1
-قراءة الدوال ضمن الحقل الدلالي
مهمة الناقد هي أن يعتني بالنص الجيد ويسبر أغواره، ولكن إهمال النقاد، لعدد كبير من النصوص لا يستوجبُ حكماً على رداءة تلك النصوص، لأنَّ الكثير من النصوص لمْ تَنَلْ العناية التي تستحقها إلاّ بعد مرور فترة طويلة، وهناك نصوص أخرى لم تنلْ أية عناية من النقاد إلى هذا اليوم، وهي وجهة نظر أخرى، وهناك نصوص نالتْ عناية أكبر مما تستحقها، بحكم مكانة كاتبها الأدبية أو السياسية...
قصة(خبز محلّى بالسكر)[1][1] للقاص سليفاني، لوحة فنية، أو قصيدة نثرية أو قطعة موسيقية في إطار قصصي، حيث تتغير المعايير القصصية من الدلالات الاجتماعية إلى دلالات تاريخية، تسلط حزمةً من الضوء على حقبة من الاضطهاد والتشريد نالتْ من كرامة المواطن الكردي، وخدشت ذكرياته بجروحٍ كان لها التأثير الكبير في توجهاتهِ فيما بعد تلك الحقبة، والمواطن الكردي يشكل النواة التي تدور حولها معطيات القصة، ثمَّ ينتقل النص إلى بعدٍ ثانٍ وهو العائلة الكردية، وصولاً إلى البعد الأخير وهو المجتمع الكردي، والذي يمتاز بطقوس وعادات خاصة توارثها جيلاً بعد جيل، وفي قراءتنا لهذا النص يجب مراعاة بعض الأسئلة، كمتى كتبت القصة وأينْ؟لمنْ كتبتْ القصة؟ كقراءة شخصية عندما قرأتُ العنوان لأول مرة، شعرتُ بعودة لا شعورية إلى الوراء، حيثُ الأطفال يحلقون حول صاج الخبز الدائري، الذي تتوهج تحته نارٌ زرقاء تخرجُ من أنبوبٍ يوصلُ إلى خزانٍ صغير من النفط الأبيض، ينتظرون نفاذ العجين لتعطيهم الخبازات خبزاً محلّى بالسكر، فيتناولون حصتهم ويركضون مبتعدين متلذذين بحلوى الفقراء الوحيدة، كتبت القصة في 25/11/1985 في مدينة الموصل، وهي تحكي عن بدايات ثورة ايلول عام 1961،في قرية تركشا النائمة في أحضان الجبل الأبيض بوداعة ..
(ويعرّف جورج مونان الحقل الدلالي بأنه مجموعة الكلمات التي تترابط فيما بين جلّ(معظم) كلماته على أساس الاشتقاق، وإذا ما تمّ رصف الكلمات كما ترصف حجارات الفسيفساء المتفاوتة، فإنَّها تعطي حقلاً من الدلالات محصوراً ضمن حدود معيّنة، تنظمه التجربة الإنسانية إما بطريقة تقليدية وإما بطريقة علمية)[2][2[
ويفترض لاستمرار التواصل بين مجوعة معينة من الأفراد وجود كلمات لها دلالات متفق عليها بينهم نتيجة حوادث مشتركة أو أعراف خاصة بينهم يفهمون معانيها بكيفية متشابهة أو متقاربة يكونون قد اتفقوا عليها بصورة لا شعورية.
ودائماً تتواجد مجموعة كلمات خاصة تعتبر المادة الأولية للغة معينة بالذات يستخدمها صنف معين كسواق التاكسي، أو أفراد عشيرة واحدة، وتكون هذه الكلمات دالاً على خبرة هؤلاء في مجال معين بالذات، وفي إحدى المرات كنتُ جالساً مع شيخ عشيرة فسأل أحد الشباب القادمين أبن من هو فأجاب أبن فلان فاستفسر عنه إلى أنْ قال الشيخ: ها نعم نعم لقد عرفتك، فسارع الشاب المسئول إلى التصحيح بأنَّه ليس ذلك المقصود، فقال له الشيخ:
-وكيف تعلم بأنَّه ليس هو وأنا لم أصرِّح باسمه.
فقال الشاب:- إنَّه ليس أبن ذاك الرجل الذي طلق زوجته.
فضحك الشيخ وقال:
-الحمد لله أنَّه ليس في عشيرتي غير اثنين طلقوا زوجاتهم.
وفي هذا الحوار البسيط يتأكد لنا أنَّه لولا اتفاقهما الضمني غير المعلن، حول مبادئ عامة وحوادث تاريخية مشتركة عليها لما تفاهما بهذا الشكل الإيمائي...
يمتدُّ خطاب السليفاني الرافض للظلم والاضطهاد عبر الزمن ويلتفُّ خطابنا حول خطاب السليفاني، ليشرح العامل الاجتماعي في حقبة زمنية امتدَّتْ عشرات السنين عانى فيها الشعب من التشريد والظلم أو العامل النفسي حيث المعنويات المنهارة، والآمال المتحطمة والمزاج الشخصي الناتج عن هذه العوامل، حيثُ الأبْ لا يطيق ابنته وينهرها بشدة، ثمَّ يستحوذ عليه شبح الماضي ويعود بهِ إلى اللحظة التي بترتْ فيها ساقهُ، والطباع الذاتية كعناد وإصرار عاليا، ووداعة الشيخ صوفي علي والعجوز بيضاء الشعر، وبساطة الأطفال حيث حه لو تَعِدُ صديقتها جنو (الآن ستأتي أمي وستجلب لي خبزاً محلّى بالسكر).
وإذا ما تناولنا القصة من حيث شخصياتها سنجدُ أنَّ :
ت | شخصيات القصة الرئيسية | ت | شخصيات القصة الثانوية |
1. | الأم عاليا | 1. | امرأة مسنة بيضاء الشعر ذات وجهٍ غارق بخطوط الزمن المتعرجة |
2. | الأب يوسف | 2. | الصوفي علي (رجل عجوز يحمل سبحة سوداء في يده، وما ينفكُّ يردد آيات من القرآن بصوتٍ مخنوق ولا يملُّ الدعاء..) |
3. | الطفلة حه لو | 3. | الطفلة جنو صديقة حه لو |
وهذه الشخصيات كأنَّما كانت تبحث عن مؤلف ماهر ليصنع منها مادةً أولية لقطعة فنية، وهي أيضاً العناصر الأولية لكل المجتمعات،(طفل-رجل-امرأة-عجوز-شيخ)خمس فئات تتكون منها المجتمعات، وهي الأطوار التي يمرُّ كل شخص:
- طور الطفولة يبدأ عند الولادة ضعيفاً.
- طور الرجولة: الأكثرُ قوةً من كافة الأطوار تبدأ بعد انتهاء طيش الشباب.
- طور الشيخوخة: يعود ضعيفاً كأولِّ طور، يبدأ عند انتهاء فترة الرجولة.
نلاحظ أنَّ السليفاني تناسى أو أهمل صوت الشباب الذين لم يظهر أيٌّ منهم في نص قصته القصيرة، ولو كان في القصة شابٌ متحمسٌ يتوهج نشاطاً لأستنئس به القارئ، أو لو تذكر أحدهم من خلال مونولوج العودة إلى الوراء وتذكر الشاب الذي يدرس في الجامعة بينما قريته تهدم، أو الشاب الذي يقاتل في جبهات القتال الجنوبية دفاعاً عن السلطة التي تقصف قريته وتهدمها، وهو ما كان يحدث أحياناً...
وهذه الأطوار هي نفسها التي تمرُّ بها الدول كما شرحها أبن خلدون في مقدمته، لكن شخصيات القصة الخمس هي:
طفل ــ رجل أو امرأة ــ شيخٌ أو عجوز
هذه الشخصيات ذات دلالات متباعدة، فالطفل له موقفه الخاص بهِ ويتأثر كغيره من الفئات بالظرف الزمكاني، فالطفل في الكهف المظلم، ربما يدرك من خلال الفطرة تغير المكان المعتاد، والخوف والرعب اللذان يخيمان على والديهِ،
في جملة(أذكري الله يا عاليا، ولا تكوني سبب البلاء لنا(لنا زائدة)إنْ خرجتِ سيكشفونَ محلنا(مخبأنا أفضل من المحل) وستقصف الطائرات الكهف(ستقصفنا الطائرات(.
كانتْ شخصية عاليا أداة جمع للعديد من المدلولات التي عكستْ مدلولات أخرى تتناقضتْ مع الواقع الذي أرادَ القاص أن يعبَّر عنه:
ت الحدث الدلالة المباشرة المدلولات المنعكسة عنها
- ذهابها لجلب الخبز لأبنتها الباكية من الجوع. شجاعة وإقدام عاليا. تخاذل الكثير من الرجال الذينَ رضوا بالقعود.
- النار التي اشتعلت في صدرها وكانت سبباً لذهابها، كانت لسببين:الأول عدم رضاها بحياة الذل التي فرضتْ عليهم(أما تكفي حياة الذل هذه)والسبب الثاني:بكاء طفلتها من الجوع. حنان الأم التي تضحي بحياتها من أجل طفلتها. افتقدها الكثير من الأمهات اللاتي يعقنَ أمهاتهنَّ في طفولتهنَ، ويهملنَ أطفالهنَّ، فيعقهم الأطفال كنتيجة حتمية، فمن يزرع شراً يحصده.
ولكن كيف للطفلة الصغيرة أن تفهم الظرف الصعب الذي يعيشونه تلك اللحظة،ولكن هل يعدُّ بطراً أنْ تطلب الطفلة الصغيرة من والدتها خبزاً محلى بالسكر؟ لا يعدُّ بطراً، لأنَّ الجائع يحلم بألذِّ الأطعمة، ولا يرضَ بأنواعٍ متواضعة، والطفلة تقول(أ..انا جائعة يا أماه..أريدُ خبزاً محلّى بالسكر)وفي هذا النداء دلالة على وعي الأطفال بالشخص الذي يستجيب لطلباتهم، فرغمَ أنَّ والدها كان أقرب من الأم عاليا، لكن الطفلة بفطرتها لم تطلب منه شيئاً. - قول عاليا:(ها أنا ذاهبة لأجلبَ لكِ الخبز وليحدث ما يحدث). وعد بالذهاب ومن ثمَّ محاولة إنجاز الوعد رغم الخطر المحدِّق الذي قضتْ دونه، دونَ أن تخلف وعدها، أو تري أبنتها أنَّها كاذبة. يفتقدها الكثير من الآباء الذينَ لا يعلمون مدى الضرر الذي سيلحقونه بأبنائهم وهم يعدونهم وعوداً كثيرة دون أنْ ينجزوها، فيقولون: إذا نجحتَ يا ولدي سأفعل لك كذا وكذا، ولكنَّه لا يصدق في وعده، فيتعلم الأبناء الكذب، ويفقدون ثقتهم بالآباء أولاً ثم بجميع فئات المجتمع، فإنْ كان الوالد أو الوالدة يكذبون، فلا بدَّ أنَّ الجميع يفعلون كذلك، وهل يعقل أنَّ أبويه هما أسوء الجميع؟ويستنتج من كلِّ هذا أن الكذب خلقٌ حسن، وثانياً سيفقدون الأمل في المستقبل.
- القرار الصحيح: عاليا (ها أنا ذاهبة لأجلب لك الخبز وليحدث ما يحدث...) الحكمة التي تتجلى في الإفساد الظاهر والإنعام الباطن، والتي لا يقفُ عليها الناس بسهولة، ولكن بعد التفكر والتأمل يسهل الوصول إليها. قد يتوارد إلى ذهني سؤالٌ ساذج بهذا الصدد وهو : أين الحكمة في تعريض حياة الأم لخطرٍ محدِّقٍ، ومحقَّقْ الوقوع وهو موت الأم بسبب خطورة الموقف،في سبيل درء خطر غير محدق وغير محقق الوقوع وهو موت الطفلة حه لو جوعاً؟
والجواب هو أينَ الحكمة في قولهِ تعالى(فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) الكهف-79-وهل في إعابة السفينة مصلحة؟نعم لأنَّ هذا العيب هو الذي حفظها، وكذلك في موت عاليا وتضحيتها مصلحةٌ كبيرة، لتوقظ هممَ المتخاذلين، وتطرد شكوك الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض وَتَدحضَ حجج الْمُرْجِفينَ، من خلال إعطائهم صورة حية عن الوحشية واللاإنسانية التي يُعاملون بها. - هروب عاليا إلى الكهف مع بقية أهل القرية. الإنتماء إلى الأهل والعشيرة والقومية وبقية العناصر التي تتشكل منها الهوية. وهل عاليا إلاّ ابنة القرية البارة والتي إنْ نَجتْ القرية نجتْ معها؟فمهما يبلغ المرء من الحكمة أو من الشجاعة يجب عليه أنْ لا ينفصل عن أهلهِ وقومهِ، وإنْ اختلف معهم بل يحاول أن يصلح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، كما فعل سقراط الذي قاتل مع اليونان في حربهم كجنديٍّ متواضعٍ وشجاع ونال وساماً، وعند محاكمته جاءه تلاميذه منهم أفلاطون يعرضون عليه تسهيل هروبه من السجن، فجاءَ ردَّهُ (أنَّهُ يرفض أنْ يهربْ كالعبيد وأنْ يخرج على قوانين بلادهِ والقوانين سياج الدولة في ظلها ينشأ الأفراد ويحيون)[3][3]
- محاولتا الشيخ صوفي علي والعجوز بيضاء الشعر أن يثنيا عاليا عن عزمها على الذهاب. صوت منبعث من الخوف والهلع. حين يتأثر الإنسان بتيار اللاشعور يتراجع الشعور العقلاني، ويفقد صلاحيته في تشكيل الصورة المنقولة إلى الذهن، وبالإضافة إلى ذلك ليس في استطاعة الإنسان(الأم-عاليا)التحكم في الآلية التي بواسطتها تتحرك الرواسب الغريزية للأمومة وهي تعمل سراً عبر الحد الذي يفصل اللاشعور عن الإدراك الشعوري، وحتى حارس الحدود اليقظ المعروف باسم العقل يبدو عاجزاً عن التحكم بهذا التغلغل، وهنا فقط تبدو التصرفات غير عقلانية، هذا المصدر اللاواعي لبعض السلوكيات ليس عشوائياً، كما قد نظن للوهلة الأولى،فهو يؤلف نظاماً مشتركاً بين البشر ومنه ظهر النظام الأبوي الذي يمتلك قوانين صاغتها حديثاً نظرية النقد الأسطوري.
- السرد الاسترجاعي ليوسف وعودته إلى الوراء ثلاث سنوات بعدَ أنْ حدَّق في ساقه الأيمن، حيث استرجع الحادثة التي بترت فيها ساقه. الإحساس بالحزن ليس على فقدان الساق اليمنى فقط، بل على فقدان الاستقرار والأمن والمأوى والحرية، بسبب تسلط الآخر المستبد الذي يمارس سلطته بأبشع الصور. يفعل العاقل في المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، الحزن الشديد على ما فات حماقةٌ وغباء، لأنَّه يقتل الإرادة ويتشكلُّ قيوداً ثقيلة تمنع الانبعاث وتحول الحيَّ إلى شبه ميت، يمزقُّ جهوده على شيءٍ فات ولنْ يعود، شبح الماضي الذي استحوذ على الأب يوسف هو الذي أقعده وليس فقدان ساقه اليمنى،كما عاتبته عاليا زوجته بعد أنْ نادتهُ فلم يجبها، فقالت(أ ثانيةً رحلتَ إلى عالم الذكرى يا يوسف)هذا الرحيل الذي يسبب الكسل والذهول، ويقعد عن أيِّ عملٍ نافع، بينما التفكير في المستقبل يبعثُ الأمل الذي يحيي الطموح.
- اللوم في قول عاليا
(أ ثانية عدتَ إلى عالم الذكرى يا يوسف) اللوم هنا إغراءٌ كما وصفه أبو نواس، حيث يشجعه اللوم على التمسك بالمونولوج يعكس حالة الألم التي تعتري الزوجة نتيجة شرود ذهن زوجها. - الاستهزاء النابع من الألم في قول عاليا :( لا تخف يا صوفي علي، لا تخف لن تموت، ما دمتم هكذا سيبقى حالنا على هذه الشاكلة، أما تكفي حياة الذل هذه) ذلك عندما تتعاظم المصيبة فلا يجدي معها سوى الاستهزاء الذي يخفي ألماً كبيراً... فيه دلالة معكوسة على حالة الوهن والضعف الذي أصاب المجتمع الكردي، وكما قال المتنبي:
منْ يهن يسهل الهوانُ عليه مالجرحٍ بميتٍ إيلامُ - عاليا تقول (يا للمصيبة..لقد أحرقوا بيوتنا..الجبناء يستعرضون لنا نحنُ العزل من السلاح قوتهم..ها هم هناك..هيا اقتربوا منهم إنْ كنتم رجالاًَ) الفعل أحرقوا فاعلهُ ضمير مستتر تقديره هم، ثم تسميهم بالجبناء، اقتربوا فعل أمر، مشروط بكونهم رجال أم لا، لكنهم يقتربون من ماذا؟منهم، وَمَنْ هم؟ يقول الجنرال أيزنهاور(دعونا لا نضيع دقيقة واحدة في التفكير بالأشخاص الذين لا نحبهم)والشيطان يصرع الإنسان عند ثلاث:الغضب والشهوة، والغفلة،لأنَّ الغضب سيحرمنا من الحكمة والتعقل في اتخاذ القرارات الصائبة.
- عاليا تدعو ربها بصوتٍ مخنوق يشوبه البكاء لم تفقد إيمانها في ذلك الموقف الصعب والدعاء سلاح المؤمن. الدعاء سلاح المؤمن، ودعاء المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وسينصره الله ولو بعد حين..
- وفاة عاليا نتيجة قصف الطائرات التضحية والإيثار.. موت عاليا بذلك الشكل البشع بعثها في ذاكرة المجتمع أسطورة شعبية(الأم الشجاعة تضحي بحياتها من أجل طفلتها)مما يستثير التفكير الأسطوري الموجه لتصرفات وسلوكيات المجتمع وهناك ترابط بين التفكير الأسطوري وبين العبودية الاجتماعية وبين التسلط السياسي وقيام الأنظمة القهرية، التي تخلق أنواع الإعاقات لظهور الفكر العلمي الاجتماعي.
- استيقظت الطفلة حه لو من نومها، نظرت إلى صديقتها جنو وقالت لها بحب :( الآن ستأتي أمي وستجلب لي خبزاً محلّى بالسكر حلم الطفلة وأملها في عودة الأم ومعها الخبز المحلى بالسكر. حلم الطفلة هو قناع يخفي حلم الجماعة المختبئة في الكهف بعودتهم إلى بيوتهم آمنين أحراراً، وهو يعكس حلم المجتمع الكردي في حياةٍ أخرى خالية من الاضطهاد والتسلُّط.
- سأقسمهُ إلى نصفين، نصفٌ لي ولك النصف الآخر.. الأصل في الإنسان البراءة، وهذه فطرة الإنسان التي يفقدها شيئاً فشيئاً عندما يكبر، فالطفل لا يفكر في غده ويحب للآخر ما يحبه لنفسه، ولو كانت حه لو أكبر سنّاً لفكرت في أن تخفي شيئاً من الخبز للغد المجهول. يعكس الأمل في إيجاد جو من التضحية والإيثار في سبيل تحقيق حقوق الشعب من حرية ومساواة ورفاهية.
تنوعت الأساليب التي انتهجها السليفاني للوصول إلى هدفه والتعبير عما يجول في وجدانه، ففي البداية انتهج الرومانسية لاستثارة عواطف القارئ، من خلال إعطائه صورة حية للكهف الذي صار مأوىً للأبرياء الهاربين من السلطة المستبدَّة، ويشير إلى المشاهد الريفية بما فيها من الروعة والوحشة، التي تذكرنا العالم الأسطوريّ والخرافيّ والمواقف الشاعرية،(كما ندى الربيع على الأزهار والعشب كان العرق يملأ وجهها وجسدها)هذا وهي تهبط من الجبل إلى القرية، واستخدم الأسلوب الواقعي، والواقع نوعان: حقيقيّ وفنّي، والحقيقي ما إذا وصفه الإنسان كان أميناً نقل ما هو موجودٌ فحسب،كالصورة الفوتوغرافية، والواقع الفني-الأدبي- خلق جو إبداعي لواقعٍ يمزج بين الحقيقة والخيال، وهو ما تجاوزه السليفاني أي الأحداث لا يشترط فيها أن تكون حقيقية بتفاصيلها كافة، أي أنه يغترف عناصره من الواقع الحقيقي، لكنه يغيّر ويعيد تكوين الأحداث ليأتي بواقعٍ ليس كصورةٍ فوتوغرافية للواقع الحقيقيّ بل هو موازٍٍ له وممكن التصور، لأنه يجري في نطاقه ويخضعُ لشروطه وآليّاته العاديّة.والسليفاني درج لنا لغة الحياة اليومية التي يتعامل بها أهل القرية، ونقل لنا حادثة في صورة شعرية مكثفة ومختصرة، وفي نص القصة تصويرٌ مبدعٌ للإنسان والطبيعة الجبلية التي أثرت في طباع الناس وفي صفاتهم وأحوالهم وتفاعلهم مع المحيط، ولكنَّ الواقعية لا يشترط فيه المثالية والأمانة والصّدق في النسخ والتصوير، ويغيب عنا عالم الفكر في ما وراء الواقع وعفوية الخيال الطليق وبهذا يتحوّل الكاتب إلى فنانٍ مبدع لا إلى نسَّاخ، أو كاتب تقرير.
والأداء الأسطوري للبطلة عاليا في بانوراما أو أوبرا تتعالى فيها الصيحات وصولاً إلى الذروة حيث صيحة الأب يوسف(عاليا..عاليا..عا..لـ..يا..يا..)الصوت الثاني يحمل امتداداً يجتاز مانعي الزمان والمكان.
2-قراءة الدلالات الصوتية والزمكانية في النص:
لا توجد أي إشارة واضحة إلى الزمن في نص القصة، فالزمن هنا امتداد لكل الأوقات، وللقارئ الحرية المطلقة في أن يتصور ما يحلو له من الأوقات، كموت عاليا عند الغروب، أو انطلاقها من الكهف منحدرة نحو القرية قبل الغروب...أو في الصباح الباكر...أو عند الظهيرة الحارة...
لكن الأمكنة وتنوعها أعطت للقارئ صورةً أوضح وإنْ بدت في بعض المشاهد مشوشة، فمشهد الكهف مشوش، ومشهد القرية أكثر وضوحاً، بسبب انفعال القارئ وانشدادا خياله لإعطاء القارئ صورة عن مشهد القصف وهدم بيوت القرية...
كانت الأمكنة:
القرية-الكهف -البيت- الطائرات في السماء- حجر تعديل السطح ملقىً على الأرض ومهشم...
بينما الأصوات كانت كالتالي:
- ظلت صامتة، وللصمت صوتٌ أيضاً قد يكون أبلغ من الكلام.
- صوت الطفلة حه لو (أنا جائعة يا أماه)، الطفل لا يفهم كثيراً سوى أن يلبي نداءات المعدة الفارغة التي توعز إلى الدماغ وتشعره بضرورة اتخاذ إجراء، والطفل قد تعلم بالتجربة واكتسب خبرةً بأنَّ البكاء هو الإجراء المناسب لمثل هكذا حالات.
- نهرها والدها القريب منها إخرسي،فالأب شخصياً فاقدٌ للقدرة على الذهاب لذا فهو يرى طلبها سخيفاً وغير معقولاً.
- صوت بكاء الطفلة حه لو، هناك من يتغاضى عن تأثيره وهو يختلف من شخصٍ إلى آخر، فهناك من لا يطيقه ضجراً، وهناك من لا يطيقه ألماً فيهرع إلى الطفل...
- تكرار صوت حه لو وهي تبكي: أماه إني جائعة.
- صوت الأم الحزينة التي لا تقدر شيئاً لابنتها: كفى بكاءً يا ابنتي
- صوت الأب يوسف المتمركز في ذاكرته فقط وهو يتذكر انفجار العبوة الناسفة التي بترت ساقه اليمنى، لكنَّ هذا المونولوج الداخلي كانت وظيفته ليعطي صورة على البعد الزمني لحالة الاضطهاد التي يعيشها أهل القرية.
- صوت زوجته عاليا المعاتب على شرود ذهنه المعتاد كلما تذكر ساقه المبتورة،والحزن الشديد على مآسي الماضي حماقةٌ وغباء وقتلٌ للإرادة وهدرٌ لقوى الإنسان وتفتيتٌ للجهد، والذي تسيطر عليه مونولوجات الماضي ومآسيه كمن يطحنُ الماء، والاشتغال بالماضي دليلٌ واضح على أنَّهم يعجزون عن مواجهة إشكاليات الحاضر.
- صوت الزوج يوسف مندهشاً عائداً من رحلة المونولوج وكأنَّه استيقظ من كابوس:هه هه ما بك يا عاليا.
- صوت عاليا الحازم الجازم: إني ذاهبة انتبه للطفلة
- صوت الأب يوسف وهو يعبر عن يأسه بسبب معرفته بعناد زوجته.
- صوت عاليا وهي تنهي زوجها أن يعترض طريقها (لا تلق كلماتك في النهر ألا تعرفني يا يوسف سأذهب يعني سأذهب)
- أتبحثين عن موتك....صوت الزوج يوسف مستفسراً...وكان الأجمل أتبحثين عن حتفك.فالموت لا يحتاج أن نبحث عنه، لأنه سيدركنا ولو كنا في بروجٍ مشيدة.
- صوت العجوز (إجلسي ولا تذهبي فابنتك لن تموت من الجوع)كانت العجوز بقربها من حيث المكان لكنها كانت بعيدة عنها من حيث وجهة الرأي وأسلوب التفكير.
- صوت الصوفي علي الذي (يحمل سبحة سوداء وما ينفكُّ يردد آيات القرآن الكريم بصوتٍ مخنوق لا يملُّ الدعاء (اذكري الله يا عاليا) وهل يكفي الدعاء لدفع الظلم؟ لا يجب أن ينوجد العمل مع الدعاء.
- صوت عاليا المستهزئ من باب الاستفزاز (لا تخف يا صوفي علي لا تخف لن تموت) إن سخرية عاليا هنا موظفة بشكلٍ جيد لتصبح وسيلةً لقول الحقيقة وهزّ وجدان الإنسان القروي العادي الذي ترهقه الضغوط، الإنسان المتعب اليائس المُحْبَطْ، وتدفعه للتغلب على ضغوطات عالمه الخارجي السيئ، وسخرية عاليا هي وسيلتها لمقاومة آلامها الخارجية من داخل ذاتها الجريحة، إنها تطلق شحنة سلبية قلقة حبيسة في دواخل نفسها بشكل عدواني متوتّر، وعملية إطلاق هذه الشحنة ليست أبداً للإمتاع والمؤانسة والضحك لأنها سوداء ومؤلمة..
- صوت عاليا المحرض (ما دمتم هكذا سيبقى حالنا على هذه الشاكلة...ما تكفي حياة الذل هذه؟)
تحريض الفكر وشحذ الخيال كي يرى مستقبلاً أفضل للأجيال القادمة وتفعيل الإرادة وتقوية الشخصيّة وإشعار المخاطب-أهل القرية في النص كمخاطب خاص والقارئ والمتلقي كمخاطب عام-بأنه مسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه، ويأتي هنا يتدخل الكاتب السليفاني ليحرض هو بصوت عاليا للبحث عن الأسباب والدوافع وإيجاد الحلول، يوحي ويمهّد وينوه دون أنْ يقول ذلك مباشرةً ليترك فرصة للقارئ أن يفكر ويستنتج ولكن من خلال اختيارات ووصف وسرد السليفاني وهو ما لا يتنافى مع الحياد.
ولكن عاليا كانت كمن ينفخ في الرماد، بسبب غياب الشباب، فالخطاب موجه إلى عجوز وشيخ صوفي ورجل معاق وطفلتان، وكما قال الشاعر بشار بن برد:
لقد أسمعتَ لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي - صوت عاليا التي كانت تكلم نفسها للسلوى، وهي تنحدر من الجبل غير مبالية بالحجر والشوك والعاقول الذي اعترض طريقها (من لي غيرك في هذه الحياة يا حلوتي حه لو)
- صوت عاليا المتألم نتيجة صدمتها برؤية قريتها تتهدم (يا للمصيبة لقد احرقوا بيوتنا...)
- صوت عاليا الشاكي إلى الله الداعي (إلهي دعهم لا يروا الخير في الدنيا في كل حياتهم) وهو صوت المظلوم الذي لا يجد ناصراً إلا الله ولا بدَّ أن ينصره الله ولو بعد حين، لكن الأصح لو قالت (اللهم لا تدعهم يروا خيرا في حياتهم)
- عودة عاليا إلى حديث النفس والسلوى (لأعدَّ لك الخبز المحلى بالسكر يا ابنتي يا حه لو...)
- عودة عاليا ثانيةً إلى حديث النفس (حتماً كلُّ الأطفال جياع مثلك يا حه لو...)
- صوت والد عاليا من المونولوج الاسترجاعي من الذاكرة المهشمة (كما يقول أبي مال الدنيا ليس إلا قذارة اليدين،الأصل سلامة الناس).
- صوت عاليا التي ثقب الرصاص صدرها (حه...حه ...حه لو.).
- صوت الزوج المعاق يوسف (عاليا يا حسناء أومر بيرا لقد تحطمنا نحن الثلاثة أنا وأنت وحه لو)
- صوت عويل النساء وولولتهم التي يتقنها بعض الرجال مع الأسف في المصائب والملمات والشدائد بينما يفعل العاقل في المصيبة ما يفعله الجاهل النائح بعد أيام.
- صوت الأمل يستيقظ مع استيقاظ حه لو بسبب شدة وعي النساء، وكذلك يأتي الفرج من الله عندما تضيق السبل ويظنون أن لا ملجأ منه إلا إليه.
حول هذه الأصوات دارت رحى النص لتطحن صوراً من خيالات القارئ المتفاعلة مكونةً منها في النهاية مشهداً إنسانياً يعلق في الذاكرة، ونحن إذا ما أردنا تحليل الكلمات الملفوظة الصادرة من القاص إلى القارئ، فإننا سنصل إلى أنْ نحدد لكل حرف نغمة صوتية معينة مختلفة عن نغمة نفس الحرف في كلمة أخرى، بل وحتى مختلفة عن نغمة نفس الحرف في نفس الكلمة ومن هنا تتأثر عملية القراءة، فالقراءة هنا هي استماع للنغمات التي تكوّن نغمة الكلمة الملفوظة، وبالتالي نغمة الجملة، ومن ثم لحن النص، فلكل نص موسيقى خاصة به يعزفها الكاتب من أول نغمة لأول حرف فيه إلى آخر نغمة لآخر حرف في النص المقروء...
لقد حدثنا السليفاني عن الصوت المنفرد للصدى صياح الزوج يوسف(يقبل صوت بعيد من جهة الكهف ويقترب:- عاليا..عاليا..عا..لـ..يا..يا...)
وللقصة بعد أيديولوجي انطلاقاً من قاعدة التمسك بالأمل في الاستمرار بعملية مكافحة الظلم(من شدة عويل النساء استيقظت الصغيرة حه لو من نومها نظرت إلى صديقتها جنو وقالت:الآن ستأتي أمي وستجلب لي خبزاً محلى بالسكر، سأقسمه نصفين، نصفٌ لي ولك النصف الآخر أتقبلين)إن أمل حه لو وعرضها اقتسام الخبز بينها وبين صديقتها تشرح التضحية والإيثار من خلال كشفه للآخر وهو ما يمثل مجال الإبداع الحقيقي للأدب، بصفة عامة وللقصة بصفة خاصة،وفي البعد الأيديولوجي أيضاً يظهر لنا امتناع أهل القرية عن اتخاذ موقف ايجابي من السلطة الظالمة، والاكتفاء بالانتظار، بينما عاليا تصرخ في وجههم(ما دمتم هكذا سيبقى حالنا على هذه الشاكلة..أما تكفي حياة الذل هذه) وعاليا تصرخ لأنَّه كلما زادت شدة الصوت زاد التأثير الناتج عنه.
وأن تيار المونولوج الداخلي لدى الزوج يوسف يوظف لكشف البعد الزمكاني لحالة الاضطهاد التي يعيشها أهل القرية، واستخدم السليفاني أساليب متعددة للكشف عن خبايا حياة الشخصيات الرئيسية والثانوية وأبعادها الداخلية والخارجية، أو أبعادها النفسانية والاجتماعية باعتبار أنَّ كلمات الحوار هي دلائل أو شواهد لما يعتمل في أذهان الشخوص.
لكن القصة كانت بحاجة إلى متكلم يحمل الخطاب الأيديولوجي لها، ويسيطر على أحداثها،
والبعد النفساني، ينطلق من التعبير الشخصي لمن لا يجدُ ناصراً إلا الله كدعاء عاليا الأم على الظلمة الذين يقصفون قريتها على مرأى منها...
وهناك دلالة معينة تتمثل في أن هناك أربعة أسس:الكاتب والقاص والنص والناقد والقارئ.
ففي البداية يهتدي القاص إلى نوع الراوي هل هو ضير الأنا، أم الضمير هو الغائب الذي يعلم كلَّ شيء حتى الدواخل النفسية للشخصيات، لنتج عن هذا التفاعل النص، ويأتي دور الناقد قبل دور القارئ، لأنَّ القارئ سيقرأ النص حسب رؤيته الخاصة فحسب، لكنه بعد أن يقرأ رؤية الناقد للنص وتقييمه سيقرأه من جديد بصورة مختلفة، وبالتالي سيكون استيعابه للنص وفق تقديم الناقد للشخوص وللأحداث،
ومن ثمَّ يأتي التشكيل الصوتي لموسيقى الحروف(النغمات)لتشكل الكلمات ثم تتحول إلى نص ثابت. وتكمن المأساة كاملة في إصرار الأم على أن تجلب لأبنتها خبزاً محلى بالسكر، والمأساة السابقة في بتر ساق الأب والزوج يوسف، لكن المأساة أشمل في هدم القرية وقصفها وهروب أهلها ولجوئهم واختبائهم في الكهف، وحين تعزف المأساة لحنها بقسوتها وشجونها في ثوب من الواقعية الشعرية نكون حقاً بصدد مأساة إنسانية...
ورغم أن الحواس التي يتعامل القارئ من خلالها مع النص هي البصر بطبيعة الحال فهو يقرأ لكنَّه خياله سيعمل على تصوير حي للأحداث، وللشخصيات، وتبرز فعالية الأذن لا العين فحسب لأنَّ جزء كبيرا من النص يتوجه أساسا إلى الأذن، ومن هنا تكمن أهمية دراسة الصوت كمكون أساسي من مكونات القصة.
وصوت عاليا وحده يستطيع أن ينفذ إلى نفس القارئ، فيتفاعل معه القارئ بمشاعره وتسلسل أفكاره، وللصوت مقدرة واسعة على مخاطبة اللاوعي، فصوت الزوج المحب لزوجته، وصوت الطفلة البريئة حه لو، وصوت الأم الحنون عاليا،وصوت الزوجة العنيدة عاليا، وصوت القروية الشجاعة عاليا التي ترفض الظلم والذل،وصوت عويل النساء في الكهف، وصوت الخائف المشفق الصوفي علي، وصوت العجوز التي تلوم وتنهر عاليا بأنَّ طفلتها لن تموت من الجوع، وصوت الطفلة حه لو المليء بالأمل، والصوت فإنه يتيح أدق مقياس لتقييم الشخصية القصصية ومن ثمَّ تقييم النص والحدث، من خلال تفاعل صوت الحب والحنان، والشجاعة والرفض والعناد، مع صوت الحزن والعويل،مع صوت الأمل والخوف هذه الأصوات جميعاً تفاعلت لتشكل عناصر نجاح السليفاني في إيصال صوته هو من خلال قنوات متعددة ومتنوعة البث والبرامج والأساليب الساحرة التي تكفل تفاعل القارئ مع شخصيات وأحداث القصة والقاص يجمع بين الشخصيات المختلفة، متحدثة بأصوات تعلق في أذن القارئ لأنَّها تحدثه عن مأساة الإنسانية في سكوتها عن الظلم والاضطهاد وهو صوتٌ لا يسكته مرور الأيام.