الحب هو خلاصة العطر وهباء الكنوز وعدمها

علي بدر*
(العراق)

رعد عبد القادر(أحاول أن أرمم فؤادي بكسر من النجوم، أحاول أن أغلق منافذ وقتي، ألبس غيمتك، أزر علي المطر، أخرج جنحي، استلم الشروق بيد والغروب بيد، وأفرح ملء الجهات)
(نص في الحب) للشاعر رعد عبد القادر.

(السنوات تمرّ. العواصف انقرضت. انصرَفَ العالم. كان يؤلمني أن أشعر أن قلبكِ هو الذي لم ينتبه إليّ. كنت أحبك. وأنا غائبُ الوجه، فارغ الفرح. كنت أحبكِ، متغيراً في كل شيء، وفياً لكِ)
قصيدة مآثر explois لرينيه شار

*

الحب ؟
من أين تأتي فتنته وهيمنته طالما أن الشاعر الذي يعذبه الجمال يؤلمه الحب، ويزاوج مرة واحدة بين وحدة انفعالاته مع المحبوبة والطابع الفظ لمصيره.
الحب؟ من أين تأتي إشراقاته الجسدية وكلماته، من أين تأتي إثارته وتأثيراته، من أين تأتي لعنته وانحرافاته، من أين يأتي قبوله والرضوخ لسلطانه؟ الحب هو سيد كيوبيد كما سماه بيروان Berown في قصيدة جهد الحب مضاعا: صاحب السلطان... الشماس الحقيقي للتنهدة الفكهة... الشرطي في العسس... سيد الأسلحة المطوية... الملك المكرس للتنهدات والأنات... مولى المتسكعين والساخطين... الإمبراطور الأوحد والجنرال العظيم للمنجمين المسرعين...:
" وليكن الشاعر عريف ميدانه الذي يرتدي إشارته كطوق الحمام الضاحك.." كما يقول بيروان.
ولكن من أين تأتينا نصوص الحب؟ من أين تتسرب إلى خيالنا ولغتنا ومعانينا، من أين تأتي لغتها الموهوبة وكلماتها، من أين تأتينا انفعالاتها وفصاحتها بينما الحب هو الذي يخرس ويصمت ويذل ويبيد ويغل ويفني كما يقول بارت في مقاطع من خطاب عاشق.
إنها تأتينا، ربما، من طغيان الحب على ضمير الشاعر، تأتينا من ترف العاشق، ومغازلاته ومغامراته، تأتينا على الدوام من نزاع خالد ومعذب لشاعر فرض بكل قوة معرفته الدنيوية النيرة بكل ما فيها من شعبي وزهدي وهوسي ومفكك على كل ما هو متعال وسري ومقدس وبلغة أزيائية حاضرة، بلغة كورتوازية متأنقة، شعبية، اصطناعية، لياقية، سحرية، وبنص للحب.
نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينيه شار، نص طالع من الجسد ومن ترفه، من هوسه وحنينه، من شبقه ورغباته، من غموضه واضطرابه، من شهوته وانتصابه، نص يصنع من الحب إليغوريا الحب، نص يصنع من الكلمات واقعة للحب، واقعة طالعة من فجر الحب ومن غروبه، من ليله ونهاره، من وجوده ومن عدمه، نص من خلاصة العطر وهباء الكنوز وعدمها.
نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينيه شار، نص متأنق، نص يستمر بقوانينه الخفية المضطربة، نص يشكل نبذا مستمرا لكل حياتنا الرسمية، وضغطاً علي كل اقتصاد في فتنتنا الجامدة، هو نص يتراءى وراء حجاب اللغة الثقيل، وكأنه صورة عظمى لفوضى حياتنا واضطرابها، صورة بكر لأشد ما في حياتنا من إظلام وخذلان وتعقيد.
نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينيه شار، نص يؤمّن من خلال فوضى أخلاقنا وعاداتنا نوعا من التجميل الغامض لكل ما في حياتنا من خيبة، لكل ما فيها من ميل غريزي إلى الشقاء، ويكشف في الوقت ذاته عن المثل العظيمة التي لا تكون إلا في تدمير فتنتنا، لا تكون إلا في هذا الوهم الذي له كل هذا السلطان الذي لا ينكر، هذا الوهم الذي يتحول بعد سوء الاستعمال إلى قواعد للسلوك، والذي يشكل طبقاً إلي تحديد غامض أسطورة شخصية لكل واحد منا.

*

(كان الصيف يغرّد وقلبك يسبح بعيداً عنه. احتضنتُ شجاعتكِ، أصغيتُ إلى بلبلتك. طريق على امتداد مطلق الأمواج باتجاه قمم الزبد العالية هذه، حيث تُبحر الفضائل المبيدة للأيدي التي تحمل منازلنا. لم نكن سذّجاً. كنا محاطين).
رينيه شار من قصيدة مآثر.
أنت حبي من سنوات
دوختي إزاء انتظارك
الشيء الذي لا يشيخ ولا يبرد
رينيه شار من قصيدة بتريسيا تيري Patricia Terry وتعلق نانسي كلاين بيور في كتابها "التنوير في شعر رينيه شار" أن الكسوف معقوب على الدوام بالعودة الأبدية وهكذا حين ينهي الشاعر قصيدته الخاصة فإنه لا يستنفد الشعر.

*

يقرّب رينيه شار الحب من الحدس، من الصيف الذي يغرد، من هذا اللّهب الحيِّ الذي يحلّق فينا ويطلع منا، من الأمواج العاتية التي تضع أجسادنا في استعارة شعرية جديدة، من زمن الحب الذي يبحر فينا كما لو كان طبيعة مبيدة وتائهة، تحملنا وتقدمنا من زمن خالد ومشتعل، إلى زمن يبرق ويصعد إلى الأعلى، إلى زمن يجعل من الحب ضياء أنقى من النور القادم من الأعلى، إلى زمن يحلق فينا، ويجعلنا حيوانات طائرة كما قال ألبير بيغان Albert Béguin في كتاب النفس الرومانتيكية والحلم.
من أين نحصل على الحب إذن، من المآثر الباهرة التي يصنعها الجسد، من التأمل الذي لا ينضب في وجه المرأة، من الرغبة الكاسحة بشعرنة جسد المرأة والذوبان فيه، من رؤية الوجود والتفكير فيه، من تأمله وتفسيره وتأويله، من حكاية عن الحب صنعتها المعرفة الشعرية، واللغة المتعالية، والخيال الخلاق، رينيه شار مثل رعد عبد القادر كلاهما يطرح الوظيفة الأدائية للشعر كقوة براطيقية، وكحلم ميتافيزيقي متسام، ويصبح الحب إليغوريا عظيمة، وجسد المرأة يمنحنا معنى جديدا، أعظم من المعنى الذي يطرحه الفيلسوف والحكيم، والأخلاقي، والمبشر.
شعر الحب هو النبض العاطفي الذي يتجلى في النص ويسميه بارت بمطاردة الخيال، فالعاشق السعيد ليس في حاجة للكتابة، "إنه عاشق لأنه يبتكر المعنى ..الحب أخرس الشعر وحده يجعله ينطق".

*

اللغة في نصوص الحب هي اعتراض مثيولوجي على اللغة ذاتها، هي المدخل السحري إلى عالم إيروس العظيم، هي الإيماءات الإحتفالية التي تتحول إلى علامات، لغة الحب لغة ملتهبة، ونصوص الحب تحتوي على الدوام على صور ملتهبة، صور يحتمها توهج النفس واشتعال الجسد، إنها استعارات يصعب تحديدها وتبينها، استعارات لا تدرك إلا بوصفها موضوعا للحلم، نصوص الحب هي انفتاح على الآخر، على المرأة وإدراكها ضمن حكاية شعرية، إدراكها بنوع من العقلانية، بنوع من الخيال الخلاق، نصوص الحب هي مزاوجة بين الأحلام المستعادة وبين لذة النص، لا تفضي إلى لحظة صفاء خالص حسب، إنما تفضي إلى لحظة من لحظات تأمل نقي، إنها نظرة ذات عمق إلى جسد المرأة ووجودها، رغبة كامنة في إضفاء معنى على العالم، عودة إلى ينبوع الحياة، إلى نار البدائية التي خلقت العالم، عودة إلى النفس الشاعرة والحالمة التي تبتدع العالم، المرأة التي نحلم بها هي المرأة الموجودة كما نحلم بها، الشعر وحده الذي يجعل من المرأة المحلومة امرأة موجودة.

*

"أخبر نفسي مرة أخرى
ما عرفته من قديم
الجمال المحطم بالغائط والكسر، أنت حبي وأنا محط رغبتك، الخبز الذي طبخناه في الليالي المحببة، مثل ملك قديم يتقدم فاتحا ذراعيه الاثنتين".
رينيه شار chants de la Balandrane

*

قصائد الحب هي نمو للوعي الكوني وتصاعد للغة الحسية وهي تلتحم مع كل ما هو جسدي ومترف وثري، هي المظهر الأكثر تعبيرا عن الضياء الذي يشع من أجسادنا وروحنا فطلب الخيال هنا هو كشفٌ وتأسيسٌ لوجودنا في العالم، وتعيد الرؤية الشعرية تبصرنا بجسد المرأة وروحها، لا بوصفه أعضاء ودم ولحم ومكونات إنما بوصفه شعلة، بوصفه فكرة وبوصفه ضياء، إنه تقوية للنفس في مواجهة الأشياء والذوبان في المؤنث، إبعاد للمادة واستثارة للوعي، وولوج في الكينونة، والدخول إلى الهيولى، هيولى الجنس وهي نقطة تتجاوز نقاط التجربة المحسوسة، بل تصل بنا إلى نطاق الوعي الكوني، عبور صور المادة، والوصول إلى كيمياء الأحلام، عبور اللغة الجامدة والمتخشبة والوصول إلى كيمياء النفس، تجاوز للواقع والحياة في الخيال والأحلام بوصفها خالقة ومؤسسة للواقع ولنفس وللوجود والكينونة.

*

قصيدة مآثر Explois لرينيه شار التي نشرها في ديوان Fureur et mystér الصخب والغموض تختلف عن قصيدة "أنا خلاصة العطر وعدم الكنوز، نص للحب" التي نشرها رعد عبد القادر في العام 1998، حيث تكون جملة (نص في الحب) إلحاقاً بسيطاً إلي العنوان، وسيشي هذا الإلحاق بعدم الاكتمال سيشي بحالة النقص الدائم، النقص المستمر، والذي من خلاله سنتعرض إلي نوع من الإغواء الذي يجذبنا إلي إضافة شيء ما، والذي يعني إكمال نقص ما، بينما يحرك الحب عادة بعدم اكتماله فكرة المدونة غير المكتملة، فهو غير مكتمل بأسمائه المتعددة، ومن هنا سيكون حضوره كامنا في إخفائه لأصله.

سيكون الواحد في نص رعد عبد القادر هو المتكثر، سيكون البنية المعادة المكررة التي تنفلت من سلطة الوعي وإطلاقها، ستكون عملية التحديد في التكرار هي انفصال عن إرادة القول الأصلية، ستكون عملية تحرر من كل سياق ملزم ولذا نجد الواحد في الحب يعمل داخل النص من خلال تعدده، ومن خلال وهمه، الوهم الذي ينسج خيوط النص ويشكلها، هذا الوهم هو وهم إضافي طالما يمكن تبديده من خلال توحيده، فهو لا يمدنا من خلال تكراره إلا بظل زائف للواحد، فالحب هو السرير الذي يتقاطع فوقه آلاف من العشاق، إنه النص - الكفن لدى جاك دريدا الذي يتقاطع عليه آلاف الأموات القادمين من أماكن متعددة، إنه نسيج من الاختلافات والتعارضات المتلاحقة في صورة خنثية، هيتروجينية، لذا فإنه يفتقر لهويته الخاصة.

*

ينفتح الحب في نص رعد عبد القادر علي خارج الحب، هذا الانفتاح هو الذي يشكل سيرورة النص اللامتناهية، حيث تمر الأسماء والصفات واحدة بعد الأخرى، تمر من خلال الغموض الذي يشكل الأصل الخالص للحب، والذي ينأى عن مصنف كامل في الأخلاق، ينأى عن نفسه، بينما يعيد للذاكرة بعض هذا الاستخدام الفذ للبديهيات والتعبير عنها بشكل ظاهر، إنه يتجاوز الخطر المستحيل والصريح في تعدد المطلق من خلال العلاقات التي يستحيل دفنها. ولأنه واحد بأسمائه فلن يكون هذا التصريح الغامض أو الإقرار بغموضه إلا نوع من ارتباط الحب بالموت، أو الاستسلام الكامل، استسلامنا نحن وبكل قوانا إلى الدمار.
فأي جمال أخاذ حين نقرأ:
يسوسن الحجر
وينرجس الزمن،
ويحشو غليونه
بالفراشات
فهذه الاستعارات هي محاولة لإقامة نوع من التوازي بين القيم المستقلة للشكل وبين شعرية المعني، فالاستعمال الغائي للغة بوصفها عملية اتصال ستبطلها القيمة المستقلة للأصوات والعناصر الصرفية والجمالية للغة، وسيحاول النص أن يجد من خلال الحب نوعا من التعادل بين الداخل والخارج، بين الغاية والوسيلة، بين الصياغة والمماثلة، وستكون الظواهر الألسنية محسوسة بتراكيبها، لكن هذا التمظهر التلفظي هو المظهر الدلالي ذاته، وستكون الكلمات ومن خلال انتظامها واسطة لمنح الحب غاية أكبر من غاياتها الوظيفية والتعريفية، وستتجه اللغة الشعرية من الطابع الصواتي إلي الطابع الدلالي لا من خلال تعيينها إنما من خلال تنظيمها، لكن هذه الدلالة والتي تصل في عبثها إلي أقصاها التي ستدمر الإصغاء السلبي للصوت، الإصغاء المتمركز على الحقيقة من خلال كتابة تشكل من بين ما تشكله نوعا من التصدع المتواصل للحضور، فالعلامة التي تشكل حضوراً لشيء غائب سيبطل عملها وسيكون استخدام الثنائيات المتراتبة نوعا من الاختلاف المؤجل الذي يدمر المعنى المتراكز في النص، سيدمر المعنى المتعالي في النص، ولن يكون الحب إلا كتابة عصية فاقدة لمركزها، سيكون الحب نوعا من الكولاج، سيكون تلقيحاً دخيلاً وطارئاً، سيتحول النص من خلال سطوعه وتوهجه إلي جسد مقطع، ثم يندفع النص بكل قوة لتدمير نفسه.

*

أن نتقبل (نصا في الحب)، نصا من (خلاصة العطر وعدم الكنوز) هذا يعني أننا نتقبل نوعا من الإنكار لكل ما في قواعدنا وأخلاقنا الرسمية من حضور، وقد يسمح لنا هذا الإنكار ذاته ان نتقبل محتوى الحب الخفي بالقدر الذي نرغب فيه بتهديد العقل، أو تهديد الوضوح التام.
فلماذا يتحول الحب إلي عائق للتوحد الكامل؟
أحاول أن أرمم فؤادي
بكسر من النجوم
أحاول أن أغلق منافذ وقتي
ألبس غيمتك، أزر علي المطر
اخرج جنحي
استلم الشروق بيد والغروب بيد
وأفرح ملء الجهات
لماذا تتحول هذه الصورة الطقسية للبلاغة إلي نوع من التعلق الفاضح بالتدمير؟ هذا التعلق الظاهر والكامن في كل واحد منا والذي نطلق عليه اليوم (التصعيد).
لماذا لا يكون الحب بوصفه تدميرا بكل قوة لتعاليه، نوعا من التعويض الضروري عن العنف الفوضوي الذي يسود حياتنا؟

*

لقد أراد كل من رينيه شار ورعد عبد القادر كتابة واقعة الحب في الشعر مثلما هي كتابة الشعر في الحب، فكلاهما أراد رواية إليغوريا الحب عبر اللغة المحسوسة والمتجسدة، وبما أن الحب لا تكتبه إلا الأجساد، تكتبه عبر مواقعة الجسد للجسد، مواقعة اللحم للحم، والروح للروح، مواقعة ذوبان وانغمار وتيهان وضياع، فلذا تتحقق المزاوجة بين اللغة والجسد، هنالك ضياع الجسد وتلاشيه في الحب، إلا أن اللغة تعثر عليه، وتجعله تجربة لوجود واكتمال، تجربة هداية وعثور، تجربة وصول وافتتان.
إن واقعة الحب في شعر رينيه شار وشعر رعد عبد القادر هي واقعة الشعر في الحب، فكلاهما تأسيس انطولوجي للخيال، وتأسيس محسوس لكل ما هو أثيري ومتطاير وعابر وزائل ومؤقت، واقعة الحب هي صورة ارتعاشة جسدين عند التحامهما وهما عند قمة تألقهما، إنه فاعل مُدْرَك وعالم مُدْرِك معا، الحب شعر يؤسس هذا العالم، ويحده بوجوده وكينونته.
انه الخطر الأقصى الذي يهددنا، انه طريق الانكشاف والتجرد الذي يحرضنا لمعرفة كينونتنا ووجودنا، أنه إدراك لفتنتنا وخوف منها، انه رعب وسلطة وخطر وتدمير، انه طريق انفضاحنا وانكشافنا فما أن نضع أيدينا عليه حتى نتعرى تماماً، انه تقدمنا باستمرار نحو إمكانيات وجودنا، انه تطوير لرغباتنا لتقشفنا، انه إمكانية خفية رغم ظاهرها، وهو تحجبنا واختفاؤنا رغم ظهورنا، انه إدراك لانتمائنا ومعرفة لهويتنا وماهيتنا الخاصة.
بيد أن هذه المعرفة هي السبيل الخطر الذي يعرض مصيرنا للتهديد المستمر، وهي التي تجعلنا نقف بين إمكانيتين تعرضان مصيرنا للخطر الثابت والمستمر، إمكانية الرفض لابتعاد الحب وتعاليه وسموه وسره وغموضه،وهذا يعني الموت، أو الاندفاع بكل قوة لتحديد ظاهره وجوهره وهذا يعني الدخول إلي الهاوية، إن الشعر وحده الذي يدفع بنا ويحرضنا على ممارسة المعرفة ونحن نستسلم لندائه الغامض، وحده الشعر بندائه الغامض يحرضنا علي ملامسة الجوهر والظاهر من الأشياء، وحده الذي يدفع بنا لتلقي نداء الهاوية والتعرض لهذا التهديد المستمر، يعرضنا للانكشاف وهو العصي علي الانكشاف، وحده الذي يحرض ويستفز ويتوقف ويصمت.

*

حينما تكون (سيدة العالم) هي (الفوق) و(التحت) و(العمق) و(المناخات) و(الأبخرة) في قصيدة رعد عبد القادر فإنها تتحول إلى رحلة في المستحيل، رحلة في الامتداد المسطح للعاطفة التي لا يحدها فكر ولا حد ولا تحصيل، هي نهاية الاعتراف وما يختتم الجسد بها لغة العشق، لغة الافتتان عندما تصل الكلمات إلى حدها الأخير، أما لدى رينيه شار فهي مأثرة الجسد الذي يغرد البحر على صخرته، يغرد الحب على انفراد في صمت وود وحرية حزينة، سيدة العالم عند رعد عبد القادر هي إشعاع الكائن المشتهى، سحر العيون وجمال الجسم المنير كما أدركها رولان بارت في كتابه " خطاب عاشق" فالانبهار هو الذي يمنع الرؤية والقول، هو ما مرصود للذكرى لا للتحليل، كما قال راستينياك من مقبرة لاشيز جاء دورنا الآن وأنت رائعة، العاشق في قصيدة رعد عبد القادر هو الذي يدرك الآخر بكليته، وهذا الكلية المتضمنة لبقية لا يمكن التصريح بها، أما عند رينيه شار، فإنه العالم الذي يغيب ويحل الجسد محله، هو إحياء لكل ما هو معطل في مسار الطبيعة، هو الطبيعة التي تلزم العاشق بشكل طارئ وتصطاده في صيفها وليلها وبحرها وموجها، إنه انجراف في الجرح، وفي الخوف من الجرح والهجران:
"كان الصيف يغرّد على صخرته عندما ظهرتِ لي، الصيف كان يغرد على انفراد منا نحن اللذين كنا صمتاً، ودّاً، حرية حزينة، بحراً أكثر من البحر الذي كانت مجرفته الطويلة الزرقاء تتسلّى عند أقدامنا).

*

سيدة الحب في شعر رعد عبد القادر هي سيدة الحب بالفعل، فكيف يمكننا أن نكسو العالم الصوفي بهذا الرداء الدنيوي وكيف يكون التوقد المهلك والمميت اعترافا مقنعا بالحب؟
ولذا فإننا نجد النص لا يتوقف إلا بالحركة:
أنا بذرة نارك الشريفة،
أنا وردتك بالفعل،
وفراشتك بالقوة،
حركة في القلب
وشقشقة عندليب
في الواقع ثمة نظامان أو بنيتان، واحدة اجتماعية أخلاقية تتمركز حول الضبط والتقنين العاطفي، وأخرى بنية لانفلات غريزي مدمر، الأولى خارجية، عارضة، خاضعة لجوهر إمكانية ازدواجها وتضعيفها وتكرارها الذي لا ينتهي، وأخرى داخلية تواصل حضورها في الذات في لحظة حضور الذات وتلاشيها، في نص للحب ثمة إرث للحب، ثمة لياقة ونظام وأخلاق تنتصر لحقوق الحب التي لا حصر لها، ثمة قدر للهوى لا يخطئ، يتعالى على النزعات المذنبة يتعالى على الفوضى يتعالى على المثل التي تدرك استحالتها فتتحول إلي وصف في غاية الدقة تتحول إلى حيل لا شعورية وبآلاف من الكلمات.
هذا الحب ــالفكر هو الذي يقلب نزعات الفكر الهدامة ويتحول إلي أحلام لذيذة.

* نص طويل نشره رعد عبد القادر في مجلة (الأديب المعاصر) في خريف العام 1998، في بغداد، تحت عنوان (أنا خلاصة العطر وعدم الكنوز، نص في الحب). أما قصيدة مآثر Explois فهي منشورة في ديوان صخب وغموض fureur et mystér المنشور في العام 1948 عن دار غاليمار. في هذه المقالة بعض المقاطع من كتاب رولان بارت "مقاطع من خطاب عاشق" fragments d'un discours amoureux الصادر عن دار سوي في العام 1979، ومقاطع من قصيدة جهد الحب مضاعا Love's labor's lost للشاعر الإنكليزي جون بيروان. وترجمنا بعض نصوص رينيه شار من كتاب Lightning, the poetry of René Cahr لنانسي كلاين بيور، الصادر عن جامعة نورثرن في العام 1981.