الملاك (دَعْهُ)، ويعود إلى فعل المضارع أيضاً ( ينالكَ).

إنّ هذا التخطيط المقصود أو ربما غير المقصود أعطى للنص جمالاً إيقاعياً لا علاقة له بوزنٍ شعري ولا تفعيلي، وإنما له علاقة مباشرة بالتقسيم اللغوي المتناسق في المعنى من جهة، وتدفّق المشاعر والأحاسيس من الشاعر تجاه ما يريد أن يقول ويُخبر عن هذا الملاك، الملاك الذي ينتابنا مثل الشغفِ ويفتح لنا الطريقَ ويمسحُ الصهدَ في تجاعيدِنا، ويصقلُ لنا يقظة التآويل، ويأمر الشاعر أن ندعه ينالنا مثل برق العشق.. وهو ملاكُ الكتابة.. حيث يُنهي الشاعر نصه بدلالة تفسيرية تعرّف لنا من هو هذا الملاك، إلا أن هذا التعريف أيضاً يُدخل فيه شيء من الغموض الفني، فليس للكتابة ملاك على الحقيقة وإنما هو المجاز اللغوي الذي يتذرّع به الشاعر في هذا النص، وقد حوّل الشاعر مركزية هذا النص بطريقة التحقيق والتجسيد إلى شيء نعرفه ونؤمن به، والتحقيق والتجسيد يعني تحول الأفكار والمشاعر إلى أشياء مادية وأفعال محسوسة، ومعنى هذا المصطلح في الأدب قريب من معناه في علوم اللغة، حيث يدل على الكلام الفعلي منطوقاً أو مكتوباً، والذي يعتبر تجسيداً للطاقة اللغوية الكامنة، والشاعر هنا يأخذنا كمتلقين بطريقة التفكير بالصورة حيث ينقلنا بهذه المركزية من صورة إلى أخرى بطريقة ذكية هي من مميزات القصيدة الحديثة وخاصة النثرية منها، تماماً كما يقول ستيفن سبندر في كتابه ( صناعة القصيدة): " يحتم على الشاعر المتميّز أن يكون قادراً على التفكير بالصور، وعليه أن يمتلك سيطرة كبيرة على اللغة مثل سيطرة الرسام على حاملة ألوانه ".

وفي نص آخر بعنوان ( الحب ) يتمركز الشاعر حول دالٍ يحمل من الدهشة ما يحمل وهو الشعر.. ذلك العالم اللغوي العجيب، وقد بدأ به غير معرّف في أوّل كلمة حيث قال: (شعرٌ تكتبه ) ثم يستمر في سرد الجُمل النثرية/الشعرية مُتمركزاً حول الشعر بروابط لغوية وهي الضمائر العائدة إليه، كقوله ( فيشذُّ الحبَّ في كيانكَ )، ثم يتحدث الشاعر عن المُخاطب قليلاً إلى أن يقول: ( فإنْ لم تفعل هذا الحبَّ بشعرِكَ )، مستعيناً بالضمير العائد إلى المخاطب الذي قد يكون الشاعر نفسه وقد يكون شخصاً آخر وربما يكون المتلقي أيضاً، ثم يعود مُركّزاً الحديث عن المخاطب أيضاً عندما قال: ( شأنكَ )، ( جسدكَ )، (روحكَ)، (تزعمُ )، ( أنّك تفعلُ )، ( لغيركَ )، فالحديث كله للمخاطب ولكنه يتمركز حول الشعر الذي تكتبه فيشحذ الحُبّ في كيانك، وتكادُ تشفُّ وترهفُ وتصير من البلور قريب، ثم تذهب إلى نومك سيد الكنز والكتابة، فالشاعر هنا مركزية للصورة، أما المخاطب فهو مرحلة ثانية بعد هذا الدال اللغوي المركزي وهو الشعر.

وفي نص ثالث بعنوان ( ذاكرة المقهى ) يتمركز الشاعر حول كلمة ( المقهى ) وقد بدأ بها النص أيضاً، ولكنه يضيفها إلى ضمير المخاطب فيقول: ( مقهاك )، كما إنه شخصنَ هذا المقهى وأسقط عليه الصفات الإنسانية فيقول: ( في انتظاركَ )، ويواصل شخصنة المقهى بقوله: ( يلقاكَ بمقاعده الوالهة )، حيث جعل من المقهى شخصاً ما يلتقي بشخص آخر وهو الشاعر نفسه أو المتلقي، وجعل مقاعده والهةً أيضاً، ويتابع قوله: ( قادمة من الغابة/ خشبٌ طازجٌ في انتظار تعبك الغليظ/ يُمسّدُ لك وركيك وكتفيك بعصيّه )، لقد جعل الشاعر من المقهى صديقاً لكَ ينتظرك ويواسيك بل يحنو عليك.

وفي نص رابع بعنوان ( مترو باريس ) يأخذنا قاسم حداد إلى دالٍ مركزي آخر في هذا النص، وهو ( مترو باريس ) الذي عنون به هذا النص، حيث بدأ هنا بفعل الأمر (اربط جأشك)، ولعله يخاطب نفسه أيضاً أو يخاطب المتلقي، ( وأنتَ ذاهبٌ تأخذ مترو باريس/ فيأخذك بقوة )، والبراعة التعبيرية تكمن هنا حيث لجأ الشاعر إلى تشبيه حركة هذا المترو وما هو إلا كومة من حديد العربات المتصلة بعضها ببعض وتسير على سكة من الحديد يشبهه الشاعر بالشاب الذي يهصرُ فتاتَه المتضاحكة ( بزندٍ مفتولة )، وهي صورة حركية يمتزج فيها المكان والزمان، وهي من أجمل تلك الصور الشعرية التي يمتزج فيها الحسي النفسي بالواقعي الخارجي متضمنة المعنى واللون والصوت، فالحركة والزمان والمكان نقلا لنا ما يراه الشاعر في ذاته ويموج في نفسيته "، وقاسم حداد في أغلب نصوصه وبالذات في ديوانه ( دع الملاك ) ينحى هذا المنحى، كما إنه يمثل لنا مرحلة لصوّرٍ جديدة من تجربته الإبداعية بالتحليق في عوالم جملته النثرية/الشعرية لا سيما أساليبه المتنوعة في تقصّد مركزية الدوال اللغوية، لما لهذا الأسلوب من محاكاة لحركة الكون الذي يعتمد على المركزية والدوران.

الهوامش:
1- النصير، ياسين، علي جعفر العلاق ناقداً في ها هي الغابة فأين الشجر، البينة الجديدة، السنة الثالثة، العدد 669 الأربعاء 24 ايلول2008م، 23 رمضان 1429هـ.
2- لؤلؤة، عبد الواحد، موسوعة المصطلح النقدي، ج:1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط:2، 1983م، ص: 415، 416.
3- عناني، محمد، المصطلحات الأدبية الحديثة، سلسلة أدبيات، مكتبة لبنان، الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان، ط: 1، 1996م، ص: 80.
4- متولي، عبد الحافظ بخيثت، تحولات الضمائر وأثرها على الإبداع، www.alwaraq.net ، 22 يوليو 2008م ت القراءة 18/04/1430هـ.
5- لؤلؤة، عبد الواحد، موسوعة المصطلح النقدي، ج:1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط:2، 1983م، ، ص: 2.
6- الشتوي، إبراهيم، الصورة الشعرية، منتديات جهات الأدبية، www.jehaat.com يوليو 2006م، الماركة 54، ت القراءة 18/04/1430هـ.
7- المصدر نفسه.