مراكب سكرى بين جُزُر القاهرة وبيروت
الشارقة...
عاشت القصيدة الإماراتية الحديثة، خلال عهد قصير بين ولادتها وحركة نشرها وتداولها (30 عاماً) أسئلة الحداثة كلها في شكل مضغوط، لا بل بأسلوب فيه شيء من العجلة. فعلى مدار ثلاثة أجيال شعرية، ظل السؤال الشكلي حاضراً ضمن تيمات بحوثها الجمالية، ولم تتوقف عن إعلان نفسها قصيدة عربية، كأنها تطالب بمشروعيتها داخل الصورة الحداثية العربية العامة. هذه القصيدة، بسبب الظروف المحيطة بها جغرافيا وتاريخيا وسياسيا، تمثّل جزءا جوهريا من جدلية حوار الشكل والمضمون التي لم تنفصل عن الحداثة منذ نشوئها في عالمنا العربي.
الشاعر مسروقا من الشعر
تبدو القصيدة الإماراتية جزراً صغيرة معزولة، لا حوار بين نصوصها ولا تفاعل، ولا استمرار في ظهوراتها وغياباتها. بمعنى أن ليس ثمة نقطة انطلاق للتجربة تتبلور تدريجا مع الوقت في مسار واضح ومنتظم فتفضي إما الى ذروة وإما الى هاوية، او على الاقل الى وجهة تالية، أكانت طبيعة هذه الوجهة سلبية أم ايجابية. هي عزلة ذاتية طوعية تنبع من الحاجة الى التمايز والشعور بالاختلاف، ومن خوف التشابه مع التجارب "الشقيقة". فكل شاعر إماراتي جديد يرفض غالبا ان يعتبر نفسه استمراراً لس
هذه ظاهرة، وإن تكن طبيعية وصحية ومقبولة في إطار الأجيال الشابة التي تريد ان تقطع حبل السرة مع الأب، تصل - إماراتياً - الى مستويات مبالغ فيها. لكن لا مفر من ان يستشعر الناقد والمراقب أن هذين العزلة والانفصال موقتان، إذ سيحين الوقت الذي سيسمح بإبراز الخطوط العميقة والمتشابكة التي توحد روح القصيدة الإماراتية في أبعادها الرؤيوية وقلقها الوجودي ومكوّناتها الجمالية، وتجعل منها كياناً متكاملاً، وإن لم يكن متجانساً.
في هذا الإطار المرتبك، هناك استثناءات جديرة بالضوء، منها الشاعر الإماراتي حبيب الصايغ الذي يبرز كعلامة شعرية مميّزة في قصيدة الحداثة الإماراتية. ينطبع شعره بتطلب كبير، وبحرص على التوغّل في السؤال الشعري، وبتورط في أسئلة الكتابة ضمن اللحظة العربية الملتبسة، وبثبات في الانتاج.
اجتاز الصايغ حدود موطنه الإمارات ليعلن نفسه شاعراً عربياً، متخذاً بيروت قاعدة نشره وانطلاقته. أصدر "هنا بار بني عبس - الدعوة عامة" عام 1980 و"التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه" في السنة نفسها و"قصائد إلى بيروت" عام 1982 و"ميارى" عام 1988 و"قصائد على بحر البحر" عام 1993 و"وردة الكهولة" عام 1995 و"غد" عام 1996.
يوازي الصايغ في هذه الانطلاقة القوية الشاعر أحمد راشد ثاني، الذي نشر أول ديوان له بالعامية في دمشق عام 1981، في عنوان "سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي تعرفه"، ونشر مجموعته الثانية بالفصحى، "حافة الغرف"، في بيروت، في حين أطلق ديوانه الثالث "جلوس الصباح على البحر" عام 2003 من الشارقة. لكن ولعاً آخر سيصرف أحمد راشد ثاني عن الشعر، هو اصلاً جزء من قصيدته: بحوثه التراثية واهتمامه بالتاريخ الشفوي وطموحه الى كتابة المسرح. لذا، هو يبدو اليوم موزع الاهتمامات، منشغلاً بأطراف كثيرة، على حساب تجربته الشعرية.
التجربة الجماعية
بالاندفاع نفسه جاء الشاعر خالد البدور إلى واجهة المشهد الشعري الاماراتي، وهو القادم من لغات أخرى ومن ثقافة بصرية عميقة على خلفية أكاديمية. وقضت "المشيئة" الشعرية ان تكون انطلاقة ديوانه الأول، "ليل"، من بيروت عام 1991 عقب فوزه بـ"جائزة يوسف الخال". وسوف يأتي ديواناه التاليان ليوطداه شاعراً له صوته الحداثي الخاص والجدير بالبقاء. لكنه، على غرار أحمد راشد ثاني، يعيش محفوفاً بانشغالات أخرى متاخمة، بصرية (أوديوفيزيال) وسينمائية، بالاشتراك مع زوجته الشاعرة والسينمائية الممتازة نجوم الغانم.
شاعرٌ آخر موجود بقوة من حيث الوفرة والمثابرة على الكتابة والإصدار هو إبرهيم محمد إبرهيم، الذي أصدر أول ديوان له عام 1990 بعنوان "صحوة الورق" وانتظر سبع سنوات ليصدر مجموعته الثانية "فساد الملح"، لكنه بعد ذلك فتح بابه للشعر على مصراعيه، ناشراً منذ بداية الألفية الثالثة خمسة دواوين شعرية على التوالي.
في إطار الاصرار نفسه تبرز الشاعرة خلود المعلا التي اصدرت ثلاث مجموعات شعرية في مصر، منها "وحدك" و"هنا ضيعت الزمن"، علما ان أكثر الشاعرات الإماراتيات كثافة وحضوراً على المستوى المحلي والعربي هي الشاعرة ظبية خميس، التي شرعت تصدر كتبها الشعرية ومجموعاتها القصصية منذ عام 1981 من عاصمتين ثقافيتين عربيتين، هما القاهرة وبيروت.
في الجهة المقابلة شعراء إماراتيون آخرون يعيشون الشعر في صميم اهتماماتهم وجوهر انشغالاتهم، لكنهم ذهبوا لأسباب متعددة في طرق نشر "بديلة"، منها الكتاب الشعري الجماعي أو المجموعة الشعرية المشتركة، على غرار ما فعله أحمد العسم وعبدالله السبب وهاشم المعلم عندما أصدروا كتاباً شعرياً مشتركاً بعنوان "مشهد في رئتي". من هذه التجارب يجدر أيضا ذكر التجربة الشعرية القصصية المشتركة في عنوان "تراتيل النوارس" لكل من القاص والسينمائي مسعود أمر الله والشاعرين إبرهيم الملا والهنوف محمد.
تشكل تجارب الإصدار المشترك ظاهرة لافتة في المشهد الشعري الإماراتي، إذ أسست في بعض الحالات لبداية حوار ثقافي وأدبي وجمالي ولجماعات شعرية، على غرار جماعة "الشحاتين الخمسة" التي تشكلت في رأس الخيمة. غير ان معظم التجارب الجماعية لم تفض الى أي تطوّر داخل التجربة في ذاتها، بل أدّت غالبا الى انفصال الرؤى التي تقاربت في مرحلة ما، بعد تدقيق كل فرد في خياراته واقتناعاته الشعرية الجمالية. هكذا أصدر مثلا الشاعر أحمد العسم ديوانه الفردي "يحدث هذا فقط" عام 2002، وأطلق الشاعر إبرهيم الملا "صحراء في السلال"، ديوانه الأول عن "منشورات الجمل" في كولونيا، فيما نشر هاشم المعلم "المدفون في الهواء" عام 2003.
نصوص في نص
على مستوى آخر لم يزل الشاعر والروائي ثاني السويدي يعيش تحت غمامة روايته "الديزل" التي أصدرها عام 1994 عن "دار الجديد" في بيروت، واعتبرت وقتذاك انعطافة مهمة في الكتابة السردية في منطقة الخليج. وكان السويدي اصدر قبل "الديزل" ديوانه الأول "ليجف ريق البحر" عام 1991 عن منشورات اتحاد الكتاب والأدباء في الإمارات، ليعود وينشر في بيروت عام 2000 ديوانه "الأشياء تمر".
إلا أن أهم تجربة شعرية إماراتية مجدِّدة بسياقها الجمالي العنيف الذي قطع حبل السرة نهائيا مع مقتضيات الشعرية السائدة، كانت ولا تزال تجربة الشاعر عبد العزيز جاسم في ديوانه "لا لزوم لي" الصادر عن "دار الجديد" في بيروت عام 1995، وهي تندرج ضمن سياق قصيدة النثر، وقد انتهت إلى شبه قطيعة كاملة مع المتخيل الشعري العربي الكلاسيكي لتحاور شعريات أخرى.
هكذا يبدو النص الشعري الإماراتي كثير التعدد والاختلاف والتنوع والايقاع، حتى ليكاد يصبح من غير الدقيق أن نستخدم لدى الحديث عنه عبارة "النص الشعري الاماراتي". انه في اختصار نصوص في نص، تنتمي إلى "لغات" مختلفة، محافظة عند البعض، أي مبلولة بماء التقاليد، ومتشبثة بلغة ثورية عند البعض الآخر، لكنها في الحالين متمسكة بفردانيتها، مترددة في حسم وضعها كتجربة جماعية.
النهار-
9 ايلول 2005
إقرأ أيضاً:-