عصام شرتح

XXXXXXXXXX

ما من شك في أن لكل قصيدة فضاءها الزماني والمكاني الخاص بها، وهذا الفضاء الزماكاني هو الذي يحدد شعرية الأماكن أو الأزمنة ، ومدى ارتباطها بجوهر الرؤية النصية في القصيدة، ولا نبالغ في قولنا: إن شعرية الكثير من الأمكنة لا تتحدد بشكلها الأمثل إلا حين ترتبط الأمكنة بأزمنتها ، والأزمنة بأمكنتها، وارتباطها من ثم بجوهر الرؤية النصية من الصميم، فالمبدع الحقيقي هو الذي يطور رؤيته الزمكانية تبعاً لفاعلية رؤيته الشعرية، من خلال سلسلة من القرائن والدلائل، التي ترتبط بالفضاء الشعري، وانعكاسها على الشكل الشعري،وهذا يدلنا" أن المكان في العمل الفني شخصية متماسكة ومسافة مقاسة بالكلمات، ولذا ، لا يصبح المكان غطاءً خارجياً أو شيئاً ثانوياً، بل هو الوعاء الذي تزداد قيمته كلما كان متداخلاً بالعمل الفني، والقصائد التي تحسن استخدامه إنما تسجل جزءاً من تاريخية الزمن المعاصر"(1) ووفق هذا التصور،فإن المكان يتجلى جمالياً من خلال فاعلية اللغة، وشعرية اللغة في ترسيم الأماكن وتخليقها فنياً، وهذا يعني أن المكان- في الشعر-"يتشكل عن طريق اللغة، التي تمتلك بدورها طبيعة مزدوجة، إذ للغة بعد فيزيقي يربط بين الألفاظ وأصولها الحسية، كما أن لكل لغة نظاماً من العلاقات التي تعتمد على التجريد الذهني، لكن المكان الشعري لا يعتمد على اللغة وحدها، وإنما يحكمه الخيال الذي يشكل المكان بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع، عير أنه يظل على الرغم من ذلك واقعاً محتملاً، إذ إن جزئيات الواقع تكون حقيقية، ولكنها تدخل في سياق حلم يتخذ أشكالاً لا حصر لها، يصل إليها الخيال اللغوي، فيما يمكن أن يسمى جماليات اللغة، أو جماليات الخيال"(2).
وبتقديرنا: إن شعرية المكان تتبع شعرية الزمان، كما أن شعرية الزمان تتبع شعرية المكان، ولا يمكن فصل شعرية أحدهما عن الآخر، وهذا ما يجعل العلاقة القائمة بينهما علاقة جدلية،ذلك أن" شعرية المكان تكون رمزية دلالية لا تحتمل أحداثاً تجري، ولا شخوصاً تتحرك، بل هو رمز يختصر أحداثاً، وأزماناً، وأساطير، أو أفكاراً، فالشاعر يجسد المكان بواسطة الصورة، واللغة، والإيقاع؛ كما أن المكانية تخلق جماليتها في القصيدة من خلال التفاعل الشديد والمعقد بينها وبين فلسفة العصر، ورؤيا الإنسان،لاسيما إذا عرفنا أن الشحنة الجمالية للصورة الفنية اليوم لا تكون مقبولة إلا إذا حملت تواريخ عديدة :خفية ومعلنة، آتية إلينا عبر فعل المخيلة النشط"(3)

ووفق هذا التصور،فإن ما يحفز الرؤية المكانية تفاعل الأمكنة مع الرؤية الشعرية، وتحقيق منتوجها الفني، وتأسيساً على ذلك،تبدو الشعرية في أوج سموقها الفني، وذروة إثارتها قي تناغم الرؤى مع المواقف الوجودية والمسميات المكانية، وهذا ما دفع أحدهم إلى القول:" إننا نرى الشعرية لتبدو في أجلى صورها ليس في القول الملفوظ أو المكتوب فحسب، بل في الشكل والهيئة. في الإنسان والطبيعة ومكوناتهما، وما دام الأمر متعلقاً بذلك، وإذا صح هذا الافتراض فإن كل ما يدخل في بنية الشعرية يعد من مكوناتها ،وبناء على هذا فإن "المكان الشعري لا يعتمد على اللغة وحدها، وإنما يحكمه الخيال الذي يشكل المكان بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع إلى ما قد يتناقض مع هذا الواقع"(4).

ومما لاشك فيه أن خاصية" المكان" تبقى في علاقة تفاعلية جدلية مع الزمان، وهذه العلاقة ليست جدلية مع الزمان فحسب، وإنما جدلية مع الحيز المكاني ذاته، بوصفه واقعاً مادياً أو متخيلاً، وبما أن المكان المادي أو الجغرافي هو المقوِّم للمكان الشعري، أو المكان المتخيل في فاعليته، وتحققه الإبداعي، فإن الاحتفاء به في النصوص الشعرية أمر ضروري في إبراز القيمة الجمالية للأماكن في متن النص كلية، وبنية تشكيل الصورة تحديداً.
ومن يطلع على قصائد حميد سعيد في مجموعته الشعرية(من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) يلحظ أن المكان بنوعية المادي أو الشعري هو مكمن مرتكزات الحركة النصية لهذه القصائد، مما يعني أن تفاعل الشاعر حميد سعيد مع الأمكنة ليس تفاعلاً فنياً فقط ، وإنما تفاعلاً وجودياً يمس جوهر الرؤية الشعرية في الصميم،فالمكان لديه-رؤية صوفية تجسد حنينه وتوقه ووله الإلهي ، وكذلك المكان -عنده - هوية وجودية ،وكينونة حياة،ورابطة انتماء. وأواصر محبة،وينابيع خصوبة وعطاء، ولهذا، فمتحولاته المكانية خصبة في مداليلها ورؤاها، وملصقاتها الشعورية؛لدرجة أن المكان – لديه- بريد إرسال معاناته، وحرقته، وغربته الوجودية المريرة، ولا نبالغ في قولنا : إن فاعلية الأمكنة في قصائد مجموعته المشار إليها تكشف عن الكثير من رؤاها، ومنعكاساتها النفسية والشعورية لدرجة تشكل منطلق حركة الصورة وبؤرة تشكيل المعنى، وتنويع الدلالات.
وقد كان الناقد بدر نايف الرشيدي محقاً في قوله:" أصبح المكان عنصراً فاعلاً من عناصر استكناه العمل الفني واستبطانه،كشفاً عن جمالياته ليس على مستوى الرؤية فحسب، بل أصبح على مستوى الأداة يتخذ عدة مستويات يمكن من خلالها النظر إليه بوصفه بنية تقوم عليها- إلى جوار بنيات أخرى- هوية النصوص وكيانها"(5).
ومن الملاحظ أن للمكان في هذه القصائد خصوصيته المميزة ومدلولاته الصوفية العميقة، أي أن المكان ليس متحركاً بوصفه واقعاَ مادياً أو شكلاً خارجياً فحسب، بقدر ما هو متحرك روحاً ونبضاً ، وشعوراً، ورؤية، ودلالة ، وللتدليل على شعرية الأمكنة وفضائها متخيلها الإبداعي سنقف على أهم مؤشرات الأمكنة، وبناها في الواقع المادي والواقع الشعري والشعوري الملتصق بها، وفضاء متغيرها الإبداعي، وفق ما يلي أولاً - جدلية المكان الواقعي/ والمكان المتخيل:
تشتغل قصائد (من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) على فضاء متغيرها الإبداعي وفق جدلية رؤيوية تعتمد الحراك بين الزمنين الواقعي والشعري المتخيل هذا من جهة، والمكانين المادي والشعري المجسد،من جهة ثانية، وهذا التكامل بين الفضاءات الشعرية في واقعها الشعوري وفضائها الرؤيوي المتخيل هو ما ولَّد الحركة الشعرية، وزادها عمقاً، وإحساساً، وشعرية في تنويع مساراتها الرؤيوية، وتكامل بناها الشعرية ، مما يحقق لها التفاعل، والتكثيف، وعمق الإيحاء، وقد أكد حميد سعيد أهمية التفاعل والتكامل في بنى قصائده على المستويات كافة، بمعنى أن قصائده ذات بنية تركيبية محكمة، تشتغل على أكثر من تقنية لتخلق تكاملها الفني، وهي موجهة بعناية وخصوصية إبداعية، ومقصدية واضحة، قائلاً:" في قصيدتي كان ما يشبه التكامل بين السرد والدراما، وهذا ما أبعدها عن الاندياح والتسطيح، وقد كان من علل قصيدة التفعيلة حيث نجد قصائد شعراء تطول في ما يشبه الهذيان، حتى كأن الشاعر لا يتحكم بحركة قلمه على الورقة البيضاء"(6).
ومن ناحية ثانية أكد حميد سعيد على دور المكان أو البيئة المكانية في حركة الشعر، وتطوير الأساليب الشعرية؛إذ يقول:"ليس من إبداع مهم، إلا وكان قد انفتح بالقارئ على ما هو محلي ولو أخذنا الشعر العربي مثالاً لوجدنا إن ما هو جديد في عصره، هو النص الذي أدرك المتغيرات وعايشها، وعبر عنها.
حتى في المرحلة الزمنية الواحدة، يختلف الشعر بين بيئة وأخرى، إن شعراء مرحلة ما قبل الإسلام، كان الفرق واضحاً بين شعراء البوادي وشعراء الحواضر، فلكل منها قاموسه، وصوره، ورؤاه، فشعر عنترة غير شعر امرئ القيس، وهو غير شعر أمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد،ومع كل متغير في البيئة، كان الشعر يتغير أيضاً، ولعل المتغير الأكبر هو الذي احتضنته بغداد في العصر العباسي، بمجتمعها المديني وانفتاحها الحضاري على جميع مصادر الثقافة، أيامها كانت مدينة بالمعنى المعاصر للمدينة، فهي في انفتاحها، وما تختزن من تعدديات، انصهرت في ثقافة عظيمة، كان التعبير عنها بلغة عربية استجابت لكل تلك المتغيرات، وعبرت عنها بثراء ويسر"(7).
ووفق هذا الوعي والإدراك الفني والجمالي للمكان يؤكد حميد سعيد أن تعلقه بالأماكن ، هو تعلق بالذكريات الطفولية التي عاشها وترعرع في أحضان الطبيعة، ومرئياتها، ومكتسباتها التي أغنت فضاء الرؤية لديه، وفتحت آفاق تجربته على فضاءات رؤيوية لا متناهية، وكأن الأمكنة – لديه -هي صدى ذكريات ماضية، وأحلام، لا ملتقطة تراوده كل حين، وبهذا المعنى يقول:" لقد تفتحت طفولتي على أصوات المنشدين الدينيين والمنشدات وعلى أصوات المغنيين الشعبيين والمغنيات، وعلى شعراء محليين وبخاصة شعراء اللهجة المحكية، وكنت دون السادسة حين بدأت أحفظ الكثير مما أسمع من الشعر والأغاني والأهازيج، وما أسمع من قصص وحكايات وأمثال، وتفاعلت مع حكايات الرجال الشجعان، ومنهم أقاربي، وكانت جدتي لأمي ابنة أحد الزعماء المحليين، وكنت الأثير لديها بين عشرات الصبيان من أحفاد وأبناء أسرتها، ولطالما رافقتها في زياراتها لأسر في الريف والمدينة، حيث كانت تستقبل بحفاوة وتقدير، وكنت أرى وأسمع في بيوت مترفة حيناً، وفقيرة حيناً آخر، وما ظل محفوراً في الذاكرة"(8).
وبهذا التصور والوعي لأهمية المكان والطفولة في حياة المبدع، وانعكاسها على شعره، يؤكد حميد سعيد على أهمية المستوى الجمالي للمكان في خلق الشعرية، و تعزيز بؤرة تناميها الجمالي، خاصة عندما يكون للمكان ملصاقاته النفسية والشعورية الخاصة به، كما هو تأثير مدينة الحلة العراقية على شعره، وفي هذا المعرض يقول حميد سعيد:"فمدينة الحلة التي ولدت فيها ، وعشت طفولتي وصباي وشبابي، هي وريثة بابل من جهة، ووريثة الحلة المزيدية من جهة ثانية، والحلة المزيدية كانت من أهم حواضن الثقافة العربية، بعد تدمير بغداد العباسية العظيمة، وواصلت الحلة حضورها الثقافي في حياة الناس وتطلعاتهم، و مارووا، وما حفظوا، من مقولات ونصوص،وما عاشوا من تجارب."(9) ولا نبالغ إذ نقول: إن للأماكن خصوصيتها الشعرية في كل قصيدة من قصائده، وقد كانت مدينة الحلة ليست المكان الطبيعي أو المادي لأشعاره ، وإنما كانت الخلجات الروحية والشحنات العاطفية لكل ما يتفتق لديه من رؤى سواءً أكانت تصب في مجرى الأحداث، والرؤى، والتصوف، أم في سياق السرد والتوصيف المشهدي للأحداث والمشاهد الملحمية أو الأسطورية المكثفة في قصائده، ولما كانت رؤاه الشعرية محملة بعبق الأمكنة وأزمنتها، فإن ما يثيرها تضافر هذه البنى من مؤثرات ومحفزات شعورية، وهذا ما جعله يؤكد القيمة أو المستوى الجمالي للأمكنة في تعزيز شعرية القصيدة وتناميها جمالياً، إذ يقول:" قبل أن أتحدث عن المستوى الجمالي للمكان، أود أن أشير إلى أنني ولدت في مدينة الحلة ، ونشأت وعشت طفولتي في محلة( الوردية) التي تقع على طرف من مدينة الحلة، وتكاد تجمع بين الريف والمدينة،وهذا ما منحني فرصة فريدة لمعرفة حياة الناس وتقاليدهم في الريف والمدينة معاً.وكان بيت جدي، غير بعيد عن شط الحلة، من فروع نهر الفرات، وللنهر حياة ثرية حقاً، مازالت أحد مصادر مخيلتي، وامتداد الوردية بساتين نخيل، وما يشارك النخيل من أشجار، حيث تجد أسراً متحضرة، ولكنها لم تغادر علاقاتها بالبساتين، وما تتطلبه من رعاية وجهد، وهذا المحيط الجمالي لم يغادر ذاكرتي وظل يمد مخيلتي بالكثير من انفتاحها الإبداعي."(10)
ومدينة الحلة لم تكن الفضاء المكاني والزماني لمكمن الجمال الرؤيوي والدلالي لتحولات قصائده ، وإنما كانت الأفق المتنامي لإيحاءاتها الجمالية، ومحرك الكينونة النفسية التي تثيرها الكثير من الأماكن المقتطعة من معالم مدينة الحلة ، وقد كتب الشاعر عن أثر هذه المدينة في شعره في أكثر من مقال أدبي أو حوار شخصي مع الشاعر،إذ يقول:" إن المدينة التي رافقت طفولتي وصباي،بأسواقها وحدائقها ومقاهيها وحماماتها وبيوتها ومكتباتها ودور السينما فيها، مدينة الحلة، كانت أيامذاك من أجمل مدن العراق، وأكثرها تنظيماً، وقد كتبت عنها في كتابي"المكان في تضاريس الذاكرة" فصلاً بعنوان" الحلة في زمن ما" مازال حاضراً في حياة أناسها، ومازال يعاد نشره، ويكتب، ويتحدث عنه باستمرار، لقد عشت في بغداد أكثر من ثلاثة عقود، ومع ذلك لم أنقطع عن الحلة، عن أماكنها الساحرة وبيوتها المفتوحة،عن نهرها وبساتينها، عن أناسها الطيبين،من شعراء ومغنيين، ورسامين، وكل هذا كان يشكل أثر البيئة الأولى في قصائدي"(11).
وهذه الرؤية الصريحة تدلل على أن للمكان أهميته الخاصة في قصائده، فهو يعي ويدرك أن ثوب الشعرية الجديد يحول متغيرات الأشياء ، ويلبسها لبوساً جديداً، وهذا ما ينطبق على متحولات الأمكنة ومتعلقاتها الشعورية في الذاكرة، ولهذا، نجد عنده ولعاً في استرجاع الأمكنة الماضية وتقديسها، رغبة منه في استرجاع زمن الطفولة ، وأيامها وسنواتها البهيجة، فهو يرتحل صوب الأمكنة الماضوية، بوصفها مرتكز الكينونة، والانتماء، والوجود، وهذا يعني أن فضاء الأمكنة –لديه- تتوزع على جانبين : جانب مادي يحتفي فيه بالشكل المكاني التراثي، وجانب وجودي روحي يحتفي بمتغيرات الذات وحركة الكون، بوصفه ملتصق الذات في حركتها ومشاعرها الداخلية ، أي ينشأ –لدينا- المكان الشعوري أو المكان الروحي الذي يحلق فيه في عوالم التصوف والسكر الروحي ، أي يتجاوز المكان نطاقه المادي، أو جسده المادي، ليدخل فضاء الروح، وعمق المشاعر، وحركة الأحاسيس، ويرتبط بشكل رئيس بجوهر الرؤية، ونبضها من الصميم،كما في قوله:
صاحَ بي.."

أيُها الرجلُ البَطِرُ

يا قائماً بين فراغين .. من ورقٍ يابسٍ وجرادْ

أوقفتكَ الثواني على بابها.. واصطفاكَ الرمادْ إن َ هذي البلادْ..

كوكبٌ من شذى ومِدادْ

إن هذي البلاد .. واحدٌ قبلَ أنْ تلتقيها
واحدُ بعد أنْ فارقتْكَ

فإن صارت اثنينْ
كان الحِدادْ"(12)..
إن اللمسات المكانية تحمل في سياقها الصوفي دلالات عدة تتماشى وحالة الوجد الصوفي،وهنا كثف الشاعر من دلالات الأمكنة وموحياتها الرمزية المرتبطة بها، رغبة في تجسيد متغيرها النفسي والشعوري، ومتعلقاتها العاطفية ،وهذا يعني أن المزاوجة بين الرموز في السياقات المكانية، وملصقاتها اللغوية المتوازية أو المتضادة (يابس=جراد)و(شذى=مداد)،و(رماد/جراد) و(مداد/حداد)، يكسب الحركة النصية دلالات وجدية مضاعفة، تشي بحجم التوق، والاحتدام العاطفي إزاء جميع الأماكن التي تخص بلاده، وهذا دليل إحساس شعوري مفعم بالأمكنة المتغيرة، مما يدل على أن الأمكنة خصبة بدلالاتها، ومتعلقاتها الشعورية، و موحياتها الدالة على حالة التشبث بالأماكن ،بوصفها مرتكز إحساسه ، ونبضه الوجودي، وحالته الصوفية المشبوبة بالتوق، والوله المطلق بها، لدرجة القدسية، والتملك الروحي العميق. والملاحظ أن رغبة الشاعر العارمة في بقاء الأمكنة كسابق عهدها وخصوبتها، ونضارتها، وصفائها ، جعل روحه تنتشي، ويشعر بالأسى والحداد إذا ما تغير حالها، و تشظت، وتمزقت وحدتها ،وغيرت ملامحها، عندئذ تصل إلى حالة الرماد والحداد، ومن هذا المنطلق تجاوزت الأمكنة حيزها المادي ؛ وتغلغلت في فضاء الرؤية الشعرية في الصميم، وهذا دليل أن"المكان في العمل الشعري جزء متمم في شعريتها، أي جزء من فاعلية التعبير الشعري،"(13).
وما ينبغي الإشارة إليه أن الأماكن في (وردة الكتابة)، أماكن أليفه تموج بالتوق والخصوبة والانتشاء،وهذا يعني أن الأماكن مفتوحة على كل المباهج والرؤى السارة، والمفعمة خصوبة وعطاء،لأنها ترتبط بحالة التوق، والوله الصوفي المطلق، ودليلنا أن المتغير المكاني في قصائد(وردة الكتابة ) يكتظ بالمسميات المكانية التي تدل على حالة الانتشاء، والألفة ،واللذة الروحانية، والصفاء المطلق، بمعنى أن الرائز المكاني في هذه القصائد هادئ، رصين، دافئ،يشي بحالة من المتعة والاستقرار و الترسيم الجمالي، ولإبراز ذلك نأخذ المقطع الشعري التالي:

ربَما كان هذا النداءُ الأخير

ربَما كان هذا .. النَفيرْ

الطيورُ المُضيئةُ تُقبلُ من أرجوانِ الغيابْ

ويُقْيِلُ صيداحُها.. من كواكبَ ضائعةٍ

ربَما .. كانت امرأةٌ من عبيرْ

رُبَما .. كان ديناً عليكَ

ربَما .. كان دَيناً عليها

ربَما كان فردوسَها الأبيضَ.. أو كان فردوسَكَ الأبيضَ

هذي مياهي ..

تَتَدَفَقُ .. هذي مياهي"(14).
إن هذا الجو الشاعري الأليف لحركة المشاهد والأماكن الشعرية يشي بإيقاع شاعري انسيابي هادئ، وهذا ما تشي به البنى المكانية المشرقة على نحو ما تبدى في قوله:"أرجوان الغياب- امرأة من عنبر- فردوسها الأبيض- الطيور المضيئة- هذي مياهي"، إن هذه المسميات المكانية مشرقة بالخصوبة والجمال،وكأن شيئاً من الأنس، والهدوء، والطمأنينة تنساب من حركة الأماكن،وهذا يعني أن البنى المكانية في مثل هذه القصائد تشي بجو الراحة والاطمئنان والأنس الروحي ، وهذا ما يدل عليه المقطع التالي:

" آنَ للؤلو .. الهروب من القوقعةْ

كيْ تكونَ مَعَهْ

آنَ للنجمةِ الهاربةْ

أنْ تعودَ إلى بيتها

آنَ لي أنْ أُشاركَها في ثمار بساتينها

آن لي أنْ أُعلمَ أشجارها ..أَتَعلَم منها

أَفُكُ مغاليق أسطورةٍ غائبةْ

وأُرافِقُ غطرسةَ اللحظَةِ الشاحبةْ

آنَ لي .. أنْ أُفتشَ بيت الضَحِكْ

آنَ لي.. أَن أُعيدَ إلى النوم ِ.. سلطانَهُ"(15).
إن نظرة الشاعر التفاؤلية للأماكن، تظهر من خلال سياقها الروحاني الشفيف،وتظهر من خلال البنى المكانية التالية"(ثمار بساتينها- بيت الضحك- النجمة الهاربة- أسطورة غائبة)، وكأن الشاعر يُرَسِّم الأماكن الهادئة بهدوء وصفاء روحاني مطلق يتواشج وإحساسه الصوفي،ونشوته الروحية، فالمكان (في وردة الكتابة)،مكان شاعري يفيض بأقصى درجات الشفافية والوجد والتوق العاطفي، وكان المكان ترسيمة جمالية للمعشوقة الأزلية التي يحلم بها، ويسعى إليها، على شاكلة المتصوفة الكبارفي هذا النهج كالحلاج ،وابن الفارض، كما في :

سَرَني .."

أَنْ أُبادلها وحشتي .. بالرضا

سأقولُ لها.. أنتِ التأخرتِ.. فاعتكفتُ

حاولتُ نسيانَ.. ما لمْ أَعُدْ أَتذكَرهُ الآن..

مُنْشَغِلاً كُنتُ..

أَرسمُ وجهاً وأمحوهُ.. ثم أعودُ لأرسمهُ
وتعلمتُ أسماءَ ليلى ولبنى

تعلمتُ أسماءَ إلزا وغالا

حين فاجأني وردُها

ما رأيتُ سواه.. وما عدتُ أذكرُ غير اسمها"(16).
إن الجو الصوفيّ الذي تشي به القصيدة،من خلال ذكر أسماء المحبوبات أو الرموز التراثية،يدلل على أن الأمكنة تسبح في هذا الجو الصوفي المفعم صبابة، وعذوبة،وكأن المستوى الجمالي للمسميات ينعكس على المستوى الجمالي للأماكن ، وفق رؤى،منفتحة على مداليل عدة تشي بالعذوبة، والأنس، والتوق، والوله، والوجد الروحي.وتأكيداً على ما سبق، نقول: إن الأماكن فضاءات روحية ونوافذ وجودية في عالم حميد سعيد الشعري،خاصة تلك الأماكن التي يجد فيها ذاته الضائعة، وأناه المتلاشية بحب الأرض والوطن ، فالعراق كانت ومازالت رمز الانتماء والحنين إلى صخب الوجود في زمنه القديم ، ولهذا ، فإن كل الأماكن الماضية تشكل له المتنفس الوجودي لنشوته، وإحساسه بالسكينة والهدوء والطمأنينة والأمان، وبهذا المقترب الرؤيوي في أثر الأماكن وأهميتها، يقول الباحث ناصر السعيد:"إن الشاعر من خلال إضفاء البعد الانتمائي للمكان يعكس بلورة الجاذبية التي تحدد الهوية الوجودية والإنسانية،وفيه العشق الصوفي الذي يكشف العلاقة الاتحادية بين الإنسان والمكان، من خلال تحديد القيمة الجمالية الانتمائية للمكان(الوطن)الذي يتمسك به ويعشقه، ويضحي من أجله، ضد القوى المعادية، فهو ممتدح عند الشاعر،لأنه يرتبط بقيمة الحماية، وبقيمة تحقق الذات، لأن قيمة المكان الوطن تكمن من توفيره الحماية بكل أنواعها للإنسان القاطن في هذا المكان، وبغير ذلك يبقى المكان في خيال الإنسان مجرد مكان ذا أبعاد هندسية وحسب،ولا يشعر إزاءه بأي شعور، لأن جاذبية المكان في هذه الحالة تتلاشى وتنعدم، بسبب فقدان المكان لأبعاده الجمالية"(17).


والمكان في قصائد(من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) يتشكل وفق معطيات، وبؤر حساسة تفيض بالألفة، والتفاؤل، والسكن الروحي من جهة، وأماكن ضيقة قاتمة تشي بالوحشة، والقلق، والضيق، والقتامة،من جهة أخرى؛ وهذا يدل أن الأمكنة متغيرة ، تبعاً ،لإحساسات الشاعر ومواقفه الوجودية، وحالته النفسية المتغيرة، وفي هذه المجموعة نلحظ تفاوتاً في متغيرها الرؤيوي، وانعكاسها النفسي بين جانبين: جانب روحي تفاؤلي، مشبع بالأحاسيس الوجدية، وتوق عارم للأماكن الذكرى، أو للأماكن الطفولية التي تفيض بالعذوبة، والخصوبة، والجمال، وجانب نفسي موحش ، لدرجة تشكل الأماكن حالة من الكابوسية، والضنك، والسقم، والضيق ، كما في قصيدته(من نافذةٍ في مشفى .. رأيت وطني)،إذ يقول فيها:

"أنظُرُ من نافذةٍ في المشفى الموحشِ.."

كُنتُ أُحاوِلُ أنْ أخرجَ من غابة روحي ..

سوداءٌ غابة روحي

الصمتُ يُحاصِرُني ..

وثواني الساعة ديناصوراتٌ تمشي في حقل القارِ..

وفي هذا المشفى لا شيء سوى الوحشةِ ..

لاشيْ

أُحاولُ أنْ أرفعَ صوتي.. كي أسمعَ صوتي

لا أحدٌ في هذا المشفى يسمعُ صوتي

كل الأبواب مُغَلَقةٌ .. من أي الأبواب سأخرجُ

أي الطرقات تقودُ خُطاي إليكَ، وفي كل الطرقات .. العسَسُ

من أي الطرقات أرى شَمْسَكَ؟

كلُ الطرقاتِ أقام َ بها الغَلَسُ.."(18).
إن الشاعر يعيش أزمة مرضية حادة، وهذه الأزمة جعلته ينظر للأماكن نظرة كابوسية خانقة، أوقعته في حالة من الهذيان، والإحساس بالقيدية، والاختناق، وكأن كل شيء من حوله يطبق على أنفاسه، حتى اللحظات الزمنية التي تجري كلمح البصر أصبحت تجري ببطء شديد، وهذا ما جسده عبر الصورة الزمكانية" وثواني الساعة ديناصوراتٌ تمشي في حقل القارِ../ كُنتُ أُحاوِلُ أنْ أخرجَ من غابة روحي"،ومن الملاحظ أن إحساس الشاعر الخانق جعله ينظر إلى الأمكنة نظرة سوداوية قاتمة، وهذا ما عبر عنه بصريح العبارة:" سوداءٌ غابة روحي"، فكل ما حوله يشي بالقيدية ،والاختناق ، وكأنه محاصر بحاجز زمني ومكاني في آن، ولهذا، يسعى إلى كسر هذا الحاجز الروتيني المرضي المؤلم، ولكن دون جدوى فالجدران مطبقة عليه، والأبواب مغلقة، والنوافذ مقفلة ، وكأن الاختناق انتقل من الذات إلى المكان، ومن المكان إلى الزمان ، ومن المكان والزمان إلى روح الشاعر المختنقة التي تشي بالمرارة، والحرقة، والألم، لهذا، يطلب الخلاص، ويلتمس الطرق المفضية إلى ذلك،دون أن ينجح، فالطرق محاصرة،ومراقبة، والجدران مقفلة، والأبواب مغلقة ، إن كل ما حوله مقيد، ويشي بالقيدية، والكبت، والاختناق، وهذا ما دل عليه في قوله:( أيُّ الطرقات تقودُ خُطاي إليكَ، وفي كل الطرقات .. العسَسُ)،وهذا الإحساس بالقيدية، والحصار النفسي ارتد من المكان ومتعلقاته، إلى الزمن وتحجره وثباته، وارتد من كليهما إلى ذات الشاعر المختنقة التي تشي بالوجاعة، والقتامة، والأسى الخانق، والألم المرير ، وقد جسد ذلك في السياقات المتتابعة التي تشي بها القصيدة كما في قوله:

تُطَوِقُني الجدرانُ البيضُ .. وتنغَلِقُ"

لا أرضٌ في هذي المقبرة البيضاء .. ولا أُفُقُ

في الخاطر شيءٌ مما كانَ ومما سيكون ُ.. كواكبُ تهوي..

أنهارٌ تحترِقُ..

رملٌ يزحفُ.. كل عروسٍ شاركها الرملُ فراشَ العرسِ..

وأولَدها قحْطاً وسَرابْ

من نافذةٍ في المشفى الموحش .. صرتُ أراكَ بعيداً

ما عُدتُ أراكَ..

وما عُدتُ أرى ..

كيف أقول لمن يسألني .. هذا وطني ؟!"(19)
إن الإحساس بالاختناق والضيق يطال الأماكن جميعها، فالمشفى موحش، وحالة الأسى والمرارة تعتصر كيانه،لدرجة كبيرة، فهو ينظر إلى جميع الأماكن من حوله نظرة قاتمة سوداوية مؤلمة تكسوها المرارة والكآبة، والقتامة، ولعل الرؤية الزمكانية التي يجسدها الشاعر تشي بالحصار النفسي والاختناق، وحالة من المرارة، والحسرة، والكآبة،وكأن المشفى مقبرة بيضاء،فكيف في ظل هذه الهواجس يرى وطنه، وقد مد يديه، دون أن يجد جواباً لمن يسأله عن وطنه الجريح، وقد تلاشت صورته شيئاً فشيئاً، دون أن يحصل رؤية، أو يتحثث جواباً شافياً لهواجسه وأحاسيسه المأزومة، وهكذا، بدت نظرة الشاعر للأمكنة متحولة في دلالاتها ورؤاها ، وكأن المكان متغير رؤيوياً؛ تبعاً لنظرة الشاعراليائسة القاتمة، وأحاسيسه المتوترة المأزومة،،ورؤيته الوجودية الشاحبة إلى جميع الأمكنة في (غابة الرماد) ، يقول الناقد عبد الله بن أحمد الفيفي" في شعرية الأماكن وأثرها ، خاصة الأماكن التاريخية أو الأماكن المقدسة:(من خصائص الصورة في النص الشعري الحداثي توظيف الطبيعة بوصفها معادلات تعبيرية عن لحظات شعرية، تأخذ موقعها من جغرافية النص.إلا أن مستوى من توظيف المكان في الشعرية الحديثة يظل أميناً على العلاقة البلاغية بين مشبه ومشبه به، وإن في مركب استعاري، فيما يأخذ مستوى آخر أفقاً من التجريد أعلى، ومدى من الفنية في توظيف المكان أكثر انفتاحاً على الدلالات الوجودية الإنسانية الموغلة في انزياحها عن قرائن الهاجس الوطني أو القومي المباشرة"(20).
ووفق هذا التصور،فالصورة المكانية تزداد إثارتها عندما تتجاوز القرائن الدلالية المعتادة، وتخلق موضوعها الفني بمتحولاتها النصية ضمن العلاقات التركيبية التي تنبني وفقها البنى الدالة في القصيدة، ودليلنا أن الكثير من النصوص الحداثية المغرقة في الإثارة الفنية تتجاوز أمكنتها حيزها المادي إلى متعلقاتها الشعورية، لدرجة أن الصور الشعرية المكانية تبقى منفتحة على أكثر من دلالة، أو رؤية، فالمتغير المكاني لا يقل قيمة، ولا أهمية عن المتغير الزماني في تحفيز القصيدة، وتعميق أبعادها الرؤيوية، خاصة عندما تكون الصورة المكانية نقطة تفجر الحدث، ومحرق تقاطر الدلالات وتكثيفها، ولا نبالغ في قولنا: إن الكثير من المتغيرات الفنية والمحفزات الشعرية تفجرها البنى المكانية والدلالات الزمنية المرتبطة بها خاصة في رصد تحولات المشاهد الشعرية، وتكثيف منتوج اللقطات المشهدية في السياقات الشعرية، ولهذا، تبقى البنى المكانية الدالة في قصائد(من وردة الكتابة إلى غابة الرماد)ذات منتوج دلالي زوغاني باستمرار، تبعاً لتحولات المشهد الشعري الذي تجسده الحركة النصية في القصيدة، فالمكان الشعري مكان تحولي انزلاقي في قصائد حميد سعيد يرتبط بالرؤية الصوفية، ومدها الروحي المفتوح تارة ، ويرتبط بالمكان المقدس أو المكان التاريخي تارة أخرى، وقد ترتبط الأمكنة بالأجواء النفسية الاغترابية المأزومة التي يعيشها الشاعر، فتغدو الأمكنة من متحولات رؤاه الشعرية، ونقطة انبثاقها وتكثيفها الإيحائي،بل تغدو نقطة التأزم، والتكثيف في الأحداث الشعرية، وهذا ما نلحظه في هذا المشهد الشعري المتحرك زماناً ومكاناً كما في قوله:
لا شاهِدٌ فطنٌ .. ولا راوٍ يقول يقولُ لنا الحقيقة"

كلُ شاهدةٍ تخطَفها السُعارْ

وكل ما خط الجدودُ الصيدُ من أحلامنا الأولى..

على طين البلادْ

أضحى سبياً..

كل ما رسموا وما نحتوا وما كتبوا..يُقيمُ مع الرماد

أهذه بغداد ؟!

أسألُ عابرين فما أجابوا..

أين الصحابُ ؟

لا سامِرٌ في الحي.. لا ضحِكٌ .. ولا صوت المؤذن يذكر اسم الله ..

لا ماءٌ قراحٌ .. لا سراب

هذا الخرابُ ..

بستانُ عزرائيل .. يُثمرُ في مواسمه الخرابُ

لمْ يبقَ في أرجائه شجرٌ ولا حجرٌ..

لقدْ عمَ الخرابُ

عمَ الخرابُ

عمَ الخرا ..."(21).
إن المشاهد المأزومة واللقطات القاتمة لدمار بغداد ، جعلت رؤيته المكانية محملة بالأسى، والحزن، والمرارة على ما حاق ببغداد من دمار، وخراب ، وكأن الخراب المكاني انعكس على تشظي روحه وانكسارها، فعمَّ الأمكنة، وشظَّى ليلها، فلا ليل بغداد كسابق عهدها، ولا فجرها الذي كان،فقد غدت الأمكنة جريحة كجراحه، وخرابها المرير شظى روحه وكلماته، فتشظت الكلمات، والحروف، كتشظي ذاته المنكسرة، وإحساسه الشعوري المرير، والدليل المرجعي على ذلك قول:" عم الخراب/ عم الخرا..."،وهذا الخراب المكاني انعكس على روحه فدلَّ على خرابها الداخلي وشعوره المأزوم، وهذا يعني أن فضاء الأمكنة الشعرية فضاء متحرك رؤيوياً ودلالياً، ونفسياً، إذ"إن للمكان أبعاداُ نفسية، تؤثر في الذات البشرية سلباً وإيجاباً وفقاً،لما يثيره من مشاعر وأحاسيس؛ فهوالمرآة العاكسة لهذه المشاعر،ونؤكد أن أغلب الشعراء اتخذوا من المكان ملاذاً للحرية والدفء فلجأوا إلى أماكن عاشوا فيها، وابتنوا لأنفسهم حزمة من الذكريات وأعشاش الطفولة البريئة"(22).
والملاحظ أن المكان المتخيل أو الخيالي في قصائد(من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) يفضي إلى المكان الواقعي، والمكان الواقعي يفضي إلى المكان الشعري أو المكان المتخيل، أي أن المكان الشعري هو مكان واقعي متحرك بالخيال الشعري من خلال الصورة المتحركة أو الصورة المشهدية المجسدة حركياً عبر كثافة المشاهد، وتراكم اللقطات المتحركة المتتابعة التي ترصد الحدث أو الموقف الشعري بتفاصيله الجزئية، يقول الباحث بدر نايف الرشيدي:"قد يكون المكان مسكوناً في خيالاتنا، محفوراً في أعماقنا،دون أن نعايشه مباشرة، ويربطنا به علاقات قوية تجسد عمق الانتماء مع مفرداته وأشيائه، وذلك من خلال استنطاقه عن طريق الإحساس المرهف،وعمق المخيلة المبدعة"(23).
فالمكان في هذه القصائد متحرك بالأحداث، والرؤى، والأخيلة المستمدة من عمق الجراح، وفداحة الألم ، ولهذا، تتحرك الأمكنة بسيرورة من الدلالات المفتوحة اللامتناهية والرؤى المحفزة المغامرة في مدها وحراكها الشعوري، كما في قوله:

الطيورُ تُضيِع أعشاشها.. والكلاب تموء ُ.."

والقططُ الأليفةُ تبكي..

وجاراتُنا يُعَدِدْنَ أسماءَ مَنْ قُتِلوا في البيوت القريبةِ..

الدخانُ يُغَطي الشوارعَ..

يَدْخُلُ في كل بيتٍ.. ويخرجُ من كل بيتْ

لماذا أتيت ؟

يسأُلني كلُ من ألتقيه .. لماذا أتيتْ؟

طائرات الغزاة ، بها كَلَبٌ ، وشظايا الصواريخ ..

تَنْهَشُ لحمَ الذين يَجيئون .. من أي صوبْ

أو يذهبون إلى أي صوب ْ

إلى أي ناحيةٍ تتوجهُ.. في أي منأى تكونْ

في انتظارك وحش المنونْ

ليسَ ثمةَ من سيدٍ.. غير هذا الجنونْ

الجنونْ..

الجنونْ ..

الجنونْ..
. . . . . .

. . . . . ."(24).
هنا، يراكم الشاعر الصور، والرؤى، واللقطات المتتابعة، والمشاهد بعدسة مونتاجية قريبة تلتقط الأجواء المكانية بتفاصيلها، ورؤاها، ومشاهداتها التفصيلية، وما تمثله من أحداث، ورؤى إجرامية، وممارسات انتهاكية ظالمة جسدها المحتل في الأمكنة العراقية، وهذا ما ندلل عليه من خلال قوله:" الدخانُ يُغَطي الشوارعَ. .يَدْخُلُ في كل بيتٍ.. ويخرجُ من كل بيت"، فالمكان متحرك بالمشاهد واللقطات المتتابعة في وصف حالة الدمار والخراب التي جسدها الغزو الأمريكي في العراق، فالمكان واقعي متحرك بالأحداث، واللقطات، وتتابعها، ومن هذا المنطلق، جاءت الأمكنة من مقومات تبئير المشهد، وإبراز مصداقيته، ومجسداته التفصيلية، وحرقته الشعورية، وإحساسه الدامع، لدرجة أن وقع الحالة المريع، وإحساسها المرير لا يصدق ، فبدا يهذي بهذا الواقع المرير ، ويُحدّث نفسه بارتداد داخلي أشبه بحالة الهذيان والجنون، وتدمع الأمكنة بالحرقة والأسى المرير،وكأنها تستجيب لشعوره وحرقته الداخلية. ولو تابعنا التفاصيل المشهدية لأدركنا فاعلية مجسداتها المكانية، وملتصقاتها الشعورية،كما لو أن المكان متحرك بنبضه وإحساسه المرير، وشعوره الاغترابي المحترق:

كانَ فتيانُ بغدادَ .. يعترضونَ الغزاةَ بأجسادهمْ"

واللصوصُ .. يبيعونَ تاريخَ بغداد

كل اللصوص.. يبيعون تاريخ بغداد

ليس الذي باع تاريخ بغداد .. منها

ستذكُرُ بغداد أسماء من حُرِقوا..

وستذكُرُ بغداد أسماء فتيتها الذائدين ..

ومَن دافعوا عن حِماها

وتذكُرُ أسماء من خانها

وستذكر أسماء من شغلته الغنائم ُ عنها

وتذكر أسماء من كذبوا في ادعاء الشجاعةِ

أو في ادعاء النَزاهةِ

أو في ادعاء الطهارةِ

أو في ادعاء العلاقة باللهْ !!

وستسألُ بغداد عن كل فَدْمٍ غليظ

لمْ يكُ في ساعة الروع .. يدفَعُ عنها البلاءْ"(25).
إن قدرة الشاعر على تجسيد المشاهد بعدسة مونتاجية ملتقطة، أسهمت في إبراز الحراك المكاني، والنبض الشعوري، فالأمكنة متحركة باللقطات المشهدية التي تجسد الحرقة المريرة لما آلت إليه أحوال بغداد من قتل ودمار،وتكالب خونتها عليها،فما عادت قادرة على الصمود في ظل هذا الواقع المتفسخ الموبوء الذي عاصرته على أيدي السماسرة، والخونة، والمرابين، وذوي الأقدام الغليظة الذين استكانوا ، وما زادوا عن حماها بدمائهم وأرواحهم ،فتركوها في معمعة جراجها وآلامها تئن وتنزف بالحرقة، والمرارة، والألم ، حتى غدت الأمكنة جريحة تئن تحت وطأة مكابدتها المريرة، وهذا يعني أن الأمكنة تعد جزءاً من حراك المشاهد والمشاعر المعتمرة في باطن الذات، وليست مجرد معالم أو مواضع مكانية صامتة لا حراك بها، فالأمكنة خصبة بمعطياتها ورؤاها المكتسبة من سياقها الشعري، وليست من حيزها الفيزيائي الذي تجسده ، وهذا دليل"أن المكان يشحن المبدع بالطاقة النفسية والوجدانية،التي تخوله أن يلتف بالرؤية، ويكسبها طاقة إيحائية رؤيوية مضاعفة، فالعلاقة بين الإنسان والمكان علاقة متجذرة، وهي علاقة حميمة تقترب من درجة التقديس"(26).
وبتقديرنا: إن المكان في قصائد( من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) يفيض بالدلالات والرؤى المتحركة على أكثر من رؤية، وموقف، ودلالة، مما يجعل الأمكنة من متحركات المشاهد الشعرية، والرؤى الصوفية، نظراً إلى ما تحمله من متعلقات شعورية، ونفسية، مرتبطة بإحساسه الاغترابي وحرقته المريرة، وتأسيساً على ما تقدم نقف على أهم المعطيات، والمرتكزات، والنتائج المحركة للفضاءات المكانية في قصائد(من وردة الكتابة إلى غابة الرماد)، وهي:
1-إن الأمكنة – في قصائد هذه المجموعة- من محركاتها النفسية، ومولِّداتها الشعورية، ولهذا يلحظ القارئ أن الأمكنة متحركة بمشاهدها، ولقطاتها المكثفة، وبناها الشعورية المحتدمة ، فقصائد من وردة الكتابة تشي بأمكنتها الصوفية الوجدية ، في حين أن الأمكنة في(غابة الرماد) تشي بالحرقة واللوعة والأسى والإحساس الجارح،ولهذا ، بدت الأماكن في غابة الرماد متحركة برؤاها، ومداليلها المأزومة المكثفة، ولقطاتها المتتابعة، وكأن الأمكنة بؤرة حراك المشاهد ومنتجة لقطاتها المتتابعة المكثفة.
2- إن الأمكنة في هذه القصائد ليست ساكنة، وليست أحادية الرؤية أو المنظور، فهي مرتكز الكثير من الرؤى والدلالات المحتدمة، ومن يطلع على فضاء الأمكنة في غابة الرماد يلحظ نبضها وحراكها الشعوري المتتابع بمشاعر الشاعر المحتدمة، وهذا ما يضفي على الأمكنة سيرورة متناغمة من الإيحاءات والدلالات المكتظة،مما يزيد من شدة متغيراتها، وبناها التحفيزية في حراك المشاهد وتكثيفها الشعوري،وهذا من أسرار مغرياتها النصية، وتكثيف مدلولاتها في بنية الصورة، وحراكها المونتاجي البصري المتتابع.
3-إن الأمكنة – في متغيرها الأسلوبي ومتحولها النسقي – ترتبط بالحالة النفسية والشعورية للشاعر، ولهذا نلحظ أن الأمكنة في وردة الكتابة ليست ذات دلالة أحادية ، وإنما مشبعة بالدلالات والرؤى بما في ذلك الحنين إلى الأماكن الهوية أو الأماكن الذكرى أو أماكن الكينونة والانتماء، فهي هادئة، لكنها مشبعة برؤى ومداليل شتى،كلها تصب في جو عاطفي إيحائي مشبع ، وهو ما يكسبها رؤى ودلالات مفتوحة، في حين أن الأماكن في(غابة الرماد) تشتعل بالآلام والجراح والمآسي الكثيرة.ولهذا بدت الأماكن ذاوية متلاشية منهارة.
4- إن الأمكنة في قصائد(من وردة الكتابة) من مدوناته الوجودية وذكرياته المشبعة بالوجد والذكرى والحنين، باختصار: إنها أماكن وديعة محملة بعبق الألفة، والتوق، والحنين، في حين أن الأماكن في (غابة الرماد) كابوسية مرعبة يكسوها الخراب، والدمار، والوجاعة، والاحتراق الداخلي، وهذا يشي بمدلول عنوانها الرماد، وكأن ثمة مقابلة مقصودة من خلال العتبة العنوانية بين [وردة و/رماد]، وهذا ما دللت عليه الأمكنة في مساحتها الرؤيوية، وحراكها الشعوري في القسمين ، القسم الأول(وردة الكتابة) تبدو الأماكن فيه مزهوة نشطة وديعة في تجسيدها وخصوبتها الجمالية، كونها تسبح في جو صوفي مفعم بالصبابة، والعشق، والحنين، والتوق، والوداعة، والنشوة الروحية، في حين أن الأماكن في (غابة الرماد) تبدو مرعبة محملة بالوجاعة ، والاحتراق، والأسى، والألم، والرماد ، وكأن ثمة مفارقة في حركة الأماكن مردها اختلاف الرؤية في كلا القسمين ، وكأن الشاعر قد جمع مجموعتين في مجموعة واحدة، نظراً إلى اختلاف النفس أو الشعور إلى النقيض، وهذا ما أثبتته حركة الأماكن، ومتحولاتها الرؤيوية من خلال مسارها النصي على امتداد المجموعة،وما يؤكد ما ذهبنا إليه اعتراف الشاعر بطبيعة هذا الاختلاف ،إذ يقول:"المجموعة الشعرية –عندي- ليست مجموعة قصائد تنشر بين دفتي كتاب، بل هي مرحلة في مسار تجربتي الشعرية لكن ما ميَّز مجموعة( من وردةالكتابة إلى غابة الرماد) كونها ضمت مرحلتين، وكان يمكن إصدارهما في مجموعتين شعريتين صغيرتين، هما (وردة الكتابة)،و(غابة الرماد) لأنني كنت قد بدأت العمل في كتابة قصائد تشتغل في محيط ثقافي صوفي، في استلهام للقاموس الصوفي، وما يلقي من ظلال تشتبك بالرؤية الصوفية من دون أن تتوحد معها، ومن خلال عملي هذا شاءت الظروف أن يكون أن يكون العدوان الأمريكي، على العراق، ومن ثم احتلاله، وكان لابد لهذا المتغير الخطير من أن يبعدني عن ذلك الوهج الجمالي ليدخلني في الوعي المقاوم الذي ظهر في قصائد القسم الثاني في المجموعة(غابة الرماد) والتي ستتواصل في مجموعة(مشهد مختلف) مع شيء من متغيرات فنية كرستها متغيرات الواقع بعد أن تكشف مشروع الاحتلال، وما عاد ممكناً تغطية توجهاته التدميرية وأهدافه الصهيونية بشعارات زائفة وكلمات خاوية"(27).
ولهذا، جاءت الأماكن في متحولاتها الرؤيوية كاشفة عن عمق الاختلاف،أو ذروة المفارقة بين توجهات القسمين اللذين تتمحور حولهما مجموعة (من وردة الكتابة إلى غابة الرماد)، مما يؤكد خصوبة الأماكن ومدلولاتها المشرقة في القسم الأول،وقد عبر عنه الشاعر بلفظة (وردة)، في حين جاء القسم الآخر(غابة الرماد) يشي بواقع مكاني قاتم مرير، عبَّر عنه بلفظة(الرماد) وشتان شتان مابين الورود والرماد في الدلالة والتعبير، وهنا تكمن حدة المفارقة/ وذروة التناقض بين مدلول القسمين. وانعكس على البنى المكانية والزمانية في تحولاتها الرؤيوية والمشهدية في آن.


الحواشي:
(1) هادي الرشيدي،بدر نايف،2011- صورة المكان الفنية في شعر أحمد السقاف، جامعة الشرق الأوسط، ص105. وانظر عبقرية الصورة والمكان، ص 133.
(2) المرجع نفسه، ص 105.
(3) المرجع نفسه ، ص39-40.
(4) عثمان،اعتدال،1988- إضاءة النص، دار الحداثة، بيروت،ط1،ص50. نقلاً من مقال: صلاح، عبد الله زيد،2009- جمالية المكان في شعر حسن الشرفي،(دراسة في التفاعل النصي)، مجلة غليمان، ص1.شبكة النت.
(5) هادي الرشيدي ، بدر نايف ،2011- صورة المكان الفنية في شعر أحمد السقاف ، ص81.
(6) شرتح ، عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية،( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة)، دار الأمل الجديدة ، دمشق، ط1،ص315.
(7) شرتح، عصام،2011- مسارات الإبداع الشعري، دار الينابيع ، دمشق ، ط1،( الفصل الثامن من الكتاب وهو فصل حواري مع الشاعر حميد سعيد)،ص248.
(8) المرجع نفسه،ص249.
(9) المرجع نفسه ،ص249.
(10) المرجع نفسه،ص250.
(11) المرجع نفسه، ص250
(12) سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد،ص9-10.
(13) جاسم، علي متعب، وتوفيق،منى شفيق،2009- فاعلية المكان في الصورة الشعرية، سيفيات المتنبي، مجلة ديالى، ع،40، ص3. نقلا من شبكة النت.
(14) سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص11.
(15) المصدر نفسه، ص12.
(16) المصدر نفسه،ص13.
(17) السعيد، ناصر،1998- المكان في الرواية الكويتية عند إبراهيم الملا، دار العروبية، الكويت، ص289.نقلاً من صورة المكان الفنية في شعر أحمد السقاف، ص76.
(18) سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص68.
(19) المصدر نفسه، ص 70.
(20) الفيفي،عبد الله بن أحمد،2004- حداثة النص الشعري في السعودية، مجلة علامات في النقد،ج52/م13،يونيو،ص212.
(21) سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص60
(22) هادي الرشيدي،بدر نايف،2011- صورة المكان الفنية في شعر أحمد السقاف، ص85.
(23) المرجع نفسه، ص85.
(24) سعيد، حميد،2005- من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، ص58.
(25) المصدر نفسه،ص55.
(26) هادي الرشيدي، بدر نايف،2011- صورة المكان الفنية في شعر أحمد السقاف، ص85.بتصرف.
(27) شرتح ، عصام ،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية( حداثة السؤال أم سؤال الحداثة)، ص316.