أحمد عبد الحسين
http://aqwas.com/

أحمد عبد الحسينمن بين مقالات الرثاء التي كُتبت في الراحل رعد عبد القادر كانت مقالة الشاعر عباس بيضون هي الأقصر، وأراها الأبلغ أيضاً.  قال بيضون ان قصيدة رعد ديمقراطية. هو وصف غريب،  لكنه دقيق (سأتحدث عن دقة الوصف لاحقاً).
غرابة هذه الوصف لا تتأتى فحسب من عدم اعتيادنا مباشرة الحديث عن الشعر بمصطلحات السياسة، إنما أيضاً وبصورة أشدّ من التنافر الظاهر بين الموصوف والوصف، بين مجلى الفردانية والأنوية التي يمثلها الشعر أوضحَ تمثيل، والمفهوم ذي الحمولة الجمعية الذي تشتمل عليه الديمقراطية.
شعرٌ وديمقراطية: ثنائيّ ندر اجتماعهما معاً في ما يكتب بالعربية، ربما لأن مقاربة الشعر مع مفهوم آخر في عملية يراد منها إضاءة الشعر، تستلزم نحواً من الوضوح يحوزه هذا المفهومُ المعطوف على الشعر. وهذا الوضوح لا يمكن تصوره إلا آن يكون المفهوم ناجزاً، له حظٌ كبير من التداول، داخلاً في صلب الحياة الثقافية ومساهماً في تكوينها، وهي أوصاف لا تنطبق على الديمقراطية هنا، لأنها لم تمارَس أبداً في حياتنا، ولأنها خضعتْ وهي لما تزلْ في طورها النظريّ لدينا إلى تقلبات الشعار السياسيّ العربيّ الذي أفرغها من محتواها مراراً دون أن يصل بها إلى معطىً قابل للتطبيق، ثم ازدادتْ التباساً مع الوقائع السياسية المتلاحقة التي جعلت هذه الكلمة (الديمقراطية) من ضمن القاموس الذي خُيّل لبعضنا أنه ذخيرةُ حربٍ تشنها أميركا علينا.
وهكذا فان اللبس المساوق للديمقراطية جعلها أبعد ما يمكن عن أن تكون إضاءة لمفهوم آخر، فكيف إذا أريد لها أن تكون إضاءة لهذا الملتبس الوعر المنفلت من كل تعريف: الشعر؟


سؤال ـ مفتتح:

كيف تباشر الذاتُ صلتها بالعالم؟ وبأيّ توسط تتمّ هذه الصلة؟
سؤال هو المدخل الذي أراه كفيلاً بنزع صفة الاعتباط عن هذه الثنائية (شعر ـ ديموقراطية) إلى حين إجتلاء ما بينهما من تواشج قد لا يبدو الآن للعيان. وبإثارة السؤال نكون قد دخلنا على الموضوع من أوسع موارده وأكثرها عمومية، ذلك أن صلة الكائن الإنساني بالعالم مشتركٌ تندرج تحته سائر فعالياته،  بل أن هذه الصلة وطرق تأديتها ونوعية وسائطها التي تتم بها يمكن أن تكون الميسم المميز لطبيعة الحضارات الإنسانية.
يحيلنا السؤال العموميّ إلى معطى ثابتٍ هو الذي ميّز على الدوام هذا الكائن المسمى إنساناً عن سائر الكائنات سواه، ألا وهو خاصيّة اجتراح المعنى وتداوله، فالإنسان كائنُ المعنى، وهو في عيشه وكلامه وفعله ومشاعره لا يكفّ عن استحداث معانٍ وفهمها وبسطها وقبضها والتنويع عليها وتأويلها وإشاعتها، تبنّيها والدفاع عنها، أو رفضها والوقوف ضدّها.  وهو في سعيه هذا يستخدم المعنى الذي ابتدعه أداةً لفهم العالم في عين الوقت الذي يجعل منه غاية جهده ومنتهى كدحه، إنه وسيلته لكنه ينتهي إلى أن يصبح هدفاً ومبتغى، آية ذلك ان الصراعات الكبرى التي شهدها تأريخ كوكبنا كانت على الدوام محكومة بالرغبة في حيازة استحقاق معنى ما، ديني أو دنيويّ، وما مفهوم الهويّة الذي تجيشتْ من أجله جيوش وخيضت باسمه حروب كبرى إلا الاسم الآخر لمعنى ما رأت جماعة إنسانية فيه أنه الناظم لوجودها والباعث على منحها استحقاقاً للعيش بامتياز.
العيش بامتياز: ذلك أوّل وأجلى ما يرومه الإنسان من بثّ معانيه، إذْ لا يكفي العيش (مطلق العيش) لترسيخ إنسانية الإنسان بوصفه الكائن الوحيد المأخوذ بإثبات استحقاقه لحياته وتأكيد جدارته بصنعها كما يرتأي هو، ولهذا فهو الكائن الوحيد الحرّ، شرط أن لا تُفهم الحرية هنا بحدّها السالب (أي الانعتاق والتخلّي) فحسب، وإنما الحرية منظوراً إليها بشرطها الموجَب الذي يجعلها استزادة، نموّاً وتراكماً. ذاك أن تعريف الحرية بالسلب (أيْ الانعتاق من ..) لهو شأنٌ أدنى رتبةً من أن يكون حدّاً للإنسان مادام هذا التعريف يصدق على الحريّة التي توصف بها عادة مخلوقات أخرى سواه، إنها حريّة بريّة تخطاها الإنسان مذ أنجز خطوته العظمى التي نقلته مما هو طبيعيّ إلى الثقافيّ، من التخلّي إلى التجلّي، أو قل من استفراغ وسعه للسيطرة على ما حوله إلى توجيه طاقاته لفهمه وتحويله بالتالي إلى موضوع أي إلى مادة لإنشاء معنى.     
يكفي للدلالة على ما بين مفهومي الحرية هذين من بون شاسع استذكار الفهم العربيّ القديم لها، ذلك الذي عبّر عنه قولهم ( نحن العرب لُقاحٌ أحرار لا نَملِك ولا نُملَك) أو القول المأثور (ألا حرٌّ يَدَعُ هذه اللُماظَةَ "أي الدنيا" لأهلها؟)? فالحرّ، في هذا الفهم البدئيّ هو من لا يَملِك، أي المتخلي، وهو الذي يدعُ شيئاً ما ويزهد فيه. إن حريته ـ والحال هذه ـ متعديّة غير لازمة لأنه (حرّ من ..)، حريته مناط تركه وتخلّيه، ذلك هو قيدها الذي جعل منها في مأثورنا القديم والحديث على السواء مجرد عِتْقٍ وانعتاق فحسب، إلى الحدّ الذي صار فيه المُلك والحُكم (لا المحكومية والاسترقاق فقط) قيداً وطوقاً مانعاً عن التحرر، مما حدا بالشريف الرضيّ إلى مخاطبة الخليفة العباسيّ بقوله:
رفقاً أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرّقُ
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوّقُ.
وفي عصرنا العربيّ الحديث فُهمتْ الحرية أيضاً بوصفها انعتاقاً من شِراك الآخر، من الاستعمار أولاً ثم المؤامرات التي كانت دائماً تحاك ضدّنا دون خلق الله لسبب نجهله. ولأن الحياكة لم تتوقف فلم نشهد تبدلاً في فهمنا للحرية وبالتالي لم نتعرّف إلا على حريّة تشبه تلك التي يطالب بها الرقيق، حرية الانعتاق لا الانتماء، حرية لا تمارَس بل ينادى عليها ويطالَب بها ويهتف لها الهاتفون، وتتوسط شعارين لم يتحققا ولن يتحققا: الوحدة والاشتراكية. وستظل أوطان كثيرة تطالب بحريّة الاختلاف الوحشيّ هذه مادام هنالك نَوْلٌ يدور، وحائكو مؤامرات يشتغلون عليه بلا كلل، وقادة أفذاذ يتصدّون لهم بحزم!

الحريّة الوحشية:

لكنّ نشوء الدولة الحديثة كان مؤذناً بجعل هذا الفهم البدويّ للحرية مجرد معطى (طبيعيّ) على الفرد تجاوزه إنْ هو أراد الوصول إلى جدارته في العيش بامتياز، أي العيش داخل المتحد المسمى دولة؛ عليه تخطي الفهم الأول للحرية إنْ هو رغب بالانخراط في (فنّ العيش)، هذا الذي تدخل الحرية في نسيجه المكوّن له. لا  بل ان هذا الانصياع من قبل الفرد لصوت المجموع أصبح الفيصل الذي يفرّق (الكائنَ المتوحش) عن (الإنسان المدنيّ) كما عبر جان جاك روسو عن ذلك بقوله: (يعيش المتوحش في داخل نفسه، أما الإنسان المدنيّ فيعيش دائماً في خارج نفسه، لا يعيش المدنيّ إلا في داخل آراء الآخرين).
هكذا انتهى مفهوم بريّ رأى في الحاكمية والمحكومية ضديّن للحرية وممارستها، ليحلّ فهم أعمق يرى أن الحاكم والمحكوم يمارسان معاً فعلاً حراً في فن العيش المدنيّ هذا، الأمر الذي عُبّر عنه بالقول البليغ التالي: (في المدينة وحدها يأمر الرجالُ الأحرارُ الرجالَ الأحرارَ).
وهذا المفهوم ـ كما أصبح واضحاً الآن ـ ما كان له أن يتم إلا في ظلّ كشوفات الفلسفة السياسية وبفضلها، بل هو تجلّ سياسيّ في الأساس، مادامت السياسة ـ وفقاً لأقدم تعاريفها ـ هي النشاط الذي يؤول في آخر الأمر إلى سيطرة الكليّ، أو هي الجهد الذي تتقوى به الجملةُ المشتملة على أتباعٍ ومتبوعين هما الطرفان المكونان لمجتمع الأحرار.
ليست الحرية إذاً صنو التفرّد ولا هي الوجه الآخر لّلاإنتماء أو الخروج من الحشد، فتلك موارد قد تكون نتاج سؤال الفرد في عزلته، سؤاله عن ماهيته في المستوى الفوريّ الآنيّ الذي يتيح له التكلّم عن ذاتٍ غفلٍ هي في حقيقة الأمر مجرد استيهامٍ لا وجود مستقلاً له، فالتوحّد مع المصير والمآل الفرديّ يظلّ على الدوام محكوماً لشبكة علاقات تجعل من السؤال محايثاً لا مفارقاً، وآلا أفضى سؤال الماهية إلى اختلاف وحشيّ، وأصبح الخروج ذا طابع بريّ، يغدو رحلة أنكيدوية معكوسة من الثقافة إلى التوحش، نكوصاً من الإنسان إلى الكائن الحيّ، ونزوحاً من التأهل والأهلين إلى مصاحبة السِيْدِ العملّس، نظير ما أراده الشنفرى في لاميته الشهيرة:
ولي دونكم أهلون سيدٌ عملّسٌ ! الخ

إن سؤال الماهيّة لدى الإنسان لم يعد لازماً بعدُ، بل أصبح لا ينفكّ عن التعدّي، يتنافذ مع شبكة علاقات وماهيات أخرى، بحيث غدتْ شبكة العلاقات هذه هي أرضه، استوطنها سؤالُ الفرد عن وجوده الذي لم يعد وجودَ ذاتٍ وتنغلق الجملة، بل هو وجود ذاتٍ في محيط ذواتٍ تشترك جميعها في علاقة ما، وهذه العلاقة ـ في النسخة المدنية التي ولدت مع الدولة ـ هي المواطنة.
ليس الأمر إعلاناً لنهاية مفهوم الإنسان ـ الفرد، بل وضعه في شرطه، في أفقه الذي لا فكاك له عنه، أي كونه مواطناً.
وإذاً فالحريّة لا يمكن فهمها بمعزل عن المواطنة، وكلّ إنسانٍ حرٍّ هو بالضرورة مواطن.
لا تصبح الحرية ممكنة إلا إذا توطّنتْ، إلا إذا وجدت الفضاء الذي تباشر فيه عملها وحراكها، نموّاً أو ضموراً، على يد مواطنين.


نصوص العقيدة:

بناء على ما تقدّم، ليست السياسة حقلاً ثقافياً يوازي أو يجاور الحقول الثقافية الأخرى، إنها علاقة كل فرد بالعالم، ولم يعد السؤال العربيّ التقليديّ ( تتدخل في السياسة أم لا تتدخل؟) صالحاً، بل غدا السؤال الآن (تحسن التدخل أم لا؟)، فمادمنا لا نني نبحث على الدوام عن الصلة التي تؤسس لنا استحقاقنا وأهليتنا لأن نكون كائنات معنى فنحن في السياسة، بل ان كل دلالاتنا التي ننشئها، كل الثورات والانفلاتات التي لها طابع ثقافيّ لا تلبث أن تستقرّ هادئة في قرارة هذا المعنى المشترك الذي ليس لسواه القدرة على تجسير الهوّة بيني والعالم.
ردم المسافة بين الذات والخارج لا يتم، كما أشرنا، إلا باستحداث معنى ما، وهذا الفعل هو جوهر كل نشاط إنساني ( ومنه بالتأكيد الأنشطة الثقافية)، لكننا ونحن نباشر صناعة المعنى لن يُقيّض لنا ذلك إلا بوجود الدالّ الكليّ الذي تتوحد فيه كل الدلالات، لن نستطيع النصّ على معنانا دون افتراض انه قابل للتداول خارجاً، ودون أن تكون له نحو صلة ما بمنظومة دلالات يشترك فيها العدد الأغلب من الأفراد، فليس المعنى المقال في نصّ ما، هو نتاج حريّة الذات المنعتقة من رقّ الآخرين، وإنما نتاج ذات لها حريّة استشعار المعاني وبثها وإشاعتها وفقاً لاستراتيجية جماعية بل مجتمعيّة.
ذلك ان حرية الانعتاق مآلها الوصول بنا إلى الضدّ مما تدّعيه، إلى منتهى الانغلاق على الذات، والى جعلنا نخوض في بحور هوامات قد تكون مؤهلة لاستحداث نصوص فوريّة تريد تسجيل ما أنا عليه الآن جوّانياً بصرف النظر عن أرضي التي أقف عليها وإغفال السؤال عمّن يتوجه إليه هذا النصّ الفوريّ الذي يدّعي اكتفاءه بذاته. تلك نصوص لا تنتج المعاني (إذا تذكرنا ان المعنى هو صلة، والصلة تفترض حدَّيْ الذات والعالم).
إن معظم النصوص المكتوبة تحت ضغط هاجس حرية العِتْق، انتهت إلى أن تكون نصوصاً عقائدية بامتياز، إذ العقيدة ـ على النقيض من النصّ القائل بمعنى هو علاقة واتصال ـ  ليست سوى إعلانٍ عن أحقيّة الذات في قول ما تراه دفعة واحدة وبخلاصات مفهومية لا ترى منبتها في ما يحدث وان كانت تدعي القدرة على تفسيره، ولا تتوجه إلى آخرين بالمشاركة في واقع، بل هي دعوة للانخراط في حلم يقظة عميم لا ينتهي ولا ينفد لأنه يحوز على فائض قوّة غير معدة للانكسار لأنها ببساطة غير معدة للاختبار، هي فائض قوّة الذات التي لا تتخارج ولا تتنافذ، خذ مثلاً الوثوقية التي تتخلل عقيدة العروبيين اليوم وتسم نصوصهم " نداءات صدام حسين قبل استسلامه، أحاديث معن بشور وكتابات باقر الصرّاف للمثال فقط" ? إنها ذات الثقة اليقينية التي طالعتنا بها نصوص ميشال عفلق قبل نصف قرن، لم تُخدش إلى الآن ولم يتمكن الزمن ولا الوقائع من افتضاض بكارتها ولم يلحق صفاءها شوبُ كدورةٍ، لم يحدث كلّ هذا إلا لسبب واحد بسيط هو أن هذه النصوص لم تكن متوجهة إلى أحد وان قالتْ بالأمة، بل إنها نصوص لا أحد بسبب هذا التوجّه، أي لأنها نصوص الأمة والجماهير العريضة، حيث الأمة (كما في أقاويل القوميين) النقيض التامّ للوطن، وحيث الجماهير الضدّ النوعيّ للمواطن. إنّ فكراً يكون وطنه أمةً ومواطنوه جماهيرَ لا يمكن أن ينتهي أو يلحق به الفساد لأنه ما من شيء سيعتري الأمة ولا الجماهير إلى أبد الدهر، إذ لا وجود لهما في الحقيقة.
النصّ الشبيه بالمعنى، كنصوص العقائد هاته، يستعير كل آليات نصوص المعنى لكنه يوردها في مورد آخر، ليغدو كل شيء مشتبها بها ومشبّهاً، فأمة العربيّ ليست وطناً وان أشبهته، والجماهير أشباه مواطنين في شبه وطن، كما ان قوّة الكلمات التي في النصّ ذاته تشبه قوّة المعاني مع فارق أساسيّ وجوهريّ يتمثل في أنها لا تُعنى بفتح كوى على المايحدث بل تصل الذات بالذات في دورة أبدية، لتظل عصية على الانهدام إلى الأبد. فمن الوارد أن يمرّ ألف عام آخر وتبقى أمة العربيّ واحدة لا تتجزأ، وتظل رسالتها خالدة، لأن المعاني وحدها هي التي يعترضها التبدّل، أما أقوال الذات الخالصة والثبوتية التي تنتج أشباهاً فهي مؤبدة إلى ما لا نهاية.
والآن... كيف يمكن أن يُكسر هذا النطاق الصلب لنصوص الانعتاق من العالم، نصوص الانغماس في الذات التي لا تريد رؤية نفسها إلا بعد استبعاد الخارج؟ 
لن يحدث هذا إلا بالتوكيد على أن كل نصّ، كلّ قول ممكن، إنما يراد به إنشاء معنى يردم الهوّة بيني وهذا الخارج، لئلا يكون الأفق الذي أحيا فيه نقيضاً للذات ينبغي التحرر والإنعتاق منه، بل مسافة يتم التحرر فيها لا منها، وآنذاك لا مناص من ارتكاب السياسيّ والوقوع في الترسيمة الكليّة التي تجعلني مواطناً وتجعل من الخارج وطناً، وطن الذات التي لا تكفّ عن المعنى، المعنى الذي هو لاشيء إلا هذه العلاقة الحرّة بيني وبين آخرين ـ مواطنين.
النصوص الملأ بأشباه المعاني هي نصوص ذاتية بامتياز، على ان يُفهم من الذاتية هنا التحصّن عن العالم، الاحتجاب عن الآخر، والوقوف ضداً للخارج. إنها نصوص الذات الحرّة المنعتقة من ربقة السوى، وبالتالي فهي منعتقة أيضاً من شبكة دلالاته. ان لها علاقاتها الداخلية الخاصة بها التي تتفاعل فيها مفاهيم تدور في أبهاء النصّ. جهد لفظي أو كتابيّ لا يُستدعى فيه الخارج ولا يتم الانفتاح عليه، يكفي للمثقف القومي مثلاً أن يشتغل على عدّته اللفظية التقليدية (التي هي قاموسه) مستحضراً الأمة والجماهير وقوى الصمود ليكون قد أنجز مهمته على أكمل وجه ومَنَحَنا نصاً ذا منطق متماسك داخلياً، لكنه لا يستطيع التستّر على انحطاطه وتهافته أمام هذا الامتحان: أن تكون لشبكة الدلالات الواقعية فيه حصةٌ ما لكي يكون ذا معنى، أن يكون حظّه من الذاتية قد حضر فيه الخارج ولو باعتباره أفقاً، مساحةً لاختبار أهلية هذا النصّ في رفدِ منظومة الدلالات بمعنى. ثم، أخيراً، التساؤل عن أهمية هذا النصّ في التأثير على أنماط التداول، أيْ على هذه الشراكة المفهومية التي تُخلَق وفقاً لها قيم مهيمنة وتنزاح قيم أخرى.

سياسة عدم التدخل في السياسة:

إرادة المعنى جوهر كلّ فعلّ إنسانيّ وغايته. لكنّ المعنى لا يتقوّم إلا بالمجموع، لأنه لا ينفكّ عن صفة التداول، وعليه فان إرادة المعنى تجد أشمل تجلٍّ لها في السياسة التي يمكن أن يقال عنها أنها الفضاء الذي يدور في أبهائه كل فعل إنساني ممكن، فنحن لا نسكن العالم إلا سياسياً، ومن المحال تصوّر قدرتنا على ابتكار نمط للعيش أو نمط للتعبير إلا حين يكون داخلاً في هذا الملاك الذي يجعل من عيشنا وتعبيرنا علامتين تخصاننا في خضم هذا المحيط الأكبر من العلامات والرموز.
  ولهذا لا يكفّ المرء عن الاندهاش من استمرار الأعم الأغلب من المثقفين (الشعراء والفنانين خاصة) في تبنّي خيار (عدم التدخل) في الشأن السياسيّ، إنْ لم يكن من خلال  تصريحهم فبممارساتهم ومواقفهم التي تشي بذلك. ربما كان دافعهم إلى هذا الخيار الفهم التقليديّ الذي لا يرى في السياسة إلا تحزباً محضاً، إلا تخندقاً في هذا الطرف ضد أطراف أخرى، وبالتأكيد فان تأريخ ثقافتنا العراقية له مدخلية كبرى في صوغ هذا الفهم، فعلى الدوام كانت السياسة تُفهم بوصفها ضدّاً لما هو ثقافيّ، إذ الثقافة لدينا لم تبارح معناها الأخص الذي يجعلها مجرد إنتاج عمل إبداعي (أدبيّ أو فنيّ)، ولأن الفنّ صنو الحرية كما يقال عادة، ولأن الحرية في نسختها العربية (العراقية تحديداً) هي حرية انعتاق وتخلِّ، فكان لزاماً على الشاعر أو الفنان أن يتخلّى وينعتق من (الفخّ) المسمى سياسة، ليظلّ هائماً في براري حريته الشاسعة.
  للشعر العراقيّ القسط الأوفر من تبعات هذا الفهم ـ الوهم، فمنذ انطلاق مسيرة الحداثة الشعرية استحكمت رؤيةٌ غرائبية اختزلت تعاطي الشاعر مع السياسة إلى سبيلين لا ثالث لهما: الانتماء أو التخلّي، التحزّب أو ترك السياسة جملة، حشر البيانات الحزبية في القصيدة أو دفع القصيدة إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وأشيعت هذه الرؤية حدّ انها صارت كأنها الأمر الوحيد المتاح للشاعر. يكفي أن ننعم النظر في أسماء أجيال العراق الشعرية (منذ الروّاد وصولاً إلى السبعينيين) لنرى انها انقسمت إلى متحزبين جاءوا بالحزب كله إلى قصيدتهم، وأحرار منعتقين جرجروا القصيدة الى الضدّ الكامل لجوهر الفعل الثقافيّ بوصفه إنتاج معنى، إمعانا في تأكيد افتراقهم عن الحشد (الذي هو سياسيّ بالضرورة).
كان هناك البياتي الذي قال عنه السيّاب ان قصائده افتتاحيات صحف (كم الوصف دقيق):

ما كان في قلوبكم ينبع من أعماق
شعوبنا الراسخة الأعراق
وأرضنا الطيبة الخضراء
فلتلعنوا الظلام
وصانعي المأساة والآلام
ولتمسحوا الدموع
وتوقدوا الشموع
في وحشة الطريق للإنسان

أو قصيدته الموجهة للبعثيين والملأى بوحشية المتحزبين التقليدية:
سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر !!
تلك القصيدة التي يمكن أن تنسبها الى (الشاعر) علي حسن المجيد دون خشية من تأنيب ضمير.
أو قصيدته الأخرى التي منها:

شعبي العظيمْ
إني وهبتك كل ما في عالمي الأرضيّ
من حبّ عميمْ
حبي لأطفالي
وحبي للعصافير الصغيرة و النجوم ْ!
 
إنّ شعراً كهذا ليس للمخيلة فيه من عمل كما هو واضح ولا يستند على مرجعية معرفية، بل قد يكون مرجعه الوحيد هو ما دار في آخر اجتماع حزبي حضره الشاعر مثلاً، شأنه شأن الشاعر الذي عنون مجموعة شعرية له بهذا العنوان اللافت (وردة لعيون البعثية ليلى)، أو ذلك الذي أهدى قصيدته إلى (النبيّ م ع)، وإذا تبادر إلى ذهنك ان (م ع) هو مختصر اسم الرسول (محمد بن عبد الله) فأنت مخطئ طبعاً، إذ انه اختصار لاسم ميشيل عفلق لا غير. ولا يختلف عن هؤلاء كثيراً ذلك الشاعر الذي يتغنى بالثلج الذي كان يهمي على ساحات موسكو، لكنه كان ثلجاً أحمر أيام السبعينات، يا للسحر، كان ذلك قبل أن يتحول إلى أبيض بقرار من الرفيق غورباتشوف.

فنّ الخداع والأكاذيب:

قصائد دخلت على السياسيّ من باب العقيدة، حيث ثبت لدى شعرائنا والى اليوم أن الحزب هو اسم آخر لكل فعل سياسيّ، ولا يمكن مباشرة السياسة إلا بالتحزب. الغريب في الأمر ان هذا اليقين الجاعل من السياسة تحزباً لا غير، لم يكن يقين المتحزبين فقط، لم يكن الفهم الذي تبناه البياتي وسعدي يوسف وغزاي الطائي وطراد الكبيسي فحسب، بل كان أيضاً وعلى نفس الشدّة من الوثوق، يقينَ أولئك الذين ادعوا على الدوام انهم من جنس حرّ (لقاح لا يملك ولا يُملك)، أي أولئك الذين حجزتهم حريتهم عن الانخراط في الشأن السياسيّ، حدّ أنهم برروا عداءهم المتأصل لما هو سياسيّ بهذا اليقين القاضي بعدم رغبتهم في التحزب. ونقرأ الآن (الآن بعد زوال الخوف، لئلا يقولنّ أحد انه قولُ تقيّة) حواراً مع الشاعر خز عل الماجدي يعيد فيه ذات الأنشودة التي تقال دون تدبّر والتي لا ترى في خوض الشأن السياسيّ سوى الدخول في حزب، ففي جوابه على سؤال هذا نصّه: (كيف تنظر إلى الواقع السياسي الجديد في العراق وما هي مساهمتك فيه؟) قال الشاعر الأستاذ خز عل الماجدي:
 (أنا بطبيعتي أكره العمل السياسي وأحب العمل الثقافي، لقد امتلأت ثقافة ووعياً لدرجة أني لا أتخيل نفسي تابعاً لبرنامج سياسي مهما كان هذا منذ زمن بعيد فلم يغوني أي حزب سياسي لأنني ببساطة لا أحب السياسة وأعتقد أنها فن الخداع والأكاذيب.)
ثم أضاف:
(لم يفتت روحي، سابقاً، حزب شمولي واحد ولن تفتته أحزاب ديمقراطية متعددة لأن الروح والشعر أرفع من كل الأحزاب السياسية في التاريخ كله وليس في العراق الحديث فقط.)
(ثم إني أرى أن الثقافة والحضارة أسبق من السياسة وأهم، والمفروض أن هدف الأحزاب السياسية ليس سياسياً بل هو هدف حضاري وعلى أدوات السياسة أن تذوب في هذا الهدف.
لا يمكنني قبول دور هامشي للثقافة أمام السياسة بل أرى ضرورة أن تتقدم الثقافة على السياسة وأن تقودها وتكون مناراً لها.
لقد حصنت نفسي ضد ألاعيب السياسة والتجارة ولم أكن ولن أكون تابعاً لأحد. وما يهمني في العراق حصراً حضارة العراق لا حركاته السياسية. أنا، يا صديقي، خادم الشعر وسادنه إلى الأبد.)

عمدت إلى إيراد جواب الأستاذ الشاعر الماجدي بطوله لأنه مثال شديد الوضوح على هذا الهاجس الذي يجعل من السياسة مفهوماً مساوقاً للتحزب، كما ان في الجواب تأكيداً على ان الحرية التي يرومها شعراؤنا هي الحرية التي أشرتُ إليها آنفاً ومؤداها العتق من عبودية الداخل للخارج، التحرر من أغلال السوى، بل ان خزعل أعطانا هنا دليلاً ناصعاً على ان السياسة كلها قوّة تهدد الروح بالتفتت، والتهديد لا يأتي من السياسة بما هي ممارسة ديكتاتورية فحسب: (الحزب الواحد لم يفتت روحي) وإنما السياسة بإطلاقها تشكّل تهديداً للروح أيضاً، حتى لو جاءت على شكل ممارسة ديموقراطية: (والأحزاب المتعددة لن تفتت روحي أيضاً).
الشاعر الخائف من تفتت روحه في مجاهل العالم، لا غرو ان صار شعره شعر عجز عن الانخراط. شعر حريّة، لكن بمعناها النكوصيّ، شعر الهجرة المضادة مما هو ثقافيّ إلى البريّ.

أدونيس: صورة تذكارية مع العملّس:

ليس عسيراً تبيّن ان هذا المدّ الشعري الحاثي يجد له أبوة في الجهد الأدونيسيّ تنظيراً وشعراً، بل ان أعراف الكتابة الشعرية التي هيمنت في الثمانينات (لدى السبعينيين والثمانينيين على السواء) هي تنويع على شرعة أدونيسية محض، مع استثناء قلة قليلة من الشعراء الذين نجوا بنصوصهم عن الوقوع في المهوى الأدونيسيّ الذي مازال مفتوحاً بانتظار ضحايا جدد.
أدونيس هو من قعّد للسرانيّة وأشهرها باعتبارها خطة عمل شعرية لتتلقفها من بعده الحشود، وهو بمزاوجة قسرية بين فعل الكشف الصوفيّ والكتابة الشعرية فتح الباب على مصراعيه لضروب من الأداء الشكلانيّ غير المضطر إلى التقشّر عن معنى أو التفتح عن دلالة، اللهم إلا تلك الثيمة التي تسم الأعم الأغلب من نصوص الحداثة الشعرية، أعني إشهار الذات المفردة الغفل، عدم القدرة على ملامسة الواقعة، الخوف من هدر الذات الصمدية في مجاهل السوى.
ففي تنظيره لم يجد أدونيس ما يعضد رؤاه القائلة بالتمركز حول الذات (التي هي نرجس الزمان) سوى أقاويل المتصوفة، وهي، كما فصلنا فيها القول في الجزء الأول من المقال، ذات مخارج طقسية، إذا انتزعت من سياقها الطقسي والذوقي هذا تغدو محض لعب لا طائل تحته، وهذا اللعب غير المثمر هو محصلة ما نخرج به من قراءة كثير من شعرائنا العراقيين.
خلط أدونيس أقاويل الصوفية هاته بنثار مستلّ من بيانات السورياليين ونصوصهم ليصل إلى نتيجة مقررة سلفاً قوامها ان على الشاعر الانغماس في نطاق ذاته والنهل من معينها وضرب طوق محكم على كل ما هو خارجها، لأن بروق الشعر بروق جوّانية قدرها أن تضيء عتمات الذات في رحلة مدارها هذه الذات التي لابدّ ـ والحالة هذه ـ أن تغدو لا مركز العالم بل العالم كله.
بيقين وحماس شديدين يعلن أدونيس ان الشاعر لا يفعل شيئاً سوى (نقل تجربة الباطن الخفيّ التي هي تجربة متعالية حتماً وخارج حدود الطاقة اللغوية) من أجل كتابة تحوّلية (هي أمواج من الصور الاشراقية، التي لا تخضع لمعايير العقل والمنطق، والتي يتحول فيها الواقع نفسه إلى حلم).  ولن يتم للشاعر ذلك إلا (بانسحابه إلى داخل ذاته)، ولا ينسى أدونيس هنا أن يتسلّح بالعدّة الصوفية (فهذا أوانها) للتأكيد على الاكتفاء بالذات بديلاً عن العالم، مستشهداً بابن عربي (علم الأسرار هو العلم الذي فوق طور العقل" وهو " العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات).  وعليه فان شرط ظهور البروق الاشراقية هو الانقطاع عن العالم ليصبح الشاعر أكثر قدرة على اكتناه الوجود!
إن عزل النص الصوفي عن سياقه الطقسيّ أفضى بأدونيس إلى خيار الحرية المتوحشة التي لم يقيّض لنا إلى الآن مساءلتها والتثبت من أهليتها في بسط سلطانها على لسان كل متكلم بالحرية وداع إليها من شعراء ومثقفين، حرية المتصوف التي هي حرية ترك العالم وما فيه لمن فيه والسكن في ذات (انطوى فيها العالم الأكبر). تلك هي الحرية التي جعلت شاعراً مغرقاً في القدم كالشنفرى يؤاخي العملّس، وآخر كالشريف الرضيّ يعيب على الخليفة انه مقيّد بأغلال الخلافة، وجعلت أدونيس يصرخ في الناس : أنتم وسخ على زجاج نوافذي ويجب أن أمحوكم !، وهي التي أملت على خزعل الماجدي أن يبتعد عن السياسة (التي هي الأحزاب في فهمه) لئلا تتفتت روحه.
ان روح الشاعر التي صانتها الحرية البريّة من الانهدام ستغدو قطب رحى الوجود، الينبوع الذي لا ينضب، والخزائن التي لا تنفد، وهي اللوح المحفوظ الذي منه يستلّ الشاعر كلامه:
أنا العالم مكتوبا
أنا المعنى
أنا الموت
أنا سماء وأتكلم لغة الأرض،
أنا التموج،
أنا النور،
أنا الأشكال كلها،
أنا الداعية والحجة.

أنا الموزع بين زحل والزهرة وعطارد،
أنا الصوت يرتجل الفضاء،
أنا الحجر يتطوح وقراره الموج،
أنا الصارية ولا شيء يعلوني.

هذه الأنا (التي يتبعها أدونيس هنا بهذر الدراويش) ليست أنا الحلاج (أنا الحقّ)، لأن أنا الحقّ (الذي هو الذات الإلهية أو تجلياتها) لم تكُ منفكة أبداً عن مبدأ أبديّ هو سنة من سنن الكون أصبح داخلاً في صلب القانون (الديني والوضعيّ على السواء) عنيت به مبدأ اجتماعية الحقّ. فكما لا يمكن للحقّ أن يؤخذ هكذا دون وجهه الذي يلي الخلق، من العسير المضيّ مع شاعر يعلن عن ذاته التي تتقذر من ملامسة العالم (الوسخ الواجب محوه)، والاكتفاء منه باستعارة صرخة الصوفيّ الصادقة التي عزلها الشاعر بتلفيق مضحك عن سياقها الاجتماعيّ، ذلك السياق الذي جعل من الحق رحلة إلى الخلق وحتّم على الصوفيّ أن يمارس معراجه دنيوياً، فابتدأ ثائراً (أيْ سياسياً) ثم انتهى شهيداً مصلوباً مقطّع الأوصال.  
لكنّ شعراء الحداثة العربية اكتفوا من كلّ معرفة بشكلانيتها، بالإشهار الذي يذكّر بأطياف المعاني لا بالمعاني ذاتها، ولهذا لم تكن هذه الحداثة منطقية أو عقلانية، ولم تنتج معرفة، ولم تحرّض سائر الحقول الثقافية الأخرى على التحديث، لأن حداثتنا ، كما لاحظ عبد الله الغذامي ببراعة، تحتقر المعنى وتمجد اللفظ:
(نجد عند أدونيس عداء خاصا، وهو عداء نسقي، لكل ما هو منطقي وعقلاني، فالحداثة عنده لا منطقية ولا عقلانية، وهي حداثة في الشكل، وهو يصر على شكلانية الحداثة ولفظيتها، مع عزوف واحتقار للمعنى، وتمجيد للفظ)
وأيضاً:
(والنص الحداثي نص سديمي، حسب وصف أدونيس له، وهو عبثي، ومناف للمنطقي، يقوم على انفصام بين أدوات التعبير وما يراد التعبير عنه، وهو ذاتي ولغته انفعالية غير عقلية ولا علمية).

وللدلالة على تبنّي أدونيس لخيار الحريّة الوحشية أجد من الطريف هنا الاستشهاد بهذه الصورة الكاريكاتيريّة للهروب الأدونيسيّ التحرري الذي جعله يلتحق بالشنفرى مؤاخياً كائنات لا تختلف كثيراً عن العملّس:
أشردُ في مغاور الكبريتْ
أعانق الأسرار
في خيمة البخور
في أظافر العفريتْ!!

الحقّ:

الأسس ذاتها التي حكمت تنظير أدونيس للشعر وأسهمت في تلوين نتاجه الشعريّ بضروب من السرانية وانتفاخ الذات التي لا تريد الكشف عن خبراتها، هي ذات الأسس التي ابتنى عليها الشاعر خزعل الماجدي تنظيره للشعر، وقد أوردنا في الجزء الأول من المقال نتفاً من بيانات خزعل الميتا لغوية، وهنا سنورد بعضاً مما جاء في مقال له عن الشعر (الغنوصيّ) الذي يشير به الى نمط في الكتابة الشعرية تدخل في ملاكها تجربته الشعرية هو بالذات.
وأجد لزاماً عليّ الإشارة الى أني إذ أتناول تجربة الشاعر الأستاذ خزعل الماجدي بالدراسة والفحص فلأنه الأنشط بين أقرانه، والأكثر كشفاً عن تجربته من خلال التنظير، والأشد انهماماً من بينهم بالدفاع عن مشروعه الشعريّ، كما ان له التأثير الأوفر على كثير من الشعراء الذين جاءوا بعده. لهذا كله فان تفحص تجربته يصلح أن يكون مدخلاً لتفحّص طريقة أداء أصبحت شائعة في المشهد الشعريّ العراقيّ منذ منتصف الثمانينات والى اليوم.
   لا يخرج خزعل كثيراً (في وصفه للشعر الغنوصيّ) عن الخارطة التي وضعها أدونيس لكتابته (التحويلية)، فهي قائمة لدى الاثنين على ميّزات أبرزها:
- إدعاء امتلاك جوهر الشعر وحقيقته: (شعراء الغنوص، كما نرى هم الأقدر على الوصول إلى جوهر الشعر وحقيقته فهو يملأ قلوبَهم تماماً).
- الابتعاد عن الجماهير، يزيد عليه خزعل هنا الابتعاد عن الأدباء أيضاً:( وهم شعراء الذوقُ الخاصُّ الذين لا يأبهون كثيراً بمطالب الجماهير ولا بمطالب الأدباء).
- عدم الرغبة في التعبير عن حاضر ولا الكشف عن واقعة:( ولا يهمهم إن هم عبروا عن عصرهم أم لم يعبروا).
 - الشعر وحيٌ وإلهام وبرق وإشراق وهو ضوء الحقيقة الخاطف، وذلك لا يتمّ إلا بانسحاب الشاعر داخل ذاته، يقول خزعل: (النصّ الغنوصي موشّىً بالأمواج الباطنية وتزيّنه بروق العرفان التي تفصح عن حقائق سرّية وخفيّة).
وهكذا فإنّ الشاعر الأدونيسيّ (في نسخته العراقية التي كتبها الماجدي) شاعر ملهم، كراهيته للجماهير مستمدة من كراهيته للمعنى المتداول، هو نسيج ذاته، شاعر ضرورة، كتابته وحيٌ يتلقاه، متجاوزٌ للحاضر، أناه مرتكز الكون وعليها تدور أفلاك السوى، الحقيقة تحت لسانه وهي ليست متاحة لغيره رغم أنهما قد يشتركان بذات التجربة، ما يكتبه يصنّف خارج الأدب لأن له طابعاً نبويّاً، هو لغم الحضارة لدى أدونيس، وسادن الشعر لدى خزعل، وظيفته أن يقطع الجسور مع الآخرين، عصيّ على الفهم، ملتبس، ودائماً هو محطّ سوء فهم العامّة، يكره الاشتراك والتواصل، له روح تبلغ من الرهافة حدّ انها تنكسر وتتفتت إذا لامست الحاضر أو حايثت ما يحدث أو انشغلت بالواقعة، يضرب طوقاً على ذاته يجعل العالم ترسيمةَ اختلافٍ وحشيّ مكوّن من هذين الأقنومين: أنا والسوى. والسوى ليس إلا الحشد، أي الجماهير (وهي لفظة استعارها خزعل من أدب العقائد السياسيّة لأنه لا يرى الآخر ذاتاً بل كتلةً بشريّة، شأنه شأن خطاب سياسيّ سلطويّ)، مستغرق في الجمال الذي هو وقوف أبديّ أمام مرآة الذات، روحه ضاجة بالحقّ، الحقّ الذي لا يشبه بأي حال من الأحوال الحقّ في الفهم العرفانيّ الذي يدعية خزعل وأدونيس معاً، ذاك أن حقّ العارف له وجهة تباشر الخلق، وهو سفر من أسفار العرفاء الأربعة لا مجال لتفصيل الحديث عنه هنا، أما حقّ الشاعر الضرورة فهو لا يباشر شيئاً، ولا يخالط خلقاً، منه وإليه يدور الكلام، الكلام العصيّ على أن يجد نفسه متلبسّاً في اجتراح معنى.
إنّ احتقار الجماهير (الجماهير = الاسم العقائديّ الذي يستعيض به الشاعر عن تسمية القارئ، ويستعيض به الديكتاتور عن تسمية المواطن) أنتج أشباه المعاني لدى كلّ من القائد الضرورة والشاعر الضرورة، حيث المعنى يتطلب أن تكون الذات المتكلمة تجد في نفسها اشتراكاً  مع من تتوجه له بالكلام، ولولا هذا الشرط لبطل كل خطاب ذي مغزى. ومن المهم استذكار ان النصّ الالهيّ ما كان له أن يتخلل الذهن الإنساني ليصبح مادة للتداول وإنتاج ضروب مختلفة من المعاني وغدا عرضة للتأويل، لولا حيازته هذا الشرط الذي جعل من الكلام المقدّس متزامناً مع وقائع (أسباب النزول)، ومتوجها الى ذوات، الى تعيينات إنسانية (مؤمنين، أهل الكتاب، ملاحدة وكفار، أشخاص بأعيانهم وأسمائهم) لا الى كتل بشرية غفل، ثم أخيراً توافره على خاصيّة الإفصاح والبيان في أرقى أشكالها وأكثرها تأثيراً.

أشباه المعاني ترتدّ إلينا فواجع:

وهم التحرّر والإنعتاق، الاندفاع الى أقصى المغايرة والاختلاف، أنتج لنا في السياسة القائد الأوحد، وفي الثقافة الشاعر الفرد. فإذا عرفنا ان السياسيّ الثوريّ أراد التحديث وعمل له وفق خطة تقضي بزجّ كل مفردات الحداثة في خطابه (من حرية واشتراكية وعلمانية ومساواة وتنمية ووقوف ضد الرجعية..الخ) دون أن يعير كثير أهمية لضرورة أن تلامس هذه المفردات حياة الآخرين الذين يسكنون على مقربة (مكانياً على الأقل) من القائد الملهم صاحب الخطاب، إذا عرفنا ذلك فسندرك كيف أن السياسيّ أصبح سادن العقيدة، حارس هذه الأصنام اللفظية، وكيف ان حداثتنا انتهت الى ما هي عليه الآن: مجرد جهد لفظي لا يملّ المفكرون والمحللون السياسيون من التعزيم بتكراره، وسنفهم لمَ كلما كان كلام القائد ذاتوياً مليئاً بأشباه المعاني: عن الجماهير كان المواطن يفقد مواطنته أكثر، أو عن الحرية كانت السجون تمتلئ، أو عن الاستقلال كان الوطن يباع في خيمة على الحدود، أو عن الصمود كنا نخسر حروبنا كلها، أو عن العزّة كان المواطن يُذلّ، أو عن الكبرياء كانت قصور القائد الضرورة نفسه عرضة للتفتيش، أو عن التقدّم كان المواطنون يجدون في العشائرية ملجأً لهم، أو عن العلمانية كان التديّن قد أمسك المجتمع من أطرافه، أو عن الوطنيّة كانت الطائفية لحمة هذا المجتمع والقبلية سداه؟
ذاك ان ذات صاحب العقيدة اكتفت بقوّة الشعار (وكلّ شعار هو شبه معنى) عن أن تنشئ خطاباً قابلاً للصرف والاستثمار والتداول وتقليبه على الوجوه كلها وصولاً به الى صيغة يرتضيها الآخر، لكن قبل ذلك على هذا الخطاب أن يكون موجها الى هذا الآخر ويستمدّ أهميته ومشروعيته منه.
هذا عن القائد الضرورة فماذا عن الشاعر الضرورة؟
ألم يكتفِ هو الآخر بهذا الاحتفال الكونيّ الضاجّ في أنحاء ذاته النبويّة عن أن تكون للمغامرة والتخطي اللذين بشّر بهما إمكانية للصرف، قدرة على التخارج من ذاته، والدخول في رحابة الآخرين؟
 ألم يُعِقْهُ استغراقه في عبادة ذاته عن وضع الحقّ الذي يمتلكه في الموضع الذي يتحتّم على كل حقّ أن يكون فيه، أعني أن يكون حائزاً على مبدأ اجتماعية الحقّ؟
 ألم يفوّت علينا، بنرجسيته المضحكة، فرصةَ أن تكون مبتنيات الحداثة الشعرية مقدمة لحداثة تطال حقول الثقافة والفكر ومن بينها السياسة؟
ألم يسهم بكراهيته للسياسة (مثقف ويكره الشأن السياسيّ!) في إدامة الوهم الذي لا يرى في السياسة إلا تحزباً؟
 ألم نشهد على يدَيْ الشاعر الضرورة ضمورَ دورِ المثقف الذي عبرت من أمام عينيه حشود العشائر وسدنة الطوائف والجنرالات والإرهابيين يقودهم أخوه القائد الضرورة؟
ألم يكن الشاعر مساهماً بفعالية كبرى في تأخير ظهور المثقف السياسيّ لدينا؟ (هنا أريد أن أحيّي مقالاً للشاعر والمفكر عادل عبد الله دعا فيه إلى ولادة هذا المثقف وأشار الى ضرورته في المشهد العراقيّ الحالي).

أقوياء:

يستعير الشاعر (الغنوصيّ، الحرّ الطليق، السادن) كلَّ عدّة الديكتاتور من انتفاخ للذات وكراهية للـ(جماهير) وامتلاك للحقّ، ليوردها في كتابةٍ تماثل خطاب الديكتاتور في خلوّها من معنى وعدم محايثتها للواقعة. فكما ان السلطة أفرغتْ كلّ مفهوم اشتغلتْ عليه من محتواه الحقيقيّ كما رأينا، فان دعاوى الشاعر الفرد انتهت الى إفراغ مفاهيمه هو ذاته من فحواها. وإلا ماذا نسمّي شاعراً يريد لنصه الشعريّ أن يكون نصّاً مشرقياً وهو يرى في الشرق ثالوثاً يتمثل في السحر والأسطورة والجنس (كما رأى خزعل الماجدي في حواره المشار اليه قبل قليل)،  أليس هذا شرق الإستشراق؟ أليس هذا الشرق ذو الأقانيم الثلاثة هو صنيعة مخيال غربي أخذ ينقرض حتى في الأراضي التي أنتجته؟ شرق المستشرقين والسائحين العابرين إلينا وفي أذهانهم ألف ليلة وليلة، شرق مؤلفي الغرب اللذين يكتبون عنه من بعد، شرق مغرق في الاصطناع والقدم على حدّ سواء.
هذا مثال حيّ على ما يمكن أن تفعله في الشاعر سدانته الأبدية لحقّ لا يريد أن يشرك به أحداً. ينتهي به الأمر الى أن لا يرى في شرقه الذي لم يغادره إلا ما أرادت له بروقُ الوحي أن يراه، فلا نرى أثراً لشرق الزلازل المتلاحقة، الشرق الذي أنتج للعالم أفخر أنواع الديكتاتورية، شرق الحروب والأوبئة والمجاعات، شرق التكفير والانتحاريين والمقابر الجماعية، لا نبصر إلا شرق البخور والرقى والسحر والطلاسم، شرقاً مخمليّاً استوطن أوراق الشاعر حتى في السنوات التي كان فيها الألوف يتساقطون والدم وحده يرسم خرائط الشرق.
ذات منتصرة وقويّة ولا تعمل فيها أزاميل الحدثان، تلك هي ذات الشاعر الضرورة التي لا تبعد بصفاتها تلك عن ذات القائد الضرورة الذي كان منتصراً وقويّاً حتى وهو يوقّع اتفاق بيع وطنه، بل ربما ظلّ منتصراً وصمديّ الشمائل حتى وهو يفتح فمه على وسع الشاشة أمام طبيب أميركي. أما الانكسار والخذلان وآثار الحروب والمقابر فمن أين لها أن تجد طريقها إلى ذات القائد، أو أن تتخلل روح الشاعر الغنوصيّ وكتابته؟
إن هذه الآثار (آثار الكوارث) هي نصيب المواطن وحصته من وطنه التي ستؤهله لاستحقاقه. هي معناه في آخر الأمر. وان لم تظهر في مداولاته وخطاباته فان ذلك مؤذن ببقاء الأمر كما هو عليه: نصوص (عقائدية أو شعرية لا فرق) محتفلة بانتصارها الشخصي المتمثل في عدم قولها، ووقائع كارثية تثبت يوماً بعد يوم ان الشاعر هو الوحيد من بين المجموع مَنْ ليس أهلاً بعدُ لاستحقاق صفة المواطن.

ملاحظتان

أولاً: من المحزن حقاً انه كلما جرى الحديث عن هذا الأمر تم حرف النقاش عن مساره والبدء بكلام طويل عن الوضوح والغموض، وإيراد حقيقة ان الغموض ملازم للشعر العميق. محزن لأنه تبسيط للأمر برمته والدخول عليه من مورده الأقرب، وهو ما فعله خزعل حين قال (يجب أن يرتفع المتلقي إلى مستوى الفن الرفيع.. يجب أن يتعب على نفسه ويربي ذوقه لمواجهة المناطق المرتفعة في الشعر)!، وما قاله آخرون أيضاً بعد نشري الجزء الأول من المقال لا يبعد عن ذلك.
والحقيقة أن لا مدخلية للغموض والوضوح هنا، فنحن أمام مدّ شعريّ مبتنٍ في الأساس لا على الغموض وإنما على شرط وضعه الشاعر متمثل في قطع الجسور مع القارئ، وفي مفارقته لكل ما يحدث، وفي ضرورة عدم إنشاء معنى، وهذا الشرط ليس ضدّاً للوضوح فحسب بل هو ضدّ للغموض أيضاً بما هو نتاج قول موارب، حاصل مداورة الكلام على وجوه بعيدة، واستفراغ الوسع في النهل من الينابيع الأبعد عن يد المتلقي، أبعد عن يديه لكنها تظلّ قادرة على أن تكون عرضة للفهم والتأويل من قبله.
ثانياً: في الجزء الأول من المقال الذي نشر في إيلاف تحت عنوان(حرب على الينابيع)، ذكرتُ ـ سهواً ـ ان عبارة (اللغة أداة توصيل) قد وردت في بيان الشاعرين جمال الحلاق وفرج الحطاب، وظهر ان هذه العبارة كان قد كتبها وتبنّاها الشاعر سليمان جوني، كما أخبرني هو، وربما وردت أيضاً في مقالات أخرى لشعراء آخرين.