أثناء تأديته الخدمة العسكرية في سنوات الحرب العالمية الأولى، كان أندريه بريتون، طالب الطب السابق الذي يمارس كتابة الشعر – والذي سوف يصير بعد سنوات قليلة مكتشف السوريالية ومنظـّرها الأبرز- يشعر باستياء حاد ومتزايد من الشعر السائد الذي يتخذ من الشعر الرمزي الفرنسي نموذجاً له. كما كان يشعر، في الوقت نفسه، بنفور عميق من الطرائق الشعرية التي تصدّق عليها الحركة الرمزية و تروّج لها.
خلال تلك الفترة من الحيرة و القلق و الامتعاض، و بينما كان بروتون يشعر بالتردد بين أن يتخلى تماما عن طموحه الأثير لأن يكون شاعرا أو أن يستقصي طريقة جديدة للتعبير الشعري، كان هناك عدد من الشعراء الشبان –الذين معهم اكتشف بروتون، في نهاية الحرب، الكثير من الأشياء المشتركة و تقاسم معهم الطموح والهدف- والذين كان اهتمامهم الرئيسي هو تحرير أنفسهم من التقليد الشعري السائد منذ زمن طويل، والذي لم يعد موضع ثقة وإيمان، كانوا جميعا يبحثون عن اتجاه جديد.
بعضهم فكّر في الدروس التي ينبغي تعلـّمها من أفراد تحدثوا وكتبوا ورسموا بدافع من قوى لم يكن للعقل عليها أي سلطة، وكان العقل إزاءها عاجزا عن ممارسة أي تأثير. وقد ثابروا على فعل ذلك بعد انهيار الدادائية (التي نشطوا ضمنها لفترة من الزمن) ومع انطلاق الحركة السوريالية رسميا بعد نشر بروتون البيان السوريالي الأول في 1924.
لقد نشأت السوريالية من بين أنقاض الحركة الدادائية التي سبقتها، حيث ظهرت للوجود خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، عندما أعلن الشاعر تريستان تزارا عن ولادة "دادا" أو "الدادائية" في زيوريخ سنة 1916 ثم انتقلت إلى فرنسا وأقطار أخرى لتبلغ ذروتها في العام 1919، لكن سرعان ما أخذت تنحدر نتيجة الصراعات الداخلية الحادة من جهة، وبسبب موقفها الرافض والمناهض لكل شيء.. حتى نفسها، مفوتة الفرصة للتطور والاستمرارية.
أندريه بروتون، في مرحلته الدادائية، انتقد هذا الجانب قائلا بأن الدادائية لا تستطيع الاكتفاء بالصراخ بل يجب عليها أن تعمل. أن تعمل بالدرجة الأولى بطريقة أقل فوضوية وأكثر فعالية، وألا تكتفي من الآن فصاعدا بالتهجم على الفن الراهن، الذي لا يزال مع ذلك في أحسن حال، بل عليها مهاجمة القائمين على توجيهه و التشهير بهم.
الدادائية كانت حركة ديناميكية، مفعمة بالحيوية و النشاط، لكنها أيضا نتاج روح عدمية أفرزتها الحرب. كانت فوضوية، عبثية، عدوانية.ترى أن لا شيء يستحق أخذه على محمل الجد، وأن كل شيء زائف. هكذا سعى الدادائيون –وهم جماعات من الفنانين و الأدباء الشبان المتمردين على كل شيء- إلى ممارسة الهدم على مختلف الأصعدة، فدعوا إلى إلغاء كل التقاليد والمدارس الأدبية والفنية القديمة المتكرسة، هاجموا المنطق الذي ثبت لهم أنه الأساس المأساوي للفعل، هاجموا أيضا الفن الذي فرّ إلى برجه العاجي وترك العالم يتقوّض و ينهار من حوله. لقد كانت الدادائية تعبّر عن حالة من الاحتجاج الحاد ضد المجتمع، ضد القيم الدينية و الأخلاقية، ضد اللغة والثقافة (أيقونات الثقافة المتكرسة)، ضد كل الأيديولوجيات و الأنظمة التي ساهمت في ما أحدثته الحرب من تدمير و إبادة و فوضى و تشوّش كامل.
هذه الحركة التي انبثقت من أحشاء مجتمع تنهشه الحرب، أرادت أن تهاجم هذا المجتمع من خلال الفضيحة (الأعمال المخزية). لقد آمنوا بأن المجتمع الذي ينتج الحرب، ببشاعتها و وحشيتها، لا يستحق الفن.. لذلك أرادوا أن يكونوا ضد الفن. أن يعطوا المجتمع القبح لا الجمال، وقالوا أن دادا تدمّر كل شيء.
لخص الدادائيون إحساسهم بالعبث و اللا جدوى بكلمة "لا شيء" أو "عدم".. وذلك تعبيرا عن التمزّق الذي سببته الحرب وما رافقتها من شيوع روح الهزيمة. وقد أظهروا عدميتهم ليس عبر أشكال مأساوية بل بالسخرية والازدراء والوقاحة، موجهين كل هذا ضد واقع اتضح أنه لم يكترث بهم و لم يبال بسلوكهم الاستعراضي الشائن ونتاجاتهم الخارجة عن المألوف وعن الكياسة والرزانة. أرادوا أن يهينوا البورجوازية لكنها استطاعت أن تحتوي وتمتص "الفضيحة" أو الهجوم، بل أنها تقبـّلت بسرور هذا الفن الجديد الثائر واحتضنته إلى حد أن ما كان ضد الفن أصبح فناً.
على الرغم من توهجها وما أثارته من صخب في إعلانها عن حضورها الضاج، إلا أن الدادائية كانت قصيرة الأجل.
لقد ارتبط بهذه الحركة مجموعة من الكتـّاب والفنانين الشباب، واعتنقوا طموحاتها وأهدافها –إن جاز التعبير- وكانوا من العناصر الفاعلة والنشطة فيها: أندريه بريتون، فيليب سوبو، لوي أراغون، بول إيلوار، بنجامان بيريه، روبير ديسنوس.. وغيرهم.
عندما اكتشف هؤلاء أن الحركة الدادائية غير خلاقة، غير مجدية، وعقيمة.. أكثر حتى من عقم الواقع الذي احتجوا ضده، شعروا بعبثية التمرد من أجل التمرد، و أدركوا أن هذه الحركة لا مستقبل لها. وكما قال بروتون في كتابه "حوارات": "بيان الدادائية في العام 1918 بدا لنا أنه يفتح الأبواب على مداها، لكن سرعان ما اكتشفنا بأن تلك الأبواب كانت مفتوحة على رواق يلتوي دائريا".
لذلك أعلن هؤلاء موت الدادائية و ولادة السوريالية، رافعين شعارات الخلق والإبداع والحرية. لكن ثمة من يعترض على تعبير "الموت" مفضلا القول بأنها "تحوّلت"، كما في إشارة الفنان الدادي الذي تحول إلى السوريالية مان راي في كتابه "صورة ذاتية" (1963) حين قال: "الدادائية لم تمت. إنها ببساطة تحوّلت، نظرا لأن الحركة الجديدة كانت مؤلفة من كل الأفراد البارزين في المجموعة الدادائية".
من ركام تلك الحركة، المولعة بالهدم والتخريب، انبثقت الحاجة ليس إلى تدمير مظاهر الواقع القديمة فحسب بل أيضا إلى خلق واقع جديد. لقد بزغت السوريالية كحركة تفاؤلية تعبّر عن رغبة أفرادها، من شعراء وكتـّاب وفنانين، في المضيّ إلى ما وراء الواقع الظاهري نفسه، و السعي إلى تثوير الفكر من خلال طريقة فهم جديدة للأدب والفن، من خلال اتصال أكثر "شعرية". هكذا، إذا كانت الدادائية تنزع إلى الهدم فإن السوريالية هي استقصاء عن طاقة الخلق.
في أكتوبر1924 ظهر العدد الأول و الوحيد من مجلة تدعى "السوريالية" تحت إشراف وإدارة إيفان جول، والمساهمون فيها كانوا مجموعة لامعة من الكتـّاب الشباب: بيير ألبير-بيرو، رينيه كريفيل، بول درميه، بيير ريفردي، والرسام روبير ديلاوني. هؤلاء حاولوا أن يسلكوا اتجاها في الأدب، و في المبادئ الأخلاقية و الجمالية، وصفه غيّوم أبولينير قبل سنوات. وأبولينير هو الذي ابتدع كلمة "السوريالية" (أي ما فوق الواقع) والتي وردت، سنة 1917، في النشرة الصادرة بمناسبة عرض باليه "استعراض" التي كانت عملا مشتركا ساهم فيه جان كوكتو، إيريك ساتي، بابلو بيكاسو، ليونيد ماسيني.. و قد كتب أبولينير يقول:
"من هذه المصاهرة الجديدة، ذلك لأن حتى الآن ديكورات المسرح والملابس كانت على طرف، و تصميم الرقص على الطرف الآخر، وكان هناك فقط رابط صوري وخادع بينهما. وقد حدث في "استعراض" نوع من الواقعية الأسمى (سوريالية) الذي فيه أرى نقطة الانطلاق لسلسلة من التجليات لهذه الروح الجديدة".
و في رسالة كتبها أبولينير إلى بول ديرميه في مارس 1917 أشار إلى هذا المصطلح قائلا: "أعتقد حقا، بعد البحث والتدقيق، أن من الأفضل أن أتبنى كلمة سوريالية بدلا من فوق طبيعية التي سبق لي أن استعملتها. هذه التسمية –سوريالية- لا توجد بعد في المعاجم. وقد تسهل معالجتها أكثر من فوق طبيعية التي استعملها السادة الفلاسفة".
وأولئك الشبان اختاروا كلمة السوريالية لتكون اسما لمجلتهم و لحركتهم. وقد نشروا "بيان السوريالية" (قبل أن ينشر أندريه بروتون بيانه الشهير في العام نفسه) وفيه حددوا أهدافهم معلنين ببساطة "أن نقل الواقع إلى مستوى فني أعلى هو ما يؤلف السوريالية". ويقدم البيان مثالا لهذه الجمالية الخلاقة في فعل أبولينير نفسه: "يروي ماكس جاكوب أن أبولينير دوّن ذات يوم الجمل والكلمات التي سمعها في الشارع و ببساطة خلق منها قصيدة".
إن الذي حثـّهم على تبيين وتوضيح موقفهم هو رفضهم للمجموعة السوريالية الناشئة والمحيطة ببريتون، إلى جانب تقديرهم لأبولينير. وقد هاجموا جماعة بروتون بوصفها "سوريالية زائفة، وأن أولئك الدادائيين السابقين سرعان ما سوف يخرجون من دائرة الانتشار، فآليتهم النفسية المبنية على الحلم والنشاط المتجرد للفكر سوف لن تكون أبدا قوية إلى حد يكفي لتخريب نظامنا الفيزيائي الذي يعلمنا بأن الواقع مصيب دائماً وأن الحياة أصدق من الفكر".
لكنهم كانوا مخطئين تماما، فقد لفظت حركتهم النفس الأول والأخير معاً، بينما سوريالية بروتون ورفاقه تباشر للتو ممارسة دورها العملي والفعال مع نشر البيان الأول و ظهور العدد الأول من "الثورة السوريالية".
بالعودة إلى الوراء قليلا، نجد أن أول مطبوعة تعتبر سوريالية حقا هي مجلة "أدب" التي أصدرها بروتون وأراغون وفيليب سوبو في العام 1919 (وكانوا وقتذاك منخرطين في الحركة الدادائية). وهذه المجلة جذبت الأسماء التي سوف تشكـّل، بعد سنوات قليلة، الوجوه البارزة في الحركة السوريالية. كما أنها –المجلة- كانت الناطقة بلسان المجموعة، ومنبرا لكتاباتهم وأحلامهم وتظاهراتهم وفعالياتهم الأخرى. واستمرت هذه المجلة في الصدور حتى العام 1924 عندما استبدلت بـ"الثورة السوريالية" التي -حسب افتتاحية العدد الأول- "تسعى نفسيا وفنيا إلى تحرير الفكرة والصورة من القيود القديمة، وإطلاق الطاقات الكامنة الخلاقة للنفس البشرية عن طريق إبراز القدرة الكليّة للحلم وتداعي الأفكار، ولتضع الفن في متناول الجميع بعد أن احتكرته النخبة".
لقد انبثقت مجلة "أدب" من المشهد الأدبي الطليعي الذي ازدهر في باريس أثناء الحرب العالمية الأولى. وهي –مع مطبوعات أخرى- مثلت تلك الروح المتمردة والغاضبة التي تجلت في خلق أشكال شعرية و فنية جديدة.
أندريه بروتون وفيليب سوبو أيضا استعارا كلمة "السوريالية" من أبولينير لتسمية اتجاه أو حركة أدبية وفنية، لشكل أو طريقة جديدة في التعبير، تبناها –بدءا من العام 1924- مجموعة من الكتـّاب و الفنانين الشباب الذين ضجروا من التقنيات الأدبية السائدة و المتكرسة.
في البيان السوريالي الأول يشير بروتون إلى التسمية بوصفها تكريماً لذكرى أبولينير، الذي توفى مؤخرا.."أطلقنا، أنا و سوبو، اسم السوريالية على هذا النمط من التعبير الصرف الذي توصلنا إليه و الذي أردنا أن نفيد منه أصدقاءنا، وأحسب أنه لم يعد هناك اليوم مجال للرجوع عن هذه التسمية بعد أن طغى مفهومنا على المفهوم الأبولينيري".
مع أن الحركة السوريالية غالباً ما تؤرخ مع إصدار بروتون للبيان السوريالي الأول وتأسيس مطبوعة "الثورة السوريالية" في 1924، إلا أن جذورها تمتد إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، فأحد أكثر الأنشطة والفعاليات المميزة للجماعة، ونعني بها الكتابة الآلية وتدوين الأحلام، تعود إلى سنة 1922 حين مارسها عدد من الشعراء الذين تحلقوا حول بريتون، والذين يشكلون النواة الأولى للحركة السوريالية، حاملين معهم جزءا ليس يسيراً من الروح والنظرة الدادائية، دون أن يعني ذلك أن الدادائية كانت الروح الهادية والمرشدة الأولى للجماعة بل هي مجرد مجال فاتن اعتنقوه أو ارتادوه فترة قبل احتضاره.
المجموعة السوريالية الأولى تألفت من شعراء أساساً – بريتون، أراغون، سوبو، إيلوار، بيريه وآخرين- عبّروا عن رؤاهم و خاضوا معاركهم من خلال الشعر والنثر والبيانات الأدبية، وكانت الكلمة سلاحهم الوحيد، محاولين تحرير أنفسهم من التقاليد الأدبية القائمة منذ أمد طويل.
ولأن غاية السوريالية تتخطى الأدب لتشمل مجمل أشكال الثقافة والمعرفة، وتوظيفها من أجل تقديم رؤية جديدة وثورية للعالم، فقد انضمت إلى هذه الطليعة مجموعة أخرى غير منتمية إلى الوسط الأدبي بل كانت تمارس نشاطها الإبداعي في مجالات فنية أخرى كالرسم والسينما. ومع استقطاب الحركة لعناصر أكثر شبابا، فقد ازدادت حيوية و ثراء و انتشارا، لتصبح أهم حركة أدبية- فنية في القرن العشرين و أكثرها حداثة و تجديدا.
البيان السوريالي الأول كان علامة الانطلاق الأولى للحركة وتدشين السوريالية كظاهرة ديناميكية، لا سكونية أو مستقرة. ركـّز البيان بؤرته على الحاجات الإنسانية الأساسية ضمن الأوضاع المعيشية المفروضة من قبل المجتمع الغربي. لم يكن برنامجا لتثوير الفن والأدب بقدر ما كان تحريضاً على ضرورة تنقيح القيم الإنسانية.
جاء في البيان: "فلسفياً، تقوم السوريالية على الإيمان بواقع فائق لبعض أشكال توارد فكري، أُهملت حتى حينها، وبقدرة الحلم العظيمة، وبتصرف الذهن المجرد من الغاية. كما ترمي إلى الهدم النهائي لجميع التراكيب النفسية الأخرى ، وإلى القيام مقامها في حل قضايا الحياة الرئيسية".
لقد فرض الإنسان كوابح اجتماعية، جنسية، عقلية على نفسه وعلى أشباهه. والسوريالية تريد أن تقتلع الحواجز الاصطناعية لخلق عالم فيه ستكون للرغبة الكلمة الأولى والأخيرة. لقد هاجم السورياليون الاستخدام الحصري للعقل، وسعوا إلى تقويم اختلال التوازن الذهني بالتماس العون من أشكال المعرفة اللاواعية: الصدفة الموضوعية، الدعابة السوداء، اللعب، الحلم، المخيلة الشعرية.. مؤكدين على الصورة أكثر من الكلمة، على الشعور أكثر من الفكر، على الغريزة و الرغبة أكثر من المنطق.
عندما طلبوا من حاك برونيو أن يتحدث عن فتنة السوريالية بالنسبة إليه، والصفات المميزة التي جذبته إليها عندما انتسب إلى الجماعة كعضو في العام 1936، ردّ قائلا:
"لقد ساعدتني السوريالية على بلورة وصياغة مفهومي للعالم وموقفي من الحياة. ثورتهم كانت هي نفسها ثورتي. هي كانت شابة، و اقترحت حرية التفكير و تنمية الشخصية الفردية ضمن النشاط الفكري المشترك و الانضباط الذاتي الأخلاقي لمجموعة توحّدها الصداقة والألفة. هي كانت، ولا تزال، الفلسفة الوحيدة التي عانقت الفن والحياة والأخلاق والسياسة واللعب، ودمجتها في نوع معيّن من الوحدة و الانسجام".
السوريالية، إذن، هي أكثر من مجرد اتجاه فني، أو قواعد لضبط الإنتاج الفني. الفن ليس غاية بحد ذاته، ليس مجرد إنتاج أثر (قصيدة أو لوحة) بقدر ما هو تعبير عن موقف.
السوريالية، في أعمق معانيها، أسلوب حياة، ونهج يمكن به قبول ألغاز الوجود والتسامي على العجز والهزيمة والتناقضات. وهي تتخطى الطموحات الأدبية ساعية لتحويل العالم، تغيير الحياة، وإعادة تشكيل الإدراك الإنساني.
السوريالية أول حركة ثائرة ليست ناجمة عن نزوة فكرية وإنما عن صراع مؤسس بين قوى الروح و شروط الحياة.
للسوريالية أكثر من معنى: هي في الأصل وحدة روحية، ملتحمة بإحكام، بين كتـّاب و فنانين عملوا ضمن شعارات مشتركة، وسعوا في ما بينهم إلى حل معضلاتهم الفنية، ونشروا في المطبوعات و الدوريات ذاتها، بل و تعاونوا أحيانا في تنفيذ أعمال مشتركة. لكن بالمعنى الأرحب، السوريالية كانت تمثـّل الأزمة الروحية التي نجمت عن التطورات الأيديولوجية في القرن التاسع عشر، وقد نجحت في إنتاج تقنية للكتابة و الرسم تنقل رؤية مادية و صوفية للكون.
والآن، ما هي السوريالية؟
لقد قدّم أندريه بروتون في بيانه الأول هذا التعريف للسوريالية:
"هي آلية نفسية محضة بواسطتها نحن نعتزم التعبير – شفوياً أو كتابياً أو بأية طريقة أخرى- عن وظيفة الفكر الحقيقية.. الفكر الذي هو إملاء، في غياب أي رقابة يمارسها العقل وخارج أي استغراق جمالي أو أخلاقي".
مع ذلك فإن أي تعريف أو تحديد دقيق للسوريالية سيكون محيراً ومراوغا، وكما أشار لوي أراغون ذات مرّة، فإن السوريالية هي مثل خط الأفق، تتقهقر أمام من يتقدم نحوها يريد ارتيادها واستكشافها.
كان السورياليون يرفضون تحديد وتعريف وتصنيف أعمالهم، لأن أي تعريف أو تحديد هو انتهاك وكبح لحريتها. بالتالي، عندما نتعامل مع السوريالية، فإن الفهم المنطقي أو العقلاني لا يفلت منا فحسب بل أيضا يبرهن أنه متعارض وعلى خلاف مع مسعى الفنان. ومن ثم نجد أنفسنا متروكين، ومجردين من أي أداة، ونحن نواجه ضرورة التوصل إلى تفاهم مع الاكتشافات التي تحدث في حقل السوريالية.
لم يحاول السورياليون في أي وقت تأسيس مدرسة ذات أفكار نظرية مشتركة، أو قاعدة أساسية ثابتة وراسخة، بها يستطيع الأدب والفن أن يجدا زخماً.. حتى لو مؤقتا. ولأن القوة المحرّكة للطاقة الإبداعية السوريالية لا علاقة لها بترويج طموحات مدرسة أدبية أو فنية، فقد شعر الكثيرون بالحيرة والارتباك إزاء عجزهم عن تعقب الغاية الرئيسية وراء المسعى السوريالي.
منذ البداية حرّرت السوريالية نفسها من أسر النمذجة و القولبة. التوكيد كان على الانتساب إلى الجماعة ضمن نظام موحّد بدلا من المدرسة. المشاركة في الحركة تعزّز الإخلاص لمُثـل وغايات مشتركة دون محاولة فرض أي التزام أو مشايعة عمياء لقيم جمالية معينة. السوريالي الحقيقي لا يعمل باطمئنان ضمن قدراته ومؤهلاته الخاصة، واثـقاً مما يستطيع فعله، وحريصا على تجنب القيام بأية مجازفة.. بل هو ذلك الذي لا يستقر عند حدود ما يعرف، ويسعى مخلصاً إلى تمديد القدرات ونشر المعرفة وراء نطاق ما أنجز سابقاً، حتى لو تعرّض إلى الإخفاق.. "قد تتنكر السوريالية لنفسها لو ادّعت أنها قد أعطت حلاً نهائياً لأية مشكلة".
إن انجاز المبدع يرتكز على استعداده وقدرته على خوض المجازفات، مسلحاً بالشك لا اليقين، ومتحاشياً إتباع أساليب أو كليشيهات أو طرائق أو أشكال تعبير ثابتة و متبلورة.
الارتهان إلى تعريف معيّن للسوريالية، و في تبنّي تعريف بروتون كما جاء في البيان الأول والاستشهاد به كثيراً، كما لو أنه يعبّر عن كل ما ينبغي معرفته عن السوريالية، هذا يشبه النظر إلى قمة جبل جليدي عائم و الاعتقاد بأنه يمثـّل كل شيء، في حين يكمن حضوره الأقوى وقيمته الأعمق في الجزء الخفي الذي يوجد تحت السطح.
السوريالية ليست وسيلة تعبير جديدة أو مريحة للشعر، بل هي –بدرجة أكبر- وسيلة تحرر شامل للفكر، لتحرير العقل. إن حقل السوريالية هو العقل البشري.. المصدر اللا متناهي، النبع الذي لا ينضب، للخيال. وبينما يفتح العلم البوابات على الفضاء الخارجي، فإن مسعى السورياليين في توسيع تخوم التفكير الخلاق يصبح ذا معنى أكثر بالنسبة للعقل الحديث. إن حركة العلماء نحو الخارج في اتجاه تركيبات فيزيائية جديدة تماثل محاولات المجموعة السوريالية في سبر أعماق النفس البشرية قاصدين خلق تماسك أكثر ديناميكية و تألقا. السوريالية بالتالي ليست أسلوبا فنيا محضا بل أيضا وسيلة لاستقصاء وتحري الواقع.
كلمة "سوريالية" تسبب إرباكاً وسوء فهم، و تستحث تماثل "السوريال" (ما فوق الواقع) مع تحليق الخيال ومع الغرابة، مع أن السوريالية –بوصفها حساسية ووعياً- كانت ولا تزال مهتمة بنواح معينة من إدراك الواقع والتعامل مع الحياة و الفن.
السوريالي يستعير من الواقعي من أجل اطلاعنا على شيء لا يوفره الواقع عادة. لذلك من طبيعة الصور السوريالية أن تضع أمامنا أكثر مما اعتدنا أن نجده في الواقع، وفي الوقت نفسه تُظهر لنا اعتقاد السورياليين بأن الواقعي لا قيمة له ما لم يفتح طريقا إلى السوريال. اكتشافنا بأن الواقع قادر على الدخول في ما فوق الواقع (السوريال) الذي هو ليس نقيضه بل بالأحرى هو وعي حاد بإمكانية الواقع.. مثل هذا الاكتشاف يحرّر فينا الإحساس بالدهشة.
السوريالية لم تعلن الحرب على الواقع. إن غايتها التمدّد اللا نهائي للواقع كبديل عن الانشطار المسلّم به سابقاً بين الواقعي و المتخيّـل، و الاعتراف بالحاجة الإنسانية للانعتاق الميتافيزيقي. لقد آمن السورياليون بأن من خلال سبر النفس، من خلال رعاية معجزات الصدفة الموضوعية، من خلال لغز الإيروسية، من خلال تحويل وتحريف الأشياء عن وظائفها أو محيطها المألوف، من خلال المنظور الكوني، من خلال خيمياء اللغة التي تعلمت أن تعبّر عن هذا الواقع الأكثر ديناميكية، يتعيّن على المرء أن يكون قادرا على إشباع ظمأه إلى المطلق.
الطموح السوريالي يكمن في إحراز ذلك الاتصال الخارق بين ذات الشاعر أو الفنان وجمهوره، من أجل اقتحام أرض جديدة و أخذه إلى مناطق لم تُسبر بعد. ويكمن كذلك في استكشاف الواقع –الخارجي والداخلي- بأفضل الوسائل المتاحة.
السوريالية ترفض أن تسجن نفسها داخل حدود الذاتي، ذلك أن مبدأها يفرض عليها أن تبحث عن التأليف الفاعل بين الذاتي والموضوعي، ففي السوريالية نجد المقابلات بين الذاتي والموضوعي، بين الأحلام الفردية وأحداث الحياة المادية والاجتماعية، بين القيم الباطنية الفرويدية وأكثر الاتجاهات ثورية (الماركسية).
إن استكشاف المجهول وليس المعلوم هو الذي يعطي محاولاتهم قيمة ويضفي عليها الأهمية. في الكتابة الآلية، وفي الصدفة واللقاءات غير المتوقعة، وغيرها من الأنشطة والفعاليات التي تبدو ظاهريا عشوائية، وجد السورياليون إلهاماً كما في الواقع الجوهري، الواقع القائم تحت نطاق الوعي.. كما وصفه فرويد.
إن هدف السوريالي هو التخلص من الكوابح الاجتماعية والأخلاقية والجمالية، ومنح المدهش أو الخارق حضورا أقوى. يقول الشاعر السوريالي بنجامان بيريه:
"القيمة الأساسية للسوريالية تبدو لي في كونها أعادت إيلاج الخارق في الاحتمالات اليومية. السوريالية تعلمنا أن الواقع، إذا بدا باهتاً وفاتراً جدا فذلك لأن الإنسان لا يعرف كيف يرى، وأن نظرته صارت محدودة بسبب الثقافة المصممة عمداً لتجعل منه شخصا أعمى".
لم يحدث، في أي وقت، لمجموعة من الأدباء و الفنانين أن قدّر لهم ترك علامة يتعذر محوها أو إزالتها على مرحلة تاريخية انتسبوا إليها، مثلما حدث للمجموعة السوريالية التي احتلت موقعا هاما في التاريخ الأدبي و الفني بثقة عالية بالنفس. لم يحدث أبدا أن كانت الأشكال الفنية –من شعر و نثر ورسم و نحت وتصوير وسينما- متحدة على نحو أكثر إحكاما وحميمية كوسيلة لتحقيق غايات معينة، كما في الظاهرة السوريالية.. هذه هي الميزة البارزة للفعل السوريالي.
السوريالية التي ساهمت بفعالية في تغيير الوعي الحديث ليست مجرد حركة ظهرت و برزت في زمن محدد، وفي مرحلة معينة، ثم انتهت بعد سنوات، بل هي رؤية، قوة حيوية، تعلن عن حضورها باستمرار، حتى في حاضرنا، في مختلف الأشكال الفنية و الأدبية. ونحن نلمس تأثير السوريالية في الثقافتين الغربية والشرقية معا، وعلى الحساسية المعاصرة، بل وحتى في فن الإعلان التجاري.
إنها تمسّ كل مظهر من مظاهر الحياة، حتى أن مفهوم السوريالية نفسه قد تعرّض للتحوّل مع مرور الوقت إذ صارت كلمة "سوريالي" جزءا من المعجم اليومي، بحيث تتصل أو تشير إلى ما هو غريب أو فانتازي أو لا عقلاني أو غامض.
ولقد أشار أندريه بروتون في بيانه إلى هذا البعد المستقبلي حين قال: "السوريالية هي ما سوف تكون"، مؤكداً أن الازدهار الكلي للسوريالية لا ينبغي البحث عنه في بيان بل في الاستجابة التي تحث عليها.
إقرأ أيضاً: