إبراهيم أبو عواد
( كاتب من الأردن )

XXXXXXXXXX

مقدمة

إن الشِّعر هو دِيوان العرب _ شَاءَ مَن شاء وأبى مَن أبى _ . وهو لم يصل إلى هذه المكانة السامية بالصُّدفة ، بل وصل إليها بسبب كَوْنه _ أي الشِّعر _ هو المتحدث الرسمي باسم تاريخ العرب وبطولاتهم وأمجادهم ، وهو السِّجلُ الشريف الذي يَحْوي تفاصيلَ حياتهم الروحية والمادية . لذلك نظرَ العربُ إلى الشِّعر باعتباره نظاماً للتخليص والخلاص، تخليصهم من ضغط العناصر الحياتية، وخلاصهم الإنساني الذي يَمنحهم المجدَ أثناء الحياة، والخلودَ بعد الموت . ووفق هذه الرؤية ، ليس غريباً أن يَضع العربُ كلَّ بَيْضهم في سَلة الشِّعر .
ولا يَخفى أن العرب قبل البعثة المحمَّدية كانوا أُمَّةً وثنية ليس لها كتابٌ سماوي مُقدَّس ، وهذا جعلها في مرتبة أدنى من أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) الذين كان في أيديهم التوراة والإنجيل . ومن الطبيعي أن يَشعر العربُ بُعقدة النقص لأنهم منقطعون عن السماء . فكان الحلُّ _ من وجهة نظرهم _ هو اتخاذ الشِّعر كتاباً مقدَّساً، وذلك لكي يُعوِّضهم عن عدم وجود كتاب سماوي في أيديهم ، ولكي يَجبر كَسْرَهم ، ويُحطِّم عُقدةَ الشعور بالنقص ، فيتعاملوا مع الأمم الأخرى _ خصوصاً اليهود والنصارى _ بكل ثقة ، غير شاعرين بالنقص أو الانكسار أو تدني المرتبة .
ومن هذا المنطلق لم يكن الشِّعرُ نظاماً لغوياً اجتماعياً فَحَسْب، بل كان_ أيضاً_ منظومةً دِينية، وَوَحْياً خاصاً. وهذا منحَ الشِّعرَ منزلته الرفيعة، وجعله أيديولوجية قائمة بذاتها تشتمل على أبعادٍ أسطورية ، وتقاطعاتٍ اجتماعية ، وأحلامٍ إنسانية ، وثقافاتٍ محلية وإقليمية .
ويمكن اعتبار المعلَّقات هي دُرة تاج الشِّعر الجاهلي ، فقد اشتملت على صور صادقة للحياة الاجتماعية ، والعواطفِ الإنسانية ، والفلسفةِ العربية المصهورة في الواقع والخيال معاً . كما أنها امتازت بلغة قوية آسرة تستمد مفرداتها من البيئة المحيطة، فالشاعرُ _ أولاً وأخيراً _ هو ابنُ بيئته ، وحاملُ تاريخها. والجديرُ بالذِّكر أن المعلَّقات سُمِّيت بهذا الاسم لأنها عُلِّقت على الكعبة المشرَّفة تنويهاً بقيمتها الشعرية ، وعَظَمة شأنها ، ومكانة أصحابها .
وقد قال ابن خلدون في تاريخه ( 1/ 803) : (( اعلم أن الشِّعر كان ديواناً للعرب ، فيه علومهم ، وأخبارهم ، وحِكَمهم . وكان رؤساء العرب منافسين فيه ، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده ، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن ... حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام مَوْضع حَجِّهم ، وبيت أبيهم إبراهيم )) .
وما كان لهذه الأشعار أن تُعلَّق على الكعبة لولا اعتبارها نصوصاً شِعرية مُقدَّسة تُجسِّد التاريخَ العربي ، والأحاسيسَ الإنسانية في بيئة الجزيرة العربية ، والصورَ الحياتية المنتشرة في عوالم الإنسان العربي . كما أن تعليقها على الكعبة جرى بكل سلاسة دون اعتراض من أَحد ، وهذا مؤشر واضح على اتفاق الناس على قيمة المعلَّقات المعنوية والمادية ، وأهميةِ الشِّعر في صناعة الحضارة العربية ، وإخراج أُمَّة العرب المحصورة في الجزيرة العربية إلى آفاق جديدة ، وعوالم أكثر رحابة . إذن ، فالعقلُ الجمعي العربي كان يُقدِّس الشِّعرَ ، ويَجعله في قمة الهرم الحضاري، ويَنظر إلى الشاعر على أنه نبيٌّ يُدافع عن القبيلة ، ويَرفع اسمَها ، ويَحفظ التراث الإنساني الحضاري . وبالتالي ، ليس غريباً أن تَحتفل القبيلةُ إذا نبغ فيها شاعر ، فهي تَعلم _ عِلْمَ اليقين _ أنه لسانُها الناطق ، وسيفُها القاطع .
إن الشِّعرَ يَكشف نَفْسَه بنفْسه ، فهو نسقٌ قائم بذاته ، تَنبع مرجعياته ونظرياته من داخله ، لذلك لم أقم باستيراد النظريات الأدبية من هنا وهناك ، لإيماني بأن المعلَّقات ذات نسق فريد ليس على مستوى الشِّعرية العربية فَحَسْب ، بل أيضاً على مستوى الشِّعرية العالمية. كما أنني حاولتُ الإصغاءَ لِما يقوله شعراءُ المعلَّقات، وتفسير رموزهم،وتحليل تطبيقاتها، وجعلَ الشِّعر يُفَسِّر الشِّعرَ دون حقنه بعناصر دخيلة ، أو آراء شاذة عن مسار الحضارة الشِّعرية التي صَنعتها المعلَّقات .
لقد حاولتُ أن أستمع إلى آراء شعراء المعلَّقات التي أدْلَوا بها في شتى المواضيع. ولا يَخفى أن آراءهم مستمدة من خبراتهم الحياتية، ومكنوناتهم النَّفسية، وتأثيرات البيئة الفكرية والاجتماعية في تكوينهم الشخصي . إنهم قد عاشوا الحياةَ بكل تفاصيلها ، لمعرفتهم أن الحياة تشكِّل قيمةً أساسية في الفكر الإنساني ، فهي الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الإنسان لتحقيق الغاية من وجوده ، وتحويل أشواقه الروحية إلى واقع ملموس ، وإشباع حاجاته المادية .
والجديرُ بالذِّكر أن ولادة الكلمات الثورية في شِعر المعلَّقات ، إنما تتم بواسطة زرع ثورة اللفظة والمعنى في أرجاء النَّص عن طريق بناء تكوينات فلسفية مُبْتَكَرَة ومُدهِشة وصادمة للمألوف ، وهذا يتحقق في نفسية الشاعر الثوري أولاً ثم يهبط على النتاج الأدبي الشِّعري . وهذه الولادة المتفجرة لها تشكيلان :
الأول _ تشكيلٌ بصري فاقع لامتلاكه عناصر الرؤية الفنية التي تُختصَر في صدمة الصورة المتخيَّلة التي تهز الواقع هزاً ، وتُفرغه من محتواه السلبي لصالح الصورة الفنية الساطعة التي تملأ نفسية الصانع والمتلقي على السواء .
والثاني _ تكوين سمعي يهز أركانَ المتلقي من أجل حشده بالقيم المطْلقة . فالعنصر السمعي موسيقى داخلية تنبع بالأساس من الصورة المتفردة، ولا ضير أن تنبع من الأوزان الشِّعرية، لكن الأولوية للصورة المتدفقة التي تأخذ مسارها الماحي الهادر دون حواجز لغوية أو أوزان قد تعيق التصويرَ الصادم ذا المعاني المبتكَرة . فالموسيقى تهز الإنسان حتى لو لم يفهمها ، فزقزقة العصافير _ على سبيل المثال _ تثير الخيال، وتهز الأحلام، وتحرِّك ثوريةَ العاطفة، دون أن يفهمها المتلقي، وقد يصل الشِّعرُ إلى هذا الطَوْر _ أحياناً _ .
إن هذا الكتاب يأتي كمحاولة شخصية للتنقيب عن القيم المركزية في المعلَّقات العَشْر ، واكتشافِ المستويات الشعرية بكل تطبيقاتها الدينية والإنسانية والاجتماعية والفلسفية . والمعلَّقاتُ مَنجم كبير بحاجة إلى عمليات تنقيب كثيرة ومكثَّفة . والفلسفةُ الشِّعرية الكامنة في المعلَّقات هي بحرٌ متلاطم الأمواج . وقد حاولتُ _ قَدْر المستطاع _ أن أغوص في أعماق هذا البحر لعلِّي أضع يدي على الجواهر والدُّرر. فإن نجحتُ فذلك توفيقٌ من الله تعالى، وإن أخفقتُ فعُذري أني قد حاولتُ، وشرفُ المحاولة يَكفيني .
وأخيراً وليس آخِراً ، فهذا الكتابُ محاولةٌ ذاتية لاستنطاق شِعر المعلَّقات ، وجهدٌ مختصَر شديد التكثيف، ومغامرةٌ شخصية لم أُقلِّد فيها أحداً. وإنما سِرتُ على ضوء الشِّعر مُسلَّحاً بالمنهج العِلمي الذاتي وأدواته . والمرجعُ الوحيد الذي اعتمدتُه لتأليف هذا الكتاب هو " شرح المعلَّقات السَّبع " للزوزني .

الفصل الأول
العقائد الدينية

</p>

تمهيد

إن العقيدة الدينية حاضرة في شِعر المعلَّقات على الرغم مِن كَوْن أصحابها وثنيين . وقد وَصلتهم الكثير من العقائد الدينية ، لكنهم خَلطوها بالشِّرك ، ولم يتمكنوا من جعلها صافيةً . وينبغي ألا ننسى أن العرب مِن ذُرية إسماعيل بن إبراهيم _ عليهما الصلاة والسلام _ ، وهما نَبِيَّان كريمان قاما بأداء دورهما في إيصال الرسالة الإلهية إلى الناس . كما أن العرب عاشوا في بيئة يتواجد فيها اليهود والنصارى . وهذا يعني أن بَعْضاً من تعاليم موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ قد وَصلتهم . ومن الطبيعي أن يتأثر الجو العربي بعقائد أهل الكتاب .
ومن المؤسف أن طول المدة الزمنية بين الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام _ وبين عرب الجاهلية قد أدى إلى حدوث تلاعب كبير بالعقائد الدينية في البيئة العربية ومزجها بالأصنام والأفكار الشِّركية دون وجود بصيص أملٍ ، أو ظهور ضوء في آخر النفق . ولا يَخفى أننا نتحدث عن الفترة الزمنية السابقة لظهور النبي محمد_عليه الصلاة والسلام_،حيث كانت الجزيرة العربية غارقة في الظلام العَقَدي.
وعلى الرغم من كَوْن عقائد شعراء المعلَّقات_بشكل عام_ مضطربة ومشوَّشة، ويَختلط فيها الحقُّ بالباطل ، إلا أنها متفقة على الإيمان بوجود الله تعالى وتعظيمه ، وتعظيم الكعبة التي تُعتبَر القِبلة المقدَّسة ، ومركز الوجود الديني في الجزيرة العربية . وقد كان عربُ الجاهلية لا يبنون بنياناً مُربَّعاً ، ويَعتبرون ذلك خطاً أحمر ، وذلك تعظيماً للكعبة ، لكي تظل متفردة ومميَّزة عن باقي الطُّرز المعمارية .
وهذا الفصلُ سيتناول عقيدةَ شعراء المعلَّقات الظاهرة في أشعارهم . ولا يَخفى أن أساس كل عقيدة دِينية هي وجود الله تعالى . كما أن هذا الفصل سيتطرق إلى كشف الظروف الاجتماعية والأبعاد النفسية ذات الارتباط الوثيق بالعقيدة والقيم الدينية .
1_ العقيدة في الله :

لم يكن شعراءُ المعلَّقات مجموعةً من البدو العائشين في الصحراء بلا تاريخ. ولم يكونوا أشخاصاً عاديين محصورين في نظام استهلاكي شهواني . بل كانوا فلاسفة تَشغلهم الأسئلةُ الكبرى حَوْل الإنسان والجماعة والحياة والموت والوجود والمصنوع والصانع . وكانوا أصحابَ تأملاتٍ حقيقية في هذه الحياة الدنيا ، وهذا لا يتعارض مع كَوْنهم أبناء بيئتهم الصحراوية البدائية ، وإفرازاتها المادية الفجَّة .
والشاعرُ الجاهليُّ متعلِّقٌ بالأسباب الدنيوية ، وغارقٌ في العلائق المعيشية في واقعه اليومي المحسوس. وعندما تُغلَق الأبوابُ في وجهه، فإنه يتذكر خالقَ الأسباب، ويتعلق بالقوة الإلهية المحرِّكة للعلاقات الدنيوية. وهذا دَيْدن غالبية الناس في كل العصور .
وإننا لنجد الشاعر طَرَفة بن العبد يعيش حياته بالطُّول والعَرْض دون حساب . وعندما يغرق إلى شحمة أذنيه في مشكلاته الشخصية ، وأزماته الاجتماعية والاقتصادية ، فإنه يتذكر قدرةَ رَبِّه اللامحدودة ، فيقول :

فلوْ شاءَ رَبِّي كُنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن مَرْثَدِ

فحينما اشتد عليه الخِناقُ ، وضاقت عليه الأرضُ بما رَحُبت ، ووَجد نَفْسه عاجزاً أمام ضغوطات الحياة اليومية ، أخذَ يفكِّر في قُدرة الله تعالى ، ويَبني عقيدته وفق المشيئة الإلهية . فهو يقول إن الله لو شاءَ لجعله قيس بن خالد أو عمرو بن مرثد . وهذان رَجلان من سادات العرب في الجاهلية، مشهوران بكثرة الأموال ، وذكاءِ الأولاد ، وشرفِ النَّسَب ، وعِظَم الحسَب .
لقد أدركَ طَرَفة حجمَ المأزق الذي يَغرق فيه، فلم يَعترف بتقصيره، أو بأخطائه، أو سوءِ تصرفه الذي أورده المهالك . بل هربَ إلى الأمام ، وذلك بالتعلق بالمشيئة الإلهية . وكأنه يقول إنه لا ذَنْب لي في وصولي إلى هذه الحالة المزرية . فلو شاءَ اللهُ لجعلني سيداً من سادات العرب ، ولكنه لم يشأ ذلك . إذن ، فالمشيئةُ الإلهية لا يمكن مقاومتها،وأنا لا ذَنْب لي بالموضوع. وهكذا يتملص_وفق منظوره الشخصي_ من كل مسؤولية ولَوْم .
وهنا يَظهر قصورُ الفهم في موضوع المشيئة الإلهية ، ويبرز الخلطُ بين مشيئة الله تعالى بمعنى تعلُّق إرادته بوقوع شيء ما ، وبين مشيئة الله التي رَبطت الأسباب والمسبِّبات . فلا بد من الأخذ بالأسباب لتحصيل المال ، والحصول على الأولاد . فالسماءُ لا تُمطِر ذهباً ولا فضة . كما أن الأولاد لا يأتون من الهواء ، وإنما يأتون من العلاقة بين الرَّجل والمرأة .. إلخ. وهذا المعنى المتكوِّن من السبب والمسبِّب غائبٌ بالكلية عن ذهن الشاعر الذي كان حريصاً على إيجاد " صَك غُفران " يُريحه من عذاب الضمير ، ويَحميه من نظرات الناس . فوجدَ في فهمه المغلوط للمشيئة الإلهية خلاصاً له ، ونهايةً لآلامه ، وتبريراً لأخطائه . كما أن فهمه المغلوط يَعكس المرارةَ العميقة التي تتأجج في ذاته ، واعترافاً ضمنياً بانهياره وسوءِ حاله ، وفقدان الثقة بمن حَوْله . ومن الملاحَظ أيضاً أن نظرة طرفة _ في هذا السياق _ كانت ماديةً بحتة، فقد اعتبر هذين الرَّجلَيْن ( قيس بن خالد وعمرو بن مرثد ) مثلاً أعلى، وقُدوةً سامية تَرنو إليها الأنظار ، وتنتهي إليها الآمال . وهما رَجلان مشهوران بالمال والأولاد، ولَيْسا مشهورَيْن بالعِلم أو الثقافة أو الشِّعر_على سبيل المثال_. وهذا يشير إلى أن المال والأولاد كانا الرُّكنين الأساسِيَّيْن في بناء المنظومة الاجتماعية الجاهلية ذات الصبغة المادية المنبثقة من البيئة الصحراوية القاسية .
إن الفهم المغلوط للمشيئة الإلهية يتماهى مع الفهم المغلوط للقضاء والقَدَر، حيث إن الكثيرين يَضعون فشلَهم ، وفقرَهم ، وعجزَهم ، وخطاياهم ، تحت مظلة القضاء والقَدَر لكي يَرتاحوا من تأنيب الضمير ، ووخزِ الواقع المؤلم ، ولَوْمِ الناس الذي لا يَنتهي . وهذا يدل على وجود ثقافة تبريرية منتشرة على نطاق واسع ، لا تعترف بالخطأ والخطيئة ، وإنما تظل تَدور حَوْلهما للإفلات من تأثيرهما . وهذا إن دَلَّ على شيء ، فإنما يدل على وجود ضغط هائل _ مِن قِبَل عناصر البيئة الاجتماعية_ على الفرد والجماعة . وفي كثير من الأحيان يكون الوقتُ الذي يستغرقه تبريرُ الأخطاء كافياً لإصلاحها .
والعربُ في الجاهلية _ بشكل عام _ كانوا يَرفضون الاعتراف بالخطأ ، ويَعتبرونه خطاً أحمر . فهُم يَنظرون إلى " الاعتراف بالخطأ " على أنه إهانة للفرد ، وتدنيس لرمزية القبيلة ومكانتها، وتدمير للمنزلة الاجتماعية ، وخضوع للآخرين ، وتسليم بشروطهم . لذلك كان العربُ يترفعون عن الاعتراف بالخطأ، ويتكبرون على الحق، بدافع العصبية القَبَلية وعوامل أخرى ذات صبغة شخصية ومجتمعية . وهكذا تتجلى حَمِيَّةُ الجاهلية في أعنف صورها، وتبرز في المرجعية الذهنية ، وتَظهر في التطبيقات الواقعية .
ونجد الشاعر زُهير بن أبي سُلمى قد وصلَ إلى حقيقة أن اللهَ محيطٌ بكل شيء ، وأن عِلْمه شامل لكل الأشياء ، ولا يمكن أن يحدَّه حَد . فاللهُ مُطَّلع على خبايا النفوس. والإنسانُ هو كتابٌ مفتوح أمام خالقه ، ولا يمكن إخفاء شيء عنه .
يقولُ الشاعرُ زُهَيْر بن أبي سُلمى :

فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم لِيَخفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ

وهذا البيتُ يشتمل على موعظة دينية وأخلاقية في آن معاً . والشاعرُ يُطالِب بعدم إضمار الغدر ونقض العهد، وتبييتِ نية الخيانة . وهذا الإضمارُ _ إن حَصَلَ_ فإن الله يَعْلمه ، لأنه عالِم بالسرائر ، وكاشفٌ لضمائر العباد . والشاعرُ يُثبِت صفة العِلم لله . ولا شك أنه وصل إلى هذه العقيدة عن طريق اختلاطه بأهل الكتاب . ففي الجاهلية ذات الصبغة الوثنية لم يكن الناسُ معنيين بمعرفة الصفات الإلهية، ولم يهتموا _ بالأساس _ بهذه المباحث. وهي بالتأكيد كانت ضمن عقائد أهل الكتاب التي اطَّلع عليها الشاعرُ ، واعتنقها ، وبثَّها في شِعره .
ولم يكتفِ زهير بإثبات صفة العِلم لله ، بل أيضاً نراه يتحدث عن عقائد مرتبطة باليوم الآخر الذي يُعتبَر الإيمانُ به ناسفاً للعقائد الوثنية في البيئة العربية . فالعربُ يَعتبرون الموتَ هو النهاية التي لا شيء بعدها ، لذلك لا يؤمنون باليوم الآخر والبعث والنشور والحساب. وشعارُهم في هذه القضية" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع " ، وانتهى الموضوعُ . أمَّا زُهير بن أبي سُلمى _ وهو ابن البيئة الجاهلية الوثنية _ فقد خالفَ إفرازاتِ العقلية العربية ، وخرجَ عن المسار الوثني بشكل كامل ، مخالِفاً تقاليد الآباء المتوارثة . يقول زُهير :

يُؤَخَّر فيُوضع في كتابٍ فَيُدَّخَر ليَوْمِ الحسابِ أو يُعَجَّل فيُنقَمِ

فهو يؤمن بأن الله يُؤخِّر العِقابَ ويُؤجِّله ، فهو يُمهِل ولا يُهمِل . والأعمالُ تُوضَع في كتاب ، وتُسجَّل فيه بكل دقة. ويُدَّخر ليوم الحساب ، أو يتم تعجيل العقوبة في الدنيا ، فَيُنْتَقَم من المسيء. وهذا معناه أن العقوبة قادمة لا محالة _ آجلاً أو عاجلاً _ ، ولا مهرب منها . وهذا اعترافٌ واضح من الشاعر بوجود الله ، وعِلْمه بالجزئيات والكليات . وأيضاً ، الإيمان باليوم الآخر ، والبعث ، والحساب ، وكتابة أعمال العِباد في الصُّحف .
إن زهيراً يَكشف عقيدته المضادة لتاريخ قَوْمه ، والمخالِفة للتراث الوثني المنتشر في البيئة العربية التي نشأ فيها، وعاشَ فيها . ولا يَخفى أنه شاعرٌ جاهلي ماتَ قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية. فمن أينَ استقى هذه العقائد الغَيْبية التي كانت بعيدةً كلَّ البُعد عن الذهن العربي ؟. لقد استقاها_حتماً_ من أهل الكتاب المؤمنين بالله واليوم الآخِر والبعث والحساب. وهذا يشير إلى مخالطته لأهل الكتاب ، والاستماع إليهم، والاطلاع على عقائدهم . كما يدل على حُب زهير للمعرفة والاطلاع ، وبحثه عن الحقيقة ، وعدم أخذ عقائد قَوْمه الوثنيين كمسلَّمات . فهو دائمُ البحث للوصول إلى الحق لكي يَحصل على الطمأنينة ، ويَتخلص من القلق الرهيب الذي كان يتلاعب به ضمن النسق الجاهلي . فعدمُ الاطمئنان إلى عقائد آبائه وقَوْمه العائشين في بيئته جعله قَلِقاً ، كثيرَ التفكير . وهذا أدى إلى بحثه عن عقيدة جديدة تشعره بالأمان الروحي ، والسَّكينة العاطفية ، والراحة الجسدية .
وبالطبع ، لم يَجد أفضلَ من أهل الكتاب الذين يُقدِّمون أنفسهم كوارثين للإرث النبوي ، إرث موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ ، وكأصحاب رسالة سماوية تتجلى في التوراة والإنجيل ، وليس رسالة أرضية وضعية . وبالتأكيد ، لقد نَظر زهير إلى أهل الكتاب باعتبارهم المثل الأعلى ، والقُدوة السامية ، وحاملي الوحي الإلهي . وهذا جعله ينضم إليهم روحياً وعَقدياً على الرغم من بقاء جسمه مع أبناء جِلْدته في بيئته العربية الجاهلية .
وها هُوَ الشاعر لَبيد بن أبي ربيعة يُبرِز أهميةَ الإيمان بما قَسَمه اللهُ تعالى ، وضرورة الرضا بالقِسمة والنصيب . فاللهُ الخالق هو أعلمُ بالناس من أنفسهم ، وأرحم بهم من أمهاتهم ، وقد قَسَمَ المعايشَ والخلائق بالعدل ، وما على الإنسان إلا الرضا والتسليم والتزام القناعة .
يقول لَبيد :

فاقْنَع بما قَسَمَ الْمَليكُ فإنما قَسَمَ الخلائِقَ بَيْننا عَلَّامُها

وهنا تَظهر أهميةُ القناعة بالقِسْمة الإلهية . فاللهُ تعالى قَسَمَ لكل شخص ما يستحقه من غنى أو فقر ، كمال أو نقص ، رِفعة أو ضَعة . وهذه الأمورُ لم تجيء عبثاً أو بمحض الصُّدفة ، لأن قَسَّامَ المعايش هو عَلَّامها الذي يَعلم كلَّ شيء . وبما أن عِلم الله كاملٌ وشاملٌ، إذن .. فالقِسمة الإلهية ستأتي معصومةً لا تَقبل التشكيك أو الطعن، ولا خيار للإنسان إلا الاقتناع بها ، وقبولها بكل صدر رحب .
إن عِلْمَ الله شاملٌ لكل شيء ، ومحيطٌ بالجزئيات والكليات . وهذه الحقيقةُ تَظهر في قول الشاعر الحارث بن حِلِّزة :

وَفَعَلْنا بِهِم كما عَلِمَ اللهُ ومَا إنْ للحائنين دِمـاءُ

إنه يَفتخر بقومه الذين سَحقوا أعداءهم ، وفَعلوا بهم فعلاً بليغاً لا يُحيط به عِلماً إلا الله تعالى. فالبشرُ لا يمكنهم تصوُّر هذا الفِعل العظيم، والإحاطة به . وَحْدَه الله هو القادر على الإحاطة به ، لأن عِلمه شاملٌ وغير محدود . والشاعرُ في هذا السياق يُبيِّن أمرَيْن أساسيَّيْن : الأول _ تعظيم فِعل قَوْمه ، وإعلاء شأنهم ، وبسط نفوذهم ، وصناعة هالة إعلامية حول أمجاد القبيلة . والثاني _ إظهار سَعة عِلم الله ، فهذا العِلمُ لا بداية له ولا نهاية. وعِلمُ البشر المحدود عاجزٌ عن الإحاطة بفعل قَوْمه بسبب عَظَمته. واللهُ هو الذي يُحيط به عِلماً لأنه الخالق الكامل الذي لا يَطرأ عليه نقصٌ ، ولا يُصيبه نسيان أو ضعف .
ويواصل الشاعرُ تعظيمَ قَوْمه ، والحط من شأن أعدائهم . حيث يقول إنه لا دماء للمتعرِّضين للهلاك أو الهالكين . وبعبارة أخرى ، لم يُطالب أحدٌ بثأرهم ودمائهم . لقد ذَهبت دماؤهم هدراً ، ولم يأخذ أحدٌ بثأرهم ، بل لم يُطالِب أحدٌ _ أصلاً _ بثأرهم . وهو يُصوِّرهم في هذا النسق كبشر تافهين لا تاريخ لهم ، ولا قبيلة تَسندهم ، ولا أحد يسأل عنهم ، أو تهمُّه أخبارهم . إنهم مجرد جِيَف وضيعة . دماؤهم ذَهبت أدراجَ الرياح . وقد قُتلوا مجاناً ، فَهُم مخذولون لم يَنصرهم أحدٌ في حياتهم، ولم يُطلَب بثأرهم بعد قَتلهم. عاشوا وماتوا وكأنهم أرقام ، مجرد أرقام ذَهبت إلى النسيان .
والشاعرُ يَهدف إلى تصويرهم كأصحاب منزلة اجتماعية وضيعة، لا اسم لهم، ولا تاريخ لهم . ولو كانوا من أصلٍ كريم شريف ، ويَنتمون إلى قبيلة قوية، لتمَّت المطالبة بدمائهم والأخذ بثأرهم _ على أقل تقدير _. وبما أن هذا الأمر لم يَحدث ، إذن .. فهُم أشخاص بلا أي وزن ، عاشوا وماتوا دون أن يَسأل عنهم أحدٌ ، وهذا منتهى الذل والخزي والعار .
وفي هذا السياق تَظهر فلسفةُ الشِّعر الجاهلي في زمن الحروب والنزاعات . حيث يتم إعلاءُ شأن القبيلة وتلميع اسمها ، ورسم هالة مقدَّسة حَوْلها ، ووصفها بكل الصفات الحسنة ذات التأثير الإيجابي في النفوس. وفي المقابل يتم تدمير صورة القبيلة المعادِية ، والحط من شأنها ، وتلطيخ اسمها ، والتفتيش عن عيوبها ، أو اختراع عيوب لها ، ولصق كل الصفات القبيحة بها ، والتي تَجعل الناسَ يَنفرون منها ، ويُصابون بالقرف عندما يَسْمعون باسمها . إنها حربٌ إعلامية شَعواء تَجري على قَدَم وساق يقودها الشعراءُ. فالشاعرُ هو وزيرُ إعلام القبيلة المنافِح عن أمجادها، والهادم لأمجاد أعدائها.
إن الصراع بين القبائل يَحمل صبغةً هستيرية قاسية ، فلا توجد ضوابط لهذا الصراع الدموي، ولا توجد حدود للحروب القَبَلية . فكلُّ شيء مسموح في هذه الحروب الطاحنة ، والغايةُ تبرِّر الوسيلةَ. والمهمُّ أن تَعلوَ كلمةُ القبيلة ، ولا تَسقط مهما حَصَلَ . فالقبيلةُ هي حَجَرُ الزاوية ، وهي رأس الأمر في الجاهلية . وكلُّ القدرات مُسخَّرة لحفظ مكانتها ، وإعلاء شأنها بين القبائل .
يقول الحارثُ بن حِلِّزة :

فَهَداهم بالأسْوَدَينِ وأمرُ اللهِ بِلْغٌ تَشْقَى بهِ الأشقيــاءُ

يُعطي الشاعرُ وصفاً سريعاً للعسكر . فقادَ هذا العسكر ، وزادهم التمر والماء ( الأَسْودان )، أي إنهم جهَّزوا أنفسهم بالتمر والماء ، وذلك لكي يَحصلوا على القوة، ويَستطيعوا الوقوفَ في وجه الأعداء . وكلُّ قوةٍ عسكرية بحاجة إلى تموين وتغذية جيدة كي تَقْدر على أداء دورها بشكل فعَّال . والتمرُ والماءُ هما مَصدرا الطاقة للعسكر والجيوش .
ويُبرِز الشاعرُ عقيدته في الله تعالى ، فهو يَعتقد أن أمرَ الله بالغٌ مَبالغهِ يَشقى به الأشقياء في حُكمه وقضائه . ولا شيء يَقف في طريق الأمر الإلهي . فأمرُ اللهِ نافذٌ لا محالة ، لا يُوقفه شيء . ومَن كُتب عليه الشقاءُ فسوفَ يَكون من الأشقياء ، ولا فرصة أمامه للهرب .
والشاعرُ يُصوِّر الأعداءَ كأشقياء خاضعين لأمر الله تعالى ، ولا مجال أمامهم للخروج من دائرة الشقاء . وهكذا نرى الشاعرُ قَد وَضعهم في القائمة السوداء معتمداً على فهمه للأمر الإلهي . وهو بذلك يُحاول جعلَ أمر الله في صَفِّه وصَفِّ قَوْمه _ إن جاز التعبير _ ، وضد الأعداء . وهنا تبرز قضية غاية في الخطورة ، وهي توظيفُ العقيدة الدينية لصالح العَصَبية القَبَلية . وكأن الشاعرَ يَهدف إلى " احتكار أمر الله " لصالحه وصالحِ قَوْمه. فَمَن عادى قَوْمه فقد أدخل نَفْسَه في دائرة الشقاء الأبدي ، لأن اللهَ غالبٌ على أمره ، وأمرَه سَيَبْلغ مَبالغه ، ولا توجد قوة قادرة على مواجهته . وهكذا يَظهر لنا قضية توظيف الدِّين لخدمة الدنيا ، واستخدام العقيدة لتحقيق أغراض شخصية ، ومصالح قَوْمية .
ومن الجدير بالذِّكر أن الشاعر لم يُعْطِ تعليلاً لسبب شقاء الأعداء . ولكنْ من الواضح ، أن سبب شقائهم _ حَسْبَ منظور الشاعر _ هو وقوفهم ضد قَوْمه . ومَن وَقفَ ضد قَوْمه فكأنما وَقف ضد الله تعالى الذي لا يمكن مواجهته ، ولا يمكن إيقاف أمره النافذ .
وإذا انتقلنا إلى الشاعر النابغة الذبياني نجده معنياً بكلام الله لأنبيائه . وكلامُ الله هو صفةُ اللهِ القديمةُ، فالكلامُ صِفةُ المتكلِّم . كما أن النُّبوة مَظهرٌ لتجليات الرحمة الإلهية على البشر .
واللهُ تعالى كان قادراً على تَرك البشرية تَهوي في الضلال ، لكنه _ سبحانه _ اختارَ أن يُرشدَ الخلائقَ إليه ، ويُنقذهم من الضلال ، ويَمنحهم السعادة في الدنيا والآخرة ، لذلك أرسلَ إليهم الأنبياء الذين كانوا أفضلَ المعلِّمين والمصلِحين . والشاعرُ مُهتم بالتوجيه الإلهي لأنبيائه ، وإبراز التعاليم السماوية وعلاقتها بمقام النُّبوة ،_ وكل ذلك طبعاً حَسْبَ اعتقاده وتصوُّره _ .
يقول النابغة الذبياني :

إلا سُليمان إذ قال الإلهُ لـهُ قُم في البَرِيَّة فاحددها عن الفنَدِ

وهنا تتَّضح عقيدةُ الشاعر ، فهو مؤمنٌ بالله تعالى ، والوحي الإلهي ، والنُّبوة . وقد أوردَ اسمَ النبي سليمان_عليه الصلاة والسلام_. ويقول الشاعرُ إن الإلهَ قال لسليمان الحكيم: قُم في البَرِيَّة، فاحبسها عن الخطأ في الرأي والقول ، وامنعها من الظلم .
وهذا يُشير إلى إيمان الشاعر بالكلام الإلهي ، والوحي السماوي ، وكَوْن تعاليم السماء تَحمل رسالةَ الخير والحق والفضيلة ، ونشر العدل بين الخلائق ، ومنعها من الظلم أو الخطأ . وهنا تَظهر قناعةُ الشاعر بأهمية اتصال الأرض بالسماء ، وأهمية التوجيهات السماوية العُليا لصلاح العالَم السُّفلي ( الأرض ) .
وينتقل النابغة الذبياني إلى تمجيد الله تعالى ، وإظهار قوته ، وقدرته على حماية مخلوقاته ، وإحاطتهم بالأمن والأمان ، فيقول :

والمؤمنِ العائذاتِ الطيرَ تمسحها رُكبانُ مكة بين الغِيْل والسَّعدِ
والمؤمِن هو الله تعالى الذي آمَنَ عائذاتِ الطير وأجارها وحماها . وهي التي عاذت بالْحَرَم ، أي التجأت إليه فوَجدت الأمانَ والحمايةَ ، تلَمسها أو تزورها رُكبانُ مكة بين الغيل والسعد ، وهما أجمتان بين مكة ومِنى .
إن اللهَ يُجِيرُ ولا يُجار عليه. وهذه الحقيقة آمن بها النابغة الذبياني، وسطَّرها في شِعره، ووضعها في صورة فنية. فالطيرُ في الْحَرَم آمنٌ على نَفْسه ، لا أحد يتعرض له بسوء ، وما كان هذا لِيَحْدث لولا أن الله آمنَ الطيرَ من الخوف ، وحماه من كل مكروه .
فاللهُ هو المؤمِن الذي يَرْجع إليه الأمنُ والأمانُ، ولا أحد يَقْدر على منحهما سواه. فهو واهبُ الأمن . والأمنُ عكس الخوف. ولا يَخفى أن المؤمِن هُوَ اسم من أسماء الله الحسنى. وهذه المعاني أشارَ إليها الشاعرُ ، فلا بد أنها كانت راسخةً في قلبه وعقله .
والشاعر عُبَيْد بن الأبرَص يُمجِّد اللهَ تعالى في شِعره، ويُورِد بعض المعاني الهامة . فهو يشير إلى أن سائلَ الله لا يَخيب ، فمن يُقبِل على الله تعالى سوفَ يُقبَل ، ولن يُرَدَّ خائباً . وهنا تبرز أهميةُ الاستعفاف، وقطعِ علائق الخضوع للناس. وتتضحُ ضرورة التوجه إلى الله بالكُلِّية، لأنه_ سبحانه_ لا يُخيِّب مَن دعاه ، ولا يَحْرم سائلَه .
يقول عُبيد بن الأبرص :

مَن يَسأل الناسَ يَحْرِموه وسَائلُ اللهِ لا يَخيــبُ

فالذي يَسأل الناسَ ويتوجه إليهم سيحرمونه ، ويردونه خائباً. فالناسُ غارقون في نظام مادي ، وبعيدون كل البعد عن المشاعر الإنسانية ، كما أن حرصهم على الدنيا ، وتكالبهم عليها ، والإمساك بالشهوات بالأظافر والأسنان ، كل هذه العوامل تجعل الناس يُديرون ظهورهم لمن يسألهم، ويَحرمونه من كل خير. أمَّا الذي يَسأل اللهَ تعالى ، فإنه سيفوز بمراده ولن يَخيب. فاللهُ لا يَطرد من يأتيه،فهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه، ولا يخاف من الفقر ، ولا يخشى تقلباتِ الزمان . والشاعرُ قد عَرَفَ الناسَ وعجنهم وخبزهم ، فوجدهم أصحاب صفات سيئة ، حريصين على مصالحهم الذاتية ، ولا يُفكِّرون في مساعدة الآخرين . لقد غسل يده من الناس، وتوجَّه إلى الله تعالى، فهو المتَّصف بالكمال والكَرَم ، ولا يَرُد من يسأله . والمخلوقُ لا يستحي أن يرد أخاه خائباً مكسوراً ، أمَّا اللهُ العظيمُ فيستحي من عبده الضعيف إذا بَسط إليه يديه أن يرده خائباً . وهنا يتضح الفرق بين صفات الخالق الكاملة وصفات المخلوقين الناقصة .
ويقول عُبَيْد بن الأبرَص :

باللهِ يُدْرَكُ كلُّ خَيْــرٍ والقَوْلُ في بَعْضِه تَلْغيبُ

لا سبيل للوصول إلى الخير بدون التوفيق الإلهي. وإذا استعانَ الشخصُ بالله تعالى، فإنه سَيُدْرِك كلَّ خير. أمَّا إذا اعتمد على نَفْسه ومواهبه الذاتية فسوفَ يضل الطريقَ ، لأن الإنسان عاجزٌ ، وخاضعٌ لقوة أعلى منه ، إنها قوة الله تعالى . كما أن الإنسان _ بِحُكْم ضَعفه _ لا يَقْدر على جلب الخير أو دفع الشر اعتماداً على ذاته . فالعاجزُ لا يمكن أن يَصدر عنه الكمالُ . لذلك يقرِّر الشاعرُ أن كلَّ خير إنما يُدرَك بالله . فاللهُ هُوَ الكاملُ ، ولا يَصْدر عن الكامل إلا الخير والكمال .
ويشيرُ الشاعرُ إلى أهمية الكلام ، وضرورة اختياره بعناية فائقة . فالإنسانُ قد يَقول قَوْلاً بلا تدبر ولا تفكير، فيكونُ منه ما لا خير فيه. ففي بَعض القول تلغيبٌ ، أي : ضعف أو إتعاب لقائله. وهذا الكلامُ غير المحسوب قد يجرُّ شراً على صاحبه ، ويكون سبباً في هلاكه . وكَم مِن شخص سَقط ضحيةَ لسانه ، وكَم مِن إنسان قتله لسانُه . لذلك قيل : لسانُ العاقلِ مِن وراء قلبه ، وقلبُ الجاهل مِن وراء لسانه . يعني أن العاقلَ يفكِّر بالكلام قبل أن يَنطق به ، فإن كان خيراً نطقَ به ، وإن كان شراً لم يَنطق به. أمَّا الجاهلُ فيُلقي الكلامَ دون تفكير، وبعد ذلك تبدأ رحلةُ الندم _ حين لا يَنفع الندم _. والكلمةُ كالرصاصة إذا انطلقتْ فلا يمكن إرجاعها ، ولا بد أن تُصيب شيئاً ما . كما أن الإنسان هو مالِكُ كلامِه ما دامَ كلامُه في صدره ، فإذا خرجَ الكلامُ صار الإنسانُ أسيراً لكلامه .
ويقول عُبَيْد بن الأبرَص :

واللهُ لَيْسَ لهُ شَـريكٌ عَلَّامُ ما أَخْفت القلوبُ

إنه إقرارٌ بوحدانية الله تعالى . وهذا الإقرارُ يجيء من قلب البيئة العربية الوثنية التي تعتمد الشِّركَ بالله رأساً للعقائد، ومَصْدراً للتشريع الدِّيني والاجتماعي بكل إفرازاته . لقد استمع الشاعرُ لنداء الفِطرة التي تقرِّر وحدانيةَ الله تعالى ، وخالفَ عقائدَ الآباء ، وعارضَ الموروثَ الديني في بيئته الغارقة في تقديس الأصنام وعبادتها تقرُّباً لله تعالى .
فها هو يقرِّر أن الله واحدٌ في ذاته ، وواحدٌ في صفاته ، ليس له شريكٌ أرضي ولا سماوي . ومِن صفاته تعالى أنه عَلَّام ما أَخفت القلوبُ ، مُطَّلع على السرائر ، لا تخفى عليه خافية . والذي يَعرف خبايا القلوب الباطنة ، يَعرف أعمالَ الإنسان الظاهرة . والمنطقُ يقول إن معرفةَ الظاهر أَهْونُ من معرفة الباطن . وعند اللهِ ، كلُّ شيء هَيِّن ، لا يُعجزه شيء ، ولا يَصعب عليه شيء .

2_ الحلفُ بالله :

الحلفُ باللهِ تعظيمٌ لله تعالى، وتعظيمٌ لمقام الأُلوهية . فالإنسانُ حين يمرُّ في موقفٍ صعب ، وتُحيط به الأزمات، فإنه يلجأ إلى خالقه تعالى، وتختفي أمامه قوة الكائنات الحية، وقوة الجمادات ، فلا يعود يرى إلا القوة العُليا السَّامية ، قوة الله تعالى ، فيلجأ إليها . والحلفُ بالله يَشتمل على هذه المعاني .
يقول امرؤ القَيْس :

فقالتْ يَمينَ اللهِ ما لكَ حِيـلةٌ وَما إنْ أرى عنكَ الغَوايةَ تَنْجلي

يَخبرنا الشاعرُ عن حبيبته ، فقد حاصرها من كل الجهات ، ولم يترك لها منفذاً للتهرب أو الهرب ، ويَرفض أن يَتركها وشأنها . وعندما أحسَّت الحبيبةُ أن دائرةَ الحِصار قَد أُطبقت عليها ، زالت القوى البشرية المحدودة من قلبها وعقلها ، ورأتْ قوةَ خالق البشر، فاعتمدتْ على الحلف بالله في هذا المأزق الخطير الذي وَقعت فيه. فهي في حالة اضطرار لا اختيار . والإنسانُ _ عادةً _ لا يَلجأ إلى الحلف إلا في المواقف الصعبة. وكأن الحلفَ في هذا الموضع يَحمل نداء استغاثة ضمنياً، أو طلب مساعدة خفياً . والإنسانُ _ عندما تُغلَق في وجهه كل الأبواب وتتساقط أمام عينيه الأسباب والمسبِّبات _ ، فإنه يفرُّ إلى خالق الأسباب، ويُهرَع إلى بابه .
وها هِيَ تقول: أحلف بالله، ما لي حِيلة لإبعادكَ عني ، ولا سبيل إلى دَفعكَ ، وليسَ لكَ حَل . وهنا يبرز ضعفُ الأنثى وعَجْزها أمام شهوة الذَّكر الجامحة ، وإلحاحه الشديد . فالعاشقُ قد أَحكم قَبضته على المرأة التي يُحبُّها، ولا يَسمح لها بالفرار أو الهروب من هذا المأزق . فقد وَصلا إلى نقطة اللاعودة ، وهو يُريد استغلال هذا الموقف حتى آخر لحظة ، فقد لا يتكرر ثانيةً . وإذا سَيطرت الشهوةُ على الأعضاء ، فإن صوتَ العقل يتلاشى ، وتصبح الغريزةُ هي القوةَ الضاربة ، وصاحبةَ اليد الطولى .
إنها لم تجد حِيلةً ولا حَلاً لإصرار الشاعر ، ولا ترى في الأفق بارقةَ أمل . فهي مقتنعة أن الضلالة مسيطرة على الشاعر ، ولن يُفلِت منها . وقد أَعْمته هذه الضلالة فلم يَعد يرى غيرَ لذة القرب من الحبيبة، مهما كانت الأخطار المحدِقة مثل : انكشاف أمره أمام الناس، أو التسبب بفضيحة لا أول لها ولا آخر، أو معرفة الأهل بالموضوع ، خصوصاً أهل الحبيبة .
وينبغي تذكُّر أن المجتمع الجاهلي هو مجتمع قَبَلي مُغلَق لا مجتمع مُنفَتح متحرر . وهذا المجتمعُ المغلَق المحافِظ يَحرص على قيم الشرف ، وصَوْن الأعراض . والجميعُ على استعداد لبذل دمائهم رخيصةً من أجل حماية سُمعة القبيلة ، وحماية أعراض نسائها . وهذه القضيةُ لا مُساوَمة فيها ، ولا مُساوَمة عليها . لذلك ما قامَ به الشاعرُ يُمثِّل مغامرةً خطيرةً. إنه يَلعب بالنار،ومع هذا لم يكترث بهذه النار لأنه في جنَّة الحبيبة.
وقد قال الرواة : (( هذا أغنج بيت في الشِّعر )) . وكأنهم يَستشعرون انكسارَ الحبيبة أمام حبيبها، ويَعتبرون أن كلامَها لا يَنبع من قلبها، وإنما يَنطلق من وراء قلبها ، وأنها تتمنَّع وهي راغبة . وبعبارة أخرى ، إنها تريد بقاءَ حبيبها معها ، ولكنها لا تَقدر على التصريح بهذا ، لِمَا في الأمر من خطورة أكيدة. وكأنها تقول له بلسان المقال : ابتعدْ عني ، أمَّا لسانُ حالها : اقتربْ مني . أي إنَّ قلبَها وعقلَها يَسيران في مسارَيْن متوازيَيْن ولا يَلتقيان .
وبشكلٍ عام ، سيظل حَلْفُها بالله تعالى مؤشراً واضحاً على صعوبة الموقف ، والمعاناةِ الشديدة التي تكابدها روحياً ( عاطفياً ) ، ومادياً ( جسمانياً ) .
ونَنتقل من الحلف في المجال العاطفي الذي يتعلق بمشاعر فردية ، إلى الحلف في المجال السياسي العسكري الذي يتعلق بحياة الجماعة ، ومصائر الكثيرين .
يقول زهير بن أبي سُلمى :

ألا أَبْلِغِ الأحلافَ عني رسـالةً وَذُبيانَ هل أَقسَمتُم كلَّ مُقسَمِ

إنها رسالةٌ سياسية إصلاحية تمس حياةَ الفرد والجماعة . فالشاعرُ هنا يَلعب دوراً هاماً في الفكر السياسي القَبَلي ، ويقدِّم نَفْسَه كزعيم عشائري وداعية سلام ، يَجْمع ولا يُفرِّق ، أو وسيط دبلوماسي هَمُّه تقريب وجهات النظر ، وجمع الأطراف على كلمة سَواء . وهذا جانبٌ مهم من جوانب شخصية الشاعر ، فهو لا يَكتفي بترتيب الكلام ، وصناعة الصور الفنية الجَمالية . إنه يُحوِّل شِعْرَه إلى نظرية في عِلم الاجتماع السياسي ، ويَجعل كلامه وثيقةَ صُلح ومحبة بين القبائل المتناحرة .
وقد اندلعت حربٌ طاحنة بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان . وقد نصَّب الشاعرُ نَفْسَه رَجلَ سلام وصُلح ، ووضع شِعْرَه في سياق إنهاء الحرب ، وإشاعة السلام والوئام . وهذا يدل على بُعد نظره ، وكَوْنه مثقَّفاً عُضوياً ، أي منخرطاً في قضايا مجتمعه ، وهموم أفراده وطموحاتهم .
يقول الشاعر : أَبلغ ذُبيان وحُلفاءها ، وقُل لهم قد حَلفتم على إبرام الصُّلح كل حلف ، فاحذروا من الحنث باليمين.
فالشاعرُ يَدعوهم إلى حفظ اليمين. فهذه قضيةٌ لا تحتمل التلاعب، ولا تَقبل التحايل. فالحنثُ باليمين يُعتبَر وصمة عار، ويُشير إلى سوءِ الأخلاق، وخُبث السريرة، وفساد الطباع ، ويدل على انهيار الشخصية الإنسانية، وتلاشي القِيَم.
وبالإضافة إلى هذا، فاليمين متعلِّق بإبرام الصُّلح ، وإنهاء حالة الحرب بين عَبْس وذُبيان. ويترتبُ على الحنث به عودة الحرب ، وإزهاق الأرواح، وإتلاف الممتلكات . فلا بد من تذكيرهم باليمين ، وضرورة الالتزام به . فالالتزام به طريقُ الخير والسلام والمصالحة القَبَلية ، أمَّا الحنثُ به فهو طريق الشر والحرب والدمار الحتمي .
ويقول النابغة الذبياني :

حَلفتُ فلم أترك لنفسكَ رِيبةً وليس وراءَ الله للمرء مَطْلبُ

إن الشاعرَ يؤكد أنه قد حَلَفَ ، ولولا أن الأمر جليل لما أَقدم على هذا الأمر . وقد أَقدم على الحلف لأنه يريد ألا يترك في نَفْس المخاطَب شَكاً ولا رِيبة . وليس بعد اليمين بالله مجال لطلب غير ذلك من الحجج ، فلا بد من تصديقه وعدم تكذيبه، وهذا ما يَطمح إليه الشاعرُ، وقد جاءَ باليمين من الأجل الوصول إلى هذه الغاية ( تصديقه وتَنْزيه كلامه عن الكذب ) . فاليمينُ بالله هو أعظمُ حُجَّة، وأكبر دليل. وإذا لم يُصدِّق المخاطَبُ هذا اليمينَ ، فلن يُصدِّق شيئاً ، وستنهشه الوساوسُ والشكوك .

3_ تعظيمُ الكعبة :

تعظيمُ الكعبة عقيدةٌ أساسية في الجاهلية . فالكعبةُ هي بيتُ الله الذي طاف حَوْله الأنبياء والناس من بعدهم، وهي مركزُ الوجود الدِّيني في الجزيرة العربية ، ومحط أنظار العرب من شتى القبائل ، ومَوْضع حَجِّهم، وبيت أبيهم إبراهيم _ عليه الصلاة والسلام _ ، ومأوى أفئدتهم ، وحاضنة أصنامهم. وقد كان عربُ الجاهلية لا يَبنون بنياناً مُربَّعاً تعظيماً للكعبة ، وحِفظاً لمكانتها وتميُّزها . لذلك ، فليس غريباً أن يُحلَف بها ، وأن تُذكَر في المعلَّقات . ولَوْلا مكانتها السامية لما تم تعليق أشعارهم عليها .
يقول الشاعرُ زهير بن أبي سُلمى :

فأقسمتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حَوْلَه رِجالٌ بَنَوْهُ من قُرَيْشٍ وَجُرْهُـمِ

لقد بدأ كلامَه بالقَسَم بالكعبة المشرَّفة، ولَوْلا عَظَمتها لَمَا أقسمَ بها . ولا يكتفي بالقَسَم بها ، بل يُركِّز _ أيضاً _ على قضية الطواف بها . وهو يشير إلى مَن طافَ حَوْلها ، وهُم رِجالٌ قاموا ببنائها ، ويَنتمون إلى هاتَيْن القبيلتَيْن . جُرهم : وهي قبيلة قديمة تزوَّج فيهم إسماعيل _ عليه الصلاة والسلام _، فَغَلبوا على الكعبة والْحَرم بعد وفاته ، وضعف أمرُ أولاده ، ثم استولى عليها بعد جُرهم خُزاعة ، إلى أن عادت إلى قُرَيْش ( وهو اسم لولد النضر بن كنانة ) .
ولم يَكتفِ الشاعرُ بتعظيم الكعبة وإبراز قُدسيتها ومكانتها الجليلة عن طريق القَسَم بها ، بل _ أيضاً _ يُبرِز الحالةَ التاريخية المحيطة بالكعبة . وكأنه يُريد توضيح الأصول التاريخية للكعبة ، والقول إن مقدَّسات العرب لها تاريخٌ ضارب جذوره في الأعماق ، وليست مقدَّسات سطحية جاءت صُدفةً ، أو تم اختراعها دون سند حضاري أو تاريخي .
ونراه يُنوِّه بقُرَيْش وجُرهم ، ويُظهِر دورهما التاريخي في بناء الكعبة ، والسيطرة عليها ، وبَسط النفوذ على الْحَرم . وهُما قبيلتان عريقتان لهما وزنٌ مهم في حضارة الجزيرة العربية ، وتاريخهما جزءٌ من تاريخ الكعبة. ولا يَخفى أن القبائل تَنظر إلى الكعبة باعتبارها المركز ، وتَنظر إلى القبيلة التي تَغلب على الكعبة على أنها سَيِّدة القبائل بلا منازِع ، والقبيلة الأولى المقدَّمة في كل المحافل . فالأمرُ لا يَقف عن الدلالة الدينية، بل يحتوي_كذلك_على دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية شديدة الأهمية، ولا يمكن تهميشها بأية حال من الأحوال .
ويقول الشاعرُ النابغة الذبياني :

فلا، لَعَمْرُ الذي مسَّحتُ كعبتَــه وما هُريق على الأنصاب من جسدِ

يَحلفُ الشاعرُ بربِّ الكعبة التي مَسَّحها ، أي طافَ بها ولَمَسَها . وهنا تَظهر إحدى الشعائر التعبدية ، وهي الطواف حَوْل الكعبة ولَمْسها للتبرك بها . كما تَظهر إحدى الشعائر الوثنية التي كانت تُدنِّس الكعبةَ المشرَّفة، وهي الذبحُ للأصنام ، وتقديم القرابين للآلهة . فالأنصابُ هي حجارةٌ كانت تُنصَب في الجاهلية ، وتُذبَح عليها الذبائح ، فيسيل الدمُ على الأنصاب . وهذه التفاصيل وضَّحها الشاعرُ من أجل إظهار عقيدته الإيمانية ( الإيمان بالأصنام الآلهة والالتزام بكافة الطقوس التعبدية من ذبحٍ ، وتقديم قرابين ، ... إلخ ) . فالشاعرُ ملتزم بدِين آبائه الموْروث بكل تفاصيله ، ولا يَحيد عنه . وهذه القضيةُ _ بالنسبة إليه _ قضية مبدأ لا مساوَمة فيها .
وهذا الطقسُ الديني ( الذبح على الأنصاب ) شديد الأهمية في العقيدة الوثنية الجاهلية ، لأنه تجسيدٌ عملي لفكرة الولاء للأصنام الآلهة ، والانتماء إلى دِين الآباء والأجداد . والأصنامُ هي الفلسفة العَقَدية المركزية في دِين العرب قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية .

الفصل الثاني
المَوْت

تمهيد
إن الموتَ يُمثِّل قيمةً أساسية في الحياة . ولا نُبالِغ إذا قُلنا إن الموت هو الحياة الحقيقية . ولا يوجد إنسان لا يؤمن بالموت ، أو لا يُفكِّر به . والإنسانُ قد تنهار عقيدته فَيَجْحد وجودَ الله تعالى، ولكنْ لا يمكنه أن يَجحد وجودَ الموت . إذن ، فالموتُ هو حَجر الزاوية في البناء البشري. والحديثُ عن الموت هو الفلسفة النهائية الحاسمة ، ومختصر الخبرات الحياتية برمتها . والشعراءُ _ باعتبارهم أكثر المخلوقات حساسيةً والتقاطاً لعناصر الطبيعة_ لا يَقدرون على الإفلات من"إغراء الموت" حتى لو أرادوا ذلك. وهذا يُفسِّر ذِكرَ الموت في أشعارهم ، وجعل الفلسفات والمناهج الفكرية تَدور حَوْله . فالموتُ مجالٌ خصب للتأمل في النهاية ، والأحزان ، والفِراق ، ... إلخ .
والمعلَّقاتُ اعتنت بموضوع الموت ، واستمدَّت منه فلسفةً للحياة ، ومنهجاً فكرياً للإنسانية . وقد عبَّر أصحابُ المعلَّقات عن فكرة الفناء ، وعدم الخلود في الدنيا ، وأن الموت شامل لكل الأحياء، ولا مفر منه ، واستحالة العودة من الموت ، وأنه مُقدَّر . وفي الجهة المقابِلة ، نجد أفكاراً تتحدث عن ضرورة الذهاب إلى الموت وعدم انتظاره . فهو قادمٌ _ لا محالة _ فينبغي أخذ المبادَرة . وتبرز_ أيضاً _ فكرةُ عدم المبالاة بالموت، ولا بد للإنسان أن يعيش حياته بالطُّول والعَرْض ، وأن يَستمتع قَدْر المستطاع لأنه لن يَعيش إلا مرة واحدة فقط . وتَظهر فكرة " الموت صُدفة " ، وأنه حالة عبثية تأتي بشكل أعمى ، وغير مُسَيْطَر عليه . وهذه العقيدةُ متأثرة بالنسق الفكري الوثني الذي لا يؤمن بالحياة بعد الموت ( الحياة الآخِرة ) .
إننا أمام حالة شِعرية متفردة تتحدث عن الموت ، وتورده في سياق فني فلسفي يَعكس طبيعةَ عقائد أصحاب المعلَّقات ، والماهياتِ الفكرية الكامنة في ذواتهم ، والأحداث التاريخية المصاحِبة للشاعر وفلسفته في الموت والحياة على السواء ، لأن الأشياء تُعرَف بأضدادها .
1_ لا خلود في الدنيا :

الدنيا دارٌ زائلة لا يمكن أن تَمنح الخلودَ للعناصر . ففاقدُ الشيء لا يُعطيه . وبما أن الدنيا ذاتها غير خالدة ، إذن فلا خلود فيها . إنها فانيةٌ هِيَ ومحتوياتها. والناسُ يَرون الموت والأموات كلَّ يومٍ رأي العَيْن ، فلا مجال للتكذيب أو الشك . وكلُّ إنسان مهما تطاول عُمُرُه ، لا بد أن يُحمَل يوماً ما إلى المقبرة . وهذا الأمرُ من كثرة ما اعتاد عليه الناسُ ، صار أمراً عادياً لا يُحرِّك المشاعرَ ، ولا يُثير مكنوناتِ الصدور. فالاعتياديةُ تَجعل الإنسانَ أعمى، وعاجزاً عن رؤية الأشياء بعين البصيرة ، وغارقاً في نظام حياتي روتيني مغلَق .
ونحن نجد الشاعر طَرَفة بن العبد يشير إلى قضية " اللاخلود " فيقول :

ألا أيُّهذا اللائمي أَشْهَدُ الوَغَــى وأن أنهلَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

يقول : ألا أيها الإنسان الذي يُلومني على حضور الحرب ، وحضورِ الملذات ، هل تخلِّدني إن كففتُ عنها ؟ .
إن الشاعرَ يُؤْمن بعدم الخلود في الدنيا . وسواءٌ شاركَ الإنسانُ في الحرب أم نام في بَيْته ، ففي كلا الحالتين لن يَنعم بالخلود . لذلك فهو يُريد أن يَعيش حياته على هواه بلا ضوابط ، أن يعيش بالطُّول والعَرْض ، ويَستمتع بكل لحظة ، ويَفعل ما يَحلو له. ففي كل الحالات ، هُو غير خالد ، والموتُ قادمٌ لا محالة ، والمسألةُ مسألةُ وقتٍ لا أكثر ولا أقل. وهذه القناعةُ لم تُكسِب الشاعرَ إحساساً بالمسؤولية ، بل على العكس ، أغرقته في اللامبالاة واللاجَدْوى ، وأكسبته شعوراً بالعَدَم والضياع . وبما أن الموتَ قادمٌ ، والخلود متعذِّر ، فلماذا لا يستمتع بحياته ويشارك في الحرب ويصنع مجدَه الشخصي ومجدَ قبيلته ويَنهل من اللذات قبل أن يداهمه الموت ؟! . إنها رُوحٌ جاهلية وثنية تَعتبر الموتَ نقطة النهاية ، ولا شيء بعدها. وبالتالي ، لا بد من استغلال الحياة الدنيا في الاستمتاع ، وتحقيق رغائب النَّفس كاملةً غير منقوصة . ومن الواضح أن سلوكَ الشاعرِ العابثَ قد سَبَّبَ له المتاعبَ، وجلبَ له الانتقاداتِ والعتابَ . وبالطبع ، فإن الشخص الذي يَرى التصرفاتِ الطائشة للشاعر لا بد أن يَلومه . وهذا اللومُ يَنبع من تطبيقات العقل الجمعي ، ويَنطلق من فلسفة اجتماعية سائدة تتطلب التوازنَ في أداء الأعمال، وتحمُّلَ المسؤولية، واحترامَ قيمة الحياة، وعدم تضييعها في اللذات الوقتية ، والسلوكياتِ غير المحسوبة .

2_ الذهاب إلى الموت وعدم انتظاره :

من الواضح أن الشاعر طَرَفة بن العبد يؤسس فلسفته الخاصة بالموت وملابساته ، وما يُرافقه من أحداث فكرية أو مادية واقعية . وها هُوَ يقول :

فإنْ كُنتَ لا تسطيعُ دَفْعَ مَنِيَّتي فَدَعْني أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي

إن الشاعر يَبني فلسفته الذاتية حول فكرة " استحالة دفع الموت " ، لكنه يُحيط هذه الفكرة الصحيحة بسلوكيات خاطئة وتطبيقاتٍ سلبية. فالشاعرُ يرى ضرورةَ الغرق في الملذات والشهوات بلا حساب ، لأن الموت قادمٌ بشكل مؤكَّد لا شك فيه . فبدلاً من أن يصبح الموت باعثاً على الزهد والاستقامة ، يصبح باعثاً على اللامبالاة والعبث والتبذير . وهذه هي فلسفة طَرَفة بن العبد التي بثَّها في أشعاره .
يقول طَرَفة : فإن كنتَ لا تستطيع أن تدفع مَوْتي ، فدعني أُبادر الموتَ بإنفاق أملاكي .
إنه في سِباق مع الموت ، ويُريد أن يُسابق الموتَ قبل أن يُباغته . وهكذا تتجلى روحُ المبادَرة ، مُبادَرة الموت واقتحام عالَمه ، وذلك بإضاعة الممتلكات ، وتبذير الأموال، والاستمتاع بالملذات إلى الدرجة القُصوى. فالموتُ سيتلفُ أملاكَ الشاعر، ولن يُبقيَ له شيئاً . لذلك يَحاول الشاعرُ أن يَسبق الموتَ ، ويأخذ على عاتقه إتلاف أمواله بنَفْسه ، وعدم منح الموت هذه الفرصة .
والمنهجيةُ الفلسفيةُ المسيطرة على الشاعر في هذا السياق هي أن الموت لا بد منه، فلا معنى للبخل ، وتركِ الملذات ، وإدارةِ الظَّهر للشهوات . فعلى المرء أن يَستمتع بالحياة ولذاتها بكل الوسائل المتاحة ، فالغايةُ تبرِّر الوسيلةَ ، والإنسانُ لن يَعيش مرةً أُخرى ، فعليه اغتنام هذه الفرصة قبل فواتها. فالمتعةُ إذا ذَهبت لن تَعود . وهكذا يُصبح الموتُ حافزاً على الغرق في الشهوات بلا ضوابط ، وليس حافزاً على العمل المثمر ، وسلوكِ الطريق القويم .
ومن الملاحَظ أن فلسفةَ طَرَفة بن العبد تنطوي على ردة فعل عكسية . فالمفروضُ أن يَقطعَ الموتُ لذاتِ النفوس ورغباتها ، ويدفعَ إلى الصلاح والخير ، باعتباره هادمَ اللذات ، ومُفرِّق الجماعات ، ومُيتِّم البنين والبنات . أمَّا في حالة طَرَفة ، فقد تحوَّلت صدمةُ الموت إلى مزيد من الشهوانية والعبث واللاجَدْوى. ففي بعض الأحيان، يؤدي النُّورُ الباهر إلى العَمى لا قوة الإبصار . كما أن كَثرة الشَّد يُرخي . وهذا ما نراه جلياً في فلسفة طَرَفة المتعلقة بالموت، وتطبيقاتها الشعرية .

3_ عدم المبالاة بالموت :

يواصل الشاعرُ طَرَفة بن العبد سياسته تجاه الموت ، حيث إنه لا يُبالي به ، ولا يُقيم له وزناً . هذه هي القاعدة الأساسية في فلسفته حول الموت . أمَّا الاستثناءُ فهو ما عبَّر عنه في قَوْله :
وَلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ مِن عِيشَةِ الفَتى وَجَدِّكَ لم أحفِلْ متى قامَ عُوَّدي

يقول طَرَفة : فَلَوْلا حُبِّي ثلاث خِصال هُنَّ من لذة الفتى الكريم لم أبالِ متى أقام عُوَّدي من عندي آيسين من حياتي . أي لم أُبالِ متى مِتُّ .
وهذا البيتُ يَحمل تشويقاً كبيراً ، ويشدُّ انتباهَ السامع . فالشاعرُ يَنظر إلى الموت على أنه نهاية المطاف ، وأن الحياة مهزلةٌ كبرى. وهو لا يُبالي بالموت ولا الحياة على حَدٍّ سَواء . لكنَّ هناك ثلاث خصال تَجعله حريصاً على حياته، ومُبالياً بالموت إلى حَد بعيد . وهذه الخِصالُ هي : شرب الخمر، وإغاثة اللهفان ، والاستمتاع بالنساء . وقد ظَهرت هذه الخصال في قَوْله :

فَمِنْهُنَّ سَبْقي العـــاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ كُميتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزْبـــدِ
( شرب الخمر )
وَكَرِّي إذا نادى المُضــافُ مُحَنَّباً كَسِيدِ الغَضا نَبَّهْتَهُ المُتَــــوَرِّدِ
( إغاثة اللهفان )
وتَقصيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعجِبٌ ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِ المُعَــــمَّدِ
( الاستمتاع بالنساء )
وسوفَ يتمُّ شرحُ هذه الأبيات بالتفصيل لاحقاً . وما يهمنا هنا هو ارتباط الموت بالمتعة . فالشاعرُ يعتنق " عدم المبالاة بالموت " كعقيدة ثابتة لا محيص عنها . والقضيةُ عنده محسومة بشكل نهائي ، والمسألةُ مسألةُ مبدأ .
لكنَّ هذه العقيدة تنهار وتصبح لاغيةً ، عندما ترتبط حياةُ الشاعر بثلاثة أمور : الأول _ شرب الخمر الذي يُشكِّل قضيةً أساسية في المجتمع الجاهلي . والثاني _ إغاثة اللهفان ، وهو أمرٌ ثابت في التقاليد العربية القَبَلية ولا مساومة عليه . والثالث_ الاستمتاع بالنساء ، وهذه قضية مركزية في الثقافة الجاهلية الشهوانية .
إذن ، هذه القضايا الثلاث تَمنح الشاعرَ شرعيةَ وجوده ، وتَمنح حياته المعنى والجدوى . وبدونها تصبح حياته كعدمها ، ويصبح الموتُ مرحَّباً به لأنه الحَل الأكثر نجاعةً . كما أن هذه الخِصال تم لصقُها بالفتى الكريم تحديداً،وكأنها مميِّزاتُ هويةِ الفتى الكريم الشريف، وأركانُ وجوده.

4_ الموت شامل لكل الأحياء :

الموتُ لا يُفرِّق بين الناس على أساس الدِّين أو اللون أو العِرْق . إنه حصادٌ شامل لا يَستثني أحداً . فالموتُ هو حَجرُ الرَّحى الذي يَطحن كلَّ شيء بلا تمييز ، ولا يتوقف عن الطحن أبداً .
وقد أشار الشاعر طَرَفة بن العبد إلى أن الموتَ شاملٌ للجميع بلا محاباة ولا تفرقة، فقال :

أرى الموتَ يَعتامُ الكرامَ وَيَصْطفي عَقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَــدِّدِ

فالموتُ يعمُّ الأجوادَ ، ويختارهم ، ويُنهي وجودَهم ، ويَصطفي الكرامَ وكرائمَ أموال البخلاء . فلا الكريمُ نجا من الموت ولا البخيلُ ( الفاحش ). وهذان الصنفان ( الكِرام / البخلاء ) لم يستطيعا الإفلاتَ من قبضة الموت .
إذن ، فالموتُ شاملٌ للجميع ، ومسيطرٌ على الأضداد . وكلُّ شخصٍ سوفَ يَموت ، سواءٌ كان كريماً أم بخيلاً، غنياً أم فقيراً، شريفاً أم حقيراً، صالحاً أم طالحاً ، عالِماً أم جاهلاً ، قوياً أم ضعيفاً .. إلخ. لقد ساوى الموتُ بين الأضداد، وألغى التناقضاتِ ، وسَوَّى بين الجميع ، فلم يُحابِ أحداً على حساب أحد، ولم يُفرِّق بين الناس. فالموتُ لا يَعرف التمييزَ العنصري ، أو الدبلوماسية ، أو المحاباة .
والصفاتُ السلبية لم تَعُد بخير على أصحابها ، ولم تَجلب لهم نفعاً ، ولم تَحرسهم من الموت . والشاعرُ ركَّز على موضوع البُخل. فالبخيلُ الذي قَضى حياته عبداً للمال وحارساً له ، لم ينجُ من الموت . وفي نهاية المطاف ، وَقَعَ عليه اختيارُ الموت ، كما وَقع على الكريم . وقد مات الاثنان ، لكنَّ الفرق الجوهري أن الكريم تركَ ذِكرى طيبة وسيرةً عطرة ، أمَّا البخيل فعاشَ مذموماً وماتَ مذموماً ، وسُمعته في الحضيض . ومِن هنا تبرز أهميةُ التحلي بالصفات الحميدة لأنها مَنبع الذكرى العطرة الباقية بعد الموت .

5_ الطريق إلى الفناء :

ولادةُ الإنسان هي بدء العد التنازلي لوجوده. ومُذ وُجد على هذه الأرض ، وهو يَسير إلى نهايته الحتمية . فالبدايةُ هي جَرس إنذار للنهاية . والحياةُ تتناقص بشكل تدريجي . والإنسانُ مثل أوراق التقويم، كلما سَقطت ورقةٌ ذهبَ بعضُه . وكذلك الإنسان كلما مَرَّ عليه يومٌ ذهبَ بعضُه.
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

أرى العيشَ كنزاً ناقِصاً كلَّ ليلةٍ وَما تَنْقُصِ الأيامُ والدَّهرُ يَنفَـدِ

فالعيشُ _ حَسْب رؤية الشاعر _ هو كنز يَنقص كلَّ ليلةٍ. إنه يتناقص باستمرار ، ولا يوجد شيءٌ يُعوِّض هذا النقصَ . وكلُّ شيء يَنقص فإن مصيرَه إلى النفاد ، والوصول إلى نقطة النهاية . وما تَنقصه الأيامُ والدهرُ يَنفد ويَنتهي مهما كان كثيراً أو كبيراً . وكذلك العيشُ صائر إلى النفاد والانتهاء لا محالة .
والعيشُ مثل البحيرة التي تجف شيئاً فشيئاً، ويتبخر ماؤها، دون وجود روافد تغذِّيها. وسوفَ يأتي يومٌ تجفُّ تماماً، وتصبح أثراً إِثر عَيْن. وهذا الانتهاءُ آتٍ حتماً ، وكلُّ آتٍ قريبٌ . وما بَقِيَ من الدنيا أقل مما مَضى . إنه شعورٌ بالنهاية الأكيدة ، واستشعارُ قُرب الفناء الحتمي .
والشاعرُ يُشبِّه العيشَ بالكنز، وهو المال المدفون تحت الأرض أو ما يُحرَز في المال. كما أن مفهوم الكنز يشتمل على معنى الجمع والادخار . وهذا يدل على مركزية العيش باعتباره تجميعاً للسنوات والأحلام والذكريات . فالعيشُ كتلةٌ من الأضداد والتناقضات ، تتجمعُ فيه الأفراحُ والأحزانُ، والنجاح والفشل ، والحياة والموت . وكلُّ هذه العناصر تتناقص تدريجياً ، فالإيجابياتُ تتلاشى والسلبياتُ تتلاشى . والعيشُ بكافة محتوياته مآله إلى النفاد. إنها رحلةُ العد التنازلي ، لا تتوقف حتى تصل إلى ساعة الصفر ( النفاد / الانتهاء / النهاية ) .

6_ لا مفر من الموت :

الإنسانُ واقعٌ في قَبضة الموت _ رغمَ أنفه _ . وعندما تَحين ساعته ستشتدُّ قبضةُ الموت على روحه ، فَيَسْقط . ومهما ضَرَبَ الإنسانُ في الأرض ، وشَرَّقَ وغَرَّبَ ، فلا بد أن يَعود إلى الموت بِقَدَمَيْه مثلما يَعودُ الطفلُ إلى حِضن أُمِّه . وكلُّ حركاتِ الإنسان وعنفوانه وإشراقه إنما تتم في دائرة الموت التي تَضيق شيئاً فشيئاً . فالخناقُ يشتدُّ على الإنسان بشكل تدريجي . والحياةُ الإنسانية لا تتحرك بمنأى عن الموت ، بل تتحرك تحت ظلال الموت . وهذه الفُسحة المتاحة للإنسان( الحياة ) محصورة في زنزانة ضيقة، تقترب جُدرانها من الإنسان ( السجين ) يوماً بعد يوم. ولا يمكن الهرب من الموت بأية وسيلة ، فلا مفر منه ، ولا يمكن التخلص من الموت إلا بالموت .
يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
لَعَمْرُكَ إنَّ الموْتَ ما أخطأَ الفتى لكالطِّوَلِ المُرْخَى وَثِنْياهُ باليَـدِ

إن الشاعرَ يُقسِم أن الموت في مدة إخطائه الفتى ، أي مجاوزته إياه ، بمنزلة حبل طول للدابة ترعى فيه وطرفاه بيد صاحبه .
والموتُ لا يُخطِئ الفتى، ومعنى الإخطاء هو المجاوزة . أي إن الفُسحة التي يتحرك فيها الإنسانُ كالفُسحة التي تتحرك فيها الدابة المربوطة بحبل طرفاه في قبضة مالكها . ومهما اقتربت الدابةُ أو ابتعدتْ فستظل تحت هيمنة صاحبها، لأنه يسيطر عليها بواسطة الحبل الذي لا تَقْدر على الإفلات منه . وكما أن الدابة لا تَقْدر على التخلص من قَيْدها ، فكذلك الإنسان لا يَقْدر على التخلص من قَيْده . والموتُ بمنزلة صاحب الدابة التي أرخى لها الحبلَ .
وَحَسْبَ منظور الشاعر، فإن حياة الإنسان إنما هي وقتٌ مُسْتَقْطَع سَمَحَ به الموتُ. والإنسانُ يتحرك تحت عَيْن الموت الذي يُراقب تحركاتِ البشر ، بعد أن أعطى الإذنَ بممارستها . وبالتالي ، فالحياة الإنسانية برمتها تتحرك في ظلال الموت ، ولا يمكن الإفلاتُ من ساعة النهاية إذا حانت .
والشاعرُ يُعطي للموت مشيئةً ذاتية ، ويَجعله سيداً على الحياة ، وفاعلاً لا مفعولاً به . وهذه العقيدةُ نابعة _ بصورة غير مباشرة_ من عدم إيمان الشاعر باليوم الآخِر. فقلبُ الشاعرِ يَخلو تماماً من الإيمان بمَلَكِ الموت ، وأنه مُوَكَّل بقبض الأرواح ، وأن الموت مفعول به وليس فاعلاً .
فالموتُ _ في فلسفة الشاعر _ حالةٌ مستقلة قائمة بذاتها ذات سياق منفصل تماماً عن الإيمان بالغيب ، ومتى شاء الموتُ قاد الإنسانَ إلى نهايته الحاسمة ، لأن الإنسان واقع في شِباك الموت ، وقضيةُ النهايةِ قضيةُ وقتٍ _ لا أكثر ولا أقل _ ، وهذا الوقتُ يحدِّده الموتُ بأن يشدَّ الحبلَ .
وفي هذا السياقِ يَظهر عجزُ الإنسانِ المطْلقُ ، وتمركزه في أشد لحظات ضَعفه وانكساره . وأنه مجرد ردة فعل بلا حَوْلٍ ولا قوة ، يَستجيب _ رغم أنفه _ للفعل الأعلى ( الموت ) . وهذا الموتُ يمتلك السُّلطةَ المطْلقة على الحياة الإنسانية ، لأنه القوة المهيمنة ، والفعل القاهر الذي لا يَصمد أمامه شيء. ويَظهر _ أيضاً _ من سياق الفكر الشِّعري عند طَرَفة أن الحياة الإنسانية مجرد منحة من الموت الذي أرخى الحبلَ لكي تدور عَجلةُ الحياة . وبعبارة أخرى ، إن الموت له اليد الطولى في هذا الوجود ، لأنه أذنَ للحياة بالحركة والدوران ، وسمحَ للإنسان بالتحرك ، ولو بشكل مؤقَّت .
ويؤكد الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى استحالةَ الفرار من الموت ، وعدمَ إمكانية الهروب منه. ولكن الشاعر يُقدِّم منظورَه الخاص، ويَطرح فلسفته الذاتية في الموضوع ، ويؤسس منظومةً شِعرية ذات علاقة وثيقة بالموت ، وعدم القدرة على الإفلات منه . يقول زُهير بن أبي سُلمى :

ومَن هَابَ أسبابَ المنـايا يَنَلْنَهُ وإنْ يَرْقَ أسبابَ السماءِ بِسُلَّمِ

الخوفُ من الموت شعورٌ إنساني طبيعي وغريزي . فالفِطرةُ الإنسانية متعلقة بالحياة وزينتها ، وتَنفر من النهاية القاصمة التي تتجلى في الموت ( النقطة على آخر سطر الوجود الإنساني ) . لكنَّ الخوفَ من الموت لا يُجدي نفعاً ، وليس له أي تأثير في مقاومة الموت أو منعه أو تأجيله . ولا يمكن لأحدٍ أن يتحصن من الموت . ولو أمعنَ الإنسانُ النظرَ في قضية الموت لآمنَ أنه ذاهبٌ إلى الموت بقدميه من حيث لا يَدري .
واللافت في الموضوع أن الخوفَ من الموت يصير موتاً بحد ذاته ، وهذا هو الموت في الحياة . وهناك أمواتٌ كثيرون يتحركون في الحياة ، قضوا حياتهم أمواتاً منتظرين المِيتة الكبرى النهائية الحاسمة . وفي أحيان كثيرة تكون الإجراءاتُ التي يتخذها الإنسانُ لحمايته من الموت هي سبب هلاكه . وكما قيل : مِن مَأمنه يُؤتى الحَذِرُ .
ومَن خافَ أسباب المنايا نالته ، ولا فائدة من خوفه وهيبته إياها ، ولو رامَ الصعود إلى السماء فراراً منها . وبعبارة أخرى ، مَن هابَ طرقَ المنايا أن يَسلكها تأتيه المنايا . إذن ، فالموتُ واقعٌ لا محالة ، تعدَّدت أشكالُه لكن المضمون واحد .
والإنسانُ محاصَرٌ بالموت من كل الجهات ، يَهرب من الموت إلى الموت. ولو قرَّر أن يَصعد إلى السماء بسُلَّم هروباً من الموت لأدركه الموتُ . وهذا أعظم حصار في تاريخ الوجود الإنساني . إنه الحصار الذي يَفرضه الموتُ على الإنسان الذي يَقف عاجزاً أمامه بلا حِيلة ولا وسيلة .
ويؤكد الشاعر لَبيد بن أبي ربيعة أن الموت لا يمكن الفرار منه ، وجميعَ المخلوقات تقف أمامه عاجزةً لا حَوْلَ لها ولا قوة ، فيقول :

صَادَفْنَ مِنْها غِرَّةً فَأَصبنَهـا إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُهـا

والشاعرُ يتحدث عن عالَم الحيوانات ، ويصف في صدر البيت عملية الافتراس الأساسية في مملكة الحيوان . فهو يقول : صَادفت الكلابُ أو الذئابُ غفلةً من البقر فأصبنَ تلك الغفلة أو تلك البقرة بافتراس ولدها ، أي وجدتها غافلة عن ولدها فاصطادته . إنها الغفلة القاتلة التي أدَّت إلى القتل والنهاية. وهذا هو قانون الغاب ، حيث القويُّ يَقتل الضعيفَ ، وكلُّ مخلوقٍ يتربص بالآخر ويراقب نقاطَ ضعفه ، والكُلُّ ضد الكُل . إنه الصراعُ المأساوي في عالَم الحيوانات المنطلقة من الغريزة لا العقلِ .
ثم يؤسس الشاعرُ في عجز البيت فلسفةَ الموت . والموتُ لا يوجد في عالَم الإنسان فَحَسْب ، بل أيضاً موجود بكثافة في عالَم الحيوان ، ويملك حضوراً طاغياً بسبب الاحتكام إلى الغريزة، والفِطرة المتوحشة، دون وجود أي أثر للعقل أو المنطق .
وها هُوَ يؤكد الحقيقة الساطعة التي يَخضع لها كلُّ المخلوقات" إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُهـا ". فلا مفر من الموت ، لأن الموتَ لا يُخطِئ هدفَه . وسِهامُ المنايا لا تَطيش ، أي لا تُخطِئ . ولفظُ "السِّهام " يشير إلى قسوة الموت وخشونته ودقة إصابته ، فهذه السهام تَعرف طريقَها جيداً ، ولا تَحيد عنه . إن مسارَها مرسومٌ بدقة منذ نقطة الانطلاق حتى نقطة الوصول ( الإصابة ) ، وهي تخترق أجسادَ المخلوقات التي تقف عاجزةً تماماً أمام هجوم الموت الذي لا يَستسلم ولا يَتراجع .

7_ نشر خبر الوفاة :

إن العقليةَ الجاهلية محصورة في قيم الشرف ، والمجد ، وانتشار الصِّيت ، ونيل ثناء الناس وإشادتهم . فهي عقليةٌ دنيوية غارقة في الرياء والشُّهرة والسُّمعة، ولا يوجد في قاموسها الوثني قيمُ الإخلاص لله تعالى ، أو العمل ابتغاء وجهه الكريم . فهذه المعاني غائبة تماماً عن الفكر العربي في الجاهلية . وقد كانت نيةُ العربيِّ الباعثة على العمل ، هي صناعة تاريخه الشخصي ، وتاريخ قبيلته ، وتحقيق المكاسب الروحية والمادية في الحياة الدنيا _ لا أكثر ولا أقل _ . ووفق المنظور الجاهلي لا توجد حياةٌ بعد الموت ، ولا يوجد ثواب أو عقاب . إذن ، فالدنيا هي البداية والنهاية، وهي أكبر الْهَم ، ومَبْلغ العِلم ، ومنتهى الآمال والآجال. ومن هنا نفهم فلسفةَ الحرص على نشر خبر الوفاة، وإشاعته بين الناس .
يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فإنْ مُتُّ فانعيني بما أنا أَهْلُــهُ وَشُقِّي عَليَّ الجَيْبَ يا ابنةَ معبَدِ

لا يُريد الشاعرُ أن يموت مجهولاً ، وهو يَرفض أن يكون نكرةً في هذه الحياة . لذلك يوصي ابنةَ أخيه ( معبد ) أن تنشر خبر وفاته مع الإطراء والتبجيل . إنه حريصٌ على خلود ذِكْره بين الناس بعد رحيله ، وحريصٌ أيضاً أن تُطبِّق شهرته الآفاق بعد موته. يريدُ إشاعةَ خبر هلاكه. وقد وكَّل ابنةَ أخيه بهذه المهمة بعد مماته . يوصيها أن تنعاه بما يستحقه من الثناء. والنعي هو إشاعةُ خبر الموت. ومن خلال هذا الرؤية ، يتضح حرصُ الشاعر على تلميع صورته بعد وفاته ، وترسيخها في الأذهان لكي تظل عصيةً على النسيان أو التجاهل . إنه في سباق مع الزمن ، ويحاول الاستثمار في التاريخ . يحاول صناعة تاريخه الشخصي ، والحصول على الخلود في كل الأزمنة ، والبقاء حياً بين الناس رغم رحيله جسدياً .
يقول لها : إذا هلكتُ فأشيعي خبرَ هلاكي بمدحي الذي أستحقه وأستوجبه . كما يوصيها أيضاً بشق الجيب حزناً عليه. ولا يَخفى أن حزن المرأة ممزوج بالبكاء .
والجيبُ ما يُفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس ، والمراد بشقِّه إكمال فتحه إلى آخره ، وهو أحد أشكال النياحة، ومن علامات السخط، ورفض القضاء والقَدَر ، وعدم التسليم بالأمر الواقع.
إن الشاعرَ يحس أن عمره قصير ، ويستشعر قُربَ رحيله . وقد كان إحساسُ الشاعر صادقاً ، فقد ماتَ طَرَفة بن العبد وهو في السادسة والعشرين من العُمر . وهذا ليس غريباً ، فالشاعرُ قد عاشَ حياته بشكل عابث متهور ، وأقحمَ نَفْسَه في مشكلات كثيرة ، وصنعَ له أعداء كثيرين .
وهذا الشعورُ بدنوِّ الأجل ملتصقٌ بالحنين إلى دفء الأنثى ، والحاجة إلى حنانها وعطفها ورعايتها . فالشاعرُ عندما يَسبح في مدار الموت ، يكون مكسوراً وعاجزاً وغارقاً في لحظة ضَعفه ، وربما تكون هذه أفضل لحظة لتذكر الدفء الأنثوي ، لذلك نراه في لحظة الضعف هذه ، يخاطب ابنةَ أخيه، ويبدو أنها كانت قريبةً من عَمِّها الشاعر، وتكنُّ له مشاعر الحب والاحترام . ولو كانت غير ذلك لَمَا ذَكَرَها في هذا الموقف الحرج . إنه يَستعين بها لكي تُكمِل مسيرته نحو المجد بعد مماته ، وهذا يتجلى في نَعْيه ومدحه والثناء عليه وترسيخ صورته " المثالية " في أذهان الناس . ولا يوجد أفضل من النساء في ندب الموتى ، والحزنِ على الأموات .
وهكذا يتضح الدورُ العبثي للمرأة الجاهلية . فهي مجرد بُوق لإيصال رسائل الجزع والسخط . وضعها المجتمعُ في هذه المهنة الدونية، وهي ارتضتها بلا أدنى اعتراض . فصار شَقُّ الجيوب أو اللطمُ أو النياحة من الصفات الملازِمة للمرأة العربية. وهذه الخِصالُ القبيحة صارت ماركة مُسجَّلة باسم المرأة، وصارت المرأةُ والسَّخط وجهَيْن لعملة واحدة صَكَّها المجتمعُ الجاهلي البدائي .

8_ " الموت صُدفة" :

يمثِّل الموتُ صدمةً فكرية في المجتمع الجاهلي الوثني . والكثيرون لا يَقدرون على تحمُّل هذه الصدمة الشديدة ، وهذا قادهم إلى اعتبار الموت مجرد عملية عبثية ، ولعبة صبيانية ، لا طائل من ورائها . وهذه نظرةٌ نابعة من صميم العقيدة الوثنية التي لا تؤمن بالحياة بعد الموت . وأصحابُ هذه العقيدة الفاسدة يَضعون وجودَهم تحت شعار" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع ". فالموتُ_ عندهم _ هو نهاية المطاف ولا شيء بعده . يقول الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

رَأيتُ المنايا خَبطَ عَشواء مَن تُصِبْ تُمِتْه وَمَنْ تُخطئْ يُعَمَّر فيهـــرَمِ

إنه يَعتبر الموتَ مقامرةً غير محسوبة، متأرجحةً بين النجاح والفشل . والموتُ _ في نظر الشاعر _ سهمٌ قد يُصيب الهدفَ ، وقد يُخطئه . وهو بذلك لا يَرى أيةَ قوة محرِّكة للموت ومسيطرة عليه . وإنما يَنظر إليه باعتباره فِعلاً ميكانيكياً غامضاً ونابعاً من ذاته ، ومتذبذباً بين إصابة الهدف وعدم إصابته . والموتُ في منظور الشاعر كالقطار الذي قد يَلتزم بالسكة فيصل إلى وجهته، وقد يَنحرف عنها فلا يصل إلى المحطة المقصودة .
والشاعرُ عاشَ لمدة طويلة ، وامتدَّت به الحياة حتى قاربَ المئة أو كاد . وقد سئمَ من حياته الطويلة ، واشتاقَ إلى الموت لأنه اعتبره راحةً من الملل والسآمة والروتين . ولم يَجد تفسيراً لطول عُمره وبلوغه مرحلة الهرم إلا اعتقاد أن الموتَ أخطأه ، وأن سهمَه طاشَ هذه المرة . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار القرف الذي وصلَ إليه الشاعرُ ، وجعله يستعجل الموتَ ، ويتمنى قدومَه بأسرع وقت .
ولا شك أن زُهيراً_ بسبب طول عُمره _ قد رأى الكثيرين من الأقارب والأصدقاء والأعداء قد ماتوا. إنهم يَتساقطون واحداً تلو الآخر على مرأى منه ومسمع . لذلك عندما يقول : (( رَأيتُ المنايا )) ، فهذا يدل على خبرة تراكمية . ولكنَّ هذه الخبرة لم تزده إلا انحرافاً وضلالاً وسآمةً . فهو يَعتبر أن المنايا تصيب الناس على غير نسق وترتيب وبصيرة كما أن الناقة تطأ على غير بصيرة. والعشواءُ هي الناقة التي لا تُبصِر ليلاً . ثم قال : من أصابته المنايا أَهْلَكَتْهُ وَمَن أخطأته أبقته فبلغ الهرم . إذن ، فالموت _ وفق هذه الرؤية _ نسقٌ عابث ، وعملية عشوائية تفتقد إلى البصيرة، ولا تتمتع بدقة الإصابة . ولا قوةٌ مسيطرة على الموت ، ولا منطقٌ يَحْكمه . والعمليةُ برمتها تُشبه لعبة القِمار ، قد يفوز فيها الشخصُ وقد يَخسر .

9_ لا أحد يَعود من الموت :

يُشكِّل الموتُ رحلةً بلا عودة. ذهابٌ بلا إياب. وكلُّ شخصٍ غابَ سَيَرْجع يوماً ما، إلا غائب الموت فإنه لا يَرجع. وهذه المفارَقةُ الصادمة تعكس عَظَمةَ الموت، وضآلةَ الإنسان الضعيف الذي سَيَرْحل رغمَ أنفه ، ولا أمل في عودته . فالموتُ هو السَّفرُ النهائي ، والرحلةُ الأخيرة .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

وكلُّ ذي غَيْبةٍ يَـؤوبُ وغائبُ الموْتِ لا يَؤوبُ

يُقسِّم الشاعرُ الغَيْبةَ إلى قِسْمَيْن: غَيبة يؤوب منها الإنسانُ ، أي يَرْجع . وغَيبة لا يؤوب منها.
والغَيبةُ الأولى يمكن أن تكون سَفَراً أو هجرةً أو رحلةً عادية .. إلخ . وهذه الأمورُ ليست نهاية المطاف ، ولا تُعَدُّ نقطة النهاية لحياة الإنسان . وكلُّ غَيْبةٍ من هذا النوع يَرجع منها الإنسان ، لأنها غَيبة وقتية زائلة سُرعان ما تنتهي ، ولا تشكِّل تهديداً لوجود الإنسان .
أمَّا الغَيبةُ الثانية ، فهي غَيبةُ الموت التي لا يمكن الرجوع منها إطلاقاً . فغائبُ الموتِ ذهبَ ولن يَعود . وهذا الأمرُ بديهي ، ويُعتبَر مُسلَّمة لا تَقبل النقاش عند جميع العقلاء _مهما كانت عقائدهم وأجناسهم _ .
وهذا البيتُ قد يَبدو للوهلة الأولى عادياً وتقريرياً ومباشِراً ، ولا شِعرية فيه . إلا أن المتأمل فيه يجد الشِّعرية كامنة في عملية المقارنة التي تحمل معاني الأضداد والتنافر والتعاكس . والمفارَقةُ الواضحة في البيت ( يَؤوب / لا يَؤوب ) هي فلسفة الخلاصة الشِّعرية . والمقارنةُ بين هاتين الغَيْبَتَيْن تُبْرِز معنى الموت وخصائصه بصورة شديدة الوضوح ، وبضدِّها تتبيَّن الأشياءُ .

10_ الموت مُقدَّر :

إن التفكر في الموت يؤدي إلى إدراك حقيقة أنه مُقدَّر، وخاضعٌ لقوة عُليا هي قوة الخالق تعالى. ولا يمكن أن يكون الموتُ عبثاً أو لعبةً عمياء . فلكلِّ مخلوقٍ أجلٌ محدَّد ، لا يمكن تقديمه ولا تأخيره.
يقول الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وإنَّا سَوْفَ تُدرِكنا المنايا مُقَدَّرَةً لنا وَمُقدَّرينــا

ومن هذا المنطلق الشعري، تبرز المعادَلةُ الوجودية الحاسمة : (( الموتُ خُلق للإنسان، والإنسانُ خُلق للموت/الموتُ مُقدَّر للإنسان، والإنسانُ مُقدَّر للموت )). وهذه التبادلية واضحةٌ في فلسفة الشاعر. فهو يقول: سَوْفَ تُدركنا مقاديرُ موتنا ، وقد قُدِّرت تلك المقادير لنا ، وقُدِّرنا لها .
إذن ، فالقضيةُ محسومةٌ منذ الأزل ، ودقيقة إلى حَد العِصمة من الخطأ . فالموتُ لا يُخطِئ هدفَه أبداً . فالموتُ سوفَ يُدرِك الناسَ أينما كانوا ، وهو مُقدَّر لهم ، كما أن الناسَ مُقدَّرون له . وهذا يشير إلى أهميةِ اللقاء بين الإنسان والموت ، وحتميةِ المواجَهةِ غير المتكافئة . واعتماداً على هذا المبدأ الأساسي يمكن القول إن الإنسانَ والموتَ وجهان لعُملة واحدة ، لا يَقْدر أيٌّ منهما على الهرب من الآخر. ومُنذ ولادة الإنسان ارتبطَ مصيرُه بالموت، فالولادةُ هي بدء العَد التنازلي ، وهي نقطة الانطلاق نحو لقاء الموت .
ولا يَخفى أن فِعلَ التقدير ( تقدير المنايا للناس، وتقدير الناس للمنايا ) لا يمكن أن يقوم بذاته، بل هو خاضعٌ للفاعل المسيطر على هذه العملية ، والفاعلُ هو اللهُ المقدِّرُ الذي وَضع كلَّ شيء في نِصابه الصحيح ، وقَدَّر أقواتَ الخلائق ومقاديرَ الموت منذ الأزل . ولن تَموت نَفْسٌ حتى تستوفيَ أجلَها كاملاً غير منقوص .

الفصل الثالث
الحياة

تمهيد
إن الحياةَ في منظومة شِعر المعلَّقات تتمحور حول مرورِ السنوات ، وتفجُّرِ الذكريات . لذلك تَبدو الحياةُ في هذا السياق الشِّعري مجرد سراب . وهذا يدل على سرعة دوران عجلة الحياة. وما إن تَبدأ الحياةُ حتى تنتهيَ . إنها سحابةُ صيفٍ ، أو حُلم سريع ، أو وهم مكتمل الأركان . وهذه المعاني عبَّر عنها أصحابُ المعلَّقات بكثير من الفلسفة والحسرة والضياع .
لقد بَرزت معاني السآمة من الحياة ، والضجر من العيش ، والشكوى من الزمان ، وهذه المظاهرُ لها إفرازات متعددة ، وتطبيقات مختلفة . فنجد أن السآمة تنبعث من شدة تكاليف الحياة ، وانقلاب الزمان على أهله ، وتقلب الأحوال . ولا شك أن دوامَ الحالِ من المُحال . كما تتضح فكرة أن الحياةَ أملٌ كاذب، وخُدعة بصرية، ووهمٌ سَمعي، دائمة التقلب والتغير ، لا الصديقُ يبقى صَديقاً ، ولا العدوُّ يظل عدواً . ومَن تأمَّلَ في الحياة وجدها أكذوبةً كبرى ، مثل الضباب الذي يمزِّقه نورُ الشمس ، ومثل أوراق الشجر التي تتساقط في الخريف . وتَظهر الشكوى من الحياة كقيمة معرفية أساسية. وهذه الشكوى لها جناحان : الأول _ الحياة كذبة ، والثاني : الحياة عذاب. وهذا العذابُ نابعٌ من كَوْن الحياة مجبولة بالتعب والمشقة والكدر والمنغِّصات. فمتعتها زائلة وغير صافية، ولحظات السعادة قليلة . والأوقاتُ الجميلة تمر بسرعة هائلة ، أمَّا الأوقاتُ المؤلمة فتمر بطيئةً جداً . ومن المواضيع الراسخة في شِعر المعلَّقات ، مرورُ الزمن وعبور السنوات. وهذا الأمرُ يُهيِّج الذكرياتِ ، فتصبح الذكرياتُ وحشاً يُطارد الإنسانَ ، ويُغرقه في مستنقع الحزن والألم والفِراق . فموضوعُ الذكريات مرتبط ارتباطاً حتمياً بمراتع الصِّبا ، والحب القديم ، وفِراق الأحبة . وتبقى الحياةُ عِبرةً لمن يَعتبر ، ويظل الدهرُ ناطقاً بلسان الحال ، يَدعو الناسَ إلى الاتعاظ وأخذ العِبَر . والعاقلُ مَن اتَّعظ بغيره ، والجاهلُ مَن اتعظ بِنَفْسه .
1_ السآمة من الحياة :

الحياةُ مصبوغةٌ بالتعب والملل والأحزان . وإذا صار الشخصُ من المعمَّرين ، فلا بد أن يُصاب بنوع من الكآبة أو السآمة بسبب رحيل نضارة الشباب بلا عودة، واختفاءِ الإشراق والنشاط ، وكثرةِ المشكلات الصحية ، وازديادِ صعوبات الحياة . وهذه الانتكاسةُ قد وَصل إليها الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى ، وهذا ما دَفعه للقول :

سَئمتُ تكاليفَ الحياةِ وَمَنْ يَعِشْ ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكِ يَسْــأمِ

لقد بَلغ هذه المرحلة القاسية ( الطَّوْر الأخير من حياته ) . لذلك نراه مكتئباً ، ومصاباً بالسآمة والملل . فيقولُ : مللتُ مشاقَ الحياة وشدائدها ، ومَن عاش ثمانين سنة مَلَّ الكِبَرَ لا محالة . وعبارة " لا أبا لَكِ " كلمة جافية لا يراد بها الجفاء ، بل التنبيه والإعلام .
والسآمةُ مسيطرة على الشاعر بسبب كثرة السنوات التي عاشها . وقد مَلَّ متاعبَ الحياة ، وتفاصيلَها المرهِقة ، والمصائبَ المتكاثرة فيها . وهو يَعتقد أن الذي يعيش ثمانين سنة سيُصاب بالملل والسآمة لا محالة .
والشخصُ الذي يَصل إلى هذا العُمر ، يَقضي حياته في حالة انتظار قاسية ، انتظارِ الموت . وهذا الانتظارُ يُولِّد صعوباتٍ جمة في نَفْسِ الشخص ، ويُدخِله في هواجس لا حَصْرَ لها . وهذه الهواجسُ تُتعِب الروحَ والبدنَ معاً .

2_ الحياة كِذبة وعذاب :

الحياةُ سرابٌ خادع . وعلى الرغم من معرفة الناس بهذه الحقيقة الظاهرة ، إلا أنهم يَلهثون وراءه بصورة هستيرية . والحياةُ كذبةٌ كبرى يَنخدع الناسُ بها ، أو يَخدعون أنفسهم فيُصدِّقونها .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

فَكُلُّ ذي نِعْمةٍ مَخْلوسٌ وكلُّ ذي أَملٍ مَكْذوبُ

كلُّ صاحبِ نِعمةٍ لا بد أن يَفْقدها. فالحياةُ الدنيا تَدور، ولا تستقر على حال . ودوامُ الحال من المُحال. والنِّعمُ تزيد وتَنقص، تأتي وتَذهب، وهذه قاعدة أساسية في الحياة ، وليست سِراً .
والصِّغارُ والكِبارُ يُدرِكون هذه الحقيقة لأنهم يَرَوْنها رَأي العَيْن. إذن، كلُّ صاحبٍ نِعمةٍ مخلوس ( مسلوب ). وبالتالي، على المرء أن يتوقع أن تُسلَب النِّعم من يَدَيْه في أي وقتٍ. وهذا الأمرُ يتلاءم تماماً مع طبيعة الحياة الدنيا المتقلبة. وَكَم مِن عزيزٍ قَد ذَلَّ ! ، وَكَم مِن غني قَد افتقر ! ، وَكَم مِن مَلِكٍ قَد خُلع ! .
وكلُّ صاحبِ أملٍ مكذوبٌ ، أي : لا يَنال ما يَأمل . فالحياةُ أكذوبةٌ عُظمى لا يمكن أن تقدِّم الحقائقَ للناس ، لأن فاقدَ الشيء لا يُعطيه . كما أن الحياةَ كومةٌ من الآمال الكاذبة ذات اللمعان المبهِر، ولكنه لمعان مُزيَّف كلمعان السراب في الصحراء ، يَراه الظمآنُ ماءاً حتى إذا جاءه لم يَجده شيئاً. فلا ينبغي الاغترار بلمعان عناصر الحياة، فليس كلُّ ما يَلْمع ذهباً .
إن الحياةَ مِصْيدةٌ قاتلة ، آمالها كاذبةٌ ، وأحلامُها خادعة ، ولذتها زائلة . يظل الإنسانُ لاهثاً وراءها ولا يَنال بُغيته . ويظلُّ يَشرب من مائها لكنه يزداد عطشاً ، تماماً كالذي يَشرب من ماء البحر ، كلما شربَ أكثر عطشَ أكثر . لذلك فصاحبُ الأملِ عليه أن يَضع هامشاً للخسارة لئلا يُصاب بالصدمة عند ضياع أمله وأُمنيته . وَكَم مِن شخصٍ حَتْفه في أُمنيته ! . وهكذا ، تبرز أهميةُ النظر إلى ما وراء الأمور للوقوف على حقيقتها . والعاقلُ لا ينخدع بالبهرج الفتَّان ، ولا تنطلي عليه الحيلُ الساذجة ، ولا يغتر بالمذاق الحلو . ففي أحيان كثيرة يكونُ السُّمُّ القاتلُ ذا طَعمٍ لذيذ ورائحةٍ ذكية .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

والمرْءُ ما عاشَ في تَكْذيبٍ طُولُ الحياةِ لهُ تَعْذيــبُ

إن الحياةَ كذبٌ واضح، فمهما عاشَ الإنسانُ فلا بد أن يَموت. والحياةُ خيالٌ ، يأتي إليها الإنسانُ ويَذهب كأن شيئاً لم يكن . فالحياةُ نومٌ ، والموتُ يقظةٌ . والناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا .
وما طُولُ حياة الإنسان إلا تعذيبٌ له لِمَا يلاقي في الشيخوخة من آلام الحياة، وصعوبةِ العيش ، وفقدانِ الأحبة ، وتذكُّرِ الماضي ، واستحضارِ الذكريات ، والحسرةِ على ما فات بسبب ضياع الفرص والأوقاتِ والامتيازات .
ومن يمتد عمرُه يُصبح ضعيفاً عاجزاً على عكس ما كان عليه أيام الصبا من القوة والحيوية . فمن طال عمرُه نُكس خَلْقه ، فصار ضعيفاً بعد القوة، وشيخاً هَرِماً بعد الشباب . وفي واقع الأمر، إن الإنسان يَصعد نحو الهاوية ، ويتقدم نحو الموت ، ويزداد تألقاً في طريق الانطفاء .

3_ مرور السنوات :

تمرُّ السنواتُ بسرعةٍ هائلة ، كأنها لم تكن أصلاً . وهذه السنواتُ ليست حركةً ميكانيكية غاطسة في الفراغ ، بل هي كتلةٌ متحركة من الأفراح والأحزان والذكريات المتحركة في الزمان والمكان . إنه عُمرٌ معاشٌ بكل تفاصيله مضى بلا عودة ، مُخلِّفاً لوعةً جارفة ، وحَسرةً حارقة .
يقول الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وَقفتُ بها من بعد عشرين حِجَّةً فلأياً عَرفتُ الدارَ بَعدَ تَوَهُّـمِ

يَختلطُ الزمنُ الراحلُ مع ذكرياتِ الحبيبة في المكان الغريب. مضى الزمانُ ، واختفت الحبيبةُ ، وتغيَّر المكان . كلُّ شيء سارَ نحو الانطفاء القاتل .
قد وقفَ الشاعرُ بدار الحبيبة بعد مضي عشرين سنة مِن فراقها . إنها العودةُ إلى النبع الأول . يعودُ الشاعرُ إلى الأصل ( النواة الأولية ) ، لعله يستعيد ذكرياتِه التي خطفها الزمنُ ، أو يُعيد تجميع أحلامه القديمة التي تبخَّرت في هواء المكان . ولا شكَّ أن فِرَاقاً عمره عشرون سنة يَحمل في طيَّاته معانٍ كثيرة مؤلمة، وأوجاعاً عميقة في النَّفْس، وجروحاً غائرة في القلب .
وما مرورُ السنوات إلا خنجرٌ مغروس في الوجدان . وكلما مَرَّت سِنةٌ انتزعت حُلماً من رُوح الشاعر . ولا بد أن عشرين سنة قد انتزعت أحلاماً كثيرة من الشاعر، واقتطعت من مشاعره مساحاتٍ شاسعة. ولا يمكن تجاهل تأثيرُ مرور السنوات على النفس البشرية العائشة في الحب ودفءِ الأحاسيس . فمرورُ السنوات يُحوِّل الإنسانَ المُحِب إلى كتلة محترقة في مدار لانهائي . فالحبُّ يزداد اشتعالاً مع مرور الوقت، تماماً كالنار، إذا لم يتم إطفاؤها مُبكِّراً ، فإنها ستتحول إلى جحيم مرعب مع مرور الوقت .
وما الذي حصلَ بعد وقوف الشاعر بعد مضي كل هذه السنوات ؟ . لقد عرفَ دارَها بعد التوهم بجهد ومشقة ( اللأي ) . إنها معاناة مُزدَوجة . المعاناةُ الأُولى تتمثل في الذكريات التي تَخدش قلبَ الشاعرِ المكسورَ ، كما تتمثل في استعادة أحزان الفِراق . ولا رَيْبَ أن فِراقَ المحبِّين مؤلم للغاية ، وذو تأثير سلبي على الطرفين . والمعاناةُ الثانية تتمثل في عدم معرفة دار الحبيبة إلا بعد جهد ومشقة ، وذلك لبُعد العهد ، واندثارِ معالمها .
تحوَّل صخبُ المحبِّين إلى صمتٍ رهيب ، واللقاءُ الدافئ إلى فِراق أبدي ، والحركةُ في الدار إلى سكون مخيف . لقد فَعلت الأيامُ فعلتها، وأدَّى مرورُ السنوات إلى هدمِ القلوب ، وهدمِ الحجارة .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهدِ أنيسهـا حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُها وحَرَامُها

مرَّت السنواتُ كالطَّيْف، وتَركت تأثيرها الواضح على الدِّمن ( آثار الديار ) . والتجرم هو التكمل. فآثارُ ديارٍ قد تَمَّت وكملت وانقطعت بعد عهد سكانها بها . فهذه الديارُ كانت معمورةً ، ولكن مع مرور الوقت تحوَّلت إلى مكان كئيب مهجور ، وصارت أثراً إثر عَيْن . وكأن السنوات قد اقتلعت الحركةَ والنشاطَ ، وخَطفت سكانَ الديار، فصار المكان خالياً من الأنيس ، تَنبع منه الوحشةُ والكآبة ، وتفوح منه رائحة الفراغ والعَدَم . وهنا ، يتجلى تأثيرُ مرور السنوات على البشر والحَجر. فلا توجد قوةٌ في الطبيعة قادرة على مقاومة الزمن . إنه طوفان يَجرف كلَّ شيء .
سنواتٌ مَضت ( حِججٌ خَلَوْنَ ) . مضت أشهرُ الحِل وأشهرُ الْحُرُم من السنين. نَعَم ، لقد مضت بعد ارتحال السكان سنوات بكمالها . والسَّنةُ لا تعدو عن أشهر الحِل وأشهر الحُرم . وإذا مضت هذه الأشهرُ فإن السَّنةَ بأكملها تكون قد مَضت . إذ إن ذهابَ الأجزاء يَعني ذهابَ الكُل .

4_ الحياة عِبرة :

إن الناظرَ بعَيْن البصيرة في أحوال الحياة لا بد أن يأخذ العِبر. فهي حياةٌ قصيرة. ومهما امتدت فإن نهايتها إلى الموت الحتمي الذي لا مَهْرب منه . ولطالما رَفعت الحقيرَ فوق الشريف ، وجَعلت الجاهلَ فوق العالِم . ومهما امتلك الإنسانُ من الأموال ، وحقَّق الإنجازاتِ العظيمة ، وبلغَ أرفع المناصب ، ووصل إلى ذِروة الاستمتاع بالشهوات المختلفة ، فلا بد أن يَترك كلَّ شيء ، ويُوضَع في حُفرة ضيقة منسية . وعندئذ يَقتسمُ ورثته أمواله ، وتَبحث أرملته عن زَوْجٍ جديد ... إلخ .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

لا يَعِظُ الناسُ مَن لا يَعِظُ الدَّهرُ ولا يَنفعُ التَّلبيبُ

إن الحياةَ عِبْرةٌ ، ولكنَّ خطورتها كامنة في زِينتها المخادِعة . ولا بد من أخذ الدروس والعِبر من الدَّهر وتقلباته . فالعاقلُ يَستفيد من حركة الزمان والمكان ، ويتأمل في تعاقب الليل والنهار ، ويَدرس السلوكَ البشري المتغير، واختلافَ الطِّباع والعادات ، واندثارَ الأمكنة ، وتقلباتِ الزمان . ولكل زمانٍ دولةٌ ورجال .
يقول الشاعرُ : لا يَنفعُ وَعظُ الناسِ لمن لا يَعظه الدهرُ بقوارعه ونوائبه . إذن ، فالحياةُ أكبر واعظٍ، ومصائبها وتقلباتها أكبر موعظة . ومَن لم يستفد من هذه الموعظة ، فلن يَنفعه وعظُ الناس وتذكيرهم . فالدهرُ أعظم الوعاظ بلاغةً وتأثيراً . ومَن لم يستفد من نور الشمس ، فلن يَنفعه ضوءُ الشمعة .
و"التلبيب" هو تكلف اللب _ أي العقل _ من غير طباع ولا غريزة. والمعنى : أن الإنسان لا يَنفعه تكلفه أن يكون عاقلاً إذا لم يكن العقلُ فِطرةً قد فُطر عليها.
فلا فائدة من تمثيل دور العاقل ، أو ارتداء الجهَّال لِزِيِّ العلماء . فالعقلُ ينبغي أن يكون فِطرةً لا قناعاً وهمياً .
أمَّا تصنُّع العبقرية ، ومحاولة الظهور بمظهر صاحب العقل ، وتصدُّر المجالس دون وجه حَق . كلُّ هذه الأمور محاولة مكشوفة لذر الرماد في العيون ، وحِيلة ساذجة لا تَنطلي إلا على السُّذج .
فالعقلُ يجب أن يكون غريزةً ثابتة ، وجوهراً دائماً لا عَرَضاً مؤقَّتاً . وسِوى ذلك فإن الإنسان سَيُهِين نَفْسَه، ويَحشرها في مأزق خطير ، ويُصبح مثاراً للسخرية والاستهزاء . ففي النهاية ، لا يَصِحُّ إلا الصحيح . وكلامُ الليلِ يمحوه النهارُ ، وما تأتي به الرياحُ تأخذه الزوابع .

الفصل الرابع
الأطلال

تمهيد

ارتبط شِعرُ المعلَّقات بالأطلال ( آثار الديار ) ارتباطاً وثيقاً . فالديارُ المهجورةُ والرسومُ الباليةُ والأطلالُ الخاليةُ كلها مرتكزات أساسية في فلسفة الشِّعر العربي القديم. والقضيةُ ليست قضيةَ حجارة وتراب ، وإنما هي قضية أعمار جميلة هاربة بلا عودة ، وذكريات دافئة مختبئة في زوايا الذاكرة السحيقة ، وآثار الأحبة الذين تركوا بصمتهم في النَّفْس الشاعرة ثم غابوا في طوايا الزمن .
كما أن الأطلال تُجسِّد عملية " اندثار المكان ومرور الزمن " ، وهذه العملية تُورِث لوعةً حارقة في الوجدان الإنساني . ويمكن القول إن الأطلال هي الضريبة القاسية التي يَدفعها الشاعرُ من رُوحه وفكره وأعصابه وعُمره . يَدفعها بكامل إرادته ، وكأنه اختارَ العذابَ طواعيةً دون إكراه . إنه يَذهب إلى مملكة الآلام بِرِجْلَيْه ، باحثاً عن الطهارة والتطهر والتطهير . طهارة روحه وجسده ، والتطهر من هواجس السنوات القاسية وتركةِ الأيام الثقيلة ، وتطهير كيانه من النسيان وقسوة القلب ، وبرودة الأعصاب . إن الشاعرَ يذهب إلى المحرقة بملء إرادته ، ويَحرق أعصابه ومشاعره بشكل إرادي ، لعله ينالَ الطُّهر المنشود ، ولعلَّ نارَ الذكريات المنبعثة من الأطلال تنقِّي رُوحه مثلما تنقِّي النارُ الذهبَ .
ولا يَكتفي الشاعرُ بالوقوف على الأطلال ، وإنما يَطرح عليها الأسئلة بلسان الحال أو بلسان المقال. فهو لا يَقْدر على الوقوف كالصنم بلا تفكير . فلا بد أن يتفكر في المشهد المرسوم أمامه ، ويُسائله. وهذا يَعني أن مشاعره سَتَغْلي في قِدْر الأيام الراحلة ، وأن قلبه سيحترق في بَوْتقة التاريخ الجارف الذي لا يَعبأ بمشاعر الناس أو اقتراحاتهم . والشاعرُ _ بوقوفه على الأطلال _ يَبعث فيها الرُّوحَ ، ويستعيدها من قبضة الزمن، ولو بشكل مؤقَّت. وسوفَ تظل الأطلالُ حجرَ الزاوية في قلعة الفِعل الشِّعري ، والركيزةَ الأساسية في عالَمِ الذكرياتِ والحبِّ الضائعِ .
1_ الدعوة إلى البكاء :

العلاقةُ بين الأطلال والبكاء علاقة مركزية ومصيرية تُجسِّد ثنائيةَ السبب والمسبِّب، والفعل والنتيجة . فالبكاءُ هو رَجْعُ صدى السنوات الجميلة الماضية ، وهو محاولة لإعادة بناء الأطلال في الذاكرة ، واستحضار رُوح سُكَّانها . فالدموعُ تمثِّل محاولة لترميم النفس الإنسانية ، وترتيب حجارة الأبنية المندثرة الحاملة لأرواح الأحبة، ولمعانِ وجوههم ، وأحلامهم ، وأفراحهم ، وأحزانهم . وستظل الأطلالُ هي الأساس الفلسفي لتحول الربيع إلى خريف، وتحول المشاعر إلى حجارة ، وتحول الأعمار إلى غبار متطاير .
يقول الشاعرُ امرؤ القَيْس :

قفا نبْكِ من ذِكرى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ بسِقطِ اللوى بينَ الدَّخول فحَوْمَلِ

خاطبَ الواحدَ خطابَ الاثنين . وهذا أسلوبُ العرب في الكلام ، لأن الرَّجلَ يكون أدنى أعوانه راعي إبله وراعي غنمه .
يُوجِّه الشاعرُ دعوةً للبكاء ، فيقول : قفا وأسعدني على البكاء عند تذكري حبيباً فارقتُه ، ومنزلاً خرجتُ منه . إن غيابَ الحبيب والخروجَ من المنزل قد تركا جُرحاً غائراً في قلب الشاعر ، ونزيفاً عميقاً في كلماته . ولم يجد حلاً لهذه المعضلة سوى البكاء. فالبكاءُ تنفيسٌ، وتخفيفٌ للضغط الواقع على الأعصاب والأحاسيس ، وهو عملية تطهير ذاتي تعيد العواطف إلى نِصابها الصحيح . كما أن سَكْبَ الدموع يؤدي إلى استعادة التوازن العاطفي ، والتخلصِ من الاحتقان الداخلي الذي يَقتل روحَ الإنسان، ويشلُّ تفكيره. وما حرصُ الشاعرِ على البكاء إلا لمنع الانفجار، والحيلولة دون الانهيار ، فكثرةُ الضغط تولِّد الانفجارَ .
وهو لا يَكتفي بالبكاء، بل _أيضاً_ يَربطه بالأماكن المتجذرة في قلبه . فيقول : وذلك المنزل أو ذلك الحبيب أو ذلك البكاء بسِقط اللوى ( منقطع الرمل المعوج ) بين الدَّخول وحَوْمل ( مَوْضِعان ) . وهذا يدل على الحضور العاصف للمكان في وجدان الشاعر.فالبكاءُ يمكن اعتباره فِعلاً زمنياً مرتبطاً بالذكريات والماضي الجميل، ولا بد من رَبْطه بالحاضنة المكانية التي يَنبعث منها الشعورُ والذِّكرى .

2_ أنسنة المكان ومخاطبة الحجارة :

لقد أضفى الشِّعرُ على الأماكن صفاتٍ إنسانية ، ومعانٍ وجدانية . فصارَ المكان جسداً من لحم ودَم ، وصارت الحجارةُ جوارح في هذا الجسد المكسور . ووفق هذا المنظور ، لم يعد غريباً أن تتماهى خصائص الجسم الإنساني مع خصائص الجسم المكاني الجغرافي. كما أن مخاطبة الحجارةَ ، وطرح السؤال عليها ، وانتظار الإجابة ، أضحت أشياء عادية ومتوقَّعة . وهنا تكمن قوة الشِّعر ، إذ إنه القادر على تحويل اللامعقول إلى معقول ، والجماد إلى كائن حَي ، والعَدَم إلى وجود ، والنسيان إلى ذاكرة ، والماضي إلى مستقبل ، والهامشي إلى مركزي ، والخريف إلى ربيع .
يقول الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

لِخوْلَةَ أطلالٌ بِبرقَةِ ثَهْمَــــدِ تَلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليَدِ

يَعودُ الشاعرُ إلى محرقة الذِّكرى. يتذكر هذه المرأة ( خَوْلة ) ، ولا بد أنها عزيزة على قلبه ، وإلا لَمَا ذَكَرها . كما أن رسوخ اسمها في ذاكرته بعد مضي كل هذه السنوات يدل على أن حضورها في حياته كان متجذراً لا عابراً .
وكلُّ رَجلٍ في حياته امرأةٌ مركزية ( لاعبة أساسية ) ونساء أطراف ( لاعبات احتياط ) . والمرأةُ المركزية هي التي تظل في مخيِّلة الإنسان بعد أن يَنسى كلَّ وجوه النساء ، وهي بذلك تكون عَصِيَّةً على النسيان ، ولا يمكن أن يَحرق وجهَها مرورُ السنوات . وخَوْلة كانت من هذا النوع بالنسبة للشاعر .
ومَن أحبَّ امرأةً أحبَّ التفاصيلَ المحيطة بها . ولا تُوجَد امرأةٌ هُلامية تتحرك في الفراغ . إنها تتحرك على صعيد الزمان والمكان معاً . لقد اكتشفَ الشاعرُ البُعدَ الزماني بالعودة إلى الماضي . وبصورة تزامنية لا تعاقبية ، اكتشفَ البعدَ المكاني .
لذلك نجده يقول : لهذه المرأة أطلال ديار ببرقة ( وهو المكان الذي يخالط أرضه حجارة وحصى) من ثهمد (مَوْضع). كلُّ هذه التفاصيل راسخةٌ في وجدان الشاعر، ومتدفقة في كلامه . وهذه التداعياتُ ملتصقة بالحب الذي صار ذِكْرى ، أي إن الشعورَ تحوَّل إلى ماضٍ. وبعبارة أخرى، لقد تحوَّل الإحساسُ إلى إطار زمني تاريخي . وكأن الحُلمَ الجميلَ صار وثيقةً تاريخية لا أكثر ولا أقل .
وهذه الأطلالُ تَلمعُ لمعانَ بقايا الوشم في ظاهر الكف. ويمكن بناء هذه المتوالية الشعرية ( المكان = ظاهر الكَف / الديار = الوشم / الأطلال = بقايا الوشم ) .
لقد شَبَّه لمعانَ آثار ديارها ووضوحها بلمعان آثار الوشم في ظاهر الكف . والشاعرُ يقوم بعملية أنسنة المكان . إنها يُؤَنْسِن العناصرَ المادية ، أي : يُسقِط عليها صفاتٍ إنسانية . وبالتالي ، تحوَّل المكانُ إلى قلبٍ نابض بالحيوية ، حيويةِ الذكريات والأحلام المبنية في العالَم الموازي للعالَم الواقعي. فالشاعرُ يتحرك في عالَم افتراضي، ويُعيد بناء الماضي في الحاضر لكي يَراه ويَستمتع برؤيته . وهذه المتعةُ منبعثة من العذاب ، وكأنَّ عذابَ الحب أجملُ من الحب .
والشاعرُ يتحركُ في عالَم الأنقاض والركام. صارت حياته جزئيةً لا كُلِّيةً ، لأنه يَسبح في كَوْمة البقايا.فبقايا القلب الكسير المتشظي تتماهى مع بقايا الديار المتماهية مع بقايا الوشم. وهذه البقايا المتسلسلة عبارة عن شظايا تشكِّل في مجموعها الصورة الكاملة لحالة الشاعر النَّفسية .
إن الأطلال تَلْمع تتوهَّج تشتعل في ذاكرة الشاعر وقلبه وعواطفه ، وتصبح ضوءاً بعيداً خافتاً لكنه قادر على جذب الشاعر وإرشاده. وكأنه الضوءُ في آخر النفق، أو الأملُ الأخير في هذا الانهيار الشامل. وهذا اللمعانُ يُشبِه لمعانَ آثار الوَشم في ظاهر الكَف . ولا يَخفى أن الوشمَ فِعلٌ ملتصق بالطبيعة الأنثوية لا الذكورية . وكأن انهيارَ المكانِ وتحوُّله إلى بقايا يدل على انهيار الأنوثة وتحوُّلها إلى أنقاض . وهذا الركامُ بِشِقَّيه ( الأطلال / جسد المرأة ) هو ما بقي في أحاسيس الشاعر الممزَّقة .
ويقول الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكلَّمِ بحَوْمَانَةِ الدَّرَّاجِ فالمُتثلِّـمِ

يَسبح الشاعرُ في بحر الذكريات ، ويَغرق في شكوكه المنبعثة من طول المسافة الزمنية بينه وبين الحبيبة ( أُم أوفى ) . والدِّمنةُ هي ما اسودَّ من آثار الدار بالبعر والرماد وغيرهما . فيقولُ : أمن منازل الحبيبة أم أوفى دمنة لا تجيب سؤالها بهذين الموضعين ( بحَوْمَانَةِ الدَّرَّاجِ فالمُتثلِّمِ ) .
يتذكرُ منازلَ الحبيبة . هنا عاشت أُمُّ أوفى . وهذه المنازلُ احتضنت حياةَ هذه المرأة بكل تفاصيلها. كانت دياراً تعجُّ بالحركة والصخب والضحكات والحلم بمستقبل مشرق ، أمَّا الآن فصارت أطلالاً حزينة معجونة بالفراغ والنهايات المؤلمة والوحشة المخيفة . وهذا السكون الموحش لن يَطرح الأسئلةَ ولن يُجيب عنها . فالعَدَمُ المسيطر على المكان هو السؤال والإجابة في آنٍ معاً .
وقد وضع الشاعرُ كلامَه في فوهة الشك والظنون ليشير بذلك إلى أنه لم يَعرف آثارَ الديار بشكل يقيني، وذلك بسبب مرور السنوات، وبُعد عهده بالمكان ، وفَرْطِ تغيُّره . فالزمنُ قد سَلبه اليقينَ والدقةَ ، وأورثه شكوكاً وخيالاتٍ . وكلُّ مكانٍ لا بد أن يَخضع لعجلة الزمن ، والسنواتُ لا بد أن تجرف الذاكرةَ والذكرياتِ .
ويقول الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فَوَقَفتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا صُمَّاً خَوَالِدَ ما يَبينُ كَلامُها

سقطَ الشاعرُ في الذهول بسبب مرور الزمان وانهيار المكان ، ووقعَ ضحيةً للصدمة القادمة من فِراق الأحباب ، وسيطرتْ عليه المصيبة التي شَلَّت تفكيرَه ، وقيَّدت حواسَّه . فنراه يقف يسأل الطلول عن سكانها . إنه يسأل الحجارةَ الخرساء التي لا تَقدر على الكلام . وهذا يُشير إلى حجم المأساة العاطفية التي يَغرق فيها الشاعرُ، ووصوله إلى غاية الشغف والوله ، وكأنه فاقدٌ لقواه العقلية ، أو يعيش في حالة غيبوبة ، يَسأل الجمادَ ويَنتظر الإجابة ، كما لو كان إنساناً .
وقد تدارك أمرَه ، واستيقظ من غيبوبته الشاعرية ، وبطلَ سِحرُ وجوه الأحبة ، وانتهى تأثيرُ المكان . وها هُوَ يقول : وكيف سؤالنا حجارة صلاباً بواقي لا يَظهر كلامها .
إن هذا السؤال بلا جَدْوى ، فلا يوجد أحدٌ لكي يُجيب . فمخاطبةُ الجماد مضيعةٌ للوقت ، وطرحُ الأسئلة على العَدَم عَدَمٌ . وقد أضاعَ الشاعرُ وقتَه بطرح السؤال على الأطلال ، لكنه كان واقعاً تحت تأثير المصيبة العنيفة . وعندما أفاقَ من تأثير الصدمة ، شعرَ بحجم مأزقه الوجودي ، وأحس بخيبة كبيرة ، لأنه أدركَ أن سؤاله سيظل بلا إجابة .
ويقول الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

يا دارَ عَبْلةَ بالجِواءِ تكلَّمـــي وعِمِي صَباحاً دارَ عَبْلةَ واسْلَمي
إن الشاعرَ واقعٌ تحت تأثير صدمةِ الحزن ، ولَوْعةِ الغياب ، وحُرقةِ الذكريات . لذلك فهو يُخاطِب دار حبيبته بالجِواء ( مَوْضع بِعَيْنه ) ، ويَطلب من هذه الدار أن تتكلم وتخبره عن أهلها ما فَعلوا .
لم يَجد أحداً لكي يُخاطبه ، فبدأ بمخاطبة الحجارة الخرساء . وهذا مؤشرٌ باهر على النار المتأججة في صدر الشاعر ، نارِ الفِراق والفراغِ . ومخاطبةُ الجماداتِ دليلٌ واضحٌ على احتراقِ المشاعر، وتشتتِ الذهن، وسيطرةِ الحزن العميق .
لقد غرقَ الشاعرُ في الخيالات والأوهام، وصار مريضاً بالوهم . يخاطبُ الجمادَ كما لو كان إنساناً ، ويَنتظر إخبارَه عن مصير أهل الدار ، وهذا منتهى اللوعة والعذاب . وكما قيل : إن الغريقَ يتعلق بحبال الهواء .
ثم انتقلَ إلى تحية دار حبيبته التي ضَمَّت بين أركانها ذكرياتِ العشق ، وأحزانَ البعاد . والتحيةُ " عِمْ صباحاً أو عِمِي صباحاً " كانت التحيةَ المعتمدة في الجاهلية ، ومعناها طاب عَيْشك في صباحك .
والشاعرُ لم يَجد حبيبته لكي يُحيِّيَها ، فراحَ يُحيِّي دارَها ( رائحة الأحباب ) ، ويتمنى لها طِيب العَيش في صباحها ، وأن تَسْلم من كل مكروه . وهذا يُجسِّد الحفاظَ على الذكرى ، والأثرِ الباقي . فبقايا الديار تشير إلى بقايا القلوب البشرية .

3_ سيطرةُ الفراغ ( العَدَم ) :

ضربَ الفراغُ أوتادَه في المكان بكل وحشية غير عابئ بشيء . وتفشَّى الفناءُ في أوصال الحجارة ، ورحلَ السكانُ إلى غير رَجعة . إنها مشاعر مؤلمة تُورِث في النَّفْس حسرةً أبدية ، ولوعةً لامتناهية . وتأثيرُ هذه العواطف المنكسرة على العشاق والشعراء يكون مضاعَفَاً بسبب ارتفاع منسوب الأحاسيس في أجسامهم ، وسهولة تأثرهم، ورقةِ طباعهم. فما بالكَ إذا كان العاشقُ شاعراً أو كان الشاعرُ عاشقاً ؟! .
يقول الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

عَفَت الدِّيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها بِمِنىً تأبَّدَ غَوْلُها فَرِجامُهـا

الفناءُ يَضرب العمودَ الفقري للمكان. لقد عَفَت ديارُ الأحباب . صارت آثاراً باكيةً ، وبقايا حزينةً . انمحت منازلهم كأنها لم تكن أصلاً . لم يُميِّز الفراغُ بين منازل الحلولِ ومنازلِ الإقامة ، فكلُّها قد انمحت ، وكان الفناءُ شاملاً. ولم تصمد الحجارةُ أمام ممحاة الزمن .
وهذه الديارُ كانت بالموضع المسمَّى مِنى ( غير مِنى الْحَرَم ) ، وقد توحَّشت الديار الغولية والديار الرجامية . والغولُ والرجامُ جبلان معروفان .
لقد آلت الديارُ التي كانت عامرةً بأهلها إلى أماكن كئيبة موحشة ومتوحِّشة بسبب رحيل سُكانها . وكأن الديار تحنُّ إلى قاطنيها ، وتشتاق إليهم ، وتتأثر عاطفياً بفراقهم. لقد رَحل السكانُ إلى غير رجعة ، تاركين وراءهم الأحلام والآمال والأوقات الجميلة . غابوا في سراديب الزمن ، تركوا أعمارَهم وراءهم ، ورَحلوا بقلوب كسيرة . وبعد رحيلهم ، انكسرت قلوبُ الحجارة ، وتوحَّشت الديارُ .
ولا يَخفى أن آثارَ الديار تَبعث في النَّفْس شعوراً بالحزن والألم . فهي تشير إلى بقايا أحلام إنسانية تبخَّرت في الهواء ، وتدل على رُكام المشاعر الإنسانية التي زالت من الوجود . والبنيةُ الفلسفية للأطلال غارقة في الحزن والألم ، لأنها بُنية فراغية معتمة وَرثت الوجودَ اللامع . ولا بد أن يَندلع الحزنُ إذا تحوَّل الوجودُ إلى فراغ ، وآلَ العمرانُ إلى خَراب ، وصارت الحياةُ عَدَماً .
ويقول الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :

هَلْ غَادَرَ الشُّعراءُ مِن مُتَـرَدَّمِ أمْ هَل عَرَفْتَ الدارَ بعدَ تَوَهُّمِ
كلُّ شيء قد قِيل ، وانتهى الموضوع ! . والشاعرُ يسأل : هل تركَ الشعراءُ موضعاً مسترقعاً إلا وقد رقعوه وأصلحوه ؟ . والمتردَّمُ هو الموضع الذي يُسْتَرْقَع ويُسْتَصْلَح لما اعتراه من الوهن . والمعنى: لم يَترك الشعراءُ شيئاً إلا وحوَّلوه إلى شِعر، ولم يَتركوا شاردةً ولا واردةً ، إلا وتحدَّثوا عنها، وصاغوا فيها شِعراً . وكأن عنترة يقول: لقد سبقني الشعراءُ وقالوا كلَّ شيء ، ولم يَتركوا لي شيئاً لأقوله .
وهذا يدل على سيطرة السآمة والملل على نَفْسِ الشاعر،وشعوره بالضجر من الأشياء السائدة . وكأنه يَعتبر نَفْسَه عاجزاً ، وغير قادر على الإبداع ، ليس بسبب ضعف مستواه، وإنما بسبب التراكمات الشعرية السابقة التي اشتملت على كل شيء، ولم يُفلِت من قبضتها أيُّ موضوع. وهذا التراثُ الشعريُّ الشاملُ شَيَّده الشعراءُ قبل مجيء عنترة.
وهذا التمهيدُ الشعري يُشكِّل أولوية في ذهن عنترة قبل الحديث عن موضوع الأطلال . لأن كثيراً من الشعراء قَبْلَه تحدَّثوا عن موضوع الأطلال / ديار الحبيبة . وبالتالي فإن عنترة يريد تقديم توطئة شِعرية ، وكأنه يقول للسامع أو القارئ : لا تعتبرني مُقلِّداً للشعراء الذين سبقوني إذا تحدثتُ عن موضوع الأطلال، فإن الشعراء لم يَتركوا شيئاً، إلا وصاغوا فيه شِعراً. وبعبارة أخرى ، لم يَترك الأول للآخِر شيئاً . وهذه العمليةُ يمكن اعتبارها نوعاً من التماسِ العُذر ، ورفعِ الحَرج ، وإبعادِ اللوم عنه ، وسحبِ البساط من تحت أقدام اللائمين المفْتَرَضِين .
وبعد هذا التمهيد ( التوطئة الشعرية ذات البُعد التاريخي ) التي قَدَّمها عنترة ، يَدخل إلى موضوع الأطلال بصورةٍ واثقةٍ ، ومتحررةٍ من ضغط العناصر المحيطة . فيقول : هل عرفتَ دار عشيقتك بعد شَكِّك فيها ؟ .
إنها الأطلالُ، بقايا الديار التي صارت أشباحاً تَحوم في المكان ، وذرَّاتِ غبار سابحة في الهواء . وقد ولَّد مرورُ السنوات في نَفْسِ الشاعر شَكَّاً ، وأوهاماً كثيرة حول هذه الديار ، بسبب تغير الأزمنة واختلاف الأمكنة . وبالطبع ، إن مرورَ الزمن يُورث الشكوك في النفس البشرية حول طبيعة الشخصيات، وشكلِ الأمكنة . أمَّا العشيقةُ فصارت جُزءاً من الذكريات السحيقة ، وحُلماً من الماضي والبعيد .
ويقولُ الشاعرُ النابغة الذبياني :

يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلْياء فالسَّــندِ أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْها سَالِفُ الأبدِ

يتذكر الشاعرُ ميَّة ( اسم المرأة التي يُشبِّب بها ) . وقد رَحلت إلى غير رَجعة ، واختفت عن عيون الشاعر إلى الأبد . وما بقيَ من ذِكرها غير دارها التي يُخاطبها الشاعرُ ملتاعاً وحزيناً . والعلياءُ : المرتفع من الأرض . والسندُ : سند الوادي إلى الجبل ( أول ارتفاعه ) .
ثم جاءَ الفراغُ القاتلُ ، والعَدَمُ الحارقُ . وَقعت حجارةُ الدار في قبضة الزمن الطاحنة، وخَلَت الديارُ من أهلها ( أَقْوَت ). صارت الديارُ فارغةً منطفئة. وهذا الانطفاءُ الرهيب كان _ في الماضي _ شُعلةً من الحُب والحياة واللمعان . كلُّ هذه المعاني الصاخبة ذَهبت ولن تَعود . فقد مَرَّت السنواتُ ، وطالَ على الديار سالف الأبد ( الماضي ) . لقد فرضَ الدهرُ شروطَه على البشر والحجارة .
ويقولُ الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

أَقْفَرَ مِن أهله مَلْحوبُ فالقُطَّبياتُ فالذَّنـوبُ

[ملحوب:اسم ماء لبني أسد بن خُزيمة/القطبيات: اسم جبل/ الذنوب : اسم مَوْضع ].
يُخبِرنا الشاعرُ أن المكان قد خلا من أهله ، وعَمَّ الفراغُ المخيف بسبب رحيل الناس الذين كانوا يُؤنسون وحشةَ المكان ، ويؤنس وحشتهم .
وعلى الرغم من هذه الصورة الحزينة ، إلا أن الشاعر قد نجحَ في تخليد هذه الأماكن ، وإدخالها في قاموس التراث الشِّعري ، وجَعْلِها علاماتٍ فارقة في مسيرة الحضارة . وعلى الرغم من دخولها في دائرة الأطلال أو الأماكن المهجورة ، إلا أنها ما زالت محتفظة بوجودها في ذاكرة الزمن ، وهذا بفضل الشِّعر القادر على تخليد الذِّكرى ، وصيانتها من الانطماس .
فالديارُ المندثرة والأطلالُ الخاليةُ ، اختفى تأثيرها في الحيِّز المكاني الجغرافي ، لكنها ذات حضور راسخ في ذاكرة الشِّعر . فالشِّعر أعادَ ترميمها ، وجَعَلَها أماكن عصية على الاندثار والنسيان . كما أن الأحبة الراحلين غابوا في الإطار الواقعي ، لكنهم يَتحركون في الفضاء الشِّعري الذي حَرَسَهم من الموت، وحفظَ ذكرياتِهم إلى الأبد .

الفصل الخامس
الحرب

تمهيد

مِن المعلوم أن المجتمع الجاهلي كان يَعتمد على الحرب ( الغزو والغزو المضاد ) كمصدر اقتصادي أساسي . لذا من الطبيعي أن تَدخل الحربُ في أدبيات الحياة الجاهلية ، وتصبح رَقْماً صعباً لا يمكن تجاوزه . ولم يقف الأمرُ عند هذا الحد ، بل أضحت الحربُ ثقافةً قائمة بذاتها ، لها فلسفتها الفكرية ، وتأثيراتها الاجتماعية ، وإفرازاتها السياسية ، وأبعادها الاقتصادية . ولها زعماؤها وشعراؤها ومُنظِّروها .
وبالتالي ، فليس غريباً أن تَبرز الحربُ والقيمُ المرتبطة بها في قصائد الشعراء . فالشِّعرُ انعكاسٌ للواقع بِقَدْر ما هو خَلْقٌ للواقع . وقد صاغَ شعراءُ المعلَّقات سبيكةً شِعرية من قيم الحرب . وكلُّ قيمة تعكس شخصيةَ صاحبها ومرجعيته الفكرية . فَبَرَزت قيمةُ ذَمِّ الحرب، والتحذير منها، وضرورة إحلال السلام. وفي الجهة المقابِلة بَرز معنى الفخر بالانتصار في الحرب، ورفع مكانة المنتصر، والحط من شأن المهزوم.
وبين هذين المسارَيْن المتوازيَيْن ، ظَهرت أبعادٌ كثيرة متناقضة ، ومرتبطة بالحرب ارتباطاً وثيقاً ، مثل: القتال حتى الفناء ( القتال حتى آخر رَجل ) ، وقسوة الحرب ، ودورها في حصد الأرواح والممتلكات ، وإعطاء الدِّيَات بعد الحرب ، والفخر بالقتل وسفك الدماء ، وكيفية التعامل مع الغنائم والأسرى والسبايا ، ووجود النساء في الحرب . ولا يَخفى أن النساء والأطفال هُم ضحايا الحروب ، بسبب ضعفهم ، وعجزهم عن حماية حياتهم ، وعدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم في وجه الأخطار المتكاثرة حَوْلهم .
وبدون أدنى شك ، سيظل شِعرُ المعلَّقات حول الحرب وثيقةً أدبية وتاريخية ، يمتزج فيها جَمالُ التصوير بقُبح الحرب ، وتَختلطُ فيها الأبعاد الإنسانية بكل تناقضاتها ، وتلتصق لحظاتُ القوة بلحظات الضعف . وكأن الحِبرَ يُصبح مُعادِلاً للدم _ إن جاز التعبير ! _ .
1_ القتال حتى الفناء :

لا يوجد حربٌ ناعمة . فالحربُ منبع الوحشية والفناء . إنها مقبرة الرجال ، ومَصْدر الإبادة . وقد عبَّر الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى عن هذه المعنى في قَوْله :

تَداركتُما عَبْساً وذُبيان بَعْدَمـا تَفانَوْا وَدَقُّوا بينَهم عِطرَ مَنشمِ

وهو يُخاطب سَيِّدَيْن من سادات العرب ( هَرِم بن سنان والحارث بن عوف ) ، ويُورِد ذِكْرَهما الضمني في سياق المدح ، ويُخلِّد هذا الذِّكر إلى الأبد بسبب دورهما البارز في إنهاء الحرب الطاحنة بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان. وهنا يتضح دورُ الشاعر في دعم مسيرة السلام ، ووقف شلال الدم الذي جرفَ الأخضرَ واليابسَ . فهو مِن دُعاة الحوار واللاعنف ، وقد حوَّل رسالته الشِّعرية إلى قضية إنسانية تساهم في إصلاح العلاقات بين القبائل ، وتكوين مجتمع متسامح يحتكم إلى قوة اللغة لا لغة القوة . وفي هذه الحالة يصبح الشِّعرُ رسولَ سلامٍ ، وباعثاً على الأمن والأمان .
تلافيتما أمر هاتين القبيلتين، وقُمتما بانتشالهما من مستنقع الدماء، ولحقتما بهما في آخر لحظة ( قبل أن تقعا في الهاوية السحيقة ) . فالقتلُ وصلَ إلى مستويات غير مسبوقة ، وقد أفنى القتالُ رجالهما . إنه القتالُ حتى آخر رَجل . تواصلَ مسلسل القتل حتى النهاية . وهذه الحربُ الطاحنة حَصدت أرواحَ الرجال، ورَمَّلت النساءَ، ويتَّمت الأطفالَ ، وقضت على الممتلكات المادية ، وتسبَّبت بكوارث اجتماعية وسياسية واقتصادية في المجتمع العربي. ومن خلال هذا المنظور ، يلتصق معنى الحرب بمعنى الفناء والنهاية المؤلمة .
وقَوْلُه " دَقُّوا بينَهم عطرَ مَنشم " يَحمل إشارةً بليغة ومؤلمة إلى أن القتال أتى على آخرهم كما أتى على آخر المتعطرين بعطر مَنشم .
و" مَنشم " امرأةٌ عطارة ، اشترى قومٌ منهم عِطراً ، وتحالفوا على قتال العدو، فقُتلوا عن آخرهم ، فتطيَّر العربُ بعطر مَنشم . وصار رمزاً للتشاؤم لأنه يَحمل في الذاكرة العربية معنى القتل والفَناء .
وفي هذا السياق يَظهر معنى العلاقات التي كان العربُ يخترعونها ، ويَبنون عليها نسقاً فكرياً واجتماعياً ، ويربطونها بنتائج عقلية ، وتطبيقات واقعية . وهذه العلاقاتُ متأثرة إلى حَد بعيد بالمناخ الوثني ، وإقحام الأصنام بثنائية الأسباب والمسبِّبات . فالمجتمعُ الجاهلي مُلوَّث بالطقوس الخفية ، فيكثر فيه السِّحرُ والشعوذة والكِهانة والتطير ( التشاؤم ) . وهذه القضايا ظهرت ونالت شرعيةً شعبية بسبب الجهل المتفشي في البيئة العربية . فهذه العوالم المستترة هي انعكاس لقلق الفرد الجاهلي وارتباكه الروحي في مجتمع يستمتع بغرقه دون وجود طوق نجاة . ولأن التجمع الجاهلي كان يفتقد المعرفةَ والبُنيةَ الحضارية والثقافةَ التنويرية ، لَجَأَ إلى العوالم الغامضة اللامنظورة ذات الطابع السحري .
العلاقةُ الأولى تتمحور حول شراء العِطر من قِبَل أشخاص يريدون التعاقد والتحالف ، وجعلهم آية الحِلف هو غمسهم الأيدي في ذلك العِطر . وهذا الطقسُ غريب ، فلا يوجد رابطٌ منطقي بين الحِلف والعِطر . ومع هذا فقد رُبطت آية الحِلف بغمس الأيدي في العِطر ، وهذه العمليةُ تأتي في سياق التأثر بعالَم القرابين والكهانة والتطير .. إلخ .
العلاقةُ الثانية هي التي بناها العربُ على حادثة عابرة ، وهي مقتل هؤلاء الرِّجال ( الذين تعطَّروا بعِطر منشم ) عن آخرهم . لقد قام العقلُ العربي الجمعي بربط حادثة قتلهم بالعِطر ، وإدخال هذا الأمر ضمن السبب والمسبِّب أو الفعل والنتيجة. وانبثق من هذه العملية فلسفةُ التطير وثقافة التشاؤم. وهكذا صار" عِطر مَنشم " مثلاً شهيراً، وثقافةً اجتماعية يتناقلها الأجيالُ جيلاً بعد جيل . ودخل هذا التعبير " عطر منشم " في أشعار العرب، وتراثهم الإنساني، وحياتهم الاجتماعية، وفلسفتهم الروحية ، ومعتقداتهم الدينية .

2_ تجريبُ الحرب :

الحربُ ليست نزهةً . إنها رَحى طاحنة ، تَطحن كلَّ شيء . تُتلِف الأرواحَ والممتلكاتِ . والعاقلُ لا يتمنى لقاءَ العدو ، لأنه يَعْلم أن الحرب تحصد الأشياءَ حصداً، تُفني الناسَ، وتُدمِّر المنجزاتِ الحضارية ، وتُورِث الشكوكَ والقلقَ والرعبَ في نفوس المقاتِلِين والمتابِعِين ، والإنسانُ لا يَعْرف قلبَه في الحرب ، ولا يَعرف هل سَيَصمد أم سينهار ، هل سيُقاتِل بكل إقدام أم سَيَهرب بكل نذالة .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وما الحربُ إلا ما عَلِمتم وذُقتم وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّـمِ

يُقدِّم الشاعرُ صورةً مقزِّزة للحرب، في محاولة منه لتنفير الناس منها ، وإبعادهم عن فكرة القتل والقتال . وهو لا يُلقي الكلام على عواهنه ، بل يَربط الكلام بالأحداث التاريخية، والتجارب الواقعية. والتاريخُ لسانٌ صادق، والواقعُ لا يَكذب أبداً . وقد ربطَ الشاعرُ كلامَه بالتجربة الواقعية والبرهان العملي ، ليكون كلامُه ذا تأثير في النفوس . تأثير حقيقي يكون بمثابة السُّور الواقي من الحرب . ولا يَخفَى أن ربط القول بالعمل يؤدي إلى ترسيخ المعنى ، وإشاعة الصدق في الأرجاء .
يقول : وليست الحربُ إلا ما عهدتموها ، وجَرَّبْتموها ، ومارستم كراهيتها .
إنه يَنقل المعنى إلى الوقائع العملية . فالحربُ تم تجريبها ، وقد عادت بالويلات على الجميع ، والجميعُ فيها خاسرٌ. وهذا الأمرُ ليس كلاماً في الهواء ، وإنما تمَّ تجريبه ورؤيته بالعين المجرَّدة ولمسه على أرض الواقع . والذين خاضوا الحربَ يَعرفون هذه المعاني تماماً لأنهم جَرَّبوها بأنفسهم ، ورأوها رأيَ العين ، ولم يَسمعوا عنها من الآخرين. والمشاهِد ليس كالسامع. وقد قيل : (( اسألْ مُجرِّباً ولا تسأل حكيماً )). وقيل أيضاً : (( أكبرُ منكَ بيوم أعلمُ منكَ بسنة )). فالخِبرةُ الحياتية تُكسِب الإنسانَ معانٍ عديدة ، لا يُمكِن أن يقرأها في كتاب ، أو يَسمع عنها من الناس .
ويؤكِّد الشاعرُ كلامَه ، فيقول إن الحديث عن الحرب وويلاتها ليس بحديث مُرَجَّم ( أحكام الظنون )، وإنما هو حديثٌ يَقيني لا ظنِّي، يستند إلى الواقع العملي ، وهذا ما شَهِدت عليه الشواهدُ الصادقة من التجارب .

3_ ذَمُّ الحرب :

المنطقُ الإنساني يذمُّ الحربَ ولا يَمدحها . فهي سبب الكوارث والدمار ، وهي منبع الحقد والكراهية. والعقلُ الجمعي _ القادرُ على التحسين والتقبيح _ يُدرِك قبحَ الحرب، وآثارها الكارثية على جميع الأصعدة. لذلك، ليس غريباً أن يتم ذَمُّ الحرب ، والتنفير منها ، وإبراز صورتها السَّيئة ، وجوهرها القبيح .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

متى تَبعثوها تَبْعثوها ذَميمـةً وَتَضْرَ إذا ضَرَيْتُموها فَتَضرَمِ

إنهم متى يَبعثوا الحربَ يَبعثوها مذمومةً ، أي يُذَمُّون على إثارتها . والناسُ سوفَ تذمُّهم وتَلومهم ، وتُحمِّلهم المسؤوليةَ كاملةً ، فتتلطخ صورتهم بالمعاني السلبية ، وتلتصق بهم وصمة عار أبدية لا يَمحوها شيء ، لأنهم تسبَّبوا بالحرب ، وساهموا في إزهاق الأرواح ، وإتلافِ الممتلكات. ولن يتوقفَ الأمرُ عند إثارة الحرب . فالحربُ مثل النار سيشتدُّ ضَرْمُها واشتعالها إذا تم تزويدها بما يساعد على الاشتعال، وعندئذ تلتهب نيرانُها . وجثثُ المتقاتِلِين هي وقودُ الحرب ، كما أن الحطبَ هو وقود النار.
والمعنى العام : إنكم إذا أوقدتُم نارَ الحرب وقُمتم بإشعالها ، ذُممتم وصارت سُمعتكم في الحضيض . ومتى قُمتم بإثارة الحرب ثارت ، وتأجَّجت نيرانُها ، ولم يَعُدْ بالإمكان السيطرة عليها . وكلُّ هذه المعاني موضوعة في سياق الحضِّ على التمسك بالصُّلح ، والابتعادِ عن الحرب ، وإظهارِ النهاية المؤلمة لإيقاد نار الحرب .

4_ الحربُ طاحنة :

الحربُ تَطحن الأرواحَ والممتلكاتِ بلا رحمة . فهي لا تَشبع ولا تَهدأ ، ولا تترك الآخرين يهدأون . وهذا القلقُ المرعب الذي يحصد كلَّ شيء ، يُجسِّد فلسفةَ الطحن في الحرب بكل شراسة .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

فَتَعْرُكُكم عَرْكَ الرَّحى بثِفالها وَتَلْقَح كِشافاً ثم تُنتِج فَتُتْئِمِ

[ الثِّفال: جِلدة تُبسَط تحت الرَّحى ليقع الطحين / الكِشاف : أن تلقح النعجة في السنة مرتين ] .
يُقدِّم الشاعرُ صورةً مرعبة للحرب تُعبِّر عن خطورتها وقسوتها . فهذه الحربُ الطاحنةُ تعركُ الناسَ بلا هوادة ولا رحمة. إنها تطحنهم كما تَطحن الرَّحى الْحَبَّ مع ثِفاله . وقد تم تخصيص هذه الحالة ، لأن الثِّفال لا يُبسَط إلا عند الطحن .
هذا المشهدُ الشِّعريُّ الصارخُ يمثِّل شدةَ الحرب . فالحربُ رَحى طاحنة لا تكفُّ عن الدوران والطحن . إنها تَهْرس أجسادَ البشرِ الغضَّةَ ، وتحوِّلها إلى جثث هامدة . وتُحيل الأحلامَ البشرية إلى غبار متطاير في الهواء . وهكذا تصبح منجزاتُ الحضارةِ الإنسانيةِ كالطحين. فالكلُّ يؤول إلى أجزاء ، والجسمُ الواحدُ يؤول إلى شظايا . إنها الحربُ التي لا تَرْحم . تُدمِّر كلَّ شيء ، وتفتِّت كلَّ الكيانات المتماسكة .
وفي عجزِ البيت، يَربطُ الشاعرُ بين عناصر بيئته الصحراوية وبين الحرب . إنه يستلُّ صورةً من تكاثر الحيوانات ( النعاج ) ، ويُسقِطها على عالَم الحرب القاسي . وها هُوَ يقرِّر أن الحربَ تلقح في السَّنة مَرَّتين وتلد توأمين. وبعبارة أخرى ، إنه يقرِّر ثنائيةَ ( السبب / النتيجة ) أو ( المدْخَلات / المخْرَجات ) .
وهذه العلاقةُ المركزية تتجسَّد في جعل إفناء الحرب إياهم بمنزلة طحن الرَّحى الْحَب، وأيضاً جعل أنواع الشر المتولِّدة من الحرب بمنزلة الذُّرية الناشئة من الأمهات . فالحربُ هي الأُمُّ القاسية التي تَلد أولاداً عاقِّين ( أنواع الشَّر والألَمِ ) .

5_ النشأة في ظِل الحروب :

إن الأشخاص الذين ينشأون في ظِل الحروب، لا بد أن يُصابوا بالأمراض النفسية. وهذه الأمراضُ بعضُها ظاهرٌ للعيان ، وبعضُها مستتر . وتبرز آثارُ هذه الأمراض على ملامح الإنسان، وتظهر تأثيراتها في السلوكيات الاجتماعية ، وتتَّضح فلسفتها في الكلام ، وفلتاتِ اللسان .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

فتُنتِج لكم غِلْمانَ أشأمَ كُلُّهم كأحمر عادٍ ثم تُرْضِع فتَفطِـمِ

إنه جَو الحرب الرهيبة ، حيث يُولَد في أثنائها أبناء مشؤومون ، تشرَّبوا رُوحَ الحرب _ رغم أنوفهم _ ، وعاشوا أجواءها المرعِبة بكل حواسهم . وهؤلاء الأبناءُ وُلدوا في مناخ القتل والكراهية والحقد ، فصاروا رَجْعَ صدى للحرب المتأججة ، وصارت جوارحهم تشخيصاً لحالة القتل والقتال . وكلُّ واحدٍ منهم يضاهي في الشؤم أحمر عاد( وهو أحمر ثمود عاقر الناقة " قُدار بن سالف " ) الذي تسبَّب بهلاك قَوْمه ، فكان شُؤْماً عليهم بعد أن جلبَ لهم العذابَ .
ثم ترضعهم الحروب وتفطمهم ( تقطعهم ) . وفي هذا دلالةٌ على ولادتهم ونشأتهم في الحروب . إنهم أبناء الحروب ، عاشوا في ظِلالها ، وابتلعوا فلسفتها القاتلة ، وامتصَّت أعضاؤهم الصفاتِ القاسية ، وصارت مَشَاهِدُ القتل وسفك الدماء جزءاً من الذاكرة، وفكرةً أساسية في عقولهم، فأصبحوا مشائيم على آبائهم.
والإنسانُ هو ابنُ بيئته . فالذي يُولَد في الحرب ، ويَعيش في كنفها ، لا بد أن يتأثر بأجوائها المرعبة مهما كان قوياً أو واثقاً من نَفْسه . وعندئذ يصبح الفردُ ظِلاً للحرب ، يَحمل جيناتها وخصائصها ، متلبِّساً بالقلق والألم والاضطراب الروحي والبدني. وسوفَ يتشاءم الناسُ بهذا الفرد المضطرِب ، ويصبُّون عليه جامَ سُخطهم .

6_ الحرب تحرق المال :

الحروبُ تجارةٌ بأرواح البشر وممتلكاتهم . صحيحٌ أنها تجارة قذرة ، لكنها رائجة إلى حَد بعيد. وعلى الرغم من حَرقها للمال إلا أن هناك قِلةً مستفيدة منها. وهؤلاء هُم أُمراء الحرب الذين يَدفعون بالرجال إلى الموت مستخدمين شعارات الشرف والبطولة ، ويظلُّون مختبئين في جُحورهم يترقَّبون لحظة الانقضاض . ومهما يكن من أمر ، فالحربُ تَحرقُ المالَ ، لأنها مقامَرة مرعِبة تأكلَ الأخضرَ واليابسَ . والأضرارُ التي تأتي بها الحروب أكبر من كل المنافع التي قد يتخيَّلها البعضُ ، أو يُخطِّطون لتحقيقها . إنها دمارٌ شامل . والقِلةُ المستفيدة من الحرب لا وزنَ لها ، لأن النادرَ لا حُكم له .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

فتُغْلِل لكم ما لا تُغِلُّ لأهلهـا قُرىً بالعراقِ من قَفيزٍ ودِرْهَمِ

إنه يذمُّ الحروبَ، ويُبيِّن أضرارَها الهائلة. فهذه الحروبُ تغلُّ أنواعاً من الغلات. وهذه الغلات لا تكون لقُرى من العراق التي تغل الدراهم بالقفيزات . والقفيزُ هو مِكيال أهل العراق .
فالأضرارُ الناتجة من هذه الحروب تزيد على المنافع الناتجة من هذه القُرى . فالأموال التي تُجبَى من القُرى لا تُغطِّي نفقاتِ الحروب التي هي أكبر من كل مصادر الدَّخل . ومهما كانت القُرى غنيةً ، فلا يمكنها أن تموِّل الحروبَ التي تحتاج ميزانيةً ضخمة تَعجز عنها القُرى التي تغل الدراهم بالمكاييل .
وهذه الصورةُ الاقتصاديةُ القاتمةُ يُقدِّمها الشاعرُ من أجل حَثِّ جميع الأطراف على الالتزام بالصُّلح ، والابتعاد عن إشعال جذوة الحرب . والعاقلُ يَحسب الأمورَ قبل الخوض فيها . وعندما يُؤمِن أن الحربَ صفقةٌ خاسرة ، فلا بد أن يَبتعد عنها.

7_ إعطاء الدِّيَات بعد الحرب :

كلُّ حربٍ تكون بدايتها مشكلة بسيطة يمكن حَلُّها بالهدوء والعقلانية ، ولكنَّ الجهلَ يَجعل من هذه المشكلة جَبلاً من المشكلات. ومعظمُ النار من مستصغر الشرر . والحربُ العبثيةُ لحظةُ طيشٍ يَقتحمها الجهَّالُ والمغرورون ، ويَتحمل نتائجها الجسيمة العقلاءُ والحكماءُ الذين يَقضون أوقاتهم محاولين إخماد نارها ، وإيجاد نهاية لها. والجهالُ الذين يُشعِلون نارَ الحرب، إنما يُورِّطون العقلاءَ فيها. فالناسُ _ دائماً_ يَنظرون إلى العقلاء وعِلية القوم ، ويحثونهم على إيجاد الحلول النافعة ، ولا أحد يَنتظر حلولاً من الجهال أو العوام .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

تُعفَّى الكُلومُ بالمِئينَ فأصْبَحَتْ يُنَجِّمُها مَن ليسَ فيها بِمُجرِمِ

فالكُلوم ( الجِراح ) تُمحَى وتُزال بالمئين من الإبل ( الدِّيَات ) . أي إن الآلام والجراح الناتجة عن الحرب، تُزال عن طريق إعطاء الدِّيَات التي تَجبر القلوبَ الكسيرة، وتُطيِّب الخواطرَ الملتهبة ، وتُهدِّئ النفوسَ المحترقة .
والمئين نسبة إلى المئة ، وفي هذا إشارةٌ إلى الأعداد الكبيرة من الإبل التي تُقدَّم إلى أهالي القتلى . فهُم قد فَقدوا أبناءهم وإخوانهم وأحبابهم في الحرب الطاحنة ، وفي أمس الحاجة إلى التعويض المادي. صحيحٌ أن الدِّيَات لن تُعيد القتلى، ولن تُحيِي الذكرياتِ الدافئة ، ولن تُرجِع الأيامَ الجميلة . ولكنها _ أي الدِّيَات _ تمثِّل نوعاً من التعويض المادي لأفراد القبيلة ، والأمهاتِ الثكلى ، والأراملِ المفجوعات ، والأيتامِ الحزانى .
والمضحكُ المبكي أن الذين يتحمَّلون الدِّيَات ، ويأخذون على عاتقهم إنهاء الحرب الضروس، هُم الذين لا ناقة لهم ولا جَمل في الحرب . وأصبحتْ هذه الإبلُ (الدِّيَات) يعطيها نجوماً مَن هو بريء الساحة بعيد عن الْجُرم في هذه الحروب .
فالأبرياءُ هُم الذين يُقدِّمون الدِّيَاتِ نجوماً ( متفرِّقات ) ، على الرغم من أنهم لم يتسبَّبوا بإراقة الدماء، ولم يُشعِلوا نارَ الحرب، ولم يَشتركوا في عملية القتل والقتال. وهذا يُشير إلى سخرية الحياة. فالمجرمون الذين تلطَّخت أيديهم بالدماء نَجَوا بفعلتهم، أمَّا الأبرياء فهُم الذين ضَمنوا إعطاء الدِّيَات ، وَوَفُوا بها ، وأخرجوها متفرِّقاتٍ . وهذا يدل على حرصهم على حقن دماء أبناءِ جِلْدتهم ، سواءٌ كانوا من قبيلتهم أم القبائل الأخرى . وهذا قَدَرُ العقلاء في كل العصور ، أن يُصلِحوا ما أفسده الجهَّالُ .


8_ النصر في الحرب :

على الرغم من كَوْن الحرب تجارةً بالأشلاء والضحايا ، وصفقةً دموية قذرة ، وفِعلاً مذموماً ضد الإنسانية ، وضد المنجزات الحضارية ، إلا أننا نجد مَن يُمجِّدها ، ويَفتخر بها ، ويَجعل النصرَ فيها هو قمة الحضارة ، وأسمى الأمنيات ، غير عابئ بالتكلفة الثقيلة للحرب التي حَصَدت الأرواحَ والممتلكاتِ .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

بيَوْمِ كَريهةٍ ضَرْباً وَطَعْناً أَقَرَّ بهِ مَوَاليكِ العُيُونـا

إنه يُقدِّم البُشرى _ من وجهة نظره _ ، ويَنشر خَبرَ النصر في الحرب بكل سعادة وفخر. والكريهةُ هي الحرب لأن النفوسَ تَكرهها، وتَمقتها، ولا تستسيغها .
وها هُوَ الشاعر يقول بكل فخر : نخبرك بيومِ حربٍ كَثُرَ فيه الضرب والطعن .
إنه يَنظر إلى هذا الأمر كبشارة تستحق النشر ، وذلك من أجل جلب الصيت والسُّمعة ، وانتزاع الاحترام والهيبة من نفوس الآخرين ، وردع القبائل المعادِية ، وإخافة الفرسان المنافِسِين .
وقد أخرجَ الْخَبرَ في سياق البشارة ليُعطيَ انطباعاً بأن قَوْمَه لا يَخافون الحربَ ولا يَجزعون من سفك الدماء . إنهم سعيدون بخوض الحرب ، وإخضاع الأعداء ، وإعلاء راية النصر على جثثهم . وهذا منتهى الشجاعة والإقدام _ وفق رؤية الشاعر _ .
وهذا اليومُ المشهود ( يوم الحرب ) الذي كَثُرَ فيه الضربُ ، والطعنُ المتبادل ، وتلاطمُ السيوف، وتطايُرُ الرؤوس ، وتناثُرُ الجثث ، وتمزُّقُ الأشلاء ، وسيلانُ الدماء . هذا اليومُ الدموي جاءَ بالبُشرى ( النصر ) ، فقد أقرَّ بنو أعمامكِ عيونَهم في ذلك اليوم . أي إنهم قد حقَّقوا رغباتهم ، وسَحقوا خصومَهم ، ونالوا مرادَهم ، وفازوا ببغيتهم ، وظَفروا بمناهم من قهر الأعداء .
والشاعرُ يُقدِّم خطابَ النصر وإعلانَ الفَوْز، لترسيخ مكانة قبيلته بين القبائل . كما أن هذه البُشرى ( إعلان النصر في الحرب ) ، جاءت في سياق مخاطبة الأنثى ، وهذا واضح في كلمة " مَوَاليكِ " . وكأنه يقول إن بني أعمامِكِ قد حَموا شرفَ القبيلة . ولا يَخفَى أن الدفاع عن النساء اللواتي لا حَوْلَ لهنَّ ولا قوة ، يُعتبَر ذِروةَ الشرف والمجد . فالرَّجلُ قادرٌ على الدفاع عن نَفْسه ، وحتى لو تَمَّ أَسْرُه ، فهو رَجل قادر على رعاية شؤونه. أمَّا المرأةُ العاجزة عن حماية نَفْسها، فإنها إذا سُبِيت فهذه وصمة عار في جبين عائلتها وقبيلتها ، ونقطة سوداء في تاريخ القبيلة . لذلك بدا الشاعرُ حريصاً على مخاطبة الأنثى، وكأنه يقول لها إنكِ محاطة برجال أشداء قادرين على حمايةِ حياتكِ ، وصَوْنِ شرفكِ . وهكذا صارت الأنثى رمزاً يَختصر الحضارةَ والقبيلةَ والشرفَ والطهارةَ والنصرَ .

9_ الفخرُ بإراقة الدماء :

كلُّ الحروبِ متعطشةٌ إلى الدماء . فعمليةُ القتل والقتال تَشرب دماء المتحارِبِين بصورة هستيرية . وكلما شَربت أكثر عَطشت أكثر . والدمُّ هو الوقود المعتمَد في الحروب ، الذي يُدير عجلةَ صناعة القتل والإبادة ، ويُحرِّك طاقةَ الحقد والكراهية في القلوب. وكلما ارتفع منسوبُ الدماء في الحروب، ارتفعت أهميةُ الحروب في التاريخ . وهذه القاعدةُ المؤلمة منتشرة في كل العصور بلا استثناء . وللأسف ، فالحضارةُ الإنسانية تُكتَب بالدم ، ويُبنَى التاريخُ البشري على الجماجم والجثث .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

بأنَّا نُورِدُ الراياتِ بِيضــاً وَنُصْدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا

إنه الفخر الدمويُّ، والافتخار بسفك الدماء وقتل الأعداء . فالراياتُ (الأعلام) _ التي هي رمز الشرف والشموخ والسيادة_ تَدخل إلى جَو الحرب ، وهي بيضاء اللون . وبسبب كثرة القتل ، وتطايُر الرؤوس ، وتناثُر الأشلاء ، وسيلان الدماء ، فإن هذه الرايات يتحول لونُها من الأبيض إلى الأحمر ( لون الدم ) . فتصبح حُمراً قد ارتوت من دماء الأبطال ، وشَربت الجثثَ حتى الثمالة .
وهذا المشْهدُ يدل على شراسة الحرب ، وكثرة القتل . كما أنه يَحْمل صورةً سِحريةً دمويةً، يُقصَد منها رفع شأن قبيلة الشاعر ، وتصوير فرسان هذه القبيلة كقادة منتصرين لا يَخافون الموتَ ، ولا يَخْشون لقاءَ الأعداء ، ولا يَهابون تلاطمَ السيوف كأمواج البحر .
إن عاطفةَ الفخرِ تسيطر على الأجواء . وهذه العاطفة تحتل مكانةً أساسية في التراث الجاهلي ، والحياةِ القَبَلية . ففي جَو الصراع المحتدم بين القبائل ، لا بد أن تنشأ قيم الفخر والحماسة لتحطيم معنويات الأعداء ، ورفع منزلة القبيلة في المنظومة الاجتماعية السائدة . وهذا التنافس المستعر بين الأفراد والجماعات لا بد أن يواكبه تنافس كَلامي . وهذه المهمة اضطلع بها الشعراء الذين كانوا ألسنةَ قبائلهم الحادةَ ، المنافحين عن أمجاد الآباء ، ومكانةِ العائلات والعشائر . وهذا يُفسِّر سببَ الفرح العارم الذي كان يعمُّ القبيلة حين يَبرز فيها شاعرٌ مُجيد ، أو خطيبٌ مُفَوَّه .

10_ النساء في الحرب :

وَضعُ النساءِ في الحرب شديدُ التعقيد . فهنَّ كائنات لطيفة بعيدة عن التوحش والدموية ، وعاجزات عن حماية أنفسهن ، وبحاجةٍ ماسَّةٍ إلى مَن يحميهنَّ ، ويَحفظ شرفهنَّ . والمرأةُ _ بسبب وضعها البيولوجي _ جناحُها مهيض ، يَسهل كسرُها أو تدنيس عفَّتها. وإذا حدثَ أمرٌ من هذا القبيل، فإن وصمةَ عارٍ أبدية سَتَلْحق بعائلتها وقبيلتها. وهذا الوضعُ الحساس للمرأة ( الأنثى ) يَجعلها محاطةً بالحماية والحراسة ، فهي موضعُ شهوة الرَّجل . وفي الحروب يتم اللجوء إلى السَّبي ( قديماً ) أو الاغتصاب ( حديثاً ) لكسر شَوْكة الأعداء، وتحطيم معنوياتهم ، وتلطيخ صورتهم بالخزي والعار . وستظل المرأةُ هي الحلقةَ الأضعف في الحرب ، والضَّحيةَ الأُولى للنِّزاعات المسلَّحة .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

على آثارِنا بِيضٌ حِسـانٌ نُحاذِرُ أنْ تُقَسَّمَ أوْ تَهُونا

يَصِفُ نساءَ قبيلته بأنهنَّ بِيض حِسان . وهذا مدحٌ لهنَّ يشتمل على معاني صفاء الروح، ونقاءِ الجسد، وجمالِ الوجه. ولا شكَّ أن جَمال النساء يَمنح القبيلةَ مكانةً سامية فيُشار إليها بالبنان ، ويتسابق الرجالُ من أجل النَّسَب والمصاهَرة ، وتَدخل القبيلةُ في قصائد الشعراء ، ويَأتيها المدحُ من كل الجهات .
يقولُ : على آثارنا في الحروب نساء بِيض حِسان ، نحاذر عليهن من السَّبي ، فيتم تقسيمهن ، وإهانتهن .
إذن، هذا الأمرُ خَط أحمر ، فلا يمكن السماح للأعداء أن يَسبوا النساءَ . فهذه إهانةٌ عظمى للنساء وأهلهن والقبيلة بأكملها، ووصمة عار لا يَغسلها ماءُ البحر. ووفق هذه الرؤية ، لا بد أن يكون القتالُ حتى آخر رَجل ، وذلك من أجل الدفاع عن النساء اللواتي هنَّ شَرف الرجال ، وشرف القبيلة ، فلا مجال للاستسلام أو التقاعس . وأيُّ محاولةٍ للهروب أو التقاعس ، ستشكِّل خطراً بالغاً على النساء ، وتزداد فرصةُ تعرضهنَّ للسَّبي . وهذه كارثةٌ كُبرى لا يَقْدر أحدٌ على تحمُّلها .
والعربُ كانوا يُحضِرون نساءهم معهم إلى الحروب ، فتَشْهد النساءُ وقائعَ القتل والقتال . وكان العربُ يُقيمون النساءَ خلف الرجال لِيُقاتِل الرِّجالُ دِفاعاً عن أعراضهم وشَرَفِهم . وهذا الأمرُ يَدفع الرجالَ إلى القتال بكل شجاعة وإقدام ، وبدون أدنى تردد أو تفكيرٍ بالهرب ، لأنهم يَعْلمون أن نساءهم وراءهم ، فلا بد من القتال حتى النهاية دفاعاً عن الشرف ، والقيمِ العائلية ، والتقاليدِ العشائرية . وهكذا يصبح الموتُ دون العِرض متعةً عُظمى ، فالموتُ أرحم من سبي النساء الذي يَجلب العارَ الأبدي .
ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

أَخَذْنَ على بُعُولَتِهِنَّ عَهْداً إذا لاقَوْا كَتائِبَ مُعْلِمِينـا

وهؤلاء النساءُ لهنَّ دورٌ فاعل في مسار الحرب . وحضورهنَّ ليس هامشياً أو لتجميل منظر الحرب . إنهنَّ يَقُمْنَ بمهمة مركزية ، وهي أخذ العهد على أزواجهنَّ بالثبات في الحرب ، والقتال بكل بسالة ، دون خوف أو تردد .
قد عاهدنَ بعولتهن ( أزواجهن ) إذا قاتلوا كتائب من الأعداء مُعلِّمين أنفسهم بعلامات يُعرَفون بها في الحروب ، أن يَثبتوا في معمعة القتال ، ولا يفرُّوا .
وهذا العهدُ بمثابة حِمْل ثقيل على أكتاف الرجال ، وهو مسؤولية كبيرة أثقل من الجبال ، لأنها متعلقة بالدفاع عن النساء ( العِرْض ) ، وصَوْنِ شرف القبيلة ، وحمايةِ سُمعتها ، وتلميعِ اسمها في عالَم الأفراد والجماعات . وثمنُ أيِّ تخاذلٍ ليس مالاً أو أنعاماً . إن الثمنَ هو الشرفُ ، والعِرْضُ ، والسَّبايا ، والنقطةُ السوداء الأبدية في تاريخ القبيلة. وهذا الأمرُ يُؤْخذ على محمل الجِد ، ولا يمكن التلاعب به.
ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

يَقُتْنَ جِيادَنا وَيَقُلْنَ لَسْتُم بُعُولَتَنا إذا لم تَمْنَعُونــا
لا يتوقف دورُ النساء عند تقديم الدعم المعنوي للمقاتِلِين ، وتشجيعهم على القتال . فالنساءُ _ أيضاً _ يقمنَ بتقديم خدمات ملموسة على أرض الواقع . فهنَّ يَعلفنَ خَيلَ المقاتِلِين الجِيادَ ، حتى تدبَّ فيها القوةُ ، فَتَقْدر على حمل الفُرسان ، والصمود في أرض المعركة ، فلا تُصاب بالإعياء ، ولا تَسقط من التعب . ولا شكَّ أن الخيلَ في المعركة ذات أهمية بالغة . ومن هنا ، وَجبَ الاعتناء بها ، ورعايتها أشد الرعاية ، لأنها تمثِّل البُنية التحتية للمعركة _ إن جاز التعبير ! _ . وأيُّ خللٍ في هذه المنظومة الحاملة لشجاعة الفرسان ، سوفَ يَقود _ حتماً _ إلى الهزيمة .
وبعد قيام النساء بعلف الخيل الجِياد، أخذنَ يَرفعنَ معنويات أزواجهن المقاتِلِين، فيقلنَ : لستُم أزواجنا إذا لم تمنعونا من سبي الأعداء إِيَّانا . إنها البراءةُ التامة من رابطة الزَّوْجية إذا لم يتم حماية النساء من السَّبي . وفي واقع الأمر ، إن الزوجَ يستمدُّ رجولته من قُدرته على حماية امرأته ، فإن عجزَ عن ذلك فقد خسرَ رجولته ، ولا جَدوى لوجوده في حياة زوجته . وهذه الحقيقةُ تدركها المرأة تماماً ، فهي بحاجة إلى زوجٍ يَحميها ، ويدافع عنها ، ويَصون شرفَها وأنوثتها . وإذا فشلَ الزوجُ في تحقيق هذه المهمة المقدَّسة، فعليه الانسحاب من حياة زوجته، وتركها لِرَجل آخر يتزوجها ويدافع عنها .
وللنساء دورٌ آخر في المعركة عبَّر عنه الشاعرُ الأعشى الأكبر في قَوْله :

حتى يَظَلَّ عَميدُ القَوْمِ مُرْتَفِقاً يَدْفعُ بالرَّاحِ عَنْهُ نِسْوَةٌ عُجُلُ

إن النساءَ في هذا المشْهد يقمنَ بدور حيوي في حماية الرجال ، وليس العكس . فهنَّ في أرض المعركة ، يُحِطْنَ جثثَ الرجالِ بسياج من الحنان والأمان ، ويَدفعنَ عنها خطرَ السحق تحت سنابك الخيل .
وهذا المشْهدُ الذي رسمه الشاعرُ يُعبِّر عن شراسة الحرب ، وانتشارِ الجثث ، وارتماءِ القتلى على أرض المعركة . والشاعرُ يتغنَّى بهذا الانتصار الساحق الذي يَحمل دلالاتِ قهر الأعداء ، وإهانة الرجال المهزومين. فلم يظل إلا النساء . وهذا قمةُ الخزي والعار . لقد هُزم الرجال ، وبقيت النساءُ يحاولنَ إنقاذ ما يمكن إنقاذه . إنهنَّ يَدفعنَ ثمنَ هزيمة رجال القبيلة .
وها هُوَ عميدُ القوم ( السَّيد المطاع ) مُرْتَفِق ، أي إنه يتَّكل على غَيْره ولا يتكل على نَفْسه ، وهذا منتهى العجز والضعف . لقد خسرَ هذا السَّيدُ مكانته الاجتماعية ، وفقدَ قدرته على القتال ، فصارَ يُعوِّل على غَيره من أجل حمايته . والغريقُ يتعلق بحبال الهواء . وبعد موتِ الرجال المحارِبِين ، تقوم النساءُ باستخدام أكفهنَّ ( الرَّاح ) لدفع المخاطر عن الفُرسان القتلى ، أي حماية جثثهم من السحق .
يقولُ الشاعرُ مخاطباً الأعداء بكل ثقة وحماس : لن تنتهوا عن ضلالكم وعجرفتكم حتى نترك ساداتكم في ساحة الحرب ، تدفع عنهم النساءُ الثكالى ( العُجُل ) اللواتي فَقدنَ أحبتهنَّ ، لئلا يُداسوا بعد القتل .
هذه الصورةُ الصادمة تحمل إشاراتِ القسوة والوحشية والفخر بسفك الدماء. وفيها دلالاتٌ رمزية عميقة . فالقتلى ليسوا أُناساً عاديين . إنهم السادات ( رؤوس الناس وأعمدة القوم ) الذين يُفزَع إليهم في الشدائد وعظائم الأمور . وإذا سقطَ الرأسُ سَقط الجسمُ كلُّه . وهذا هو الدمارُ الشامل الذي أصاب الأعداءَ ، والكارثةُ الكُبرى التي حَلَّت على الخصوم. وفي هذه الصورةِ إعلاء لشأن المنتصرين ، وتعظيمٌ لقدرتهم على القتل والبطش، والوصولِ إلى رؤوس القوم الذين يُفترَض أنهم محميُّون ومحاطون بحراسة مكثَّفة .
والمصائبُ لا تأتي فُرادَى . والمصيبةُ الثانية هي اضطلاع النساء بدور حماية السادة من السحق بعد القتل . وهذا يعكس انقلاباً في الموازين والعادات . فالمنطقُ يقول إن الرجال يُدافعون عن النساء، أمَّا أن تدافع النساءُ عن الرجال ، فهذا يُشير إلى حجمِ الهزيمة الساحقة ، وموتِ رجال القبيلة ، وانكسارِ قيمِ الشرفِ والْحَمِيَّةِ وصَوْنِ العِرْض ، وهذا منتهى الإهانة والعار ، اللذين نتجا عن الهزيمة النكراء .

11_ رفض الغنائم :

يُقدِّم الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد صورةً جديدة في عالَم الحروب . وها هِيَ قيمةُ الفخر تأخذ بعداً جديداً يتمثَّل في رفض الغنائم ، فقد تمَّ اعتبارها أمراً دونياً يتعارض مع فروسية الشاعر وعلوِّ همَّته . إنه يُقدِّم نَفْسه كفارس مغوار يَقتحم المعارك والحروب ليس من أجل الغنيمة، بل من أجل إثبات رجولته، وشجاعته ، ونشرِ صِيته في المجتمع . وكأنه يقول : لستُ مُحارِباً من المرتزقة يَسعى إلى نيل مكاسب مادية ، بل أنا فارس مِقدام ، أقتحم الحروبَ لإثبات وجودي ومنزلتي الاجتماعية . فالحروبُ جزءٌ من حياتي ، وإحدى أبعاد شخصيتي ، وليستْ منفعةً مادية دونية .
يقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

يُخْبِركِ مَن شَهدَ الوَقيعةَ أنـني أغْشَى الوَغَى وأعفُّ عِندَ المغْنَمِ

يخاطبُ الشاعرُ المرأةَ التي يَحرص على إثبات رجولته وفروسيته أمامها ، ويريد نيلَ إعجابها. فلم يجد أفضل من الافتخار بأدائه في عالَم الحرب التي تعكس طبيعةَ شخصيته الفحولية الحاملة لقيم الفروسية والشجاعة .
إنه يُعطيها مفتاحَ شخصيته ، وطريقةَ معرفة صفاته . وذلك بقوله : إن سألتِ الفرسان عن حالي في الحرب يُخبرك مَن حضر الحربَ ( الوقيعة ) بأني فارس شجاع عالي الهمَّة، أقتحم الحربَ بلا خوف ، وأعف عن اغتنام الأموال .
والشاعرُ يَطلب منها أن تسأل الفرسان عن حاله ، ولكنْ بطريقة غير مباشرة . إنه يُرشدها إلى الطريقة التي يمكن بواسطتها أن تكتشف صفاته ، وتَعرف أفعالَه .
وهذه الطريقةُ هي طرح الأسئلة على الفرسان الذين يخوضون الحربَ ، ويشاهدون شجاعةَ عنترة بأُم أعينهم، فهُم شهود عيان . وليس مَن يَرى كمن يَسمع . وهذه الأسئلةُ ينبغي أن تتمحور حول دور عنترة في الحرب ، وإسهاماته . ولا شكَّ أن الحرب تَكشف عن معادن الرجال . ففي مَعمعةِ القتلِ والقتالِ ، يَظهر الفُرسان الحقيقيون ( أصحاب الأفعال ) ، ويَسقط الفُرسان المزيَّفون ( بائعو الكلامِ والشعاراتِ الرنانة ) .
ولم يُرِد الشاعرُ _ في هذا السياق _ أن يَمدح نَفْسَه . وإنما أرادَ أن يأتيَ مدحُه من الآخرين ، فهذا أشد تأثيراً ، وأكثر مصداقيةً .
وكأنه يقول: لا أُريد أن أمدحَ نَفْسي لئلا تعتقدي أني أُبالِغ، أو أتصنَّع البطولاتِ ، أو أخترع الأمجادَ الوهمية . ولكنَّ الفرسان الذين يُشاهدونني في الحرب هُم الذين سيمدحونني بما فِيَّ ، ويُخبرونك _ إن قمتِ بسؤالهم عن حالي _ بأني أغشى الوغى ( آتي الحربَ )، وأترفع عن مَدِّ يدي للغنائم لأني كريم ذو همَّة عالية ، أَصون نَفْسي عن هذه المكاسب المادية الوضيعة .

12_ السَّبايا والأسرى :

يَرتبط موضوعُ السبايا والأسرى بالحرب ارتباطاً وثيقاً . وهذا الموضوعُ الحساس يَحمل رموزاً تدل على القهر والانتصار ، كما تدل على الهزيمة والضياع .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

فآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايا وأُبْنا بالملوكِ مُصَفَّدِينا
هذا البيتُ الثوريُّ يختزل معاني الحماسة والفخر والأنفة . وفي ذات الوقت يَحمل معنى التهكم والسخرية بالأعداء. فالأعداءُ ( بنو بكر ) قد رَجعوا بالغنائم ( آبوا بالنهاب ) وبالسبايا . أمَّا قومُ الشاعرِ فكانوا أصحاب همَّة عالية ، لم يَرضوا بالغنائم والسبايا، لأن طموحَهم أعلى من ذلك بكثير ، فَرجعوا بالملوك مقيَّدين ( مُصفَّدين ) .
والشاعرُ لا يتحدث عن حرب بين قَوْمه وبين بني بكر . وإنما يتحدث عن أُسلوبَيْن مختلفَيْن في الحروب . فحروبُ بني بكر مع أعدائهم تنتهي بأخذهم الغنائم والسبايا، أمَّا قومُ الشاعر فعندما يَخوضون حروبَهم فإنهم يَعودون بالملوك مأسورين.
وهنا تبرز مقارنة غاية في الأهمية ، تهدف إلى رفع مكانة قوم الشاعر ، وتحطيم صورة الخصوم. فالأعداءُ ( بنو بكر ) كانوا أصحابَ همم متواضعة ، وطموح متدني يدل على مكانتهم الوضيعة ، إذ إنهم يَحرصون على المنافع المادية ( الغنائم ) ، وسبي النساء. أمَّا قومُ الشاعر فلم يَرضوا بأقل من الملوك ( رؤوس الناس وقادتهم )، وهذا يشير إلى عُلو هِممهم ، ومكانتهم السامية ، ومجدهم الرفيع .
لقد اغتنم الأعداءُ الأموالَ ورضوا بذلك، أمَّا قومُ الشاعر فأسَروا الملوكَ . ولا رَيْبَ أن الأموال يمكن تعويضها ، أمَّا الملوك فلا يمكن تعويضهم أبداً . وإذا سقطَ الملوكُ ( أصحاب أعلى سُلطة ) فقد سقطَ كلُّ شيء . وإذا زالَ الرأسُ وقعَ الجسمُ إلى الأبد ، فلا يمكن النهوضُ من جديد ، ولا توجد أيةُ فرصة للتعويض .
ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

لَيَسْتَلِبُنَّ أفراساً وَبِيضـاً وأسْرَى في الحديدِ مُقَرَّنينا

إن هذا البيت الشعري يمثِّلُ منظومةً من الفخر وإعلاء شأن القبيلة ، ويجسِّدُ نظاماً حماسياً معتمداً على الشموخ والاستعلاء والحَمِيَّة الجاهلية ، ويشيرُ إلى المكانة الرفيعة لقبيلة الشاعر المنتصرة ، والمنزلةِ الدونية للأعداء المهزومين .
يقولُ:ليستلب خيلُنا أفراسَ الأعداء وبِيضهم وأسرى منهم قد قُرنوا في الحديد.
والاستلابُ يدل على سرعة الأخذ والخطف. فهذه الخيلُ التي يَمدحها الشاعر _ لأنها خيلُ قَوْمه _ ستخطف أفراسَ الأعداء وبِيضهم بسرعة شديدة . مما يدل على قوتها الشديدة ، كما يدل على شراسة الحرب ، وكثرة القتل ، وارتفاع وتيرة القتال . فهذا النمطُ السريع في الحرب المتكون من الفعل ورد الفعل، يشيرُ إلى صعوبة الموقف ، وشدةِ القتال . وبالتالي ، ليس غريباً أن يَكثر القتلى والأسرى ، وتكثر الخسائرُ ، وتزداد أعدادُ الضحايا . ويَكشف البيتُ الشِّعري عن صورة الأسرى الذين قُرنوا في الحديد. إنهم مُقيَّدون بأغلال حديدية قاسية، تشل حركتَهم، وتجعل منهم كائناتٍ عاجزة لا حَوْل لها ولا قوة . وهذه هي الضريبةُ القاسية التي يجب دفعُها في الحرب .
ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

ثُمَّ مِلْنا على تميمٍ فأحْرَمْنا وَفِينا بَناتُ قَوْمٍ إمَــاءُ

إن موضوعَ السبايا ( الإماء ) ذو أهمية بالغة في الفكر الحربي ، لأنه تجسيد للغَلَبة والقهر والانتصار . كما يدل على إهانة الأعداء ، ووصمهم بالعار الأبدي . فالمرأةُ هي شرفُ العائلة، وطهارةُ القبيلة، وإذا سُبِيت فإنه أمجاد القبيلة ستتهاوى ، وتَسقط سُمعتها في الوحل . وعندئذ تُحشَر القبيلةُ في زاوية الخزي والعار والهزيمة .
يتناول الشاعرُ موضوعَ الإغارة على الأعداء ( بني تميم ). إنه يَفتخر بمهاجمتهم وغَزْوهم. لقد أخذوا رُوحَ المبادَرة فهاجَموا الأعداءَ، وهُم بذلك قد صَنعوا الفعلَ ، ولم يَصنعوا ردةَ الفعل. ثم أحرَموا ( دخلوا في الشهر الحرام ) . ومعروفٌ أن الشهر الحرام له مكانة سامية في الجاهلية والإسلام على حَدٍّ سَواء ، فَيَحْرم فيه القتال . وعربُ الجاهلية كانوا ملتزمين بِحُرمة الأشهر الْحُرُم ، لأنها عقيدة دينية ، وجزء من تراثهم الاجتماعي التاريخي . ودخولُ الشهر الحرام كان حَدَّاً فاصلاً بين مرحلَتَيْن ( غزو الأعداء / إيقاف عملية الغزو ) .
إذن ، لقد أوقفَ الشهرُ الحرامُ عمليةَ الإغارة . وكان عند قوم الشاعر سبايا القبائل قد استخدموهنَّ . وبناتُ الذين أغاروا عليهم صِرْنَ إِماء ( سبايا ) .

13_ خيل الحرب :

لا يمكن تجاهلُ أهمية الخيل في الحرب . فالخيلُ هي الركيزةُ الأساسية في عملية القتال ، والقوةُ الدافعة التي تَبعث الحيويةَ في نفوس المقاتِلين . وبدونها ، سَتنهار شجاعةُ المقاتِلِين، ويصبحون أشخاصاً عاجزين، لا قوة تسندهم، وسيجدون أنفسهم مشلولين في الحرب ، يَغرقون في مستنقع الهزيمة العميق .
يقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

والخيْلُ تقتحمُ الخَبارَ عَوَابساً من بينِ شَيظَمَةٍ وآخَرَ شَيْظَمِ

يصفُ الشاعرُ الخيلَ في هذه الحرب المشتعلة. إنها تقتحمُ الخبارَ( الأرض اللينة)، وتجري بصورة جنونية . وهذا يُنبِئ عن شراسة الحرب ، وأن القتال على أَشُدِّه . وهذه الخيلُ التي تَعدو في الأرض اللينة لا بد أن تَغوص قوائمها في الأرض بصورة شديدة، وبالغة الصعوبة . فالأرضُ اللينة عاجزة عن حمل قوائم الخيل الجارية بسرعة هائلة . وعندما تغوص قوائمُ الخيل في الأرض ، فلا بد أن تَشعر بالتعب وعدم الراحة ، وهذه المشاعرُ القاسية ستنعكس على وجوهها ، فتصبح عابسةً لِمَا نالها من الإرهاق الشديد. فالتعبُ الذي يُصيب الأعضاء لا بد أن تنعكس آثارُه على الوجه.
ويَحرص الشاعرُ على إضافة وصف جديد للخيل لتكتمل صورتها المعبِّرة ، وترسخ خصائصها في النفوس . وهذا الوصفُ هو ( الشيظم ) ، ويعني الطويل من الخيل . وهي لا تَخلو من فرس طويل أو طويلة ، أي كلها طويلة .

الفصل السادس
السلاح

تمهيد

إن المجتمع الجاهلي البسيط كان يَستخدم أنواعاً بدائية من الأسلحة ، سواءٌ للدفاع أو الهجوم . وعلى رأس قائمة الأسلحة كان يتموضع السيفُ باعتباره رمزاً للشرف والقوة والفروسية . ولا ينبغي نسيان الرُّمح ، وما يُمثِّله من بطش ومجد . والسيفُ والرمح هما السلاحان الأساسيان في المجتمع العربي البدائي .
وفي شِعر المعلَّقات ، بَزرت قِيَمٌ عديدة مرتبطة بالسلاح ، والجوِّ المشحونِ بأدواتِ القتل والقتال ، والعواطفِ الإنسانية المندمجة مع هذا المناخ القاسي .
وقد ظَهرت قيمةُ الانتقام بالسيف، وتصويره كأداة فعَّالة لإثبات وجود "الأنا " ونفي وجود " الآخَر " . وهذا أمرٌ طبيعي في المجتمعات القَبَلِيَّة الخاضعة لقيم التنافس والصراع والاحتكام إلى منطق القوة لا قوة المنطق .
وفي خِضَمِّ هذا الصراع المحتدِم ، تتَّضح فلسفة الافتخار بالسيف ، ووصفه بأقوى التعابير ، كَوَصْفِه بأنه حادٌّ قاطع ، وأنه مصدر القوة ، ومَنْبع الفروسية . كما يتَّضح دَوْرُ السيف خارج منظومة " القتل/ القتال " ، حيث إنه يُسْتَخْدَم لِنَحْرِ الجَمل الذي يُمثِّل قيمةً كبرى في المجتمع الصحراوي الأوَّلي .
ويأتي دَوْرُ الرُّمح الذي يَحْمل دلالةً مركزية في التراث العربي ، فتبرز أهميته القُصوى. وأيضاً ، تتكرس عمليةُ وصف الرِّماح، وإحاطتها بهالة البطش والتحدي .
ولا يمكن إغفال عملية " الطَّعْن" والظروف المحيطة بها. فيتم بيان متى يُسْتَخْدَم الطعن ، وتوضيح الترابط المصيري بينه وبين الدم النازف . كما تتجلى المنظومة التكاملية بين الرُّمح والسيف، وأنهما شقيقان في عالَم الصراع والقتل ، ولا يمكن الاستغناء عنهما. وعلى الرغم من الصُّوَر الشِّعرية المرتبطة بفلسفة السلاح ، إلا أنه ينبغي تذكُّر أن هذه الصُّوَر الفنية ذات المستوى الشِّعري العالي مرتبطة بالقتلِ ، والدماءِ ، والجثثِ ، ونهايةِ الإنسان ، وانكسارِ الحضارة ، وتجذُّرِ شريعة الغاب .
1_ السَّيْفُ القاطع :

السَّيْفُ هو مَلِكُ الأسلحة في الجاهلية . ومن الطبيعي أن يكون الوسيلة الفعَّالة للقتل والقتال والثأر والانتقام . فهو أداةٌ قاتلة لا تَلْعب ، ولا تُساوِم .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

حُسامٍ إذا ما قُمتُ مُنتَصِراً بِـهِ كَفى العَوْدَ مِنْهُ البَدْءُ لَيْسَ بِمِعْضَدِ

يَفتخر الشاعرُ بِسَيْفِه ، ويَصُبُّ عليه المديحَ صَبَّاً . فهو سَيفٌ قاطعٌ بتَّار ، أَمْرُه كُلُّه جِد ، ولا مكان فيه للهَزْل . وقد سُمِّيَ السيف بالحُسام لأنه يَحْسم العدوَّ ، أي : يَقطعه ، ويَقطع عليه الطريق إلى مبتغاه .
سَيْفٌ قاطعٌ إذا ما قام الشاعرُ مُنْتَقِماً( مُنْتَصِراً) به، فإن الضَّرْبةَ الأُولى ( البَدْء ) تكون كافيةً، ولا حاجة إلى ضربة ثانية( العَوْد ). وهذا يدل على قُوَّة هذا السيف ، وقُدرته الفائقة على القَطْع. فالضربةُ الأُولى هي الضربة الأخيرة، ولا داعي لمحاولات جديدة . فهذا السيفُ الحادُّ لَيْسَ بِمِعْضَد ( السيف الذي يُقطَع به الشجر ) .
هذا السيفُ البتَّار يَحْسم الأُمورَ ، ويَمنع العدوَّ من تحقيق أهدافه ، وهو سلاحٌ فعَّال ، ويَقود إلى النصر المؤزَّر ، وهذا النصرُ إنما يأتي بِفِعْل ضَرْبة واحدة فقط ، ولا داعي لتكرار الضربات، لأنه سيفٌ مُرعِبٌ حادٌّ للغاية ، وُجد لكي يُبيد الأعداءَ ، ويَقتحم عالَمَ القتل والقتال ، ولم يُوجَد لقطع الشجر . فالسيفُ الذي يُقطَع به الشجر ( المِعْضَد ) هو أَسْوَأ أنواع السيوف. أمَّا سَيْفُ الشاعر فهو أفضل السيوف.
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

أخي ثِقَةٍ لا يَنثني عَن ضَـريبةٍ إذا قِيلَ مَهْلاً قالَ حاجزُه قَدي
هذا السيفُ الحادُّ يُوثَق به بشكل كامل ، فهو لا يَخون صاحبَه إطلاقاً ، ولا يتخلى عنه في الظروف الصعبة ، كما أن قُدرته على القطع والبَّتْر هائلة ، ولا يمكن التشكيكُ بها . إنهُ سيفٌ مأمون الجانب، يُوثَق بِحِدَّته ومضائه كالأخ الذي يُوثَق بإخائه الذي لا يتسلل إليه الشَّكُّ أو الرِّيبة . وهذا السيفُ المذهِلُ لا ينثني عن ضَريبةٍ . والضَّريبةُ ما يُضرَب بالسيف . يعني أنه لا يَنبو ، ولا يَنحرف عن مساره ، ولا يُخطِئُ هدفَه ، ولا يَغْدر بصاحبه في مواطن الشِدَّة . فهذا السيفُ البتَّار لا يَنصرف عن ضريبة _ مهما كانت الظروف _ .
وإذا قِيل لصاحبِ السَّيْفِ: مَهْلاً ( كُفَّ عن ضَرْب عدوك)، قال حاجزه( صاحب السيف ) : قَدي ( حَسْبي ) .
هناك ثقةٌ متبادلة بين السيف ومالِكِه ، وكلاهما لا يَخون صاحبَه . فصاحبُ السيف ( الشاعر ) فارس شجاع يُتقِن فنونَ الحرب ، ويُجيد استخدامَ السيف ضد الأعداء، كما أن السيف ذو قُدرات عالية. وإذا طُلِبَ من الشاعر الفارس أن يَرحمَ عَدُوَّه ، ويَكفَّ عن ضَرْبه ، قال الشاعرُ الفارسُ مانعُ السيف ( حاجزه ) : حَسْبي ، فإني قد أَشفيتُ غليلي ، وبلغتُ ما أردتُ من قتلِ عَدُوِّي ، وحققتُ مبتغايَ بسحق خَصْمي ، ووصلتُ إلى ذِروة المجد والقوة والانتصار .

2_ السيف مَصْدر القوة :

إذا كان السيفُ ماضياً ، فلا بد أن يَشْعر الفارسُ بالثقة بالنَّفْس ، وأنه يقف على أرض صلبة ، ويَستند إلى قوة تَحْميه وتحرسه . فالسيف هو مَنْبع القوة والثقة .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

إذا ابتدرَ القَوْمُ السلاحَ وَجَدْتَني مَنيعاً إذا بَلَّتْ بقائِمهِ يَــدي
الجميعُ في سِباق مع الزمن . يُسارِعون إلى أسلحتهم ، لأنهم يَرَوْنَ فيها الخلاصَ والقوةَ والشرفَ . والمجتمعُ القَبَلِيُّ يَحْصر هذه القِيَمَ في منطق القوة لا قوة المنطق. وهذا المجتمعُ الصحراويُّ عبارة عن بيئة قاسية للغاية ، ومليئة بالأعداء والصراعات، وتعتمد _بشكل أساسي_ على الغزو والغزو المضاد. وبالتالي ، فليسَ غريباً أن يحتل السلاحُ مكانةً سامية ، ويتمتع بأهمية قُصوى .
فإذا ابتدرَ القومُ السلاحَ ( استبقوه ) ، وأسرعَ كلُّ واحدٍ إلى سِلاحه بأقصى سُرعة كما يَسعى العطشان إلى الماء ، فإن الشاعرَ سَيَكون في أحسن حالاته ، منيعاً لا يُقهَر ولا يُهزَم إذا ظَفرتْ ( بَلَّتْ ) يَدُه بقائم هذا السيف .
لقد استطاعَ السيفُ أن يَمْنح الثقةَ للشاعر ، ويَجعله في أقصى درجات القوة . فلم يَرتبك الشاعرُ حينَ بادرَ الجميعُ إلى أسلحتهم ، وهجموا عليها ، بل حافظَ على رَباطة جأشه ، لأنهُ واثق تماماً مِن مَوْقفه ، ويتحدث بكل ثقة فيقول إنكَ ستجدني منيعاً لا يَقْدر أحدٌ على تحطيمي إذا ظَفرتْ يَدي بقائم هذا السيف الحاد المرعِب . وهنا يَبرز تفوُّق الشاعر ، وعدم قُدرة أي شخص على هزيمته .

3_ استخدام السيف لنحر البعير :

ابتعدَ الشاعرُ عن استخدام السيف لقتل الإنسان ، وجاء الدَّوْرُ لنحر الحيوان . فهذا السيفُ القاطعُ له مهامٌ متعددة ، وقادرٌ على أداء جميع الأدوار بكل إتقان . والهدفُ من ذِكْر وظائف السيف المختلفة، هو التشديد على أهميته في كل المجالات، ومركزيته في الحياة العربية البدائية ، فلا يمكن الاستغناء عنه بأية حال من الأحوال .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وَبَرْكٍ هُجُودٍ قَد أثارتْ مَخافَتي بَوَاديها أمشي بِعَضْبٍ مُجَـرَّدِ
عَمَّ الفَزَعُ والقلقُ في أوساط الإبل الكثيرة الباركة ( البَرْك ) . وهذه الإبل كانت نائمة ( هُجُوداً )، لكنها انتبهتْ مِن نَوْمها بصورة غير طبيعية ، وسَيْطرَ عليها الرعبُ والقلقُ ، وراحَ الاضطرابُ يتسلل إليها بكل قَسْوة . فقد أَيْقَنَتْ بالهلاك الحتمي عندما رَأت الشاعرَ يمشي بالسيف . وهذا السيفُ القاطع ( العَضْب ) مسلولٌ مِن غِمده ( مُجَرَّد ) . مما جعلَ الإبلَ تُدرِك أن الذبحَ قادمٌ لا محالة ، وأنها هي المقصودة بالأمر ، فراحت تَهرب من هذا السيف لكي تحافظ على حياتها .
إنها إبلٌ كثيرة باركة ، قد اضطربتْ ، واسْتَحْوَذَ عليها الذُّعر ، وأثارتها مخافةُ الشاعر الحامل للسيف. والخوفُ من الشاعر قد أثارَ بَوَاديها ( أوائل الإبل ) . فهذه الإبلُ مُعتادةٌ على هذا المشْهد المرعِب ، فالشاعرُ _ بين الحِين والآخر _ يَنحر بَعيراً منها(والبعيرُ هو الجَمَل ويُطلَق على الأنثى أيضاً)، فأدركت الإبلُ هذه العمليةَ المؤلمةَ، فصارت تَهْرب من الشاعر كُلَّما رَأَتْهُ قادماً حاملاً سَيْفَه القاطع المجرَّد مِن غِمْده .

4_ وصف الرِّماح :

يُركِّز الشاعرُ على وصف الرماح ، وتقديمها في أبهى صُورة ، وأقوى عِبارة . فهذه الرِّماحُ هي شَرفُ المقاتِل، ورمزُ الفروسية، ودليلٌ على الصمود وشِدَّةِ البأس.
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

بِسُمْرٍ مِن قَنا الْخَطِّيِّ لُدْنٍ ذَوَابِلَ أوْ بِبِيضٍ يَخْتلينـا

يُصوِّر الشاعرُ مَشْهَدَ الطعن بالرِّماح مع التركيز على وصفها . إنهم يَطْعنون أعداءهم برِماح سُمْر لَيِّنة ( لَدْنة ) ورقيقة ( ذَوابل ) ، مِن قَنا الخَطِّيِّ ( وهي رِماح ذات جَوْدة عالية تمتاز بنضجها في منابتها ) .
إنهم يَسْتخدمون أفضل أنواع الرماح لطعن الأعداء، والانتصار عليهم . وهذا يدل على اهتمامهم البالغ بنوع الأسلحة، ويُشير إلى خِبرتهم الواسعة بفنونِ الحرب، وطبيعةِ القتال ، ونَوْعيةِ السلاح . وهذا ليس غريباً ، فهُم فُرسان متمرِّسون في أمور الحرب ، ويُتقِنون استعمالَ أفضل أنواع السلاح .
واستعمالُ الرِّماح يَسير جَنْباً إلى جَنْب مع استعمال السيوف ، فهُم يَضْربون الأعداءَ أيضاً بسيوفٍ بِيضٍ لامعةٍ حادَّةٍ يَقْطَعْنَ ما ضُرب بها ( يَخْتلينا ) . وهنا تتَّضح العلاقةُ المصيرية بين الرماح والسيوف في منظومة القتل والقتال .

5_ وقتُ الطعنِ والضربِ بالسيف :

التوقيتُ مهم جداً في عالَمِ الحربِ والأسلحةِ ، لأنه يُمثِّل نقطةَ قوة للمُحارِبِ ، كما أن الإحساس بالسلاح ضروري جداً، لأنه يُجسِّد البصيرةَ القاتلةَ بكل أبعادها. فالتوقيتُ والإحساسُ هما الجناحان اللذان يَطير بهما المقاتِل في سماء الانتصار .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

نُطاعنُ ما تَرَاخى الناسُ عَنَّـا ونَضْرِبُ بالسيوفِ إذا غُشينا

لِكُلِّ شَيْءٍ وقتٌ . وفي الحروب ، تَبْرز أهمية اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح ، فالأمورُ لا تَحتمل التأخيرَ ، فالمقاتِلون في سِباق مع الزمن ، وكلُّ تأخيرٍ يُمثِّل مزيداً من الدماء والجثث . فالحربُ لَيْست لُعبةً أو نُزهةً . إنها نهاية الإنسان ونهاية الحضارة . واتخاذُ القرار الصحيح في الوقت الخطأ هو خطأ ، وهذا يَعكس أهميةَ الوقت، وعلاقته الوثيقة مع طبيعة القرار الذي سَيُحَدِّدُ حياةَ الإنسانِ أو مَوْتَه.
يقولُ الشاعرُ : نُطاعِنُ الأعداءَ ما تباعدوا عَنَّا ( تراخوا عَنَّا ) .
ففي وقت تباعدهم ، يقومون بطعنهم . وهذا هو الوقتُ المناسب _ مِن وجهة نظر المحارِبِين في أرض المعركة _ لاستعمال الطعن . أمَّا الوقتُ المناسب للضرب بالسيوف _ من وجهة نظر المحارِبِين _ فهو إذا أتى الأعداءُ ، واقتربوا مِنهم . والغشيان هو الإتيان . وبشكل عام ، إنهم يَطْعنون مَن لا تناله سيوفهم .

6_ ثنائية الطعن والدم :

لا يمكن اعتبار عملية الطعن لُعبةً أو مزحةً . إنها عمليةٌ قاتلة تَهدف إلى إزالة الإنسان من الوجود ، واستئصالِ كيانه الآدمي بكل ما يَحْمله من أحلام وذكريات وأُمنيات . لذا ، فمن الطبيعي أن يرتبط مَشْهدُ الطعن بالدم المتطاير الذي يدل على وصول المأساة الإنسانية إلى الدرجة القُصوى ، ووصولِ الذاكرة الإنسانية إلى نقطة اللاعَوْدة .
يقولُ الشاعرُ عَنْترة بن شَدَّاد :

سَبَقتْ يَدايَ لهُ بعاجِلِ طَعْنةٍ وَرَشاشِ نافذةٍ كَلَوْنِ العَنْدَمِ

هذا المشْهدُ المخيفُ الذي خَلَّده الشاعرُ يَحْمل فلسفةَ الطعن بكل قَسْوتها وتوحُّشها . لقد طَعَنَ الشاعرُ عَدُوَّه بسرعةٍ كبيرة ، وقد سَبَقت يداه إلى طَعْنه ، وكأنهما في سِباق مع الوقت ، فالأمرُ لا يَحتمل التأخير . وهذا يُشير إلى اشتعال الحرب ، واحتدامِ القتال .
وهذه الطَّعْنةُ التي اخترقت أحشاءَ العَدو، فَجَّرت براكينَ الدَّم، فتناثرَ في كل الاتجاهات. لقد طَعَنَ الشاعرُ عَدُوَّه في عَجَلةٍ ترشُّ دَماً مِن طَعْنةٍ نافذةٍ اخترقتْ الجِسْمَ، ومَزَّقت الأوصالَ ، وقَطَّعت الشرايين ، وأَحالت الجسدَ إلى كَوْمة أنقاض . إنها طَعْنةٌ نافذة كَلَوْن دَم الأخوَيْن ( العَنْدم ) ، نَفَذت إلى تفاصيل الجِسم الإنساني ، وقَضَتْ على العدو بأقصى سُرعة .
ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

فَرَدَدْناهم بِطَعْنٍ كما يَخْرجُ مِن خُرْبَةِ المَزَادِ المــــاءُ

كان الطَّعْنُ هُوَ أسلوبَ القتلِ الفعَّالَ في هذه المرحلة . لقد كَسَروا شَوْكةَ الأعداء بانتهاج أُسلوب الطَّعْن ، وَرَدُّوهم خائبين بِطَعْنٍ مَزَّق أجسادَهم ، فصاروا يَنْزفون بِشِدَّة، والدمُ يَخْرج من جِراحهم، كما يَخْرج الماءُ مِن أفواه القِرَب وثقوبها.
إنها صورةٌ مؤلمة للغاية . لقد زَرَعَ الطعنُ في الأجساد ثقوباً لا حَصْرَ لها ، فصار الدمُ يتدفق من هذه الثقوب بلا رحمة . فصارَ الجِسمُ الإنساني كَقِربة الماء المثقوبة ، وهذا يُنبِئ عن المأزق الوجودي للإنسان ، والمنْزلةِ الوضيعة التي وصل إليها بسبب الحرب التي لا تُفرِّق بين الإنسان والجماد ، والتي سَحَقت الإنسانَ وحَوَّلَتْه إلى شيء هامشي لا وَزْنَ له . وخُربة المزاد هي ثُقب قِربة الماء .

7_ التكامل بين الرُّمح والسَّيف :

يَرتبط الرُّمحُ والسَّيفُ بعلاقة وثيقة ، فهُما الرُّكنان الأساسيان المتكاملان في منظومة القتل والقتال. وكلُّ أداةٍ تَقوم بِمهمة خاصة بها، لا تَقوم بها الأداة الأُخرى. وهذا جَعلهما بحاجة إلى بعضهما البعض ، كما أن المحارِبَ بحاجة إليهما معاً .
يقولُ الشاعرُ عَنْترة بن شَدَّاد :
فَطَعَنْتُه بالرُّمحِ ثُمَّ عَلوْتُــه بِمُهَنَّدٍ صَافي الحديدةِ مِخْذَمِ

قامَ الشاعرُ بِطَعْن العدو بالرُّمح بصورة سريعة مُباغِتة ، فلم يتمكن العدو من تلافي الطعنة أو الرد عليها. طَعَنه بالرُّمحِ حين ألقاه عن ظَهْر فَرَسه ، وانقضَّ عليه ، وعَلاه ( صار فَوْقَه ) ، وهو _ بالطبع _ قد فَقَدَ قُوَّته بسبب تأثير الطعنة ، وصارَ بين الحياة والموت . ومع هذا ، لم يَكْتَفِ الشاعرُ بهذا الأمر ، ولم يَقْنع بالإنجاز الذي حَقَّقه ، فَعَلا عَدُوَّه مع سيف ( مُهنَّد ) صافي الحديد سريع القَطْع ( مِخْذم ) ، لأنه يُريد أن يَقضيَ على عَدُوِّه بشكل تام ، بحيث لا تَقوم له قائمة . والقتلُ _ وَحْدَه _ هو الذي يَشفي غليلَ الشاعر ، ويَجعله قانعاً بما فَعل . فموتُ العَدو هو حياة الشاعر ، وإذا لم يَمُت العدو ، فلا يمكن للشاعر أن يَشعر بالانتصار أو الرِّضا . إنهُ قتالٌ حتى الموت ( الحَل المُرْضِي ) ، ولا يمكن القبول بأنصاف الحلول . والشاعرُ في هذا المقام لا يَعترف بالجرحى ، إنما يَعترف بالقَتْلى ، لأنه يَقيسُ قُوَّته وفروسيته بعدد الجثث الملقاة في أرض المعركة ، وليس بعدد الجرحى أو الأسرى .

الفصل السابع
المرأة


تمهيد

المرأةُ هي نِصفُ المجتمع . وهذه حقيقة واقعية دون زيادة أو نقصان ، وليست شعاراً للدفاع عن حقوق المرأة، أو مدحها، أو تطييب خاطرها . فالمجتمعُ هو الرَّجل والمرأة. وبما أن المجتمع الإنساني على كوكب الأرض هو مجتمع ذُكوري يصنعه الرَّجلُ، فمن الطبيعي أن يَبحث الرَّجلُ عن نِصفه الآخر ، ويتعلق بالضفة المقابِلة لعالَمه .
والمرأةُ في شِعر المعلَّقات ذات حضور مركزي وأساسي . مما يدل على أنها متمركزة في ذِهن الشاعر ، وذاكرةِ المجتمع . فلا يمكن أن تَظهر المرأةُ على لسان الشاعر ، إلا إذا كانت موجودةً في قَلبه . وهذه حقيقة عامة تشمل المرأة وغيرها .
والحديثُ عن المرأة واسعٌ ومتشعب . وكلُّ شاعرٍ يَرسم صورةً شِعرية للمرأة كما يتصورها في ذِهنه، ويَحكم عليها استناداً إلى معرفته الشخصية وخِبرته العملية. ولا يَخفَى أن الحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره .
وهكذا ، فليس من الغريب أن تتعدد العوالم الشعرية التي تمس وجودَ المرأة . فالمرأةُ _ بالأساس _ هي كائنٌ متعدد له أبعاد كثيرة وعميقة. لذلك ، رأينا اختلافاً واضحاً بين الشعراء في موضوع المرأة . وكلُّ شاعرٍ يُدلي بِدَلْوه في هذا السياق اعتماداً على مرجعيته الفكرية والاجتماعية والأخلاقية .
ومن الطبيعي أن نجد شاعراً حريصاً على ذِكر الجانب الشهواني في المرأة من أجل الاستمتاع واللذةِ . ومن الطبيعي كذلك أن نجدَ شاعراً يَذكر البُعد الروحي للمرأة ، وما يتعلق به من ذكريات وأحزان . وبالتالي ، سنجد أن الشِّعر يَكشف لنا الأبعادَ الغريزية والأبعادَ الشعورية في عالَم المرأة ، من وُجهة نظر الشعراء الذين أعطوا أنفسهم الحقَّ في تشريح المرأة ، واكتشاف عوالمها الواضحة والغامضة ، والغوصِ في عقلها وجسدها ، والوقوفِ على تفاصيل شهوتها وأحاسيسها .

1_ عشيقات سابقات :

إن الإنسانَ يعودُ إلى ذكريات الحب الماضي باحثاً فيها عن بارقة أمل أو طوقِ نجاة. إنها العودةُ إلى ينابيع العشق الأُولى ، والرجوعُ إلى النواة التاريخية الأصلية . وهذه العودةُ إلى الأصل إنما هي بسبب المعاناة في الحياة اليومية . فالإنسانُ حينما يعاني من حاضره ، لا بد أن يَهرب إلى الماضي ، لعله يجد فيه الخلاصَ ، والدفءَ العاطفي ، وراحةَ الأعصاب .
وفي حالة الشاعر امرئ القَيْس ، حدث العكسُ تماماً . فهو يَعود إلى الماضي محترقاً نادباً حظَّه . وذكرياتُه المتمركزة في عالَم عشيقاته السابقات تزيده لوعةً وحزناً وألماً . ولم يجد في قصص حُبِّه الماضية سوى حطب جديد لنيران قلبه المحترق .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

كَدأْبكَ مِن أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلها وجارَتِها أُم الرَّبابِ بمَأْسَــلِ

يخاطبُ نَفْسَه بكل حسرةٍ وألم ، مقتنعاً أن غرامياته سلسلةٌ متَّصلة من الخسائر والخَيْبات والهزائم . يقول لنَفْسه : عَادَتُكَ في حُب هذه كعادتكَ من تلك . وبعبارة أخرى ، قِلَّةُ حظِّكَ من وِصال هذه ومعاناةُ عِشقها ، كقلة حظِّكَ من وِصالهما ومعاناتكَ عِشقهما. " قَبْلها " أي قَبْل هذه التي شُغفت بها الآن ."مأسَل" اسم جبل.
إن هزيمة الشاعر في معركة العشق الحاضرة قد ذَكَّرَتْه بهزائمه الغرامية الماضية . وبالتالي ، فإن الفشلَ في العِشق ليس جديداً على الشاعر . وهذه المرأةُ _ التي يُعاني الوجدَ بها ويتعذب بسببها _ قد أعادت له ذكرياتِ العِشقِ المرَّةَ التي مَضَت . وهذه العشيقةُ الحاليةُ قد ذَكَّرَتْه بأُم الحُوَيْرث وأُم الرَّباب ، وهما عشيقتان سابقتان ، عانا الشاعرُ معهما أشد المعاناة . إذن ، فالشاعرُ يَملك تاريخاً من الهزائم الغرامية ، الحالية والماضية ، لذلك نجده غير متفاجئ بخَيْبته وقِلَّةِ حظِّه مع المعشوقة . فهذه المشاعرُ سبقَ وأن جَرَّبها في الماضي . إنها مغامرةٌ غرامية خاسرة تُضاف إلى خسائره الغرامية القديمة . وهكذا ، قد تحوَّلت قصصُ العِشق إلى عذابات متَّصلة مخزَّنة في ذاكرة الشاعر المخدوشة، وأرشيفِ التاريخ المكسور، وسِجِل الأيام الحزينة . ويبدو أن الشاعرَ قد اعتاد على إخفاقاته مع العشيقات ، فلم يعد يَشعر بالصدمة ، ولم يَسقط ضحيةً لعنصر المفاجأة القاتل .

2_ عِطر النساء ( المِسك ) :

يَرتبطُ العِطرُ بالمرأة ارتباطاً وثيقاً . فالرائحةُ الطيبةُ إحدى أسلحة المرأة الفتَّاكة، حيث إنها _ أي الرائحة الطيبة _ تَجذب الرجالَ ، وتصطاد قلوبَهم . والمرأةُ زِينةٌ في ذاتها، لا تمل من التجمُّل والتعطر ، ولا تسأم من الوقوف أمام المرآة لمدة طويلة . وكلُّ هذا من أجل جذب أنظار المعجَبين إليها ، وإيقاعهم في مِصيدتها ، والسيطرةِ على حواسِّهم بشكل كامل .
والتعطرُ جزءٌ من منظومة الإغراء عند المرأة، والإغراءُ هو سلاح المرأة الفعَّال ، وبدونه سَتَشْعر المرأةُ أنها كائن مسخ بلا هوية ولا كيان ، وسَتَسْقط في براثن الاكتئاب والشعورِ بالفراغ والعَدَم واللاجَدْوى . وهذا الأمرُ غير مستغرب إذا عَلِمْنا أن الحُب هو كل شيء في حياة المرأة . وبدون الحُب لا معنى لأنوثة المرأة .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

إذا قَامَتا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُـما نَسيمَ الصَّبا جاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

ما زال عِطرُ العشيقات عالقاً بذاكرة الشاعر رغم مرور كل هذه السنوات . لقد صار العِطرُ هو البوصلة التي ترشد الشاعرَ في عَتمة انهياراته الغرامية ، وفي خضم انتكاساته العِشْقِيَّة . قد حفرَ العِطرُ موقعَه في الذاكرة ، وجلبَ معه وُجوهَ العشيقات . وكأن العِطرَ قد اختزل جميعَ صفات العشيقات ، وصَهَرَها في بَوْتقته .
إذا قامت العشيقتان ( أُمُّ الحوَيْرث وأُمُّ الرَّباب ) فاحت رِيحُ المِسك منهما. إنها الرائحةُ الطيبة المفعمة بالأنوثة والحيوية والعنفوان ، فاحت من هاتَيْن العشيقتَيْن الحريصتَيْن على التعطر، والظهورِ بأبهى منظر وأجملِ رائحة ، ونيلِ إعجاب الجنس الآخر . ورائحةُ المِسك التي انطلقت منهما وانتشرت في الأرجاء ، كنسيم الصبا إذا جاء برائحة القرنفل الطيبة . لقد شبَّه طِيبَ رائحتهما بِطِيبِ نسيمٍ هَبَّ على قرنفل وأتى برائحته . وهذه الصُّورةُ الشِّعرية العِطرية تَحمل دلالاتِ العِشق ، وتَعْبق برائحة الذكريات، والأيامِ الجميلة التي مَضَت. وفي هذا السياق ، صار العِطرُ تاريخاً مكثَّفاً لغراميات الشاعر ، ومُلخَّصاً عاطفياً للماضي الذي لن يَعود .
ويقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

إذا تَقومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرةً والزَّنبقُ الوَرْدُ مِن أَرْدانِها شَمِلُ

هذه العشيقةُ المتعطرةُ تفوحُ منها الرائحةُ الطَّيبة التي تأخذ بيد الشاعر إلى عوالم الخيال والشهوة والذكريات . فإذا قامت يَضوعُ المِسك ، أي : تفوح رائحته في كل الاتجاهات . والأَصْورةُ جَمع صِوار ، وهو وعاء المِسك أو قطعة المِسك .
إذا قامت هذه العشيقةُ تفوح منها رائحة المِسك كما تفوح من أوعيته . وكأن هذه المرأة قارورة عِطر متنقلة ، أو وعاء مِسك عابق بالرائحة الزَّكية . وهذا يشيرُ إلى اهتمام المرأة بشخصيتها ومَظهرها ورائحتها ، فهي حريصةٌ أشد الحرص على الاعتناء بكل تفاصيل كيانها .
كما أن رائحة الزنبق من أطراف أكمامها ( أردانها ) عامة شاملة ( شَمِل ) . وهذا يعني أنها غارقة في العِطر حتى شَحمة أُذنَيْها . فالرائحةُ الطَّيبةُ تَخرج مِن كُل مكان في جِسمها . فرائحةُ الزنبق الأحمر ( الورد ) تنبعث من أطراف أكمامها بصورة شاملة عامة. والجدير بالذِّكر، أن الزنبق الورد ( الضارب للحُمرة ) هو أجْود أنواع الزنبق . مما يدل على أن هذه العشيقة من الطبقة المخملية الراقية .

3_ ذكريات مع النساء :

الذكرياتُ هي وقودُ الذاكرة ، والزيتُ الذي يُشعِل سراجَ قلوب العشاق. إنهم يعيشون على نار الذكريات التي تذكِّرهم بالحُبِّ القديم ، والأيامِ الخالية ، والمشاعرِ الماضية ، والأحلامِ البعيدة . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ألا رُبَّ يَوْمٍ لكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ ولا سيِّما يَوْمٍ بدارَةِ جُلْجُـلِ

يَرجع الشاعرُ إلى مملكة الذكريات المندثرة . يتذكرُ لحظاتِ الوِصال التي سَرَقها من الزمن . وبالطبع ، فإن السعادة عبارة عن لحظات سريعة وخاطفة ، أمَّا الأحزان فتَبدو كسنوات طويلة جداً . والوقتُ الجميل _ دائماً _ يمر بسرعة هائلة .
استطاعَ الشاعرُ أن يقتنص بعضَ الوقت للاستمتاع مع النساء . وها هُوَ يتذكر تلك اللحظات الماضية، ويُخلِّدها في شِعره. لقد صارت لحظاتُ سعادته ومتعته مجرَّد ذكريات في عوالم الماضي السحيق ، وهو يحاول _ جاهداً _ انتشالَ ذكرياته ، وإحضارَها إلى الحاضر . ولا شكَّ أن الحياة بأكملها ستتحول إلى ذكريات .
يتذكرُ الشاعرُ أحدَ الأيام ، حيث فاز فيه بوِصال النساء ، وظفرَ بعيشٍ صالح ناعم منهن . وما زالَ ذلك اليوم عالقاً بذِهنه . إنه يومٌ ليس ككل الأيام ، يومٌ يمثِّل علامةً فارقة في مسيرته الغرامية ، ويَفيض بالمشاعر والذكريات والعيش الناعم .
وذلك اليوم كان أحسنَ الأيام وأكملَها . إنه يومُ دارة جُلجل ( غدير بِعَيْنه ) ، حيث يُشكِّل ذِروةَ أيامه ، وأجملَ يوم في حياته الغرامية . وقد خَصَّ ذلك اليومَ بالتفضيل والذِّكر والخلود ، لأنه حَظِيَ فيه بوِصال النساء ، ونالَ ما يُريده من المتعة والحياة الرغيدة معهن ، وحقَّق رغباتِه المكبوتة في قلبه ، وباحَ بمشاعره الدفينة ، وأظهرَ أحاسيسَه الدافئة دون مشكلات أو منغِّصات. فكان يوماً لا يُنسَى ، استحقَّ التخصيص والتفضيل والخلود .

4_ اقتحام حياة المرأة :

إن العشقَ مرتبطٌ بالتهور بشكل كامل . وذلك لأن العشق يسيطر على عقل العاشق ، فيتحكم بحواسه وجوارحه . وعندئذ يفقدُ العاشقُ القدرةَ على الرؤية والتفكير ، والتفكر في مآلات الأمور . فالعشقُ أعمى بكل معنى الكلمة . كما أن العشق يُعمي ويُصم . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ويومَ دَخلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيـزَةٍ فقالتْ لكَ الوَيلاتُ إنَّكَ مُرْجِلي

يفتخرُ الشاعرُ بمغامرته العاطفية ، ويَحرص على تخليدها ، وإظهارِ كل الأبعاد الوجدانية المرتبطة بها . وهذه المغامرة الوجدانية ( الحادثة التاريخية ) التي يتحدث عنها الشاعرُ، تَدور حَوْل يَوْمِ دُخوله هَوْدج( خِدْر ) عشيقته، وهي عُنَيزة ابنة عمِّه. وهذا اليومُ من محاسن أيام الشاعر ، ومن أجمل لحظات حياته ، ومن أسعد أوقاته . وهذا الوقتُ الذي قضاه مع العشيقة لا يمكن نسيانه ، لأنه كان صَيْداً ثميناً .
ودخولُه إلى هذا المكان الخطير، يَحمل دلالاتِ التهور، ويشير إلى عدم الاهتمام بالمصير. فالشاعرُ لم يَحْسب حساباً لأي شيء بسبب غرقه في العشق إلى شَحمة أُذنيه . وبالتالي لم يعبأ بالمخاطر التي قد تنشأ من هذا العمل المتهور ( دخول هَوْدج امرأة لا تَحِل له ) ، ولم يفكِّر في إمكانية انتشار الخبر ، وحصولِ فضيحة لا أوَّل لها ولا آخِر. وهذا الفِعلُ غير المحسوب يشير إلى أن الشاعرَ يعيش في غَيْبوبة العشق ، ويتصرف تحت تأثير مخدِّر العشق الذي سَلبه القدرةَ على التفكير، وخطفَ إحساسه بالأشياء مِن حَوْله ، فصار غائباً عن الوعي ، لا يَرى أمامه إلا عشيقته ، ولا يفكِّر بشيء سوى الوصول إليها ، والاستمتاع بها بأي شكل .
لقد دخلَ الشاعرُ هَوْدجَ عشيقته ، وصار سجيناً في هذه الزنزانة اللذيذة . وبالطبع ، فلا بد أن تَصدر ردةُ فعلٍ مِن قِبَل عشيقته . ولم تجد العشيقةُ أفضلَ من الدعاء عليه ( لكَ الوَيْلاتُ ) . وهذا متوقَّع من امرأة لا تَملك قوةً بدنية تدافع بها عن نَفْسها. اكتفت باستخدام لسانها ، وذلك بالدعاء عليه ، أو الدعاء له في معرض الدعاء عليه . وهذا أسلوبٌ عربي شهير ، والعربُ تَفعل ذلك صَرفاً للكمال عن المدعوِّ عليه ، وغير قاصدة حقيقةً للمعنى الأصلي ، فيقولون : قاتله الله ما أشجعه ، ولا أُم له، ولا أَب له، وثَكلته أُمُّه ، وما شابه ذلك . والعربُ يقولون هذه العبارات عند إنكار شيء ، أو استعظامه ، أو الإعجاب به .
ودعاءُ العشيقة له في معرض الدعاء عليه ، يدل على عِشقها الكبير له ، وأنها تبادله الغرام بالغرام . وفي الواقع ، ما كان للشاعر أن يَتجرأ على دخول هَوْدجها لولا معرفته اليقينية أنها تبادله نَفْس المشاعر . إذن ، فهو حُب متبادل ، وليس حُبَّاً من طرف واحد . والعاشقُ لا يمكنه أن يَقتحم عالَم المرأة بهذه الصورة ( دخول هَوْدجها ) لولا أنه آنسَ منها رغبةً جامحة في خوض معركة العشق ، وأدركَ أنها تشتهيه كما يَشتهيها . ولا رَيْبَ أن المرأة هي صاحبة المبادَرة في موضوع العشق ، وهي التي تَملك الخطوةَ الأُولى ، وهي صاحبة الرصاصة الأُولى في دنيا العشق .
إذن، فالدعاء عليه ( لكَ الوَيْلاتُ ) كلامٌ من وراء قلبها ، وظاهره غير مُراد . إنها خاضعة لعشيقها بكل جوارحها ، وبملء إرادتها ، ودون إكراه ، وسعيدة بالغرق معه في بحر الحُب ، لكنها تتمنَّع وهي راغبة ، لكي تَحفظ صورةَ أنوثتها ، وتزيد الأمرَ عشقاً ولَوْعةً . وهذا القناعُ المعنوي الذي ترتديه المرأة يهدف إلى صَوْن كرامتها ، وحفظِ مشاعرها . فهي لا تُريد أن تبدو متلهفةً على عشيقها ، لاهثةً وراءه . وإنما تريد أن تضع بينهما حاجزاً وهمياً لكي يَسعى إليها بكل أعضائه ، ويَلهث وراءها بكل حواسِّه. والمغزى من هذه التمثيلية ( الامتناع مع وجود الرغبة العارمة ) أن يَركض خَلْفَها، ولا تَركض خَلْفَه . وهذا دَيْدن النساء في كل العصور.
وبعد الدعاء عليه ( الدعاء له ) ، قالت إِنَّكَ مُرْجِلي ، أي : إِنَّكَ تجعلني راجلةً أمشي على رِجْليَّ بسبب عَقْركَ ظَهْر بعيري. والعَقرُ هو كَسرُ قوائم البعير. ويَبدو أن البعير كان ضعيفاً، فخافت عليه أن تَنكسر قوائمه بسبب ثِقَل الأحمال التي عليه. وإذا خَسرتْ بعيرَها ، فلا بد أن تَسير على قَدَمَيْها ، فتُصاب بالتعب والإرهاق ، وهذا ما لا تريده .

5_ الالتصاق بالعشيقة :

يبدو أن الشاعرَ غيرُ مُصدِّق أنه بقُرب العشيقة. إنه يعيش أجملَ أيامه، ويستمتع بأسعد لحظات عُمره ، وذلك بسبب قُربه من العشيقة ، والتصاقه بها . يعيشُ واقعاً سحرياً أشبه بالخَيال ، لذلك نراه حريصاً على تخليد وقته معها لحظةً بلحظة ، وكأنه في بَث حَي ومباشر. لقد قام الشاعرُ بِذِكر تفاصيل هذه المغامرة بدقة ، وأدخلَ هذه التفاصيل إلى قلبِ الشِّعر ، وسِجِل التاريخ الإنساني .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

تقولُ وقد مالَ الغَبيطُ بنا معــاً عَقَرْتَ بَعيري يا امرأ القَيْس فانزلِ

يَحرص الشاعرُ على تخليد كلام عشيقته ، وكتابته في سِجِل التاريخ الشِّعري والاجتماعي حرفاً حرفاً . فقد كانت هذه المرأة تقول له _ أثناء إمالة الغبيط ( الهودج أو الرَّحل ) _ : قد عقرتَ بعيري فانزل عن البعير .
إن الشاعرَ ملتصقٌ بشدة بعشيقته ، لا يُريد أن يفارقها . فقد اقتنص لحظةَ سعادةٍ قد لا تتكرر ، ووضعَ يَدَه على صَيْد ثمين ، ويريد أن يتمسك به بالأظافر والأسنان لئلا يَهرب منه .
وبسبب الحِمْل الثقيل على البعير ( امرؤ القيس وعشيقته والهودج ، وربما أشياء أخرى ) ، اختلَّ توازنُ البعير ، فمالَ الهودج أو الرَّحل ، وعَرَّضهما للسقوط أو كسر قوائم البعير ( العَقْر ) . فما كان من العشيقة إلا أن قَرعت جرسَ الإنذار ، وحذَّرت من كسر قوائم البعير، وطالبت امرأَ القَيْس بالنُّزول ، حفاظاً على البعير ، وصيانةً لها من الوقوع على الأرض .

6_ التقبيل :

يمثِّل التقبيلُ تتويجاً للعلاقة بين الشاعر وعشيقته . فالقُبُلاتُ تفريغٌ للكبت الجنسي والعاطفي ، وتجسيدٌ لمقدار العشق والشبق . وهذا الأداءُ الحِسِّي يَعكس قوةَ اندفاعِ الغريزة، وسيطرةَ الشهوة. وهذا الحبُّ ليس عفيفاً ، أو محصوراً في دائرة المشاعر الرومانسية الحالمة . وإنما هو حُب نابع من جنون الشهوة ، واندلاعِ نيران الغريزة .

يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

فقلتُ لها سِيري وأرْخي زِمامَهُ ولا تُبعديني منْ جَناكِ المُعَلَّلِ

صوَّر الشاعرُ عشيقته كشجرة مثمرة مفعمة بالحيوية والخصوبة . وما ناله منها مِن عناق وتقبيل هو الثمرة التي جناها ، وقَطَفَها ، وحصل عليها بعد جهد جهيد .
لم يَنْزل العاشقُ عن البعير . يريدُ استغلالَ هذه الفرصة حتى القَطرة الأخيرة ، فقد لا تتكرر مرة ثانية . وهذا الالتصاق بالعشيقة قد يَعقبه فِراقٌ قاتل ، أو ابتعادٌ جارح . إذن ، فالشاعرُ حريص على التشبث بهذه الفرصة بكل جوارحه ، والقبض على هذه اللحظة الزمنية بكل حواسِّه . وقد قرَّر أن يَضرب ضَربته ، ويأخذ مبتغاه من عشيقته عاجلاً غير آجِل ، فهذه الفرصة الثمينة ربما لا تَعود .
قال لعشيقته بعد أمرها إيَّاه بالنُّزول : سِيري وأرخي زِمامَ البعير .
لقد أهملَ أمرَها بالنُّزول ، وأمرَها بأن تَسير، وتُرخي لِجامَ البعير ، لكي تتفرغ له ، وتبادله العِشقَ والشبقَ والقُبلاتِ. أمرَها بترك البعير على راحته، وعدم التفكير به ، والاكتفاء بالتفكير بعاشقها ، وكيفية الدخول معه في هذه المغامرة الحسِّية المشتملة على تفريغ الكبت الجنسي والعاطفي، وترك المشاعر الغريزية على طبيعتها دون تقييد. وكأن إرخاءَ لِجام البعير ، يَحمل دلالةً رمزية على إرخاء لِجام النَّفْس الإنسانية ، وتركها على سجيَّتها دون شرط أو قَيْد .
وأضاف الشاعرُ العاشقُ : ولا تُبعِديني مما أنالُ مِن عناقكِ وشَمِّكِ وتقبيلكِ ، وهذا معنى الجنى ( اسم لما يُجتنَى من الشجر ) . فالعناقُ والشَّم والتقبيل هي الثمرات التي قطفها الشاعرُ عن هذه الشجرة المثمرة ( عشيقته ) . وهذه الثمراتُ هي التي تُلهِي الشاعرَ أو يُكرِّر قَطْفَها( وهذان المعنيان تدل عليهما كلمة" المُعَلَّل" ). ولا يخفَى أن العِناق والشَّم والتقبيل ثمراتٌ متجددة لا تنتهي . والشاعرُ يُريد قطفَ هذه الثمرات بكل قوة ، وبأقصى سُرعة ، والاستمتاع بهذه الشجرة ( العشيقة ) التي تُظلِّل حياته ، وتمدُّه بالثمرات الناضجة اللذيذة التي لا تنتهي ولا تجفُّ . وَقَعَ الشاعرُ في نار الشهوة المتأججة ، وانحصر تفكيرُه في نيل مُراده الشهواني ، وتفريغ الشحنة العاطفية المتفجرة في داخله . وليس العِناقُ والشَّمُّ إلا وسيلةً للوصول إلى الغاية القُصوى ( التقبيل ) الذي يعني تلاصق الجسدَيْن ، واندماجهما في بَوْتقة واحدة .

7_ الافتخار بالفُحولة :

يستعرض امرؤ القَيْس رُجولته وفُحولته أمام عشيقته ، ويقدِّم دليلاً تاريخياً على قوَّته العاطفية ، ومدى تأثيره في النساء . وهو يَفتخر بسيطرته على عالَم النساء ، بسبب ما يمتلكه من قوة روحية ومادية ، وما لَدَيْه من مواهب تَجذب الجنسَ الآخر إليه . ويُقدِّم نَفْسَه كعاشق محترِف له سطوة على النساء ، ولا يَقْدرنَ على الإفلات منه بأي شكل . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ فَأَلهيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْــوِلِ

يفتخرُ الشاعرُ بِذِكر مغامراته العاطفية، ولا يَخجل من كشف أوراقه ، وإظهار تفاصيل علاقاته الحميمة مع النساء .
يقولُ : رُبَّ امرأة حُبلى قد أتيتُها لَيْلاً ، ورُبَّ امرأة ذات رضيع أتيتُها لَيْلاً .
إنه يأتي إلى النساء لَيلاً ، تحت جُنح الظلام . فالليلُ حِجابُ ساتر يُخفي أسرارَ الناس وتحركاتهم وخُططهم. وقضيةُ العِشق حساسة للغاية ، لأنها ذات أبعاد غرائزية واجتماعية ، وتحتاج إلى غطاء كثيف . ولا يوجد أفضل من الليل الذي يُغطِّي أفعالَ الناس، ويَحميها من الانكشاف والظهور للعَلَن. لذلك ، فالليل هو مملكةُ العشاق ، والمجالُ الحيوي لحركتهم وخُططهم ، والوعاءُ الحاضن لسلوكهم الغرامي والاجتماعي. لا سِيِّما وأن القصص الغرامية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالخططِ الجهنمية ، والمؤامراتِ المحبوكة بعناية ، والخياناتِ المستترة البعيدة عن الأنظار .
وفي هذا السياق الشِّعري، تبرز الخيانةُ الزوجية بكل وضوح . فالشاعرُ العاشقُ يتحدث عن امرأة حُبلى وامرأة مُرضِع . وبعبارة أخرى ، يَدورُ الحديثُ عن نساء متزوجات ، وهذا يعني خيانتهن لأزواجهن ، والوقوع في حبائل الشاعر ، أي : تفضيلُ العشيقِ على الزَّوْج ، وكسرُ رِباط الزوجية المقدَّس من أجل نزوة عابرة مع عابر سبيل، والغرقُ في مستنقع الخيانة ، ونسيانُ التزاماتِ الحياة الزوجية وطهارتها.
ويواصلُ الشاعرُ سَردَ تفاصيل مغامرته العاطفية . فهو لم يكتفِ بإتيان المرأة الحُبلى أو المرضِع لَيلاً ، بل أيضاً شَغَلَها عن ولدها الذي عَلَّقت عليه العُوذة ( التميمة)، وقد أتى عليه حَوْل كامل ( عَام كامل )، أو قد حَبِلت أُمُّه بغيره، فهي تُرضِعه على حَبلها . وهو يُريدُ أن يقول إنه زِير نساء ، يُفسِدهنَّ ، ويُلهيهنَّ عن الحَملِ والرضاعة .
وذِكرُ الحُبلى والمرضِع في هذا السياق الشِّعري ليس عفوياً، أو مِن قبيل المصادَفة . بل هو ذِكرٌ يَحمل دلالاتٍ رمزية عميقة، فالحُبلى والمرضِع هُما أبعد النساء عن الغَزَل، وأزهدهنَّ في الرجال ، وأقلهنَّ شَغفاً بهم وحِرصاً عليهم . وهذا ليس غريباً، فالحُبلى مشغولة بصحتها وحَبَلِها ، وكيفية الحفاظ عليه، وتعاني من الآلام والمشقة، ولا يعنيها العِشقُ أو الغزلُ أو الجِماعُ ، وكذلك المرضِع فهي مشغولةٌ بنفْسها ورضيعها ، وتفكِّر فيه ليلاً نهاراً ، وتهتم بقضاء حاجاته ، وتقضي وقتَها في رعايته . والمعنى الذي يَقصده الشاعرُ: خدعتُ مِثلهما مع اشتغالهما بأنفسهما ، فكيف تتخلصين مني أيتها الحبيبة ؟ .
فهاتان المرأتان ( الحُبلى والمرضِع ) مشغولتان بشؤونهما، وزاهدتان في الرِّجال . ولكنَّ امرأَ القَيْس نجحَ في دغدغة عواطفهما ، وحرقِ أعصابهما ، وإعادةِ الشهوة والشبق إليهما ، فصارتا كتلتَيْن من نار العشق . وهذا يدل على قوة امرئ القَيْس العاطفية ، وقدراته الخارقة على الحُب والغَزل وإشعال نار الشهوة في النساء . وهذا النجاحُ الباهر لا يَفعله إلا زِيرُ نساء ، خبيرٌ بداء المرأة ودوائها ، ويَعرف مِن أين تؤكل الكتف. وقَوْلُه " فمِثلِكِ " يَحمل تشبيهاً لعلاقته الغرامية مع عُنيزة ابنة عمِّه . أي : امرأة مثل عُنيزة في مَيل الشاعر إليها وعِشقه لها ، لأن عُنيزة في هذا الوقت كانت عذراء ، غير حُبلى ولا مُرضِع .

8 _ النصف الأسفل من المرأة :

العاشقُ امرؤ القَيْس غير معنيٍّ بالحُب العفيف أو الغَزل العُذري أو الرومانسية الحالمة . فهو رَجل شهواني يَحرص أشد الحرص على الاستمتاع الحسِّي بالعشيقة ، وتفريغِ الكبت الجنسي ، وإطفاءِ نار الشهوة عبر إقامة علاقة جسدية مع المرأة _ بغض النظر عن نوع هذه العلاقة أو عُمقها أو دَيْمومتها _ .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

إذا ما بَكى مِن خَلْفها انْصَرَفَتْ لهُ بشِقٍّ وتحتي شِقُّها لم يُحَــــوَّلِ

إذا ما بَكى الطفلُ مِن خَلْف المرضِع، أشفقتْ عليه ، فقامت بإرضاعه . لقد انصرفت إليه بصدرها ( نصفها الأعلى ) فَأَلْقَمَتْه ثَدْيَها ، وأرضتْه ، فطابت نَفْسُه ، وانقطع بكاؤه ، وهدأت جوارحُه ، وسَكنت حواسُّه . وعلى الرغم مِن كَوْنها أُمَّاً تُرضِع طِفْلَها ، إلا أن هذا العمل لم يُشغلها عن قصة عِشقها مع الشاعر . فالعشقُ مسيطر على تفكيرها رغم إرضاعها لطفلها، والشهوةُ الجنسية تحرق أعضاءها. لذلك، قَسَمت جسدَها إلى نصفَيْن ، النصف الأعلى مع رضيعها، والنصف الأسفل مع عشيقها. فقد انصرفت إلى رضيعها بصدرها ، بينما نصفها الأسفل تحت الشاعر لم تُحوِّله عنه . وهي مستمتعة بهذا الفِعل إلى الغاية القُصوى ، فلم تحاول إبعادَ عشيقها عن هذه المنطقة الحسَّاسة ، أو التهرب من رغبته الشهوانية العنيفة .
وهذا المشْهدُ حرصَ الشاعرُ على ذِكر تفاصيله الدقيقة ، وتخليده إلى الأبد ، من أجل رسم هالة أسطورية حَوْل شخصيته كزير نساء محترِف . فالوضعُ الطبيعي أن المرضِع مشغولة تماماً برضيعها ، ولا تفكِّر في أي شيء آخر . إلا أن الشاعرَ قد قلب كلَّ الموازين والأعراف، فاستطاع بعث نار الشهوة في جسد عشيقته المرضِع ، فسيطرَ عليها عِشقه ، واندلعت رغبتها في الاستمتاع واللذة الحسِّية الشهوانية.

9_ الهجران :

لا يُوجد عِشقٌ متَّصل بلا انقطاع ، أو حُبٌّ يَدوم إلى الأبد بلا مشكلاتٍ أو ثغرات . فلا بد من عقبات تعترض طريقَ العشَّاق ، لأن العاشق إنما هو إنسان يُصيب ويُخطِئ . ولا شكَّ أن الاحتكاكَ بين العاشقَيْن وشدةَ التلاصق بينهما ، مع اختلاف العقول والطِّباع والمواهب ، سيؤدي إلى نوع من القطيعة أو الهجران ، مع الاختلاف في درجة الهجران. هل هو هجران دائم ( قطيعة أبدية ) أم هجران مؤقَّت ( قطيعة آنية زائلة ) ؟ . وهل سَتَقود هذه القطيعةُ إلى إنهاء العلاقة الغرامية بشكل نهائي وحاسم أم أنها سَتَقْطع العلاقة ثم تعيد وَصْلها ؟ .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وَيَوْماً على ظَهر الكَثيبِ تَعَذَّرَتْ عَليَّ وَآلَتْ حَلفَةً لم تَحَـــلَّلِ


تعكَّرَ مِزاجُ العشيقة، وساءت عِشرتها يوماً على ظَهر الكثيب ( الرمل الكثير ). لقد تحوَّل وجهُ العشيقة المشرق إلى وجه عبوس مظلم ، وتبدَّلت أحوالُها، واختلَّ توازنها العاطفي ، فَقَلبت لعشيقها ظَهْرَ المِجَن ، فقد كانت تعشقه ، وتبادله الود بالود. أمَّا الآن فقد تغيَّر كلُّ شيء، وذَهب العِشقُ المتبادَل أدراجَ الرياح. أضفْ إلى هذا أنها حَلفت حَلفاً لم تستثنِ فيه أنها تُقاطع العاشقَ وتهجره .
وما إقدامُها على الحلف الخالي من الاستثناء ، إلا مؤشرٌ واضح على صعوبة القضية، وقَسوةِ الموْقف، وشدةِ الأزمة . إذن ، فالأمورُ قد تعقَّدت بصورة واضحة. وهذا الهجرانُ بمثابة القَطرة التي أفاضت الكأسَ ، أو القشَّة التي قَصمت ظَهرَ البعير. ومن الواضح أن المشكلات بين العاشقَيْن قد وَصلت إلى الذروة ، فصار الحلُّ الوحيد هو قطع العلاقة ، وابتعاد كل طَرف عن الآخر . وفي هذا الفِراق راحةٌ للطرفين من العذاب . وقد يكون المقصود بالعشيقة عُنيزة أو المرضِع التي وَصفها.

10_ تخفيف الهجران :

يجسِّد الهجرانُ حاجزاً من الآلام بين العاشقَيْن ، يمتصُّ كلَّ لحظاتِ السعادة والصفاء ، ويُحيل المودةَ إلى كراهية ، فيتكرَّس التنافرُ ، ويحل محلَّ التجاذب . والعاشقُ الولهان يَشعر أن الهجران نارٌ تتأجج في صدره ، وعذابٌ في الليل والنهار . وهذه النارُ تأكل الذكرياتِ القديمة، والأحلامَ الجميلة ، والعُمرَ الدافئَ الذي مضى.
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

أفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّــــلِ وَإن كنتِ قد أزمعْتِ صَرْمي فأجْمِلي

هناك مشكلاتٌ تَنخر في علاقة الشاعر بعشيقته، والأمورُ لا تَسيرُ على ما يُرام. لذلك يخاطبها بصوتٍ كَسير ، ونبرةٍ خافتة . وكلماتُه الذابلة تَنبع من قلبٍ جريح غارق في المعاناة . يقول لها : يا فاطمة ، دَعِي بعضَ دَلالكِ .
وهذه العِبارةُ الحانية ، حروفُها منطفئة بسبب حُرقة القلب ، ونارِ الصَّدر ، وضغطِ الهموم . إنه يَطلب منها ، أو بالأحرى يَرجوها بكل انكسار أن تَترك بعضَ دلالها . فهذا الدلالُ الأُنثوي هو سلاح المرأة القاتل ، الذي يستسلم أمامَه أقوى الرجال ، وأشدُّهم شكيمةً .
ومهما تمتَّع العاشقُ بالصلابة الذهنية، والقوةِ العقلية ، والبناءِ الجسدي المتماسك ، فهو ضعيف أمام دلال المرأة ، وضَعفها ، ونعومتها . فالمرأةُ تمتاز بالقوة الناعمة التي تَقهر قوةَ الرَّجل الخشنةَ . ولا رَيْبَ أن ضَعفَ المرأةِ هو نقطةُ قُوَّتها .
يَغرقُ الشاعرُ _ أكثر فأكثر _ في رجائه الحار ، ويَرجو عشيقته بكلمات مليئة بالانكسار ، وتعجُّ بالمشاعر الجريحة ، فيقول لها بصوتٍ ذابل : وإن كُنتِ وَطَّنتِ نَفْسكِ على فِراقي ( صَرْمي ) ، فأجملي الهجران .
إِنْ قَرَّرت العشيقةُ أن تفارقَ الشاعرَ ، فعليها أن تكون معتدلةً في الهجران بلا تفريط. هذه هي نصيحةُ عاشقها الذابل. لا يُريدها أن تَقتله مرةً واحدة بهذا الهجران ، يُريدها أن تَقتله على شكل دفعات . يَرجوها أن تَعتدل في هجرانها بلا تطرُّف ولا تفريط ، لكي يَقْدر على امتصاص الصدمة ، أمَّا القطيعةُ الصادمة ( الهجران المفاجئ مرَّة واحدة وللأبد ) ، فتمثِّل صدمةً مرعبة لا يَستطيع العاشقُ تحمُّلَها .
والشاعرُ العاشقُ خائفٌ أن تمتلكَ عشيقته القُدرةَ على سحق مشاعرها ، وقهرِ قَلبها ، وهجرانه دون أن يَرفَّ لها جَفن ، أو تَشعر بتأنيب الضمير . خائفٌ أن تصلَ الأمورُ إلى نقطة اللاعَوْدة ، وأن تدوسَ العشيقة على قلبها وذكرياتها ، وتَغرق في اللامبالاة، وعندئذٍ لا يَنفع رجاءُ العشيقة ، لأنها _ في تلك المرحلة _ ليس لَدَيْها ما تَخسره . وإذا وصلت العشيقةُ إلى هذه المرحلة فلن تَندم على شيء . وسَتُصبح الأمورُ _ بالنسبة إليها _ تحصيلَ حاصلٍ ، ووقتاً ضائعاً ، وذكرياتٍ محترقة .
و" فاطمة " : اسم المرضِع ، واسم عُنيزة . وعُنيزة لقب لها فيما قِيل .

11_ ذُل الحُب :

تَنبع فلسفةُ " ذُل الحُب " من مبدأ أساسي وهو عدم سيطرة الإنسان على قَلبه، ومشاعرِه ، وأشواقِه الرُّوحية . ولو كان الإنسانُ مسيطراً على قَلبه لأَدْخلَ فيه مَن يشاء، وأخرجَ منه مَن يَشاء، أو انتزعَ من قلبه الحُبَّ أو الكراهيةَ . وعندئذ يرتاح ، وينام قَريرَ العَيْن . فلا امرأةٌ تتحكم في عواطفه وتسيطر على تفكيره ، ولا عذابٌ يُقاسيه في الليل والنهار . وهذا يدلُّ على أن قوة المشاعر تستمد سَطْوتها من كَوْن المشاعرُ فِعلاً لاإرادياً، وكَوْن القلبُ خارجاً عن سيطرة الإنسان . ولا يخفَى أن هذه القضية نسبية تختلف درجتها من إنسان إلى آخر . ومهما يكن من أمر ، فلا يُوجد إنسان مسيطِر على قلبه بشكل كامل ، كائناً مَن كان .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

أغَرَّكِ منِّي أنَّ حُبَّكِ قاتِلــي وأنَّكِ مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ

لقد سَيطرت العشيقةُ على الشاعر ، وحَاصَرَتْه من كل الجهات ، وأَغلقت المداخلَ والمخارجَ، فوجد العاشقُ نَفْسَه محشوراً في الزاوية، عاجزاً عن فكِّ الحصار.
يقولُ الشاعرُ: قَد غَرَّكِ مِنِّي كَوْنُ حُبُّكِ قاتلي، وأن قلبي خاضع لكِ يأتمر بأمركِ ، فمهما أَمَرْتِه بشيء خضعَ لأمركِ ونفَّذه بسرعة وبلا تردد .
والشاعرُ في هذا البَيْت لا يَطرح سؤالاً ، وإنما يقرِّر حقيقةً واقعية وملموسة . فألفُ الاستفهام للتقرير لا الاستفهام .
وهذه الحقيقةُ هي أن الشاعرَ قَد فَقد السيطرةَ على قلبه ومشاعره ، ورفعَ الرايةَ البيضاء أمام عشيقته التي بدأت تلعب لُعبتها القاتلة ، وهي حَرق أعصابه ، وتدمير مشاعره ، ونسف قلبه . فغدا قلبُه منقاداً لها ، يَسمع كلامَها ، ويَستجيب لأمرها بكل سلاسة . لقد خسرَ الشاعرُ قلبَه لصالح عشيقته ، وكأن هذا القلب المكسور قد خانَ صاحبه ، وتمرَّدَ عليه ، وارتضى الخضوع للقوة الناعمة ( سِحر العشيقة ) بملء إرادته دون ضغوطات خارجية . وطَبعاً ، هذه هي ضريبة العِشق الباهظة ، ومن ارتضى الاحتراقَ بنار العِشق ، فلا بد أن يَدفع الثمنَ من أعصابه ومشاعره .

12_ إرجاع القلب :

العِشقُ هو سرقةٌ متبادلة للقلوب . وكلُّ عاشقٍ يَعرف في قرارة نفْسه أنه مسلوب القلب ، وأن جوارحَه متمردة عليه ، وخارجة عن نطاق سيطرته . وهذا الأمرُ هو الأساس الفلسفي لضَغف العاشق ، وأحزانِه المتكاثرة . ومهما شَعر العاشقُ بالفرح والسعادة ، فلا يمكنه أن يتخلص من انكساره المتجذر ، وحُزنه العميقِ.
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وَإِن تَكُ قد ساءتكِ مني خَليقةٌ فسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُـلِ

يقدِّم الشاعرُ سبيكةً شِعرية معتمدة على السبب والنتيجة ، ويحاول جاهداً بناءَ منطقٍ عاطفي وفلسفي . فهو يقول لعشيقته : إن ساءكِ خُلقٌ من أخلاقي ، وكَرهتِ صفةً من صفاتي ، فَرُدِّي عليَّ قلبي أُفارقكِ . وفي هذا السياق يُمكن تفسير الثياب بالقلب .
يُراجِع الشاعرُ نَفْسَه ، ويعترف بإمكانية وجود خِصلة فيه نَفَّرت العشيقةَ ، وجَعَلَتْها تبتعد عنه . وكلُّ خِصلةٍ سيئة لا بد أن تكون سبباً في القطيعة أو الهجران أو انعدام الانسجام بين العاشقَيْن . وهذا اعترافٌ من الشاعر بأنه غير معصوم ، وغير مُنَزَّه عن العيوب. وهو لا يُبَرِّئ نَفْسَه ، ولا يُكابِر ، ولا يَستعرض عضلاته أو بطولاته الوهمية . إنه يَستمع لصوت العقل ، ويضعُ نَفْسَه في موضعها الحقيقي بلا أقنعة ، أو محاولات تجميل ، أو حركات التفافية لإخفاء العيوب .
وإذا كَرهت العشيقةُ خُلقاً من أخلاقه ، فإن هذا الفِعل يترتب عليه نتيجةٌ خطيرة تؤثر على طبيعة العلاقة بين العاشقَيْن . وهذه النتيجةُ التي يقرِّرها الشاعرُ ، ويَفرضها واقعاً ملموساً ، هي : أن تردَّ عليه قلبَه ، وبعبارة أخرى ، أن تستخرجَ قلبَه من قلبها لكي يَسهل الفراق ، ويصبح حقيقةً ماثلة للعَيان . وهذا مؤشرٌ باهر على أن الشاعر لا يَملك قلبَه،وأن عشيقته هي التي استحوذتْ على قلبه ومشاعره.
ومن جهة أخرى ، يُمكن حمل الثياب على معناها الحقيقي الظاهري . فيصبح المعنى : إِن ساءكِ شيءٌ مِن أخلاقي ، فاستخرجي ثيابي من ثيابكِ .
لقد اندمج العاشقان، وانصهرا في بَوْتقة العِشق ، فصارا جِسماً واحداً ، ورُوحاً واحدة . ومن الصعب التفريق بينهما ، أو فَصلهما عن بعضهما البَعض . ولكنْ ، إذا كَرهت العشيقةُ صفةً من صفاته ، فعليها أن تَفصل هذين الجسدَيْن ، وتَستخرج ثيابه من ثيابها ، أي تفارقه ، وتقطع كلَّ صلةٍ به . وإذا كان هذا قرار العشيقة الذي يُريحها، فإن العاشق سيخضع له ويُؤْثر رغبتها على رغبته، ولا يَختار إلا ما اختارتْ بسبب سيطرتها على قلبه وجوارحه . وسَيَشربُ هذه الكأس المُرَّة حتى لو أَهْلَكَتْهُ .

13_ سلاحُ المرأةِ دموعُها :

القوةُ الضاربة للمرأة كامنةٌ في ضَعفها . وعنوانُ ضَعفها هو دموعها ( المِصيدة الجاذبة لقلب الرَّجل ) . فهذه القطراتُ اللامعة النازلة من عُيون المرأة، والتي تَحرق الخدودَ ، لها تأثيرٌ هائل على قلب الرَّجل ، وأحاسيسه ، وأفكاره .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ومَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلا لتضربِي بِسَهْمَيْكِ في أعشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

وَصلت العشيقةُ إلى مرحلة البكاء . وها هِيَ دموعُها القاتلة تتأجج بلا رحمةٍ ولا هَوادة . دموعٌ تَصيدُ قلبَ العاشقِ المكسورَ ، وتجرحَ مشاعرَه بكل قَسْوةٍ .
يقولُ الشاعرُ: وما دَمعت عَيناكِ وما بَكيتِ إلا لتصطادي قلبي بسهمَي دموعكِ ، وتَجرحي أجزاءَ قلبي المقتَّل ( المذلَّل بعشقكِ غاية التذليل ) .
إذن ، فالعشيقةُ تَعرف نقطةَ قوَّتها ، ونقطةَ ضَعف عشيقها . فقرَّرت أن تَضرب ضَربتها ، وتستخدم سلاحَها الفعَّال ( الدموع ) . وما دَمعت عَيْناها إلا لِتَنْصبَ لقلبِ الشاعر فَخَّاً، وتصطادَ قلبَه الذابل بسهمَيْن قاتلَيْن، هُما سَهْما دُموعِ عَيْنَيْها . وهذان السَّهمان المنطلقان من دموعها، يمثِّلان سلاحَ العشيقةِ القاتلَ. وقد أَطْلَقَتْهُما على قلب عشيقها بلا شَفَقة ، وعن سَبْق الإصرار والترصُّد . فَجَرَحت قلبَه جُرحاً لا يَندمل . وقلبُه _ بالأساس _ قلبٌ ضعيف لا يَقْدر على المواجَهة أو الدفاع عن نَفْسِه ، لأنه قلبٌ مذلَّل بالعِشق ، ومُعبَّدٌ بآلام الحُبِّ ، وخاضعٌ لأوامر العشيقة .
والعشيقةُ مَا بَكت إلا لِتَمْلكَ قلبَ عاشقها بكل أجزائه ، وتَحصلَ عليه كاملاً غير منقوص. وقد نَجحت في خطتها ، وانتصرتْ في معركتها ، ورفعَ عشيقُها الرايةَ البيضاء مستسلماً ، وراضياً بالأمر الواقع . وهذا النصرُ الباهر يُسجَّل للعشيقة التي عَرَفت كيف تَستخدم نقطةَ قوَّتها ( الدموع )، وكيف تَستغل نقطةَ ضَعف عاشقها .




14_ الطهارة والنقاء :

لقد كانت العشيقةُ في أعلى درجات طهارتها ونقائها . وهذه الحالةُ من النقاء والصفاء متناسبة تماماً مع مناخ العِشق ، كما أنها تَحظى برضا العاشق الحريص على تخليد عشيقته وهي في قمة صفائها وعنفوانها . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُهـا تَمتَّعْتُ من لَهْوٍ بها غيرَ مُعجَلِ

يصفُ هذه المرأةَ بأنها طاهرة ونقية ورقيقة، لا تَشوبها شائبة . فهي كالبَيْض في طهارتها، وعفَّتها، وصفائها . وهي مُصَانَةٌ ، ومستورةٌ ، ومتمتعةٌ بالصحة والعافية والسلامةِ من الحيْض. وهي مُلازِمةٌ خِدْرَها، ولَيْست امرأةً خارجةً داخلةً تقضي وَقْتَها خارج بَيْتها ، ولا تستقر فيه . والخِدْرُ هو سِترٌ يُمَدُّ للمرأة في ناحية البيت . أمَّا الخِباءُ فهو البيت من القطن أو الصوف أو الوَبَر .
إنها امرأةٌ تلتزم بَيْتَها ، ولا تَخرج منه إلا للضرورة القُصوى . فهي تَصون أُنوثتها، وتَستر نَفْسَها ، ولا يُطلَب بَيْتها ( لا يُرام خباؤها )، وذلك لشرفها وعزَّتها. وفي هذا مؤشرٌ على أنها محفوظة ومُصانة ، وليس لها علاقات مع البيئة الخارجية .
وهذه المرأةُ _ بكل هذه الصفات _ يُفترَض بها أن تَصون نَفْسَها عن العِشق الممنوع. ومع هذا، خَضعت للشاعر العاشق ، فانتفع باللهو معها ، والاستمتاع بها، بكل هدوء أعصاب، بلا عَجَلة ولا ضغوطات خارجية . فقد أَخذ وَقْتَه كاملاً معها، فلم يتعجَّل ، ولم يَمَل منها ، ولم يُشغَل عنها بغَيْرها . إنه يُكرِّس صورته كزير نساء محترِف ، لا تَصمد أمامَه أيةُ امرأةٍ بسبب مواهبه المتعددة في الغرام، وجَمالِ صورته، وقوةِ بَدنه ، ومكانته الاجتماعية الرفيعة. حتى إن هذه المرأة التي وصفها بالطهارة والنقاء ، وَقعت في أحضانه بإرادتها ، ولم تستطع مقاومةَ سِحْره الجذاب .
15_ المجازفة بالحياة من أجل العشيقة :

يحاول الشاعرُ رسمَ هالة أسطورية حَوْل شخصيته ، وصبغها بقيم التضحية والفِداء من أجل العشيقة. إنه على استعداد للتضحية بنفْسه من أجلها . فعشيقته أغلى من نفْسه التي بين جَنْبَيْه.لذلك لا يُبالي بكل الأهوال التي تَعترض طريقَه إليها.
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

تجاوَزتُ أحراساً إلَيْها وَمَعْشَراً عليَّ حِراصاً لَوْ يُسِرُّونَ مقتَلي

يقولُ : تجاوزتُ في ذهابي إليها وزيارتي إيَّاها مصاعب جمَّة ، وتحدياتٍ خطيرة ، وأهوالاً عديدة ، وعقباتٍ مرعِبة ، وقَوْماً يَحرسونها ، وقوماً حريصين أشد الحرص على قَتلي .
إذن ، فطريقُ العِشق لم يكن مُعبَّداً بالورود والقصائد . إنه طريقٌ شاق محفوف بالمخاطر، وقد يُكلِّف الشاعرَ رُوحَه . ومع هذا لم يَعبأ العاشقُ بكل هذه الأهوال والشدائد ، لأنه يُؤمن أن عِشقه قادرٌ على تذليل جميع العقبات . والشاعرُ يُقدِّم نَفْسَه فدائياً من أجل عيون عشيقته ، ويُصوِّر نَفْسَه كشهيد محتمَل لحالة العِشق .
لقد اجتازَ الحراسَ المكلَّفين بحراستها بكل مهارة ، وهُم الذين يَقفون سَدَّاً منيعاً بَيْنه وبين عشيقته ، ويُحاولون مَنعه من الوصول إليها بشتى السُّبل . إنهم حريصون على قَتْله لو قَدروا عليه في خُفية ، لأنهم لا يَملكون الجرأةَ على قَتْله جهاراً نهاراً ، لأنه مَلِكٌ ، ولا يمكن قتلُ الملوك علانيةً .
ومن الواضح أن عشيقته تنتمي إلى الطبقة المخملية في المجتمع ، بسبب وجود حُرَّاس يُحيطون بها . والحرَّاسُ لا يَتواجدون إلا في العائلات الراقية التي تَملك السُّلطة والمال والنفوذ . ولو كانت امرأةً عادية لَمَا أحاط بها الحرَّاسُ ، ولكانَ الطريقُ إليها سهلاً وسالكاً بلا عقبات .
وأيضاً ، يُخبِرنا الشاعرُ _ بشكل ضِمني _ أنه ليس شخصاً عادياً ، فهو مَلِكٌ ينتمي إلى عائلة ذات مكانة سامية . وهؤلاء الحرَّاسُ الحريصون على قَتله ، لا يَقدرون على تنفيذ رغبتهم إلا في الخفاء ، ولا يَجرؤ أحدٌ منهم على قَتله في وضح النهار ، فقتلُ مَلِكٍ علانيةً هو إعلانُ حربٍ ، وهذا يَعني دخول القبائل في حرب طاحنة ستأكل الأخضرَ واليابسَ . وامرؤ القَيْس كان يُدرك هذه الحقيقة ، لذلك تصرَّف بكل ثقة ، ودون خوف أو تردد ، فهو يَعْلم أن وراءه مَن يسنده ويَحميه .

16_ قميص النوم :

الليلُ هو مملكة النساء. إنه ستارٌ كثيف يَستر البشرَ عموماً ، والمرأةَ خصوصاً . كما أنه ملتقى العشاق ، وأرشيف مغامراتهم . وبالتأكيد ، إن انتشارَ الظلامِ يُعطي الإنسانَ فُرصةً للتحرك بهدوء وسِرِّية دون مُراقَبة أَحد . والذين يتحركون في الظلام أقْدر على إنجاز أعمالهم ، لأنهم مُسلَّحون بالكُتمان والغطاءِ الطبيعي ( العَتمة ) .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

فَجِئتُ وقد نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثيابَها لدى السِّترِ إلا لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ

اقتحمَ الشاعرُ عالَمَ الليل بكل جُرأة، وأَتى عشيقتَه في مملكتها الخاصة بلا خَوْف ولا تردد. لقد وصلَ إلى هذا المكان الحسَّاس المحظور، وراحَ يَسبح في المنطقة العميقة ، وجاءها بكل شَوْق ولهفة ، وقد خَلعت ( نضَّت ) ثيابها عند النوم غير ثوب واحد تنام فيه ( لِبسة المتفضِّل ) .
يفتخرُ الشاعرُ بهذه المغامَرة الخطيرة التي قد تكلِّفه حياته . فالوصولُ إلى مَعقل العشيقة وقلعتها الحصينة أمرٌ شديد الخطورة ، لأنه متعلق بقيم الشرف والعِرْض والتقاليد القَبَلية الصارمة. ولكنَّ الشاعرَ العاشقَ لا يَعبأ بكل هذه الأخطار، ففي سبيل لقاء العشيقة، تَهون الصِّعابُ ، وتصبح النَّفْسُ رخيصةً . ولا رَيْبَ أن هذه المرأة كانت تبادله عِشقاً بعِشق ، وقد سَمحت له بأن يَصول ويَجول دون أدنى شُعور بالخوف أو الرَّهبة . ولو كان العاشقُ يَعرف أنها رافضةٌ له لَمَا تجرَّأ على هذا الأمر، ولكنه واثقٌ كل الثقة بعِشقها له، وأنها عندما تراه لن تَصرخ ، أو تستنجد بأهلها ، فتُسبِّب للعاشق فضيحةً قد تُودِي بحياته. وفي هذا دلالةٌ باهرة على أنها فَتحت له قلبَها على مِصْراعَيْه ، وسَهَّلت له الوصولَ إلى قلعتها المحروسة جيداً ، والتي تُعتبَر منطقةً يَصعب الوصول إليها ، ومن أرادَ الوصولَ إليها فهو بحاجة إلى " دعم لوجستي " ، ومساندة داخلية ، وإجراءات شديدة التعقيد تتطلب وضع خُطة مُسْبقة ومُحْكَمَة .
إذن، هناك خُطَّة مُسْبقة ، وتنسيق واضح بين العاشقَيْن ، ودراسة دقيقة للوضع المكاني، والفترةِ الزمنية. لقد خَلعت العشيقةُ ثيابها، واكتفت بثوب نوم رقيق لتخدعَ أهلَها ، وتُريهم أنها تريد النومَ . وبالتالي سيطمئنون عليها ، ويتركونها واثقين بأنها ستنام وتَغطس في سُباتٍ عميق .
وهذا التمويه المدروس نتيجةٌ طبيعية لحالة العشق المشتعلة . وكلُّ قصص العِشق مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمؤامرات ، والخططِ السِّرية ، والمكر ، والخديعة ... إلخ .
لقد خَدعت أهلَها،وأَقْنعتهم بأنهم ستنام بدليل ارتدائها ثياب النوم (قميص النوم)، فتركوها وشأنها. وبالتأكيد ، لقد تنفَّست الصعداء، وأَخذت رُوحَ المبادَرة، فَوَقَفَت عند السِّتر مترقِّبةً قدومَ الشاعر ، ومنتظرةً إيَّاه بفارغ الصبر .



17_ مكوِّنات النصف الأعلى من المرأة :

يصنعُ الشاعرُ سبيكةً شِعرية مشتملة على الوصف الدقيق لجسد العشيقة . وفي هذا المقام يُركِّز على النصف الأعلى من جسدها ، فيصف مكوِّناتها المادية المحسوسة دون وجود أي أثر للمشاعر الرومانسية ، أو الخيالاتِ الحالمة .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

مُهَفْهَفَةٌ بَيْضاءُ غيرُ مُفاضَـةٍ ترائبُها مَصْقولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ

إن الأوصافَ المذكورة في البَيْت الشِّعري هي أوصاف ماديةٌ بحتة لا مكان فيها للخيال أو الصُّورِ الفنية المبتكَرة. فهي امرأةٌ مُهَفْهَفَةٌ ، أي : دقيقة الخصرِ ، ضامرة البطن ، وهذه صفة عادية موجودة لدى الكثيرات . فَخَصْرُها دقيق ، وبَطنها لَيْس ضخماً، وإنما ضامر. مما يدل على أنها لَيْست شرهةً ، ولا تعاني من السُّمنة ، فأَكْلُها معتدل بلا إفراط ولا تفريط . وهذا سببُ ضُمور بطنها .
كما أنها غير مُفاضَة ، أي : غير عظيمة البطن ولا مسترخيته . فبطنُها لا يتدلى بسبب ضخامته ، وعضلاتُ بطنها مشدودة ولَيْست مسترخية . إذن ، فهي امرأةٌ رشيقة ، تتمتع بقوام متناسق جذَّاب ، وبعيدة كل البُعد عن التَّرهُّل والسُّمنة . وقَطْعاً ، هذا الأمرُ يُحسَب لها ، ويدل على اعتنائها بصحتها ، وأن لها نظامَ تغذية مُعيَّناً، وأنها تراقب وَضْعها الصحي بصورة مستمرة، وتسيطر على تفاصيل جِسمها.
ثم يأتي الشاعرُ على ذِكر صَدْرها . وكما هو معلومٌ ، فإن صَدر المرأة هو رمزُ أُنوثتها ، وعنوانُ شخصيتها ، والجزءُ الرئيسي في نِصفها الأعلى .
وصِدرُ العشيقة ( الترائب ) مصقولٌ كالسجنجل ( المِرْآة ) . فهو صَدرٌ براقٌ اللون ، يمتاز بالصَّفاء والنقاء ، يتلألأ كالمِرْآة . وبالتأكيد، لا تعني كلمةُ " مَصْقولَة " أن صَدرها مستوٍ كالمرآة، لأن هذه صفةُ نقصٍ لا كَمالٍ . فَجَمَالُ صَدر المرأة يكمن في بُروزه واتِّساعه . إذن ، فكلمةُ " مَصْقولَة " تعني أن صَدرها قَد جَلاه اللمعانُ ، فهو يتوهج بكل أُنوثة ، ويَلمع مِن شِدة صفائه ، ويُنير بسبب بريقه المفعم بالحيوية .

18_ الإعراض عن العاشق واستقباله :

كلُّ قصةِ عِشق لا بد أن تشتمل على الإعراض والإقبال ، أو الهجرِ والوصل ، أو الكَر والفَر . وذلك لأن نارَ العِشق المتأججة يَصعب السيطرةُ عليها ، ويَصعب إحكامُ القبضة على الشرر المتطاير في كل الجهات . وهذه الثورةُ الجنونية العارمة لا بد أن تشتمل على الأضداد ، والعناصرِ المتناقضة .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

تَصُدُّ وتُبْدي عن أَسيلٍ وتَتَّقـي بناظرَةٍ مِن وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ

تتأرجحُ العشيقةُ بين الصَّد ( الإعراض ) ، والاتِّقاء ( الاستقبال ) . إنها خاضعة لحالة العِشق بكل تناقضاتها .
تصدُّ عن عشيقها ، وتُعرِض عنه بعد أن تعكَّرَ مزاجها ، وتُظهِر ( تُبدي ) في إعراضها خَدَّاً أسيلاً(طويلاً)، وكأنَّ هذا الخد الطويل الناعم قد صارَ رمزاً للصُّدود، وشِعاراً للإعراض. لقد ابتعدت عن عشيقها بملء إرادتها ، واختارت أن تُعرِض عنه بمحض اختيارها دون إكراهٍ من أَحد .
وإذا صفا ذهنُ العشيقة ، وتعدَّل مزاجُها ، فإنها تَبتعد عن حالة الصُّدود ، وتَدخل في حالة القبول والاستقبال ، حيث تَستقبل الشاعرَ ( تتَّقي ) بعَين مِثل عيون ظِباء وَجرة ( وَحش وَجرة ) التي لها أطفال . و" وَجرة " اسم مَوْضع .
وهذا الاستقبالُ له طقوس مُعيَّنة تدل على الحُب الكبير بين العاشقَيْن. فالعشيقةُ تستقبل عشيقَها بَعين ( ناظرة ) غاية في الحُسن والجَمال ، تُشبِه عيون ظِباء وَجرة ، وخَصَّ الشاعرُ هذه الظِّباءَ بالتي لها أطفال ( مُطْفِل ) ، لأنها تَنظر إلى أطفالها بكل حُب وشَفقة وحنان. والعُيونُ المشتملة على معاني الشفقة والعطف هي _ بلا أدنى شَك_ أحسنُ العُيون . إذن ، فالعشيقةُ تَحشد المعاني الرقيقة في عَيْنها ، وتَستقبل عشيقَها بهذه العَين الممتلئة بالحنان والدفء العاطفي ، وكأنها تَعتبر الشاعرَ طِفْلَها المدلَّلَ ، فتُشفِق عليه، وتعامله بِعَطف بالغ، وتأخذ بيده إلى بَر الأمان ، وعالَمِ الطمأنينة ، ولذةِ الحُب .
والشاعرُ العاشقُ قد وَقَعَ أسيراً لهذه النظرة الحانية . وهذه العَيْنُ التي قَتَلَتْهُ بسلاح الوُدِّ والرأفة والرحمة ، سَيْطرت على أعضائه وجوارحه ، وقيَّدت مشاعرَه ، فصار قلبُه عَبْداً لعشيقته ، وحواسُّه خَدَماً لها بدون إكراه ولا إجبار .

19_ وصفُ العُنق :

يمثِّل عُنقُ المرأةِ مَنبعاً للجَمال ، وهو واجهةٌ أساسية للأُنوثة ، وعنوانٌ رئيسي للنُّعومة . كما أنه مَكان الْحُلِيِّ التي تُعتبَر زينةً للمرأة ، ورمزاً لأناقتها وعنفوانها . وكلُّ امرأةٍ تَحرص على تزيين عُنقها ( رقبتها ) بالعقود والقلائد ، لكي تَكون في أبهى صُورة ، وأجمل مَنظر . لا سِيِّما وأن العُنق هو طابع البريد الذي يَكشف عن محتوى الرسالة . وإذا كان طابعُ البريد قبيحاً ، فسوفَ يشمئز الناسُ من الرسالة .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وجِيدٍ كجِيدِ الرِّئْمِ ليْسَ بفاحشٍ إذا هيَ نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّـــلِ

يُشبِّه عُنقَها ( جِيدها) بعُنق الظبي ( الرِّئم ) في نُعومته، وجَماله الآسِر، وتناسقه. وهذا العُنقُ ليس بفاحش، أي: ليس متجاوزاً قَدْرَه المحمود،فليس قصيراً ولا طويلاً، ولا دقيقاً ولا غَليظاً. وخَيرُ الأمورِ أوسطُها. إنَّه عُنقٌ لَيس بفاحش إذا رَفَعَتْه العشيقةُ ( نصَّته ) ، فهو معتدل ذو جَمال سَاحر ، وهو أيضاً غير مُعطَّل عن الحُلِيِّ. فالعُقودُ تحيط به ، وهذا ما يُميِّزه عن عُنق الظبية الخالي من الحُلِيِّ ( المعطَّل). إذن ، فعنقُ العشيقة المزيَّن بالحُلِيِّ أجمل من عُنق الظبية .

20_ وصفُ الشَّعْر :

شَعرُ المرأةِ هو زِينتها الظاهرية . ويَزداد جَمالُ الشَّعر كلما كان طويلاً ، حيث ينساب على الظَّهر، ويُبرِز أُنوثةَ المرأة، ويَكشف معاني فِتْنتها. ولا شكَّ أن خِصلات الشَّعر المترامية الأطراف تَخلق عوالم سِحرية تستقطب الرَّجلَ وتأْسره .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وَفَرْعٍ يَزينُ المَتنَ أَسْوَدَ فاحِمٍ أَثيثٍ كَقِنْوِ النَّخلةِ المُتَعَثْكِلِ

تَظهر العشيقةُ في أبهى صُورة، وفي مُنتهى الجَمال. إنها تهتمُّ بنفْسها بصورة واضحة، وتعتني بتفاصيل جِسمها أشد العناية ، وتُولِي شَعرها اهتماماً خاصاً .
إِنَّ شَعْرَها الطويلَ التَّام ( الفَرْع ) يُزيِّن ظَهرها ( المَتن ) إذا أَطْلَقَت له العَنان ، وأَرْسَلَتْه على هَواه. شَعرٌ أَسْود فاحم (شديد السَّواد كالفحم ) يَنسابُ على ظَهرها بكل سلاسة وتدفق ، فتبدو العشيقةُ غابةً مِن السِّحر ، ومملكةً مِن عُذوبةِ الرُّوح ، وعالَماً مِن عُنفوان الأُنوثة . وفي تلك الحالة العامرة بالدفء العاطفي ، والسِّحر الأُنثوي ، لا يَملك الشاعرُ إلا أن يَرفع الرايةَ البيضاء مستسلماً أمام جَمال العشيقة وطَلعتها البهية ، ويَغرق في شَعرها الذي يَحفر مجراه في ظَهرها بكل نعومة ، كما لو كان نَهراً شديد العذوبة يشقُّ طَريقَه دون عقبات .
ومِن صِفاتِ شَعرها المفعم بالسَّواد الباهر ، أنه كثيرٌ ( أثيث ) . ومِن كَثرته دَخل بَعضُه في بَعض (المُتَعَثْكِل )، وتدلَّى بكل دلال. وهكذا قِنْو النخلة ( العِذْق ) .
استحضرَ الشاعرُ في ذِهنه صورةَ النخلة _ التي هي أساس البيئة العربية ذات الطبيعة الصحراوية القاسية _ حيث تتدلى عناقيدها وتتداخل معاً لكثرتها . وأَسْقطَ هذه الصُّورةَ على شَعر عشيقته التي شَبَّهَ ذؤابتَيْها ( والذُّؤابة هي الضَّفيرة ) بقِنو نخلةٍ . وهذه الذوائب ( الضفائر ) تُشبِه العناقيد من حِيث كثرتها وتداخلها .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس في نَفْسِ السياق ( وصف شَعْرها ) :

غدائرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا تَضِلُّ العِقاصُ في مُثَنَّىً وَمُرْسَلِ

لقد ضاعَ الشاعرُ في متاهة شَعْر عشيقته ، وحارَ فِكْرُه في جَمال خِصلات شَعرها السِّحرية الجذابة . وها هُوَ يصفُ ارتفاع شَعرها ، وكأنه دليلٌ على ارتفاع مكانة العشيقة ، وعُلُو منزلتها الاجتماعية . فغدائرُ شَعْرها مُسْتَشْزِرات ، أي : خِصلاتِ شَعْرها مرتفعات . ترتفع هذه الخِصلاتُ الجميلة إلى الأعلى . وهذا الشَّعْرُ الساحرُ يمتازُ بِعُلُوِّ المكانِ والمكانةِ في آنٍ معاً . ورَفْعُ الشَّعْر بهذه الصورة لا يتم إلا بشدِّه على الرأس بخيوط . مما يدل على عناية العشيقة بشَعْرها ، وحرصها على أن يبدوَ في أبهى صورة ، وأجمل مَنظر . وكأن هذا الأمر جزءٌ من " الموضة الجاهلية " المتفشية بين نساء ذلك العَصْر . أضفْ إلى هذا ، أن المرأةَ الغارقة في علاقةٍ غرامية تَحرص على الظُّهور أمام عشيقها بأحسن صُورة . فهي تَقضي وقتاً طويلاً أمام المِرْآة ، وتعتني بأدق التفاصيل في جِسْمها، وتهتمُّ بكل جزء في ملابسها ، وذلك من أجل نَيْل رِضا العاشق وحُبِّه، والسيطرةِ على أحاسيسه، واستمرارِ العلاقة على أحسن وَجْه دون مشكلات .
ولا يتوقف جَمالُ شَعر العشيقة عند ارتفاعه إلى فوق ، بل أيضاً تَغيبُ ( تضل) العِقاصُ ( خِصلات الشَّعْر ) في بَعضها البعض، فشَعْرُها الغزيرُ المتكاثفُ غابةٌ من السَّواد ، يَبتلع هذه العِقاصَ بلا رحمة . ويمكن القولُ إنَّ شَعْرَها بَحرٌ عميق متلاطم الأمواج، تَغرق فيه خِصلاتُ شَعرها الذي بَعْضُه مُثَنَّى وبَعْضُه مُرْسَل .

21_ العشيقةُ الثَّرية :

إن النساءَ الثَّرِيَّات لهنَّ طقوس مُعيَّنة في حياتهن الاجتماعية. وهذه الطقوسُ تَنبع من القوة المادية ( المال ، السُّلطة ، النَّسب ) . والمرأةُ الثَّريةُ عندما تَعشق ، فإنها تبتكر أسلوباً غرامياً خاصاً ناتجاً من مكانتها الاجتماعية السَّامية ، وثروتها المالية .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وتُضحي فَتيتُ المِسكِ فوقَ فِراشها نؤُومُ الضُّحى لم تَنْتَطِقْ عن تفضُّلِ

العشيقةُ الآنَ في وقت الضُّحى ، وأجزاءُ المِسك فوق فِراشها الذي باتت عليه. وهذا يدل على طِيب عَيْشها ، وثرائها الفاحش . فهي تُضحي ، أي تُصادِف وقتَ الضُّحى ، وفتاتُ المِسك على فِراشها ، يَنشر الرائحةَ الطَّيبة في المكان ، ويُحيله إلى عالَمٍ عِطري لا مكان فيه للغبار ، أو الروائح الكريهة . مما يُشير إلى اهتمامها البالغ بنظافة المكان ، ورائحته . ووجودُ أجزاءِ المِسك على فِراشها يَعكس هوسَها الاستهلاكي النابع من ثرائها . كما يَعكس اهتمامها بكل صغيرة وكبيرة في عالَمها الأرستقراطي . ولا يخفَى أن وجود فُتات المِسك على الفِراش ليس أمراً اعتيادياً ، ولا يُمكن اعتباره عادةً نسائية في المجتمع العربي الصحراوي القاسي . وفي هذا دلالةٌ باهرة على أن العشيقة ذات ثروة هائلة ، وتعيش في مناخ رومانسي حالم منقطع عن البيئة البدوية الجافة . ولا رَيْبَ أن ثروتها ( أو ثروة عائلتها ) تمكِّنها من شراء المِسك ، وإلقائه على فِراش نَوْمها . وهذا الفِعلُ السحري المبالَغ فيه يدل على أنها لا تَعرف أين تَذهب بمالها الكثير، مما جَعلها تُركِّز على الكَماليات ، وتحقيق الرفاهية المتجاوزة كل الحدود .
وهذه المرأةُ_ العائشة في بُرجها العاجي المنفصل عن بيئتها الكئيبة القاسية _ كثيرةُ النوم في وقت الضُّحى( نؤوم الضُّحى)، فلا داعي أن تَستيقظ للعمل أو ما شَابَه ، لأن هناك مَن يَقوم بالعمل نيابةً عنها . لم تنتطق عن تفضُّل. يعني أنها لا تشدُّ وسطَها بنطاق بعد لَبْسها ثوب المهنة كما تفعل النساء اللواتي يَتحضرنَ للعمل . والفضلةُ هي ثوب واحد يُلبَس للخفة في العمل . والعادةُ المتَّبعةُ أن المرأة تشدُّ وسطَها بنطاق من أجل العمل في بيتها ، لِكَيْلا يُعيق ثوبُها حركتَها أثناء مباشرتها للأعمال البَيْتية التي تتطلب جُهداً وحركةً .
وبالتأكيد، فهذه الصورةُ الشعرية لأحوال العشيقة تدل على أنها مخدومة مُنعَّمة، تُخدَم ولا تَخدِم ، ومُحاطة بالخَدَم والحَشَم والأُبَّهة ، وأن لها مَن يَخدمها ، ويَسهر على راحتها ، ويُنفِّذ رغباتها ، ويقوم على أُمورها وشؤونها ، فلا داعي أن تُباشِر عَملاً بنفْسها ، ولا داعي أن تَقلق على شؤونها ، فهناك مَن يَكفيها أُمورَها ، ويعتني بتفاصيل حياتها . وتفاصيلُ حياتها اليومية تُشير إلى أنها في نِعمة عظيمة ، وتَغرق في رغد العَيْش . فوجودُ المِسك على الفِراش ، وكثرةُ نَوْمها في الضُّحى ، وعدم شَد وَسطها بنطاق . كل هذه الأمور تدل على أنها امرأة ثرية مخدومة لا خادمة .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس في نفْس السياق :

وتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنـهُ أساريعُ ظَبْيٍ أوْ مساويكُ إسْحِلِ

العشيقةُ الثَّريةُ غارقةٌ في رَغد العَيْش ، وهي تتصرف بكل أُنوثة ونعومة . حيث إنها تتناول( تَعطو ) الأشياءَ ببنان لَيِّن ناعم( رَخْص) غير غليظ. والشثنُ هو الغليظ.
إنها من " أصحاب الدماء الزرقاء ". وهذا اللقبُ يُقصَد به الأثرياء ، فإنهم يَعيشون حياةً مُترَفة ناعمة، لا يُمارِسون أعمالاً شاقة، ولا يَخدمون أنفسهم بأنفسهم ، وإنما لَدَيْهم جيش من الخَدم والحشم . ومِن فَرْط نعومة حياتهم ورقَّتها ، تَبدو جُلودُهم رقيقةً طريةً ، تَبْرز فيها عُروق الدم بلون أزرق . وهذا هو سبب تسميتهم بأصحاب الدماء الزرقاء .
والعشيقةُ من هذا النوع . فهي تتناول الأشياءَ بأصابع ناعمة رقيقة بعيدة كل البُعد عن الخشونة والصلابة والغِلظة . وليس هذا بغريب، فهي لا تُباشِر الأعمالَ بيدها بسبب وجود مَن يَخدمها، وبالتالي فإن يَدَها بعيدة عن الاحتكاك بالأشياء ومصارعتها . الأمرُ الذي يَجعل أصابعَها ناعمةً طرية ، لا مكان فيها للقسوة أو التشقق أو التَّصلب .
وقد تَمَّ تشبيه أناملها _ بسبب نعومتها _ بالأساريع ، وهو دُودٌ يتواجد في الأماكن النَّدية ، وتُشبَّه به أصابع النساء الرقيقة . و" ظَبي " مَوْضعٌ بِعَيْنه . وكما أن هذا الدُّود الناعم يتواجد في الأماكن النَّدية ، فكذلك أناملُ العشيقةِ الناعمةُ ، تتواجد في يَدٍ نَدِيَّةٍ شديدة الطراوة والنضارة .
إذن ، تُشبِه تلك الأناملُ هذا الصنفَ من الدُّود ، أو مساويك إسحل . وهي المساويك( جَمع مسواك ) المأخوذة من أغصان شجر إسحل ( نوع مُعيَّن من الشجر). وهاتان الصورتان تَمَّ توظيفهما في البَيْت الشِّعري لتكريس نعومة أنامل العشيقة في الأذهان ، والتركيزِ على لطافة يَدِها ، ونضارةِ جِلْدها، وشبابِها الدائم .



22_ نورُ الوجه :

يُمثِّل الوجهُ العنوانَ الرئيسي للإنسان. وجميعُ محاسن الإنسان مجموعةٌ في وجهه. والأمرُ يزداد أهميةً في علاقات العِشق والغرام ، فيصبح الوجهُ هو البوصلةَ المسيطرة على مسارات الحُب ، وانعطافاتِ العلاقة بين العاشقين . وكلُّ عاشقٍ يَرى في وَجه عشيقته نوراً هادياً في ظُلمات الحياة ، وطَوْقَ نجاةٍ ينتشله من بحر الآلام .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

تُضيءُ الظلامَ بالعِشاء كأنها مَنارَةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ

يَقف الشاعرُ مبهوراً أمام نور وجه عشيقته . إنه وجهٌ وهَّاج ، ينبعث منه ضوءٌ باهر يمزِّق الظُّلمةَ المتفجرة في جَوْف الشاعر ، كما يمزِّق ظلامَ الليل الذي يَنشر أجنحته على المكان .
تضيءُ العشيقةُ ظلامَ الليل بنور وجهها. هذا النُّورُ المتدفق يَزرع في قلب العَتمة لمعاناً مضيئاً مدهِشاً، فتتلاشى العَتمة، ويتحول الليلُ إلى نهار. وكأن العشيقةَ مصباحُ راهبٍ مُتبتِّل ( منقطع عن الناس ) .
ولا تنحصر العشيقةُ في دائرة المشاعر والغرام . فبالإضافة إلى كَوْن العشيقة مَنبعاً للأحاسيس والعِشق ، فهي أيضاً مَنبع للنُّور الذي يُبدِّد الظلامَ ، ومَصدر للضوء الثاقب الذي يُنير العَتمة . وهذا الدَّوْرُ المركزي الذي تقوم به ، يُشبِه دَوْرَ مصباح الراهب المتفرِّغ للعبادة ، والمنقطع عن العالَم الخارجي . وهذا التشابه أو التشبيه مَرَدُّه إلى قوة مصباح الراهب ، حيث إنه يُضيئه أشد الإضاءة ليهتديَ به في متاهة الظلام ، ولكي يُرشِده عند الضلال والضياع في العَتمة . والمعنى العام أن نور وجه العشيقة يتفوق على العتمة ، ويَقهر ظلامَ الليل ويُبدِّده ، ويُنير الطريقَ ، تماماً كنُور مصباح الراهب الذي يَقوم بنفْس المهمة .
23_ طُول القامة :

إن طُول قامة المرأة صفةٌ محبَّبة عند الرجال ، فالطُّول دليلٌ واضح على حُسن الجسم، واعتدالِ الخَلْق، وقوةِ البُنية، وبهاءِ المَنظر . والمرأةُ الطويلة مرغوبةٌ ، وتَكون في مَوْضع المدح والإطراء ، أمَّا المرأةُ القصيرة فلا تَسْلم من الذَّم والانتقاص .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

إلى مِثلها يَرْنو الحليمُ صَبابـــةً إذا ما اسبَكَرَّتْ بينَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ

لقد صُبَّ عليها المديحُ صَبَّاً ، فهي امرأةٌ تستحق كل ثناء ومدح وتبجيل . وإلى مِثلها ينبغي أن يَنظر العاقلُ الحليمُ ، صاحبُ الفِكر الثاقب ، والمتمتِّعُ ببُعد النظر . فهي كَنْز ثمين لا ينبغي تركُه ، وامرأةٌ مميَّزة يجب التمسك بها ، فلا يمكن تعويضها ، ومن غير المعقول تجاهلها .
والعاقلُ يَرنو إليها صبابةً ، أي : يَنظر إليها بكُل حُب وحنين وشَوْق.ولن يَعرف قَدْرَ هذه المرأة إلا صاحبُ العقلِ العارفُ بصفات النساء، والخبيرُ بأحوالهن . أمَّا الجاهلُ فلن يعبأ بها لعدم معرفته بقيمتها السامية . والناسُ أعداءُ مَا يَجهلون .
فعلى الحليم أن يَنظر إليها بكل حُب ولهفة إذا ما اسبكرَّت، أي : إذا طالَ قَدُّها ، وامتدَّت قامتها . إذ إنها في تلك الحالة تبدو في أبهى صورة ، وأجمل مَنظر ، فامتدادُ قامتها يشتمل على محاسن جِسمها ، ويُبرِز جَمالَها ، ونقاطَ قوَّتها ، ويُلخِّص مفاتنها بشكل مكثَّف . والدِّرعُ هو قميصُ المرأة . والمِجْولُ ثوبٌ تلبسه الفتاة الصغيرة . والمقصود بالدِّرع في البيت الشِّعري هي لابسة الدِّرع ، أي التي أَدركت الحُلمَ . والمِجْول هي لابسة المِجول ، أي التي لم تُدرِك الحُلمَ . والمعنى أنها تمتاز بطُول القَامة وهي بَعْدُ لم تُدرِك الحُلمَ ، وقد ارتفعتْ عن سِن الفتيات الصغيرات .

24_ رسوخُ العِشق :

هناك عِشقٌ أبدي يَدوم مع الزمن ، ويَعيش مع مرور الوقت . وهناك عِشق مؤقَّت يتساقط مع مرور الزمن كأوراق الخريف ، ويَذهب أدراجَ الرياح كأن شيئاً لم يكن. وبالتأكيد، إن هناك عوامل كثيرة تحدِّد طبيعةَ العلاقةِ الغرامية، وتأثيرها في العناصر المحيطة ، وأثرها في عالَم الزمان والمكان . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

تَسَلَّتْ عَماياتُ الرجال عَن الصِّبا وليسَ فؤادي عن هواكِ بمُنْسَـلِ

يَعْقدُ الشاعرُ مقارنةً بَيْنه وبين باقي الرِّجال لِيُثْبِت عُلُوَّ كَعْبه ، ويُبرهِن على تفوقه عليهم في مجال العِشق والغرام ، وأنه يَفوقهم قَدْراً ومكانةً ، وأن عِشقه ثابتٌ على مَر الزمان بعكس باقي الرجال .
فقد تسلَّت عماياتُ الرِّجال عن الصِّبا، أي : خَرج الرجالُ من ظُلمات الصِّبا، وودَّعوا مغامراتهم الطائشة في تلك الفترة الزمنية ( الصِّبا ) التي تمتاز بالطيش والرعونة والتهور . لقد بَطُلت ضلالاتُ الرجال بعد مضيِّ صباهم ، وذَهبت سلوكياتهم المتهورة إلى غير رجعة بفِعْل تقدُّمهم في السِّن ، وازدياد وَعْيهم . واختفى جنونهم الجامح المستند إلى الغريزة الملتهبة ، والمشاعرِ المتأججة ، وصاروا يَحتكمون إلى عقولهم لا عواطفهم . وقد خَرجوا من مرحلة الصِّبا بكل ما فيها مِن مُرَاهَقَةٍ وحماسةٍ زائدة عن الحدِّ المعقول ، وحركاتٍ صبيانية غير محسوبة ، ودَخلوا في مرحلة الرجولة التي تتميز بالعقلانيةِ ، والاتزانِ ، ووضعِ الأمور في نِصابها الصحيح.أمَّا الشاعرُ العاشقُ فقد ظَلَّ تائهاً في عوالم عشيقته . وفؤادُه ( قلبُه ) لم يَخرج من هواها وحُبِّها . وقد ظَلَّ فؤادُه في ضلالة هواها، يَغرق أكثر فأكثر. لقد زالَ عِشقُ العشاق وانتهت مغامراتهم ، أمَّا عِشقه فثابتٌ على مَر الزمان ، لا يَزول ولا ينتهي .
25_ رفض النصيحة واللوم :

إذا سَيطرَ العِشقُ على الإنسان ، فإنه يُصبِح سجيناً في دائرة ضيقة ، لا يَقْدر على الخروج منها ، أو النظر أبعد منها . فالحبُّ أعمى ، كما أنه يُعمِي ويُصِم، أي يَجعل الإنسانَ لا يُبصِر عيوبَ محبوبته ، ولا يَسمع أيَّ نقدٍ لها . والأخطرُ من هذا رؤية أفعالها القبيحة أموراً حسنةً . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ألا رُبَّ خَصْمٍ فيكِ ألْوَى رَدَدْتُه نَصيحٍ على تَعذاله غيرِ مُؤْتَـلِ

يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ اعتماده لعشيقته لكي يُثبِت لها مقدارَ عِشقه . فهو غارقٌ في بحر حُبِّها إلى شَحمة أُذنيه، فلم يَعُد يُرسِل أو يَسْتقبل . وهو لا يَرى إلا صورتها، ولا يَسمع إلا صوتَها . ومن أجل البرهنة على هذه الحقيقة ، يُقدِّم لها دليلاً واضحاً، وهو وجود خَصم شديد الخصومة ( أَلْوَى ) كان ينصحه بكل إلحاح ، ويَلومه أشد اللوم على حُبِّه لعشيقته غير مُقصِّر ( غير مُؤْتَل )، فما كان من الشاعر إلا أن رَدَّه ، ولم يستمع لنُصحه أو لَوْمِه ( تَعذاله ) .
إنها شهادة براءة من كُلِّ ناصحٍ أو لائمٍ، يُحاول أن يَثْنِيَه عن عِشقها ، أو يُبعِده عنها. فهو يُحِبُّها رغم كلام الناصحين، ورغم لَوْم اللائمين . فلا يَردعه رادعٌ ، ولا ينزجر عن هواها بالعَذل أو النصح . وهذا برهان واضح على مقدار عِشقها ، وتغلغلِ حُبِّها في أجزاء قلبه .
والشاعرُ سعيدٌ بإخبارها عن مَبْلغ عِشقه لها. وقد بَلغَ حُبُّه إياها رُتبةً عالية ، وَوَصَلَ عِشقه إلى الغاية القُصوى التي لا يُوجَد بعدها شيء ، واستقرت علاقتُه الغرامية في ذِروة المشاعر الإنسانية . فلا تُوجد أيةُ وسيلةٍ قادرة على رَدْعه ، وكلُّ محاولاتِ الناصحين أو اللائمين ذَهبت هباءً منثوراً ، ولم تُجْدِ نفعاً .
26_ الرقص :

يُمثِّل الرقصُ اختزالاً لأُنوثة المرأة، وتكثيفاً لمفاتنها،وتتويجاً لقدرتها على الإغراء، وتجميعاً بؤرياً لكل فِتْنتها وجَمالها ودلالها . وفي نفْس الوقت ، يُجسِّد الرقصُ النظرةَ الدونيةَ للمرأة ، حيث يتم تأطير المرأة في زاوية الإغراء ومتعةِ الجسد والاستمتاع الغريزي الشهواني، فتتحول المرأةُ إلى شيء، مجرَّد شيء لمتعة الرجال، ونيل إعجابهم، واحتضان شهواتهم.إنها تقدِّم لحمَها الرخيصَ كسِلعة تجارية في فوضى البيع والشراء.
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فَذالتْ كما ذالتْ وَليدةُ مَجْلِسٍ تُرِي رَبَّها أذيالَ سَحْلٍ مُمَـدَّدِ

بدايةً ، ينبغي القولُ إن الشاعرَ يصف ناقته ، وقد شبَّهها بالراقصة . وما يهمُّنا في هذا السياق هو الصورةُ العامة المرسومة للراقصة. ولا يخفَى أن هذا العنصر ( الراقصة) قد أخذه الشاعرُ مِن بيئته العربية . فهو ليس عنصراً خيالياً ، وإنما هو عنصر واقعي مأخوذ من الواقع المحسوس المشاهَد بالعين المجرَّدة .
لقد تبخترت ( ذالت ) الناقةُ كما تتبختر جاريةٌ تَرقص أمام سَيِّدها ( رَبِّها ) . فوليدةُ المجلس ( الجارية الراقصة ) تتبختر أمام سَيِّدها ومالِكها، وتتكسَّر في مِشْيتها، وتحاول إبراز كل مواطن فِتنتها من أجل نيل رِضا سَيِّدها ، ولكي يَصل إلى الغاية القُصوى في الاستمتاع بها . إنها توظِّف حركاتِ جسدها المغرِي للسيطرة على حواسِّه، والاستحواذِ على مشاعره، والاستئثار بحبِّه وإعجابه. وبالتأكيد، إن الإغراءَ هو السلاح الفعَّال للمرأة ، وكلُّ امرأةٍ تَفقد قُدرتها على الإغراء ، إنما تَفقد جزءاً كبيراً من أُنوثتها ، فَتَشْعر بالحزن والاكتئاب ، وأنها كيانٌ هامشي غير مرغوب فيه.
وهذه الراقصةُ لم تَقنع بالتبختر، بل _ أيضاً _ أرادت الوصول إلى ذِروة المتعة والشهوة واللذة والإغراء ، فكانت حريصةً على أن تُرِي سَيِّدَها أذيالَ سَحْلٍ مُمَـدَّدِ. أي : تُرِيه ذَيلَ ثوبها الأبيض الطويل في رقصها . وذَيْلُ المرأة ما وَقَعَ على الأرض مِن ثوبها .
إنها حريصةٌ على الاعتناء بكل التفاصيل لزيادة حرارة الشَّبق ، وإشعال نار الرغبة والمتعة ، وعدم ترك أي شيء للصُّدفة . تتبختر ، وتُبرِز مفاتنها بشكل مثير للغريزة ، وتحرص على أن يرى سَيِّدُها ذَيلَ ثوب الرقص الحامل لمعاني الدلال والأنوثة والنعومة .

27_ الغِناء :

صوتُ المرأةِ هو التاريخُ المختصَر للأُنوثة ، والمخزونُ الإستراتيجي للعُذوبة . وكلُّ العشاق يَسْبحون في أصوات عشيقاتهم ، ويَسمعون رَجْعَ الصدى يتردد في دواخلهم . كما أن الأشخاص الذين يَحضرون مجالس اللهو والطرب التي تُحرِّكها الراقصاتُ والمغنِّياتُ، واقعون تحت سيطرة أصوات النساء ، تلك الأصوات الناعمة المعجونة بالتكسُّر والتغنُّج والرِّقة والألحان العذبة .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

نَدامايَ بِيضٌ كالنجومِ وَقَيْنَةٌ تَرُوحُ عَلينا بينَ بُرْدٍ وَمِجْسَدِ

يَمدحُ الشاعرُ نداماه ( جَمع نديم )، وهُم الذين يُرافقونه ويُشاربونه . فيصفهم بأنهم أحرار كِرام أبناء حرائر لا إماء . ألوانُهم براقة ووجوهُهم مشرقة كالنجوم . ولا رَيْبَ أن هذه الصفات تشير إلى أن هؤلاء الندامى مِن عائلات غنية وراقية ، لها وضعٌ اجتماعي مميَّز . وكثيرٌ من أبناء الأُسَر الغنية يَبحثون عن المتعة واللهو ، وهُم قادرون على دُخول كل أماكن الرقص والغِناء ، بسبب قوَّتهم المالية ، وقُدرتهم على الإنفاق والتبذير بلا عوائق . وبالطبع ، فالراقصاتِ والمغنِّيات في أماكن اللهو ، يُركِّزْنَ جهودَهنَّ على اصطياد الشباب الأغنياء المتمتعين بالصِّحة والحيوية والثراء .
وقَيْنةٌ ( جارية مغنِّية ) تأتيهم رواحاً ( فترة بعد الزوال ) في أبهى صورة ، وأجملِ مَنظر . حيث تَلبس بُرداً أو مَجْسداً ( وهو الثوب المصبوغ بالزعفران ) . إنها تعتني بمظهرها وملابسها ، فتحرص على الظهور في أجمل صورة لسرقة أعين الحضور ، والسيطرةِ على قلوبهم ، ودغدغةِ عواطفهم ، ونيلِ إعجابهم ومديحهم . وهي بذلك توظِّف نقاطَ قوَّتها ( فِتنة الأنوثة ، وإغراء الجسد ، وجَمال الملابس ) من أجل السيطرة على المشْهد ، وأَسْرِ الرجال ، والاستحواذِ على كل عناصر المكان ، فلا شيء يُفلِت من قبضتها الناعمة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

إذا نحنُ قُلنا أَسْمعينا انْبَرَتْ لنا على رِسْلِها مَطْرُوقَةً لم تَشَدَّدِ

لا يزال الشاعرُ في مناخ الغِناء المفعم بالأحاسيس والذكريات والهواجس . وهو حريصٌ على إبرازِ صُورة المغنِّية في شِعْره ، وإظهارِ تفاصيل مجلس اللهو والغِناء الذي يَجلس فيه برفقة نداماه الذين يُشارِكونه ويُشاربونه .
فإذا طَلبوا منها الغِناء، وقالوا لها : أَسْمعينا . أي : أَسْمعينا غِناءكِ ، لم تتردد ولم تتلعثم . وعلى الفَوْر تنبري لهم ، أي تَعرض لهم وتنطلق بالغِناء بلا عوائق . وهي _ أصلاً _ لا تَمْلك رفضَ طلب الزبائن، لأنها موجودة في هذا المكان لتحقيق رغباتهم، وتنفيذ أوامرهم. إذن، هي موظَّفة تقدِّم نفْسها كسِلعة استهلاكية في زاوية المتعة والاستمتاع ، استمتاعِ الزبائن بجسدها وصوتها مقابل المال ( أُجرتها ) .
وهذه المغنِّيةُ لها طقوس معيَّنة في الغِناء . فهي تُغنِّي على رِسْلها بلا عَجَلة ولا استعجال . وتمتازُ بالتمهُّل والتأني والهدوء . وهذا يُشير إلى استمتاعها بالغِناء ، والاستغراقِ في معاني الكلمات ، ودلالاتِ الألحان . إنها تَنحت غِناءها في ذاكرة المكان بكل تمهُّل، وتَحفر صوتَها في أذهان السامعين بكل سلاسة ورَوِيَّة. وبالإضافة إلى هذا ، فإن نَغمتها في الغِناء ضعيفة خافتة ( مطروقة ) لا تشدُّد فيها ولا صخب .
وهذه النغمةُ الضعيفة تنطلق من الأحاسيس المرهَفة للمغنِّية ، ورِقَّةِ مشاعرها ، وأحزانِها الكامنة في قلبها. وكلُّ المشاعر الرقيقة تنعكس على صوتها ، فتَخْفت النَّبرةُ ، وتَضْعف النغمةُ . وقَطْعاً ، هذا الضعفُ ذو تأثير عميق في نفوس السامعين ، ويَحمل دلالاتٍ رمزية نابعة من الحزن والألم والانكسار والرومانسية الحالمة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

إذا رَجَعَتْ في صَوْتِها خِلْتَ صَوْتَها تَجاوُبَ أَظآر على رُبَـــعٍ رَدِ

صوتُ المغنِّيةِ عالَمٌ من الأحاسيس والذكريات والآلام . فإذا طَربتْ في صوتها ، وردَّدتْ نغمتها ( رَجَعَتْ )، عَمَّ الحزنُ والألم، وتفشَّت الأحاسيسُ الدافئةُ، وانبعثت العواطفُ الجيَّاشة ، وانطلقَ الوجعُ الإنساني ، وتفجَّرت المعاناةُ في كل الاتجاهات .
وإذا انبعث صوتُ المغنِّيةِ الحاملُ لكل معاني الحزن والوجع ، حَسِبْتَ ( خِلْتَ ) صوتَها أصواتَ نُوقٍ ( تجاوب أظآر ) تصيح على هالك . والأظآرُ جمع ظائر ، وهي التي لها ولد . والرُّبَع من ولد الإبل مَن وُلد في أوَّل النتاج . والردى هو الهلاك .
وبالطبع ، فإن صوتَ النُّوق _ في هذه الحالة _ يكون قد بَلغ الغايةَ القُصوى في الحزن والتحزين. ولا توجد أحاسيس أكثر حزناً وألماً من أحاسيس لحظة الفِراق. فكيف إذا كان الفِراقُ أبدياً ( الموت ) ؟! . وصوتُ المغنِّيةِ الحزينُ يُشبِه صوتَ النُّوق في التحزين والتألم . فكلا الصوتَيْن حاملٌ لمعاني الألم والحسرة والوجع العميق والذكريات الحزينة والفراق الأبدي .
وقد يكون المقصودُ بالأظآر النساء ، والرُّبَع كناية عن ولد الإنسان . وعندئذ يكون صوتُ المغنِّيةِ الحزينُ كأصوات النساء النائحات على صبي هالك. لقد ظَهرَ صوتُ المغنِّية حاملاً لكل معاني الرِّقة والحزن . وكأنها تَنوح على صغيرٍ هالك .
وبشكل عام ، فالمشاعر الإنسانية في حالة الموت تكون حقيقيةً بعيدة عن المجاملة أو التَّصنع ، لأن الموتَ قادرٌ على إحياء المشاعر الدفينة ، وبعثِ الأحزان ، ونشرِ الآلام .

28_ التَّعري :

كان المجتمعُ الجاهلي غارقاً في الإباحية والشهوانية ، منساقاً وراء الغريزة الجنسية بلا ضوابط . وقد حَصر المرأةَ في دائرة المتعة المجرَّدة ، وأَدْخلها في عالَم السِّلع والبضاعة ، فأضحتْ جسداً للمتعة ، ولحماً رخيصاً للقادرين على الدفع .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

رَحيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منْها رَقيقةٌ بِجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَــرَّدِ

هذه المغنِّيةُ محصورةٌ في دائرة الشهوة، وخاضعةٌ لرغبات الزبائن ، فلا تَقْدر على رفض أوامرهم ، ولا تستطيع حمايةَ جسدها منهم . فوظيفتُها تحتِّم عليها أن تتحول إلى جسد شهواني لكي يَستمتع بها الرِّجال . وهي تتقاضى أُجرتها على هذا العمل .
إنها مُغنِّيةٌ واسعة الجيْبِ ، أي إن فتحة ثوبها من أعلى ( قِطاب الجيْب ) تمتاز بالرحابة والاتساع ، وبالتالي فإن صَدرها مكشوفٌ للندامى ( الزبائن الحاضرين في مجلس المتعة واللهو ). وهذا الفِعلُ ليس صُدفةً ، وإنما هو فِعل مقصود يستند إلى تخطيط مسبق ، فهي تَحرص على توسيع فتحة ثوبها، وذلك لإدخال الندامى أيديهم في جَيْبها لِلَمس صدرها ، ومُداعبةِ نَهْدَيْها . وهذه المتعةُ الناتجة عن اللمس تُلخِّص عملَ المغنِّية في هذا المكان ، وهذا ما يَجذب الزبائن إليه .
والمغنِّيةُ رقيقةٌ وناعمة على جَس ( لمس ) الندامى إيَّاها . وكأن أكفَّهم المارَّة على جِلْدها لم تزده إلا نعومةً ، أو أن جِلْدها لم يتأثر بأكف الندامى التي تَلْمسه ، فبقي ناعماً رقيقاً لا أثرَ للخشونة فيه . إنها امرأةٌ بَضَّةٌ ( تمتاز بنعومة البدن ورِقَّة الجِلد ) . وما يَعْرى مِن جسدها (المُتَجَرَّد ) ناعمُ اللحمِ في أقصى درجات الليونة ، ورقيق الجِلد لا أثر فيه للقَسْوة والخشونةِ ، وذو لونٍ مشرق يمتاز بالصفاء والبهاء . ولا رَيْبَ أن هذه المغنِّية المتعرِّية حريصةٌ أشد الحرص على الاعتناء بجسدها ، والاهتمامِ بمظهرها الخارجي . وهذا ليس مستغرباً ، لأن وظيفتها تَفرض عليها أن تكون في أجمل صورة، وأشهى مَنظر ، وذلك لكي تَجذب الندامى ، ويستمتعوا بها، فتزداد أرباحُ صاحب " نادي العُري / الملهى الليلي " ، وتحصل هي على أُجرتها ورضا الزبائن الهاربين من قسوة البيئة الصحراوية إلى نعومة الجسد الأُنثوي ، والفارِّين من رمال الصحراء إلى أعضاء النساء. وهكذا ، صار العُري والتَّعري أحدَ مصادر الدَّخل في المجتمع الجاهلي . وهذا الاقتصادُ قائمٌ على أكتاف المرأة ( الضَّحية / القاتلة ) التي تُقدِّم جسدَها سلعةً رخيصة لمن يَمْلكون المالَ .

29_ التَّمتع بالمرأة :

تستمر حفلةُ الاستمتاع بالمرأة روحياً ومادياً ، مع الاهتمام بتفاصيل المكان والظروفِ الجوية المحيطة به .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وتَقصيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعجِبٌ ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِ المُعَــــمَّدِ

الدَّجْنُ هو انتشار الغَيم في الجَو . وهذه الأجواءُ الرومانسية الحالمة هي التي تُخيِّم على مَشهد الاستمتاع بالحبيبة . فأقصر يوم الغيم بالتمتع ببهكنة ، وهي المرأة الجميلة الناعمة الممتلئة . وقد تَمَّ تحديدُ مكان الاستمتاع بهذه المرأة ، وهو تحت الخِباء المُعمَّد ( تحت البيت المرفوع بالأعمدة ) .
هذه المرأةُ الحسناءُ يستمتع بها الشاعرُ ضِمن مكانَيْن . المكانُ الأول هو فُسحةٌ سماوية ، حيث تنتشر الغيومُ في الأفق الرَّحب ، فَتَصْنع مَشْهداً عاطفياً حالماً، ومفعماً بالمشاعر والدفء الوجداني. وهذا الجَو العاطفيُّ يُعجِب الإنسانَ (الدَّجْنُ مُعجِبٌ )، ويَبْعث في نفْسه السعادة والنشوة. والمكانُ الثاني هو بُقعةٌ أرضية( تحت الخِباء المُعمَّد )، وكأن الحبيبَيْن يتحركان ضمن بُعْدَيْن ( مكان خارجي ومكان داخلي ) .
لقد تحوَّل الزمانُ إلى مكان. وغابَ الوقتُ، وحَلَّتْ مكانه المتعةُ الحِسِّية بالمرأة التي أَنْسَت الشاعرَ شعورَه بمرور الزمن . وقد تمَّ التركيزُ على " تقصير اليوم " لأن أوقات المتعة والطرب أفضل الأوقات ، ومِنها تنبعث المشاعرُ الجميلةُ ، والنشوةُ العارمةُ . ولا يخفَى أن الأوقات السعيدة تمر بسرعة هائلة كأن شيئاً لم يكن ، وأن لحظات الحُب والمتعة تَعبر مسرعةً ، فَتَذْهب لَذَّاتها ، وتبقى تبعاتها . وبالتأكيد ، كان الشاعرُ يَعرف أن لحظات السعادة تمر كلمحِ البصر ، فأرادَ أن يُقيِّدها ، ويُخلِّدها إلى الأبد . فذكرَ المكانَ الخارجي ( الفضاء الرَّحب ) ، والمكان الداخلي ( الخِباء المُعمَّد ) ليكونا شاهدَيْن على استمتاعه المؤقَّت ، ويقوما بأَسْرِ اللحظةِ الزمنية والإمساك بها بكل قوة . ومن هنا تَنبع القوةُ الشعورية للمكان ، وحضورُه العاصف في الذاكرة والواقعِ على حَدٍّ سَواء .
30_ الحنين إلى النساء :

يُجسِّد الحنينُ جميعَ الذكرياتِ الإنسانية المختبئة في زوايا الذاكرة السحيقة . وهذه الكُتلة الملتهبة ( الحنين ) تمر على القلب ، فتحرقه بلا هوادة ولا رحمة . وكلما غَرق الإنسانُ في الحنين ، اقتربَ من عوالم الخيال والحزن والوهم .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

تَبَصَّرْ خَليلي هَلْ ترى مِن ظَعائنٍ تحمَّلْنَ بالعَلياءِ مِن فَوْقِ جُرْثُـمِ

تحوَّل الشاعرُ _ مِن فَرْط الحنين والوَلَه _ إلى مريض بالوهم . إنه يَطلب من خليله ( صديقه ) أن يتبصَّر ويَنظر بدقة. انظرْ يا خليلي هل ترى نساءً مُرْتَحِلات ( ظعائن ) بالأرض العالية ( العلياء ) مِن فوق هذا الماء ( جُرْثم ) ؟ . دَقِّق النظرَ يا صديقي : هل ترى نساءً في هوادج على ظُهور الإبل ؟. إنها لحظات الرحيل القاتلة، والسَّفر بلا وداع ، ومغادرة المكان بكل ذِكرياته وأحلامه .
لقد وَقَعَ الشاعرُ أسيراً في قَبضة الوجد والهيام ، وسَقَطَت أعصابُه تحت ضغط الحنين الجارف ، وخضع قلبُه لسُلطة الحُبِّ العنيف ، فصارَ مريضاً بالوهم ، يَرى المستحيل واقعاً ملموساً، ويَعتبر الماضي جزءاً من الحاضر المُعاش. فقد مضى عشرون سنة على رحيل هؤلاء النساء ( الظعائن ) . ومن المستحيل أن يَراهنَّ خليلُه بعد مرور كل هذه السنوات .
سَقط البصرُ والبصيرة في قَبضة الحنين الحارق ، وانتصرَ الزمنُ على الذكريات. ولا يمكن للماضي أن يَعود . غابَ الماضي ، وخَلَّف في نَفْس الشاعر جُرحاً عميقاً، ولَوْعةً مشتعلة ، وأوهاماً متكاثرة . وهذه هي ضريبةُ الحنينِ القاسيةُ التي يَدفعها العشَّاق في كل العصور .
31_ جَمال النساء الحِسِّي :

يَغرقُ المُحِبُّون في تفاصيل النساء، حيث إن جَمالهن يُلهي القلب، ويُزيل الهموم، ويُقلِّل من وَطْأة الضغوطات الحياتية والاجتماعية .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وفيهِنَّ مَلْهىً لِلَّطِيفِ وَمَنْظَرٌ أنيقٌ لِعَينِ الناظرِ المُتَوَسِّـمِ

في هؤلاء النساء الجميلات مَلهىً ( مَوْضع لَهْو ) للإنسان اللطيف الذي يتمتع بالأناقة والمنظرِ الحسن. فعندما يَنظر إليهن يستمتع بجَمالهن المغرِي ، ويتلذذ بحُسنهن الفائق، فينسى همومَه، وتُزول مشكلاتُه ، وتختفي أزماته ، ويَغرق في اللهو والشهوة واللذة ، فينتقل إلى العَيش في عالَم آخر ، عالَمِ الخيال والأحلام والرومانسية .
وأيضاً ، في هؤلاء النساء مناظر تُعجِب عَينَ الناظر . ولكنْ ، ينبغي أن يَكون الناظرُ مُتوسِّماً حتى يستمتع بمناظر النساء اللواتي هُنَّ أَشْبه بلوحاتٍ فنية . والمتوسِّمُ هو الذي يتفرس في مفاتنهنَّ، ويُدقِّق النظرَ في محاسنهن ، ويَغرق في صفات جَمالهن. والشخصُ _ عندما يَمتلك هذه المهارة _ ، لا بد أن يَكتشف كلَّ نقاط حُسْنهن .

32_ الشوق إلى نساء القبيلة :

الشَّوْقُ نارٌ تأكلُ أجزاءَ القلبِ ، وتَحرق عِظامَ الصدر . وقودُها الذكرياتُ والأحلامُ النابعة من الماضي الجميل الذي رَحل إلى غير رَجْعة .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيِّ حِين تَحَمَّلوا فَتَكَنَّسوا قُطُناً تَصِرُّ خِيامُهــا

لقد تأجَّج الشوقُ في قلبه ، وتفجَّر الحنينُ في كيانه الرقيق . وسَببُ الشوقِ والحنين هو رحيل نساء القبيلة ( ظُعْن الحَي ) . شَاقَتْهُ ظُعْنُ الحَي ، هؤلاء النِّساءُ الراحلاتُ زَرَعْنَ في قلبه الشوقَ والحُرقةَ والحَسرةَ حِين تحمَّلوا ، أي : حِين دَخَلْنَ هوادجهنَّ جماعاتٍ بهدف الانتقال إلى مكان آخر . إنه الرحيلُ المؤلِم ، وهجرةُ الذكريات ، ونسيانُ أحلامِ الماضي العَذبةِ . وكأن دُخولهنَّ الهوادج بمثابة عملية إسدال السِّتار على الأعمار الجميلة التي مَرَّتْ كلمح البصر. وقد أثَّر هذا المشْهدُ الجارحُ ( دُخول النساء الهوادج بقصد الرحيل ) في نَفْس الشاعر ، وخلَّف في مشاعره لَوْعةً حارقةً ، وحَسرةً قاتلةً . فكان المشْهدُ صدمةً حقيقية ، وقفَ أمامها مشدوهاً وعاجزاً ، لا يَمْلك إلا النظر والتألم ومراقَبة المنْظر المحزِن .
لقد ارتحلنَ ، ودَخَلْنَ في الكِناس ( تَكَنَّسوا ) . والكِناسُ هو المكان الذي يأوي إليه الوَحشُ من الظِّباء والبقر، ترتاح فيه من شِدة الحرارة . فهوادجُ النساء بمنزلة الكِناس للوحش . هَجرت النساءُ الأحلامَ القديمةَ ، وهَاجَرْنَ من المكان جماعاتٍ في حال صرير خيامهن المحمولة ، أو دَخلنَ هَوادج جُلِّلَتْ بالقُطن .
تَصِرُّ الخِيامُ،أي تُخرِج صوتاً.وهذا الصوتُ مختلط بالأحلام والمشاعر المتضاربة. والهوادجُ غُطِّيت بثياب القُطن. مما يدل على المكانة الاجتماعية الرفيعة للنساء ، لأن ثيابَ القُطن ثيابٌ فاخرة ، لا يَقْدر على شرائها إلا الأغنياء .

33_ صعوبة الوصول إلى العشيقة :

في أحيان كثيرة يَكون الوصولُ إلى العشيقة أمراً شديد الصعوبة ، وذلك بسبب وجود مشكلات زمنية أو مكانية . وبالتأكيد ، إن هذه الصعوبة تَزرع في نَفْس العاشق ألماً متشظياً ، وحزناً عميقاً ، وحسرةً متفجرةً .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

مُرِّيَّةٌ حَلَّتْ بِفَيْدَ وَجــاوَرَتْ أَهْلَ الحِجازِ فأينَ مِنكَ مَرَامُها

هذه العشيقةُ مِن قبيلة مُرَّة ( مُرِّية ) ، وقد حَلَّت وأقامت ببلدة ( فَيْد ) ، وجَاورت أهلَ الحِجاز. وذِكرُ هذه التفاصيل يُشير إلى سيطرة صورة العشيقة على ذِهن الشاعر، واهتمامه البالغ بجذورها وسكناتها وحركاتها. ومن الواضح أنه يُتابِعها أو يُتابِع أخبارَها بشكل دقيق . مما يدل على أنه مشغول بها ، وخاضعٌ لعِشقها ، وغير قادر على إخراجها من ذاكرته. إنها تَحُل بِفَيْد في بعض الأوقات ، وتجاور أهلَ الحِجاز في فصل الربيع وأيام الإنتاج . وذلك لأن المسافة بين فَيْد والحِجاز طويلة ، فلا يمكن للمقيم بِفَيْد أن يكون مجاوراً أهل الحِجاز .
يُلاحِق الشاعرُ طَيْفَ عشيقته من مكان إلى آخر، ويتتبَّع خطواتِها. وهو يَعرف الأماكنَ التي تتردد عليها ، ويَعرف كذلك أوقات الزيارة والإقامة . وقد ابتعدتْ عن بلاده ، وصارت المسافةُ بين مكان العشيقة وبلاد الشاعر شاسعةً للغاية ، فكيفَ يَصل إليها وبينهما مراحل جغرافية عديدة ؟ . كيفَ يَطْلبها وقد ابتعدت الديارُ وازدادت الحواجزُ الماديةُ بينهما ؟ . وبشكل عام ، إن البُعد الجغرافي بين العاشقَيْن يُؤثِّر سلباً على العلاقة الغرامية . ومهما كان العِشقُ راسخاً فلا بد أن يَضعف إذا ابتعدت الديارُ ومرَّت الأيامُ . فالبعيدُ عن العَيْن بعيدٌ عن القلب . والزمنُ أقوى من الذكريات . وطَبْعاً ، هناك حالات عِشق خاصة ونادرة ، والنادرُ لا حُكم له .
إن بُعْدَ المسافة بين العاشقَيْن هو الكابوس الذي يُلاحق العلاقةَ الغراميةَ ، ويُهدِّد وجودَها . فالبُعدُ المكاني تهديدٌ حقيقي للقلوب العاشقة .
يقولُ الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :

كَيْفَ المزارُ وقَد تَربَّعَ أَهْلُها بعُنَيْزَتَينِ وأهلُنا بالغَيْلــمِ

إنها المعاناة مِن بُعد ديارِ العشيقة . لقد نَأَت الديارُ ، وابتعدت الذكرياتُ ، وغابت الوجوهُ. يتساءل الشاعر بحسرة : كيف يمكن أن أَزورَها وقد أقام أهلُها في فترة الربيع بعُنَيْزَتَين ( مَوْضعان ) وأهلُنا بمنطقة الغَيْلم ؟! . والتَّربعُ هو الإقامة زمن الربيع . وسؤالُ الشاعرِ يدل على العجزِ التام ، وقِلة الحِيلة ، وشدَّةِ نار العِشق المتأججة في القلب . لقد سَيْطرت اللوْعةُ على الشاعر ، فبَيْنه وبين عشيقته مسافةٌ بعيدة ، ولا يمكن الوصول إليها إلا بمشقة هائلة بسبب بُعد المكان . فكيفَ يتأتى له زيارتها وبَيْنهما مسافة طويلة وشاقة ؟!. سيظل هذا السؤالُ الحارقُ سابحاً في الفضاء بلا إجابة.

34_ الوِصال والقطيعة :

إن الوِصال والقطيعة مفردتان ثابتتان في قاموس العلاقات الغرامية . وهذا أمرٌ طبيعي، لأن الذوات البشرية متغيرة، والقلوب متقلِّبة، مما يؤدي إلى انقلابات جذرية في العلاقات الإنسانية _ عموماً _ ، والعلاقاتِ الغرامية _ خصوصاً _ . وفي كثيرٍ من الأحيان ، تكون هذه الانقلاباتُ حادةً للغاية ، فتنتقل العلاقةُ من النقيض إلى النقيض ، فقد يتحول الحبُّ إلى كراهية ، أو العكس . وقد يتحول الوِصال إلى قطيعة، أو العكس . وهذه التحولات المصيرية نابعة من تحولات القلوب. وقد سُمِّيَ القلبُ قلباً من التقلب والتغيُّر .

يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

أوَلَم تَكُن تدري نَوَارُ بأنني وَصَّالُ عَقْدِ حَبائلٍ جَذَّامُها

أوَلَم تكن تَعْلم نَوَار ( عشيقة الشاعر ) بأنني وصَّال عَقْد العهودِ والمحبةِ وقَطَّاعها ( جَذَّامها ) . والمقصودُ بالحبائل هو العهود والمودَّات .
وهذا البَيْتُ يشتمل على معاني الوعيد والتهديد والاستغناء ، ولكنْ بشكل ضمني. فالشاعرُ يَظهر في أقوى حالاته، مالِكاً قلبَه،ومسيطراً على حواسِّه، ومتحرراً من جاذبية عناصر الغَرام. وكلامُه يَدل على ثقته العالية بنفْسه ، فهو يقول إنه يَصل من يَستحق الصلةَ، ويَقطع من يَستحق القطيعةَ . وهذا الكلامُ يثير تساؤلاتٍ عديدة لأنه يأتي في سياق مخاطبة العشيقة. وعادةُ الشعراء عندما يُخاطبون عشيقاتهم أن يتذلَّلوا، ويَظهروا في ثياب الانكسار، فيَطلبوا الرحمةَ والشفقةَ ، ويَستجدوا الوِصالَ وعدم القطيعة . أمَّا الشاعرُ في هذا المَقام فَيَظهر قوياً للغاية ، ومُتحكِّماً بعواطفه بشكل كامل. وهو يُعلِن _ بكل صراحة_ أنه لن يَمنح ثقتَه إلا لمن يستحقها. وبعبارة أخرى، سَيبني منظومةَ الوِصال والقطيعة على أساس عقلاني لا عاطفي .

35_ معاناة البِعاد :

مهما كان العاشقُ قوياً ورابطَ الجأش ، فلا بد أن يتأثر بالبِعاد والفِراق . فالبُعد الجغرافي يشقُّ القلبَ بصورة وحشية ، ويُورِث في النَّفْس حسرةً عميقة .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

قِفي قَبْلَ التَّفرُّقِ يا ظَعينا نُخَبِّرْكِ اليقينَ وتُخْبِرينا
يَطلبُ الشاعرُ بكل انكسار ولهفة من عشيقته الظاعنة أن توقفَ مَطِيَّتها ( الدابة التي تَركب عليها ) . والظاعنةُ هي المرأة في الهوْدج ، والتي قَرَّرت الرحيلَ .
وسَببُ هذا الطلبِ النابعِ من قلب مكسور وأحاسيس ممزَّقة، هو تبادل الأخبار التي تُزيل الهمومَ وتُطفِئ نارَ العِشقِ الملتهبةَ . يريد أن يُخبِّرها بما قاسى بعدها ، وكَم عانَى جرَّاء ابتعادها عن عالَمه . وفي نفْس الوقت ، يريد أن تُخبِره بما لاقت بعده .
والإنسانُ حينما يتكلم ، ويُخرِج كلَّ المشاعر التي تعتمل في داخله ، سَيَشْعر _ لا محالة _ براحةٍ ما بعدها راحة . والشاعرُ يَريد محادثةَ عشيقته لإطفاء اللهيب الذي يأكل أضلاعَه ، وإخراج النار التي تَحرق جَوْفَه. وأيضاً ، يُريد الاطمئنانَ على أحوال عشيقته لكي يرتاح قلبُه ، وتهدأ أعصابُه ، ويَقتل الوساوسَ والأفكارَ السَّيئة.

36_ الخوف من الخيانة :

إن الخيانةَ تُفسِد العلاقةَ الغرامية كما يُفسِد الخَلُّ العسلَ . وكلُّ عاشقٍ لا بد أن تهاجمه هواجسُ الخوف من الخيانة مهما كان واثقاً بعشيقته . وذلك لأن حِرصه الشديد على عشيقته يَحشره في زاوية الخوف والوساوس. وبسبب شدة تمسُّكه بها، يَشعر بالرُّعب من فكرة الابتعاد عنه ، أو خيانته ، أو البحث عن عشيق آخر . وبالطبع ، إن الذي يَملك كنزاً ثميناً لا بد أن تهاجمه فكرة اللصوص ليلاً نهاراً . أمَّا الذي لا يَملك شيئاً فهو متحرر تماماً من هواجس السرقة ، وفكرةِ اللصوص ، فليس ما لَدَيْه ما يَخسره .
والعاشقُ يَعتبر عشيقته كنزاً ثميناً ، لذلك يَحرص عليه بكل ما أُوتيَ من قوة ، ويخشى أن يَخسره ، وهذا الخوفُ يَخلقُ الوساوسَ القاتلةَ والخواطرَ القبيحة . ومَن خافَ مِن شيء سوف يَجده ماثلاً أمامه، يُطارده في كل زمان ومكان مثل الكابوس.
أمَّا غيرُ العاشق فهو مرتاح ومتحرر من الشكوك وأفكار الخيانة، ولا يَشعر بأي نوع من القلق، فليس لَدَيْه كنزٌ يخاف عليه ، وليس لَدَيْه ما يَخسره . وأفضلُ العِصمة ألا تَجِد . فعدمُ وجودِ عشيقة سَيَعْصم الشخصَ من القلق ، والهواجس المَرَضية ، والوساوس القَهرية .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

قِفي نسأَلْكِ هَل أَحْدَثْتِ صَرْماً لِوَشْكِ البَيْنِ أم خُنتِ الأمينـا

يَطلبُ من عشيقته بكل تذلُّل أن تُوقِف مَطِيَّتها لكي يتمكن من محادثتها . يُريد أن يسألها : هَل أحدثتِ صَرْماً ( قطيعةً ) لسرعة الفِراق ( لِوَشْكِ البَيْن ) أم هل خُنتِ عشيقكِ الأمين الذي تُؤْمَن خِيانته ( لا يمكن أن يَخون ) ؟ .
والإجابةُ عن هذا السؤال المصيري كفيلةٌ بإطفاء النار المتأججة في قلب الشاعر. إنه حريصٌ كلَّ الحِرص على الاطمئنان على تفاصيل العلاقة الغرامية ، وملابساتِ الفِراق الصادم . والسؤالُ يَعكس مدى القلق الذي يتلاعب بالشاعر ، فهل عشيقته أحدثت قطيعةً بسبب سرعة الفراق الذي جاء مفاجئاً وصاعقاً بلا مقدِّمات ولا وداع؟. أم أن عشيقته خانتْهُ وأدارت له ظَهرَها ونَسِيَتْ عهدَ المودة بينهما ؟ . وما يَبعث على الأسى والقلق أن الشاعر لم يَتَلَقَّ أيَّةَ إجابة ، وبالتالي سيظل يَغرق في مستنقع وساوسه دون وجود طَوْق نجاة .
وسيبقى سؤاله تائهاً في الفضاء بلا إجابة ، متأرجحاً بين الصوت والصدى . إنه يسأل نفْسه بكل حُرقة : هل دَعَتْكِ سُرعةُ الفراق إلى قَطع العلاقة الغرامية أَمْ إلى خيانة مودة الذي يَحفظ ذِكراكِ ولا يَخونكِ أبداً ؟.


37_ ثدي المرأة :

يَملك ثدي المرأة حضوراً أساسياً في أذهان النساء والرجال على حَدٍّ سَواء . فهو العنوانُ الرئيسي للمرأة ، ورمزُ الأنوثة ، ومركزُ الشهوة الظاهر . ونهودُ الثدي صفة مرغوب فيها ، لأنها تدل على كمال الأنوثة وحيويتها . وإننا لنجد كثيراً من الشعراء قد وصفوا الثدي بأجمل الكلمات ، وهذا يدل على امتداد الغريزة والشبق في أبجدية الشِّعر .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وثَدْياً مِثْلَ حُقِّ العَاجِ رَخْصاً حَصاناً مِن أَكُفِّ اللامِسينا

تخلى الشاعرُ عن الأحاسيس الحالمة المجرَّدة ، وتوغَّل في الناحية المادية الحسِّية . إنه يَصِف ثدي عشيقته . هذه الكتلةُ اللحميةُ المستديرة التي تَنبع منها براكينُ الفِتنة والشهوة ، قد سَيطرت على حَواس الشاعر ، فأصبح أسيراً لها ، ودائراً في عوالمها .
تُريكَ ثدياً مِثلَ حُقِّ العاج . هذا الثدي كأنه منحوت من العاج ( ناب الفِيل ). مما يدل على أن ثَدْيها أملس ، ويمتاز بالبياض والاستدارة . كما أنه رَخْص ( لَيِّن ).
ورغمَ كل هذا فإن الشاعر يصف عشيقته بأنه حَصان( مُحصَنة عفيفة ) مَحْمِيَّة مِن أكف مَن يَلْمسها. ومِن الواضح أن نَظرَ الشاعر مُركَّزٌ على صَدْرها . وبسبب تدقيق النظر استطاع اكتشاف صفاتِ ثَدْيها ، فهو أملس وأبيض ومستدير . وَصِفَتَا الملاسة والبياض تشيران _ بصورة جَلِيَّة _ إلى أن صدرها مكشوف . فلا يمكن معرفة هاتَيْن الصِّفتَيْن إلا إذا كان الثدي _ أو جزءٌ منه _ ظاهراً أمام العَيْن . في حين أن صفة الاستدارة يمكن إدراكها سواءٌ كان الصدرُ مكشوفاً أو مُغطَّى . وهذا الإدراك نسبي ، وخاضع لطبيعة الثوب الذي ترتديه المرأة . ويَبدو أن العشيقة لا تمانع من كشف صدرها ، ولكنها ضد فكرة اللمس ، وتَمنع الرجالَ أن يَلمسوها .
38_ الطُّول وثقل الأرداف :

لا شَكَّ أن المرأة الممتلئة أكثر جَمالاً من المرأة النحيفة ، فالامتلاءُ مُؤشِّر على الصِّحة والعافية والحيوية، أمَّا النحافة فصفةٌ مقترنة بالمرض وسوء التغذية والضَّعف.
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وَمَتْنَيْ لَدْنَةٍ سَمَقَتْ وَطَالَتْ رَوَادِفُها تَنوءُ بما وَلِينــا

هذا وصفُ جِسم العشيقة الذي أَذهلَ الشاعرَ ، وسيطرَ على حواسِّه . فهي طويلةٌ لَدْنة ( لَيِّنة ) ، ذات بُنية جسمانية متماسكة ولَيِّنة في آنٍ معاً . والمقصود بالمتْنَيْن ظَهْرها. قامتها سامقةٌ ( طويلة ) تمتاز بالنعومة واللين، بلا خشونة ولا قَسْوة. والروادفُ هي الأعجاز ، والرَّادفتان هما فَرْعا الأليتَيْن .
تُريكَ هذه المرأةُ مَتْنَي قامة طويلة لَيِّنة. وطُولُها الفارعُ يَعكسُ جَمالها وأُنوثتها . لقد سَمقتْ قامتها ( طَالتْ ) ، فصارتْ محطَّ الأنظار ، تَجذب الانتباهَ إليها . وهذا الطُّول الناعم الليِّن هو مَجْمع المحاسن والمفاتن ، ومَخْزن الأنوثة والحيوية .
وينتقلُ الوصفُ إلى الروادف. فهذه العشيقةُ الممتلئة في أعلى درجات الصِّحة والعافية. روادفُها تمتاز بكثرة اللحم، فتثقل مع ما يَقرب منها ( تنوء بما وَلينا ) . وبعبارة أُخرى ، إن عجيزتها ( مؤخرتها ) ضخمةٌ وثقيلة بسبب كثرة اللحم فيها .
لقد وصفَها بطُول القامة وثقل الأرداف . وبالطبع ، فهاتان الصفتان يُحبُّهما الشاعرُ في عشيقته ، بدليل أنه قد سَلَّط الضوءَ عليهما ، ومدحهما بشكل واضح . وفي هذا إشارةٌ باهرة إلى أنه كان يُركِّز النظرَ على جسدها ، ويَفحص كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في جِسمها . وبشكل عام ، تمتاز منطقةُ الحوْض لدى المرأة بالاتساع وقوةِ العِظام ، وذلك لأنها مختصة بالحمل ، والولادة ، وحماية الأجنَّة في الرَّحم .
39_ الوِرك والخاصرة :

يَغرقُ الشاعرُ في وصف تفاصيل جسد عشيقته . وبالطبع ، فهذا الوصفُ نابعٌ من الهيام والعِشق والإعجاب . وهو يَصُبُّ المديحَ على أعضائها صَبَّاً .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وَمَأكمةً يَضيقُ البابُ عَنْهـا وَكَشْحاً قَدْ جُنِنْتُ بهِ جُنونا

هذه العشيقةُ ممتلئة اللحم ذات جِسم مفعم بقوةِ الأنوثة . فهي تُريكَ وِركاً يَضيق الباب عنها بسبب ضخامتها ، وامتلائها باللحم . والمأكمةُ هي رأس الوِرك .
كما أنها تُريكَ كَشْحاً( خاصرةً )، يمتاز بالجَمال المذهِل، وقد ذَهب بعقل الشاعر لِحُسْنه، فَجُنَّ به جُنوناً. ولا شَكَّ أن الشاعرَ يَسْبح في لحم عشيقته الوافر ، ويَغوص في تفاصيل أعضائها ، بحيث صارَ عاجزاً عن التفكير بغير مقاطع جِسمها المغرِي.

40_ الساقان والخلاخيل :

سَاقا المرأةِ هما الرَّكيزتان اللتان تَحْملان الجِسمَ كُلَّه، وتَنهضان بالجسد الأُنثوي المفْعم بالأماكن الحسَّاسة ، ومواطنِ الشَّهوة ، ومنابعِ الفِتنة . وإذا كانت السَّاقان تتمتعان بالجَمالِ والقوةِ والامتلاءِ، فهذا دليلٌ واضح على جَمال الجسد الأُنثوي بِرُمَّته، وتناسقِ الأعضاء . أمَّا الخَلاخيلُ ( جَمع خَلْخال ) ، فتُجسِّد فلسفةَ الإغراءِ السمعي في منظومة الأنوثة والدلال .
فالمرأةُ كانت تلبس الخلاخيل ليجذب صوتُها انتباهَ الرجال، فيلاحقونها بنظراتهم ، وتسيطر عليهم بأنوثتها وزِينتها الظاهرة . فالمرأةُ تُريد نَيْلَ إعجاب الرجال ، فتستخدم سلاحَ الإغراء الفعَّال لتحقيق هدفها. والمرأةُ _ في هذه الحالة_ تكون صائدةَ القلوب، وخلاخيلُها هي الطُّعم ، والرجالُ هُم الفرائس أو الضحايا .
وقد كانت المرأةُ في البيئة الجاهلية تَضع في رِجْلها خَلْخالاً ، فإذا مرَّت أمام الرجال ضَربت بِرِجْلها الأرض، فَيَسْمع الرجالُ صَوْتَه المغرِي . وبالطبع ، إن سَماعَ صوت الزِّينة أشد تحريكاً للشهوة من إظهار الزِّينة . لأنه في تلك الحالة ، يَسْبح الرجالُ في عوالم الهيام ، والصُّوَرِ الخيالية ، وفضاءاتِ الشَّهوة ، وأحلامِ الإغراء .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وَسَارِيَتَيْ بِلَنْطٍ أوْ رُخـام يَرِنُّ خَشاشُ حَلْيِهما رَنينا

يَصفُ سَاقَي عشيقته بأجمل الكلمات،فهما سَاريتان(عُمودان) مِن عاجٍ ( بِلَنْط ) أو رُخام. مما يدل على قوةِ ساقَيْها، وجَمالهما المذهِل ، ونعومتهما . فهما مصقولتان تمتازان بوفرة اللحم، والبَياض ، والملاسة . وما تشبيههما بالعاج أو الرخام إلا دليلٌ على البَياض والضخامة والحُسْن .
ولا يَقفُ الأمرُ عند الساقَيْن ، فأيضاً ، تَرِنُّ خلاخيلهما ( حَلْيِهما ) . فهذه الخلاخيلُ المغرِيةُ لها خَشْخشةٌ ( صَوْت / رنين ) . وهذا الرنينُ العذبُ يَنبعث من عالَم الإغراء والشهوة ، ويَقْرع قلوبَ السامعين بلا رحمة .

41_ الحزن لفراق العشيقة :

يُعتبَر الفِراقُ مأساةً حقيقية في عالَم العِشق والعشاق لأنه مَنْبع الأحزان والآلام. وابتعادُ العاشقَيْن عن بعضهما البعض بمثابة قَتلهما . لذلك كان الفِراقُ هو الموتَ في الحياة، الذي يُخرج المشاعرَ الدفينةَ، ويُهيِّج الأحاسيسَ الدافئة، ويَحرق الأعصابَ.
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

فما وَجَدتْ كَوَجْدي أُمُّ سَقْبٍ أَضَلَّتْهُ فَرَجَّعتِ الحنينــــا

يَغْرقُ الشاعرُ في بحر الأحزان العميق وحيداً . لا أَحدٌ يُواسيه ، ولا أَحدٌ يُخفِّف عنه . لقد تفوَّق حُزنُه على حُزن ناقةٍ ( أُم سَقْب ) أضلَّت وَلدَها فَردَّدت الصوتَ المتوجعَ ( الحنين ) . يقولُ: فما حَزنتْ ( وَجدتْ ) كحُزني ناقةٌ أضاعتْ وَلدها فرَجَّعت الحنينَ، أي: ردَّدت الصوتَ الجريحَ المتألِّمَ جرَّاء فَقْدها لولدها . والمقصودُ أن حُزنه لفراق عشيقته أعظم من حُزن هذه الناقة الواله الثكلى التي فَقدت ولدَها، فصارت تُردِّد الصوتَ المتوجِّع .
ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

ولا شَمْطاءُ لم يَتْرُكْ شقاها لها مِن تِسْعةٍ إلا جَنينــا

ما زالَ الشاعرُ في مناخ الحُزن والألم بسبب فِراق العشيقة . وهذه المرة ، تفوَّق حُزنُه على حُزن العجوز الثكلى التي فَقدت أبناءها ، ورَأَت مَوْتَهم بأُم عَيْنيها .
يقولُ : ولا حَزنتْ كحُزني عجوز ( شمطاء ) ، والشمطُ بياضُ الشَّعر ، لم يَترك شقاؤها لها مِن تِسعة إلا مدفوناً في قبره ( جَنينا ) . لقد مات أبناؤها كلهم ودُفنوا . وهو يَقصد أن حُزنه لفراق عشيقته أكبر من حُزن العجوز التي فَقدت تسعة أبناء ، ورأتْهُم يَتساقطون واحداً تِلْوَ الآخر.فهذه المرأةُ الثَّكلى التي خَسرت فلذاتِ كبدها، كلُّ أحزانها تظل دُون حُزن الشاعر عند فِراق عشيقته الغالية .
ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :

إنْ كُنتِ أَزْمعتِ الفِراقَ فإنما زُمَّت رِكابُكم بلَيْلٍ مُظْلِـمِ

سيظل الفِراقُ جُرحاً عميقاً في النَّفْس العاشقةِ، لأنه هَدمٌ لتاريخ المودة ، وتحطيم للذكرياتِ الجميلة ، وتمزيقٌ للقلوب الدافئة .
يُخاطبُ الشاعرُ عشيقته بكل ألم وانكسار : إن كُنتِ عَزمتِ على الفِراق ، وقرَّرتِ الرحيلَ بصورة نهائية لا رَجْعة فيها ، فإني قد شَعرتُ أنكم شَدَدْتُم رِحالَكم لَيْلاً . والرِّكابُ هي الإبل ، وزَمُّها يدل على تجهيزها للرحيل .
تتفجرُ اللوْعةُ في كلام الشاعر. لقد عَرَفَ بموضوع الرحيل من تِلقاء نفْسه ، وأدركَ أن عشيقته الغالية قد أَزْمَعت الفِراقَ ، أي : وَطَّنَت نَفْسَها على الفراق بشكل نهائي وحاسم. إنه قرارٌ مفاجِئ جاءَ بَغتةً بلا مقدِّمات. وقد تفاجأ الشاعرُ بالموضوع ، فلم يُخبِره أحد بالأمر، بل اكتشفه بنفْسه. إنه قرارٌ مصيري مستند إلى تخطيطٍ مُسْبق ، وإصرارٍ راسخ . لقد أَخْفَت هذه المرأةُ نبأَ رَحيلها عن عاشقها ، ولم تُظهِر عَزْمَها على الفِراق . لكنَّ الشاعرَ العاشقَ اكتشفَ الحقيقةَ المرَّةَ بنفْسه ، والتي وَقعت على رأسه كالصاعقة ، وعَلِمَ أنهم قد شَدُّوا رِحالهم بليلٍ مُظْلم لِيُخْفوا أمرَ رَحيلهم ، ولكي يَرحلوا بصمت تحت جُنح الظلام الجارح .
ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

آذَنَتْنا ببَيْنِها أسمــاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ

تختلفُ هذه الحالة عن الحالة السابقة . فالعشيقةُ هنا أَخْبرت عاشقَها بقرار الرحيل لِكَيْلا يتفاجأ . لقد أَعْلَمَتْهُ ( آذَنَتْهُ ) بالبَيْن ( الفِراق ) لِكَيْلا يُصدَم فيَفْقد أعصابه وينهار بصورة قاصمة . فهذا الخبرُ القاسي يتطلب تحضيراً مُسْبقاً ، وتمهيداً واضحاً ، واستعداداً نَفْسياً وجَسدياً . يقولُ : أَعْلَمَتْنا ( أسماء ) بعَزْمها على فِراقنا .
إنه الفِراقُ الحاسم ، والقطيعةُ الأبدية ، ونهايةُ المغامَرة العاطفية . فقد وَصلت قصةُ الحب إلى طريق مسدود ، وآنَ للطرفَيْن أن يَبتعدا عن بعضهما البعض . وبالطبع ، لكل بداية نهاية . وهذه النهاية جاءت جارحةً ودراميةً .
وعلى الرغم من قرار العشيقة المصيري والقطعي ، والذي جَرحَ قلبَ الشاعرِ ، وأَوْرثه آلاماً وأحزاناً لا حَصْر لها ، إلا أنه لا يَزال باقياً على عهد المودة ، وحافظاً للعِشق القديم . فلم يُعاتِب العشيقةَ التي تَرَكَتْهُ ، ولم يُقرِّعها ، ولم يَضع فيه عُيوباً ، ولم يَقُل لها سأجدُ أفضل منكِ. وإنما مَدَحها بأنها امرأة لطيفة وناعمة وخفيفة الظِّل .
يقول في عجز البيت : رُبَّ مُقيمٍ ( ثاوٍ ) تُمَلُّ إقامته . والثَّوَاءُ هو الإقامة . وبالطبع ، لم تكنْ ( أسماء ) منهم . حتى لو طالت إقامتها ، لا يمكن أن يَمَلَّ منها الشاعرُ لأنها امرأة رائعة اسْتَوْلَت على مشاعره بقلبها الدافئ ، وعذوبةِ رُوحها ، وأُنوثتها الرقيقة البعيدة عن التوحش والخشونة. وعندما تكونُ المرأةُ بهذه المواصفات النادرة ، فلا يمكن لعاشقها أن يملَّ مِنها ، أو يتمنى فِراقها ، أو يَسأم مِن رؤيتها .

42_ تذكُّر الهوى عند الرحيل :

لقد هيَّج الرحيلُ ذكرياتِ الشاعر، وزرعَ الجمرَ في ذاكرته. فتذكَّرَ أيامَ الصِّبا، والأحلامَ الغابرةَ ، والحُبَّ القديمَ . يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

تذكَّرتُ الصِّبا واشْتَقْتُ لَمَّا رأيتُ حُمُولَها أُصُلاً حُدِينا

تذكرتُ الهوى والمودَّةَ ، وسيطرَ عليَّ الحزنُ والحنينُ ، واشتقتُ إلى العشيقة ، لَمَّا رأيتُ إِبِلَها سِيقت عَشِيَّاً . والأُصُل جمع أصيل ، والأصيلُ هو العَشِيُّ ، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس . و " حُدِينا " أي سِيقت . والحُداءُ نوعٌ من الغِناء تُساق به الإبل ، فتُسرِع في المشي .
هَاجت الذكرياتُ في نَفْسِ الشاعر ، واشتعلت الأحلامُ في صَدره ، وغرقَ في الخيالاتِ السحيقة ، فصارَ أسيراً للماضي الذي لا يَعود . لقد كان المشْهدُ الحزينُ الذي رآه أمامه باعثاً على الحزن والألم والتذكُّر . رأى الحُمول ( الإبل ) قد سِيقت في وقت الأصيل ( العَشِيِّ ) . إنه وقتُ رَحيل العشيقة . وما إن رأى الشاعرُ هذا المنْظرَ المؤلم حتى عادَ بالذاكرة إلى أيام الهوى والعِشق ، وتذكَّرَ وجهَ عشيقته التي سَتَرْحل إلى الأبد .

43_ إقامة العشيقة في أرض الأعداء :

ابتعدت العشيقةُ عن عالَم الشاعر ، فأضحى الشاعرُ محصوراً في مناخات الحَيْرة والقلق. بَيْنهما سُورٌ عالٍ من المشاعر المحترقة. لقد حلَّت العشيقةُ في أرض الأعداء ، فصارَ صعباً على الشاعر أن يَظفر بها . يقولُ الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :

حَلَّت بأرضِ الزَّائرين فأصبحتْ عَسِراً عليَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْـرَمِ

نَزلت العشيقةُ بأرض الأعداء( الزائرين ). إنهم شَديدو العداوة، وكأن أصواتهم زَئيرٌ.وما تَشبيه توعُّدهم وتهدُّدهم بزئير الأسد إلا مؤشرٌ واضحٌ على شِدة عداوتهم، وتربُّصهم بالشاعر ، وتعقُّد الصراع بين الطرفَيْن . فلا فرصة للحلول الوَسط ، ولا فرصة لإنهاء النزاع . وهذا الأمرُ ينعكس سلباً على العلاقة الغرامية بين الشاعر وعشيقته .
لقد استقرَّتْ في أرض الأعداء ، وأيةُ محاولة للوصول إليها قد تُكلِّف الشاعرَ حياته ، وتتسبَّب في حرب طاحنة . فكلُّ طَرفٍ يُضمِر العداوةَ للطرف الآخر، ويتربص به . وهذه الأجواءُ الملبَّدةُ بالحقد والكراهية ، والعابقةُ برائحة الدم، والممزوجةُ بمذاق الحرب والقتال ، تَخنق حالةَ العِشق ، وقد تُنهيها بشكل كامل .
وفي هذا المناخ المسموم ، يصبح من العسير رؤية العشيقة أو الالتقاء به . فهي في حِصْنٍ حَصين ، تُقيم في منطقة مزروعة بالمخاطر، ومُسيَّجة برائحة القتل والقتال.
وقد عجز الشاعرُ عن تخطِّي هذه العقبة الكأداء، ولم يجد أيَّ حَل لهذه المعضلة ، فاعترفَ بعَجْزه، واكتفى بالابتعاد عن هذا المناخ الملغوم، وغرقَ في الحَسرة والحَيرة. وأصعبُ شيء على العاشق أن يَشعر بالعجز ، وألا يَجد حِيلةً لرؤية عشيقته .

44_ العِشق رغم عداوة القبائل :

في أحيانٍ كثيرة يَكون العِشقُ محاطاً بالكراهية والدِّماء ، فَيَنْبت في مناخ الخوف والألم والأضداد . وهذه الظروفُ المأساوية تُعقِّد العلاقةَ الغرامية ، وتُجبِر العاشقَيْن على دفع ضريبة العِشق بشكل مُضاعَف .
يقولُ الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :

عُلِّقْتُها عَرَضاً وأَقْتلُ قَوْمَهـا زَعْماً لَعَمْرُ أبيكَ ليسَ بِمَزْعَمِ

تعلَّقَ الشاعرُ بهذه المرأة بشكل مفاجئ ( عَرَضي ) دون تخطيط مُسْبق ، وأحبَّها من النظرة الأُولى بلا قَصد. لقد شَغُف بها فجأةً ، وما إن رآها حتى استولت على جوارحه، واحتلت مشاعرَه . وهذه النظرةُ الأُولى كانت السهمَ الذي اخترق قلبَه بلا رحمة . وهذا الحُبُّ من النظرة الأُولى وُلد في ظروف صعبة ومُعقَّدة . فالنظرةُ العاشقةُ الجارحةُ جاءت في ظِل قَتل الشاعر لقومها. مما يُشير إلى حالة التناقض الحاد بين المشاعر المرهَفة والواقعِ الأليم ، فقد أحبَّها مع ما بَيْنهم من القتل والقتال . وكأن هناك سؤالاً داخلياً يمزِّق أحشاءَ الشاعر : كيفَ أُحِبُّها وأنا أقتلُ قَوْمها ؟! .
إنه الحُبُّ المستحيل المعجون بالأحاسيسِ المكسورة ، وجثثِ القتلى ، ورائحةِ الدَّم، ومَذاقِ الموت . وبالتأكيد ، إن ولادةَ العِشق في هذا المناخ الموْبوء ، هي ولادة للأضداد . وهذه الولادة القَيْصرية تَعمل على تمزيق المشاعر ، وزرعِ التناقضات في الخيال والواقع معاً .
إن الشاعرَ يَطْمع في المستحيل ، ويُؤسِّس مشاعرَه في الفراغ العميق . يَطْمع في عِشقها طَمعاً ( زَعْماً ) لا مكان له تحت الشمس ، ولا يُمكن أن يَرى النُّورَ . فهذا الزَّعْمُ ليس بِمَزْعم ، أي : هذا الطَّمع ليس بِمَطْمع ، لأنه أملٌ كاذب ، وخيالٌ هلامي لا حقيقة له ، ولا مَوْضع له على أرض الواقع . فلا يمكن للشاعر الوصول إلى العشيقة في ظل القتال بين العَشيرَتَيْن . وسيبقى هذا الحُبُّ المستحيل مدفوناً في القلب ، لا يمكن ترجمته إلى واقع محسوس ، بسبب تعقُّد الظروف المحيطة . وقَوْلُه : (( لَعَمْرُ أبيكَ )) ، يَعني : أُقْسِم بحياة أبيكَ . وهذا القَسَمُ إنما جاء للتأكيد على استحالة هذا الحُب ، وأنه وُلد مَيْتاً .

45_ منزلة العشيقة في القلب :

اسْتَوْلَت العشيقةُ على قلب عاشقها ، وصارتْ مُتحكِّمةً به . وقد سَكنت فيه . إنها عمليةُ احتلال غرامية بلا مقاوَمة . والمشاعرُ المتأججةُ فَرَّغت قلبَ العاشق من العناصر والمكوِّنات، فأصبح خالياً . والقلوبُ تَرفضُ الفراغَ ، فلا بد أن يتم مَلْؤها بأي شيء . وقد اختارَ الشاعرُ أن يَملأ قلبَه بصورة عشيقته شكلاً ومضموناً .

يقولُ الشاعرُ عنترة بن شدَّاد :

ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غَيْرَه مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْـرَمِ

لقد نَزلت العشيقةُ من قلب الشاعر مَنْزلة المُحَبِّ المُكْرَم . إنه يُحبها ويُكرِمها ، لذلك فَتح لها قلبَه لتسكن فيه.وما كان لها أن تصل إلى هذه المنزلة لَوْلا محبة الشاعر لها، وشغفه بها إلى أبعد حَد ، وأقصى دَرجة . وعَلَيْها أن تُؤْمِن بصدق حُبِّه لها ، وتعتبره يقيناً لا يَقبل الشَّك ، فلا تظن غَيْره . فليس في قلبه غير العِشق والإخلاص.

46_ الوَداع :

الوَداعُ هو القَطرةُ التي أفاضت الكأسَ . إنه تتويجٌ للحزن والألم والمعاناة . ففي الوداع ، تَبرز معاني القطيعة ، ونهاية الذكريات ، وانتهاء الحُلم الوردي .
يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

وَدِّع هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ وهَل تُطيقُ وداعاً أيُّها الرَّجـلُ

لقد حانت ساعةُ الحقيقة ، وصار الوداعُ أمراً حتمياً ، وواقعاً ملموساً . ولا مفر من هذه النهاية الصاعقة . و"هُرَيْرَة " اسم المرأة التي سَيطرت على أحاسيس الشاعر ، وسوفَ تَرحل مع الرَّكب ( المسافرين على الإبل ) .
لا بُدَّ من الوداع ، وإغلاق هذا الملف إلى الأبد ، وإنهاء العلاقة الغرامية بشكل نهائي لا رَجعة فيه . فعلى الشاعرِ العاشقِ توديع هذه المحبوبة بسرعة ، فهو في سِباق مع الزمن ، فقد حانَ وقت الرحيل ، وها هُم المسافرون على الإبل سَيَرْتحلون عمَّا قليل . ولم يَعُد هناك وقتٌ للعِتاب واللوْمِ ، أو استعادةِ الذكريات . الوقتُ الآن مُخصَّصٌ للوداع ، ولا شيء غير الوداع .
ثُمَّ يَظْهر سؤالٌ حارق يتعلق بمدى قُدرة الشاعر على الصمود أمام طوفان الوداع. هل يَقْدر على إلجام عواطفه وكبتِ مشاعره وتهدئةِ أعصابه في حالة الوَداع الصعبة ؟ . إنه سؤال مركزي ، قد يَعجز الشاعرُ عن الإجابة عليه ، وربما يتهرب منه . فالوَداعُ أمرٌ شديد الصعوبة لأنه يتعلق بذكريات الزمان، وتفاصيلِ المكان، والمشاعرِ الداخلية ، والذكرياتِ التي لا تُقدَّر بثمن. وسيبقى هذا السؤالُ الجارحُ شاهداً على شِدَّة الخطْب، وصعوبةِ الموْقف ، وسابحاً في فضاء التاريخ ، بل إجابة . ما أصعبَ أن تظل الأسئلةُ المصيريةُ بلا إجابة ! . خصوصاً إذا كانت أسئلة متعلقة بالعِشق والأحاسيس والقلوب المحترقة .

47_ هدوء العشيقة :

هدوءُ المرأةِ دليلٌ واضح على ثقتها بنفْسها . فقوةُ الأنوثةِ كامنةٌ في السيطرة على الأعصاب والحركاتِ. أمَّا الصراخ والجعجعة والثورة فَمُؤَشِّرات على غياب العقل،والاستسلامِ للانفعالات العاطفية المؤقَّتة،والتي تُخلِّف وراءها الندمَ والضياعَ.
يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

غَرَّاءُ فَرْعاءُ مَصْقولٌ عَوارِضُهــــا تمشي الهُوَيْنا كما يَمشي الوَجِي الوَحِلُ

يُقدِّم الشاعرُ عَرْضاً بمواصفات هذه العشيقة ، وبياناً بخصائصها المتفرِّدة . فهي غَرَّاء ( بيضاء حسناء ) ، وفَرْعاء ( طَويلة الشَّعْر ) ، وعوارضُها مصقولة ( أسنانها بيضاء نقيَّة ). وهذه الصفاتُ تَزيد الأنوثةَ بهاءً ولمعاناً وإغراء ، وتُكسِب صاحبتها شموخاً ، وثقةً بالنَّفْس ، واعتزازاً بالرُّوحِ والجسدِ معاً .
فَبَيَاضُ المرأةِ صفةٌ مرغوبة، لأنه يتضمن معنى الإشراق والحُسن والجَمال الآسِر. وطُولُ الشَّعْر يدل على حيوية المرأة ، وأُنوثتها الملتهبة، واعتنائها بنفْسها . كأنها تَغرق في شَعْرها الذي ينساب كالنهر المتدفق . والأسنانُ البيضاء تشيرُ إلى نظافة المرأة ، وحِرصها على مَظهرها . ولا يخفَى أن الأسنان هي واجهة الفَم والوجه معاً ، وبياضُها يَمنح المرأةَ رَوْنقاً خاصاً ، وجَمالاً أخَّاذاً .
وهذه الصفاتُ الأُنثويةُ المميَّزةُ تَزرع الثقةَ في نَفْس العشيقة ، وتجعلها واثقةً بنفْسها وتفاصيلِ جِسمها ، وفخورةً بأُنوثتها وشخصيتها ، فتَظْهر السَّكينةُ على مُحيَّاها، ويَبْرز الهدوءُ في سَكناتها وحركاتها . وبالتالي ، فليس غريباً أن تمشي الهُوَيْنا ( على مَهل ) ، فهي واثقةُ الخطْو ، تمشي كما يمشي الوَجِي الوَحِلُ . والوَجِي : مَن رَقَّ قَدَمُه مِن المشي بلا نَعْلَيْن فهو بطيء المشي . والوَحِلُ : مَن وَقَعَ في الوحل فهو يمشي على مهل خشية انزلاق قدمَيْه .
وبشكل عام ، إن الشاعرَ أبرزَ نقاطَ قوة العشيقة ، والتي يَنْبع منها الجَمال ، ثم وَصفها بالتَّؤدة والتأني في مَشْيها ، فهي واثقة بنفْسها ، وبصفاتها المتفرِّدة ، تَسيرُ بهدوء وطمأنينة ، فليستْ خرقاء ولا طائشة . وهدوءُ أعصابها ، واتزانُ مِشْيتها ، استحوذا على قلب عاشقها ، وسيطرا على ذهنه ، وأجبراه على تخليدهما شِعراً .
ويقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

كأنَّ مِشْيَتَها مِن بَيْتِ جارَتِهـا مَرُّ السَّحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ

تتمتعُ العشيقةُ بهدوء لافت ، واتزان مُثير . كما أنها حريصة على العلاقات الاجتماعية ، فهي على اتصال وثيق بجاراتها .
وهي عندما تمشي من بيت جارتها ، كأن مِشْيتها مُرورُ سحابةٍ عابرة . مَشْيها هادئ ورَزين بلا طَيْش ، ومرورُ هذه المرأة كمرور غَمامة ناعمة ، تَعْبر الأفقَ بكل سلاسة ، وبلا رعونة . لقد انبهرَ الشاعرُ بطريقة مشي عشيقته . إنها تمشي باتزان ، وسَكِينة ، وتؤدة. لا رَيْثٌ في مَشْيها ( لا بُطء ) ولا عَجَل ( ولا استعجال ) . وخيرُ الأمورِ أوسطُها ، والفضيلةُ هي اختيار الحالة الوسطى بين طَرَفَيْن كلاهما سَيِّئ . فالبُطْءُ مذموم والعَجَلةُ كذلك . والعشيقةُ تتحرك في المنطقة الوُسطى المحمودة .

48_ عدم التجسس :

بعضُ النساء يَعشقنَ التجسسَ على الجيران ، ومعرفةَ أخبارهم ، واكتشافَ أسرارهم . وهذه العادةُ القبيحة موجودة في أوساط النساء . فنجد المرأةَ منهنَّ حريصة أشد الحرص على النظر إلى بيوت الجيران،وسماعِ الأحاديث التي تَدور فيها.
والشاعرُ الأعشى الأكبر يُخبرنا بأن عشيقته لَيْست من هذا الصنف، فيمدحها:

لَيْسَتْ كَمَن يَكْرَه الجيرانُ طَلْعَتها ولا تَراها لِسِرِّ الجارِ تَخْتَتـــلُ

هذه المرأةُ يُحِبُّها الجيران ، ولا يَكرهون طَلْعتها . وهذا الحُبُّ ليس عفوياً أو صُدفةً ، وإنما هو انعكاس لأخلاقها الحسنة ، وصفاتها الفاضلة . فهي لا تتسمَّع لسرِّ الجار ، ولا تحاول استراق السَّمع أو اختلاس النظر . لذلك يُحبُّها الجيران بسبب أمانتها ، وحفاظها على عهد الجِيرة ، وابتعادها عن التجسس . وكما هو معلوم ، فإن البيوتَ أسرار . إنها امرأةٌ مأمونة في مَوْضع الثقة ، وبعيدة عن الشكوك والشُّبهات ، لا تَخْتتل ( لا تتسمَّع ) لأسرار القوم ، ولا تحاول فضحَ العلاقات الأُسرية، وكشفَ الروابطِ الاجتماعية . والشاعرُ يَرْفع عنها عارَ التجسس والخيانة.


49_ العِشق في الكِبَر :

يرتبطُ العِشقُ والغَزَلُ بمرحلة الصِّبا والشباب والفُتُوَّة . وهذه المرحلة هي مَنْبع القوة والمرح والإشراق واستقبال الحياة. وفترةُ الشبابِ هي بُركان الشَّهوة ، وذات ارتباط وثيق بالحماسة والطَيْش . أمَّا فترة الشيخوخة فَتَشْهد خموداً للشهوة ، وترتبط بالهدوء والسَّكينة والحساباتِ العقلية لا العاطفية .
يقولُ الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

تَصْبو وأنَّى لَكَ التَّصابي أنَّى وقَد راعَكَ المَشيبُ

يَطرحُ الشاعرُ على نفْسه سؤالاً مؤلماً : كيفَ تَصبو وتَميل إلى العِشق والغرام مثلما يَفعل الشبابُ وأنتَ شيخٌ طاعن في السِّن ؟! . والتصابي هو الميل إلى الصَّبوة واللهو . وهذا السؤالُ الحارقُ يَحمل في طيَّاته ألماً عارماً وحسرةً قاتلة . لقد مَضت فترةُ الشباب إلى غير رَجعة ، وذَهبت معها مشاعرُ العِشق ، وعنفوانُ الغرام ، وبقي الشَّعْرُ الأبيض شاهداً على مرور السنواتِ ، وانتهاءِ مرحلة اللهو والعبث والهيام .
لم يَعُد الشاعرُ يرى نفْسه مُؤهَّلاً للعِشق، فقد راعه المشيب ، أي أفزعه الشَّيبُ، وسلبَ حيويته ، وجمَّد مشاعرَه ، فلا معنى للعِشق في الكِبَر . لقد انتهت المغامَرةُ .

50_ دموع العاشق وبكاؤه :

الدموعُ والبكاء هُما سلاحا العاشق في معركة الأحزان والآلام والذكريات . والفائدةُ الأساسية للدموع والبكاء هي تخليص العاشق من الضغوطات النفسية والحياتية . ومهما يكن مِن أمر ، فإن الدموعَ لن تُعيد عقاربَ الساعة إلى الوراء ، والبكاءَ لن يُرجِع الأحِبَّةَ الذين غابوا في طوايا الزمن .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ففاضَتْ دُموعُ العَينِ مِنِّي صَبـابَةً على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمعيَ مِحْملي

فاضت الدموعُ ، وتفجَّرت الأحزانُ ، وانبعث الألَمُ من ينابيع القلب . هذه الدموعُ هي أرشيفُ العِشق ، وتاريخُ الغَرام .
سالت دُموعُ الشاعر بسبب شِدَّة الوَجْد ، ورقةِ الشوق ( الصبابة ) . إنه يَحِنُّ إلى عشيقته بشكل جنوني ، فَغَلَبَتْه الدموعُ التي تُلخِّص معاناته الشديدة ، وشَوْقَه الجارفَ إلى هذه المرأة التي قَلبت حياته رأساً على عَقِب ، وأَدْخَلَتْهُ في عوالم الحَسرة والدموع . فاضت دموعُه على نَحْره المحترق بمشاعرِ الغرام ، وأحاسيسِ العِشق . والنحرُ هو مَوْضع القِلادة . لقد وَصلت الدموعُ الهادرةُ إلى نَحْره ، مما يدل على شِدَّةِ الخطْب ، وصعوبةِ الموْقف ، والحُرقةِ المرعِبة ، واللوعةِ العميقة . ولم تتوقف أمواجُ الدموع عند منطقة النَّحْر. لقد اندفعت بكل حُرقةٍ وألم حتى بَلَّ الدَّمعُ حَمَّالةَ سَيْفه ( المِحْمل ) . إنه مُغطَّى بالدموع ، ومُجلَّلٌ بالألم . يَغرق في بحر الحزن والغرام وحيداً ، ولا وجود لطوْق النجاة .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وإنَّ شِفائي عَبْرَةٌ مُهرَاقَـــةٌ فهلْ عِندَ رَسْمٍ دارِسٍ مِن مُعَوَّلِ

إنه يَعرف مَرَضَه ودواءَه . وهو المريضُ والطبيبُ في آنٍ معاً . ويُدرك تماماً أن شفاءه دَمعةٌ مصبوبة ( عَبْرة مُهراقة ) . إن شفاءه مِن دَائه ، وخلاصَه مما أصابه ، ونجاته من مشكلاته ، إنما يكون في سَكب الدَّمع ، فهذه العمليةُ تنفيس للاحتقان الهائل في المشاعر ، وتفريغ للضغط المرعب على الأعصاب .
وعلى الرغم من فائدة البكاء، إلا أنه لا يَرُدُّ حبيباً غائباً، ولا يُعيد الماضي السعيد، ولا يمكن التعويل عليه . وهذه الحقيقة المرَّة يُدركها الشاعرُ تماماً ، لذلكَ تساءلَ بحَسرة وألم : فهل عند رَسْم قد دَرس مِن مُعْتَمَد وبكاء ؟ .
والرَّسْمُ الدارسُ هو المكانَ الذي زالَ أثرُه ، فلا طائل من البكاء عنده ، لأن البكاء لا يُعيد الحبيبةَ ، ولا يُعيد الأيامَ الخوالي ، ولا يُعوَّل عليه ( لا يُعْتَمَد عليه ) ، ولا تأثير له على أرض الواقع .
ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

لا أرى مَن عَهِدْتُ فيها فأبكي اليومَ دَلْهاً وما يُحِيرُ البُكـاءُ

الحَسرةُ تَغرس أوتادَها في قلب الشاعر . فهو لا يَرى عشيقته ( أسماء ) في هذه الأماكن . يقول : إنني لا أرى مَن عَهدتُ في هذه المواضع الحزينة . فقد كان معتاداً على رؤية ( أسماء ) ، أمَّا الآن فقد غابت ، وزالت أفراحُ المكان .
وعندما خَلت هذه الأماكن العابقة بالعواطف والذكريات من العشيقة ، بكى الشاعرُ العاشقُ حُزناً وجزعاً لفراق هذه المرأة التي سَيطرت على قلبه ، مع يقينه بأن البكاء لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر.
ولكنَّ الشاعرَ لا يَملك أيةَ حِيلة للتعامل مع هذه الصَّدمة سوى البكاء . فهو يبكي اليومَ ذاهب العقل ( دَلْهاً ). ولكنْ للأسف، لا فائدة من البكاء. وهنا يَبرز سؤال الشاعر المصيري الذي يَحمل معنى الجحود: (( وما يُحير البكاء ؟ )). يعني : وما يَرُدُّ البكاءُ ؟ . إنه لا يَرُدُّ حبيباً غائباً ، ولا يُجدي نفعاً . وسيظلُّ البكاءُ حِيلة مَن لا حِيلة له . إنه سلاحُ العاجز الذي لا يَملك مِن أمره شيئاً .


51_ صَبْرُ العاشق :

إن العاشقَ الذابلَ ليس أمامَه إلا الصَّبر . ومع أن الصبر_ يبدو للوهلة الأُولى _ سهلاً وبسيطاً ، إلا أنه شديد الصعوبة ، ولا يمكن أن يتأسس في قلب الإنسان ( العاشق ) ، إلا ببذل جهود جبارة على الصعيد النَّفْسي والجسدي .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وُقُوفاً بها صَحْبي عَليَّ مَطِيَّهُمْ يقولونَ لا تَهلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ

يَصِفُ الشاعرُ أصحابَه الذين وَقفوا لأجله من أجل تقديم النُّصح والإرشاد . لقد وَقفوا عليه رواحلهم يأمرونه بالتَّحلي بالصَّبر ، والابتعاد عن الجزع . وهؤلاء الصَّحْبُ لم يَتركوه وحيداً لمواجهة آلامه وأحزانه ومشكلاته العاطفية ، بل حَاوَلوا جاهدين التخفيفَ عنه ، وتقديم المشورة الصادقة. ولم يتخلوا عنه في أشد لحظات ضَعفه، بل ساندوه والتفُّوا حَوْلَه من أجل انتشاله من مستنقع الألم واللوعة. لقد وَقفوا على رأسه، وهو قاعدٌ عند رواحلهم، وقالوا له: لا تَهلِك مِن شِدَّة الحزن( الأسى ) وتجمَّل بالصَّبر.
أَمَرُوه بالصَّبر لعِلمهم أن الصبر هو الدَّواء المر الذي لا بُدَّ من شُربه من أجل العلاج والشفاء . ولو كان هناك علاجٌ آخر لِدَائه الغرامي لَذَكَرُوه . فالصبرُ هو السلاح الفعَّال في معركة العِشق، وغيابُ الصبر يَقود العاشقَ إلى الهلاك الحتمي.

52_ عذاب العاشق :

العذابُ هو النتيجة الطبيعية للعِشق. فالعِشقُ هو مَنبع الألم والذكريات ، والألَمُ هو فلسفة العذاب . وهذا التشابك الحتمي يَنخر قلبَ العاشق ، ويُحيله إلى كَوْمة أنقاض، ويَجعل جسدَ العاشق أرشيفاً للحزن والحسرة.
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحرِ أَرْخَى سُدولَهُ عَليَّ بأنواعِ الهُمومِ لِيَبْتَلِـــي

يمرُّ الوقتُ على المعذَّبين بطيئاً جِدَّاً . يَقضون نهارهم هائمين على وجوههم ، ويَقضون لَيْلَهم ساهرين ، يُراقبون النجومَ ، ويَسْبحون في الفضاء .
والليلُ في حياة العشاق ذو حضور مركزي، فهو مَنْبعُ أحزانهم،ومأوى أفئدتهم، وتاريخُ أشواقهم ، وكتابُ أحلامهم ، ووعاءُ عذاباتهم .
لَيْلٌ يُشبِه مَوْجَ البحر في قَسْوته وتوحُّشه ، يَجرف القلوبَ بلا هَوادة ، ويُحطِّم الأجساد بلا رحمة . هجمَ هذا الليلُ القاسي على الشاعرِ العاشقِ مثلما يَهجم مَوْجُ البحر على الشاطئ . وأرخَى هذا الليلُ على الشاعر سُتورَ ظلامه الدامس ، فصارَ الشاعرُ غارقاً في ظلام أحزانه ، وظلامِ الليل . إنه الظلامُ المركَّب النابع من الليل الرهيب الذي نَشرَ أجنحة العَتمة والسَّواد في قلب الشاعر ، وفي قلبِ الفضاء .
لقد أرخى الليلُ العميقُ على العاشق سِتارةَ الرعبِ والظلام مع أنواع الهموم ، وأجناسِ العذاب ، وأصنافِ الأحزان ، من أجل امتحان الشاعر واختباره : هل يَصبر على أنواع العذاب والشدائد أَم يَجزع منها وينهار أمامها ؟ .
إنه امتحان صعب ، وابتلاء شديد . هَجمت أمواجُ الظلام على الشاعر بكل قَسْوة ، وبصورة متتابعة من أجل اختباره ، وكشفِ قُدراته الحقيقية . هل يَقْدر على الصمود في وجه المِحَن والأزمات أم سَيَسْقط فريسةً للشدائد والعذاب ؟. وهذا الامتحان المرعِب هو المحك الحقيقي للكشف عن مَعْدنِ الشاعر ، واختبارِ صلابته الذهنية ، وشِدَّةِ بأسه ، وقوةِ أعصابه ، ومتانةِ مشاعره . وبالطبع، فالشاعرُ أعْلم الناس بنفْسه، وهو وَحْدَه الذي يَعْرف مستواه الروحي والمادي ، ونقاطَ قُوَّته وضَعفه . ولا يوجد أمامه أيُّ خيار سوى النجاح في هذا الامتحان الصارم ، لأن الفشلَ يَعني السقوطَ في مستنقع الأحزان الأبدية،ولا توجد عندئذ أيةُ فرصة للنجاة.
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلي بِصُبْحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأَمثَلِ

دَخل الشاعرُ في عوالم الذهولِ، وآلامِ الحزنِ المخيفِ. ومِن شِدَّة الوَله والصَّدمة صار يُخاطبَ الليلَ الذي لا يَعْقل. إنه يُكلِّم الليلَ الذي لا يَقْدر على فهم أحاسيس الشاعر، ولا يَسْمع أنينَه، ولا يُبصِر مُعاناته . وهذا يدل على سيطرة الذهول القاتل على أعضاء الشاعر وحواسِّه .
ألا أيها الليلُ الطويلُ الذي يَحمل الألَمَ والعذابَ، ولا يُريد أن ينتهيَ، انْكَشِفْ بصُبحٍ. وَلْيَذْهَبْ ظَلامُكَ بضياء من الصبح الذي يُبدِّد ظَلامَ الرُّوح، وعَتمةَ المكان .
وللأسف ، يَذهب كلامُ الشاعر أدراجَ الرياح ، فالليلُ لا يَسْمع أنَّاتِ الشاعر، ولا يَفْهم معاني هذه الكلمات الحزينة ، ولا يَقْدر على تلبية هذا الطلب القادم من قلب مكسور، ومشاعر مشقَّقة. ولا يخفَى أن لَيْلَ المعذَّبين طويل ، وأن أكثرَ المعذَّبين معاناةً هُم العُشَّاق ، لأن عذابهم داخلي يتعلق بالرُّوح والقلبِ .
وحتى لو انجلى هذا الليلُ وزالَ ظلامُه، فلن تنتهيَ مشكلةُ الشاعر ، لأنه يُقاسي الهمومَ نهاراً ولَيْلاً . وبالتالي ، فليس الصُّبحُ بأفضل ( بأمثل ) من الليل . ففي كلا الحالتَيْن ( النهار والليل ) يَغرق الشاعرُ في بحر الألم والحزن والمعاناة . إنه واقع في أَسْرِ العذاب سَواءٌ كانَ تحت ضوء القمر أَم تحت ضوء الشمس . وهذا العذابُ الأبديُّ جعلَ لَيْلَ الشاعرِ ونهارَه شيئاً واحداً لا فَرْق بينهما . فالنهارُ في عَيْنه صار مُظلماً بسبب احتوائه على الهموم والآلام . وفي واقع الأمر ، لم يَعُد الشاعرُ مَعْنياً بقدوم النهار أو مجيء الليل ، لأنه غارق في المعاناةِ والعذابِ على مَدار الساعة .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

فَيَا لَكَ مِن لَيْلٍ كأنَّ نُجومَهُ بأمراسِ كِتَّانٍ إلى صُمِّ جَندَلِ

هذا الليلُ لا تَبدو له نهاية . لَيْلٌ طويلٌ لا يُريد أن يَزول ، شديدُ الوَطْأة على العاشق المعذَّب. كأن نجومه شُدَّت بِحِبال ( بأمراس ) من الكِتَّان إلى صخور صلبة . والجندلُ هو الصخرة ، والأصم الصَّلب . وبسبب معاناته الشديدة شَعَرَ بأن الليلَ طويلٌ للغاية ، حتى إن نجومَه لا تختفي من أماكنها ، ولا تَزول من مواقعها ، كأنها مربوطة بِحِبال إلى صخور صَمَّاء ( صَلبة ) .
إنهُ مَشْهدٌ مُرعِب يَعكس حجمَ القلق الذي يسيطر على الشاعر العاشقِ ، ويُشير إلى معاناةِ الهموم، ومقاساةِ الأحزان . ساعاتُ الألم تمرُّ بطيئةً جِداً ، وساعاتُ السعادة تمرُّ مُسرِعةً جِداً . لقد تحوَّل هذا الليلُ القاسي إلى مسامير مغروسة في قلب الشاعر ، تَجرحه وتُسبِّب له المعاناة والآلام. وهذا العذابُ الليليُّ دائمٌ بلا انقطاع ،
فالنجومُ لا تتزحزح من أماكنها كأنها مربوطة بحبال إلى الصخور . وهذه الثنائيةُ الرهيبة ( الحِبال / الصخور ) تدل على تثبيتِ العذاب في قلب الشاعر ، وتكريسِ الألم في جوارحه ، وترسيخِ المعاناة في حياته ، وتجذيرِ الحزن في تفاصيل أيامه .
ويقولُ الشاعرُ عَنْترة بن شَدَّاد :

تُمسي وتُصبحُ فَوْقَ ظَهْرِ حَشِيَّةٍ وأبيتُ فَوْقَ سَراةِ أَدْهَمَ مُلجَـمِ
هذا العذابُ من نوعٍ مختلف . فالشاعرُ هنا يَدفع ضريبةَ الفروسية لا ضَريبة العِشق . فالعشيقةُ تُمسي وتُصبِح فوق فِراش ناعم وثير ( ظَهْرِ حَشِيَّة ) . أمَّا الشاعرُ الفارسُ فَيَبِيت فوق ظَهر( سَراة ) فَرَسٍ أدهم مُلجَم.والأدهمُ شديد السَّواد.
تَغرقُ العشيقةُ في النَّعيم واللذةِ والرَّاحةِ . تستمتع بأنوثتها ونعومتها فوق فِراش لَيِّن يدل على سَعة الرزق ، ورغد العيش ، ومنتهى السعادة . لا شيء يَشغل بالَها ، ولا شيء يُعكِّر مِزاجَها .
وعلى الجهة الأخرى ، نجد الشاعرَ المغوارَ يَقتحم عالَم الحروب والأسفار ، ويقاسي شدائدها ، ويعاني من آلامها ووَيْلاتها . ولا وقتَ عنده لكي يَنام كما ينام باقي الناس . فهذه رفاهيةٌ لا يَقْدر على تحصيلها بسبب الأخطار المحدِقة به مِن كل جانب. لذلك يَبيت على ظَهْر فَرسه الأسْود الملجَم ( الواقع تحت سيطرة اللجام ) .
فالشاعرُ قد ألجمَ فرسه لمنعه من الحركة والانطلاق .
هذه المقارنةُ بين الطرفَيْن تعكس الفرقَ الجوهري بين العشيقة والعاشق . فهي تتنعَّم بينما هو يتعذب ، ويُعاني من قَسْوةِ الأسفار ، ومآسي الحروب الطاحنة .

الفصل الثامن
الخمر

تمهيد

لا يمكن تجاهل مركزية الخمر في المجتمع الجاهلي إطلاقاً ، فهي متغلغلة في أدق تفاصيل الحياة الوجدانية والاجتماعيةِ ، وتَملك حضوراً أساسياً في الشِّعر والتراثِ .
لذلك نرى الشُّعراءَ يتسابقون على ذِكرها، وتخليدها في قصائدهم، واستحضار الأجواء المحيطة بها . وبالطبع ، فكلُّ شاعرٍ يَرى الموضوعَ من وُجهة مُعيَّنة . كما أن الخمر ذات علاقة متشابكة مع تفاصيل الحياة، فهي مرتبطة بالحزن والفرح ، وذات ارتباط وثيق بالعلاقات الغرامية ، وتؤثِّر على طبيعة العلاقات الاجتماعية .
وإننا لنجدُ معانٍ متعددة في شِعر المعلَّقات تدور حول الخمر . وكما أسلفْنا ، فإن كل شاعر يَرى الخمر من منظوره الشخصي ، واستناداً إلى مرجعيته الفكرية ، وخَلْفيته الاجتماعية ، وطبيعته العاطفية .
فيبرزُ موضوع المسارعة إلى شُرب الخمر ، وكأن هناك سِباقاً مع الزمن . كما تَبرز الطبيعة المادية للخمر ، وكَوْنها تُزيل العطشَ ، وتَروي الإنسانَ . ويتَّضح تأثيرُ الخمر في سَيْر العلاقات الاجتماعية ، وتهديدها للروابط الأُسرية . ولا يمكن نسيان موضوع وصف الخمر ، والافتخار بها ، والتنقيب في ماهِيَّتها المعنوية والمادية .
وتَظهر تأثيراتُ الخمر في أنساق الحياة . فالخمرُ تُنسي الهمومَ ، وتُزيلَ الأحزانَ، وتُعطي العقلَ إجازةً مفتوحة ، مما يُسبِّب السعادةَ للإنسان ، حتى لو كانت سعادةً خادعةً ووَقْتيةً زائلة . وكما قيل : استراحَ مَن لا عقل له .
كما أن الخمرَ يتم تقديمها كرمز للكَرَم ، وإنفاقِ المال . وهذا يَنفي عن شاربها صفةَ البُخل والحرص على المال ، ويُلمِّع صورته بين أقرانه ، فَيَظْهر كريماً جَوَاداً ، لا يُقيم للمال وَزناً ، وإنما يَعيش حياته بالطُّول والعَرْض بكل سلاسة ، وبلا عُقد .
وتبرزُ ثنائية ( الخمر / المدن ) . حيث يَظهر الحرصُ على تخليد الأماكن التي استمتع فيها الشاعرُ وهو يَشرب الخمر ، ويُجيل بصره في تفاصيل الطبيعة .
1_ المسارَعة إلى الشُّرب :

الشاعرُ في سِباق مع الزمن . إنه يَفِرُّ إلى شُرب الخمر بأقصى سُرعة ممكنة ، ليقبضَ على لحظة اللذة ، ونشوةِ السعادة ، وتوهُّجِ المتعة ، ويُغلِق الطريقَ أمام خصومه ولائميه . لا يريد أن يَترك شيئاً للصُّدفة . كلُّ الحساباتٍ دقيقةٌ ، وكلُّ الطُّرق تؤدي إلى شُرب الخمر . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فَمِنْهُنَّ سَبْقي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ

إحدى الصفات التي يَحرص عليها الشاعرُ ، أن يَسبق العواذلَ ( اللائمين ) بِشَرْبة من الخمر . إِنهُ يَشرب الخمرَ قبل سماع لَوْم اللائمين ، وعِتابِ الخصوم. وبذلك يَكون قد سَبَقهم، وَسَدَّ الطريقَ عليهم ، وأغلقَ البابَ في وجوههم . وهكذا يُحقِّق رَغبته رغم أنوفهم ، ويَحصل على مُراده رغم معارضتهم ، ويَفرض أسلوبَ حياته عليهم . فلا أحدٌ قادر على مَنعه من تحقيق مُبتغاه، ولا أحد قادر على إيقافه . وهكذا يُعلِن انتصاره عليهم . وبعد نجاحه في الوصول إلى حبيبته الخمر رغم أنف العواذل ، يَسْبح في عوالم الخمر ، فيصف الشَّرْبةَ بأنها كُمَيْت اللون ( بين الأسْود والأحمر ) . وهذه الشَّرْبةُ من الخمر عالَم قائم بذاته ، لَوْنها يتوهج كما لو كان ضوءاً في آخر النفق . وهذا السَّوادُ الضارب للحُمرة يمتصُّ قلبَ الشاعرِ وعقلَه ، ويُسيطر عليه بلا رحمة . لونٌ شديد الإغراء ، يَبتلع ذكرياتِ الشاعر ، فيرفع الرايةَ البيضاء مُسْتسلماً لعنفوان اللون الوهَّاج . وهذه الشَّرْبةُ عندما يُصَبُّ الماء عليها تُزبِد ، وتَثور كالبركان الذي كان خامداً ثم انبعثت فيه الحياة . تَقفزُ الفقاعاتُ على السطح الساحر المغرِي ، وتَفور جُزيئات الخمر ، كأنها تنادي على الشاعر ، وتَسحبه إلى الأعماق السحيقة .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

باكرتُ حاجَتَها الدَّجاجَ بِسُحْرةٍ لأُعَلَّ مِنها حينَ هَبَّ نِيامُهــا

الهدفُ هو الخمر. والطريقُ إليها ينبغي قَطْعُه بسرعة فائقة. فالأمرُ لا يَحتمل التأخير مُطْلقاً . واللذةُ لا تَنتظر ، ولا وقت لانتظار الصباح . لذلك ، فالشاعرُ يَشرب الخمرَ قبل صِياح الدِّيك. فهو يَأخذ الأمرَ على مَحْمل الجِد . وعندما تشتعل الشهوةُ في كيانه، يهرع إلى تلبيتها بكل سُرعة بلا إبطاء، لكي يَقتنص لحظةَ المتعة ، ويأسر وَقْتَ الفرح قبل أن يُفلِت من يَدَيْه ، ويَذهب إلى غير رَجعة .
لم يَقْدر الشاعرُ على مقاومة الرغبة العارمة في شُرب الخمر ، والتي تلحُّ على عقله بكل شراسة، فباكرَ الديوكَ لحاجته الشديدة إلى الخمر. إنهُ يُقاتِل على جَبْهتين، فهو يُسابِق الوقتَ ، ويُسابِق الديوكَ .
إن الخمرَ تَضغط على أعصابه ، وتَسري مع دمه ، وتَدفعه دَفْعاً إلى شُربها ، فبادرَ إلى الخمر ، وتعاطى شُرْبَها قبل أن يَصيح الدِّيكَ ، وذلك في فترة السَّحَر ( السُّحْرة ) . لقد سَبق الشاعرُ صياحَ الديك لِيَشْربَ من الخمر بصورة متتابعة ( لِيَعُلَّ مِنها ). وهذا الشربُ مرَّة بعد أخرى، يَكشف عن عَطَشه الشديد للخمر ، وإدمانه عليها ، وخضوعه الكُلِّي لإغرائها . وقد بَقِيَ يَعُلُّ مِنها حين استيقظ نِيامُ السَّحر ( هَبَّ نِيامها ). والجدير بالذِّكر أن الدجاج اسم للجنس يَعُمُّ ذُكورَه وإناثه.

2_ الخمرُ تزيل العطش :

يَغوص الشاعرُ في بؤرة الخمر ، ويَعتبرها خَلاصَه النهائي الحاسم . فهو أرضٌ عَطْشى تَنتظر الرَّي ، والخمرُ _ بالنسبة إليه _ هي المطر الذي سَيُحيي مشاعرَه القاحلة ، ويُنعِش قلبَه الجاف ، ويَسقي مساحاتِ الظمأ في جسده الذابل . وهكذا تُصبح الخمرُ هي طَوْق النجاة ، والفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ في حيــاته سَتَعْلمُ إنْ مُتْنا غداً أَيُّنا الصَّدي

يَعتبر الشاعرُ الخمرَ هي مركز الكَرَم ، وأن شُربها دليل على المنزلة الاجتماعية الرفيعة للشاعر . فهو كريمٌ يُروِّي نَفْسَه في حياته بالخمر . وأيامُه مليئة بالشُّرب والسعادة ، حيث إن الخمرَ تنقله إلى عوالم جديدة ، وتَبعث فيه الفرح والحبور ، وتُزيل عطشَه الملتهب . إنهُ كريمٌ يُنفِق مالَه على شُرب الخمر بلا حساب ، ويَسقي جوارحَه الميتة العطشى بقطرات الخمر ، كما تسقي حَبَّاتُ المطرِ الأرضَ الجدباء .
ثم يُخاطِبُ خَصْمَه بنبرة واثقة : سَتَعْلم إن مُتنا غداً أيُّنا العطشان ( الصَّدي ) . إنها صيغة التحدي النابعة من القناعة الذاتية ، والثبات على المبدأ . فمبدأُ الشاعر يتمحور حول مركزية الخمر ، ودورها في إزالة الظمأ ، وبَعْثِ الحيوية والنشوة في القلب والأعضاء . والشاعرُ على يقين تام بأن الخمرَ تَمنحه الدفءَ الوجداني ، والخلاصَ في الحياةِ والموتِ ، وهو واثقٌ أنه يَموت ريَّان ، مُنتشياً بقطرات الخمر ، ومُفعماً بالإشراق والحيوية كالأرض الخصبة التي سَقاها المطر ، أمَّا عاذله فيموت عطشان ذابلاً كالصحراء التي لم تَعرف المطرَ .

3_ التأثير الاجتماعي للخمر :

للخمرِ تأثيرٌ سلبي على العلاقات الاجتماعية ، والروابطِ الأسرية . فهي تُمزِّق النسيجَ المجتمعي،وتُفكِّك الوشائجَ العائلية،وتَحصر الأفرادَ في دائرة الرِّيبة والشُّبهة ، كما أنها عاملٌ أساسي في إضاعة المال الذي يُعتبَر العمودَ الفقري للجسم المجتمعي .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وقالَ ألا ماذا تَرَوْنَ بشارِبٍ شَديدٍ عَلَيْنا بَغْيُهُ مُتَعَمِّــدِ

القائلُ هو والد طَرَفة . فهذا الشخصُ قد ضاق ذَرْعاً بتصرفات ابنه الطائشة . وها هُوَ يقول للحاضرين مُستشيراً لهم: ماذا تَرَوْنَ أن نفعل بشارب الخمر ( ابنه السِّكير ) الذي كَثُرت خطاياه ، وازداد ظُلْمه لنا ، واشتدَّ بَغْيُه علينا عن سبق الإصرار والتَّعمُّد ؟ . لقد وَصلت الأمورُ إلى نقطة اللاعودة، وطَفَحَ الكَيْلُ، وزادت الأشياءُ عن حَدِّها ، مما جعلَ الأبَ في حَيرة من أمره، لذلك لجأ إلى أصحابه واستشارهم في شأن هذا الابن العابث قائلاً : ما هي الوسيلة لمنع هذا السِّكير الذي ألحقَ بنا ضرراً فادحاً ، وأضاعَ أموالنا مُتعمِّداً قاصداً ؟. وهذا الضررُ لم يجيء بشكل عَفوي أو بِحُسْن نِيَّة ، وإنما هو ضررٌ نابع مِن نِيَّة مُبَيَّتة ، وإرادةٍ سابقة . وهو فِعْلٌ مقصود لا مكان فيه للعَفوية أو حُسْنِ النوايا .
لقد أدى شُرب الخمر وإضاعة المال من أجلها إلى تمزيق العائلة ، وتفكيك رابطةَ المودة والرحمة بين الابن وأبيه ، فبرز صراعٌ بين الأجيال مستند إلى اختلاف القيم . فالابنُ ( الشاعر ) يُتلِف المالَ من أجل شهوةٍ عابرة ، ونزوة رخيصة ، ومتعة زائلة ، ولا يَعرف مصلحة نفْسه . أمَّا الأبُ فحريص على ابنه اللامبالي ، ويُريده رَجلاً فعالاً في المجتمع يُشار إليه بالبنان ، يحافظ على اسم العائلة وممتلكاتها .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وقالَ ذَرُوهُ إنما نَفْعُها لَـــهُ وإلا تكفُّوا قاصيَ البَرْكِ يَزْدَدِ

تعبَ الأبُ من سلوك ابنه المنحرف ، وفقدَ الأملَ فيه تماماً ، فاستقرَّ رأيه على ترك ابنه وشأنه . يقول الأبُ لأصحابه : اتركوا طَرَفة ( ذَروه ) ، إنما نفعُ هذه الأموال ( الإبل ) له ، فهو ابني الذي يَرثني بعد مَوْتي ، وإلا تَمنعوا ( تكفُّوا ) هذه الإبل من النُّفور والهروبِ ، يَزْدد طَرَفة مِن نَحرها . والبَرْكُ جماعةُ الإبل الباركة . والقاصي البعيدُ . والمرادُ بقَوْله " قاصي البَرْك " : الإبل التي هَربت ونَدَّت ونَفرت.
فقدَ الأبُ ثقته بابنه بشكل كامل. فلا يوجد أيُّ احتمال لتغيير سلوكه العابث، ولا يوجد أيُّ أمل لعَوْدة الابن إلى رُشده . لقد عجزَ عن إيجاد حَل لمشكلة ابنه المستعصية ، فاستسلم للأمر الواقع مُكْرَهاً ، ورفعَ الرايةَ البيضاء بكل ألم . وقرَّر أن يَترك ابنه لِيُواجِه مصيره المحتوم . فهذه الأموال ( الإبل ) التي يُضيِّعها ابنه للإنفاق على شهواته وملذاته ونزواته، إنما هي _ في نهاية المطاف_ أموال الابن، فهو الوريث الشرعي الذي سَتؤول إليه أموال أبيه بعد وفاته . وبالتالي ، فالشاعرُ يُضيِّع ممتلكاته الشخصية ، ويَقضي على مستقبله بيدَيْه ، ويُدمِّر نَفْسَه بنفْسه .
والإبلُ في المجتمع العربي ثَروةٌ قَوْمية لا يمكن التفريط بها ، وهي مَصْدر دَخْل مهم للغاية في الحياة الاقتصادية . إنها عَصَب الاقتصاد ، والعمود الفقري للدَّخل القَوْمي ، وتَمْلك تأثيراً بالغاً في تفاصيل الحياة اليومية ، حيث تتزاوج سُلطة المال مع السُّلطة السياسية ( شُيوخ القبائل ) ، والسُّلطةِ الاجتماعية ( القبائل ) . ومِن أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، أمرَ الأبُ بِرَدِّ الإبل النافرة لئلا يَقوم ابنه العابثُ بنحرها كما فَعل مِن قَبْل . فقد خضعَ الأبُ لِحُكم الأمر الواقع ، ولم يَعُد يَلوم ابنه على نَحر الإبل ، فالذي مضى قد مضى. لكنه أرادَ إنقاذَ الإبل المتبقِّية لئلا تُواجه نفْس المصير المؤلم .

4_ الوصف المادي للخمر :

يَسْبح الشاعرُ في عوالم الخمر ، ويَغْرق في وصف هذه المادة المليئة بالأسرار والتناقضات والأحلام الضائعة . يُراقبها الشاعرُ ، ويُحاول اكتشاف كافة تفاصيلها وتحوُّلاتها. إنها تسيطر على عَقله قَبل الشُّرب وبَعْده،وتملأ ذِهْنَه بالأفكار والتأملات.
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

مُشَعْشَعةً كأنَّ الْحُصَّ فيها إذا ما الماء خالَطَها سَخينا

يصفُ الشاعرُ الخمرَ في حالة امتزاجها بالماء ( مُشَعْشَعة ) . وهذه الحالة التي أَبْهرت الشاعرَ، إنما تَعكس فلسفةَ المزج بين الأضداد. فهذان العنصران المختلفان الخمر والماء قد اختلطا في لحظة ساحرة _ من منظور الشاعر _ ، فصارت الخمرُ مُشَعْشَعةً ، ولامعةً ، وباهرةً ، استحوذت على رُوح الشاعر ، ونالت إعجابَه ، وسَيْطرت على حواسِّه . وهذه الخمر الممزوجة بالماء كأن الْحُصَّ فيها . والْحُصُّ هو نَبْت له نوار أحمر . يَغوصُ الشاعرُ في لحظة الانبهار النابعة من الخمر الممزوجة بالماء ، فيقول : اسقنيها مُشَعْشَعةً ، كأنها مِن شِدَّة احمرارها بعد مَزْجها بالماء ، أُلقي فيها الْحُصُّ. لقد استسلمَ الشاعرُ أمام اللون الأحمر المبهِر، وَوَقَعَ فريسةً للدهشة والذهول. إنها الْحُمْرة المتفجرة الوهَّاجة التي يَغوص في أسرارها العاشقون للخمر ، والمدمِنون على مُعاقرتها . وهذه الخمرُ إذا خالطها الماء بكل جنون ، وشربوا منها ، وسَكروا ، جادوا بأموالهم النفيسة وبَعْثروا ممتلكاتهم. وهذا المعنى إذا تَمَّ اعتبار " سَخينا " فِعْلاً.
أمَّا إذا اعتبرنا "سَخينا" صِفةً، فالمعنى: كأن الخمرَ حال امتزاجها بالماء الساخن، قد نوَّر فيها هذا النبتُ الأحمر ( الحُص ) ، وكأنه قد تفاعلَ مع حرارة الماء ، فاشتعلَ احمراراً وبريقاً . والعربُ كانوا يُسخِّنون الماءَ في الشتاء بسبب شِدَّة البَرْد ، ثم يَمْزجون الخمرَ بالماء الساخن .

5_ الخمر تُنسي الهموم :

العقلُ هو مركز السيطرة في الإنسان . وإذا زالَ العقلُ فقدَ الإنسانُ توازنه ، وصار يَسْبح في عالَم افتراضي هُلامي ، لا مكان فيه للهموم والأحلام والأفكار . والخمرُ تُوفِّر للإنسان هذه الراحة الخادعة ، والنشوة المؤقَّتة ، والسعادة الوهمية . لكنَّ الإنسانَ سَيُدْرِك حجمَ المأساة عندما يَزول تأثيرُ الخمر، فيجد نَفْسَه في مستنقع عميق ، وأنه كان عائشاً في الأوهام ، وما تأتي به الرياحُ تأخذه الزوابع .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

تَجُورُ بذي اللبانةِ عَن هَواهُ إذا ما ذاقَها حتى يَلينــا

يمدحُ الشاعرُ الخمرَ فيقول إنها تُميل صاحبَ الحاجة ( اللبانة ) عن حاجته وهواه ، فتُريحه من تعب البال، وتلاطمِ الأفكار، وكثرةِ الخواطر، وتَزرعه في عوالم النسيان والفرح، فيغدو سعيداً سابحاً في الخيال، قد نسي قَسْوةَ الواقع، وتحرَّر من الالتزامات الحياتية، والقيودِ الاجتماعية، والصراعاتِ النَّفْسية. وإذا ذاقَ الإنسانُ الخمرَ فإنه يَلين، وترتاح أعصابه ، وتسترخي أعضاؤه ، ويتحرر من الضغوطات الروحية والمادية . وهنا يتَّضح دورُ الخمر الرئيسي في الحياة الاجتماعية_وفق منظور الشاعر_ . فالخمرُ تُنسي الهمومَ ، وتُزيل الأحزانَ ، وتَطرد الأفكارَ السَّيئة . وعندئذ يُفلِت الإنسانُ من سيطرة الحوائج والمتطلباتِ اليومية ، فَيَشْعر أنه متحرر من الجاذبية ، ويَطير في فضاء سِحري مملوء بالمتعة والحيوية . فالخمرُ هي حاضنة أحلام الأشخاص الذين يَهربون من تحمُّل المسؤولية ، ويَبحثون عن المتعة المجرَّدة ، حتى لو كانت متعةً آنيةً وخادعةً وقاتلةً .

6_ الخمر والكَرَم :

تقترنُ الخمرُ في الثقافة العربية البدائية بالكَرَم والسَّخاء ، فهي إضاعةٌ للمال بلا حساب ، وهذا يَنفي صفةَ البخل عن الإنسان . فالبخلُ صفةٌ سيئة للغاية ، وإذا ارتبطت بشخص ، فستظل وصمةَ عارٍ في حياته ، وبعد وفاته . لذلك كان العربيُّ في الجاهلية حريصاً أشد الحِرْص على شُرب الخمر ليبدوَ أمام أقرانه كريماً جَواداً لا يُقيم للمال وزناً ، وتبرزَ صورته في المجتمع مرتبطةً بالجودِ والسخاء .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

تَرى اللحِزَ الشحيحَ إذا أُمِرَّتْ عَلَيْه لمالِهِ فيها مُهينــــا
يَمدحُ الشاعرُ الخمرَ ، ويُشِيدُ بدورها المركزي في تجذير الكَرَم ، ونفي البخل . إي إنها تساهم في بث الأخلاق الحميدة في المجتمع ، واستئصال القيم السلبية .
واللحزُ: الضَّيق الصدر. والشحيحُ: البخيل الحريص. وهما صفتان قبيحتان للغاية، فكيف إذا اجتمعتا في إنسان واحد ؟! . بالطبع ، سَيَكون وَضْعُه مأساوياً ، ويَبعث على الأسى . والشاعرُ يُقدِّم عِلاجاً لهذه الحالة الإنسانية الحرجة، وهو شُرب الخمر. فالإنسانُ اللحزُ الشحيحُ إذا أُمِرَّتْ الخمرُ عليه ( أُديرت عليه ) أهانَ مالَه، وأنفقه بلا حساب من أجل نَيْلِ هذه المتعة المغرِية، والوصولِ إلى ذِروة النشوة، والإمساك بقلب اللذة. وهكذا ، يتخلص من سوء أخلاقه، ويَكتسب الأخلاقَ الفاضلة، فيُصبِح صَدْرُه مُنشرِحاً ، يَستقبل أيامَه بكل حماس وحيوية وانشراح ، ويتخلص من بُخله الشديد، فيُصبِح كريماً جواداً يُهين مالَه، ويُبدِّده في كل الاتجاهات دون أن يَعْبأ بشيء. وبالتالي ، يتحول إلى مواطن صالح _ إن جاز التعبير ! _ ، تَرضى عنه القبيلة ، ويَمدحه أقرانه ، ويَذْكره التاريخُ باعتباره كريماً متحرراً من عبودية المال .
ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

فإذا شَربتُ فإنني مُسْتَهْلِكٌ مَالي وعِرْضي وَافِرٌ لم يُكْلَمِ

تستمرُّ الإشادةُ بالخمر ، ويتجذر مديحها بشكل واضح ، فقد تكرَّست كرمز للجود . لقد أَثْبتت الخمرُ صفةَ الكَرَم في المجتمع الجاهلي ، ونَفَت صفةَ البُخل ، فصارت هي الْحَكَمَ والفَيْصلَ بلا مُنازِع ، وهي المحك الحقيقي لتمييز الناس .
يقولُ : فإذا شَربتُ الخمرَ فإنني أستهلكُ مالي ، وأُهلِكه بِجُودي وكَرَمي .
وهو يحاول جاهداً تكوين صورة برَّاقة له ، وذلك بتقديم نفْسه كجواد كريم يُنفِق مالَه على الخمر بلا حساب ، وليس بخيلاً يتشبَّث بالمال بأظافره وأسنانه . وهو يَمدحُ الخمرَ لأنها الدليل الواضح على تحلِّيه بصفة الكَرَم لا البُخل .
وفي نَفْس الوقت ، يؤكِّد الشاعرُ أن عِرْضه تام ، وخالٍ من العيوب، ولم يُجرْح ( لم يُكلَم ) بأي شيء. فهو ذُو عِرْض وافر لم يُدنَّس بصغيرة ولا كبيرة، أمَّا مالُه فهالكٌ. إنهُ يُنقِص مالَه ويُضيِّعه ، لكنه حريصٌ أشد الحِرص على عِرْضه ، فلم يُلوِّثه بأي نقيصة . وهنا تَبْرز الإشادةُ بالخمر ، والافتخارُ بأن سُكْرَه يَحْمله على مكارم الأخلاق ، ويَمْنعه من العيوبِ . ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

ولقدْ شَرِبْتُ مِن المُدامةِ بَعْدما رَكَدَ الهَواجِرُ بالمشُوفِ المُعْلَمِ

يَفتخرُ الشاعرُ بِشُرب الخمر ( المُدامة ). وقد سُمِّيت بهذه الاسم لأنه لا شراب يُستطاع إدامةُ شُرْبه غيرها ، أو لأنها أُديمت في الدَّن ( وعاء ضخم للخمر ) حتى سَكنت . ويَحرص الشاعرُ على تخليد الفترة الزمنية التي شرب فيها الخمرَ. وهي بعدما رَكَدَ الهواجر. والهواجرُ جَمْعُ هاجرة ، وهي أشد الأوقات حَرَّاً .
يقول : ولقد شَربتُ من الخمر المعتَّقة في أكثر الأوقات حرارةً وقسوةً ، فقد اشتدَّ حَرُّ الهواجر وسَكَنَ ( رَكَدَ ) .
وما لجوءُ الشاعر إلى الخمر في هذا الجو الصحراوي الحار ، إلا محاولةٌ للترويح عن النَّفْس، والتخفيفِ من قَسْوة المكان، وتلطيفِ الجو، وإشاعةِ البهجة والسرور.
ويَحرص الشاعرُ على رسم هالة الكَرَم حول شخصيته ، فَيَذْكر أنه اشترى الخمرَ بالدينار المشُوف ( المجلوِّ ) ، والذي يَحْمل نقشاً أو علامة ( المُعلَم ) . فهذا الدينارُ المجلوُّ المنقوشُ كان ثمناً للخمر التي اشتراها فشربها لكي يَرتاح من حرارة الطقس.
واعتناءُ الشاعر بهذه التفاصيل الدقيقة يدل على حرصه الشديد على تخليد الأجواء المحيطة به وهو يَشرب الخمر ، وذِكْره الدينار ( ثمن الخمر ) يَعكس قُوَّته الشرائية ، وأنه لا يُقيم وزناً للمال ، فهو كريمٌ لا بخيل . والعربُ كانت تفتخر بِشُرب الخمر ، لأنه رمزٌ للكَرَمِ والسخاءِ والأخلاقِ الرفيعة .

7_ الخمر والأمكنة :

يَقترنُ شُربُ الخمر بالأمكنة ارتباطاً وثيقاً . فهذه الأمكنةُ حاضنة للذكريات ، والمشاعرِ، والأحداثِ المصاحِبة لحالة الشُّرب التي تُولِّد النشوةَ، وتَبعث على الفرح، فيَشْعر المرءُ بأنه يُحلِّق في الفضاء. وبشكل عام، إن الذكريات الجميلة ، والأحداث السعيدة ، والإنجازات الهائلة ، ترتبط بالأمكنة ارتباطاً مصيرياً . فاللحظاتُ السعيدة عبارة عن زَمن ، ولا يُوجد زمنٌ يَتحرك بلا مكان ، فالمكانُ هو الوعاءُ الذي تُصَبُّ فيه اللحظات المفْعمة بالسعادة . وبالطبع ، لا توجد حَركة في الفراغ أو العَدَمِ .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وكَأسٍ قَد شَرِبْتُ بِبَعْلَبَـكَّ وأُخرى في دِمَشْقَ وقَاصِرينا

ذَكَرَ الشاعرُ ثلاث بلدات : بَعْلَبَك ، دِمَشْق ، قَاصِرين . وهذه الأماكنُ كانت شاهدةً على لحظات المتعة التي عاشها برفقة كأس الخمر . لقد خَلَّد أزمنةَ النشوة ، وخَلَّد الأمكنةَ الحاضنة لهذه النشوة . لا يُريد تَركَ شيء للصُّدفة أو الاحتمالات . إنهُ يُعبِّر عن سعادته البالغة بِشُرب الخمر ، كما يُعبِّر عن فَرحه بتواجده في هذه الأماكن التي امتصَّت أيَّامَه ، وأَضْفت على حياته هالةً من السرور المدهِش الذي لا يُوصَف ، وصَبغت عُمرَه بالذكريات الجميلة التي لا تُنسَى .

الفصل التاسع العشيرة ( القبيلة ) وقوانينها

تمهيد

تُعْتَبَر العَشيرةُ ( القبيلةُ ) هي مركز التشريع في المجتمع الجاهلي ، ومَنْبع القِيَم الروحية والمادية ، والحَكَم على أفكار الأفراد وسلوكهم الاجتماعي . وبالتالي ، فليس غريباً أن تتكرس هذه الوَحدة الاجتماعية الأساسية ( العشيرة ) كنسقٍ شِعري وسياسي واجتماعي .
وبما أن الشِّعرَ انعكاسٌ للواقع ، وثورةٌ على الواقع ، وصناعةٌ لواقعٍ جديد ، كان من الطبيعي أن تَظْهر قيمة العشيرة في شِعر المعلَّقات . فبرزت سُلطةُ العشيرة وهيمنتها على سلوك الأفراد وقُدرتها على عقاب الخارجين على قانون العشيرة .
وعلى الجانب الآخر ، ظَهرت قضيةُ إنقاذ الأفراد للعشيرة ، وتضحيتهم بالغالي والنفيس من أجل رَفْع شأنها بين العشائر، وصيانة شرفها ، وتقديمها في أجمل صُورة. وهذه القِيَم مرتبطة بشكل وثيق بالدفاع عن العشيرة ، وحمايتها من كل الأخطار والتحديات الداخلية والخارجية. وبالطبع ، فحمايةُ العشيرة لَيْست شِعاراً في الهواء. إنها منظومة مُكوَّنة من القَوْل الصادق والفِعل التطبيقي على أرض الواقع ، يَحْملها فُرسان العشيرة الذين هُم العَيْن الساهرة على حماية العشيرة وأفرادها وإنجازاتها ، وهُم السُّور العالي الذي يَرْدع الأعداءَ الطامعين ، ويَرُدُّهم خائبين مكسورين .
وتتَّضح فِكرةُ تماسك العشيرة ، وترابطها الاجتماعي ، وبُروزها كمنظومة مُوحَّدة خاضعة لكلمة واحدة ، فلا تناقض بين مُكوِّنات هَرم السُّلطة القَبَلية ، فالتناسقُ الدقيقُ هو السِّمة التي تَصْبغ هذا الهرم من القاعدة حتى الرأس .
ولا يمكن تجاهل قِيمة الفخر بالآباء، والتمسكِ بتقاليدهم،والسَّيْر على خطاهم، فهُم القادة المؤسِّسون لتراث القبيلة ، والصانعون لتاريخها. والافتخارُ بهم هو افتخارٌ بالقَبيلة ومُنجَزاتها . كما لا يمكن تجاهل الصراع بين القبائل الذي هو عنوان أساسي في المجتمع الجاهلي ، حيث الاحتكام لمنطق السيف ، وتكريس الغزو والغزو المضاد.
1_ سُلطة العَشيرة :

تتجلى سُلطة العشيرة في قُدرتها على مُكافأةِ المحسِن ومُعاقبةِ المسيء . ويمكن القول إن المنظومة السُّلطوية العشائرية هي منظومة الإمساك بالعصا والجَزَرة ، والسيطرة على المال والسيف . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

إلى أَنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها وَأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ

إن السلوكَ المنحرِف للشاعر قد سَبَّب له المتاعب ، وجعله غارقاً في الهموم والتحديات . وهذا السلوكُ العبثي قد جَلب غَضَبَ العشيرة ونِقمتها . فكانَ من الطبيعي أن تتم مُعَاقَبة الشاعر ، وذلك من أجل إعادته إلى الحظيرة العشائرية . وقد اختار رِجالُ العشيرة أسلوب المقاطَعة والحصار وفرض العُزلة . وبالطبع ، فهذا إجراء ذو تأثير قوي في النَّفْس البشرية لأنه يُشعِرها بأنها معزولة ومرفوضة ومنبوذة. وبالتالي، فهناك فرصة كبيرة لمراجعة الإنسان نَفْسه، والعودة إلى حِضن العشيرة ( الأُم الكبيرة). وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، ففي المجتمع القَبَلي البدائي القاسي ، من الصعب على المرء أن يتحرك بدون عَشيرة تَحْميه، وتسانده، وتُوفِّر له الرعاية والأمن ، وتمنحه التاريخَ ، وتُحيطه بمآثر الآباء والأجداد .
لقد تأثَّر الشاعرُ بالعُزلة التي فَرَضَتْها عليه عشيرته ، فهو يَعترف_ بكل أسى _ أن عشيرته قد تَحَامَتْهُ ( تَجَنَّبَتْهُ وَاعْتَزَلَتْهُ ) . ولا بد أن هذا القرار المصيري قد اعتمده شيخُ العشيرة ، فصارَ قراراً جَماعياً ساري المفعول على الكبير والصغير ، لأن العَشيرةَ بأكملها قد تَجنَّبت الشاعرَ ، وهذا الفِعلُ الجماعي لا يمكن أن يتكرس بدون معرفة شيخ العشيرة ورِجالاتها الكِبار وجميع أفرادها . وبعبارة أخرى ، إن طبقاتِ الهرم الاجتماعي كلها قد صَادقت على هذا القرار المصيري . فلم يأتِ الأمرُ كَنزوة أو حركة عفوية أو فِعل جزئي. إنهُ فِعْلٌ جماعي لا يَمْلك أحدٌ أن يخالفه.
يحسُّ الشاعرُ بألم كبير، وحَسرةٍ عارمة . فعائلته الكبيرة ( العشيرة ) قد قاطعته، فصارَ وحيداً معزولاً ، يُقاتِل نَفْسَه بِنَفْسه . كأنه غُصنٌ مقطوع من الشجرة ، أو عُضو فاسد مبتور من الجِسم .
اسْتَوْلَت عليه مشاعرُ الحزن والأسى ، وَوَصَلَ إلى الحضيض ، واستقر في مكانة دُونية تُشبِه مكانةَ الحيوان ( البعير ) . لقد تَجنَّبته عشيرته كما يُتجنَّب البعير المعبَّد ( المطلي بالقَطِران ) ، وأَفْرَدَتْهُ ( عَزَلَتْهُ ) بسبب سلوكه المتهور ، وأفعاله الطائشة ، فهو مستمر في إضاعة المال، والاشتغالِ بالشهوات واللذاتِ،وعدم تحمُّل المسؤولية.
صارَ الشاعرُ فَرْداً معزولاً كالبعير ( الجَمَل ) الذي طُلِيَ بالقَطِران لِيُصبح ذليلاً خاضعاً مستسلماً لمصيره ، وهذه غاية الامتهان . وبشكل عام ، إن البعير يُطلَى بالقطران إذا أُصيب بالجرب ، وذلك كوسيلة علاج .
والحالةُ المزْرية التي وَصَلَ إليها الشاعرُ بسبب سُوء أفعاله ، تعكس سَطْوةَ العشيرة وقُدرتها على معاقبة الخارجين على قانونها، والمنحرفين عن النظام الاجتماعي القَبَلي. وما إحساسُ الشاعرِ بأنه بعير مُعبَّد إلا مؤشر واضح على حُزنه، ويَأْسه ، واحتقاره لنفْسه، والمرارة الكبيرة التي يَشعر بها .

2_ إنقاذ الأفراد للعشيرة :

كلُّ عَشيرة تنتظر من أبنائها أن يُقدِّموا لها الدعم والمساندة ، وأن يُساهموا في حمايتها ، ورفع رايتها بين العشائر ، وصناعة تاريخ مشرق لها . وهذه الحقيقةُ كانت واضحةً في أذهان الأفراد ، لذلك أَخذوا على عاتقهم أن يَرْتقوا بعشائرهم ، ويَصونوها من كل الأخطار .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وَقَدْ قُلتما إن نُدرِك السِّلمَ واسعاً بمالٍ ومَعروفٍ مِن القَوْلِ نَسْلـمِ

القائلان هُما اثنان من سادات العرب ( هَرِم بن سنان والحارث بن عوف ) .
وهذان الرَّجلان أَخذا على عاتقهما وقف القتال الدموي بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان ، وقد ساهما بشكل فعَّال في حماية العشائر من الفناء. وهنا يتجلى دورُ الأفراد المركزي في حماية العشيرة من كل المخاطر ، وعلى رأسها القتل ( قتل الرجال ) . فإذا قُتل الرِّجالُ فقد انقرضت العشيرةُ ، وزالت القبيلةُ من الوجود .
وهذان السِّيدان الكبيران قد قالا : إن أَدْرَكْنا السِّلمَ ( الصُّلحَ ) واسعاً بتقديم المال ونشر الخير ( المعروف ) سَلِمْنا من تفاني العشائر .
لقد سَيْطَرَ حُبُّ الخير على تفكير هذين الرَّجُلَيْن ، وقد كان بإمكانهما أن يَبتعدا عن هاتَيْن القبيلتَيْن المتناحرتَيْن ، ولا يتدخَّلا في شؤونهما . ولكنَّ النَّخْوةَ العربيةَ والسِّيادةَ القَبَليةَ والمكانةَ الاجتماعية،قادتهما إلى اتخاذ موقف إيجابي فِعْلي لا شعاراتي.
إِن استطاعا إتمامَ الصُّلحِ والمصالَحةِ بين القبيلتين بتقديم المال(الدِّيَات وغيرها)، ونشرِ ثقافة التسامح ، وبذلِ المعروف ، وتعميقِ القيم الإيجابية ، فقد أَوْقَفا قَتْلَ الرجال، وحَفِظا العشائرَ من الموت والفناء والنهاية الأليمة، وعندئذ يَعُمُّ السلامُ في المجتمع، وتتكرس قيمُ الأمن والأمان .
وقد نجحا في هذا المسْعى بسبب النِّية الصادقة، ووجود برنامج تطبيقي ذِهني تَمَّ تَنْزيله على أرض الواقع . وبالطبع ، فهذا الصُّلح لَيْس مجانياً . فالأمرُ قد احتاجَ تنازلاتٍ حقيقية من طَرَفَي النِّزاع ( قَبيلة عَبْس وقَبيلة ذُبيان ) ، كما احتاجَ أموالاً هائلة لدفع دِيَات القتلى الكثيرين ، وتسكينِ جِراح ذَويهم ، وإطفاء نار قلوبهم .

ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

ولقدْ حَمَيْتُ الحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتي فُرُطٌ وِشاحي إذ غَدَوْتُ لجامُها

لقد حَمَى الشاعرُ الحيَّ ( القبيلة ) بكل بسالة ، ودافع عن وجود عشيرته بكل قُوَّة . وقد كان مستعداً للتضحية بالغالي والنفيس من أجل تاريخه وتاريخِ القبيلة .
يحرص الشاعرُ على إحاطة نفْسه بهالة الفروسية والإقدام والتضحية في سبيل رِفعة القبيلةِ ومجدِ أبنائها. فقد ذَكَرَ دَوْرَه المركزي في حماية قبيلته من كل الأخطار ، وأشادَ بهذا الدَّوْر ، ومدحَ نفْسَه بشكل واضح ، ورسمَ صورةً بطولية لتضحياته الهائلة من أجل حماية القبيلة ( المنظومة الاجتماعية الأساسية ) .
ثم أَخْبَرَنَا عن حقيقتَيْن تتعلقان بأجواء الحرب والقتال والفروسية. الحقيقة الأُولى : إن فَرَساً سريعةً خفيفةً ( فُرُطاً ) تَحْمل شِكَّتَه ( سِلاحه ). والحقيقةُ الثانية : إن لِجامَ الفَرَس هو وِشاح الشاعر .
وهاتان الصورتان تهدفان إلى تقديم الشاعر كفارس مغوار ، وتصويره كنجم في عالَم الحروب والقتال. وهكذا تصبح الصُّوَرُ الشِّعريةُ الحربيةُ وسيلةً إعلامية لصناعة نجومية الشاعر ، وتاريخِه الشخصي ، وأمجادِ قبيلته . فكلُّ مجدٍ شخصي لا بد أن يتحوَّل _ في المجتمع العربي القَبَلي _ إلى مجد للقبيلة بأسْرها ، والعكس صحيح .
والصورةُ الشِّعريةُ الأُولى تشير إلى فروسية الشاعر وشِدَّةِ بأسه . فهو يَضَعُ سِلاحَه على فَرَس سريعة، وذلك لكي يُقاتِل بكل كفاءة وسُرعة، وأيضاً لكي يَكون على أُهبة الاستعداد لأي طارئ ، وفي أعلى درجاتِ الحِيطة والحَذَر . إنهُ المحارِبُ الأبدي الواثق بنفْسه ، والجاهز في كل الأحوال . ففي احتدام القتال يَبْرز بكامل قُوَّته ، يُقاتِل بشراسة وسُرعة . وفي حالة عدم القتال ، يَكون مستعداً وجاهزاً لكل الاحتمالات لئلا يُباغِته الأعداء . وهكذا ، لا يَترك أيَّة فرصة للصُّدفة أو المفاجأة ، فكلُّ الاحتمالاتِ تحت السيطرة .
والصورةُ الشِّعريةُ الثانية تشير إلى صلابته الذهنية ، وقُوَّته البدنية ، فهو يُلقِي لِجامَ الفَرَس على عاتقه فيكون بمثابة الوِشاح. وهو يتوشَّح باللجام ليكون على أُهبة الاستعداد ، فإذا حدثَ أمرٌ ما ، ألجمَ الفَرَسَ وركبه بُسرعة دون إبطاء . وهكذا ، تتَّضح فُروسيةُ الشاعر، فهو يَعتبر لِجامَ الفَرَس المصنوع من الحديد وكأنه وِشاح من القُماش الناعم الذي يُغطِّي الوجهَ . إنهُ يتوشَّح بالحديد القاسي مثلما يتوشَّح الناسُ بالقماش الناعم ، وهنا يَظْهر الفرقُ الجوهري بين الشاعر الفارس وغيره من الناس ، فهو متفوِّق عليهم ، ولا يَقْدرون على الوصول إلى مكانته السامية في عالَم الشجاعةِ والإقدامِ والحروبِ. كما أن قَوْلَه " إذ غَدَوْتُ " تدل على انطلاقه في الصباح ، وهذا يدل على نشاطه ، وحيويته ، وتَمَتُّعه بروح المبادَرة .

3_ الدفاعُ عن أبناء العشيرة :

تُعْتَبَر نُصرة القريب _ظالماً أو مظلوماً_ مِن أُسس المجتمع القَبَلي . إذ إن فلسفةَ العشيرة تقوم على أساس تضافر الجهود الفردية ، وتعزيز منظومة الدفاع المشترك ، وذلك من أجل الوقوف في وجه باقي العشائر كوَحدةٍ متماسكةٍ ، وقوةٍ رادعةٍ .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإنْ أُدْعَ للجُلَّى أَكُنْ مِن حُماتها وإنْ يَأْتِكَ الأعداءُ بالجَهْدِ أَجْهَدِ

يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ اعتماده كناصرٍ للقبيلة ، وصانعٍ لأمجاد العشيرة ، ومُدافِعٍ عن أبنائها. وها هُوَ يتعهد بالدفاع عن قريبه إذا تعرَّض لأي خطر أو أذى ، فالدفاعُ عن القريب دفاعٌ عن الذات، والدفاعُ عن الذات دفاعٌ عن شرف العشيرة .
يقولُ : وإن دَعَوْتني للجُلَّى ( الأمر العظيم ) أَكُن مِن حُماةِ حياتكَ وشَرفكَ .
يتعهد بِحماية حياة قريبه ( ابن العشيرة )، ونُصرته ، وصَوْنِ عِرْضِه ، والوقوفِ ضد أعدائه بكل ما أُوتيَ مِن قُوة . فالتعدي على أحد أفراد العشيرة ، هو تَعَدٍّ على العشيرة بِرُمَّتها . وهذا الأمرُ لا مجال للتهاون فيه ، فأيُّ تهاون سَيُؤَدِّي _ حتماً _ إلى تدمير اسم العشيرة، وجعلها فريسةً سهلة لباقي العشائر ، وعندئذ سَيَطْمع بها الجميع . فلا بد _ في السياسة الاجتماعية القَبَلية _ مِن توليد نظام رَدْع يُخيف الآخرين،وذلك لكي تظل العشيرةُ مرهوبةَ الجانب، ومحافظةً على وَزْنها بين العشائر.
ويستمرُّ الشاعرُ في توضيح موقفه من نُصرة قريبه والانتصارِ لعشيرته ، فيقول : وإن يَأتكَ الأعداءُ لقتالكَ أَجهد في حمايتك ومقاومتهم غاية الجهد .
سَوْفَ يَبذل كلَّ ما بوسْعه لحماية ابن العشيرة ، وقتالِ أعدائه ، والتصدي لهم بكل حَزم . سيتفانى في صيانة شرف العشيرة ، وحفظِ عِرْضِ قريبه من كل أذى . إنهُ مستعد للقتال دفاعاً عن رابطة الدم ، ومن أجل إعلاء راية العشيرة . وهكذا يُقدِّم الشاعرُ نفْسه كمواطن صالح يتحلى بروح الانتماء للقبيلة ، والولاءِ للعشيرة.
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإن يَقذِفوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهم بِكأسِ حِياضِ الموتِ قَبْلَ التَّهـددِ

يُبَرْهِن الشاعرُ على وَلائه المطْلق لعشيرته ، ومساندته الكاملة لأبنائها ، ويضعُ كافةَ إمكانياته في خِدمة أبناء العشيرة ، والدفاع عنهم ، وحراسة اسم العشيرة .
يُصرِّح بالفم الملآن بأنه سَيُواجِه الأعداء ويقضي عليهم إذا تعرَّضوا لقريبه بالكلام السَّيئ . فيقول : وإن أهانكَ الأعداءُ بالكلام الجارح ، وقَذَفوا عِرْضَكَ بالقَذْع ( الفُحْش ) ، جَعَلْتُهم يَشْربون مِن حِياض الموت قبل تهديدهم .
إن أيَّةَ إساءة إلى العشيرة أو أحد أبنائها ، لا يمكن تبريرها ، أو تجاهلها ، ولا بد من التصدي لها بكل حَزْم . لذلك فقد كَشَّرَ الشاعرُ عن أنيابه ، وتوعَّد كُلَّ مَن تُسوِّل له نَفْسُه الإساءة إلى قريبه بالهلاك الحتمي والنهايةِ الأليمة .
فإذا قامَ الأعداءُ بالإساءة الكلامية إلى قريب الشاعر ( ابن العشيرة )، ولَطَّخوا عِرْضَه بالفُحش والبذاءة ، فإن الشاعرَ سَيَسْقيهم كأسَ الموتِ المرَّةَ . سَيُورِدُهم حِياضَ الموت فَيَشْربون مِنها رَغْمَ أُنوفهم . والحِياضُ جَمْعُ حَوْض . سَوْفَ يُبيد الأعداءَ قبل أن يُهدِّدهم ، فلن يُضيِّع وَقْتَه في تهديدهم ، واختيارِ الألفاظ القاسية لمهاجمتهم، وإخبارهم بأن الهلاك يَنْتظرهم، وإنما سَيَقْضي عليهم مباشرةً بلا مُقدِّمات. وهذا يدل على غياب المنطق العقلاني بشكل كامل، ورفضِ لغة الحوار بصورة تامة. فهناك خيار وحيد ، وهو الاحتكام إلى السيف ، ولا شيء غَيْره .

4_ فُرسان العشيرة :

كلُّ عشيرةٍ إنما تَقوم على كاهل فُرسانها ، فهُم الذين يُدافعون عن وجودها ، ويَحْملون تاريخَها ، ويَصنعون حاضرَها ومستقبلَها . وهؤلاء الصَّفْوةُ يَكونون محط الأنظار ، ويَكون التعويلُ عليهم في كل المحافل بسبب إمكانياتهم الهائلة المتميِّزة .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

هُمُ السُّعاةُ إذا العَشيرةُ أُفْظِعَتْ وهُمُ فَوَارِسُها وَهُم حُكَّامُهـا

هذه العَشيرةُ لَيْست ورقةً في مَهَبِّ الريح، أو شيئاً مُهمَلاً بلا وزن . إنها منظومةٌ اجتماعية ذات تاريخ عريق ، وحاضر مُشرِق . تمتلئ بالرجال الأشداء الذين يتحمَّلون المسؤوليةَ في أصعب الظروف ، ويَكونون على قلبِ رَجلٍ واحدٍ في وقت الشِدَّة ، ولا يتهرَّبون من التحديات المصيرية. إنهم السُّعاة الذي يَسْعَوْن إلى حماية العشيرة إذا أُصيبت بأمرٍ فظيع ( أُفظِعت ) .
فإذا تعرَّضت العشيرةُ لأي خطر ، أو أصابها أمرٌ عظيم سَعَى هؤلاء الرِّجالُ الأبطالُ إلى إزالته بكل قُوَّتهم ، وسَخَّروا كلَّ قدراتهم لكشف المكروه عن عشيرتهم، وتفريجِ كُربتها ، وإنقاذِ أبنائها . وهذا غير مستغرَب ، فهؤلاء الرِّجال هُم فرسان العشيرة ( فوارسها ) في المعارك، وهُم القادة الشُّجعان عند القِتال، كما أنهم الحُكَّامُ أصحابُ الكلمةِ المسموعةِ في مواطن النِّزاع ، وهُم رؤوس القَوْم الذين يُفزَع إليهم عند التخاصم .
والشاعرُ يَهدف _ مِن وراء هذا المدح _ إلى تصوير أقاربه وعائلته الضَّيقة كسادةٍ للناس، وزعماء للعشيرة . فهؤلاء الفُرسان الحُكَّام الذين يَحْملون تراثَ العشيرة بكل اقتدار ، ويُدافِعون عنه بكل تفانٍ ، هُم أقارب الشاعر ، والدائرة الأُسرية المحيطة به . وكأن الشاعرَ يقول إن عائلتي هي رأس العَشيرة .

5_ تماسك العشيرة :

إذا كانت العشيرةُ متماسكةً ، فلا يمكن اختراقها مِن أيَّة جِهة . وإذا كانت الجبهةُ الداخليةُ مُحصَّنةً ، فإن تأثير العدو الخارجي يَنعدم _ مهما بَلَغَت قُوَّته _ . ولا يمكن للمنظومة الاجتماعية أن تَسْقط ، إلا إذا سَقَطت من الداخل . كما أن الإنسان لا يمكن أن ينهار ، إلا إذا انهارت معنوياته ( الجبهة الداخلية ) . لذلك فإن تماسك العشيرة ، وتعاون أبنائها ، والتحام قاعدة الهرم الاجتماعي مع الرأس، أمورٌ في غاية الأهمية ، لأنها تساهم بشكل فعَّال في توحيد كلمة العشيرة ، وحفظِ وجودها ، وضمانِ تواجدها على الساحة.
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وهُم العَشيرةُ أن يُبَطِّئَ حَاسِدٌ أوْ أنْ يَميلَ مَعَ العَدُوِّ لِئَامُها

استخدمَ الشاعرُ لفظَ " العشيرة " لِيُشير إلى تماسك الأفراد في وجه التحديات المختلفة ، وأنهم وَحدةٌ اجتماعية مترابطة ، وكلمةٌ واحدة . فهُم مُتوافِقون لا مكان للنِّزاع بينهم ، وهُم متعاونون لا يَعْرفون الفُرقةَ والشِّقاقَ . إنهم عشيرةٌ متماسكةٌ حريصةٌ على التعاون لئلا يُبَطِّئَ حاسدٌ بَعْضَهم عن نَصْرِ بَعْضٍ ، وكراهية أن يميل لئامُ العشيرة ( الطابور الخامس ) مع العدو .
إن تعاونَ أبناءِ العشيرة وتلاحمهم ضرورةٌ حتمية، ومصلحةٌ عليا . فهذا التعاون يَقطع الطريقَ على الأعداء المتربِّصين بالعشيرة، ويُحاصرهم، ويمنعهم من الانقضاض على العشيرة وتدميرها ، وبالتالي يَعْجزون عن تحقيق أهدافهم الخبيثة .
وإذا كانت العشيرةُ متماسكةً فلن يَقْدر الحُسَّادُ على تشتيت كلمة الأفراد ، وتثبيط بعضهم عن نَجْدةِ بعضٍ ، وبثِّ التقاعس والفُرقة بين الصفوف . وأيضاً ، لن يَقْدر الخوَنةُ من أبناء العشيرة على مساندة العدو ضد أبناء جِلْدتهم، فَوَحْدةُ العشيرةِ تشلُّ حركةَ الطابور الخامس، وعندئذٍ لا يستطيع لئامُ العشيرة أن يَنصروا الأعداءَ على الأقاربِ . وهذا يَعكس الأهميةُ القُصوى لتماسك العشيرة ، فالأمرُ ليس رفاهيةً أو تحصيلَ حاصلٍ . إنهُ أمرٌ مهم للغاية لأنه متعلق بالأمن القَوْمي للعشيرة، وأيُّ تقصيرٍ في هذا المجال سيؤدي إلى عواقب وخيمة ذات تأثير مُدمِّر على الكيان العشائري ، ووجودِه ، وحياةِ أبنائه .
6_ الافتخار بالآباء والسَّيْر على خُطاهم :

الآباءُ _ في المجتمع القَبَلي _ يُمثِّلون الركيزةَ الأساسية في التاريخ العائلي ، فَهُم مَنْبعُ الشرعية الأُسرية، ومركزُ التُّراث، وحقيقةُ السُّلالة. ولا يمكن تجاوزهم إطلاقاً.
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

مِن مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهم آباؤُهم ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمامُهــا

تتَّضح قيمةُ الافتخار بالآباء، وتَبْرز أفعالهم السَّامية. وليس أمام الأبناء مِن خيار سوى السَّيْر على خطى أسلافهم الذين شَقُّوا طريقَ المجد ، وصنعوا البطولاتِ .
إنهم مِن مَعْشَر ( قَوْم ) سَنَّ لهم آباؤهم اكتسابَ الفضائل ، والمسارَعةَ إلى المجد، والتحلِّي بِعُلُوِّ الهِمَّة، واقتناصَ البطولاتِ، والفوزَ بالمعالي. ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ (طريقة )، وإمام يُؤتم به فيها . وهذا أمرٌ طبيعي ، فكلُّ قَوْمٍ لهم فلسفةٌ في الحياة، وطريقةٌ في فهم الوجود. ولكلِّ شيخٍ طريقةٌ وأُسلوب. وأيضاً ، كُلُّ طريقةٍ تتطلب وجود إمام ( رأس ) يَسير الناسُ وراءه ، ويَقتفون آثارَه ، ويَحْملون أفكارَه ، ويَنْشرونها في كل الأماكن . ولا توجد فِكرةٌ تُولَد من العَدَم ، أو تأتي من الفراغ . فكلُّ فكرةٍ لها صاحبٌ ، ولها مُؤيِّدون مؤمنون بها . وكما أنه لا يُوجد طفلٌ بلا أب ، فأيضاً لا توجد فِكرة بلا أب . ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وَرِثْتُ مُهَلْهِلاً والخيرَ مِنه زُهَيْراً نِعْمَ ذُخرُ الذَّاخِرينا

يتجلى موضوعُ الافتخار بالآباء بصورةٍ واضحة ومُباشِرة . وكأن الشِّعرَ قد تحوَّل _ في هذا السياق_ إلى إعلانٍ عشائري، أو خطابٍ للمديح، أو شَجَرةِ نَسَب.
يقول الشاعرُ بكل فخر : وَرِثْتُ مَجْدَ مُهَلْهِل ، وحَملتُ رايته ، وصار شرفُه شرفاً لي . وأيضاً ، وَرِثْتُ مَجْدَ الرَّجل الذي يتفوق على مُهَلْهِل ، وهو خيرٌ مِنه ، وهو زُهَيْر . إنهُ رَجلٌ شريفٌ كريمٌ ، وكَنْزٌ ثمين ، فَأَنْعِمْ بِه وَأَكْرِمْ . فمجدُه وشرفُه صارا مَضْرب المَثَل ، يُفْتَخَر بهما في كل زمانٍ ومكان .

7_ السَّطْوة العشائرية :

إن المجتمعَ العربي القديم خاضعٌ للسُّلطة القَبَلية ، ومحكومٌ بالسَّطْوةِ العشائرية . كما أن قيمَ المجد والنفوذ والقوة تعتمد على حَجم العشيرة، ومكانتها بين العشائر .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

ونَشْربُ إن وَرَدْنا الماءَ صَفْواً وَيَشْربُ غَيْرُنا كَدِراً وَطِينـا

يَرسم الشاعرُ هالةً لامعةً حول عشيرته ، ويَحرص على تصويرها كرأسٍ لباقي للعشائر . فهُم الذين يتقدَّمون الناسَ ويَقُودونهم ، فيشربون الماءَ صافياً لأنهم أوَّل مَن يَشْرب ، أمَّا غَيْرهم فيشرب الماءَ مُلوَّثاً بسبب كثرة الأيادي التي عَبَثت به .
والقضيةُ لَيْست قضيةَ " الماء والشُّرب "، فهذه الصورةُ الشِّعرية رمزيةٌ وشديدةُ التكثيف، وهي تَرْمز إلى سيادة عشيرة الشاعر على باقي العشائر . فهُم يأخذون مِن كُل شيء أحسن ما فيه ، ويَتركون لغيرهم الشوائبَ والأوساخَ . مما يدل على أنهم السادة والقادة ، وغَيْرُهم أتباع لهم .
وهذا المعنى مهمٌ جِدَّاً في المجتمع القَبَلي المحكوم بِقِيَم السيادة والبطولة والزعامة. فكلُّ شيخ قبيلة يَحرص على تصوير نفْسه كقائد للقبائل ، وزعيم للعَرَب . وكلُّ قبيلة تُسمِّي نفْسها سَيِّدةً للقبائل . وهذا الصراعُ المحموم على المستوى الفردي والجماعي يَعكس ثقافةَ السيادة والقيادة المتجذرة في العقل العربي .
ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

إذا بَلَغَ الفِطامَ لنا صَبِيٌّ تَخِرُّ لهُ الجبابِرُ ساجِدينا

يَرسم الشاعرُ صورةً أسطوريةً لقوة عشيرته ، وتتجذر الهالةُ الجنونية المحيطة بالقبيلة . لا مكان هنا للمنطق . لا وقت لصوت العقل . القوةُ أوَّلاً ، والقوةُ أخيراً.
يقولُ : إذا بَلَغَ صِبياننا وقتَ الفِطام سَجدتْ لهم الجبابرة من القبائل الأخرى .
لا شَكَّ أن هذه الصورة الممتلئة بالتحدي والفخر والسُّؤدد ، تكشف ماهيةَ الصراع العشائري، وتُبرِز طبيعةَ البيئة العربية الصحراوية القاسية، حيث القبيلة القوية تَسْحق القبيلةَ الضعيفة . وهؤلاء الصِّبيان _ الذين ليس لهم ناقة ولا جَمل في الصراعات القَبَلية_ يتم إقحامهم في عالَم شديد الخطورة ، وغير متصالح مع نفْسه . وبمجرَّد بلوغهم وقت الفِطام تتكرَّس زعامتهم وسِيادتهم على باقي القبائل ، حيث يَسْجد لهم الجبابرةُ والفُرسانُ الأشداء والأشراف .
والشاعرُ يَرمي إلى إبراز مكانة عشيرته وسِيادتها على باقي القبائل . وإذا كان الصِّبيان في عشيرة الشاعر قد بَسطوا نفوذَهم على جبابرة القبائل ، فما بالك بالشجعان والرِّجال الأشداء في عشيرة الشاعر؟!.وما بالك بالصِّبيان عندما يَكْبرون ويُصبِحون رِجالاً ؟!. لقد أثارَ الشاعرُ هذه الأفكار ضِمنياً، وأحاطَ عشيرته بهالة القداسة والسِّيادة ، مُؤمناً بأن منطق القوة هو المنطق الوحيد في هذه البيئة القاسية.


8_ الافتخار بالنَّسَب والحَسَب :

النَّسَب والحَسَب هما الرِّئتان اللتان يتنفس من خلالهما الفردُ في البيئة الجاهلية . فهذا الفردُ لا يَمْلك غير أسماء آبائه وتاريخهم وأمجادهم ، والتغني بها. وهكذا يصبح الماضي منجمَ ذهب ، وإطاراً شرعياً للوجود ، وذاكرة للحياة بكل تفاصيلها .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجميعُ تُلاقِــني إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الشَّريفِ المُصَمَّدِ

إذا اجتمع الناسُ للافتخار، وذِكر مناقب الآباء والقبائل ، وتعظيمِ البطولات العشائرية، وتكريسِ الانتصارات القَبَلية، وتمجيدِ الأنساب والأحساب. فإن الشاعرَ سيتفوق عليهم جميعاً ، فهو ينتمي إلى ذِروة البيت الشريف المُصَمَّد ( المقصود ) .
إنهُ ينتمي إلى قِمَّة الشرف، ويعيش في أعلى المجد، وقد وَرِثَ السُّؤددَ كَابِراً عن كَابِر . وهذه السُّلالةُ الذهبيةُ من الصعب أن تتكرر . لقد أحاطَ الشاعرُ بالشرف من جميع الجهات ، وحازَ المجدَ من جميع أطرافه . وهذا المكانةُ الساميةُ لم يصل إليها أحدٌ من أبناءُ الحَي ، وهذا يعني أن الشاعر هو الأوفر حظاً في الحَسَب ، والأعلى رُتبةً في عالَم الأنساب، فهو صاحبُ النَّسَب الشريف ، والحَسَب الكريم ، والمنْزلة الرفيعة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وَيَوْمَ حَبستُ النَّفْسَ عِندَ عِراكه حِفاظاً على عَوْراته والتَّهــدُّدِ

تتجلى فروسيةُ الشاعر ، وتتَّضح مكانته العظيمة . فقد حَبَسَ نَفْسَه عن القتال ( العِراك ) والمناوَشاتِ وتهدُّدِ الأقران، وذلك من أجل المحافظة على حَسَبه الكريم ، ونَسَبه الشريف .
والشاعرُ لم يَتْرك القتالَ احتراماً للنَّفْس البشرية، أو رحمةً بالبشر، أو حقناً للدماء ، أو حِفاظاً على المنجزات الإنسانية . وإنما تَرَكَ القتالَ حِفاظاً على نَسَبِه الكريم ، ودفاعاً عن شرفه المقدَّس . إنهُ غير مَعْنيٍّ بخصمه ، ولا يُقيم وزناً لحياته أو مَوْته . فدماءُ الخصوم لا معنى لها في قاموس الشاعر. المهم هو أن يُحافِظ الشاعرُ على طهارة نَسَبه ، فلا يُجرَح بِقَوْلٍ أو فِعْلٍ ، وأن يُحافِظَ على قَداسةِ حَسَبه ، فلا يُلوَّث ، ولا يتم التطاول عليه .

الفصل العاشر
الطعام والإطعام

تمهيد

تحتل منظومةُ ( الطعام والإطعام ) في البيئة القَبَلية موقعاً حسَّاساً ، وشديد الأهمية. فهذه المنظومة دليل باهر على الكَرَم والسِّيادة والمكانة الاجتماعية الرفيعة . ولا شَكَّ أن المنْزلة الاجتماعية في الجاهلية كانت تقاس بالقُدرة على إعداد الطعام ، وتنظيم الولائم ، وإطعام الناس . وهذه الأمورُ لا يمكن للشخص العادي أن يَقوم بها ، وإنما يقوم بها شيوخُ القبائل ووجهاء القَوْم وأبناء العائلات الشريفة الثَّرية . فإعدادُ الطعام ليس عملاً مجانياً ، أو شِعاراً مُفْرغاً من المعنى ، بل هو عملٌ يحتاج إلى أموال طائلة ، ورجالٍ كثيرين .
وقد بَرز الطعامُ كقيمةٍ أساسية في بعض الأشعار . واهتم بهذه القيمة شاعران من شعراء المعلَّقات هُما امرؤ القَيْس وطَرَفة بن العبد . والجدير بالذِّكر أن هذين الشاعرَيْن من أُسرتَيْن شريفتَيْن . فامرؤ القَيْس من عائلة مَلَكِية ، وطَرَفة من عائلة شريفة غنية . لذلك ليس غريباً أن يتشرَّبا ثقافةَ إعداد الولائم للآخرين .
ويتَّضح الارتباطُ الوثيقُ بين المغامرات العاطفية وإعداد الطعام ، فتظهر فكرةُ إطعام العذارى ( النساء القريبات إلى قلب الشاعر ). وبالطبع ، إن المرأةَ تحب الرَّجلَ الكريمَ الذي يُنفِق عليها بلا حساب، ويقوم بتحقيق رغباتها الروحية والمادية.
وأيضاً ، تَظْهر مؤشِّرات شِعرية على " كثرة الطعام " ، وهذا يدل على الغِنى والازدهار ، ورغد العَيْش ، والمنْزلة الاجتماعية الرفيعة .
وتتجلى ثقافة إطعام الندامى ( الأصدقاء ) في النسق الشِّعري ، مما يشير إلى ترابط العلاقات الاجتماعية ، والحرصِ على حضور مجالس اللهو والاستمتاع ، وتنظيمِ اللقاءات الحميمة بين الأصدقاء والأحبة .
وأخيراً ، يَبْرز الفرقُ بين طعام السادة وطعامِ الخدم، وهذا أمرٌ طبيعي في المجتمع العربي القَبَلي القديم الذي هو مجتمع طبقي إقطاعي قائم على التمييز والعنصرية .
1_ إطعام العذارى :

يعيش الشاعرُ حُلماً سِحرياً مع حبيباته العذارى، وهو حريصٌ على خَطْبِ وُدهنَّ، وبعثِ الفرح في قلوبهنَّ ، ونَيْلِ ثقتهنَّ . ولم يجد أفضل من ذبحِ بَعيره ، وإطعامهنَّ من لحمه ، وذلك تعبيراً عن حُبِّه لهنَّ ، وسعادته بوجودهنَّ . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ويَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطِيَّتي فيا عَجَباً مِن كُورِها المُتَحَمَّلِ

ما زالت تلك الحادثةُ الرائعةُ عالقةً بذهن الشاعر رغم مرور الوقت . وما زالَ ذلك اليومُ الذي عقرَ فيه بَعيره للعَذارى عَصِيَّاً على النسيان. لقد ذَبَحَ البعيرَ ( المَطِيَّة ) من أجل عيون العذارى ( الأبكار ) . وقد كان ذلك اليوم من أجمل أيام حياته ، ففيه نالَ إعجابَ حبيباته ، وكسبَ قلوبهنَّ . وهذه الذِّكرى الجميلة دَفعت الشاعرَ إلى تخليد ذلك اليوم المهم ، وتمجيد ذلك الحَدَث البارز ، لَيَبْقيا منارةً على طول الزمان، وتاريخاً مجيداً تتوقف عنده الأجيال، وشِعراً خالداً في قاموس العُمر .
ثُمَّ تعجَّب الشاعرُ مِن حَملهنَّ رَحْل ( كُور ) بعيره بعد ذَبْحه ، واستحواذهنَّ على متاعه وأشيائه بعد ذلك . لقد قُمْنَ باقتسام متاع الشاعر دون إعارته أي اهتمام ، كأنه غير موجود معهنَّ . وهذا يشير إلى سقوط الحواجز بين العذارى والشاعر ، لذلك تَجَرَّأْنَ عليه ، وتَصَرَّفْنَ اعتماداً على عواطفهنَّ ودلالهنَّ ، وَهُنَّ على ثقة تامة بأن الشاعر لا يَقْدر على منعهنَّ أو توبيخهنَّ ، فَهُنَّ يَمْلِكْنَ سلاحاً فعَّالاً لا يَستطيع الشاعرُ مواجهته ، وهو دلع الأنوثة . ولا يخفَى أن ضعفَ المرأةِ هو نقطةُ قُوَّتها . وقد قامت العذارى بتوظيف دلالهنَّ ، واستغلالِ سُلطة أُنوثتهنَّ ، من أجل التلاعب بالشاعر ، والسيطرةِ على ممتلكاته بكل هدوء وبرودة أعصاب . وهكذا صارت الأنوثةُ الناعمةُ هي القوةَ الضاربةَ التي استسلم لها الشاعر .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
فظلَّ العَذارى يَرْتَمِينَ بلَحْمِهـا وشَحمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ

تستمتع العذارى بشبابهنَّ ، ويَقضينَ وقتهنَّ في اللعب والمرح . يُلقي بعضُهنَّ إلى بعض لحمَ البعيرِ المشويَّ ، فهو لحمٌ شهيٌّ ولذيذٌ منحهنَّ السعادةَ والنَّشوةَ والمتعةَ .
إنهنَّ غارقاتٌ في التَّسلية والألعابِ الطفولية، تُلقي كلُّ واحدةٍ شواء المَطِيَّة (البعير ) باتجاه رفيقتها، وذلك بهدف الاستمتاعِ ، والاستجمامِ ، وكسرِ الملل ، وطردِ السآمة . يَقضينَ نهارهنَّ في ممارسة هذه اللعبة ، متحرِّراتٍ من الضغوطِ الاجتماعية، وأعباءِ الحياة ، وتعبِ الفكر، وثقلِ المسؤولية. لا شيء يُعكِّر مزاجهنَّ ، ولا شيء يُكدِّر عَيْشهنَّ . ويَفتخر الشاعرُ بِجَوْدة لحم بعيره ، كما يَفتخر بالشَّحم، ويُشبِّهه بخيوط الحرير ( هُدَّاب الدِّمَقْس ) الذي أُتقِن فَتْلُه ، فصارَ منظره يَبعث على البهجة ، ويُسيل اللعابَ . وهذا يشير إلى أن المطيَّة تَمَّ شواؤها بصورة مُتقَنة ، فنضجَ اللحمُ ، وصارَ كُتلةً شهية، وذابَ الشَّحمُ، وصارَ خيوطاً حريرية ناعمة مفتولة بكل جَمال وإتقان.

2_ كَثرة الطعام :

لا رَيْبَ أن كَثْرةَ الطعام مُؤشِّرٌ واضح على خصوبةِ المراعي ، ووَفْرةِ المحصول الزراعي ، والرخاءِ الاقتصادي ، والرفاهيةِ الاجتماعية ، والاستقرار السياسي . وبالإضافة إلى هذا، فإن كثرة الطعام دليلٌ على قوة القبيلة، وتماسكها الطبقي. والأمنُ الغذائي هو طريق السيادة الحقيقية لا الشعاراتية. وإذا استطاعت القبيلةُ أن تُطعِم نَفْسَها بنفْسها،فهذا يعني أن قرارها سيكون مستقلاً لا يَتْبع أيةَ جهة. أمَّا إن عَجزت القبيلةُ عن إطعام نفْسها، فسوفَ تَخضع للقُوى التي تُقدِّم لها الطعامَ ، وعندئذ تَخسر هَيْبتها ، وتَفقد مكانتها ، ويصبح مصيرُها لُعبةً في أيدي الآخرين . يقولُ امرؤ القَيْس :

فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِن بَينِ مُنْضِجٍ صَفيفَ شِواءٍ أوْ قَديرٍ مُعَجَّـلِ
إنه الرخاءُ الاجتماعي . لا مكان هنا للمجاعات ، أو الصراع على الطعام . فالطعامُ يَكفي الجميعَ. كَثُرَ الصَّيْدُ، وعَمَّ الخِصْبُ ، واشتغل القومُ بالطبخ والشَّوي.
انقسمَ طُهاةُ اللحم ( الأشخاص الذين يَعْملون على إنضاجه ) إلى قِسْمَيْن : قِسْمٌ يُنضِجون شِواء مصفوفاً ( صَفيفاً ) على الحجارة في النار ، وقِسْمٌ يَطْبخون اللحمَ في القِدْر . والقديرُ هو اللحم المطبوخ في القِدْر .
كُلُّ فريقٍ يَعرف عَمَلَه بدقة ، ويقوم بمهمَّته على أكمل وَجْهٍ . إنهما فريقان متكاملان . ولا يوجد أحدٌ بلا عمل . إنها عملية دؤوبة من أجل إعداد الطعام الفاخر الممتلئ باللذةِ ، والمذاقِ الطَّيب ، والرائحةِ الشَّهية .

3_ إطعام الندامى :

لا بد أن يَحْضر في مجالس الأصدقاء ( الندامى ) في الجاهلية الطعامُ والخمرُ . وهذا أمرٌ طبيعي لأنه جزءٌ من عاداتِ الناسِ المتعلِّقةِ بالضِّيافة والكَرَم واللهو ، والهادفةِ إلى تمتين الروابط الاجتماعية . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فَمَرَّتْ كَهاةٌ ذَاتُ خَيْفٍ جُلالةٌ عَقيلةُ شَيْخٍ كالوَبيلِ يَلَنْــدَدِ

تسلَّط الشاعرُ على إبل والده ، ولم يعد أحدٌ قادراً على إيقافه، أو منعه من ذبح الإبل التي سيطرَ عليها الخوف ، وهَيْمنَ عليها الذُّعر . وكُلما رَأت الشاعرَ أَدْركتْ أن ساعة النهاية قد حَلَّتْ . أثارَتْ مخافةُ الشاعرِ وهَيْبته هذه الإبلَ . وفي ظِل هذا الجَو الملبَّد بالرُّعب، وانعدامِ الثقة بين الطرفَيْن، مرَّت بالشاعر ناقةٌ ضخمةٌ ( كَهاة/ جُلالة)، لها جِلْد الضَّرْع ( ذات خَيْف ) . وهذه الناقةُ الضخمة السمينة مَنْظرها يُغري بذبحها ، والحصولِ على لحمها ، وتقديمه للندامى وَليمةً ما بَعْدها وليمة . لكنَّ المشكلة أن هذه الناقة الضخمة هي عقيلةُ أبيه الشيخِ الطاعنِ في السِّن ، أي إنها أكرمُ ماله ، وأنْفسُ ممتلكاته . ولا شَكَّ أن ذَبْحها سَيُغضِب أباه اليلندد ( الشديد الخصومة ) الذي كَبُرَ سِنُّه، ويَبِسَ جِلْدُه، وشَابَ شَعْرُه ، ونحل جِسْمُه حتى صارَ كالعصا الصخمة ( الوبيل ) يَبساً ونحولاً . ومع هذا ، فقد نَحَرَ الشاعرُ كرائمَ مال أبيه لندمائه لكي يَبعث فيهم الفرح والمرح والنَّشوة، ويُوقنوا بأنه كريمٌ جواد، ونديمٌ مُخلِص ، لا يُقيم وزناً للمال ، ولا يَعْبأ بلوم اللائمين ، حتى لو كان اللائمُ هو أباه صاحبَ المال. وبالتأكيد، إن العلاقة بين الشاعر العابث وأبيه الحريص متوتِّرة ، ودليلُ ذلك هو وصفُ الابن لأبيه بأنه يلندد .

4_ طعام السادة وطعام الخدم :

إن السادةَ والخدمَ لا يأكلون معاً، ولا يأكلون نَفْسَ الطعام ، فلا بد _ في البيئة الجاهلية _ من التفرقة بين الطرفَيْن ، فهذه البيئة قائمة على الصراع الطبقي ، والتمييز العنصري .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فظلَّ الإماءُ يَمتلِلْنَ حُوارَهــا وَيُسعى عَلَيْنا بالسَّديفِ المُسَرْهَدِ

ظَلَّ الإماءُ يَشوينَ حُوارَ الناقة ( وَلَدَها ) تحت الرماد الحار . وهذه العمليةُ تُسمَّى الامتلال. ويَسْعى الخدمُ على أسيادهم بالسَّنام المقطَّع ( السَّديفِ المُسَرْهَدِ ). لقد أكل السادةُ أَطْيَبَ الأجزاء ، حيث إنهم استأثروا بقطع السَّنام ، وتركوا الباقي للخدم.وذِكْرُ الحُوار يدل على أن الناقة كانت حُبلى،وهي أشْرف الإبل وأنْفس مالٍ عند العرب، وأعز ما تكون عليهم. وما ذَبْحُها إلا مؤشر على لامبالاة الشاعر، وأنه لا يُقيم وزناً لأموال عائلته، وأن هدفه هو الاستمتاع بأيَّة وسيلة،ومهما كان الثمن.

الفصل الحادي عشر
المال

تمهيد

يُعْتَبَر المالُ من أهم أعمدة البناء الاجتماعي . وهذه مسألة طبيعية ، فهو المحرِّك لعجلة الحياة بكل تفاصيلها ، وبدونه يُصبِح الإنسانُ تائهاً ، وتُصبح الحياة جحيماً لا يُطاق . والأهم من هذا ، أن حُب المال غريزة مغروسة في الذات الإنسانية .
ولا يخفَى أن كلَّ المجتمعات البشرية تتكون من الأغنياء والفقراء . فالناسُ يتفاوتون في عقولهم وقدراتهم وأرزاقهم . وفي ظل هذه المتغيِّرات ، يظل هناك قاعدةٌ ثابتة وأساسية ، وهي أن المالَ نِعمةٌ جليلة لا يمكن للحياة أن تستقيم بدونه ، ولكنْ إذا تم استخدامه في سُبل الضلال فسيصبح نقمةً على أصحابه . فالواجبُ أن يظل المالُ في اليد لا القلب ، وأن يظل وسيلةً لا غاية . وهو _ أولاً وأخيراً _ عَرَضٌ زائل يَأتي ويَذهب . وقد تكرَّست في بعض الأشعار لمحاتٌ فلسفية متعلقة بالمال . فَبَرَزَت الحسرةُ مِن ضِيق ذات اليد ، وظَهَرَ تمنِّي الغِنى ، والأملُ بِعَيْشٍ رغيد .
ولا يمكن تجاهلُ فِكرة التقلب بين الفقر والغِنى ، فالحياةُ لا تكفُّ عن الدوران ، وأحوالُ المعيشة لا تستقر على حال .
ومن القضايا الأساسية في هذا السِّياق ، قضيةُ جمع المال للورثة ، وهي قضيةٌ مُضحِكة مُبكِية تشير إلى سُخرية الحياة ، وأنها متاع زائل . فالإنسانُ يَحْرص على جمع المال بكل وسيلة للاستمتاع به ، وهو _ في حقيقة الواقع _ إنما يَجْمع المالَ لورثته الذين سَيَدْفنونه سريعاً عندما يَموت ، ويَعودون إلى اقتسام التَّركة والتقاتل على حصص الميراث .
وبَقِيَ أن نقول إن التعامل بالمال يَكْشف عن معادن الرجال ، والمالُ فِتنةٌ شديدة، وليس أمام الإنسان إلا الصمود أو السقوط ، فلا خيارٌ ثالث ، ولا حَلٌّ وسط . وللأسف ، فإن السَّواد الأعظم من الناس يَسْقطون في هذه الفِتنة .

1_ تمنِّي الغِنى :

كلُّ عاقل يتمنى أن يُصبح غنياً . فالمالُ سُلطة تُكسِب صاحبها الاحترام، وتجعله يُحقِّق أحلامَه . أمَّا الفقرُ فهو ذُل في النهار والليل معاً ، ويَكفي المال شرفاً أنه يَحفظ ماءَ وجه صاحبه، ويمنعه من سؤال الناس. وهذا إنجازٌ بحد ذاته . يقولُ طَرَفة بن العبد :

فلوْ شاءَ رَبِّي كنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن مَرْثَدِ
فأصبحــتُ ذا مالٍ كثيرٍ وَزَارَني بَنُونَ كِرامٌ ســادَةٌ لِمُسَــوَّدِ

لا يمكن فهمُ البَيْت الثاني بشكل صحيح إلا إذا عَرَفْنا البَيْت الذي يَسْبقه ، لذلك ذَكَرْنا البَيْتَيْن معاً . وقد سبقَ أن شرحنا البيتَ الأوَّل في الفصل الأوَّل .
تتفجرُ الحسرةُ في قلب الشاعر ، وتتكاثرُ الخَيْبات في عُمره . والبيتُ الثاني ليس إخباراً بحقيقة واقعية ، وإنما هو مجرَّد أُمنية ، أو حُلم يُسعَى إلى تحقيقه .
يقولُ : فأصبحتُ صاحبَ مالٍ كثير ، وزارني أبناء مَوْصوفون بالكرم والمجد والسِّيادة . إنهم أبناء سادة لِرَجل مُسَوَّد ( والشاعر يَقْصد نفْسه ) . والمعنى : أن والدَهم سَيِّدٌ ، وقد أَوْرثهم السِّيادةَ والشرفَ والرِّفعةَ . وهكذا يَكون قَد جمع المالَ والبنونَ ( جَمع المجدَ من طَرَفَيْه ) .
والشاعرُ يتَّخذ من قيس بن خالد وعمرو بن مرثد مَثَلاً أعلى . وهذان رَجلان من سادات العرب ، مشهوران بكثرة الأموال ونجابةِ الأولاد . والشاعرُ يَقْصد بهذا البيت أن يقول: لو بَلَّغني اللهُ مكانتهما، لصرتُ ذا مالٍ وفير، كريمَ العَقِب ( الولد).

2_ التقلب بين الفقر والغِنى :

الدنيا دَوَّارةٌ ، وأحوالُ الناسِ متغيِّرة. وهُم متقلِّبون بين الفقر والغِنى . وعُموماً، الدَّهرُ يَوْمان : يَوْمٌ لَكَ ، ويَوْمٌ عَلَيْكَ . والإنسانُ متأرجحٌ بين الفوز والخسارة .
يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

إمَّا تَرَيْنا حُفاةً لا نِعالَ لنـا إنَّا كذلكَ ما نَحْفَى ونَنْتَعِلُ

يقولُ إِنَّا على هذه الحالة ، نحفَى تارةً ، وننتعل تارةً أُخرى . تمرُّ أيامٌ يَكُونون فيها حُفاةً لا نِعال لهم ، وتجيء أيامٌ يَلْبسون فيها النِّعال .
يَحْتكمُ الشاعرُ إلى المنْطق الواقعي ، ويَذْكر حقيقةً اجتماعيةً معروفة ، وهي أن الإنسان يتأرجح بين الفقر والغِنى . فتارةً يَكون فقيراً محتاجاً يعاني مِن ضِيق ذات اليد ، وشَظَفِ العَيْش ، ويَغْرق في الهموم ، ويخافُ من الغد . وتارةً يَكون غنياً ، يَحْيا في بحبوحة من العَيْش ، ويَستقبل أيامه بكل ثقة وأمل . وهذه هي حَال الدنيا .

3_ جمع المال للوَرَثة :

يَخوضُ الإنسانُ حروباً شرسة للحصول على المال ، ويُضحِّي بوقْته وصِحَّته وراحةِ أعصابه من أجل كسب المال واستثماره وتخزينه . وفي نهاية المطاف يَحْصل الوَرَثةُ على المال بكل أريحية ودون أي تعب . يقولُ الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

وكلُّ ذي إِبلٍ مَـوْروثٌ وكُلُّ ذي سَلَبٍ مَسْلوبُ

هذه الفلسفةُ العميقةُ هي تلخيص للوجود الإنساني. فكلُّ صاحب إبل سيتركها لوَرَثته، وكلُّ مالٍ سَيَتْركه صاحبُه _ رغمَ أنفه _ ، ويَرْحل عن الحياة ، ويأتي الوَرَثةُ من أجل اقتسامه بكل هدوء أعصاب. وهكذا، فالإنسانَ يَقْضي حياته خازناً لأموال الآخرين وحارساً لها .
وكلُّ مَن سَلَبَ شيئاً من غَيْره، سَيَسْلبه غَيْرُه مِنه . فالحياةُ لا تستقر على حال، ومَن كان ماهراً في سَلْب أموال الناس ، فهناك مَن هو أكثر مهارةً منه . وكلُّ صيَّادٍ لا بُدَّ أن يُصبح فَريسةً في يومٍ ما .

الفصل الثاني عشر
منظومة القِيَم ( الإيجابية والسلبية )

تمهيد

يمتلئُ شِعْرُ المعلَّقات بالقيم الإيجابية والسلبية على حَدٍّ سَواء ، وهذا أمرٌ متوقَّعٌ، فالإنسانُ تتنازعه قُوى الخير وقُوى الشَّر.فتارةً يَكون صالحاً في أعلى درجات النقاء، وتارةً أخرى يَكون فاسداً في أحط دركات الشقاء .
ومِن القِيَم الإيجابية البارزة في شِعْر المعلَّقات : الإقدام والشجاعة والجرأة وما يرتبط بها من قُوَّة ونُبْل وتضحيات جسيمة . وتتَّضح ثقافةُ إغاثة اللهفان ، ومَد يد العَوْن للمحتاجين والطبقات المتدنِّية في المجتمع ، ومساعدة الناس، وتفريج كُرباتهم ، وحَل مشكلاتهم . وتَبْرز أهميةُ الثبات عند الشدائد ، والصمود في وجه المِحَن والأزمات . وتتجلى قِيَم الإحسان والوفاء وإنصاف الخصوم ومدحهم ، وهذا يدل على الرُّجولة واعتناقِ الحق . ولا يمكن نِسيان تعظيم الضيف وإكرامه، فهذه الصِّفةُ ثقافة اجتماعية عامة . وتتجلى معاني الإيثار والكرم والأمانة والشرف وحفظ العهد والعِزَّة ، وكلُّ هذه الصفات تُشكِّل كِيانَ الإنسان العربي روحياً ومادياً .
وعلى الضِّفة الأُخرى، تتَّضح القِيَمُ السلبية التي تشير إلى تناقض بعض الأفراد. فنجد البخلَ صِفةً لازمة للبَعض مع أنها مذمومة في الثقافة العربية ، كما تَظْهر ماهية الذل والخضوع والانكسار في المجتمع العربي . وعلى الرغم مِن نُدرة هذه المعاني السلبية إلا أنها موجودة لدى شريحة من الأفراد والقبائل . وتَبْرز قضيةُ الإحسان في غَيْر مَوْضعه ، ومدى خطورتها. ومن المعاني السلبية الثابتة في الشخصية العربية ، الظلم والتكبر والثأر والتبذير ، فهذه معانٍ أساسية ومنتشرة بصورة هائلة ، بحيث صارت ثقافةً عامة يُفْتَخَر بها، ويتم تقديمها كَقِيَم إيجابية رائعة. وهذا يُشير إلى اختلال الموازين، وانقلاب المفاهيم . وبالإضافة إلى هذا ، تتكرَّسُ الغِيبة والحقد والذم والانتقاص باعتبارها ماهياتٍ سيئة، وأسلحةً للعاجزين والضعفاء الذين لا يَقْدرون على المواجَهة ، ومقارعةِ الحُجَّةِ بالحُجَّة .
أ _ القِيَم الإيجابية
1_ الإقدام :

هناك فَرْقٌ جوهري بين الإقدام والتَّهور . فالإقدامُ تسيطر عليه رُوح المبادَرَة ، أمَّا التَّهور فهو خاضعٌ لِنَزْوة طائشة .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

إذا القومُ قالوا مَن فَتَىً خِلْتُ أنني عُنيتُ فلمْ أَكْسَلْ ولَمْ أَتَبَلَّــدِ

إذا وَقَعَ أمرٌ خطير ، وهَجَمت المصائبُ من كل الجهات ، فلا بد أن تتكاثف العشيرةُ، ويجتمع القومُ من أجل اتخاذ القرارات المصيرية . ومن الطبيعي أن يَبْحث القومُ عن مُنقِذ ومُخلِّص . ففي الشدائد تتَّجه الأنظارُ نحو الفارس المغوار القادر على حماية القوم ، وتفريجِ كُرباتهم ، وتخليصهم من مأزقهم .
وإذا القومُ قالوا : مَن فتىً يَدْفع شَرَّاً ويَجْلب خيراً ؟ ، اعتقدَ الشاعرُ أنه المراد بقَوْلهم ، والمقصود بكلامهم . فلم يَتأخر عن تقديم العَوْن ، ولم يتهرب من تحمُّل المسؤولية الجسيمة ، ولم يَكْسَلْ في دَفْع الشر ، ولم يتبلَّد فيهما .
يتمتَّعُ الشاعرُ بِرُوح المبادَرَة ، ويتقدمُ الصفوفَ بكل حماسة . فأخلاقه العاليةُ تَدْفعه إلى نجدة قَوْمه بأسرع وقت ممكن ، ومَدِّ يد المساعدة دون تأخير . وهذا يدل على استعداده الفِطْري للتضحية،وتقديم حياته رخيصةً من أجل حياة قَوْمه ومجدهم.

2_ إعانة القوم :

يُوظِّف الشاعرُ كلَّ إمكانياته للدفاع عن قَوْمه ، ورفع اسمهم في كافة المحافل ، وإعانتهم في دَفْع الشرور ، وجلبِ المنافع . إنهُ يُسخِّر طاقته بشكل كامل في سبيل صيانة شرف القَوْم ، وإعلاء شأنهم في المجتمع .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

ولَسْتُ بِحَلالِ التِّلاع مَخافةً ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ

يُمجِّد الشاعرُ نَفْسَه ، ويُحيط شخصيته بهالةِ الشرف والرِّفعة . فيقولُ : أنا لا أَحُلُّ التِّلاعَ ( الأماكن العالية ) مخافة حُلول الضيوف بي ، أو غزو الأعداء إِيَّاي . ولكني أُعين القومَ إذا استعانوا بي ، وأُساعدهم بكل ما أَمْلك إذا طَلبوا مساعدتي . والاسترفادُ الاستعانة .
لا يَهْرب الشاعرُ من تحمُّل المسؤولية ، فهو دائماً في المقدِّمة . لا يَحُلُّ الأماكنَ العالية هرباً من الضيوف ، فهو يُكرِم الضيوفَ ولا يُهينهم . ولا يخفَى أن التَّهرب من الضيوف يدل على البُخل واللؤم . وفي نفْس الوقت ، لا يَهْرب من مُواجَهة الأعداء ، فهو يُواجِههم بكل بسالة ، ولا يتهرَّب من لقائهم . وبالطبع ، إن الهروب من الأعداء دليلٌ على الضعف والخوف . إذن ، لقد نَفَى الشاعرُ عن نفْسه البخلَ والخوفَ . وها هُوَ يَضع كلَّ جهوده تحت أمر قَوْمه ، ويُسخِّر إمكانياته لخدمتهم ، إذ إنه يُعينهم إذا استعانوا به ، إِمَّا في إكرام الضيوف ، وتقديم الطعام لهم ، وإمَّا في قتال الأعداء، ورَدِّهم خائبين خاسرين . وهكذا ، نجد أن الشاعر يَلْعب دوراً حيوياً في نصرة قَوْمه ، ومساندتهم . وهو ثابتٌ في مُقدِّمة الصفوف ، لا يتهرب من تحمُّل الأعباء العظيمة ، ولا ينسحب من المواقف الحاسمة .

3_ نجدة المستغيث :

تُعتَبَر إغاثة الملهوف ، ونجدة المستغيث ، ومساعدة المحتاج ، من المعاني السامية في المجتمع العربي ، ولا يمكن تجاوز هذه القِيَم الأساسية التي تَمْنَح الشرعيةَ الأخلاقية للإنسان العربي ، وتعزِّز الروابطَ الاجتماعية في البيئة الصحراوية القاسية ، وتُلمِّع صورةَ القبيلة ، وترفع من أسْهمها في هذا الفضاء القَبَلي المغلَق .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وَكَرِّي إذا نادى المُضافُ مُحَنَّباً كَسِيدِ الغَضا نَبَّهْتَهُ المُتَــوَرِّدِ

مِن الصفات الراسخة في كيان الشاعر،والتي يَمْدح نَفْسَه بها، إغاثته المستغيث، ومساعدة اللاجئ إليه ، وإعانة الشخص الذي يَسْتنجد به .
لا يَقْدر الشاعرُ أن يتجاهلَ نداءَ المستغيث، ولا يستطيع أن يُهمِل حاجةَ الملهوف. فإذا ناداه الخائفُ المذعورُ ( المُضاف ) طالباً العَوْن والاستغاثة ، فإن الشاعرَ يَسْتجيب له على الفَوْر ، ويُحوِّل وُجهته . يُقبِل بِفَرَسه ( يَكُرُّ ). إنهُ يَعطف فَرَساً مُحَنَّباً ( بعيد ما بين الرِّجْلَيْن ) ، وهي صِفةٌ محمودة في الفَرَس إذا لم تتجاوز الحدَّ، كما أنها تُشير إلى شِدَّة بأس الفارس.وكما هو معلوم، فإن الفَرَسَ مِن الفارس.
وهذا الفَرَسُ المتفوِّق سريع للغاية ، فهو يُسرِع في عَدْوه إسراع ذِئب( سِيد ) يَسْكن بين الغَضا ( الشجر ) إذا نَبَّهْتَهُ ، وهو يُريد الماءَ ( المُتَوَرِّد ) .
وقد شَبَّه الشاعرُ فَرَسَه بذئب له ثلاث صفات : الأُولى _ أنه ذئب يَسْكن بين الشجر ( الغَضا ) ، وذِئبُ الغَضا أخبث الذئاب ، لأنه لا يُباشِر الناسَ إلا إذا أرادَ أن يُغِير . والثانية _ إثارة الإنسان إيَّاه . والثالثة _ وروده الماء .
والمقصودُ من تشبيه الفَرَس بهذا الذئب ذي الصفات الثلاث ، هو التشديد على سُرعةِ الفَرَس ، وشِدَّةِ عَدْوه .

4_ الجُرْأة :

يَحْرص الشاعرُ على إظهار جُرْأته ، والإشادة بخصائصه المتفرِّدة المرتبطة بهذه الجرأة . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
ولكنْ نَفَى عَنِّي الرِّجالَ جَرَاءتـي عَلَيهم وإقدامي وَصِدقي ومَحْتِدِ

يَبْتعد الشاعرُ عن الصُّوَر الشِّعرية ، وذلك لكي يُقرِّر ما يُؤمِن به ، ويُثبِّت ما يراه حقيقةً لا تَقْبل الجِدال. لذلك، من الطبيعي أن تأتيَ كلماته _ في هذا السياق _ تقريرية مُباشِرة وشعاراتية .
يقولُ: ولكنْ نَفَى عَنِّي مُواجَهة الرِّجال ومجاراتهم ، شجاعتي في المواقف الحاسمة، وإقدامي في الحروب والشدائد ، وصِدق عزيمتي ، وطِيب أَصْلي ( مَحْتدي ) .
إن صفات الشاعر تتحدث عنه ، والمزايا الكثيرةُ التي يتمتع بها هي أكبر دليل على تفوُّقه على أقرانه وخصومه . لقد نُفِيَت الصفاتُ السلبية ، وأُثْبِتَت الصفات الإيجابية . ومِن أفعالهم تَعْرفونهم ، وكلُّ شجرةٍ تُعرَف بثمارها .

5_ الثبات عند المصائب :

الرِّجالُ يُعرَفون عند الشَّدائد . والمصائبُ تَكْشف عن معادن الناس. وكلُّ شِدَّة هي امتحان فِعْلي يُظهِر الناجحين والفاشلين على السَّواء ، وكلُّ مصيبة هي مَحَك حقيقي يُميِّز الناسَ ويُغَرْبِلهم . والعاقلُ يُدرِك أن المصيبةَ عَرَضٌ زائل ، وما عَلَيْه إلا الثبات، وكلُّ ضَرْبةٍ لا تَقْتل الإنسانَ ، فهي تَزيده قُوَّةً وخِبرةً .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

لَعَمْرُكَ ما أَمري عليَّ بِغُمَّـةٍ نهاري ولا لَيْلي عليَّ بسَرْمَدِ

يُقْسِم الشاعرُ أن أَمْرَه لا يَغُمُّ رَأْيَه ، فلا تُغطِّي الهمومُ قراراتِه ، ولا تُحطِّم التحدياتُ معنوياتِه في نهاره ، ولا يَطول عليه الليلُ حتى كأنه دائم ( سَرْمدي ) .
وهو يَمْدح نَفْسَه بالثباتِ عند المصائب ، والصمودِ في وجه الشدائد ، وشِدَّةِ الشكيمة ، وقوةِ الإرادة ، وعُلُوِّ الهِمَّة . فلا تَغُمُّه الأزماتُ ، ولا تُغطِّي على عقله وحواسِّه ، فَيُظْلِم نهارُه ، ويَطُول لَيْلُه . إنهُ جبلٌ ثابتٌ لا تهزُّه رِياحُ المشكلات ، ولا يتأثر بالمصائب والكوارث .

6_ بذل المعروف :

إِنَّ بَذْلَ المعروف يُشكِّل دِرعاً واقيةً ضد طعن الطاعنين ، وحَسدِ الحاسدين . فالمعروفُ يَحْمي صاحبَه من النقائص ، ويَصونه مِن كلام الناس الذي لا يَرْحم .
يقولُ الشاعرُ زُهَيْر بن أبي سُلمى :

وَمَن يَجْعل المعروفَ مِن دُون عِرْضِه يَفِرْهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَّتمَ يُشْتَــمِ

مَن جَعَلَ مَعْروفَه سُوراً يَحْميه من انتقاص الناس ، وجعلَ إحسانَه دِرعاً تَصون عِرْضَه من الذَّم والقدح، وَفَرَ مكارَمه ( أَكْثَرَها )، فهو وافر العِرْض ، كريم الأخلاق ، كثير المحامد . ومَن لا يَتَّقِ شَتْمَ الناس إيَّاه شُتِم .
مَن بَذَلَ مَعْروفَه حَمَى عِرْضَه من الإهانة ، وصانَ شَرَفَه من الانتقاص ، وصارَ ذا مَنْزلة اجتماعية سامية . ومَن بَخِلَ بمعروفه عَرَّضَ شَرَفَه للذَّم ، وَوَضَعَ عِرْضَه في دائرة القدح ، وأهانَ نَفْسَه بأن جَعَلَها في مَوْضع الشتم .

7_ الوفاء بالعهد :

لا يمكن التساهل بقيمة الوفاء بالعهد بأي شكل من الأشكال . فهذه القيمةُ الرفيعة مقترنة بشرف الرجولة ، وشرفِ القبيلة ، والتقاليدِ العربية الراسخة .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
ومَن يُوفِ لا يُذْمَمْ ومَن يُهْدَ قَلْبُه إلى مُطمئنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَــمِ

مَن أَوْفى بعهده ، فقد حَمى عِرْضَه من الذَّم ، وصانَ سُمعته من الشوائب . فلا يمكن لأحد أن يَذُمَّه ، أو يَنتقص من مكانته . بل على العكس ، فالناسُ سَيَمْدحونه، ويَنْشرون فضائلَه في الآفاق . فالوفاءُ بالعهدِ طريقُ الشرفِ الموصِلُ إلى المكانة الاجتماعية العالية . وَمَن هُدِيَ قَلْبُه إلى بِر ( خير ) تطمئن النَّفْسُ إليه ، وترتاح إلى رؤيته ، وتَسْعد بِجَماله، لم يمتنع من تقديمه وبذله بكل صدر رحب، ولم يَشْتبه أمرُه عليه، فيتجمجم ( يتردَّد فيه ). سَيُسارِع إلى بذل الخير دون تردد أو إبطاء ، متحلِّياً بِرُوح المبادَرَة ، وقوةِ الإرادة ، والإِقدامِ الواثق .
ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

واذكُروا حِلْفَ ذي المَجازِ وما قُدِّمَ فيهِ العُهودُ والكُفَلاءُ

يَحْرص الشاعرُ على التذكير بأهمية حفظ العهود ، وضرورةِ الوفاء بها على أكْمل وجهٍ . إنهُ يُشدِّد على الالتزام بالعهد الذي كان في ذي المجاز ( مَوْضع ) ، وتقديم الكفلاء فيه . فلا يَجوز إهمالُ العهد ، أو التلاعب به ، أو الالتفاف عليه . فالعهدُ قد وُجِدَ لكي يتم الالتزام به حرفياً دون مُراوَغة أو تحايل .
و" ذو المجاز " مَوْضع، جمع به الْمَلِكُ عمرو بن هند بَكراً وتَغْلِب ( وهما قبيلتان متناحرتان ) ، وعقدَ صُلْحاً بينهما ، وأخذَ مِنهما العهود والوثائق والرُّهون .

8_ مدح الخصوم :

مدحُ الخصوم ، والاعترافُ بقُوَّتهم ورباطةِ جأشهم ، وإبرازُ مكانتهم العالية ، تُعْتَبَر قضايا حسَّاسة ، وهي تَعْكس الثقة بالنَّفْس، والحرص على إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، حتى لو كان عَدُوَّاً أو خَصْماً ، وهذا منتهى الإنصاف. ولا شكَّ أن الاعترافَ بمنْزلة المنافِسِين وتقديرهم أمرٌ شائك لا يُقدِم عليه إلا الواثق بنفْسه وقدراته .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

غُلْبٌ تَشَذَّرُ بالذُّحولِ كأنها جِنُّ البَدِيِّ رَوَاسِياً أَقْدامُها

يَمْدح الشاعرُ خصومَه ، ويُبرِز قُوَّتهم الفائقة ، فيقول : هُم غُلْب ( رِجال غِلاظ الأعناق ) كالأُسود في شجاعتها وقوتها وبُنْيتها الجِسمية، يُهدِّد بعضهم بعضاً، ويَقْضون حياتهم في التَّوعُّدِ والتَّهدُّدِ ( التَّشَذُّر ) بسبب الأحقاد ( الذُّحول ) التي بينهم . وبالتأكيد ، إن الأحقاد هي وقود الغضب والوعيد والتهديد .
ثُمَّ شَبَّهَ هؤلاء الرجالَ الأشداءَ بِجِنِّ البَدِيِّ ( مَوْضع ) في رسوخهم في الجِدال ، وثباتهم في الخِصام، فأقدامهم ثابتة رواسي في المواقف الحرجة ، لا يَتزحزحون ، ولا يَميلون ، ولا يَرْتبكون .
ومن المعلوم أن الخصمَ كلما كان قوياً وشديداً ، كان قاهرُه أقوى وأشد . وهذه الحقيقة تُوضِّح الفلسفة الكامنة وراء مدح الخصوم وتعظيمهم . فالأعداءُ أو الخصوم إذا كانوا أقوياء وأصحاب إمكانيات عالية ، فلا يمكن التغلب عليهم إلا بوجود قوة أكبر من قوتهم ، وتوفير إمكانيات أعلى من إمكانياتهم . وهكذا ، فإن تعظيمَ الخصوم هو تعظيمٌ ضِمني لقاهرهم وغالبهم الذي يَفوقهم قُوَّةً ، ولو لم يكن كذلك لَمَا استطاعَ التغلبَ عليهم وقَهْرَهم .

9_ تعظيم الضيف والجار :

يُشكِّل احترامُ الضيفِ والجارِ وإكرامهما قضيةً حيوية في المجتمع العربي ، ودليلاً على سُمُوِّ الأخلاق ، وطِيب الأصل .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فالضَّيفُ والجارُ الجنيبُ كأنما هَبَطا تَبالةَ مُخْصِباً أَهْضَامُها

إن الضيف والجار الجنيب ( الغريب ) لهما كل التقدير والاحترام ، ويستحقان كلَّ إكرام ، ومُرَحَّبٌ بهما دائماً ، وكأنما قد نَزَلا وادي تَبالة ( وهو وادٍ مُخْصِب من أودية اليَمَن ) في حال كثرة نبات أماكنه المطمئنة. والهضيمُ المطمئن من الأرض.
والشاعرُ يَمْدح نَفْسَه،حيث إنه شَبَّهَ ضيفَه وجارَه في الخصب والسَّعة بالشخص الذي يَنْزل في هذا الوادي الخصيب أيام الربيع. وبالطبع، إن شعورَ الضيف بالراحة والسعادة يدل على كَرَمِ المضيف ، وأخلاقه الرفيعة ، ومكانته الاجتماعية العالية . أمَّا إذا شَعَرَ الضيفُ بالضيق والألم ، فهذا يدل على سُوء أخلاق المضيف ، ولُؤمه ، وتصرفاته غير اللائقة . وهكذا ، يَكون التعاملُ مع الضيف مقياساً للأحكام الاجتماعية والأخلاقية ، وميزاناً تُعرَض عليه التصرفات الإنسانية .

10_ مساعدة الأيتام والفقراء والمساكين :

مساعدةُ الطبقات المتدنِّية في المجتمع تُمثِّل لبنةً أساسية في البناء الاجتماعي ذي الصِّبغة القَبَلية ، وتدل على نخوة الإنسان العربي ، ومبادرته إلى مساعدة الآخرين .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وَيُكَلِّلونَ إذا الرِّياحُ تَناوَحَتْ خُلُجاً تُمَدُّ شَوارِعاً أيتامُهـا

يَفتخرُ الشاعرُ بنفْسه وعشيرته ، ويَحْرص على ذِكر أمجادهم وإنجازاتهم في مجال مساعدة الأيتام والفقراء . وكما هو معلومٌ ، فإن أهلَ الجاهلية كانوا يُساعِدون الطبقات المتدنِّية طلباً للمجدِ والمديحِ، وانتشارِ الصِّيت بين قبائل العرب . فلا تُوجَد في قلوبهم معنى الإخلاص لله تعالى ، أو نَيْل الأَجْر في الآخِرة . فالدنيا هي البدايةُ والنهاية بالنسبة إليهم ، ولا توجد في عقيدتهم إيمانٌ بحياة بعد الموت . إذن ، هُم محصورون في قِيَمٍ إنسانية مُحاطة بالرِّياء والسُّمعة ، وهذه القِيَم منفصلة تماماً عن المعاني الدِّينية ( الغَيْبِيَّة وغير الغَيْبية ) .
يَظْهر الدَّوْرُ المركزي للشاعر وجماعته في مساعدة المحتاجين إذا الرياح تناوحتْ ( تقابلتْ واشتدَّ هُبوبُها ) . وهذه الصورة تشير إلى فصل الشتاء الذي يكون قاسياً على الفقراء والمساكين، وشديدَ الوَطْأة عليهم . وفي الشدائد يَظْهر مَعْدن الرجال . ففي وقت الشِّدة هذا ، يُكلِّلون للفقراء والمساكين والجيران جِفاناً ( جَمْع جَفْنة وهي الآنية التي يُوضَع فيها الطعام ) . وهذه الجِفان الكبيرة تُمَدُّ ( تُزاد ) فيبدو مَنْظرها في غاية العَظَمة ، كما أنها تمتاز بكثرة مَرَقِها كأنها أنهار ( خُلُج ) يَشْرع الأيتامُ فيها لسدِّ جُوعهم . يَغْرسون أكفَّهم فيها بكل انفعال ، ويَغوصون في عالَمها المبهِر ، وقد كُلِّلت بِقطع اللحم الشهية .
إنهُ الفخرُ بإطعام الأيتام والفقراء . يَبْذلون للمحتاجين جِفاناً عظيمة مليئة باللحم والمرَق في قَسْوة الشتاءِ ، حيث تتجلى صعوبة المعيشة، وذلك لِيَقْتلوا الجوعَ الذي يحتل وجوهَ المحتاجين ، ويَنْقلوهم من آلامِ الحرمان والفاقة إلى لَذَّة الشَّبع . إنهم حريصون كل الحرص على إطعام الجوْعى ، وتحويل كل جائع إلى شَبْعان ، وذلك لكي يتناقل العربُ هذا الإنجازَ الهائلَ، ويَنْشرونه في الآفاق ، وتتناقله الأجيالُ جِيلاً بعد جِيل، فترتفع أسهمُ العشيرة بين العشائر، وتَبْرز صورتها في قمة المجد واللمعان .

11_ الإيثار :

لا شَكَّ أن الشخصَ المنتمي لعشيرته قَوْلاً وفِعلاً ، يُقدِّم مصلحةَ عشيرته على مصلحته الشخصية ، ويُؤْثِر منفعةَ الجماعة على منفعته الذاتية، ويتنازل عن حقوقه من أجل رِفْعة عشيرته وحفظِ حقوقها .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وَمُقَسِّمٌ يُعْطي العَشيرةَ حَقَّها وَمُغَذْمِرٌ لِحُقوقِها هَضَّامُها

تَبْرز ثلاث صِفات لِسَيِّد القَوْم : الصِّفةُ الأُولى ( مُقسِّم ) ، يُقسِّم الغنائمَ بكل أمانة ، فيُعطي العشيرةَ حَقَّها بشكل كامل غير منقوص، ويَصون حقوقَ الأفراد والجماعة ، ولا يَسْمح بأكلِ حقوقهم ، أو التلاعب بممتلكاتهم . والصِّفةُ الثانيةُ ( مُغَذْمِر ) ، والتَّغذمر هو الغضب . أي إنهُ يَغْضب في حال إضاعة شيء من حقوق العشيرة ، وتَثور ثائرته إذا تَمَّ انتقاص العشيرة ، والنيل مِن مكتسباتها ، والاستحواذ على مستحقاتها. والصِّفةُ الثالثةُ ( هَضَّام ) ، يَهْضم حقوقَ نَفْسِه من أجل سِيادة العشيرة ونَيْلِ حقوقها كاملةً . فالسَّيدُ هو الذي يَحْفظ حقوقَ عشيرته بالهضمِ من حقوق نفْسه ، ويُعْلي أمرَ جماعته على أمر نفْسه ، ويُضحِّي بمجده الشخصي من أجل مجد الجماعة .
والجديرُ بالذِّكر أن السَّيد يَمْلك أمورَ قَوْمه ، ويتصرف فيها إثباتاً ونَفْياً ، جَبْراً وهَضْماً ، على اختلاف الظروف والأوقات . فإن أساؤوا هضمَ حَقَّهم عقوبةً لهم ، وإن أحْسَنُوا غَضِبَ لهم ( تَغَذْمَرَ لهم ) ، ودافعَ عن حقوقهم بكل ما أُوتيَ مِن قُوَّة .

12_ الكَرَم :

الكَرَمُ صِفةٌ ملتصقةٌ بالإنسان العربي ، وهي تشير _ بكل وضوح _ إلى أخلاقه العالية رغم وجوده في بيئة صحراوية قاسية يتجلى فيها الصراع على الموارد الشحيحة. يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فَضْلاً وَذُو كَرَمٍ يُعينُ على النَّدى سَمْحٌ كَسوبُ رَغائبٍ غَنَّامُهـا
إن السَّيد هو الذي يتحلى بمكارم الأخلاق ، ويقوم بالأفعال الحميدة، ويحفظ حقوقَ العشيرة، ويُضحِّي بحياته من أجل حياة الجماعة، إنما يَفْعل ذلك تفضُّلاً مِنه، وانطلاقاً من قناعاته الشخصية ، دون إكراه مِن أحد . إنهُ يقومُ بالأعمال الجليلة عن طِيب نَفْس مِنه ، ولا أحد يَضْغط عليه . وبالإضافة إلى هذا ، فما زالَ في العشيرة كريمٌ يُعين أصحابه على الكَرَم ( الندى )، صاحبُ سماحة ( سَمْح ) حريصٌ على كَسْب رغائب المعالي واغتنامها .
إنهُ يغتنم الخِصالَ الشريفة ( الرغائب ) لتلميع صورته، ونشرِ صِيته بين القبائل، وصناعةِ المجدِ والتاريخِ ، ونَيْلِ الخلود في الدنيا . وهكذا ، يصبح الشخصُ مشهوراً ذا مكانة سامية في المجتمع العربي ، يُشار إليه بالبَنان ، ويُذكَر اسمه في كل المحافل .

13_ الأمانة :

الأمانةُ خُلُقٌ رَفيع لا يتحلى به إلا الرِّجال الواثقون بأنفسهم ، الذين يَحترمون مكانتهم الاجتماعية ، ويَعْرفون قيمةَ شرف الرُّجولة .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

وإذا الأمانةُ قُسِّمَتْ في مَعْشَرٍ أوْفَى بأوْفَرِ حَظِّنا قَسَّامُهـا

إِذا قُسِّمت الأماناتُ بين أقْوام،فإنَّ قَوْمَ الشاعرِ سَيَكون لهم نصيبُ الأسد مِنها، حيث إنَّ حِصَّتهم من الأمانة سَتَكون كاملةً ومتفوِّقةً على حصص الآخرين . وذلك لمكانتهم الرفيعة ، وأخلاقهم العالية ، وسُمعتهم الطَّيبة بين القبائل . فَهُم _ دائماً _ في مُقدِّمة الصفوف ، ويتمتَّعون بالسِّيادة والرِّيادة ، ولا يمكن لأحد أن يتجاوزهم .

14_ الشَّرف والمجد :

لا يمكن للإنسان العربي أن يتنازل عن الشرف والمجد . فهاتان القِيمتان هما الرِّئتان اللتان يتنفس من خلالهما. وهو مستعد أن يَبْذل حياته رخيصةً في سِبيلهما .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فَبَنى لنا بَيْتاً رَفيعاً سَمْكُـهُ فَسَما إلَيْهِ كَهْلُها وغُلامُها

يَحْرص الشاعرُ على بَيانِ وَضْعه الاجتماعي المتميِّز ، وتوضيحِ مكانة قبيلته الراقية. فيقول إِنَّ اللهَ بَنى لهم بَيْتَ شَرفٍ وعِزٍّ ومجدٍ عالي السَّقف ، وهذا يدل على المنْزلة السامية التي وَصلت إليها قبيلةُ الشاعر . فَسَما ( ارتفع ) إلى ذلك الشَّرفِ العظيمِ كَهْلُ العشيرةِ وغُلامُها . أي إنَّ جميعَ أفراد القبيلة على اختلاف أعمارهم ينتمون إلى المجد والمكارمِ ، وقد وَرِثوا الشرفَ والرِّفعةَ كابراً عن كابر .

15_ الصمود والثبات :

الشخصُ القويُّ الواثقُ بنفْسه لا تهزُّه رياحُ الأزمات ، ولا ينهار أمام المصائب، ولا يَقف محتاراً مذعوراً ، وإنما يتحلى بالصَّبر والثبات ، ويُوظِّف المشكلاتِ لِتَكون نِعمةً تزيده قوةً وإصراراً .
يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

كَناطِحٍ صَخْرةً يَوْماً لِيُوهنَهـا فلم يَضِرْها وأَوْهى قَرْنَه الوَعِلُ

لا يتأثرُ الشاعرُ بحسد الحاسدين ولا عداوة الأعداء ، فهو ثابتٌ لا يمكن استفزازه ولا إخراجه عن طَوْره . وكلُّ مَن يُحاول النَّيْلَ مِنه بأية صورة ستذهب جهوده أدراجه الرياح. وهو بعمله هذا كَوَعِل ( تَيْس الجبل ) يَنْطح صخرةً لِيُوهنها ويُضعِفها ويَقضيَ عليها ، فما كانت النتيجة إلا أنه أضعفَ قَرْنَه ، وأنهكَ قُوَّتَه ، وأنحلَ جِسْمَه، ولم يتسبَّب بأي ضرر للصخرة ، وإنما ألحقَ الأذى بنفْسه . لقد قضى الوعلُ على نفْسه، وفَرَّطَ بنقاط قُوَّته ، وذلك لأنه تحدَّى الصخرةَ التي تَفوقه صَلابةً وثباتاً . والمقصودُ بهذا الكلام أن الشاعر لا يتأثر بطعن الأعداء ، فهو ثابتٌ راسخٌ كالصخرة ، لا أحدٌ يُزَحْزِحُه ، ولا أحدٌ يتفوق عليه .

16_ مساعدة الناس :

لا بُدَّ أن يتحلى المرءُ بِرُوح الانتماء إلى مجتمعه ، والولاءِ للأخلاق الحميدة والمعاني الفاضلة ، وأن يُبادِر إلى فِعْل الخير . ومن أبرز التطبيقات الفِعْلية على ذلك، مساعدة الناس ، ودفع الشرور عنهم ، وبذل المعروف لهم .
يقولُ الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :

سَاعِدْ بأرضٍ تَكونُ فيها ولا تَقُلْ إنَّني غَريــبُ

إِنْ حَلَلْتَ في أرضٍ ، فابذل النُّصحَ لأهلها ، وقَدِّمْ لهم كلَّ أشكال العَوْن ، وَسَاعِدْهم على إصلاح شؤونهم، وإعمارِ أرضهم، ولا تمتنع عن إعانتهم ومساعدتهم بِحُجَّة أنكَ لَسْتَ مِنهم ، وأنكَ غريبٌ عن ديارهم وأرضهم . فيجب التَّحلِّي بِحِسِّ المسؤولية ورُوحِ المبادَرة ، والاشتراك مع الناس في رعاية أمورهم ، وتحسين حياتهم، والارتقاء بمستوى معيشتهم، وهذا واجبٌ إنساني اجتماعي لا علاقة له برابطة الدَّم.
17_ العِزَّة :

لا يمكن للإنسان العربي إلا أن يَكون عزيزاً ، فالنَّفْسُ العربيةُ المتشرِّبةُ لِقَسْوة الصحراء وحرارةِ الرمال، والمحلِّقةُ في الفضاء الواسع، هي نَفْسٌ حُرَّة لا تَقبل الذلَّ ، فالذلُّ يتعارض مع فلسفة العربيِّ جُملةً وتفصيلاً .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

إذا ما المَلِكُ سَامَ الناسَ خَسْفاً أَبَيْنا أنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِينــــا

إِذا أَجبرَ الْمَلِكُ الناسَ على الخضوع والاستسلام ، وأَكْرههم على الخِزْي والعارِ والذُّلِّ، وسَامهم خَسْفاً ( حَمَّلهم ما فيه ذُلُّهم )، رَفَضْنا ( أَبَيْنا ) الانقيادَ له، وأَلْقَيْنا أوامرَه وراء ظُهورنا ، وَوَقَفْنا في وجهه بكل ثباتٍ .
وهذا البَيْتُ الشِّعريُّ يَعكس عِزَّةَ العربيِّ ، وحِرْصَه على الالتزام بِمعاني الشرف والحرية والسِّيادة ، فهو لا يَقبلُ العارَ ، ولا يَرضى بالذُّل ، ويُفضِّل الموتَ على أن تتلطخ سُمعته وسُمعة قبيلته بالمذلة .
ولا يخفَى أن الْمَلِكَ هو رأس الهرم السياسي والاجتماعي في أي مكان ، وبيده القوة المادية ( المال ، السلاح ، الرجال ) ، ورفضُ أوامره يَعكس قيمةَ التَّحدي والإصرار. ومَن يَرفض الخضوعَ للمَلِك ، فلا يمكن أن يَقْبل الخضوعَ لمن هو دُونه ، وهذا يدل على أن قيمة " العِزَّة " تستحق التضحية ، ولا يمكن المساوَمة عليها .



ب _ القِيَم السلبية
1_ التناقض وازدواج الشخصية :

إن البيئةَ العربية القديمة كانت تغصُّ بالتناقضات والأضداد . وهذه البيئة الصحراوية القاسية أثَّرت على شخصية الفردِ، وكيانِ الجماعة. لذلك ، من الطبيعي أن يَكون الشخصُ مصاباً بانفصام الشخصية ، ليس بمعنى المرض النَّفْسي ، وإنما بمعنى السلوك الاجتماعي . فالعربيُّ في الجاهلية كانوا يَعتني بالأنعام أشد العناية ، وفي نفْس الوقت يَئِدُ بناتِه ، وتراه حريصاً على الشِّعْر والفصاحة والحِكمة ، وفي ذات الوقت يُدمِّر عقلَه بِمُعاقرة الخمر ... إلخ . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فَإِنْ تَبْغِني في حَلْقَةِ القَـوْمِ تَلْقَني وإِنْ تَلْتَمِسْني في الحَوانِيتِ تَصْطَدِ

إِنْ طَلبتَ الشاعرَ في مَحْفِل القَوْم(مجلس الناس الذي تُناقَش فيه القضايا المهمَّة) تجده هناك، وإِن طَلَبْتَه في بيوت الخمَّارين ( الحوانيت ) تَعْثر عليه هناك( تَصْطَده ) .
وهكذا ، فإن الشاعرَ يُشارك الجميعَ في أفعالهم ، بغض النظر عن صلاحها أو فسادها ، فهو يَجْمع بين الجِد والهَزْل . فَمَن بَحَثَ عن الشخصية الجِدِّية الواثقة بنفْسها والمتحلِّية بالحِكمة والرأي الصائب ، فسوفَ يَجدها متجسِّدةً في الشاعر ، ومَن بَحَثَ عن اللهو والمتعة والعبث والتبذير ، فَسَيَجِد هذه المعاني في شخصية الشاعر . وهو _ بالتأكيد _ سعيدٌ بشخصيته الموزَّعة بين التناقضات والأضداد ، ولا يرى في ذلك حَرَجاً أو عَيْباً . فهو يَعْتبر أن هذا الأمر مؤشر على حيويته وثقته بنفْسه وقُدرته على لعب كل الأدوار الاجتماعية، والتعامل مع جميع الناس. وهكذا، تُصبِح الشخصيةُ الْمُزْدَوَجَةُ مَنْبعاً للفخر والمديح ، ودليلاً على النجاح الاجتماعي ، وإقامةِ العلاقات الإنسانية بكل سلاسة ، ودون أيَّة تعقيدات .
2_ البُخْل :

البُخْلُ صِفةٌ مذمومة في المجتمع العربي، ولا يمكن التحايل عليها ، أو التلاعب بها . فهي صِفةٌ مكشوفة ظاهرة للعَيان ، وهي وصمةُ عارٍ أبديةٌ ، يَحْرص كلُّ فردٍ على ألا تلتصق به حتى البخيل نفْسه . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

أرى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخيلٍ بمالِـهِ كَقَبرِ غَوِيٍّ في البَطالةِ مُفْسِدِ

إِنَّ قَبْرَ البخيل ( النحَّام ) الحريص على جَمْع المال وتكديسه ، كقبرِ الغَوِيِّ ( الضال ) في بطالته ، اللاهثِ وراء اللهو والجهالة ، المفْسِدِ بماله .
لقد سَاوَى الموتُ بين الضِّدين، فلا فَرْقَ بين البخيل والجواد بعد الوفاة ، وبالتالي ، لا معنى للبُخل وتخزينِ الأموال . وعلى المرْءِ أن يَكون جواداً كريماً ما دَامَ الموتُ لا يُفرِّق بين بخيلٍ وكريمٍ . ويقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وَمَن يَكُ ذا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِه على قَوْمه يُستَغْنَ عَنهُ وَيُذْمَـمِ

البُخلُ مذمومٌ في كل الأحوال ، خصوصاً إذا انتقلَ من الصِّيغة الفردية إلى الصِّيغة الجماعية . فَمَن كان صاحبَ فضلٍ ومالٍ ، وبخلَ به على عشيرته ، فلا شَكَّ أن العشيرة سَتَنْبذه، وتُصنِّفه كفردٍ فاسدٍ لا يتحلى بروح الانتماء ، ولا يَمْلك معنى الولاء لجماعته ، فيجد نَفْسَه منبوذاً مَطْروداً ، لا أحدٌ يُحِبُّه ، ولا أحدٌ يَحْترمه .
ومَن يَرْفض مُساعدةَ قَوْمه بالمال ( يَبْخل بفضله عليهم )، فسوفَ يُسْتَغْنَى عنه ، ويُذَمُّ ( يُذْمَم ) ، حيث إن الجميعَ سَيَنالون مِنه ، ويَصُبُّون عليه الشتائمَ واللعناتِ ، فتصبح سِيرته في الوحل،ويُصبح كالغصن المقطوع من الشجرة، مُلقَى على الأرض، لا وَزْن له، ولا أحد يَعْبأ به. وهنا تتجلى قُدرةُ العشيرة على معاقبة الفرد ومحاصرته.
3_ الذُّل :

يتعارض الذُّلُّ مع الكرامة الإنسانية جُملةً وتفصيلاً. فالإنسانُ كائنٌ حُر وعزيز، يَمْلك حريةَ الاختيار ، ويتحمَّل المسؤولية كاملةً عن اختياراته . كما أنه كائن عزيز يستمدُّ عِزَّه من إنسانيته وكيانه الشرعي .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

بَطيءٍ عَن الجُلَّى سَريعٍ إلى الخَنَا ذَلولٍ بأجماعِ الرِّجالِ مُلَهَّــدِ

يُخاطِب الشاعرُ ابنةَ أخيه القريبةَ إلى قَلْبه، فيقول : ولا تجعليني كَرَجُلٍ يتهرَّب من التحديات المصيرية، ويتقاعس عن تحمُّل المسؤولية ، ويُبطِئ عن الأمرِ العظيمِ ( الجُلَّى)، ويُسرِع إلى الفُحْش ( الخَنا )، وهو ذليلٌ يَدْفعه الرِّجالُ بأَجْماعهم ( بجميع أَكُفِّهم ) .
يَحْرص الشاعرُ على إِبراز مكانته الاجتماعية ، وإِظهار كرامته وعِزَّته وصفاته الحميدة المضادَّة لصفات الشخص الذليل . وهو يَطْلب من ابنة أخيه أن تَعْرف قَدْرَه السَّامي ، ومَقامَه الرفيعَ .
إِنَّهُ سَيِّدٌ عزيزٌ كريمٌ ، يُسارِع إلى اقتحام الصِّعاب ، وتحمُّلِ المشاق ، ومواجهةِ الأخطار، وهو بعيدٌ كُلَّ البُعد عن الفُحش ، يَفْرض احترامَه على الرِّجال ، فيهابونه ويُقدِّرونه ، وليس شخصاً بطيئاً عن الخطْبِ الجليلِ، والأمرِ العظيم، وسريعاً إلى الفُجور وسُوءِ الأخلاق والفُجورِ ، ومِن ذُلِّه يَضْربه الرِّجالُ بأيديهم ( بأجماعهم ) فهو مُلَهَّد مُدَفَّع ، قد وصلَ إلى غاية الخزي والعار والمذلة. واللهدُ هو الدَّفْعُ الشديد في الصَّدْر .
لقد رَسَمَ الشاعرُ هذه الصورةَ للشخص الذليل الحقير، لِيَقول إِنه عَكْسها تماماً. وكما قِيل : بِضِدِّها تتبيَّن الأشياءُ .
4_ الإحسان في غَيْر مَوْضعه :

مِن المعاني الأساسية في المجتمعات الإنسانية، الإحسان إلى الآخرين وتقدم العَوْن لهم ، والأخذ بأيديهم إلى بَر الأمان . ولكنْ إِذا وُضع الإحسان في غير مَوْضعه ، وتَمَّت مساعدة اللئام والأشرار، فإن قيمة الإحسان ستفقد معناها، وتؤول إلى ضِدِّها ، وعندئذ تختلُّ الموازين ، وتنقلب الأمور رأساً على عَقِب .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

ومَن يَجعل المعروفَ في غَير أَهْلِه يَكُن حَمْدُه ذَمَّاً عَلَيْه ويَنْــدَمِ

مَن أَحسنَ إلى اللئام وغير المستحقِّين للإحسان، وَوَضَعَ المعروفَ في المكان الخطأ ، وقَدَّمَ المساعدةَ لمن لم يكن أهلاً لها ، ذَمَّه الذي أحسنَ إليه ، ولم يَحْمده ، ولم يُقدِّر هذا المعروفَ ، وَقَابَلَ إحسانه بالإساءة . وعندما يرى المحسِن أن أعماله ذَهَبت أدراجَ الرياح ، فلا شَكَّ أنه سَيَنْدم ويتحسَّر لأنه وَضَعَ الإحسانَ في غَيْر مكانه .

5_ الظُّلم :

الظُّلمُ صِفةٌ سيئة للغاية ، وانتكاسةٌ بشرية مُرعِبة ، تُدمِّر القِيَمَ الإنسانية ، وتُفتِّت الروابطَ الاجتماعية ، وتقضي على وَحدة المجتمع وتماسكه . والظلمُ مرتعه وخيم .
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

ومَن لم يَذُدْ عن حَوْضِه بسِلاحه يُهَدَّم ومَن لا يَظلمِ الناسَ يُظلمِ

مَن لم يَكُف أعداءَه عن حَوْضه ( حَريمه ) بالقوة واستعمالِ السلاح ، هُدم حَوْضُه. ومَن امتنعَ عن ظُلم الناس ظَلمه الناسُ . والمعنى : مَن لم يَحْمِ حَرِيمه وعِرْضَه بسِلاحه ودمه ، اسْتُبيح حَريمه ، وأُهين عِرْضُه .
ويقولُ الشاعرُ عَنْترة بن شَدَّاد :

وإذا ظُلِمتُ فإن ظُلمي باسِلٌ مُرٌّ مَذَاقَتُه كَطَعْمِ العَلْقــمِ

الشُّعورُ بالظُّلم شُعورٌ مؤلم للغاية ، فالظلمُ يَكْسر النَّفْسَ البشريةَ ، ويُولِّد فيها آلاماً عميقةً ، وجروحاً لا تَنْدمل .
والشاعرُ إِذا ظُلِمَ فإنه يتحوَّل إلى إنسان آخر ، وعندئذٍ تَغيب المعاني الرقيقة ، وتَظْهر المعاني القاسية. وهذا نتيجة طبيعية للإِساءة إليه . إِذ إِن ظُلْمَه كَريهٌ ( باسل ) مُرٌّ كَطَعْم العَلْقم . وهذه المرارةُ ستتحول إلى كراهية وانتقام .
وكلُّ مَن يَظْلم الشاعرَ فإِنه يُعرِّض نَفْسَه للهلاك . فالشاعرُ سَيُعاقِبه عقاباً شديداً يَكْرهه ، كما يَكْره طَعْمَ العلقم مَن ذاقه .

6_ التكبر :

التَّكبرُ هو احتقارُ الحق ، ورفضُ الخضوع له . وهو شديد الخطورة ، لأنه يَقْلب الموازين ، ويُعمِي البصرَ والبصيرةَ معاً .
يقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

فاتْرُكوا الطَّيْخَ والتَّعاشِي وإمَّا تَتَعَاشَوْا ففي التَّعاشي الـدَّاءُ

يَنْصح الشاعرُ خُصومَه بأن يَتْركوا الطَّيْخَ ( التكبر ) والتعاشي ( الجهل ) . فهذان الأمْران يُدمِّران إنسانيةَ الإنسان ، ويَقودانه إلى الهلاك الحتمي ، ويُؤدِّيان إلى انهيار المجتمع. يَنْصحهم بأن يَتْركوا التَّكبرَ والغطرسةَ والجهلَ، وأن يَسْتسلموا للحق والعدلِ والفضيلةِ. أمَّا إِذا رَفضوا ذلك ، وتمسَّكوا بغرورهم وجَهْلهم ، فقد أَهْلَكوا أنفسهم ، وقادوها إلى الشرور والمفاسد . ففي الجهلِ يَكْمن الداء ( المرض ) . إِنهُ مَرَضٌ اجتماعي قاتل يَقود إلى الضياعِ الحتمي ، والانتحارِ البطيء ، والشَّرِّ العظيم .

7_ الغِيبة :

الغِيبةُ هي أن يتكلم أحدُهم عن إنسان أثناء غيابه بالسُّوء ، حتى لو كان صِدْقاً. وهي سِلاح الضعيف العاجز الذي لا يَقْدر على المواجَهة ، فَتَرَاه يستغل غيابَ خَصْمِه من أجل انتقاصه والطعنِ فيه .
يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

أَبْلِغْ يَزيدَ بَني شَيْبان مَأْلُكَةً أبا ثُبَيْتٍ أَمَا تَنْفَكُّ تأْتَكِلُ

" يَزيد بني شَيْبان" هو يزيد بن مسهر، وكُنيته " أبو ثُبَيْت " ، وهو أحد خُصوم الشاعر .
يقولُ الشاعرُ: أَبْلِغْ هذا الرَّجلَ رِسالةً ( مألكة ) ، أمَا تنفكُّ يَأكلُ بَعْضُكَ بَعْضاً من الحقد والغيظِ وحُبِّ الانتقام. أمَا زِلْتَ تغتابنا وتأكل لحومَنا ( تأتكل ) كُرْهاً لنا، وحِقْداً عَلَيْنا .
لقد وَصَلَت العلاقة بين الرَّجُلَيْن إلى نقطة اللاعودة ، مِمَّا جعلَ الشاعرَ يَفْضح خَصْمَه ، ويَكشف أمرَه أمام الناس . فالحقدُ يملأ قَلْبَ الخصمِ ، والكراهيةُ تَحْرق أعصابَه ، والغيظُ يحقن عقلَه بالانتقام، وكلُّ هذا أدى إلى اعتماد الغِيبة كسلاحٍ ضد الشاعر، والالتزام بأكل لحمه ، والانتقاص مِن عِرْضه . وبالتأكيد ، إِنَّ ذِكْرَ شَخْصٍ بالسُّوء في حال غِيابه ، هو بِمَنْزلة أكلِ لحمه .

8 _ الذَّم والانتقاص :

الذَّم والانتقاص منتشران في كل المجتمعات ، حيث يتم التسلحُ بهما لمواجهة الخصوم ، والطعنِ فيهم ، والاستعلاءِ فَوْقهم . يقولُ الشاعرُ الأعشى الأكبر :

ألستَ مُنتهياً عَن نَحْتِ أَثْلَتِنا وَلَسْتَ ضَائرَها ما أطَّت الإبلُ

يُخاطب الشاعرُ خَصْمَه بمرارة : ألستَ مُنْتهياً عن ذَمِّنا وانتقاصنا ( نَحْتِ أَثْلَتِنا) ، ولَسْتَ ضائرَها ( ضَارَّاً بها ) ما حَنَّت الإِبل ، والأطيطُ هو صوتُ الإِبل .
والشاعرُ يُريد القولَ إِنَّكَ لا تضرُّ بنا إِطلاقاً ، ولا تَقْدر على إلحاق الأذى بنا مهما طَعَنْتَ فِينا ، ولا تستطيع أن تنالَ من مكانتنا الاجتماعية مهما تَنَقَّصْتَنا ، لأن الناسَ يَعْرفون حقيقتنا ، فلا يُعيرونكَ أيَّ اهتمامٍ ، ولا يَأبهون لحقدكَ وذَمِّكَ .

9_ الثأر :

يحتلُّ الثأرُ مَوْقعاً رئيسياً في ثقافة المجتمع الجاهلي ، حيث يُنظَر إليه كرمز للقوة والشرف والبطولة . يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

وقالَ سَأَقْضي حَاجتي ثم أتَّقي عَدُوِّي بألفٍ مِن وَرَائي مُلْجَمِ

يُخْبرنا الشاعرُ عن رَجُل ( حُصَيْن بن ضَمْضم ) سَيْطَرَ على عَقْله الثأرُ ، واحتلَّ قلبَه معنى الانتقام ، فلم يَعُدْ يُفكِّر بأي شيء آخر . وقد قالَ : سأقضي حاجتي مِن قتل قاتل أخي أو قتل نظيرٍ له ، واغسلْ دَمَ أخي بهذا الثأر ، حتى تَعْرف العربُ أن دَمَه لم يذهب هدراً ، ثم أجعل بَيْني وبَيْن عَدُوِّي ألف فارس مُلجِم فَرَسه .
يَحْرص على إدراك ثَأْره، والانتقامِ لقتل أخيه، وإطفاءِ النار المتأججة في صدره، وغسلِ العار بدم القاتل . وبعد أن يُدرِك ثأره ، سيتَّقي العدوَّ ، ويحتمي بألف فارس يُلجِمون خيولَهم ، وهُم مستعدون للدفاع عنه حتى آخر رَجل .
ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

إن نَبَشْتُم ما بَينَ مِلْحَــــةَ فالصَّاقِبِ فيه الأمواتُ والأحياءُ

يقول : إِنْ بَحثتم عن الحروب التي كانت بَيْننا وبين هذين الموْضِعَيْن ( مِلْحة والصاقب ) ، وَجَدْتُم قَتلى لم يُثْأر بهم ( الأموات ) ، وقَتْلى قد ثُئِرَ بهم ( الأحياء ) .
اعتبرَ الشاعرُ أن القَتْلى الذين لم يُثأر بهم أمواتٌ ، ذَهبت دماؤهم هَدراً ، فلا أحدٌ طالبَ بها، ولا أحدٌ اهتمَّ لأمرهم. لقد قُتلوا مجاناً، وذَهبت جُثثهم هباءً منثوراً ، وذَهبت دماؤهم مع الرِّيح ، ولم يجدوا رِجالاً يأخذون بثأرهم . لقد ماتوا مَرَّتَيْن .
أمَّا الذين ثُئِرَ بهم فاعْتَبَرَهُم أحياء ، لأن قاتليهم قد قُتلوا ، وأعداءَهم لقوا نَفْسَ المصير . وبالتالي ، فكأنهم قد عادوا أحياء ، فلم تذهب دماؤهم هدراً بسبب وجود رِجال أشداء انتقموا لهم ، وقَتَلوا أعداءهم شَرَّ قِتْلة .
والمقصودُ أن قَوْمَ الشاعر قد ثأروا بقتلاهم، أمَّا خصومُهم ( تَغْلِب ) فلم يثأروا بقتلاهم . وهكذا ، فإن الشاعرَ يُعيِّر الأعداءَ بعدم الأخذ بالثأر . وهذا الأمر في المجتمع الجاهلي يُعْتَبَر ذِرْوةَ العار ، وقِمَّةَ الخزي .

ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

ما أصابوا مِن تَغْلِبيٍّ فَمَطْلولٌ عَلَيْهِ إذا أُصِيب العَفَـــاءُ

يُهاجمُ الشاعرُ أعداءَه ( بني تَغْلِب ) بلا هَوادة ، فيقول : ما قَتلوا ( أصابوا ) من بني تَغْلِب أُهْدرت دماؤهم . فدماؤهم مهدورة ( مَطْلولة ) لا أحدٌ يُطالِب بها . وهذه الدِّماءُ المهدورةُ كأنها غُطِّيت بالتراب وَدَرَسَت ( زَالَ أَثَرُها ) . والعَفاءُ هو الهلاك والزوال . والمعنى الكامنُ هو أن دماء بني تَغْلِب تُهدَر بشكل مجاني ، وتَذْهب أدراج الرياح، وليسَ لها طالب. أمَّا دِماءُ قَوْمِ الشاعر فلا تَضيع أبداً ، لأنهم يُدركون ثأرهم ، ويَنتقمون من أعدائهم . والشاعرُ يُركِّز على تعييرهم بعدم الأخذ بالثأر ، لكي يَصبغ صورتهم بالخزي والذل والعار .

10_ التبذير :

يُعَدُّ التبذيرُ مَرَضاً نَفْسياً واجتماعياً في آنٍ معاً ، يؤدي إلى هَدْرِ الإِمكانيات ، وإضاعةِ الممتلكات ، وتشتيتِ الجهود ، وإضعافِ الفردِ والمجتمعِ .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

كِلانا إذا ما نالَ شيئاً أفاتَـــهُ وَمَن يَحترِث حَرْثي وَحَرْثَكَ يَهزِلِ

تتجلى الحسرةُ في كلام الشاعر ، وتَظْهر اللوْعةُ في حُروفه . ومِن شِدَّة الألم والذهول ، راحَ يُخاطب الذئبَ فيقول : كلُّ واحدٍ مِنَّا ، إذا نالَ شيئاً ، أضاعَه وفَوَّته على نَفْسِه. وكِلانا إذا مَلَكَ شيئاً أنفقَه . ثم قال : وَمَن عَمِلَ عَمَلي وعملكَ، أضاعَ نَفْسَه ، ودَمَّرَ حياته، وغرقَ في الفقر، وعاش ضعيفاً هزيلاً ، يعاني من خشونة العَيْش ، وقَسْوةِ الحياة ، وقِلَّةِ الإمكانيات .
وهذه هي النتيجةُ الطبيعية للتبذيرِ، وإِنفاقِ المال في الفساد واللهو ، والالتزامِ بنظام استهلاكي مُبَالَغ فيه . وعلى المرْءِ أن يَعتمد الادِّخارَ فلسفةً له ، لأنه لا يَعْرف ماذا تُخَبِّئ له الأيام. ومن المعلوم أن الزَّمان مُتقلِّب ، وأيام الرَّخاء _ مَهْما طالت _ فلا بُدَّ أن تنتهيَ ، كما أن النِّعَم لا تَدوم .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وما زالَ تَشْرابي الخمورَ وَلَذَّتي وَبَيْعِي وإنفاقي طَريفي وَمُتْلَدي

أضاعَ الشاعرُ صِحَّته وأموالَه في عالَم الخمر. فما زالَ يَشْربها، ويشتغل باللذات ، وبيعِ الأشياء الثمينة ، وإتلافها ، حتى كأن هذه الأشياء مالٌ مُسْتَحْدَثٌ مَوْروث . والطارفُ هو المال الحديث . والْمُتْلَد هو المال القديم الموْروث .
أنفقَ الشاعرُ أموالَه على شُرب الخمر، وأضاعَ ممتلكاته النفيسةَ من أجل إِشباع غرائزه ، وإِطفاءِ نار شهواته ، والحصولِ على المتعة واللذةِ . وقد تمسَّك بهذه الأشياء كما يتمسَّك الآخرون باقتناء المال واستثماره . إنهُ يَحْرص على تبذير أمواله ، وإضاعة ممتلكاته ، كما يَحْرص غَيْرُه على حَفظ المال ، وتنميته ، وحماية الممتلكات من العبث والفسادِ . وهكذا ، فإِن هَوَسَ التبذير قد قلبَ كلَّ الموازين .

الفصل الثالث عشر

مشكلات أسرية

تمهيد

لا يَخلو مجتمعٌ إنساني من المشكلات الأُسرية، فالواقعُ خليطٌ من الرخاء والشِّدة . كما أن كثرة الاحتكاكات بين الأقارب تُولِّد أنساقاً اجتماعية مضطربة ، ومُحاطة بِسُوء الفهم، وسُوء السلوك. ومن الطبيعي أن تؤدِّيَ هذه المنظومةُ المشوَّشةُ إلى نزاع بين الأقارب ، وصراعٍ على المقدِّمات والنتائج .
وقد بَرَزَتْ حالةُ التصادم مع الأقارب في شِعر طَرَفة بن العبد تحديداً ، وذلك بسبب كَوْنه شاباً متهوراً، ممتلئاً بالشهوات المتأجِّجة ، ومُنساقاً وراء غرائزه الملتهبة.
وَمَن كان هذا حاله، فلا بد أن يصطدم بالمنظومة الأُسرية، ويتعرض للنقد والهجوم ، من أجل تطويعه ، وإخضاعه لقوانين الأُسرة ، وإعادته إلى الدائرة العائلية .
ومن المعاني الظاهرةِ في شِعْره ، وِصال الأغْراب وهجران الأقارب . وهذا الأمرُ وَلَّد في قلب الشاعرِ مرارةً ، وزرعَ الحسرةَ في كيانه . فالأباعدُ يهتمون به ، ويَحْرصون على الالتقاء به ، ومعرفة أخباره ، والاهتمام بشؤونه ، أمَّا الأقارب فقد أهْملوه ، وهَجَروه .
وبالإِضافة إلى ما سَبَقَ ، تَظْهر خَيبةٌ جديدةٌ تتمثل في هجران القريب(ابن العَم)، وهذا الأمر جَرَحَ أحاسيسَ الشاعر ، وطَعَنه في الصَّميم ، وسَبَّب له آلاماً كثيرة ، بسبب درجة القرابة . فالجروحُ التي يُسبِّبها القريبُ تَكون قاتلةً ، ولَيْست كالجروح التي يُسبِّبها الغريبُ .
وفي هذا السياق ، تتَّضح فلسفةُ ظُلم الأقارب ، ومقدار الأذى الذي ألحقوه بنفسية الشاعر .
وأخيراً ، تَتجلى الهوةُ العميقة بين الشاعر وأبيه . فالاثنان يَسيران على خَطَّيْن متوازيَيْن لا يَلْتقيان ، ولا توجد فرصة للحوار ، وحَل المشاكل العالقة بينهما ، وهذا الصِّدام الدائم ( صراع الأجيال ) يُشكِّل خطراً حقيقياً على وجود الأُسرة .
1_ وصال الأغراب وهجران الأقارب :

يتجذر التناقضُ الصارخُ في أقسى معانيه . فالأغرابُ يتواصلون مع الشاعر ، ويَحْرصون على بناء علاقات اجتماعية معه ، في حين أن الأقارب يَبتعدون عنه . والشاعرُ غارقٌ في هذه المعادَلة الغريبة ، يُعاني من الصَّدمة والألم والحسرة ، ويَقضي وَقْتَه مُفكِّراً في هذا الانهيار الاجتماعي المدمِّر .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

رَأيتُ بني غَبراء لا يُنْكِرونـني ولا أَهلُ هذاكَ الطِّرافِ المُمَدَّدِ

عِندما نَبذت العشيرةُ ابنَها الضَّال ( الشاعر )، وَحَشَرَتْه في الزاوية وحيداً شريداً ، رأى بني غَبراء ( الفقراءَ الذين لصقوا بالأرض من شِدَّة الفقر ) لا يتنكَّرون له، ولا يُنكِرون أياديه البيضاء ، ولا يَجْحدون إِنعامَه عليهم ، ورعايته لهم . وأيضاً، رأى الأغنياءَ الذين لهم بيت الأَدَم ( الطِّراف ) الممدَّد لِعَظَمَته لا يُنكِرونه ، ولا يتجاهلونه ، بل على العكس ، فهُم يستمتعون بِصُحْبته ، ويَسْتطيبون مُنادمته .
والشاعرُ يقول : إِن هجرني الأقارب وَصَلني الأباعد ، وإِن تخلَّت عني العشيرةُ، فإن الأغرابَ لم يتخلوا عني ، وهُم الفقراء والأغنياء . فالفقراءُ يتقرَّبون منه لنيل إِحسانه وإِنعامه ، والأغنياءُ يتودَّدون إليه للاستمتاع بصُحبته ونَيْلِ الشَّرف والرِّفعة.
وهكذا ، نجد الشاعرَ يُعوِّل على الأباعد من أجل صناعة مكانته الاجتماعية ، ويعتمد عليهم بالكُلِّية بعد تخلِّي أقاربه عنه . وهذا الوضعُ الغريبُ ، لجأ إليه الشاعرُ اضطراراً . فقد سُدَّت الطرقُ في وجهه ، وضَرَبَت العشيرةُ حَوْلَه حِصاراً شديداً ، فلم يجد غير مساندة الغرباء بكل طبقاتهم الاجتماعية، وذلك لإعادة التوازن النَّفْسي في كيانه الذي خَدَشَه الأقارب ، وأَفْرَغوه مِن معناه .
والإِنسانُ قد يتوقَّع الطعناتِ الاجتماعية من الأغراب ، ولكنه من الصعب أن يتوقَّعها من الأقارب الذين وُلد بينهم ، وعاشَ معهم، واعتبرهم القوةَ الاجتماعية التي تسنده،وتدافع عنه، وتُحيطه بالأمن الرُّوحي، والأمانِ المادي . وكلُّ نُفورٍ من الأقارب هو صدمةٌ حقيقية ، تُزلزل كيانَ الإنسان ، وتُفقده الثقةَ بالنَّفْس ، وتُحيله إلى كُتلة من العُقد النفسية ، والأزماتِ الاجتماعية .
ولا يخفَى أن المجتمع العربي القديم هو مجتمع قَبَلي مُغْلَق ، ولا يَقْدر الفردُ أن يتحرك بمعزل عن القبيلة _ مهما كان قوياً _، فلا صَوْتَ يَعْلو فوق الصوت القبيلة ( الوَحدة المجتمعية الأساسية ) . ووفق هذه الرؤية ، فإن تخلِّي القبيلة عن الفرد بمثابة إهدار دمه ، وتعريته في هذا المجتمع الصحراوي القاسي . وبالتالي ، فإِن الفردَ سيجد نَفْسَه مكشوفاً بلا قوة تَسنده ، وعارياً أمام طُوفان التحديات المتكاثرة .

2_ ابتعاد القريب :

الآلامُ التي يُسبِّبها القريبُ تختلف كُلياً عن الآلام التي يُسبِّبها الغريبُ . فالآلامُ القادمة من القريب تَكون عنيفةً للغاية بِحُكم رابطةِ الدم والعلاقةِ الأُسرية ، وتترك آثاراً عميقة في النَّفْس والجسم معاً . فالإِنسانُ قويٌّ بعائلته ، ويستمد حضورَه الاجتماعي من أقربائه ، وهو يَنظر إلى قريبه كقوةٍ داعمة وسندٍ حقيقي في مجتمع قَبَلي لا يَرْحم .
وتخلِّي القريب عن قريبه يُشير إلى مشكلة اجتماعية خطيرة ، تؤدي إلى تفتيت الروابط العائلية ، وتدميرِ مكتسبات القبيلة ، وإِضعاف صورتها أمام باقي القبائل .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فما لي أراني وابنَ عَمِّيَ مالِكاً متى أَدْنُ مِنْهُ يَنأ عني وَيَبْعُـدِ
يَستغرب الشاعرُ موقفَ مَالِك ( ابن عَمِّه )، فكلما تَقرَّب إليه الشاعرُ ابتعدَ عنه . إنهُ يتألم بشدة بسبب هجران قريبه إِيَّاه مع تقرُّبه منه . وهذا الموقف المؤلم أثَّر سلباً على الشاعر، وتركه غارقاً في مستنقع الحزن والحسرة . يُحاول الشاعرُ جاهداً التقربَ إلى ابن عَمِّه ، لكنَّ هذا الأخير يَبتعد عنه ، ويقابل التقرُّب والتودد بالابتعاد والهجران . ومن الدلائل على حزن الشاعر وألمه العميق ، جَمْعُه في البَيْت الشِّعري بين النأي والبُعد _ رغم أنهما بنفْس المعنى _ ، وذلك للتأكيد على قيمة الهجران ، وإِبرازها بكل وضوح .

3_ ظُلم الأقارب :

قد يتوقع الإنسانُ أن يَظْلمه الآخرون ، ولكنْ من الصعب عليه تخيُّل أن يَظْلمه أقاربه. فالمفروضُ أن الأقارب هم الدرع الواقية التي تحمي الإنسانَ من ظُلم الآخرين ، أمَّا أن يَكونوا مَصْدَرَ الظلم، ومنبعَ الآلام ، فهذه كارثة حقيقية . فالمنْطق يقول إِن القريب هو مَنْبع العدل لا الظلم ، تماماً كالطبيب الذي يُنظَر إليه كسبب للشفاء لا المرض . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وظُلْمُ ذَوي القُربى أشَدُّ مَضاضَةً على المَرْءِ مِن وَقْعِ الحُسامِ المهنَّدِ

ظُلْمُ الأقارب أشد تأثيراً مِن وَقْع السَّيف . فهذا الظلمُ القادمُ من الأقارب أشد تأثيراً في تهييج نارَ الحُزن والغضب مِن ضَرْب السيف القاطع البتار( الحسام المهنَّد ). فَضَرْبُ السيف يؤثر على الجسد ، أمَّا وَقْعُ ظُلم الأقارب فيؤثر على الروح والجسد معاً . كما أن للظلم حُرقةً شديدة ، وتزداد هذه الحُرقة إِذا كان الأقاربُ هُم سبب الظلم . إِنها مصيبة مُوجِعة تتفوق على تأثير السيف ، ومن الصعب تحمُّل صدمتها .

4_ الفجوة بين الابن والأب ( صراع الأجيال ) :

كلُّ ابنٍ عابث لا بُدَّ أن يَصْطدم بوالده . وهذا أمرٌ طبيعي ، بسبب اختلاف طريقة كُلٍّ منهما في الحياة . فالابنُ الطائشُ يمتلئُ نشاطاً وتهوُّراً ، ويَفهم الحياةَ على أنها متعةٌ ولهو وتبذير ، وهو لم يَتْعب في جمع المال ، لذلك يَنظر إليه باحتقار شديد ، ويُنفِقه على شهواته ولذاته بلا حساب . أمَّا الأبُ فَيَعْرف قيمةَ المال لأنه قد تَعِبَ في جَمْعه، وعانى أشد المعاناة في توفيره،وهو يُريد أن يتحمل ابنه المسؤولية، ويَعْرف قيمةَ المال، ويلتزم بالتقاليد الاجتماعية والعشائرية، ويَبتعد عن الإسراف ، واللهاثِ وراء النَّزوات والشهوات ، فيُصبح فرداً صالحاً في القبيلة .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

يَقولُ وَقَدْ تَرَّ الوظيفُ وسَاقُها ألستَ ترى أن قد أَتيتَ بِمُؤْيِدِ

يقولُ الشاعرُ : قال أَبي أثناء ذَبحي هذه الناقة النفيسة ، وسقوطِ وظيفها وساقها عند ضَرْبي إيَّاها بالسيف : ألستَ تَرى أنَّك أتيتَ بمصيبة عظيمة ( مُؤْيِد ) بذبحكَ هذه الناقة الغالية ؟.لقد لامَه أبوه على هذا السلوك المتهور،وحَمَّله كاملَ المسؤولية. فقد ضَرَبَ هذه الناقة الكريمة بالسيف فانقطعَ ( تَرَّ ) وظيفُها وساقُها . وفي ذلك الموقف العصيب لم يَمْلك أبوه ( وهو الشيخ الطاعن في السِّن ) إِلا أن يَسأله سؤالاً مؤلماً ينطوي على حُزن بالغ،وهذا السؤال يتضمن معاني التفريطِ بهذه الناقة الثمينة، وتبذيرِ المال، وإِضاعةِ ممتلكات العائلة . وكلُّ هذا بسبب شهوات الشاعر التي لا نهاية لها . لقد سيطرت الحسرةُ على قلب أبيه العجوز الذي تعب في جمع المال ، وها هُوَ يَرى أمواله تتناثر في الهواء أمام عَيْنَيْه. ولا شَكَّ أن الناقةَ في المجتمع العربي القديم هي مَنْجمُ ذَهبٍ ، ومَصْدرُ الدَّخل الأساسي للفرد ، وسلاحٌ اقتصادي للقبيلة يَدْعم مكانتها واستقرارها. وبالتأكيد، إِنَّ قَتْلَ الناقةِ بشكل عبثي هو قتلٌ لِرُوح صاحبها .

الفصل الرابع عشر مُمارَسات جاهلية

تمهيد

تُعَدُّ الممارَساتُ الجاهلية انعكاساً طبيعية لعقائد العرب قبل الإسلام ، وثقافتهم ، وتاريخهم . وهذه الممارَسات دليلٌ صادق على حياة العرب ، لا يَحتمل التأويل أو الكذب .
وقد حرصَ شعراءُ المعلَّقات على إِبراز بعض العادات الجاهلية،وهذا أمر مُتوقَّع، فالشِّعرُ مرآةٌ للواقع، وتسجيلٌ للأحداث المعاشة، ولكنْ ضمن قالب فني لغوي متميِّز .
وقد أعطانا الشِّعرُ صورةً صادقةً عن تفاصيل حياة الإنسان العربي في بيئته الصحراوية القاسية ، وكشفَ لنا عن ثقافة اللعب والمرح ، ومن الأمثلة على ذلك ذِكْر لُعبة الفِيال التي كانت لُعبةً معروفة في الجاهلية .
ومِن التقاليد الراسخة في المجتمع العربي القديم ، الميْسِر ( القِمار ) . وبالإضافة إلى هذا ، تتَّضح عقيدةُ الذبح للأصنام ، وتَظْهر الأنصابُ ، وهذه العقيدة الشِّركية لا تكتمل إلا بوجود التمائم. ولا يخفَى أن هذه الأشياء تُمثِّل النواة الدينية الأساسية في الوثنية . والعَيْشُ في هذا العالَم الوهمي ، أدَّى إلى بروز البُعد الأسطوري في العقلية العربية التي كانت محصورةً بين الخرافات الدينية والحكاياتِ الشعبية المتوارثة .
ولا بُدَّ من استعراض بعض التقاليد الاجتماعية كالتَّحية ، ومعناها اللغوي ، وتأثيرها الإنساني . وعلى الجانب الآخر ، تَبْرز النِّياحة باعتبارها تقليداً اجتماعياً راسخاً في أوقات الحزن ، وعند المصائب .
وفي الخِتام، نستعرض عادةً نسائيةً في المجتمع الجاهلي، وهي وَضْعُ النساء للإثمِد على شفاههنَّ ، ونحاول معرفة ملابسات هذه العملية ، وتفاصيلها ، وانعكاساتها الاجتماعية .

1_ لُعبة الفِيال :

كلُّ بيئةٍ تبتكر ألعاباً خاصةً بها . وهذه الألعابُ تحتل موقعاً مركزياً في الثقافة الشعبية ، يتجاوز قضيةَ المتعة واللهو . إِنهُ مَوْقعٌ متعلق بالحضارة والتاريخ والقِيَم .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيْزُومُها بها كما قَسَمَ التُّرْبَ المُفايِلُ باليَدِ

يُصوِّر الشاعرُ عمليةَ شَقِّ السُّفن للماء . ومن الواضح أن هذه العملية تَحْمل قَدْراً هائلاً من الخيالات والأحلام، فالأشياءُ المرتبطة بالبحر لا بُدَّ أن تَكون مَصبوغة بالذكريات أو الحكايات أو الأحلام الخيالية .
يَشُقُّ حَبابَ الماءِ ( أمواجه ) صَدْرُ السَّفينةِ ( حَيْزومها ) ، كما شَقَّ المفايِلُ الترابَ بيده .
والفِيالُ لُعبةٌ يَلْعب بها فِتيان الأَعراب ، وهي أن يتم جمع التراب ، ويُدفَن فيه شيءٌ، ثم يُقسَم الترابُ إلى نِصْفَيْن ، ويُسأل عن الشيء الدفين: في أيِّ نِصْف يُوجَد. فمن أصابَ قَمر ، ومن أخطأ قُمر . والمفايِلُ هو الشخص الذي يَلْعب بهذه اللعبة .
ومن الواضح أن الشاعر يَسْبح في الذكريات ، وأن الأحلام القديمة لا تزال تراوده ، وتسيطر على تفاصيل تفكيره . وذِكْرُ هذه اللعبة يشير إلى حضور مرحلة الطفولة في ذِهن الشاعر ، وحنينه إلى الأيام الخوالي . وهنا تتجلى الأبعادُ الشاعرية المرتبطة بالزمن المفقود ، والأيامِ التي ذَهبت ولن تَعود .
وبالتأكيد ، إِن الشاعرَ لا يَعتبر هذه اللعبة حركةً صِبيانية لملء وقت الفراغ ، وإِنما يَعْتبرها محاولة لاستعادة الطفولة المفقودة في طوايا الزمن . وحياةُ الإِنسانِ بأكملها هي انعكاس لمرحلة الطفولة . والطفولةُ هي القاعدة الأساسية التي يَقوم عليها البُنيان الإِنساني الشاهق .
2_ الميْسِر ( القِمار ) :

الْمَيْسِرُ مِن أركان الحياة الاجتماعية في الجاهلية . إِنهُ ثقافةُ مجتمعٍ ضاربة جذورها في أعماق الحياة الروحية والمادية . والعربُ تَفْخر بالميسِر لأنه لا يقوم به إلا الرِّجال الكِرام أصحاب الهِمَّة العالية . يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وأصْفَرَ مَضْبوحٍ نَظَرْتُ حِــوارَهُ على النارِ واسْتَوْدَعْتُه كَفَّ مُجْمِدِ

يَصِفُ الشاعرُ القِدْحَ ( أحد سِهام الميْسِر ) بأنه أصْفر مَضْبوح ( قُرِّب من النار حتى أثَّرت فيه). والقِدْحُ يتم تقريبه من النار لكي يَصْلب، ويَكْتسب اللونَ الأصفرَ. لذلك ، تُوصَف سِهامُ الميْسِر بالصُّفرة . ويَبدو أن هذا اللون _ بحد ذاته _ يُشكِّل عالَماً سِحرياً مُتكوِّناً من الأحلامِ والإِغراءِ والمتعةِ والنَّشوةِ. ولاعبو القِمار يَعْتنون بهذه التفاصيل الساحرة التي لها تأثير كبير في الذهنِ والسلوكِ الاجتماعي .
ولاعبُ القِمار محصورٌ بين خِيَارَيْن لا ثالث لهما : الفوز أو الخسارة . وقد انتظرَ الشاعرُ فَوْزَ قِدْحِه أو خَيْبته ، أي إِنهُ نَظَرَ حِوارَه ( مراجعة الحديث ) ، وكأن هناك حِواراً خفياً بين الشاعر وقِدْحِه . وبالطبع ، فهذا الحِوار يتجلى في الفوز أو الخسارة . وانتقلَ الشاعرُ إلى الجو العام المحيط بلعبة القِمار، فقد كان مجتمِعاً مع ندمائه على النار، وذلك مِن أجل متابعة أخبار القِدْح ، ومعرفة إِمكانية فَوْزه أو خَيْبته . وكما يقال : المكتوبٌ ظاهرٌ من عنوانه. فقد أَوْدَعَ الشاعرُ القِدْحَ كَفَّ رَجل مُجْمِد (الشخص الذي لا يَفوز). وهكذا ، يتجلى الفخرُ جماعياً وفَرْدياً. فالعربُ تفتخر بالميْسِر ، لأنه مُلْتَقَى الأجواد الذين لا يُقيمون وزناً للمال . والشاعرُ شخصياً يَفتخر بأنه مَنَحَ قِدْحَه كَفَّ رَجلٍ معروف بالخيبة وعدم الفوز . وهذا يدل على أنه لا يُقيم وزناً للمال،ولا يَحرص على كَسْبه. فغايته هي المتعة والنَّشوة فقط.
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :
وَجَزورِ أَيْسارٍ دَعَوْتُ لحتْفِها بمَغالِقٍ مُتَشَابهٍ أجسامُهــا

يُقدِّم الشاعرُ دليلاً ملموساً على كَرَمه وحُسنِ معاملته لأصدقائه . فقد دعاهم لذبح الجَزور ( ما يُذبَح من الإِبل). وهذه الجزورُ مُمَيَّزة، فهي جَزورُ أيْسار ( أصحاب مَيْسِر ) ، كانت تَصْلح لِيُقامِر الرجالُ عليها. وقد دعا ندماءه لذبحها بسهامٍ متشابهة الأجسام. وسِهامُ الميْسِر يُشبِه بعضُها بعضاً. وقد سُمِّيت سهام الميْسر بالمغالق ، لأنها تُغلِق الخطرَ فتوجبه للقامرِ الفائزِ . والشاعرُ يفتخر بأن هذه الجزور مِن أمواله الشخصية، ولَيْست من كَسْب قِماره . أمَّا السِّهام فهي موجودة لكي يستخدمها في إجراء القُرعة بين إِبله ، أيُّها يَنْحر لندمائه وأهلِ مَوَدَّته . وهذا يدل على أن الافتخار في المجتمع العربي إِنما يكون بالإنفاق من المال الشخصي لا المال المكْتَسَب من القِمار .
وعلى الرَّغم من افتخارهم بالميْسِر ( القِمار ) إِلا أنهم لا يَفتخرون بالمال المكْتَسَب مِنه . فالميْسِر موجودٌ من أجل تبذير المال لا جَمْعه . فتبذيرُ المالِ في القِمار علامةٌ على الكَرَم والجود وطِيب الأصل، أمَّا جَمْعه وتخزينه ، فيُشيران إلى البُخل وسوءِ الأخلاق .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

ومَا ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلا لتضربِي بِسَهْمَيْكِ في أعشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

هذا البَيْتُ سَبَقَ أَن شَرَحْناه . لكننا في هذا المقام سَنَعْتمد تفسيراً آخر متعلِّقاً بالميْسِر . فالمقْصود بالسَّهْمَيْن هما سَهْما المعلَّى والرَّقيب مِن سِهام القِمار . والمعلَّى له سبعة أجزاء مِن الجَزور ، والرَّقيبُ له ثلاثة أجزاء . والجَزورُ تُقسَّم على عشرة أجزاء. ومَن فازَ بهذين السَّهْمَيْن، فقد فازَ بالأجزاء العشرة ، أي إِنهُ فاز بجميع الأجزاء ، وحصلَ على الجَزور .
واعتماداً على الرؤية السابقة، يكون المعنى: وما بَكَيْتِ إِلا لتملكي قلبي كُلَّه ، وتفوزي بجميع أجزائه( أعشاره ). والأعْشارُ جَمْعُ عُشْر، لأنَّ أجزاءَ الجَزور عشرة.
ويقولُ الشاعرُ عَنْترة بن شَدَّاد :

رَبِذٍ يَداهُ بالقِداحِ إذا شَتَا هَتَّاكِ غَاياتِ التِّجَارِ مُلَوَّمِ

يَصِفُ الشاعرُ رَجلاً بأنهُ سَريع اليد ( رَبِذ يداه ) في إِجالة قِداح الميْسِر في بَرْد الشتاء . وهذه السُّرعة في اللعب بسهام القِمار تدل على كثرة اللعب ، وأن هذا الرَّجلَ صاحب خِبرة طويلة في القِمار ، فهو خفيف اليد ، يُجيل القِداح بصورة احترافية . وهذه المهارةُ لا ينالها إِلا الأشخاص المتخصِّصون في لعب القِمار . وَخُصَّ الشتاءُ بالذِّكر دون غَيْره من الفصول ، لأنهم يُكثرون القِمار فيه ، بسبب تفرُّغهم ، وكثرة ساعات الفراغ . كما أن جَو الشِّتاء يُقلِّل _ إلى حَد بعيد _ من العلاقات الاجتماعية ، والأنشطةِ الحياتية . وهذا الفراغُ الشاسعُ يتم مَلْؤه بلعب القِمار من أجل قضاء الوقت ، وكسرِ الملل ، وإِزالةِ الوَحدة الموحشة ، وبعثِ المرح والبهجة .
وهذا الرَّجلُ يَقْرن بين القِمار والخمر . والاقترانُ بينهما حقيقةٌ واقعية ، فالقِمارُ والخمرُ مقترنان في عالَم اللهو والتبذير والعبث . إِنهُ رَجلٌ لم يَكْتَفِ بِكَوْنه لاعبَ قِمارٍ محترفاً، بل هو أيضاً مُدْمِنُ خمرٍ سِكِّير، يَهْتك راياتِ الخمَّارين (غايات التِّجار). فقد كان يشتري كُلَّ ما لديهم من الخمر ، حتى يُزيلوا راياتهم ( غاياتهم ) لنفاد خَمْرهم. والغايةُ هي رايةٌ يَنْصبها الخمَّارُ ليدل الناسَ على مكانه( مكان بيع الخمر).
وبسبب إِمعانه في الكَرَم والجود ، وتبذير المال بلا حِساب ، لامه الناسُ مَرَّةً بعد مَرَّة ، فصار مُلوَّماً. والتصقت هذه الصِّفة به . ولا يخفَى أن شُرب الخمر _ عند العرب_ علامة على الكَرَم والبذل والعطاء. وهذه الصفاتُ مرغوبة لأنها ضِد البُخل ، وهو صفة مقيتة في المجتمع العربي، تُسبِّب لصاحبها الخزي والعار في حياته وبعد مَوْته . وإِذا التصقتْ بشخصٍ ، فمن الصَّعب أن تبتعد عنه .

3_ الذبح للأصنام :

كانَ العربُ في الجاهلية يُقدِّمون القرابينَ والذبائحَ لأصنامهم المقدَّسة ، وذلك شُكراً لها ، وتعظيماً لها . والذبحُ للأصنام من أركان العقيدة العربية الوثنية .
يقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :

عَنَناً باطلاً وَظُلماً كما تُعْتَر عَن حَجْرةِ الرَّبيضِ الظِّباءُ

العَنَنُ هو الاعتراض . والْحَجْرة هي الناحية . والعَتْرُ ذَبح العَتيرة : وهي ذبيحة كانت تُقدَّم للأصنام في شهر رَجَب . وفي الجاهلية ، كان الواحدُ إِذا طلبَ أمراً ما نَذَرَ إِن ناله أن يَذْبح مِن غَنمه في شهر رجب، وهذه هي العَتائر . وربما إِذا نالَ مُبتغاه ، وحصلَ على مُراده، بَخِلَ بالغنم ( الربيض ) ، فيأخذ بدلاً منها ظِباء ، فيذبحها في رَجَب بدلاً من الغنم . يقولُ الشاعرُ : أَخَذْتمونا بِذَنْب غَيْرنا وأَلْزمتمونا به عَنَناً باطلاً ، كما أُخذت الظِّباءُ مكانَ الغَنم .

4_ البُعد الأسطوري ( الميثولوجي ) :

إِنَّ البيئة الجاهلية وعاء للأساطير والحكاياتِ الشعبية . وهذا الخزينُ الهلامي الفوضوي الذي لا يَسْتند إلى أدلة عِلْمية هو جزءٌ لا يتجزأ من تاريخ العرب .
يقولُ الشاعرُ النابغة الذبياني :

أَضْحَتْ خَلاءً وأضحى أهلُها احْتَمَلوا أَخْنَى عليها الذي أَخْنَى على لُبَــدِ

الفراغُ يَضْربُ جذورَه في المكان . أَضْحت الدارُ خَلاءً ، وصارت جُزءاً من الأطلال . لقد تُركت الدارُ للفراغ والنسيان ، وَرَحَلَ أهلُها ( احتملوا ) ، وهَجَروا المكانَ والذكرياتِ .
لقد أَهْلَكَ الدارَ ما أَهْلَكَ " لُبَد " . أتى الفسادُ على الدار ( أخنى عليها ) ، فصارت مكاناً خالياً مُوحشاً وكئيباً . وهذا الهلاكُ الذي أصابَ الدارَ هو ذاته الهلاك الذي أصابَ " لُبَد " . وهنا تَبْرز الأسطورةُ ، ويتجلى توظيفها في السِّياق الشِّعري ، وتتَّضح معالِمُ ارتباطها بالمكان ( الأطلال ) والزمانِ . إِذ إِنَّ " لُبَد " هو اسمُ نَسْر . والعربُ يَزْعمون أن " لُبَد " كان آخرَ نُسور لُقْمان بن عاد( وهو سَيِّدُ عاد )، وعددها سبعة، وأن هذا الحكيم بَقِيَ بقاء الأنسر السبعة، ومات بموت آخرها " لُبَد" الذي عَمَّرَ مائتي سنة. وهكذا يَظْهر الارتباطُ الوثيق بين العقلِ العربي والخرافاتِ المتوارثةِ. فهذه الخرافةُ صارتْ جُزءاً من التراث الشعبي، ويتم توظيفها في السياقات الفكرية بكل أنواعها. كما أنه يتم رَبْطها بالحالة الإنسانية العربية بكل تجلياتها الروحية والمادية .

5_ الأنصاب :

الأنصابُ ( جَمْع نُصُب ) هِيَ حِجارة كان المشركون يَنْصبونها في الجاهلية ، وتُذبَح عليها الذبائح ( القرابين ) . وهذه الحجارةُ ذات حضور مركزي في الدِّين الوثني ، لأنها تَختصر فلسفةَ ( الوثن / القُربان ) . يقولُ الشاعرُ النابغة الذبياني :

فلا لَعَمْرُ الذي مَسَّحتُ كَعْبتَــه وما هُريق على الأنصاب مِن جَسدِ

هذا البَيْتُ سَبَقَ شَرْحُه . لكننا في هذا المقام سَنُرَكِّز على قضية " الأنصاب "، باعتبارها إِحدى أركان الوثنية العربية .
لقد كان عَرَبُ الجاهلية يُقدِّسون عمليةَ الذبح للأصنام، ويُقدِّمون القرابينَ للآلهة . وقد حَرِصَ الشاعر على تخليد المشْهد الوثني ، وهو سَيَلان الدم ( الجسد ) على الأنصاب بعد ذَبح الذبائح عليها . وهذه التفاصيل وضَّحها الشاعرُ من أجل إظهار عقيدته الإيمانية ( الإيمان بالأصنام الآلهة والالتزام بكافة الطقوس التعبدية من ذبحٍ ، وتقديم قرابين ، ... إلخ ). فالشاعرُ ملتزم بِدِين آبائه الموْروث بكل تفاصيله، ولا يَحيد عنه . وهذه القضيةُ _ بالنسبة إليه _ قضية مبدأ لا مساوَمة فيها .
وهذا الطقسُ الديني ( الذبح على الأنصاب ) شديد الأهمية في العقيدة الوثنية الجاهلية ، لأنه تجسيدٌ عملي لفكرة الولاء للأصنام الآلهة ، والانتماء إلى دِين الآباء والأجداد. والأصنامُ هي الفلسفة العَقَدية المركزية في دِين العرب قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية .

6_ التَّحية :

التَّحيةُ كلمةٌ مخصوصة. ولَيْست سلوكاً اجتماعياً فَحَسْب ، بل هي أيضاً مَظْهر واضح للعقيدة الدينية ، وانعكاس للثقافة العربية الجاهلية ، كما أنها تُشير إلى البُنية الطبقية الاجتماعية ، والتَّراتبية الإِنسانية في المجتمع . يقولُ الشاعرُ النابغة الذبياني :

هذا الثناءُ فإِن تَسْمع به حَسَناً فَلَمْ أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللعنَ بالصَّفَدِ

يُقدِّم الشاعرُ أوراقَ اعتماده ، ويُحاول جاهداً إِثباتَ وَلائه . إِنهُ يَمْدح أحدَ الملوكِ، ويَطمح إلى نَيْل رِضاه. فيقول: إِن هذا هو الثناء الصحيح النابع من لسانٍ صادق لا كاذب ، وهذا هو المديحُ الحقيقي النابع من قلبٍ مُخلِص لا مُنافِق . فإِن أعجبكَ مَدْحي ونالَ استحسانكَ، فإِني صادقٌ في كُل كلمة قُلْتُها، ولم أقْصد بمدحي أن أحصلَ على منفعة مادية ، ولم أتعرَّض به لعطائك . وإِنما مَدَحْتُكَ لأنكَ أهلٌ للمديح ، وأَثْنيتُ عليكَ لأنك تستحق الثناء ، ووضَّحتُ صفاتك الجميلة إِقراراً بفضلكَ . والصَّفدُ هو العَطاء .
والتَّحيةُ " أَبَيْتَ اللعنَ " هي تحية كانوا يُحَيُّون بها الملوك في الجاهلية . وطبعاً ، التعامل مع الملوك يَختلف بالكُلِّية عن التعامل مع الأشخاص العاديين . واعتماداً على هذا ، كانت تحيةُ الملوك تختلف عن تحية العامة . فهذه التحيةُ " أَبَيْتَ اللعنَ " عبارةٌ مخصوصة لا تُقال إِلا للملوك تعظيماً لهم ، وتمجيداً لأفعالهم ، وإِبرازاً لمكانتهم الاجتماعية السامية. ومعناها : أَبَيْتَ أن تأتيَ مِن الأمور ما تُلعَن عليه ، وتُذَم بسببه.
ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

يا دَارَ عَبْلةَ بالجِواءِ تكلَّمـــي وعِمِي صَباحاً دارَ عَبْلةَ واسْلَمي

هذا البَيْتُ سَبَقَ شَرْحُه . لكننا في هذا السياق سَنُسَلِّطُ الضوءَ على التحية الجاهلية " عِمْ صَباحاً أو عِمِي صباحاً "، وهي التحية المعتمدة في الجاهلية ، ومعناها: طَابَ عَيْشك في صباحك .

7_ التمائم :

التمائمُ ( جَمْع تميمة ) ، وهي خَرز أو قلادة كانوا يُعلِّقونها على الشخص في الجاهلية مِن أجل دفع المفاسد ، وجلبِ المنافع . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ فَأَلهيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْــوِلِ

هذا البَيْتُ سَبَقَ شَرْحُه . لكنَّ الجزئية التي تهمُّنا في هذا السياق الشِّعري هي " التمائم " . والشاعرُ يَذْكر أنَّ هذه المرأة التي تربطه بها علاقة غرامية ، قَد عَلَّقت على ابْنِها العُوذة ( التميمة )، وذلك من أجل حِفظه من الشرور والمخاطر ، وجلبِ السعادة له . وهذا يدل على حِرْص الأُمهات على أبنائهن ، وتفكيرهنَّ الدائم بمصلحة فلذات أكبادهنَّ ، وقد أدى هذا الحِرْص الأعمى إلى الإيمانِ بالخرافات ( التمائم ) بلا تفكير . وكما قِيل : صاحب الحاجة أَرْعَن .
8 _ شَق الجيْب ( النياحة ) :

الجيْبُ ما يُفتَح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقِّه إكمال فتحه إلى آخره، وهو أحد أشكال النياحة، ومن علامات السخط، ورفض القضاء والقَدَر ، وعدم التسليم بالأمر الواقع .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فإنْ مُتُّ فانعيني بما أنا أَهْلُــهُ وَشُقِّي عَليَّ الجَيْبَ يا ابنةَ معبَدِ

هذا البَيْتُ سَبَقَ شَرْحُه . وفي هذا المقام سيتم التركيز على عملية شَقِّ الجيْب .
يُوصِي الشاعرُ ابنةَ أخيه بشقِّ الجيْب حزناً عليه. وهنا تَظْهر حقيقتان: الأُولى _ حُزن المرأة ممزوج بالبكاء ، والثانية _ لا يوجد أفضل من النساء في نَدْبِ الموْتى ، والحزنِ عليهم .
وهكذا يتضح الدورُ العبثي للمرأة الجاهلية . فهي مجرد بُوق لإيصال رسائل الجزع والسخط . وضعها المجتمعُ في هذه المهنة الدونية، وهي ارتضتها بلا أدنى اعتراض . فصار شَقُّ الجيوب أو اللطمُ أو النياحة من الصفات الملازِمة للمرأة العربية . وهذه الخِصالُ القبيحة صارت ماركة مُسجَّلة باسم المرأة، وصارت المرأةُ والسَّخط وجهَيْن لِعُملة واحدة صَكَّها المجتمعُ الجاهلي البدائي .

9_ استخدام النساء للإثمِد :

كلُّ امرأةٍ تَحْرص على مَنْظرها، وتُريد الظهورَ في أجمل صورة . والمرأةُ العربية لَيْست حالةً شاذة عن هذا المسار ، بل هي جُزء من الحالة الأُنثوية العامة .

يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

سَقَتْهُ إياةُ الشمسِ إلا لِثاتِهِ أُسِفَّ ولَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ

يَصِفُ الشاعرُ ثَغْرَ حبيبته. لقد سَقاه شُعاعُ ( إِياة ) الشمس إِلا لِثاته ( جَمْع لِثَّة ). كأن الشمسَ أعارتْ فَمَ الحبيبةِ ضَوْءَها . وقد استثنى اللثاتِ لأنه لا يُسْتَحَبُّ بريقها. وهكذا، نجد أبجديةَ الشاعر تَسْبح في ثَغْرِ حبيبته ، وتُصوِّره بأجمل العِبارات ، وتُبْرِزه بأبهى شكل . وهذا الثَّغْرُ شديد اللمعان كأن الشمس قد مَنَحَتْهُ ضَوْءَها الباهرَ . وهذا اللمعانُ يُشير إلى اهتمام الحبيبة بنفْسها، واعتنائها الفائق بأدق تفاصيل كيانها الأُنثوي .
وبالإِضافةِ إلى جَمالِ ثَغْرِها ، فقد أُسِفَّ عليه الإِثمِد ( الكُحْل ) . أي إِنَّ الإثمدَ قد ذُرَّ على اللثة ، فانتشرَ عليها . ولم تَكْدِمْ ( تعض ) بأسنانها على شيء يؤثر فيه ( لم تعض على الإثمد بشيء ) .
ونساءُ العربِ كُنَّ يَضَعْنَ الإِثمِدَ على الشِّفاه واللثاتِ من أجل لمعان الأسنان . فَهُنَّ حريصات على الظهور في أجمل صورة . وبالتأكيد ، إِن جَمالَ المرأةِ كامنٌ في وجهها ، وَجَمالُ الوجه يتجلى في بَياض الأسنان ولمعانها. وكلما ازداد لمعانُ الأسنان ازداد الوجهُ نضارةً وجَمالاً. وهذه الحقيقة كانت نساءُ العرب يَعْرِفْنها حَقَّ المعرفة ، وهذا يُفسِّر حِرْصهنَّ الشديد على استعمال الإثمد على الشفاه واللثات . ويدل على أن المرأة هي المرأة في كل الحضارات والأُمم. بمعنى أنها تهتم بمظهرها، وجَمالها، وتهدف إِلى إبراز فِتْنتها وتألقها ، لتأسرَ قلبَ الرَّجلِ ، وتُسيطر على حواسِّه .

الفصل الخامس عشر
الحيوانات

تمهيد

إِن حياةَ الإنسان العربي في الصحراء الشاسعة ، جعلته يبني علاقاتٍ دافئة مع الحيوانات التي تشاركه هذه البيئة القاسية . وهذا الأمرُ يتجلى بكل وضوح في شِعر المعلَّقات. فهناك رابطة حقيقية _ في السياقات الشعرية_ بين العربيِّ والحيوانات التي تعيش معه ، وتشاركه أفراحَه وأحزانَه .
وبالتالي ، فليس غريباً أن يتم ذِكْرُ الخيل والفَرَس ، وبيان صفاته ، وأحواله ، ومزاياه، ومدحه بأقوى العِبارات، وكأنه فردٌ من أفراد القبيلة، أو جُزء من العائلة . وهذا يدل على شدة الترابط بين الفَرَس والفارس ، وكما قيل : الفَرَس من الفارس.
وتُذكَر السِّباعُ وحياتها القاسية في الأجواء المناخية الصعبة ، كما يتم التنويه بقوتها، وغريزتها المعتمدة على الافتراس والقتل. ويَظْهر الحِمارُ، ويتم تسليط الضوء على جَوْفِه باعتباره رمزاً للخراب. ويَبْرز الذئبُ وصَوْته المندمج مع عناصر الطبيعة، ونراه يتحرك في البيئة الصحراوية بكل تناقضاتها . وبالطبع ، لا يمكن للشِّعر العربي القديم أن يتجاوزَ ذِكْرَ الإِبل . فالإبلُ هي سُفن الصحراء العظيمة التي تتحدى الرمالَ والعواصفَ والظروفَ المؤلمة ، وهي مثالٌ واقعي على شِدة البأس . وفي ذات السياق ، تَبْرز صفاتُ الناقة بالتفصيل ، ويتم تسليط الضوء على بُنيتها الجسمية والنَّفسية ، والإشادة بخصائصها المتفرِّدة. ويَكْشف لنا الشِّعرُ عن البقر والظباء ، والاقتران بينهما. كما يَكْشف عن الظباء والنعام في علاقة اقتران أُخرى. وبالطبع ، فهذا العالَم الحيواني مليء بالْجَمال والمشاعر الفيَّاضة ، خصوصاً تلك المشاعر التي تَرْبط بين الأُمهات والأولاد . ولا يمكن تجاهل تشبيه النساء بالظباء . وهذه إشارة أُخرى على شِدَّة الترابط بين عالَم الإنسان وعالَمِ الحيوان. وأخيراً، إِنَّ مَدْحَ الحيوان هو مَدْحٌ لصاحبه ، فالخصائصُ المميَّزة للحيوان تشير إلى ذكاءِ مالكه الذي أحسنَ الاختيارَ ، وأتقنَ فنونَ الرعاية .
1_ الخيل والفَرَس :

الخيْلُ تحتل مكانةً رفيعة في الثقافة العربية القديمة ، فهي رَمْز للشرف والسيادة والرجولة والبطولة . كما أن وجودها مؤشر على القوة والمنَعة .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

فأمَّا يَوْمَ خَشْيتنا عَلَيْهم فتُصبحُ خَيْلُنا عُصَباً ثُبينا

عِندما يَسْتولي الخوفُ على القلوب، ويتأجج الرعبُ في الواقع المعاش ، وتخشى القبيلةُ على أبنائها وحُرُماتها من الأعداء، تُصبح خَيْلُ القبيلة جماعاتٍ (عُصباً ثُبينا ).
في هذا الموقف الحرج ، حيث تتكاثرُ الأخطارُ ، وتتوالى التحدياتُ ، وتَظْهر الخشيةُ على أبناءِ القبيلةِ وممتلكاتها من الأعداء ، تَبْرز أهميةُ الخيْلِ ، ويتَّضح دَوْرُها المركزي في حماية القبيلة وحُرماتها،حيث إِنها تُصبح جماعاتٍ، وتنتشر في كل الجهات من أجل مُواجهةِ الأعداء ، وحراسةِ وُجود القبيلة من المخاطر ، وتوفيرِ الحماية لأبناء القبيلة . وفي هذا إشارةٌ واضحة إلى شجاعة فُرسان القبيلة الذين يَمْتطون صهوات الخيلِ . فالخيلُ _ وَحْدَها _ لا تَقْدر على فِعْلِ أيِّ شيء .
وبالإِضافة إلى أهمية الخيل ، تَبْرز أهميةُ الفَرَس باعتباره شَرَفَ العربيِّ ، ورفيقَ عُمره في الصحراء الشاسعة ، وأَنيس وَحْشته في الليالي والأيام .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعـــــاً كَجُلْمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِن عَلِ

يَصِفُ الشاعرُ الفَرَسَ بصورة تفصيلية ، ويُسلِّط الضوءَ على خصائصه المتفرِّدة ، وَيَصُبُّ عَلَيْه المديحَ صَبَّاً ، وبالتأكيد ، إِن مَدْحَ الفَرَس هو مدحٌ للفارس ، لأن الفَرَس من الفارس .
هذا الفَرَسُ جَيِّد الكَرِّ ( الرُّجوع ) والفَرِّ ، فهو يَرْجع إِذا أُريد مِنه الرجوع ، وَيَفِرُّ إِذا أُريد مِنه الفَر . وتَراه مُقبِلاً إِذا أُريد منه ذلك ، وتراه مُدبِراً إِذا أُريد مِنه ذلك . ثم تأتي كلمةُ الشاعر " مَعاً " لِتُعطيَ معنىً سِحرياً باهراً ، وتُشيرَ إلى العلاقة التكاملية بين صفات الفَرس المتناقضة، وتدلَّ على قوةِ التنسيق والسيطرة بين أعضائه ، وتُسَلِّطَ الضوءَ على قُرب الحركة في حالَتَي الإِقبال والإِدبار ، وحالَتَي الكَرِّ والفَرِّ . وَكُلُّ هذه التفاصيل تَرْسم صورةً أسطورية للفَرس ، وتَكْشف عن إِمكانياته الهائلة ، ومزاياه الفائقة .
وبالطبع ، إِن صفات الكَر والفَر والإقبال والإدبال هي صفاتٌ متأصِّلة في الفَرَس، ومجتمعة في قُوَّته لا في فِعْله . فهذه الصفاتُ متضادة ومتناقضة ، ولا يمكن القيام بها في نَفْسِ الوقت . والمقْصودُ أن هذا الفَرس قادرٌ على لعب كافة الأدوار بسبب امتلاكه لكل الخصائص .
وهذا الفَرَسُ الرائعُ قد جَمَع بين السرعةِ الفائقةِ والقوةِ البدنيةِ الهائلةِ ، فهو كَحَجرٍ عظيمٍ صَلْبٍ ( جُلْمود ) ألقاه السَّيلُ مِن مكانٍ عالٍ ( عَلِ ) إلى الأرض . ولا شَكَّ أن الحَجَر _ بِحُكْم تكوينه _ يطلب الجهةَ السُّفلى لأنها مَرْكزه ، وإِذا ساعدته قوةُ دَفْع السَّيْلِ وأَسْقَطَتْهُ من الأعلى ، فسوفَ تتضاعف سُرعته بشكل كبير.وهذا التعبيرُ الفنيُّ يُشير إلى الاقتران الواضح بين سُرعةِ الفَرس، وصَلابةِ بُنْيته.
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

على الذَّبْلِ جَيَّاشٍ كأنَّ اهتزامَهُ إذا جاشَ فيه حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَلِ

على الرَّغم مِن ذُبول ( ذَبْل ) خَلْقِ الفَرَس،وضُمورِ بَطْنه، إِلا أنهُ جَيَّاش( فائر ) يَفُور حماسةً ونشاطاً . كأن اهتزامَه ( شِدَّة صَوْته ) _ إِذا جَاشَ ( فَارَ ) فيه حَمْيُه ( حرارته ) _ غَلْيُ مِرْجَل ( فَوَران قِدْر ).وهذه الصورةُ التفصيلية تدل على وصولِ الفَرَس إلى ذِرْوة نشاطه، وتحرُّرهِ من الجاذبية،واندماجِه مع عناصر الطبيعة بكل قُوة.
إِنهُ فَرَسٌ جامحٌ ، دَخَلَ في عالَم الاحتراق ، وَوَصَلَ إلى نقطة اللاعودة . يشتعلُ تألقاً ونشاطاً ، ويمتاز بالبأس الشديد ، والعُنفوانِ الباهر . تغلي فيه حرارةُ نشاطه رغم ذُبول جِسْمه، وانكماشِ بَطْنه، وتَتأجج في كَيانه طاقةٌ رهيبةٌ ، وتَفور في أوصاله حماسةٌ لانهائية . لقد وَضَعَ هذا الفَرَسُ جِسْمَه في أقصى مَداه ، مُسلَّحاً بالنشاطِ والحيويةِ والقُدرةِ الفائقة ، حتى إِنَّ تكسُّر صهيله في صَدْره يَغْلي بصورة مذهلة ، ويَفور بكل غضبٍ ، وصوتُه الشديد ( صهيله المتفجر ) صار كغليان القِدْر .
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

لهُ أَيْطَلا ظَبيٍ وَسَاقا نَعَامَــةٍ وإرخاءُ سِرْحانٍ وتَقْريبُ تَتْفُلِ

يُقدِّم الشاعرُ أربعة تشبيهات للفَرَس . له أَيْطَلا ( خاصرتا ) ظَبي ، وسَاقا نعامةٍ، وإِرخاءُ سِرْحان ( نَوْع مِن عَدْوِ الذئب ) ، وتقريبُ تَتْفُل . والتقريبُ هو وضع الرِّجْلين مَوْضع اليدين في العَدْو ، والتَّتْفل هو ولد الثعلب .
إِن هذا الفَرَس المميَّز له خاصرتان مِثل خَاصِرَتَي الظبي في الضُّمورِ والانكماش، كما أنَّ ساقَيْه تُشبهان سَاقَي النَّعامة في الطُّول والانتصاب . وعَدْوُه يُشبِه إِرخاءَ الذئب ( السِّرْحان)، فهذا الفَرَسُ المتفوِّقُ يَعْدو بكل سهولة وقوة وثقة، بِلا تشنُّج، ولا حِدَّة ، تماماً كالذئب في حالة الإِرخاء. وأيضاً، فإِن هذا الفَرَس عِندما يَعْدو بكل نشاطٍ وثقةٍ ، فإِنه يَضع رِجْلَيْه مَوْضع يَدَيْه كما يَفعل ولد الثعلب . وهذا يدل على حركة الفَرَس الرشيقة ، وسيطرته على أعضائه . ويتجلى _ بكل وضوح _ تناسقُ حركاته ، والعلاقة التكاملية بين وظائف أعضائه، وثقته بنفْسه، وقوته البدنية، وتماسك أعصابه . وكأن هذه الأمور قد أَخْفَت الفرقَ بين رِجْلَيْه ويَدَيْه .

ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

وَحَشِيَّتي سَرْجٌ على عَبْلِ الشَّوى نَهْدٍ مَرَاكِلُه نَبيلِ المَحْــــزِمِ

يَمْدحُ الشاعرُ نَفْسَه وفَرَسَه معاً ، وهذا يدل على الاقتران المصيري بين الفارس والفَرَس . وكلُّ مَدْحٍ للفارس هو _ بالضرورة _ مَدْحٌ لفَرَسه ، والعكس صحيح .
يُخْبِرنا الشاعرُ عن حياته المليئة بالبطولات والأمجاد ، فهو يَقضي حياته على ظَهْرِ فَرَسه ، ويَخوض غَمارَ المعارك بكل شجاعة ، ويَقتحم الأهوال بكل ثقة .
يقولُ : فِراشي ( حَشِيَّتي ) سَرْجٌ على فَرَسٍ عَبْلِ الشَّوى ( غليظ القوائم والأطراف )، نَهْدٍ مَراكله ( ضخم الجنبَيْن )، نبيلِ الْمَحْزِم ( سَمين مَوْضع الحِزام ).
إِن الشاعرَ يَعيش على سَرْجِ الفَرس ، ويستمتع به ، كما يستمتع غَيْرُه بالفِراش الناعم الوثير ( الحشِيَّة ) . وهذا التلازم المصيري بين الشاعر وركوب الخيل ، يُشبِه التلازمَ بين الناس وأثاثِ بيوتهم . وفي هذا دلالةٌ على تميُّز الشاعرِ الفارسِ ، وتفوُّقه على الآخرين ، وأنهُ يَحْرص على البطولات واقتحامِ الصِّعاب ، كما يَحْرص الآخرون على الراحة والاستمتاع فوق الفُرُش الناعمة .
وفي هذا السِّياق تَظْهر ثلاثة أوصاف مميَّزة للفَرَس ، وهذه الأوصافُ محمودةٌ في عالَم الفروسية العربي . الأوَّل_ عَبْل الشَّوى، أي إِنهُ يمتاز بغلظ القوائم ، وصلابة الأطراف.والثاني_ نَهْد مراكله، جَنْباه منتفخان وضخمان.والثالث_نبيل المَحْزِم،أي إِنَّ مَوْضع الحِزام في جِسمه سمينٌ وممتلئ باللحم، مما يدل على اندماج الْحُسْن مع الغِلظة .

2_ السِّباع :

السِّباعُ جزءٌ من البيئة الصحراوية العربية ، وتحتلُّ مَوْقعاً مهماً في العقل الجمعي العربي ، والثقافةِ الشعبية المحلية . وذِكْرُها متداخل مع تفاصيل الوعي الإنساني .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

كأنَّ السِّباعَ فِيهِ غَرْقى عَشِيَّـةً بأرجائِهِ القُصْوَى أَنابيشُ عُنْصُلِ

جاءَ المطرُ إلى هذه البيئة القاسية، وغَرقت السِّباعُ في السَّيْلِ الذي صنعه المطرُ. وكأن السِّباعَ _حِين غَرقت في السَّيْلِ عَشِيَّاً _ أصولُ ( أنابيش ) العُنصلِ ( البصل البري ) .
سَقَطَت السِّباعُ في السَّيْلِ، وتلطَّختْ بالوحل ( الطين والماء ) في النواحي الأبْعد ( أرجائه القُصوى ) . وقد حَدَثَ ذلك آخرَ النهار ( عَشِيَّةً ) .
لقد كانَ المطرُ قوياً ، أغرقَ السِّباعَ في الوحل ، فامتزجتْ بالطين والماء ، وصارتْ تُشبِه أصولَ البصل البري لأنها متلطخة بالطين والتراب .
ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

فَتَرَكْتُه جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَـهُ يَقْضِمْنَ حُسْنَ بَنانِهِ والمِعْصَمِ

هنا تَظْهر شراسةُ الصراعات البشرية في المجتمع الصحراوي القَبَلي ، وتَظْهر كذلك وحشيةُ السِّباع ، ودَوْرها المركزي في البيئة القاسية .
يُصَوِّرُ الشاعرُ نَفْسَه كَمُقاتِلٍ شجاعٍ قَتَلَ عَدُوَّه ، وتَرَكه فَريسةً سهلةً للسِّباع . لا مكانٌ هنا للمشاعر الإنسانية ، ولا وَقتٌ للكرامة البشرية . إِنهُ مجتمع الغاب ، حيث القويُّ يَقْتل الضعيفَ ، والبقاءُ للأقْوى .
استطاعَ الشاعرُ قَتْلَ خَصْمه . لقد أَجْهَزَ عليه بكل ثقةٍ وعُنفٍ ، ولم يُكْرِمه بِدَفْنِ جُثته . وإِنما أهانه بعد موته ، فقد تَرَكَ جُثته طَعاماً للسِّباع ، كما يَكون الْجَزَرُ ( الشاة المذبوحة ) طعاماً للناس. لقد تَنَاوَشَتْهُ ( تَنَاوَلَتْهُ ) السِّباعُ بكل جنون ، ورَاحت تَقْضم بَنانه الحَسَن ، ومِعْصَمَه الحَسَن. إِنها تأكل بِمُقَدَّمِ أسنانها( تَقْضم) أصابعه الجميلة ( بَنانه الْحَسَن )، وأيضاً ، تَقْضم مِعْصَمَه الجميل . والمِعْصَم هو مَوْضع السِّوار مِن اليد . لا مكان للرحمة في هذه البيئة القاحلة . إِنْ لم تكن قاتلاً ، فأنتَ مَقتول . هذا هو قانون الوحوش ، وشريعة الغاب . لقد قامَ هذا الشاعرُ المقاتِلُ بالقضاء على عَدُوِّه ، وجَعَله عُرْضةً للسِّباع حتى تَناوَلَتْهُ وأَكَلَتْهُ .

3_ الحِمار والذئب :

الحِمارُ والذئبُ عُنصران أساسيان في البيئة العربية ، ويحتلان مساحةً واسعة في ذاكرة الثقافة العربية ، سواءٌ على المستوى الشَّعبي أَم النُّخبوي .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :

وَوَادٍ كَجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ بِهِ الذئبُ يَعْوي كالخَليعِ المُعَيَّلِ

إِنها البيئة الصحراوية القاحلة . الفراغُ والوحشةُ يَضْربان أعصابَ المكان ، ويتسلَّلان في كافة التضاريس. وهذا الوادي _ الذي يُخبِرنا عنه الشاعر _ مُوحِشٌ كَجَوْفِ الحِمار( العَيْر ). إِنهُ وادٍ قَفْرٌ ( خَالٍ ) مُوحِشٌ متوحش، يَخْلو من آثارِ الحياة ، لا إِنسان فيه ولا نَبات ، ويُشْبِه بَطْنَ ( جَوْف ) الحِمار . وَليس في بَطْن الحِمار شيءٌ يُنْتَفَع به ، فهو مكان فارغ ، لا فائدة للناس والبهائم فيه . وهكذا ، صارَ بَطْنُ الحِمار رَمْزاً للعَدَمِ والفراغِ واللاجَدْوى .
هذا الوادي الخالي مِن بَهْجة الحياة ، وحركةِ الكائنات الحية ، قد قَطَعَه الشاعرُ سَيْراً ، بينما كان الذئبُ يَعْوي كالخليع ( المقامِر ) المُعَيَّل ( كثير العِيال ) .
الخطرُ يُحْدِقُ بالشاعر في هذا المكان المخيف . لقد قَطَعَ الوادي ، وصوتُ الذئب يَرُجُّ الفضاءَ . إِنهُ يَعْوي مِن شِدَّة الجوع . وكلما ازداد جُوعُه ازدادَ صَوْتُه تَوَحُّشاً ، كالمقامرِ الذي خَلَعَه أهلُه بسبب سُوء سُلوكه ، وكَثُرَ عِياله ، فَهُم يُطالبونه بالنَّفقة ، وهو يَصْرخ بهم ، ويتجادل معهم بكل حِدَّة ، لأنه لا يَجِدُ ما يُقَدِّمه لهم .
وهذا الصُّورةُ تُشير إلى الانهيارِ الاجتماعي ، وتفكُّكِ الأُسرة . فالمقامرُ هو شَخَصٌ مَخْلوعٌ مِن أُسرته وبيئته بسبب سُوء أخلاقِ ، وانحرافه السُّلوكي ، ولا يُمكنه أن يَكون زَوْجاً محترماً ، أو أباً صالحاً . فهو يُبذِّر أمواله على شهواته ونزواته، ويَحْرم أُسرته مِن كُل الموارد . وهذا يؤدي إلى تدمير الأُسرة ، وانحرافِ أَفرادها .

4_ الإِبل والناقة :

الإِبِلُ هي سُفنُ الصحراء ، ووسيلةُ النَّقل الأساسية في عالَم الرمال الموحِش ، ورفيقةُ العربيِّ في حياته وأسفاره ، ولا يمكن الاستغناء عنها في مجتمع الصحراء .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

كأنَّ حُدُوجَ المالِكِيَّةِ غُــدْوَةً خَلايا سَفينٍ بالنَّواصِفِ مِن دَدِ

لا بُدَّ مِن الرَّحيل المؤلم. وقد قَرَّرت العشيقةُ السَّفرَ ، وهذا القرار لا رَجْعة فيه . والشاعرُ يَتأمَّل في قافلة العشيقة الراحلة .
كأنَّ مَراكبَ ( حُدُوج ) العشيقة المالكية _ غُدْوة فِراقها بنواحي ( نواصف ) وادي دَد _ سُفُنٌ عظيمةٌ ( خلايا سَفين ) . والمالكيةُ منسوبة إلى بني مالك قبيلة مِن كَلْب .
إِنها قافلةُ الرَّحيل . مَراكبُ العشيقةِ تَحْرق الذكرياتِ ، وتدل على الأحزان العميقة . لا صَوْتَ يَعْلو على صوت السَّفر. هذه الإِبلُ الحاملةُ للهوادج في الصَّباح بأنحاء الوادي المسمَّى ( دَد ) كأنها سُفُنٌ عَظيمة تَمْخر عُبابَ الماء .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

أَمُونٍ كألواحِ الإرانِ نَصَأتُها على لاحِبٍ كأنهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ

يُبْحِرُ الشاعرُ في أوصافِ ناقته المميَّزة ، ويتغنَّى بصفاتها المتفرِّدة . فهي أَمُون يُؤْمَن تعثُّرها . تمشي بكل قوةٍ وثقةٍ ، لا تتعثَّر في مَشْيها ، ولا تَرتبك . فهي تَعْرف هَدَفَها بدقة ، وتَسير إليه واثقةً . وهي ذات بُنية جِسمية قوية ومتماسكة ، وعِظامُها كألواح التابوت ( الإِران ) . وقد نَصَأها الشاعرُ ( زَجَرَها ) على طريقٍ واضحٍ ( لاحب ) كأنه كِساء مُخطَّط ( بُرْجُد ) .
يُخبرنا الشاعرُ عن مغامرته الفريدة مع ناقته الحبيبة ، فيقول : هذه الناقة مأمونة ذات خُلُق رفيع، لا خَوْف مِنها ولا يُخْشَى عليها،ويُؤْمَن تعثُّرها في سَيْرها وعَدْوها. وهي ناقةٌ ضخمة ، عِظامها عريضةٌ كألواح التابوت ، وقد ضَرَبْتُها بالعصا لكي أَسُوقها على طريقٍ ظاهرٍ بَيِّنٍ كأنه كِساء مُخطَّط لِمَا فيه من الخطوط العجيبة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

لها فَخِذانِ أُكْمِلَ النَّحْضُ فِيهما كأنهما بَابَا مُنيفٍ مُمَــــرَّدِ

هَذه الناقةُ رائعةٌ ذات بُنيةٍ جِسْمية عظيمة. لها فَخِذان أُكْمِلَ اللحمُ ( النَّحْض ) فيهما ، كأنهما بَابَا قصرٍ عالٍ ( مُنيف ) مُمَلَّس ( مُمَرَّد ) . وهذا يدل على ضخامة هذه الناقة ، وقُوتها الهائلة .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وأَتْلَعُ نَهَّاضٌ صَعَّدَتْ بِــهِ كسُكَّانِ بُوصِيٍّ بدِجلَةَ مُصْعِدِ

هَذه الناقةُ الضخمةُ المميَّزةُ طويلةُ العُنق ( أَتْلع ) . عُنُقُها طويلٌ سريعُ النُّهوض ( نهَّاض ). وإِذا رَفَعَتْ عُنُقَها ( صَعَّدَت بِهِ ) أَشْبَهَ ذَنَبَ ( سُكَّان ) سفينةٍ ( بُوصيٍّ ) في دِجْلَة تَصْعَد .
وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إِلى حجم الناقة الهائل، إِذ إِنَّ عُنُقَها مرتفعٌ بشكل واضح ، ومُنْتَصِبٌ بكل قوة وحيوية ، يخترقُ ذراتِ الفضاء بكل ثقة . وهذا العُنُقُ المذْهِلُ مِثْل ذَنَبِ السفينة عِندما تجري على الماء ، وتقتحم الأمواج بكل عُنف .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وَصَادِقتا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرى لِهَجْسٍ خَفِيٍّ أوْ لِصَـوْتٍ مُنَدِّدِ

تمتاز هذه الناقةُ المتفرِّدةُ بقوة السَّمْع . له أُذنان عَظيمتان صَادقتا الاستماع ( التَّوجُّس ) في حالة السَّيْر لَيْلاً ( السُّرى ) . وهاتان الأُذنان تلتقطان الأصوات في عَتمة الليل، ولا صَوْتَ يَهْرب مِنهما . وهذه الناقةُ لا يَخفَى عليها السِّر ( الهجس ) الخفي ، ولا الصوت الرفيع ( الْمُنَدِّد ) . إِنها تمتلك حَاسَّةَ سَمْعٍ مُميَّزة قادرة على التقاط كل الأصوات _ بِغَضِّ النظر عن درجتها _ ، مما يُشير إلى أنها في أفضل حالاتها البدنية والنَّفسية .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

أَدْعو بِهِنَّ لعاقِرٍ أوْ مُطْفِـلٍ بُذِلَتْ لجيران الجميعِ لِحامُها

يُريد الشاعرُ إِجراءَ قُرعةٍ لذبح الناقة، لذلك يَدْعو بالقِداح لنحرِ ناقةٍ عاقرٍ ( لا تَلِدُ ) أو مُطْفِل ( ذَات وَلَدٍ ) ، تُبْذَل لحومها ( لِحامها ) لجميع الجيران .
يَحْرصُ الشاعرُ على إطعام جميع الجيران من لُحوم الناقة ، وهو متردِّد بين ذبح ناقة عاقر وذبح ناقة مُطْفِل. فالعاقرُ ممتلئة باللحم والشَّحم ، وهي أَسْمَن من المطْفِل. وهذا أمرٌ طبيعي ، فالعاقرُ لا تنشغل بولدها ، وإِنما هي مشغولةٌ بنفْسها ، ولا تعتني بِغَيْرها. أمَّا المطْفِل فهي مشغولة بولدها ، وتَقضي وَقْتَها في الاعتناء به ، ومَعَ هذا ، فالمطْفِل أَنْفس ، وأغْلى ثمناً ، لأنها زَادت عدد البُعران ( جَمْع بَعير ) .

5_ البقر والظباء :

لقد بَرَزَ ذِكْرُ البقرِ والظباءِ في الأُفق الشِّعري ، وظَهَرَت العلاقاتُ المتشابكة التي تَجْمع بين الحيوان والبيئة. وبالطبع، إِنَّ هذه العلاقات مليئة بالمشاعر والمَشَاهِد.
يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :

بها العِينُ والآرامُ يَمشينَ خِلْفَةً وأطلاؤها يَنْهَضْنَ مِن كُلِّ مَجْثَمِ

بهذه الدَّارِ بَقَرٌ واسعات العيون ( العِين ) ، وِظباء بِيض ( آرام ) يَمْشِين خِلْفَةً ، يَخْلف بعضُها بَعْضاً ، تذهب هذه وتجيء هذه ، وإذا مضى قطيعٌ مِنها جاءَ قطيعٌ . وأولادُ الظَّبية ( أطلاؤها) يَنْهَضْنَ مِن مَرابضها ( مِن كُلِّ مَجْثَم ) لكي تُرضِعها أُمهاتها.
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

والعِينُ سَاكنةٌ على أطلائها عُوذاً تَأَجَّلُ بالفَضاء بِهامُها

البَقرُ الواسعاتُ العُيون ( العِين ) قد سَكَنَتْ ، وتَفَرَّغت لأولادها ، تعتني بها وتُرضعها لأنها حَديثات النتاج ( عُوذ ) . وأولادُها صَارَت قَطيعاً ( تَأَجَّل ) في الصحراء ( الفضاء ) . والبِهامُ أولادُ الضَأْن إذا انفردتْ .
لقد رَحَلَ الإِنسانُ عن هذا المكان، وصار مستقراً للوحوش، لا أثرَ فيه للإِنس . فالحيواناتُ وَحْدَها هي التي تُسيطر عليه ، وتمارس أنشطتها الحيوية فيه .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

زُجَلاً كأنَّ نِعاجَ تُوضِحَ فَوْقَها وَظِباءَ وَجْرَةَ عُطَّفاً آرامُهـا

مَشْهَدُ الرَّحيلِ يُسيطر على ذِهن الشاعر، ويَنتزع مِن قلبه الحنينَ . لقد تحمَّلوا جماعاتٍ ( زُجَلاً ) كأن النِّعاجَ ( إِناث البقر ) فوق الإِبل المسافرة . شَبَّهَ عُيونَ النساء بِعُيون البَقر الواسعة . وأيضاً شَبَّهَ النساءَ بالظِّباء التي تَعْطف على أولادها ، وتراقبهم بِعُيونها من أجل حمايتهم ورعاية شؤونهم . والظِّباءُ في هذه الحالة تَكون عيونُها أَجْمل ما يمكن، لأن فيها الحبَّ الصادقَ،والعَطْفَ الحقيقي، والحنينَ الجارفَ.
لقد شَبَّهَ الشاعرُ النساءَ ببقرِ تُوضِح وَظِباءِ وَجْرة في كُحل أعْينها . و" تُوضِح " وَ" وَجْرة " مَوْضعان . إِنهُ الحُسنُ الفائقُ ، والجَمالُ المذهِلُ ، اللذان سَيْطرا على قلب الشاعر ، وتحكَّما ببوصلة مشاعره وأحلامه .

6_ الظِّباء والنَّعام :

يَظْهر الاقترانُ بين الظِّباء والنَّعام ، وتَظْهر الطبيعة في أبهى صُورها . وكلُّ هذا الجَمال الطبيعي يَبْعث الراحةَ في النَّفْس البشرية .
يقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

فَعَلا فُرُوعُ الأَيْهُقانِ وأَطْفَلَتْ بِالجهْلَتَينِ ظِباؤها ونَعامُهــا

لقد عَلَتْ فُروعُ الجرجيرِ البَرِّي ( الأيهقان ) وأَطْفَلَت الظِّباءُ والنَّعامُ . صارت ذوات أطفال بجانبي الوادي ( بالجهلتَين ) .
أَخْصَبَت الدِّيارُ ، وانتعشَ المكانُ ، وعَمَّ الرخاءُ والازدهار في الأرجاء . دَبَّت الحياةُ في الأعشاب . وعَظُمَت فُروعُ الجرجير ، وانطلقتْ في الهواء بكل ثقة . وتكاثرت الحيواناتُ . صارت الظِّباءُ ذوات أطفال وباضت النَّعامُ بجانبي وادي هذه الديار .