هذا كتاب يستحق تحية خاصة، تقديرا لعناء وشجاعة هذا الفعل المتمرد في حيز الكتابة المحاط بالأسوار والأسلاك الشائكة.. حيث قواعد التحريم التي تفصل بين الداخل والخارج، فليس كل ما يُعرف يقال، وليس كل ما يُقال يكتب.. وهذا وحده سبب كاف للتعاطف مع هذا الكتاب الجرئ الذي عانى كثيرا حتى ظهر إلى النور، ومازال مهددا بالحصار والتعتيم وسوء الفهم المتعمد، لمجرد أنه كتب ما لا يجوز قوله إلاَّ في الحجرات المغلقة.
أيضا فإن هذا العناء الذي لقيه الكتاب إنما يصلح بحد ذاته مبررا وكاشفا للواقع الثقيل الكامن وراء المرارة التي تخترقه، وطعناته الوحشية للمنظر الرسمي المدعى الوقار للحركة الماركسية الطلابية المصرية في السبعينات، بادعاءاته البروليتارية وقداساته التي أدمن رسمها لنفسه، وما رافق ذلك من ممارسات سياسية وتنظيمية هشة، امتلأ طريقها بجثث الضحايا الذين ورثوا أمراض الحركة وادعاءاتها.
ومع ذلك ليس في نيتي الاستسلام لمرارة الكتاب، ولا إلغاؤها.. فسأحاول بالمقابل تحليلها كخبرة واقعية تاريخية تملك آلياتها الخاصة، عن طريق فك عدد من الثنائيات (التضايفات) التي توجه منطق الكتاب بأكمله.. من قبيل: الحلم/ الواقع؛ الحياة/ المعرفة والمثقف؛ الأنانية/ التضحية؛ الأخلاقية/ اللاأخلاقية؛ التواصل/ انعدام التواصل؛ وأخيرا:
الكيتش/ البراز (حسب تعبير رواية كونديرا الشهيرة: كائن لا تحتمل خفته).. الذي تقدمه الكاتبة في مقدمتها للكتاب كمفتاح أساسي للعمل بأكمله.
سأقوم بذلك متصورا أن الكشف عن المنطق الكامن في هذه الثنائيات إنما يستكمل رسالة الكتاب في الكشف عما يكمن في أساس الآليات التي حكمت الحركة الطلابية الماركسية، والتي ربما ظلت كامنة في ذات النقد الذي يقدمه للحركة؛ فقد انتقلت تلك الثنائيات في تقديري مع الكاتبة من عالمها الماضي الذي عاشته داخل الحركة الطلابية الماركسية إلى عالمها الجديد الذي تحاول أن تعيشه. فالماضي لا يموت، ولا يلقيه المرء وراء ظهره ويمضى.. والنقطة التي وصلنا إليها في رحلتنا تظل دوما تحمل آثار الطريق الذي قطعناه إليها. وهو ما يختلف إلى حد كبير عن منطق القطيعة والخلاص الكاملين الذي يطرحه الكتاب.
تقدم لنا أروى النقطة التي ترى منها عالميها في عبارة دقيقة موجزة: "أنا لسه يادوب بابتدي أتعرف على الدنيا" (ص 104).. فما سبق ليس من "الدنيا"، والدنيا الجديدة لم نعرفها بعد. وهكذا انتقلت أروى من موقف النظر والحركة في العالم الذي كان من المفترض أننا نعرفه.. إلى موقف النظر إلى "الموقع - في - العالم". أولهما موقف ينطلق من القناعات التي كانت ثابتة في زمن مضى، حين كان العالم واضحا ومرتبا وقابلا للنظر، وثانيهما العالم - السد يم، الذي نفتش عن موقع فيه، تسميه أروى - ربما مؤقتا - موقع "المثقف الهامشي".
ومن فوق هذه الحافة الفاصلة بين عالمين تقدم أروى تجربة عالمها القديم للجيل الجديد، ليس كنموذج يحتذى، أو كمثل أعلى، ولكن كتراث "يجب أن يجحدوه" (ص22). تحمل أروى معها خبرة "الخروج - من - العالم"؛ ذلك العالم الذي اكتشفنا زيفه وانحطاطه.. لنبحث عن عالم "حقيقي" غير مزيف: لقد كنا نعيش في مدينة محاصرة موبوءة أو ندور في دوامة نحسبها عالما، ونظن أن البحر كله على شاكلتها، أو بالأدق أنه يجب، ويمكن، بل ومن المؤكد أنه سيكون كذلك.
فمن قبل.. حين كنا في دوامتنا.. لم نكن نراها دوامة، بل ولم نكن أصلا نتكلم عنها، لأننا اكتسبنا خصائصها وتمثلناها. كنَّا- بالعكس - نتكلم عن "دورها - في - العالم"، ذلك العالم (بألف لام التعريف) الذي كانت دوامتنا تزودنا بخريطة واضحة للحركة داخله لتحقيق هذا الدور. كنَّا نتكلم عن الطبقات الاجتماعية، عن "طبيعة السلطة": كلمات ترسم العالم كطوبوجرافيا سياسية، كمجال لحركة الدوامة وتحققها، وتحققنا بالتالي. فنحن - الدوامة - على وجه اليقين حقيقة هذا العالم وأمله ومستقبله، وسوف يأتي حتما اليوم الذي تعرف فيه الأمواج الشاردة أن دوامتنا هي حقيقتها: فنحن نمثل المصالح العليا للبروليتاريا، والبروليتاريا تمثل حقيقة التاريخ وأمله في هذه اللحظة. التاريخ إذن بزخمه معنا.. ونحن لسنا سوى رأس حربته الماضية حتما إلى هدفها، كالحجر المنقض من أعلى الجبل.
ولكن التاريخ لن يتحرك إلى هدفه إلاَّ بنا، فانتصاره الآن يتوقف على إخلاصنا وذكائنا. ومن هنا نحن لسنا جزءا متعينا من العالم، بل نحن مفهومه المجرد.. حقيقته التاريخية. ربما لهذا لن نستطيع أن نرصد حركتنا نحن رصدا موضوعيا.. لأن ذلك يفترض أصلا أن ننجح في تصور أنفسنا كجزء من العالم، كأثر من آثاره، كقطرة في بحره اللانهائي ليس مطروحا عليها أن تحتويه بكامله أو تدعى القدرة على تمثيل لا نهائيته تمثيلا "موضوعيا".. وما أبعدنا آنذاك عن هذا. كان علينا إذن أن نكتفي بمحاكمة حركتنا من الداخل بمعايير التكتيك، معايير الخطأ والصواب، فالاستراتيجية أمرها محسوم.. ملخصها أننا لسنا سوى الأدوات العظمى للتاريخ.. أنظارنا دوما متجهة نحو العالم، نحو تحليله "الموضوعي" لنتبين طريقنا..
ولكن وجودنا الموضوعي ذاته ليس مطروحا أن يكون محلا للتحليل، فتحليل العالم هو الذي يمدنا بأسس لمشروعية حركتنا، وإدارة خلافاتنا.. وخلافاتنا لا تكون مشروعة إلا إذا اتخذت إطارها من مسلماتنا المشتركة عن العالم. نحن إذن استراتيجية خالصة، متعالية.. نحن إذن لسنا جزءا من العالم، وإنما نحن نقطة البداية لعالم جديد.. لم يولد بعد.
هذا عالم قد مضى، بدوامته وبحره المرتب الواضح، أما الآن.. فقد فقدنا دوامتنا، وصار البحر خليطا أو سديما متشابها، ولن ينفعنا كثيرا التمسك بمصطلحات الزمن الماضي: الطبقات، السلطة، البرجوازية، لأنه بغير الدوامة الواقعية لم تعد المصطلحات تدل على خطة للحركة، كما فقدت وظيفتها في منح المشروعية، ولذا يغرق التمييز الذي تقيمه وسط عشرات التمييزات الأخرى، ومن ثم أصبح مقدرا علينا الآن أن نكشف عن "كيتش المسيرة الكبرى" اليساري وندمره، آملين أن نكتشف خلف أنقاضه معالم طريق جديد. نهدم الكيتش إذن، فتتمايز الدوامة الموحدة القديمة إلى عشرات المواقف والأحكام، أو آلافها، وننظر إلى رفاق "المسيرة الكبرى" من خارج المظلة التي جمعتنا بهم، فنجد بينهم من الاختلافات ما يجدر معه إعادة تصنيفهم وتقييمهم من جديد. لم يعودوا رفاقا.. ولم نعد ندور معا حول نفس البؤرة المركزية. ثم ننظر كرَّة أخرى، فيتاح لنا أن نرى للمرة الأولى موقع دوامتنا في العالم، كيف تشكلت، كيف أنتجها العالم، وكيف كانت بالتالي إحدى حقائقه، وجزءا من نسيجه.. جزءا من خريطة وأيديولوجية الناصرية التي تمردت الدوامة عليها.. وتصبح النظرة الموضوعية إلى دوامتنا ذاتها ممكنة للمرة الأولى.. ونكتشف أننا لم نكن أصلا نقطة بداية عالم جديد.
ذلك ما اكتشفته أروى وهى تمر مع زملائها بتجربة "الخروج - من - العالم". ولكن هذا الاكتشاف - ما دمنا قد أصبحنا الآن موضوعيين - إنما توصلنا إليه بسبب ضغوط قاسية..
ضغوط الفشل. فالدوامة لم تفشل فقط في اجتذاب الأمواج الهائمة لتدور في فلكها، بل فشلت أيضا، ولهذا السبب بالذات، في إيجاد طريقة لمجرد الحفاظ على نفسها. كنا في الدوامة.. ولكن الدوامة انفجرت، تحت الضغط الشديد، وتناثرنا ذرات، تنطلق بقوة دفع وجودنا المحض نحو المجهول/ العالم "الحقيقي"، لنحمل له معنا خبرتنا الوحيدة: خبرة التناثر: ذلك الكيتش كاذب، هذه الدوامة ليست من البحر. نأتي إلى "العالم - السد يم".. "الحقيقي" أيضا.. لنروى روايتنا عن الكهف الذي عشنا فيه سنينا. وأثناء ذلك يحدث التحول الأهم: فنحن الآن نكلم العالم، بعدما كنا نتكلم عنه. كنا نتكلم داخل الدوامة عن ذلك العالم الذي كنا قد نظمناه فكريا لنتحرك داخله، أما الآن فنحن نكلم العالم - السديم ليقبلنا داخله، نقدم إليه خبرة هي بالضرورة "تراث يجب أن يجحدوه"...
تلك هي شجاعة هذا الكتاب..
تروى أروى تجربتها، تخاطب الجيل الجديد، تشرح له القضية الوطنية، وتشرح أيضا ذلك التراث من النفاق والازدواج والشر داخل الحركة الطلابية الماركسية وتنظيماتها، فتكتشف أن هذا الجيل الذي تخاطبه لم يكتف يجحد ذلك التراث، وإنما توصل إلى تجاهله أصلا !
جيل لا تعنيه دقائق القضية الوطنية في كثير أو قليل.. وبالتالي لا تعنيه خبرة أروى إلا من حيث هي خبرة إنسانية خاصة، لا تحدد معنى العالم، سواء فيما مضى أو في المستقبل. جيل يعيش حياته في عالم مختلف، ذابت فيه الفواصل القاطعة بين الدوامات التي تنازعت عالمنا الماضي، بل وليس في نيته أيضا مواصلة النضال من أجل القضية الوطنية.. ولذلك فآخر ما يهمه هو تحديد المسئولية عن "الأخطاء" و "الجرائم" التي تشكل بؤرة المرارة في الكتاب. مرارة اكتشاف أبعاد الهوة السحيقة بين الحلم وواقعه.
ثمة هوة عميقة إذن بين المرسل والمستقبل بصدد معنى الرسالة.. وهو ما يكشف عن وجه آخر من أوجه هذا الكتاب.. فالموقف المعروض هنا ليس موقف من عبروا بالدوامة سريعا ونفضوا عن أنفسهم غبارها، وتعينوا في العالم من جديد، في معسكر آخر أو خارج كل المعسكرات.. وإنما موقف من تشكلت حياتهم بعمق داخل هذا العالم. فأروى على خلاف الجيل الذي تخاطبه لازالت تحمل معها - رغم تخليها مؤخرا عن القضية الوطنية - الحلم بالعدل، بالانتماء الواضح لعالم مرتب جيدا. إن ذلك الكتاب يقدم لنا شخصية مؤمنة بطبيعتها، ولكنها صارت بغير إله.. شخصية تظل تحمِّل نفسها مسئولية العالم والحقيقة في عالم قيد التشكل يراجع مبدأ إمكانية وجود هذا النمط من المسئولية من الأساس..
وتلك هي الهوة الضخمة.. وذلك هو الجحيم.
وذلك أيضا هو الخلاف مع الجيل الجديد. لذلك تجد أروى نفسها مضطرة، برغم المرارات، لأن تلتفت إلى الجيل الجديد لتؤكد له أن حياة جيلها كانت برغم كل شيء أكثر غنى، لأنه جيل عاش وذاق لحظة حرية، لحظة كان كل فرد - حتى أسوأهم - على استعداد لأن يموت من أجلها.. جيل عاش الحلم الكبير، وخاض تجربة عميقة أدرك فيها شرور القيم البرجوازية التي لا يدركها هذا الجيل الجديد. ووفقا لهذا المعيار يعيش الجيل الحالي حياة أكثر قسوة بكثير، لأنه يفتقر إلى الحلم القديم أو ما يعادله.. جيل موصوم بالضياع في اللامعنى، وإذا كنا نتعاطف معه فإن هذا التعاطف نابع من هذا الضياع بالذات.
تقبل أروى إذن مسئولية العالم والحقيقة كما ورثتها من خبرتها القديمة، وترفض في ذات الوقت ما شهدته في خبرتها السابقة من تحول هذه المسئولية إلى "شر وجنون" و"عدم تسامح" و"رفض للاختلاف" والتعالي، الخ. ماذا يبقى إذن؟ تبقى "إمكانية الحلم ذاتها" (ص 118)، نوع معين من الأحلام، ربما كان - كما سنرى - لا يختلف كثيرا عن نوع الأحلام الذي ميَّز الحركة الطلابية.. أو.. الدوامة القديمة.
لا تشهر أروى حلمها في مواجهة الجيل الجديد "الضائع" من المثقفين فحسب.. ولكن في مواجهة "العالم الجديد" كله؛ كانت أروى قد رفضت فيما مضى تعالى الطليعة عمن أسمتهم الطليعة "الناس العادية"، ولكنها حين خرجت من الطليعة تبحث عن هؤلاء الناس وجدت عالمهم قبيحا. وكلما اقتربت منه وجدته أكثر قبحا، ففسرت ذلك بأن القبح "قد سبقها إليه". وبصرف النظر عما ينطوي عليه ذلك من افتراض "جمال العالم" قبل ذلك.. فإن هذا الحكم بالقبح كان طريقا مَلَكيا لعودة المرء إلى تاريخه العريق، المحفور في جسده..
ليعيد تشكيل الكيتش الضائع معدلا.. فالآن سيتشكل الحلم متحولا إلى مثل أعلى أخلاقي موضوع صراحة أمام الواقع، وتعلن أروى عن نفسها - بالتالي - مثقفا هامشيا.
حين يعلن موقف المثقف الهامشي عن نفسه فإنه يفترض بالضرورة "وجود" مركز يقف هو خارجه.. فالهامش لا يوجد إلا قياسا إلى مركز ما. فالمثقف الهامشي يظل يحمل في داخله الحلم، غير أنه حلم مجرد؛ حلم توقف عن التبشير بطريق جديد نحو عالم جديد، فهو كيتش بالقوة فحسب، برغم أنه لا يخلو من دلالات محددة على نحو ما سنرى. وهو أيضا موقف انتظار، لأنه لا يعلن نفسه مركزا بديلا، ولو في حالة جنينية.
من خلال هذا الموقف الهامشي سوف نستبقى برغم كل شيء تلك الرؤية النورانية .. ذلك الحلم.. أو الأمل في حلم الخلاص الشامل، باعتباره المعنى الوحيد للوجود، والمبرر الأساسي لوجودنا نحن بالذات، حتى إذا كنا قد فقدنا الآن الطريق. لذلك فنحن لا نستطيع أصلا أن نرى في رفض الجيل الجديد لمبدأ الحلم إلا علامة مؤكدة على ضياعه.. فلا هو يشارك أروى في هذا الموقف الهامشي، ولا هو يمثل الطرف الشرير الذي نقاتل ضده. ومن ثم يصبح موقفه بالضرورة موقفا غير قابل للرؤية ولا للتفسير من وجهة نظر "الحلم" - بألف لام التعريف - إلا كسلبية محضة، كـ "لا - وجود".. أو - بشكل أبسط - كضياع يستحق الرثاء .
إذا كان الجيل الجديد قد أسقط قضية الوطنية، ومشكلة المسئولية عن الجرائم، فإن جيل الحركة الطلابية الماركسية وقادته من الجيل الأسبق قد انتبه بعنف لهذه الرسالة، واستعد بالسلاح ليخوض معركته المقدسة ضد الكتاب، حتى بغير قراءته. ذلك أن الرهان هنا ليس على الأفكار، ولكن على القداسة. لقد كانت الرسالة التي وصلت إلى جميع المهتمين، بغير قراءة، هي أننا بصدد انتهاك لقداسة الدوامة التي هي رأس حربة التاريخ ومبرر وجودنا.. وفى هذا لم يخنهم حدسهم؛ فالكتاب في المقام الأول إعلان للحرب.. وإذا كانت أروى تقر في مقدمتها المتأخرة للكتاب بأنها اكتشفت عند لقائها بالجيل الجديد أنها لم تكن قد تركت مواقعها وأفكارها القديمة فيما يخص القضية الوطنية ومركزيتها.. فإن الرابطة المستمرة بالماضي في عمومه تنسحب في رأيي على مجمل النص.. من حيث هو نص يصفى الحساب على نحو بالغ الحدة مع رموز الحركة ومقدساتها.. ذلك أن تصفية الحساب ليست قطيعة بقدر ما هي رابطة قوية سنتناولها لاحقا.. هي رابطة الثأر. نحن إذن أمام معركة تُشن من داخل الصفوف.. "خيانة" - كما لعلهم يقولون - ومن هنا ذلك الاحتشاد المسبق ضد الكتاب...
لماذا كل هذه الجرائم والآلام ؟ تحاول أروى أن تقدم تفسيرا لجيلها: أنتم جيل قد خضع لجيل سابق "انتهكه" عهد عبد الناصر حين حذفه إلى الهامش، وأصبح لا يرضيه أقل من الزعامة تعويضا، فمارسها باستهتار على الحركة الطلابية الصاعدة في أوائل السبعينات بهدف تلصيم صورة نضالية لذاته، بغير أي شعور بالمسئولية تجاه مأساة الشعب وتجاه الجيل الجديد، إلى حد عدم التورع عن استثمار الحركة في تصفية الخلافات التي تراكمت بين أفراد هذا الجيل السابق في زمن الانتهاك الناصري.
تستدير أروى لتدين قادة جيلها أيضا.. هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم على رأس الحركة الطلابية دون أن يكونوا قادرين فعلا، لا على القيادة، ولا على شجاعة الاعتراف بالعجز. فما كان منهم إلاَّ أن سلموا أنفسهم للجيل السابق، مقابل الحصول منه على الثقة والأطر والدوجمات والمرجعيات الكفيلة بتثبيت أوهام الانتصار الحتمي في نفوسهم، في مواجهة كل الحقائق التي كانت تؤكد انحسار الحركة. هنا نصل إلى بيت القصيد من هذا التحليل.. وهم مجموعة الأتباع/ الضحايا، الذين دفعوا ثمن رغبة هذه الذوات المريضة من أبناء الجيلين في تعويض الهزائم والجهل والعجز عن الاعتراف بالعجز.
غير أن المسألة أعقد من هذا التقسيم البسيط إلى خادعين ومخدوعين.. فمن أسهل الأمور مد هذا التحليل الذي تقدمه أروى على استقامته ليصل إلى الأتباع وأتباع الأتباع...
إلى نهاية الصف.. فكل منهم سلَّم رقبته بالفعل لمن يليه ارتفاعا وردد مقولاته.. ربما حتى بشكل أكثر سطحية وتبسيطا ويقينية، إشباعا لاحتياج نفسي ما.. بل وربما أيضا لنفس السبب: عدم القدرة على الاعتراف بالعجز. وأياً كانت آليات الاستعباد/ الخضوع، فإنها، في ظاهرة بهذا الحجم والامتداد الزمني، لا يمكن أن تُعزى إلى مجموعة ظروف فردية أو تُلقى مسئوليتها على أفراد بعينهم.. وكفى اللـه المؤمنين شر القتال !
فبصرف النظر عن الحساب الشخصي، ودون إنكار لوجود بشاعات فردية خاصة، فإن "التعيين في رتبة الطليعة" - الذي تعتبره أروى "أول خطوة في سكة الانفصال عن الناس وفى صنع علاقة بهم أساسها الغربة" (ص 55) - يولِّد بحد ذاته مجموعة من الخصائص الأخلاقية تفسر الكثير مما تشير إليه أروى (وغيره مما لم تشر إليه) من الخصائص التي ميزت محنة من أسمتهم بـ"المبتسرين". فالتنظيم - الطليعة هو بالتأكيد في نظر نفسه "النفي المطلق للبراز" - بتعبير كونديرا الذي تقتبسه أروى، ويعنى تقريبا التشبث بالكمال الخالص ورفض كل ما يخرج عنه - فهو مجمع حكمة وتاريخ ونضال البروليتاريا المحلية، المرتبطة بالبروليتاريا العالمية، التي تحمل على كاهلها مهمة تطهير العالم من كل "براز". ومن هنا تتسلل النتائج: فلماذا لا تتعبد الحركة في "محراب التجربة السوفيتية" - كما تلاحظ أروى - مادام هذا ضروريا لتقوية "إيمان" الطلبة بدورهم التاريخي في مواجهة حقائق واقعهم ذاته؛ ولماذا لا يجرى تقديس الكتابة والتنظير والمناقشات على حساب العناصر الموهوبة في أمور التنظيم، إذا كنا أمام حركة ضعيفة من حيث نفوذها الفعلي في الأوساط العمالية التي تدَّعى الحركة التعبير عنها ؟ ألا تصبح العقيدة في هذه الحالة الأساس الجوهري الفاعل في إبقاء الرابطة التنظيمية، غير الفاعلة موضوعيا من وجهة نظر أهدافها المعلنة؟ ومن ثم الحفاظ على "طليعية الطليعة" - إن جاز التعبير؟ ومن الطبيعي أيضا تقسيم الناس إلى صفوة وأتباع، لأن فكرة الطليعة تتضمن بحد ذاتها فكرة طليعة الطليعة، ثم طليعة طليعة الطليعة... وهكذا، وهو ما يتعزز بفعل النظام الهرمي، حيث تتجمع عناصر الصورة - حقيقية كانت أو وهمية - في المستوى الأعلى دائما. ألا يرتبط هذا كله بالنظرية اللينينية القائلة بأن الوعي - بألف لام التعريف - يأتي للطبقة العاملة من الخارج بالضرورة، من المثقفين ؟ أليس التفاؤل الكاذب المزيف الذي اكتشفته أروى ونددت به يشكل التتمة الضرورية، ليس لهذا الوضع المتردي فحسب، ولكن أيضا لذات الإطار النظري الذي يقيم ركائز النضال على الوعي الطبقي الذي يحمله التنظيم، بوصفه المعبر الذي لا يخطئ عن المصالح التاريخية للطبقة العاملة، بل وعن التاريخ ذاته ؟ ألا يُعتبر التشاؤم في ظل هذا الوضع خيانة وتخاذلا، بل وعمالة لأعداء البروليتاريا أيضا؟
لهذا كله أعتقد أنه من المشروع تماما افتراض أن اختزال الصراع الطبقي في الوعي الطبقي، تمهيدا لاختزال الأخير في التنظيم اللينينى - بكل ما يحمله هذا الاختزال من تحويل التنظيم إلى "الممثل الشرعي والوحيد" للطبقة العاملة والتاريخ، أي إلى طليعة - يعنى ببساطة أن التنظيم يكرس نفسه بنفسه بهذه الأيديولوجية، بصرف النظر عن واقع حركته الموضوعي الذي يصبح في وعيه "مجرد" مسألة تكتيك وظروف وقمع... الخ.. لا تنال من هويته وحقيقته المقدسة، أو حتى تلقى بظلال الشكوك حولها. ولا يخفى على أحد أيضا واقع أن الحركة الطلابية الماركسية الوطنية إنما كانت ترتكز في الواقع - وليس في النظرية - على الإنتليجنسيا المدينية الحديثة، أي طلبة الجامعة وخريجيها من الموظفين والمهندسين والمحاسبين والأطباء... الخ، إذ كان صراعها مع السلطة ومع التيار الإسلامي منصبا بعمق على التواجد الفعال داخل هذه الفئة، بل وشهد تاريخ الحركة في حالات كثيرة "نجلسة" Intelligentsization - إن جاز التعبير - عديد من الكوادر العمالية نجحت الجهود في ضمها للحركة، "ليغتربوا" بدورهم عن الطبقة التي ينتمون إليها حتى يصبحوا جديرين بلقب "الطليعة".
وفى ظل منطق "التمثيل الشرعي والوحيد" كان لابد أيضا من إيجاد قضايا نظرية لإدارة وتبرير خلافات التجمعات المختلفة، سواء الخلافات بين المنظمات أو بين المتكتلات داخل كل منظمة على حدة، نظرا للاتفاق على أن الحقيقة هي في أصلها واحدة، وعلى أنه لا يوجد أصلا سوى تأريخ واحد صحيح للعالم ومصالح تاريخية وحيدة مشروعة. ومن هنا أهمية المناقشات الفقهية المستمرة التي كانت ترمى جميعها إلى إثبات الأحقية المطلقة لكل طرف في احتكار تمثيل هذه الحقيقة الواحدة والمصالح المشروعة الوحيدة. وفى ظل الركود الحركي والتنظيمي ليس من المستغرب أن يصل ابتذال المناقشات سعيا إلى إضفاء المشروعية على الاختلافات التنظيمية وإدارة الصراع حولها إلى حد النزاع العقائدي حول موضوع "نمط الإنتاج الآسيوي"، مثلا، وإن كانت قد دارت في معظم الحالات حول قضية "طبيعة السلطة"، التي لعبت نفس الدور الذي لعبته "أنماط التكفير" في إدارة خلافات التيار الإسلامي - كما أوضحت في دراسة سابقة. ذلك أن هذه القضايا الخلافية قد سمحت لكل طرف من وجهة نظره بالاحتفاظ بادعاء "التمثيل الشرعي والوحيد" في مواجهة الأطراف الأخرى، فوق دورها الأساسي، وهو الاحتفاظ بالتماسك التنظيمي ذاته، بالكي تش، حيث ينظر كل فرد في وجه الآخر فيجد في "تمسكه بالمبدأ" تأكيدا ودعما وتبريرا واقعيا لتمسكه هو أيضا، وبالتالي الاحتفاظ باللغة الخاصة للطليعة عن طريق تداولها وإعادة تداولها وإنتاجها.
ثم يأتي الوضع المحوري للقضية الوطنية وسط القطاعات الأوسع للحركة الطلابية الماركسية المصرية ليكمل الدائرة.. فالموضوع الوطني بمفرداته من قبيل الخيانة الوطنية والصعود والهبوط التاريخي للطبقات...الخ، إنما رسَّخ، في ظل غياب النشاط العمالي، الطابع السياسي - الأيديولوجي الطليعي، حيث تظل الطليعة ترنو من خلال هذه المفردات إلى هدف استراتيجي وهمي هو جهاز الدولة، وتصب أطروحتها على نقد سياساته العامة واليومية فيما يخص القضية الوطنية، التي هي قضية علاقة خارجية بالأساس، فتحتفظ الطليعة لنفسها من جراء ذلك بكرامة الجنرالات، فهم ليسوا من خلال هذا النشاط الكلامي بأقل من دولة بديلة أو حكومة ظل كاملة في أرقى تجسداتها: تمثيل الوطن.
وأريد أيضا أن أضيف: ولم لا نقول أن ذلك كله مرتبط بمنطق "الحلم" الذي تفخر أروى بجيلها لامتلاكه ؟ ذلك أن الطليعة من خلال هذه الآليات تصبح أعلى.. بالضبط لأنها تمتلك الحلم- في مواجهة الواقع الذي لا تمتلكه - وتمارسه في نشاطها ومناظراتها، وفى معاركها: المعارك الداخلية من أجل احتكار الادعاء بامتلاك الحلم، والمعارك الخارجية من أجل حلم المسيرة الكبرى: حيث يخرج الكورس: "الجماهير"، ليسير خلف المناضل، الذي يتحقق بهذه الصورة كـ"طليعة" للناس "العادية"، ويصبح من جراء ذلك على استعداد طوعي للشهادة التي تساوى البطولة بالمعنى الديني المسيحي/ الإسلامي. ألا نستطيع إذن أن نقيم تطابقا بين ازدواجية الحلم/ الواقع، وازدواجية الطليعة/ الجماهير؟ ألا نستطيع أن نعتبر "الحلم" صيغة رومانتيكية أو عاطفية لمنطق التمثيل - الطليعة ذاته؟ أو المرادف الأخلاقي لهذا المنطق ؟ لقد ارتبط الجميع بـ"الحلم" ارتباطا لا فكاك منه. غير أن الحلم كان بمعنى ما إجباريا.. فالحلم لم يكن سوى أحد مفردات عالم سائد من الأحلام.. عالم الأيديولوجيات الواحدية، الذي بدأنا نستشعر انهياره في مصر في التسعينات فقط. وترصد أروى ذاتها حقيقة أن الحركة الطلابية الوطنية الماركسية كانت بمجملها جزءا من الأيديولوجية الناصرية، برغم العداءات؛ فالبرنامج الوطني كان واحدا، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الأيديولوجيا - الدوامة الناصرية كانت أيضا جزءا من عالم الصراع بين المعسكرين. فكما تلاحظ أروى - على صعيد الحركة الشيوعية - لم تسلم الحركة الشيوعية الأوربية ذاتها من الجمود العقائدي. وإذا دققنا النظر فسوف نشهد عالما أنتجت فيه الأيديولوجيا الرأسمالية الديمقراطية ذاتها نموذجا بشعا للإرهاب الفكري في ذلك الحين، هو المكارثية. وفى كل هذه الصراعات بين مختلف الأيديولوجيات/ الدوامات، ترسخ المبدأ القائل بأن الفكر يحكم العالم، وأن المبدأ الصحيح يجب الذود عنه خوفا من "تلويثه" بأى مكونات خارجية، وأن "التحريفي" أكثر خطورة من "الخائن" الصريح، العدو المعلن. لقد كان الكيتش الذي تدينه أروى إذن أحد مفردات عصر الحقيقة الوحيدة، عصر تدور صراعاته كلها على أساس افتراض مبدأ مطلق خيِّر وحيد يدعى كل طرف امتلاكه، وعليه بالتالي أن يسعى عبر حوار أو صراع يسمى نظريا أو فكريا لتأكيد مشروعية هذا الامتلاك. وفى هذا الإطار تصبح الدوجمائية فريضة، ويصبح تمييز الأعلام أو الرايات في حاجة إلى تأكيد دوجمائي لا يكل، ولا يتورع عن اختلاق ما يناسبه من مبررات "نظرية". ففي إطار الحركة القومية العربية، مثلا، أدار البعث وعبد الناصر صراعاتهما على المستوى الأيديولوجي عن طريق الاختلاف على ترتيب الأولويات بين مقولات "الحرية - الاشتراكية - الوحدة"، وسالت الأحبار أنهارا لتناقش هذه التفاهة المقززة، لا لشيء إلا لتبرير واقع وجود معسكرين يستعملان ذات الأيديولوجيا ويتصارعان باسمها على السيادة...
كلا.. لم تكن الحركة الطلابية الماركسية تنفرد بأمراضها.. بل كانت وبحق ابنة عصرها، حتى ولو كانت بين أخوتها ابنا مبتسرا وهزيلا بعض الشيء !
في كل هذه الحالات كان دور هذه الأيديولوجيات - الدوامات، هو بالضبط تبرير الاختلاف، وإقامة هوية متميزة، والقمع باسمها: من أجل بناء الدولة الوطنية التدخلية القوية ومد نفوذها في المجتمع، في حالة الناصرية؛ ومن أجل بناء الدولة الحديثة في حالة الحركة الوهابية الثالثة بالسعودية؛ ومن أجل حفظ تماسك البيروقراطية السائدة وتحديث المجتمع على يد الدولة، في حالة الاتحاد السوفييتي؛ ومن أجل الحفاظ على هيمنة الرأسمالية ومواجهة البيروقراطية السوفييتية، في حالة المكارثية.
أما الشيوعية المصرية في الستينات والسبعينات، فكانت لفترة ما أداة الإنتليجنسيا المدينيَّة المصرية الحديثة - أو بعض قطاعاتها بالأدق، في مقاومة هيمنة الإنتليجنسيا العسكرية، ثم في مواجهة عجز الدولة المتزايد عن إعالتها ورشوتها بعد ذلك مع اقتراب الخزانة العامة من الإفلاس وانتهاء العصر الذهبي للتعيينات والوظائف. لقد كان البرنامج الوطني "الديمقراطي" السلطوي للحركة يلعب بالضبط على الفجوة بين الدعاية الناصرية وواقع الدولة كما تراها هذه الإنتليجنسيا. غير أنه لأسباب كثيرة سقطت قيادة الإنتليجنسيا المتمردة في يد الإنتليجنسيا الحاكمية الأكثر راديكالية، وصاحبة الأيديولوجية الأكثر تماسكا في عداء النظام، حيث تنطلق باسم "المطلق" ذاته، لتصل إلى إدانة مطلقة لمبدأ الدولة القومية ذاته.. واكتمل سقوط البرنامج المذكور مع انحسار "الخريطة الناصرية" بعدما أدت مهمتها في خلق الدولة التدخلية الحديثة، التي أصبح واجبها الوحيد هو إعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي بشكل أعمق وفقا لتوازناته الحقيقية، وفى حدود المحصلة التي خلَّفها مجموع الانتصارات والهزائم.
غير أن تحليل الحركة الطلابية الوطنية الماركسية من منظور أيديولوجيتها وظروفها لا يمنع، أو لا يستبعد - بعد كشف الكيتش بالذات - وجود أوسع الاختلافات مدى في جوانب متعددة من شخصيات أعضاء الحركة. وليس من غير المتصور مثلا وجود أفراد "تحرروا من الوهم"، وأباحوا لأنفسهم بعد ذلك الاستمرار لمجرد الحفاظ على "مهنة" الزعامة أو الطليعة، أو بسبب العجز عن الحياة خارج الدوامة. ومع ذلك فلا يمكن أن يقال أن هذا النوع من الأفراد أو غيره قد اقتصر وجوده على الحركة الطلابية الماركسية، أو حتى على الحركات السياسية على وجه الحصر، فضلاَّ عن أنه من غير المتصور أن يلعب هذا النوع من الشخصيات دورا مهما كهذا إلاَّ في بيئة ومؤسسة تتيح لهم الفرصة والإمكانيات لممارسة مثل هذا النمط من النفوذ. ولا أظن أن حزب لينين مثلا كان أفضل أخلاقيا من جميع النواحي، برغم امتيازه بأنه لم يكن حزبا طلابيا، بدليل خضوعه لزعيم على غرار ستالين مثلا. وإذا كان ستالين زعيما عالميا ناجحا فلماذا إذن يُلام قادة الحركة الطلابية الماركسية المصرية على اقتدائهم به ؟ ولماذا يُلامون على "تلصيم صورة نضالية" إذا كانت هذه الصورة معيارا عاما للحركة كلها ؟ ومطلبا كانت الحركة تطالب به بشدة لدرجة السعي لتقليد الزعماء على اختلافهم في أساليب الحديث والسلوك، بل في حركاتهم ؟ ألم تكن العناصر الأكثر إخلاصا ونقاء هي بالضبط الأقل قدرة على التخلص من الكيتش ؟ ألم تشهد هذه الفترة عمل ماكينة الإدانات بأقصى طاقتها على أيديهم، بالذات لكل من يتخلف عن الركب ويمتنع عن "تلصيم صورة نضالية" ؟ بل لكل من يجرؤ على طرح مبدأ إعادة التفكير في تفاهات نظريات الحزب على غرار نظرية "طبيعة السلطة" ومهاتراتها النظرية ؟ ثم.. ألا يتطلب "التعيين في رتبة الطليعة" بالضرورة إنشاء صورة طليعية نضالية والحفاظ عليها، بنفس الطريقة التي يستصحب بها "التعيين في رتبة الوزارة" مثلا اتخاذ سمت الوزراء وطقوسهم ؟ ألم يتواطأ الجميع مع مبدأ الحفاظ على قدسية أسرار وفضائح "البيت الواحد"، فضلا عن عدم جواز مناقشتها في الداخل أصلا بغير تغطيتها بأسانيد نظرية محترمة ونصوص مناسبة ؟ وأخيرا ألا تُلقى سيرة ستالين وغيره ولو بعض الظلال من الشك حول الفكرة الضمنية القائلة بوجود رابطة قوية بين الفعالية السياسية والأخلاق ؟؟
فقبل وبعد كل شيء بنى ستالين الاتحاد السوفييتي وخاض به حربا عالمية وكسبها برغم كل أخطائه، ورفع الدولة السوفيتية إلى مستوى قوة عظمى.
لا يمكن إذن أن نستبعد بشكل مطلق إمكانية تحول أسوأ العيوب الشخصية للستينيين أو السبعينيين إلى فضائل في ظرف معين، تفيد في تحقيق "الكيتش النضالي".. فليس التحطيم المتبادل هو القَدَر الوحيد الذي ينتظر هذه العيوب أيا كانت الملابسات. ولهذا السبب وغيره حرص النظام على تحجيم نشاطات الحركة الطلابية الماركسية وإجهاضها بشكل دوري وعزلها عن التجمعات العمالية، برغم الفاعلية المحدودة. وبالمقابل لا يعنى نجاح هذه المنظمات الفقيرة الإنتليجنسوية في التحول في ظرف ما إلى قيادة ثورية أو حتى استيلاؤها على السلطة أن الكيتش ليس كاذبا، ولا أن الجزء قد أصبح أخيرا كُلاَّ، لأن تثوير الحياة الاجتماعية ليس مرهونا بالسلطة السياسية وحدها أصلا، ولا هو من فعل نخبة متجردة تمثل الجماهير والتاريخ معا.. فالسلطة السياسية ليست هي الحياة، وإن كانت من أقوى رموزها المعاصرة.
وقد يكون حكم أروى صحيحا، حين تقول أنه "ليس هناك من هو أخطر من البرجوازي الصغير، المتعلم، الخجول، الشريف، الأخلاقي إلى حد التطهر.. بالذات لو قرر أن يتدخل ليعدل مسار التاريخ" (ص ص73 - 74)، ولكن هذا ليس أكثر من حُكم وحيد الجانب، فبهذا المنطق ذاته لم يكن هناك من هو أخطر من لينين "البرجوازي الصغير، المتعلم، الخجول، الشريف، الأخلاقي... الخ". فالبرجوازي الصغير - أو فرد الإنتليجنسيا بالأدق - ليس موصوما بوصمة أبدية وخالدة، وإنما هو حامل لقابليات معينة، تنتج نتائج مختلفة تماما في ظروف مختلفة، بل وتتعدل وتتحور ضمن فاعليات مختلفة. وبصفة عامة ليس من المرجح إمكان إيجاد صلة مباشرة بين الفعل الأيديولوجي/ الأخلاقي (ناهيك عن الفعل السياسي الأكثر تعقيدا) وبين أخلاق شخصية معينة، لأن كل فعل يتخلق في ظلال شبكة من التفاعلات الاجتماعية المعقدة لا بديل لفهمها عن التحليل العيني الملموس لكل حالة على حدة
حاولت أن أبين في الفقرة السابقة أن كشف منطق الكيتش، الذي بذلت فيه أروى جهدا عظيما، والذي أؤيدها فيه تماما، لا يكشف بأسفله ذرات أخلاقية متصارعة يطحن أسوأها أفضلها أو يستغله، لأن منطق الكيتش ذاته شديد الارتباط بمنطق الاستغلال وبمنطق القابلية للاستغلال أيضا، كما أوضحت، وكما سيتضح أكثر فيما بعد، حيث يستفيد منه المستغَلون كما يستفيد المستغِلون.
وسوف أحاول الآن أن أبين كيف يستند منطق الإدانة الأخلاقي نفسه إلى ذات تصورات الكيتش السابق. وقد سبق ورأينا كيف يعود الكيتش القديم للظهور في الرثاء الحار للجيل الجديد بوصفه "فاقدا للحلم"، ولكن هذا يتضح بصورة أبسط وأوضح في نمط "الحلم الأخلاقي" الضمني في هذا الكتاب، نمط يقوم في تقديري على تصور قيام ما يمكن أن أسميه "أخوية كاملة نبيلة"، وهو تصور مأخوذ مباشرة من التصور الرومانسي للشيوعية، أولا، ومسئول إلى حد كبير عن آليات الكيتش ذاته، ثانيا.
فالأخوية النبيلة الكاملة كانت هي بالفعل المثل الأعلى غير المتحقق للحركة الطلابية الوطنية الماركسية على صعيد الأخلاق، وبفعل ضغط هذا التصور بالذات لا شك أن كل من اختلف عنه اضطر إلى إعادة تصوير نفسه - لذاته وللآخرين أن كان صادقا وللآخرين فقط إذا كان "نصابا" - كمثال نموذجي بدرجة أو بأخرى لهذا التصور الحاكم، وبالتالي إنكار وكبت مجمل تراثه الشعوري والأخلاقي، ثم إعادة إنتاجه معدلا وفقا للتصور الأخلاقي الرسمي، مع تحديد مناسب نظريا لطمس الفوارق. هذا مع افتراض حسن النوايا. وهو ما ينتج بحد ذاته مختلف الظواهر المرضية التي وصفتها أروى، وغيرها من المظاهر، من جراء ما يولِّده ذلك الاصطناع والدعوة إلى الانصباب في قوالب معدَّة سلفا باسم التربية الثورية من تعقيدات في العلاقات بين الأفراد، ثانيا، وبين الفرد ونفسه، أولا.
ويتبدى التمسك بذات النموذج في إدانة الكتاب الضمنية لكل من نجوا بجلودهم من عالم الماركسية الطلابية المصرية وتخلّوا عن خوض معركة تحقيق الكيتش بحذافيره في صورته المثالية، ليندمجوا مرة أخرى في الحياة اليومية: في البحث عن الرزق ورعاية أسرة وأطفال. فالكتاب يصف هذا التصرف بأنه "تلصيم خروم"، وهو وصف لا يمكن تصوره إلا انطلاقا بالضبط من موقع نموذج التنظيم الأخوي الذي أصاب، للأسف، أعضائه "بخروم" بسبب مشكلاته ذاتها. ففي هذا الموقف سوف تتوقف رؤيتنا لهؤلاء في اللحظة التي يتركون فيها "الأخوية النبيلة" بسبب الجروح، ويظلون إلى الأبد محتفظين في أعيننا بصورتهم وهم يخرجون بجروحهم منه، ثم يعجز الخيال عن تصور ما هو أبعد من صورة افتراضية لهم وهم يضمدون هذه الجروح.. لأنهم بعد ذلك ببساطة يخرجون من التاريخ..
تاريخ "الأخوية النبيلة" المؤلمة. ولكن من وجهة نظر هؤلاء الأفراد فإن ما بدأ بالنسبة لهم - فرضا - تضميدا لجروح يتحول إلى عالم بأكمله، بمشكلاته ومسراته، بلحظاته النورانية والبائسة، بخيريه وأشراره، وتختفي مع الزمن الصورة القديمة التي كان مشروع الأسرة فيها نقطة صغيرة لا تزيد عن حجم "البلاستر" الذي نضعه على الجرح. أما من وجهة نظر الطفل الذي تنتجه هذه الأسرة، فالكيتش بأكمله يختفي تماما.
وفوق ذلك لا أظن أن مثل هذه التحولات تكون خالصة أو قطعية، فالخبرة الماضية لا تموت بمجرد توقف ممارستها، والمرء كما أشرت في بداية المقال لا يستطيع أن يرمى ماضيه خلف ظهره ويمضى ببساطة. وبالقدر الذي تبدو به الأسرة والعمل معوقان "للأخوية النبيلة"، سوف تبدو الخبرة السياسية الماضية من وجهة نظر الأسرة والعمل مشكلة أحيانا. وأنا هنا أكثر ميلا لموقف آخر لأروى، الموقف الذي - على العكس - لا يضع الحياة اليومية في مواجهة الرؤية السياسية والتزاماتها، بل يفترض أن الحياة الاجتماعية العادية هي معمل الخبرة الأساسي للفرد ومحك اختباره، وهو ما فهمته من رفض أروى لأن يعمل بالسياسة الهامشيون من المراهقين ومن الذين لم تثقل كواهلهم أعباء الحياة ومشكلات الواقع في حياتهم اليومية؛ من فقدوا كل رابطة بالعالم سوى الرابطة الوهمية لتمثيله وقيادته.
ولعله مما يؤيد تصوري هذا رصد أروى لأمراض الأسر التي ظلت تحتفظ بلافتة "الأسرة اليسارية" وأصرت على الاحتفاظ ببقايا تصورات طليعية، جعلتها تدخل مع بعضها البعض في منازعات ومشاحنات باسم المبادئ، أو تكوين شلل تجمع الفقراء حول الأسر الغنية تحت زعم استمرار النضال أو الأفكار السابقة بصورة أو بأخرى، أو حتى بقايا لهما.
كذلك تتجلى العودة إلى الكيتش القديم في النموذج الضمني للحب الرومانسي العابر للطبقات والظروف والقائم على المسئولية الكاملة والتضحية اللانهائية في علاقة قائمة على الكفاح المشترك المجرد، والذي يقدمه الكتاب في إطار نقد "المثقف عاشقا"، بوصفه "برجوازيا صغيرا". وهو نموذج لن يشعر بغرابته أحد من نشطاء الحركة الطلابية الماركسية، لفرط تداوله بينهم، لأنه بالضبط يتمم الحلم النخبوى التمثيلي. وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التصور يعود في جذوره إلى النقد الرومانتيكى الكلاسيكى للمجتمع البرجوازي الحديث، الذي ربما كان يجد مثله الأعلى في فردين محبين في كوخ بسيط، تجمعنهما وحدة سرمدية خارج كل علاقة اجتماعية أخرى، ويتضامنان في مواجهة العالم كله.. وهو ذات الجو النفسي الذي أحاط بالحركة الطلابية بوصفها نخبة إنسانية متميزة تنتمي للمستقبل وتنادى بالحرية وترتبط روحيا بعالم آخر، مثالي من جميع النواحي، يقف في مواجهة "العالم - الحاضر - كله". وفى مواجهة ذلك العالم المثالي يقدم الكتاب نموذج الحب البرجوازي الذي يقوم بالضرورة - فيما يؤكد الكتاب - على الملكية المحضة، ويهدف أولا وأخيرا للسيطرة بهدف الإشباع الشخصي الذي يتمحور حول الامتلاك... الخ. وهو نموذج يمتنع فيه، وفقا للمنطلق الرومانسي، التفكير في إمكان وجود تواصل "إنساني".. حيث أنه من المفترض أصلا أن الإنساني هو الرومانسي وأن الرومانسي هو الإنساني بالضرورة.
على أية حال أسفرت العلاقات التي قامت فعلا في ظل الكيتش عن شيء لا هو رومانسي ولا هو برجوازي.. وهو في جميع الأحوال مشكلة كبرى.. لأن هذه العلاقات - زواجا كانت أو غير ذلك - كانت - بسبب عمقها بالذات - الأقل قدرة على التكيف وفق نموذج الكيتش، وبالتالي شكلت نقطة ضعف قاتلة للوهم. فها هو كل طرف يكتشف أن الرفيق/ الآخر هو أصلا فرد بخصائصه المميِّزة له، وليس نموذجا أو تجسيدا للنموذج الذي تؤسسه الحركة.. بل هو فوق ذلك آخر؛ أي ملئ بالعيوب من وجهة نظرنا، التي هي ما زالت بعد بالنسبة لنا وجهة النظر المثلى المؤسسة جيدا على قيم الأخوية الكاملة النبيلة بعدما نجحنا في الالتحام بالكيتش وتبرير فرديتنا الخاصة في إطاره عبر عملية معقدة. والآخر أيضا - وتلك هي الطامة الكبرى - لا يتوانى عن كشف عيوبنا، وبعد فترة من الاحتكاكات لا بد وأن تواجه الأخلاق الرسمية للكيتش عقبات واقعية متزايدة.. وهذا كله بالنسبة لأفضل العناصر وأكثرها إخلاصا لقيم الكيتش ومثله. فبسبب واقعيتها بالذات تصبح هذه التجربة/ العلاقة هي الأكثر إيلاما.. لتضمنها عناصر غير كيتشوية.. دنيوية "عادية"، ملحة ومهمة ويومية.. مؤلمة خصوصا لمن كانوا الأكثر اتحادا بقيم الكيتش وادعاءاته.. فهنا بالذات لا تصلح تكتيكات التجاهل واختيار الهامشية التي يتعامل بها المناضل مع عمله ومع علاقات العمل، ولا العزلة التي يتجنب بها أهله واهتماماتهم.. هنا "الواقع"... فلتقفز هنا..
وهنا غــرق الكثيرون ممن توحدوا بـ"الحلم".
يفترض هذا المقال أن التخلص من كيتش المسيرة الكبرى اليساري والكيتش الأخلاقي المرتبط به يمكن أن يمنحنا رؤية أبسط وأكثر واقعية للمشكلات الأخلاقية. فبدلا من إدانة الأنانية بمفاهيم النقد الرومانتيكى، يمكن - على العكس - أن نقرر أن أي تصور أرقى لعلاقات تقوم على المسئولية الشخصية المتبادلة تفترض أصلا تكوين أفراد مسئولين عن علاقتهم بأنفسهم أولا، أي أنانيين بالمعنى البرجوازي. وبعد ذلك فحسب يمكن أن ننطلق إلى تصور علاقات تقوم على مبدأ الندية، بمعنى الدعم المتبادل، ومسئولية كل فرد عن نفسه، وبالتالي عدم الاعتماد على تصورات مثالية مفترضة لأخلاق جماعية أو فردية ما، تضمن لنا تلقائيا مسئولية أخلاقية للآخرين عنا. ولا يعنى مبدأ الندية هنا أسطورة التساوي المطلق، وإنما - على العكس - قبول واقع ميل العلاقة لصالح طرف ما في ظرف معين، وللطرف الآخر في ظرف مختلف، وفقا لقدرات وتكوين هذين الشخصين.
ومع ذلك، وأيا كان النموذج الذي نفضله، فإنه يظل مجرد نموذج، أي أدوات لمحاكمة الأفراد لبعضهم البعض من خلال افتراض قوالب معينة للسلوك. في حين أن كل فردية تنطوي بالضرورة على إمكانيات الخداع؛ خداع الناس، بل وخداع النفس. ومن هنا فإن المرء الذي لا يسجن نفسه بعزم وإصرار وجهود متواصلة في عقيدة أخلاقية بعينها سيتاح له من حين لآخر أن يعيد اكتشاف نفسه والآخرين في ضوء مختلف وفقا لخبرات واقعية، إذا استطاع أن يحرر خبراته، ولو جزئيا، من الأحكام الأخلاقية المسبقة. وأعتقد أن هذا الموقف أكثر إيجابية أخلاقيا من وضع معيار فوقى - رومانسي أو غيره - لمحاكمة الآخرين بمنطق متعالٍ..
واتساقا مع هذا يمكن النظر لكل فعل أخلاقي على أنه فعل متبادل بالضرورة، بمعنى أن مسئوليته يتحملها طرفاه بشكل أو بآخر. فإذا كان المغفلون يستحقون أن يمتطيهم الأفاقون (بتعبير أروى - ص57)، فإن المرأة التي تدخل - مثلا - ضمن مسئولية رجل يطوِّر العلاقة حتى حدود الفراش ثم يتخلى عن مشاركتها في العواقب الاجتماعية المترتبة على ذلك، كاشفا عن وجه شرقي كان غائبا قبل ذلك.. تشاركه المسئولية بالقبول الضمني أو حتى بالغفلة أو إيهام نفسها بقدرتها على تغيير الأوضاع بوسائل "سحرية".
وفى مقابل نموذج المثقف الذي يطرى "النصف الأعلى" المرأة ليصل إلى "نصفها الأسفل"، يوجد أيضا نموذج المرأة التي تسعى لرفع قيمة "نصفها الأسفل" عن طريق اكتساب مظهر الثقافة أو النضال، ونموذج المرأة التي تفخر بالارتباط الحر أو غير الحر بالنجوم عوضا عن تطوير قدراتها الذاتية وتحمل مسئولية ذاتها.. وغير ذلك من النماذج الكاشفة لمبدأ المسئولية الشخصية والمتبادلة.
وبصفة عامة فإن كل شخص مسئول عن اختياراته؛ فالفتاة التي تسلم رأسها وجسمها في جلسة على كوب شاي مع مناضل - كما تذكر أروى - ليس من المنطقي اعتبارها ضحية لمجرد أنها لم تنل مكاسب مادية، فبقدر ما أنها كانت مدفوعة بطموح ما، ونموذج ما، ومطالب ما، حتى ولو كانت طموحات الالتحاق بالكيتش والوصول بسرعة للمكانة المرتفعة لمسلماته.. يمكن القول بأنها شاركت باختيارها في المصير العام الذي اقتسمه أنصار الكيتش.. فليست الثروة هي الإغراء الوحيد في عالمنا المعاصر.
بل أن المشكلة التي تواجهها الأطروحات الأخلاقية النموذجية أعقد من ذلك.. فملكات البشر عموما متداخلة لا يمكن عزل كل منها على حدة، كما تطالب التصورات الأخلاقية المتشددة في تفريقها المتشدد بين ما هو "عالٍ" وما هو "سافل".. فلا يمكن مثلا عزل "نصفى" المرأة أو الرجل على السواء عن بعضهما البعض، ولا الحد من تأثيرهما المتبادل والمتآذر على الآخرين. ولا تتوقف مسألة التداخل على هذين النصفين فحسب، وإنما تمتد أيضا إلى الثروة والمكانة الاجتماعية والحيوية والذكاء الاجتماعي.. الخ.. فلا يوجد حد فاصل بين أي قدرة أو وضع للفرد وبين باقي أوضاعه وقدراته، اللهم إلا من وجهة نظر تطهرية بالغة الحدة، ترفع قيمة معينة كمعيار يفوق كل القيم، وتقيم المحاكمة على أساسها، وترفض كل تداخل واقعي.
ومن جراء هذا التداخل الواقعي مرتبطا بإهماله، نظرا لعدم مشروعيته من وجهة نظر النموذج الكيتشوي الأخلاقي، حدث خلط هائل ونشأت إمكانيات خداع للذات وللآخرين لا تنتهي. وعلى سبيل المثال كثيرا ما أصبحت المرأة مجرد ذيل للمناضل، وصوت إضافي يعضد موقفه في التنظيم، رابطةً صعود نجمها بصعود نجمه، بكل ما ينطوي عليه ذلك من امتزاج أو التحام الشخصي بالسياسي؛ فيتحول الوفاق الشخصي إلى وفاق سياسي كما يتحول الخلاف الشخصي إلى خلاف سياسي... وهو ما يتفق على أي حال مع ما رصدته أروى من تحول الأفراد إلى كيانات أيديولوجية بشكل شبه كامل.
وبصفة عامة، فإن كل ما هو "إنساني" - اختلافي، كل نقص، كان يضرب بالضرورة في صميم التصور الرومانسي الخالي من العيوب، ليصبح بالتالي مدخلا لتفكير نظري لتبرير "الانحراف" بالخيانة أو الانحطاط... الخ. فهنا يصبح التسامح مع الفردية مستحيلا، من الطرف المعتدى والمعتدَى عليه على حد سواء.. ذلك أن الطليعة بأخلاقها ونظرياتها الكيتشوية كانت دائما محكمة للتجريم.. ولا عجب في ذلك.. فالمرء لا يصبح طليعة أصلا إلا لأنه يرغب منذ البداية في الانشطار الداخلي إلى حاكم ومحكوم، وترجمة هذا الانشطار في الخارج ليتمكن من محاكمة العالم والرفاق جميعا.
ويستصحب هذا التصور القطعي: الأخلاقي/ اللاأخلاقي تصور آخر على صعيد العلاقات الإنسانية: تصور التواصل/ اللاتواصل؛ فالتواصل بوصفه فعلا أخلاقيا رومانسيا لابد وأن يخلو من كل غرض عدا تحقيق النموذج، وتفاعل الفرديات يحكمه بصرامة نموذج معين للفرد الأخلاقي الذي يعتبر وحده قادرا على التواصل "الإنساني". فالإنساني = الرومانسي كما أشرت من قبل. ومع ذلك فما يحدث واقعيا أنه يصعب كثيرا الفصل بين فهم الفرد والتحكم فيه، وبين التعاطف معه وفهمه. كما أن كل سلوك ينطوي بالضرورة على قسر ما، لمجرد كونه، كسلوك، يفرض أمرا واقعا.. ولا يمكن الفصل بين هذه الروابط من أجل نموذج يقوم على الفهم / التعاطف المجرد، بوصفه هو بالذات " الـ"نموذج الإنساني، إلا في الحياة التجريدية "في ظلال" الكيتش
في رحلتنا عبر هذا الكتاب كان تحفظنا الأساسي يدور حول إحلال خطاب أخلاقي محل خطاب المسيرة الكبرى، يظل مع ذلك يحمل العديد من سماته لأنه ينبع منه، وهو أمر من شأنه أن يلقى الضوء على الكثير من سمات ومقولات كتاب "المبتسرون".. فموقع المثقف الهامشي يصبح بشكل واضح موقع المثقف الواقف على هامش المركز القديم، والتراث يجب أن يجحده الجيل الجديد، ولكن من خلال تبنى الطبعة الأخلاقية للكيتش، بغير أفق جديد. الحلم يلح مطالبا بإعادة إنتاجه، بل وبإعادة إنتاجه بشكل مصفى من الأدران والعيوب الأوتوجهات.من خلال ذلك يواصل كتاب "المبتسرون" فعل احتشاد جبار في معركة إدانة أخلاقية لأفراد وتوجهات. ومطحقهم. ضحايا جيل السبعينات الاحتفاء به بوصفه عملا يثأر لآلامهم ويعوضهم بإدانة المجرمين في حقهم . واتسق مع تحقيق هذا الهدف النموذج الفريد للكتابة، الذي جمع بين التحليل السياسي والفكري ورسم النماذج، وزاد من عمقه الشعوري إضافة خطابين شخصيين معبِّرين. ليصبح للعمل ككل مذاقا ثأريا لاذعا، يريد أن يثبت القدرة على مواصلة الصراع ضد الأشرار والنيل منهم.. من خلال كيل اللطمات للمكانة والسلطة والهيبة القديمة التي أنتجت كل الشرور.
وربما كان من المناسب هنا أن نوضح أن هذا المقال لا يدعى أنه يقدم تناولا شاملا للكتاب، وإنما يحاول أن يقدم منظورا نقديا لجانب معين من جوانبه وهو ما اصطلحنا على تسميته بالكيتش الأخلاقي، بوصفه النقد الأساسي اللازم في رأيي لإكمال رسالة الكتاب الرئيسية والتخلص من بقايا "كيتش المسيرة الكبرى". وإذا كنا في هذه الفقرة بصدد منطق الثأر الذي يخترق الكتاب ويميزه من أوله إلى آخرة، فإن ما يعنينا هنا ليس ما هو شخصي أو ثأري بحت، وإنما علاقة هذا الموقف بالكيتش الأخلاقي. ذلك أن منطق الثأر من شأنه دائما أن يكرس بطبيعته ذاتها نوعا من التحلل من المسئولية الشخصية. فالثأر موقف نهائي، انحسمت فيه القضية وتم تصنيف معسكرات الخير والشر ولم يبق سوى خوض المعركة، ومن شأنه بالتالي أن يعيد ويلح على إعادة إنتاج مبدأ الموقف الصحيح الوحيد الذي تحمله أنتَ.. أما الأخطاء فهي مسئولية الطرف الآخر وحده. فأنتَ في موقف الثأر لا تستطيع أن تتراجع ولا أن تراجع نفسك، وأنتَ مضطر لأن تعتبر كل موقف مخالف لموقفك، ولو أبسط اختلاف، إما متواطئا مع الأعداء وإما - في أحسن الأحوال - عدميا، يقف خارج قضية الحياة والموت التي تكتنفك. وسوف تجد نفسك بالضرورة لا تلتفت إلا لمن يمدك بسلاح أقوى أو لأعدائك الذين تثأر منهم ومن يوالونهم. وباختصار فإنك تجد نفسك في موقف الثأر هذا مرتبطا أوثق الارتباط بأعدائك هؤلاء، وبمن يرتبط بهم.. سواء بالوقوف معهم أو ضدهم. أنتَ حين تثأر لا تتجاوز موقفك، وإنما تتخذ قطبه المضاد، ولذلك غالبا ما تكون أقرب لعدوك من أصدقائك، وغالبا ما ستجد نفسك تستخدم نفس معاييره ومقدساته لتحاربه بها.. لأنها هي الكفيلة بأن تحدث في نفسه أقوى تأثير. ومثلما كانت الحركة الماركسية جزءا من الخريطة الناصرية، تتأمل في الفارق بين الأيديولوجيا والواقع.. يقف الكتاب على نفس المسافة القريبة من الحركة الطلابية الماركسية، ويقلب أيديولوجيتها نحو قطبها الأخلاقي، ويتأمل المسافة بين شعاراتها وممارسات قياداتها.. وليست المسافة بين الكراهية والحب ببعيدة.
وإذا كانت أروى تعلن نفسها مثقفا هامشيا، فإن الهامش يجب أن يُفهم هنا قياسا إلى مركز.. هو بالضبط المركز القديم.. مركز الدوامة. ومن هنا لا يعنى كتاب "المبتسرون" بتقديم نقطة انطلاق جديدة، ولا بتقديم بديل.. فالحلم القديم لم يمت بعد.. وليس بالتالي في حاجة إلى بديل.. إنه مدفون في قلب النقد، بل يخترقه اختراقا، ولكن في صيغته الأخلاقية: "حلم الأخوية النبيلة".
لذلك يرى هذا المقال أن استكمال الرسالة الإيجابية للغاية للكتاب إنما يتطلب بالضبط التخلص من الكيتش الأخلاقي أيضا، الذي هو في الحقيقة أكثر قسوة ووطأة. وعلى سبيل المثال، ومع شديد الاعتذار للكاتبة، لا يسع المرء سوى ملاحظة التشابه الواضح بين رجال الحركة الذين يقول عنهم الكتاب أنهم يضعون نموذجا للمرأة هو نموذج المرأة الإلهة ليحكموا به في النهاية على المرأة الواقعية بأنها إما زوجة بلهاء أو مومس، وبين حكم الكاتبة نفسها على من أسمتهم "الذين فشلوا في تعويضها عن خيباتها". ففي الحالتين يُنَصِّب النموذج الأخلاقي فردا في موقع الحكم، ويضع بين يديه آلية إدانة باترة لا تخفق في مسعاها أبدا.
لقد ولَّد كيتش "الكمال الأخلاقي"، بتوحيده بين الفردي والعام، كل الثنائيات التي تخللت الكتاب. فـ"الكراهية المطلقة للمثقف" والرفض المطلق للصراع نفسيا وأخلاقيا ليسا سوى صورتين قاسيتين للـ"نفى المطلق للبراز". ولكن. رفض الصراع هنا لا يقوم على تسامح، ولا كمقدمة لعمل يرمى إلى إقالة الناس من عثراتهم الأخلاقية، ولكنه يقوم على تشدد مطلق، يؤدى واقعيا إلى توسيع لا متناه لنطاق الإدانة.
ولكن .. ما الذي يمكن أن يطرحه هذا المقال إذا رفض الكيتش الأخلاقي والطابع الثأري المرتبط به ؟ ألن يطرح بالمقابل كيتشا آخر يقوم مثلا عمنه.تسامح المسيحي الطابع أو شيء ما من هذا القبيل ؟ هذا بالضبط ما يحاول هذا المقال أن يفلت منه.. مدركا أن الإحاطة بمشكلة بهذا الحجم وبهذا الامتداد التاريخي أسهل كثيرا من تجاوزها. فنحن المثقفون - الذين نعمل في إنتاج الأيديولوجيات بالتعريف - نقف تاريخيا أسرى الاختيار بين الانخراط في معارك "الكيتشات" المتصارعة، متألمين مع ذلك من إدراك حدودها وزيفها، برغم قوتها الحالَّة في الميدان بشكل لا يمكن إنكاره؛ وبين تجاهلها، مخاطرين بالوقوع تحت عجلاتها الشرسة بغير وعى، وبالسقوط في اللاشيء؛ وأخيرا رفضها بشكل إيجابي، مخاطرين بتحول رفضنا هذا - في حالة اكتسابه لقوة ما - إلى كيتش جديد يفوق الجميع في قسوته بسبب جذريته بالذات.
من بين جميع هذه الخيارات يختار هذا المقال مؤقتا خيارا "شبه مسيحي"، ربما، أو تفكيكي، محاولا تجنب الأضرار الكبرى لأي من المواقف الثلاثة إذا ما اختير بشكل كامل وحاسم.
يستند هذا الموقف المؤقت المقترح إلى مجموعة من الاعتبارات، منها أن "طريق الحق المستقيم" - إن جاز التعبير - لم يوجد أصلاَّ في أي يوم من الأيام، لأنه ليس معروفا مرة واحدة وإلى الأبد، وإنما يتشكل تاريخيا من خلال مجموعة الانحرافات المستمرة عن الطرق التي ثبت خطأها، فضلا عن أن رؤية الطريق نفسه تنتج عن موقع خاص للرائي.. ومن شأن السير في الطريق أن يغير هذا الموقع، وبالتالي الرؤية. وهذا الموقف ليس فيما أظن عدميا.. إلاَّ إذا كنا نشترط لأي فعل أو حركة ضمانة علوية بالسداد والنجاح.. وقبل ذلك اليقين المطلق بالصواب الكامل.
كذلك ينطلق هذا الموقف من رفض المعايير الأحادية التي تولِّد بطبيعتها ثنائيات شاملة ومطلقة، على غرار ثنائية الخير والشر النموذجية. فالمعرفة مثلا ليست مقابلا للحياة ولا نقيضها، ولا أيضا بديلها وجوهرها وتمثيلها.. فهي لا تخرج عن كونها نشاطا بشريا مثل أي نشاط آخر، وليس - بالتالي - موقف احتقار المثقف أو موقف تمجيده نابعين من أمور جوهرية أو ماهوية تتصل بنشاط الثقافة ذاته.. فهما موقفان ناتجان في الواقع من تفاعل اجتماعي معقد. أيضا.عن أنه لا يوجد نشاط إنساني أيا كان يخلو من المعرفة.
أيضا.. لنا أن نرفض الانخراط في جيتو قديم أو جديد، ولكننا لا يمكن أن ندين مبدأ الجيتو في عصره إدانة مطلقة، خصوصا إذا كان ظاهرة عالمية في حينه.. بنفس المعنى الذي نرفض به إدانة المجتمع الإقطاعي أو الأسرة الأمومية مثلا، لأنه أمر لا معنى له، أولا، ولأنه سلوك أثبت دائما أنه يخفى وراءه أكثر مما يُظهر، ثانيا.
وبصفة عامة ينطلق موقفنا من افتراض أن كل وضع بشرى له "أساسه الكافي" - بتعبير ليبنيتز - وهو وضع متعدد بطبيعته ذاتها، ولا يمكن اختزاله بشكل جدِّي إلى معسكر "ما هو إنساني"، في مقابل ما هو حيواني، مثلا، أو منحط.. اللهم إلا من وجهة النظر التسلطية التي يحاول هذا المقال مقاومتها، والتي تقدم تعريفا لما هو إنساني لقمع أو تهديد ما لا يتفق معها بمنطق الإدانة والمحاكمة.
وبالمثل لا يوجد هذا التقابل المطلق بين الأنانية والغيرية كما يفترض الكيتش الأخلاقي. فالغيرية نموذج أخلاقي يحقق إشباعا ذاتيا جدا لمن يمارسه، ويصارع نماذج أخرى، ويطالب الآخرين بتقديم خدمات جمَّة، معنوية على الأقل، للذات. كذلك فإن الأنانية، كمبدأذاك، يعترف بحقوق مماثلة للآخرين. وسواء في هذا النموذج أو ذاك ، فإنه لا يوجد في هذا العالم فعل واحد بمقدوره أن يحقق للمرء أهدافه بمعزل عن أهداف جميع الآخرين .
وينطبق نفس الأمر على ثنائية القوة والضعف.. فالقوة ليست هي "النفي المطلق للبراز".. لأن جوانب القوة والضعف متعددة ونسبية، وكلاهما يتحول إلى القوة، وفقا لظروف متعددة. وعلى سبيل المثال فإن الضعف كمقولة كثيرا ما يستخدم لتحقيق قوة، باتهام أو ابتزاز الطرف المسمى الأقوى، وكثيرا ما تُخفى القوة كمقولة ضعفا فادحا في جوانب متعددة.
يعنى هذا كله أن علينا إذا ما قررنا أن نرفض الكيتش الأخلاقي وغيره أن نقبل الاختلاف، وهو ما يتطلب أصلا قبول الاختلاف الداخلي، والكف عن السعي الدائم للم شمل الذات بمختلف جوانبها وتقلباتها في مقولة واحدة أيا كانت. إن نبذ الكيتش يتطلب قبول "البراز".. وهو ما يتطلب أولاَّ أن يقر المرء بواقع وجود "برازه" الخاص: وضعه، اختياراته، تاريخه، أخلاقه (بالجمع)، ليتمكن فعليا من قبول "براز" الآخرين، الذي يظل دائما نتاجا إنسانيا معقدا.. وبالتالي تجنب الموقف الثأري.. موقف المثقف الهامشي الذي يرى نفسه واقفا على هامش ما يعتبره المركز - بألف لام التعريف - لصالح موقف المثقف "العادي" جدا، الذي يقدم كلمته، ويقبل واقعيا نقدها، ويعطى ويأخذ، دون أن يخضع، ودون أن يطالب غيره بالخضوع..
أما المثقف "المركزي".. فليبرز لنا إذا استطاع مفاتيح الحقيقة التي يدعى حملها.
www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=4374