عبدالزهرة الركابي

مظفر النواب بعدما عاد الى وطنه العراق من منفى أستمر عقود طوال، لم يحتضنه هذا الوطن، وهو في الخريف الأخير، من جراء ممارسات القائمين على إدارته والنابذين لمبدعيه ومناضليه ونخبته، لذلك حط الرحال أخيراً في الشارقة في دولة الإمارات العربية، الأمر الذي جعلني أطرح هذا التساؤل: هل وصلت رسالة أو وصية مظفر النواب بعدما وصل الى عتبة الخريف في حسابات العمر والأرقام والمرض: (يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق على ظلمة أيامي، إحمل لبلادي حين ينام الناس سلامي)؟.

ومن محنة جسده المتعب وقلقه المزحوم بالرحيل ونواح قطاراته في تيه المنافي (ياريل يا قطار - بالله.. إبغنج
من تجزي بأم شامات
ولا تمشي.. مشية هجر
كلبي قلبي -.. بعد ما مات).

أكثر من ثلاثين عاماً من الزمن وأنا أتابع وأرصد الكتابات التي تناولت شعر مظفر النواب، حيث وجدتها كتابات إطرائية تبدأ بإشادة حماسية وتنتهي بمديح استعراضي أو كرنفالي، بينما مدلولات الشعر في جوانبها الفلسفية والفكرية وجامعها الجوهري ظلت بمنأى عن هذه الكتابات التي جاءت بدافع ودي (حبي)، وخصوصاً أن شعر التعرية السياسية يلقى صدى لدى الجماهير والقاعدة الشعبية في العراق والمنطقة العربية عموماً، من واقع أن هناك انفصاماً روحياً بين شعوب المنطقة والنظم السياسية المتسلطة عليها، وهو انفصام استطاع النواب من خلاله الاندفاع بجرأة على سبيل رفع الأستار عن وجه النظم الكالحة وإسقاط ورقة التوت عن عورتها الفاضحة!.

وإذا كان شعر مظفر النواب طافحاً في الإطار السياسي المتمرد والناقم والمستذكر والمؤشر للواقع المريض في الجانب الفصيح، كان في الجانب العامي ينحو منحى تراجيدياً (لتفزعن لا تخشن -، نثايه العين أناث العين .. شدّنه

ميلن وردة الخزامة، على الحنه
صويحب.. ما مش صويحب أبد.. منّه).
استباقي

وهذه الصور الرثائية والتشاؤمية والقنوطية في آن، مردها الى أن هاجس الشاعر كان استباقياً واستنتاجياً في التوصيف والاعتقاد بعدما ارتكز على إيحاء عميق تتشكل ألوانه من الحزن والحنين والافتقاد والغربة والأنين، وهذه الألوان في امتزاجها ونواتجها، عاشها وعايشها الشاعر طيلة حياته الحرة والمقيدة (السجن)، ولربما يكون لترحاله الديناميكي دور في وضوح هذه الألوان، وصحيح أن أكبر إقامة له كانت في سوريا، لكنه أرتحل أيضاً الى لبنان وأرتيريا وظفار (عمان) وليبيا وفرنسا واليونان وبعض بلدان أميركا اللاتينية.

ومن الطبيعي أن هذا التجوال في المنافي كان له الطابع المترع بالحزن، ومن هذا، فإن شعره العامي تجاوز طابعه الآيديولوجي الذي لم يكن ملتزماً به في حقيقة الأمر من جراء إيقاع حياته المتجول أو لكون الطابع الآيديولوجي قد يحرمه من آفاق رحبة وذات تلاوين طيفية كان يرنو الى ولوجها، وهو المعروف عنه شخصياً تمرده ورفضه للقيود والخطوط والحدود.

ولهذا، سوف أتناول في هذه الكتابة جانباً واحداً ومختزلاً في صورة واحدة، هو الجانب الرثائي في قصيدة: (للريل وحمد) من ديوان مظفر النواب الذي حمل أسمها أيضاً (للريل وحمد).

وهذه القصيدة تُعد أشهر قصائده في الشعر العامي أو الشعبي وفق ما هو شائع في تسمية الشعر العامي في العراق، وخصوصاً أن هذه القصيدة (تنبأت) بوقت مبكر للوضع الراهن في العراق أو كأنها صورة وصفية لمأساة العراق الحالية، وقد باح الشاعر عن ظروف كتابتها بالقول: (الريل يعني في لهجة جنوب العراق القطار، وقد كتبت هذه القصيدة ولم يكن يدور في ذهني أني سأطبعها في يوم ما، أو أنها ستنتشر هكذا، وتثير كل هذا الاهتمام، كتبتها لأنني شعرت بها، شكلت لي بهجة داخلية، غناءً وجدانياً، وكنت اكتبها في ظروف خاصة واضعاً القلم والورقة تحت وسادتي ناهضاً ليلاً لأدون بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام، كتبت هذه القصيدة في عام 1956 وأكملتها عام 1958، وأخذها (علي الشوك) من دفتري ثم نشرها من دون علمي، وكتب عنها الشاعر سعدي يوسف، وقال ما معناه إن شعرنا العربي تسيطر عليه الهوية العالمية وهذه القصيدة زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي، وأعتقد أن سعدي يوسف لخص قضية أساسية هي أن طبيعة هذه القصيدة لها هويتها، وهي ليست هوية الشعر العالمي أو القصائد المكتوبة بالفصحى أو القصيدة العامية التي كُتبت في السابق، واعتبرها نقلة من القصيدة العامية التقليدية الى مناخ جديد.

لقد فتحت (للريل وحمد) بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة أمام القصيدة العامية، ومن العوامل التي أثرت في كتابتها ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقى - كان والدي يعزف على العود ووالدتي على البيانو والأجواء الكربلائية - كل هذه العوامل لعبت دورها في بناء القصيدة، وتشكيل عالم مختلف في (للريل وحمد) عن غيره في القصائد العامية الأخرى).

إما بالنسبة للقصيدة الفصحى فسوف أتناول قصيدة (وتريات ليلية)، مع التنويه في الوقت نفسه الى أن القصائد الأخرى لا تخلو من مثل هذا المدلول الذي أعنيه في هذه الكتابة، بيد أن هذا الانتقاء جاء لاعتبارات صميمية تتعلق بتماثل الظروف الحالية مع رثائيات الشاعر المبكرة.

الرثائية

في القصيدة العامية (للريل وحمد) بدت الرثائية تتجلى من مستهلها: (مرينه بيكم حمد، وأحنه إبغطار - قطار - الليل، وإسمعنه دك دق - إكهوه وشمينه ريحة هيل.. يا ريل - يا قطار - صيح إبقهر صيحة عشك عشق ياريل).

في هذه القصيدة كانت (ديرة حمد) تمثل الوطن، وكان الشاعر في هذه القصيدة يعرض صورة تراجيدية، أخالها عند مروره بالطائرة عبر أجواء قريبة أو مجاورة أو حتى عبر البر، حين يستنشق رائحة هيل القهوة ويسمع دق (هاون) طحن القهوة، فكان يطلب من قطاره أو طائرته أن تصرخ صرخة عالية أو تصيح صياحاً عالياً ومقهوراً، وهي صيحة الشوق والاستذكار مثلما هي في التعبير صيحة وصراخ الرثاء، ولا شك أن الوطن هو الفردوس الأرضي المفقود والمفتقد للشاعر في هذه الصورة المعبرة، كما أن الشاعر في هذه القصيدة يكون قد استطلع المواقف بشكل مبكر لما آلت إليه الأمور وتنعكس في إيحائها على الذين يهيمنون على مقدرات العراق حالياً، وفي غفلة من الزمن، وهم الذين (كانوا في حقبة ما يسعون الى إنقاذ الوطن من الديكتاتورية) حسبما كانوا يدعون، لكنهم بعدما لعبوا دور (ضواحي الاحتلال العراقية)، قد أفصحوا جلياً عن غشهم وخداعهم ومواربتهم للشعب والوطن: (يا ريل طلعوا دغش غش - والعشك والعشق - جذابي كذابي .. دك دق - بيّ كل العمر مايطفه عطابي.. نتوالف أويه الدرب وإترابك إترابي).

وهنا، كأن الشاعر كان يخاطب (الريل) القطار في محاورة أنيسة وودودة، والقطار هنا يمثل للشاعر المنفى الجوال، بعدما ألف الإثنان طريقهما الواحد وأصبح ترابهما واحداً في ظل غياب الوطن عن الشاعر أو العكس، وقد جاء في هذه المحاورة هو قول الشاعر للقطار: مهما بقيت تدق بيّ أو تتحرك بيّ، فسوف أستمر بالترحال طوال العمر، ولن تُخمد نيراني الحارقة (العطاب)، وهو ما يعني أن الشاعر افتقد الوطن مبكراً ما حدا به الى رثائه والبكاء عليه عن بعد أو قرب، وهذا الفقدان هو حالة موت آنية أو تشاؤمية لم يتوان الشاعر في الإعلان عنها مبكراً، وقد جاءت أحداث العراق الراهنة متطابقة مع هذا الرثاء، وهذه القصيدة العامية ليست الوحيدة التي يعمد فيها الشاعر الى إظهار صورة الرثاء فيها في الديوان المذكور، إذ هناك أيضاً قصيدة (عودتني) والتي أستهلها بمقدمة فحواها: (كفى رياء».. كنا ننتظر الحزن)، والتي جاء فيها: (اترك إبيتك بطاقة عيد وموعد، وأكتب إبابك إذا إمسافر جلمتين - كلمتين ـ، ولكيتك - ولقيتك - سافرت من غير رجعة.. وعودتني).

التعرية

والواضح أن النواب قد دأب على هذا المنحى في القصيدة الفصحى أو الفصيحة، على الرغم من أن هذا المنحى واجه بروزاً ومساحة أكبر لمنحى (التعرية السياسية) الذي وجد إشارة وتناولاً في أكثر كتابات الدارسين والنقاد، وأزعم أن هؤلاء الدارسين والمتابعين توجهوا في كتاباتهم هذه نحو الإثارة والاستعراض، في ظن منهم أن هذا المنحى يشكل الوجه السياسي الأشمل للنواب، بينما هو في حقيقة الأمر يشكل جزئية تصادمية لدى الشاعر، وهو بالتالي لا يطغى على المنحى الأهم لدى النواب وهو (الرثاء) بمدلوله السياسي والدراماتيكي في آن، وقد يكون منحى (التعرية السياسية) عزاءً لمنحى (الرثاء السياسي) الذي أغفله هؤلاء المتابعون بقصد أو غير قصد: (يا غرباء الناس، بلادي كصناديق الشاي مهربة، أبكيك بلادي، أبكيك بحجر الغرباء، وكل الحزن لدى الغرباء مذلة)!.

والرثاء السياسي عند مظفر النواب ليس بالمفردة المباشرة على الرغم من صراحته في التوجه والمخاطبة والتعرية والكشف والبوح، فالشاعر يستثير في كل هذا وهج الليل وإشراق النهار، كي يجهز بأدواته الشعرية المتمكنة والمندفعة على مكامن الخلل المستشرية في الجسد العربي، من واقع أن هذا الرثاء يأتي بتسميات الحزن والبكاء والأموات والأحياء والاستذكار والردة، وغيرها من مفردات جسدت هذا المنحى ومنحته إيماضات متوهجة عمقت التواصل بين الشاعر وبين المتلقي: (و أراكم تمتهنون الليل، على أرصفة الطرقات الموبوءة، أيام الشدة؟، قتلتنا الردة... قتلتنا الردة، إن الواحد منا يحمل في الداخل ضدة).

من هنا، كان الرثاء السياسي في الصورة الشعرية لمظفر النواب، يجسد حالة تنويرية وتثويرية معاً، للمواقع التي يخشى الشاعر إصابتها بأعراض المواقع الموبوءة!، وهو من هذه الحالة ينطلق الى أداء دور تحريضي واستنهاضي وتذكيري وتحفيزي، كدور تعبوي على صعيد الشعر السياسي للمقابلات القادمة، حيث ان الضعف في قاموسه هو الموت الذي يستجلب الرثاء، وهو بالتالي يدعو الى تجاوز هذا الضعف من خلال الضرب على وتر هذا الرثاء في هاجس تكراري، حتى يكون بمقدور الأمة استنهاض مكوناتها وقدراتها المعطلة أو المستخدمة في مكامن الخوار والإلهاء: (غادرت الفردوس المحتل، كنهر يهرب من وسخ البالوعات حزيناً.. أحمل من وسخ الدنيا، ان النهر يظل لمجراه أميناً).

إذاً، مظفر النواب كان سياسياً دينامياً في صوت شاعر، مثلما هو كان شاعراً طوّافاً على راحلة سياسي ثائر، وهو في كلا الحالين أدى الدور وقام بالمهمة من دون تكليف آيديولوجي، ما عدا أفق الحرية الذي كان وطنه

المتحرك والمتجول، منذ أن أحس بغياب أو رحيل الوطن عنه قسراً، ما جعله يلجأ الى الرثاء السياسي بمدلوله العميق في قصيدته العامية والفصيحة على حد سواء، وهو رثاء يتموج في طريق الاجترار والثورة، ولم يكن شعره في السياق الكلاسيكي لشعر النواح والمراثي، بل كان شعراً سرمدياً في استذكار الفردوس المفتقد والمفقود (الوطن) والحنين إليه، ولربما هو الآن في سباق المرحلة الأخيرة لاستعادته والعودة إليه، ولا أدري من سيكون المبادر في هذا المنحى، الشاعر أم الفردوس أم كلاهما معاً؟!.

ولهذا، سيبقى مظفر النواب في المنفى السرمدي والأبدي، حيث لا وطن ولا أهل، ولا صحبة، فكل شيء في حياته منفى، يأتي من منفى ويغادر الى منفى، والحياة محطة منفى، حيث يترقب وحيداً منفاه الأخير!.

المستقبل- 24-2-2014

أقرأ أيضاً: