انشغل النقاد العرب ردحاً طويلاً من الزمن بتوظيف مصطلحي الشكل والمضمون في نقد مختلف الفنون الأدبية والبصرية وحتى السمعية اعتقاداً منهم أنهم بذلك يسهلون تذوق العمل الفني ويضعون مجمل عناصره في إحدى السلتين اللتين لا ثالث لهما: الشكل أو المضمون.
والواقع أنهم لم يبسطوا النقد بل دفعوه إلى نقطة أشد تعقيداً، فقد التبس على غالبية النقاد، حتى لا نغالي فنقول كلهم، مفهوم " الصورة " بحيث تماهى مع مفهوم " الشكل " الذي صار يعني تلقائياً ما هو مقابل المضمون، أي أن الصورة هي شكل لا يكتمل معناه إلا بالمضمون.
من هذه الفرضية العرجاء ولدت قضايا إشكالية عدة أدخلت الخطاب النقدي بأسره في جدليات كان يمكن تجاوزها وعدم التوقف عندها طويلاً، مثل " الفن للفن " و" الفن للمجتمع " وتلك الثنائيات المتقابلة على شاكلة " الأصالة والمعاصرة " و " التراث والحداثة "، وهكذا بعد مضي فترة من الزمن ساد إهمال شبه مقصود للصورة باعتبار أنها قضية " شكلية " مفروغة المحتوى خصوصاً وأن قرناً كاملاً من الزمن الإبداعي رزح تحت وطأة المعيار الإيديولوجي ورسائله السميكة التي حجبت في كثير من الأحيان رؤية " الصورة " بأبعادها الحيوية و" المضمونية " الحقيقية.
طوفان الصور
والآن بعد تطور التكنولوجيا مرة أخرى وبشكل يكاد يكون لحظياً استعادت الصورة مكانتها وسطوتها الجمالية، كعنصر أساسي وعضوي في الفن، فجل ما حول الإنسان المعاصر من وسائل إعلامية ومعرفية يعتمد في تأدية وظائفه على الصورة، ثمة طوفان واضح ومتعاظم من الصور، الأمر الذي لفت انتباه الفنانين، لا سيما التشكيليين والمسرحيين على وجه التحديد، إلى حتمية استخدام هذا العنصر والاستفادة من حضوره الطاغي، وهكذا ظهرت تيارات ومذاهب فنية عديدة اتخذت من الصورة ركيزة أساسية وجوهرية لها، حتى تصور كثير من المتلقين أن الصورة اكتشفت حديثاً رغم أنها كانت بتياراتها الفنية والفلسفية قد ولدت وانتشرت في الجهة الأخرى من كوكبنا قبل عقود، وأنها كانت موجودة وفاعلة منذ عصر الإنسان البدائي الذي كان يرسم على جدران الكهوف مروراً بعصور فيدياس وهوميروس وميكيل أنجلو وامرئ القيس ويحيى الواسطي والمتنبي وشكسبير ودافنشي حتى عصر بيكاسو وأرتو وشارلي شابلن ونزار قباني ومايكل جاكسون وأم كلثوم وفاتح المدرس.
لقد مرت " الصورة " بمراحل غاية في التباين خلال تطور الفنون البشرية، بدءاً من عملية المحاكاة بين المحسوس والمجرد إلى عملية الابتكار، على أن الابتكار ذاته ظل عرضة للمحاكاة والتقليد في أنساق بعينها أطلق عليها تالياً: " أساليب " أو " مذاهب "، ولو قارن راء حيادي بين رسومات لإنسان بدائي على جدران أحد الكهوف ورسومات أخرى لفنانين رضوا بالانضواء تحت قفص " ما بعد الحداثة " لما وجد فرقاً يناسب الشقة الزمنية و" الحضارية " بينهما، الأمر الذي يؤكد مجدداً أن جوهر الفن لا تغير ماهيته أطنان الكتب والنظريات بمقدار ما يساعد ذلك فقط في إدراك جمالياته ومواطن الحساسية الجديدة والمكتشفة فيه.
جذر فلسفي واحد
إن الصورة، كل صورة، محسوسة كانت أم مجردة، مرئية أم لا مرئية، تصبح عند تكوينها فنياً كائناً حياً مختلفاً عن العناصر الواقعية والمتخيلة التي شكلته، وسوف يبقى هذا الكائن إما قابلاً للحياة والتناسل والتوالد في صور جديدة عبر الزمن أو أسيراً للظرف الذي وجد فيه.
ولكن هل يمكن "تأطير" الصورة دائماً، وفي الفنون المختلفة بذات الطريقة؟
سوف نختبر صمود عملية " التأطير " المومأ إليها في فنين كانا يرتبطان دائماً بجذر فلسفي واحد وهما الشعر والتشكيل، بمعنى هل يمكن أن تكون " السحابة " في قصيدة هي ذاتها في لوحة تشكيلية إذا ما كان منتج هذه الصورة الفنية يقوم بفعل كتابة الشعر والرسم في آن واحد ؟
مثل هذه الفرضية تقودنا إلى مدى هائل من الإجابات الواقعية والحالمة على طريقة أندريه بروتون في " بياناته السوريالية " والذي يستشهد بشاعر تكعيبي هو بيير ريفردي حين يقول: " الصورة خلق ذهني خالص، لا يمكن أن تولد من مقارنة، بل من مقاربة واقعين متباعدين، بنسبة أو بأخرى، وكلما كانت الصلات بين الواقعين المقاربين بعيدة، كلما زادت قدرتها التأثيرية وزاد واقعها الشاعري "، هنا عند هذا المثال بالذات يشير بروتون إلى " الواقعية الخارقة " التي تعني " السوريالية " ذاتها، بقدرتها على الجمع بين حالين متضادتين في الظاهر هما الواقع والحلم، ولعل من الطرافة أن يسوق رئيس الجماعة السوريالية مثالاً آخر هو سان – بول – رو الذي يروى أنه كان عندما يذهب إلى النوم كل يوم يأمر بتعليق لافتة على باب منزله كتب عليها " الشاعر يعمل "، وليس العمل في هذه الحال سوى أطياف من الصور المتخيلة المتحررة من رقابة العقل وقوانين الواقع بكل أنواعها الفيزيائية والأخلاقية والسياسية..إلخ.
غموض مطلوب
لا شك أننا سنصل في نهاية المطاف " الممكنة " إلى نقطة لا بد من توضيحها تماماً حتى لو كان الغموض مطلوباً لكيلا تفقد الصورة سحريتها، فالصورة هي ما نشاهده بشكل مباشر وما تحمله من إيحاءات غير مباشرة تفضي إلى تجربة كل واحد منا إزاءها، وهي استمرار لحالة الحدس والثقافة البصرية والفلسفية للمشاهد، يقول " قروي باريس " لويس أراغون الذي كان سوريالياً وارتد عليها مثلما ارتد على اتجاهات ومذاهب فنية وإيديولوجية عديدة: " إن الرذيلة المسماة سوريالية، شغف باستعمال فوضوي للصورة المدهشة.." فهذا الشاعر الذي يصل في قصائده إلى حدود الصوفية الشرقية والحب العذري على غرار " مجنون ليلى " يأنف أن تفقد الصورة قدسيتها وهو يرسم معشوقته " إلزا " في صور كأنها أيقونات لتخليد من يحب، وإن كان يمضي بذات الجنون وهو يؤلف صوراً غاية في السلاسة والتوهج الشعري والتشكيلي في آن واحد:
" في ذروة مأساتنا
كانت تجلس طوال النهار أمام مرآتها
تسرح شعرها الذهبي اللماع
كان يخيل إلي أن يديها
الرقيقتين تسرحان اللهيب "
من هذا المقطع الشعري الجذاب تخطر مترادفات كثيرة لمعنى الصورة، إن حسب طريقة ورودها أو حسب أسلوب توظيفها في البنية الجمالية والدلالية في الفن سواء أكان شعراً أم تشكيلاً، فهناك صورة واقعية وأخرى متخيلة وهناك صورة فنية وأخرى بكر وهناك صورة واردة عن طريق البصر وأخرى واردة عن طريق السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس، ألم يقل الشاعر العربي القديم جرير:
" والأذن تعشق قبل العين أحياناً " ..
لقد اجتهد بعض الشعراء في نقل أحاسيس شتى عن طريق التصوير فخرجت صور شعرية مركبة هي أجمل وأبلغ بكثير من الحقيقة التي استلهمت منها، ونحن لا نستطيع الجزم فيما إذا كانت لوحة " الجيوكندا " تمثل امرأة بهذا القدر من الجمال والفتنة أم هي ما حملها الفنان ليوناردو دافنشي من براعة أسلوبه الفني؟
تطور الفنون البصرية
ولما كان التصوير قد انتقل من مرحلة انعكاس صورة الشيء على سطح الماء إلى اختراع المرآة وصولاً إلى اختراع آلة التصوير التي صارت بحد ذاتها فتحاً رؤيوياً وميدانياً واسعاً لعدة فنون من سينما وتلفزيون وفيديو كليب وعروض توضيحية حية وآنية، ، فقد تطورت الفنون البصرية في أشكال وأنساق مختلفة إلى درجة أن بعضها ابتعد عن الطبيعة الأساسية لهذه الفنون والمتعلقة بحاسة البصر الخالصة لتتمازج مع فنون الغناء والموسيقى والرقص كما في " الفيديو كليب " ومع فنون القصة والرواية والتمثيل كما في المسرح والسينما والدراما التلفزيونية، وفي كل هذه الفنون ظلت الصورة الأساس الذي يشتغل عليه الفنان للوصول إلى المتلقي والاستحواذ عليه.
وإذا شئنا الدقة فإن فن التصوير " التشكيلي " ظل أكثر الفنون التصاقاً بمفهوم فلسفة الصورة، من خلال ارتباطه العضوي بالتجربة الإبداعية وإرهاصاتها الإنسانية الممتدة عبر الزمن بما في ذلك تجليات الثقافة والحساسية البصريتين، ولعل المدرسة " التجريدية " تحديداً كانت الأكثر تحرراً من الحمولة الفنية والفكرية الخارجة عن منطق الصورة وفلسفتها الجمالية حيث يحاول الفنان في هذه المدرسة التخلص من إرث اللون والتكوين لتوليد ميراث جديد وبالتالي صورة جديدة.
فرق في الوسائط
إن العلاقة حميمة جداً بين فن الشعر والفن التشكيلي، من ناحية الإبداع ومن ناحية التلقي، فالشاعر يستدعي مخزونه الخاص من الصور حين يشرع بكتابة القصيدة، وكذلك يفعل التشكيلي حين يشرع بالرسم، إنهما ينهلان من ذات المعين، أي " الخيال " الذي لا وجود له في الواقع، ولكن الاختلاف بينهما ينبع من اختلاف الوسيط المادي الذي هو العمل الفني نفسه، ولو بحثنا عن المؤتلف والمختلف في هذا الوسيط لوجدنا تقارباً حتى على هذا المستوى، رغم التباعد الظاهري، لا سيما إذا كان المتلقي يتلقى القصيدة بصرياً وليس سمعياً، الأمر الذي ألمحت إليه الدكتورة أميرة حلمي مطر في كتابها " فلسفة الجمال " والذي تتفق فيه مع الناقد الإنجليزي ريتشاردز حين يقول " إن العين عند قراءة قصيدة تسير في عمليات متتابعة تدرك بها الكلمات المكتوبة فتحدث استجابات شتى يصل عددها إلى ست، وتتلخص في الإحساسات البصرية الحادثة عند قراءة الكلمات ثم ترتبط بها الصور الخيالية التي تنطوي عليها هذه الكلمات، ثم تطرأ خيالات أخرى تستدعيها هذه الصور وأفكار عن موضوعات تثير انفعالات وأخيراً ينجم عن ذلك مواقف سلوكية "، وتربط د. مطر بين رأي ريتشاردز في مذهبه الفني هذا وبين رأي الفيلسوف الفارابي " المعلم الثاني بعد أرسطو " حين يتحدث عن طبيعة التخييل الشعري وأثره على القوة النزوعية للمتلقي من خلال الصور حيث يقول: " إننا نفعل فيما تخيله لنا الأقاويل الشعرية كفعلنا فيها لو أن الأمر كما خيله لنا ذلك القول – وإن علمنا أن الأمر ليس كذلك، فإن الإنسان كثيراً ما تتبع أفعاله تخيلاته أكثر مما تتبع ظنه أو علمه – فإنه كثيراً ما يكون ظنه أو علمه مضاداً لتخيله فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه أو علمه ".
وكأن الاثنين: الفارابي وريتشادرز يريدان القول إن الخيال هو المادة الفنية المؤثرة، بغض النظر عن الوسائط أو ما يسميها الفيلسوف جان بول سارتر " المماثلات "، فالفنان من وجهة نظر سارتر لا يحقق صورة عقلانية وإنما يقدم " مماثلاً " مادياً يمكن لكل من أراد أن يدركه بمجرد النظر إليه، وأما الصورة الخيالية فتظل رغم تحقق المماثل المادي لها محومة على المستوى الخيالي، فكل ضربة فرشاة من الفنان ليست مقصودة لذاتها ولا من أجل الكائن الواقعي، بل تقصد إلى مركب لا واقعي يظهره الفنان من خلال هذه العناصر الواقعية، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفهم اللوحة على أنها شيء مادي يزوره من آن لآخر ذلك الموضوع المصور فيها، وقد تضللنا تلك اللذة الحسية التي نستمدها من بعض الألوان الواقعة على النسيج مثل ألوان الأحمر عند الفنان ماتيس ولكن ينبغي أن نعلم أن هذه اللذة معزولة عن موضوعها الفني حسب ما يرى سارتر.
عالم متخيل
من هذه النتائج النظرية نخلص إلى رؤية نقدية أكثر قرباً لحدود التماس بين الشعر والتشكيل، وما ذاك التماس سوى " الصورة الفنية " التي نجدها في عالم الحروف والكلمات وفي عالم الخطوط والألوان، لقد انفصل كلا العالمين عن الواقع وتجردا منه ومن محسوساته ليعيدا إنتاجهما بحساسية جديدة، حساسية قائمة على الترميز والتكثيف والإيحاء، وفي النهاية يجد المتلقي ذاته أمام عالم متخيل قام الفنان بتصويره بالأدوات المادية والحسية التي استخدمها، ورغم أن الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل يرى على سبيل المثال أن " الانطباعية " حررت الفن التشكيلي من الموضوع الأدبي ومن الحكاية ومن كل معنى يمكن أن يصاغ بكلمات اللغة، وأصبحت وسيلة تلقي هذا الفن وتفهمه هي العين لا العقل فإن " النثرية " في الشعر دأبت على تحرير هذا الفن من القوالب المسبقة للمعاني والأفكار عن طريق تحرير الشعر من تقاليده الفنية المتوارثة عبر الزمن وفي مقدمتها "الأوزان" و"القوافي"، إن الشاعر والرسام كلاهما ظل يتحرك في فضاء جمالي متخيل يصنعه هو لنفسه، ولا يصنعه له الآخرون، وإلا لما سمي شاعراً أو رساماً بل مقلداً، وليست عوالم الشعراء والرسامين الآخرين سوى بدائل تجريبية يستعينون بها في شحذ خيالاتهم وإغناء عوالمهم الفنية الخاصة.
إن لوحة " طريق لوفسيان " للفنان بيسارو تطبع مشاعرنا بإحساس يتجاوز ذلك الدرب الريفي الممتد ويستدعي خيالات لا متناهية من عالم الطبيعة، مما يعني أن جمالية الصورة التي ينقلها الفنان عبر ذبذبات الألوان وإيقاعاتها البصرية والنفسية لا تقف بحدود ما هو مرسوم على سطح القماش وإنما تستمد حيويتها من العالم المتخيل الذي رشحت منه تلك الصورة، كذلك الأمر بالنسبة لقصيدة " المواكب " لجبران خليل جبران والتي تعد إحدى أجمل القصائد الرومانسية العربية، وفيها يقول:
هل تخذت الغاب مثلي | | منزلاً دون القصور |
فتتبعت السواقي | | وتسلقت الصخور |
هل تحممت بعطر | | وتنشفت بنور |
وشربت الفجر خمراً | | في كؤوس من أثير |
نلاحظ كيف تتلاحق الصور مثل شلال ماء رقراق ولا تحد " الكنايات " و" التشابيه " المبتكرة فيها من شفافيتها التي تحاكي سحر الطبيعة وجذلها، والمهم في هذه الصور الشعرية هو تلك الخاصية التي أشرنا إليها في لوحات بيسارو، أو أي من الانطباعيين أمثال رينوار وسيزان وديغا وماتيس ومونيه، وهي خاصية اشتقاق الصورة من عالم متخيل تؤدي فيه العناصر الأولية من صور وأفكار وإيقاعات موسيقية ولونية دور الإيحاء لا مجرد الوصف، ولعل كلود مونيه بالذات والذي أتيح له أن يزور الشرق ويطلع على فنونه، هو من لفت الانتباه لفكرة الضوء التي تسلطت على عقول الفنانين الانطباعيين، " فحين عاد إلى باريس راح يحدث رفاقه عن الأضواء التي رآها هناك، والتي تبعث الراحة للعين والبهجة للروح " حسب د. عز الدين إسماعيل، إلا أن إسماعيل يذهب في تعريفه للانطباعية إلى نهايتها الحدية حين يعلن: " الانطباعية .. ما الانطباعية ؟ إنها المزج البصري بين الألوان، هل تفهمني ؟ إنها تفكيك الألوان على اللوحة ثم إعادة تركيبها في العين، إن اللوحة لا تمثل شيئاً، ولا ينبغي لها أن تمثل شيئاً غير الألوان " ومن هنا فإن الانطباعي يرفض تساؤل المشاهد عن معنى لوحته، فالمعنى يعني كلاماً أي " بناء كيان لغوي مفهوم مقابل الصورة " بينما جل غايته يكمن في التقاط ومضة الانطباع الحسية أو البصرية أو المرئية ولذلك يطلق عليها أيضاً مصطلح " التأثيرية ".
" المعلقات " فن مرئي
على أن هذا النوع من التقاطع على المستوى الأسلوبي أو المذهبي لم يقتصر على فترة محددة من تاريخ تطور الفنون، وإنما اتصلت حلقات اللقاء بين الشعر والتشكيل منذ القدم، وقد لا أبالغ إذا قلت إن " المعلقات " التي تمثل عيون الشعر العربي في العصر الجاهلي ما هي إلا إحدى تلك الحلقات التي انتقل بها الشعر من الوضع الشفاهي إلى الوضع البصري، حيث كان العرب يكتبون قصائدهم الرائعة بماء الذهب ويعلقونها على جدران " الكعبة " لتحقيق تواصل أوسع وتقييم أرفع لفنهم الذي يحبون، وكان فن الشعر ينتقل قبل ذلك وبعده بصورة أساسية عبر الرواية الشفاهية، انطلاقاً من الشاعر إلى الجمهور المحيط به أولاً، ومن ثم إلى الجمهور على امتداد الجزيرة العربية وما جاورها، وكان ذلك يتوقف على مدى جودة القصيدة وفنيتها العالية، ولا شك أن " المعلقات " شكلت نقطة تحول مفصلية في ذلك الزمن وصارت ما يشبه " المعرض الدائم " للشعر المرئي، ونحن نرى اليوم كثيراً من الفنانين يقومون بترصيع لوحاتهم بالذهب وغيره من المواد المختلفة، الثمينة منها والمستهلكة، لتوصيل " صورة " ما، من خلال إعطاء قيمة جمالية للخامة المستخدمة أو بالعكس، أي منح إحساس مختلف معنوياً كان أم مادياً " ملمسياً " عبر طريقة استخدام هذه المواد والخامات المختلفة، مما يؤدي في النهاية إلى إغناء موضوع اللوحة وفكرتها الفنية.
فسحة التأمل والابتكار
ولو تأملنا طبيعة الصورة في كل من فني الشعر والتشكيل لرأينا تشابهاً يصل لحدود التطابق من زاوية القيمة الإبداعية الابتكارية والتجرؤ على تكوين العناصر وربطها مع بعضها بعضاً بعلاقات جديدة، سوى أن الشعر ينحو باتجاه الذهنية والوجدانية فيما ينحو التشكيل باتجاه الحسية والإبهار، فالصورة الشعرية يتعزز حضورها بالكلمات التي هي أصوات أو رموز تنقل المحتوى الذي يحاول الشاعر تشكيله في ذهن المتلقي، بينما تنكشف الصورة التشكيلية أمام المتلقي بشكل مباشر وفي علاقة أكثر تصادمية وخطورة، قد يتوارى الشاعر خلف إيحاءات الكلمات بحرية أكبر على افتراض أن القصيدة تحتاج لفسحة زمنية من أجل قراءتها أو سماعها، أما بالنسبة للتشكيلي فإن عمله يتلخص في لمحة وقد تدفع هذه الالتماحة بالمتلقي لأن يلتفت عن العمل إذا افتقد الجاذبية الحسية " البصرية " المباشرة.
إن الشاعر يعلم أن القارئ سيتابع قصيدته حتى آخرها لتصل إليه كاملة أو يفهمها على الأقل، لا سيما إذا كانت تراكيبه ممتعة وصوره مشوقة، وإذا ما كان قد بنى علاقة ودية لنصه مع القارئ بما فيها انتظار المفاجأة وعنصر الإدهاش الفني، أما التشكيلي فيضع نصه البصري على مرمى العين دفعة واحدة مجازفاً بصورته الكلية ومن ثم يدخل في حوار تدريجي ومحتمل مع المشاهد، واستناداً إلى هاتين الخاصيتين المختلفتين تصبح الصورة الشعرية أقرب إلى الفلسفة والصورة التشكيلية أقرب إلى العمارة، وإذا ما نظرنا إلى رأي الفيلسوف الألماني هيجل القائل: " الشعر فن الكلمة .. كلية جديدة تجمع بين القطبين المتمثلين بالفنون التشكيلية والموسيقى " فإن علاقة الشعر مع التشكيل تتحدد في كونها متصلة روحاً ومنفصلة أداء وصياغة، لتصبح الصور بنوعيها الجزئي والكلي، وجوهاً للمعنى وابتكارات متجددة له.
وفي هذا المقام من السمو والتجلي، وحين يبدأ الفنان سواء أكان شاعراً أم تشكيلياً بعبور عتبة التصوف تتحول الصورة عن مجراها الأولي حاملة مبدعها أو متلقيها من مستوى التقليد إلى مستوى التجديد، وفيه تنشطر المعاني وتتلون كأطياف قوس قزح يمكن من خلالها رؤية ما لا يرى لقربه أو لبعده، حيث " شدة القرب حجاب " وحيث " اللطائف النعنانية " على حد تعبير الناقد يوسف سامي اليوسف، ومن تلك اللطائف هذين البيتين للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في قصيدته " شموس في صورة الدمى ":
بذي سلم والدير من حاضر الحمى | | ظباء تريك الشمس في صورة الدمى |
كما قد أعرنا للغصون ملابساً | | وللروض أخلاقاً وللبرق مبسما |
ففي البيتين تتناوب الصور الشعرية متأرجحة بين الغزل والعرفان، كل صورة منها تفضي إلى الأخرى دون أن تستنفد طاقتها الروحية، مفسحة للمتلقي مندوحة التأمل وحرية الاختيار بين المرئي المحسوس واللامرئي حين يخترق جدار الرؤية ويحدث فجوة ذائقية تجدد إحداثياتها باستمرار في مسارات الرؤيا والحب الإلهي.
الحداثة وما بعدها
عندما هبت رياح الحداثة أولاً، ثم ما بعد الحداثة في تداخل وتناقض عجيب بينهما، وبغض النظر عن إشكاليات العلاقة الزمنية والفلسفية التي تميز إحداهما عن الأخرى في الأساليب والمضامين، طرأ أعظم تطور في مسيرة " الصورة "، لقد اقتربت الممارسة النقدية كثيراً ودخلت في صلب لعبة الإبداع وأصبحت جزءاً منها وسابقة عليها أحياناً، في الشعر كما في التشكيل، كما في الفنون الأخرى، بل إن الأوراق اختلطت وتماهت الفنون مع بعضها بعضاً لتصل في نهاية المطاف إلى ما يسمى بوحدة الفنون، ليس على صعيد التنظير فحسب وإنما على صعيد العمل الفني نفسه، وإذا كان فنانو الغرب وشعراؤه قد أدركوا ذلك باكراً عبر مرورهم بالاتجاهات والمدارس الفنية المختلفة " دادائية – سوريالية – تكعيبية – تعبيرية – تجريدية – ما بعد حداثية .. " فإن الفنانين والشعراء العرب انتبهوا متأخرين إلى ذلك الفيض المتصل من العلاقة بين عالمي الشعر والتشكيل، ولما كان " الشعر ديوان العرب " فقد كان من المتوقع علو وتيرة الأصوات الرافضة للجنس الأدبي الآخر والأقرب إليه " الرواية " حين بدأت تزحف ساحبة البساط من تحت حضوره الجماهيري الأسطوري، فكيف إذا تصورنا موقف هذه الأصوات من الفنون الأخرى كالسينما والمسرح والدراما التلفزيونية والفن التشكيلي وكلها فنون مرئية فرضت معاييرها واكتسحت الفضاء حاجبة الرؤية أمام الشعراء العرب ليروا أقمارهم في المساءات ويتغزلوا بحبيباتهم تحت ضوئها.
لقد أصيب الشعر بالعزلة حين فقد وظيفته التسجيلية التأريخية لحساب " المرئيات " وازدادت عزلته حين فقد حامله " اللوجستي " المتمثل بالفلسفة بعد خفوت بريقها واستنساخ النظريات " البراغماتية " المناقضة لجوهر الشعر، بينما امتلكت " المرئيات " بفضل عنصر " الصورة " قدرة أوسع على المرواغة والتحول والانتشار والوصول إلى أعلى ذروة من التأثير.
بعض الشعراء حاولوا المقاومة، الشاعر نزيه أبو عفش اتجه إلى الفن التشكيلي في خط مواز، الشاعرة الفنانة ميسون صقر رسمت لوحاتها بأبجديات الشعر مستمدة مفهوم خاصية الشعر الخالدة التي لا تتنكر لها الفنون كلها ألا وهي " الشعرية " أو كما يقال توصيفاً " الشاعرية "، وها هو أدونيس يقدم " مختاراته " التراثية في سلسلة " كتاب في جريدة " برسوم مرافقة ويشارك بلوحات في معرض تشكيلي مع هيمت، ليدفع بتساؤل حار: هل فقد الشعر " صورته " المكتوبة المقروءة ويحاول استعادتها مرئياً ؟
قد يفسر هذا المقطع الشعري للشاعر أدونيس جدلية المرئي واللامرئي بشكل أوضح:
" امرأة، كنت أعرف شكلها قبل أن أراها، عندما رأيته نسيته " !
إنه يذكرنا بمقطع آخر للرسام فاتح المدرس في قصته " قصر اللا نور " والتي تدور فيها هذه الحوارية:
إن هذه العتمة إن أردت الحقيقة لن تعجب أحداً.
أية عتمة ؟
أوه ؟ العتمة التي أغرقت فيها ملايين من الصور المخزونة في " أرشيف " العقل الباطن، العقل اللاوعي، سمه ما شئت، سمه قصر اللا نور إن أحببت، ولكن لا تقل إن هذه الأروقة قد قدر عليها أن تكمن في عتمتها للأبد!
ثم يقول على لسان بطل القصة في مشهد لاحق:
الصورة السوريالية كالسمكة المسروقة، وهي حية، من أعماق المحيط .. يجب أن تعيش في جو شاذ وخاص جداً ".
وكان فاتح المدرس قد ذكر لي في حوار خاص إنه " لا لون بلا ضوء " وما النور الذي أشار إليه في الحوارية السابقة سوى الصورة قبل أن تخرج من عتمتها اللامرئية.
قصيدة اللقطة
مثل نار في الهشيم انتشرت موجة شعرية عربية حديثة لا سيما في ثمانينيات القرن المنصرم أطلق عليها النقاد " قصيدة اللقطة " والتي استندت على مفهوم الصورة بشكل أساسي، فاعتبر أصحابها الوزن والقافية وسائر الإكسسورات الشعرية من مخلفات التراث، وشكل هذا النمط الحداثي إحدى نقاط التماس الهامة بين الشعر والتشكيل بتجسيده مفهوم الرؤية البصرية في الشعر، مقابل نمط حداثي آخر أطلق عليه الناقد محمد جمال باروت " القصيدة الشفوية "، ولكن قصيدة اللقطة اقتربت من حيث بنيتها الفنية من المشهد السينمائي والفوتوغرافي أكثر من اقترابها من لوحات الفن التشكيلي وطرائق تعبيره، ولقد ارتفع بعض الشعراء الحداثيين بهذه القصيدة إلى مستوى فني عال رغم بساطة عناصرها، مسترشدين في ذلك بما وصل إليه شعر " الهايكو " الياباني، ربما، أو بعض التجارب الشعرية الأوربية كما في تجربة جاك بريفير خصوصاً في ديوانه " كلمات ".
النثرية والتجريدية
بيد أن التقاطع الأشد تلاحماً في العلاقة بين فني الشعر والتشكيل تجسد في ذلك التشابه الأسلوبي بين قصيدة النثر واللوحة التجريدية، فكلتاهما انطلقتا من فلسفة جمالية متحررة من التقاليد، وكل منهما حرصت على الاستقلالية في التكوين الفني، والتقتا في قضايا الغموض والإيحاء والتكثيف والإدهاش ونسف العلاقات العادية وطبيعة علاقتهما مع التراث والبيئة من جهة ومع المتلقي من جهة أخرى، ولست أدري إن كان ثمة تفسير محدد لتزامن نشوء هذين الاتجاهين المتوازيين تقريباً، سوى الحياة المعاصرة بإفرازاتها التي قلبت طرائق الرؤية إلى الأشياء رأساً على عقب، وفتحت الآفاق أمام المخيلة الإبداعية على أنماط جديدة تلائم درجة الوعي الفني لدى كل من الشاعر والتشكيلي في أرقى كشوفاته وإشراقاته، ولكن هل هو محض صدفة أيضاً أن تتبعثر الكلمات والحروف على مساحات الورقة البيضاء في النثر مثلما تتبعثر الخطوط والألوان على قطعة القماش في التجريد مع الأخذ بعين الاعتبار الصورة التي تنطبع في مخيلة المتلقي بعد إنجاز العمل ؟ وهل كان إصدار الشاعر نزار قباني ديوانه " الرسم بالكلمات " إيذاناً ببدء مناخ جديد من العلاقة بين الشعر والتشكيل خصوصاً وأن قباني أشار ذات مرة إلى أنه بدأ في طفولته رساماً ثم تحول إلى فن الكلمة، وبوسعنا أن نستقرئ التشكيل الصوري في كل قصائده وحسبنا في النهاية تصور هذا العبارة:
" للحب رائحة
وليس بوسعها ألا تفوح مزارع الدراق ".
مراجع البحث: - " بيانات السوريالية " – أندريه بروتون – ترجمة: صلاح برمدا – وزارة الثقافة – دمشق – 1978.
- " فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها " – د. أميرة حلمي مطر – مكتبة الأسرة – القاهرة - 2003.
- " أراغون في مواجهة العصر " – د. فؤاد أبو منصور – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة الأولى – 1981.
- " الفن والإنسان " – د. عز الدين إسماعيل – مكتبة الأسرة – القاهرة – 2003 .
- " ترجمان الأشواق " – الشيخ الإمام محي الدين بن عربي – دار صادر – بيروت – 1966.
- " بائع التماثيل " – فاتح المدرس – دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع – دمشق – 2001.
- دمشق نزار قباني – نزار قباني – منشورات نزار قباني – بيروت – 1999.
|