جعفر حسن
(البحرين)

مقدمة:-

جعفر حسنكيف نقف عند تجربة هذا المبدع الذي بات يغادر أبوابه السبعة نحو مدن التيه، يقطف من كل وردة بستانا كونيا لا متناه، ليتركها عند بوابات مدنه المدهونة بالدهشة، ينقلنا سريعا بين زهرات الدفلى لنغتسل بالانبهار، وكيف لنا ان نغفر للنقد خطيئته الكبرى في انسراب الغفلة بين دواخله، وهو يسرج كل الريح، و نثر الورد هنا و هناك، بحثا عن كنه الانسلاخ الإنساني الذي يسميه الإبداع، ذلك لأنه استطاع يغفل جوانب هامة من أمين صالح، الذي استطالت تجربته عناقا للقمم البعيدة في البداية.
هل كان النقد عندنا أعور لا يستطيع ان يتخطى حواجز فرضها لنفسه؟ كيف يمكن ان نتكلم عن أهرامات البلور في الشعرية عندنا دون ان نذكر أمين صالح؟ ألم يعانق قاسم حداد في الجواشن! فهل كان العناق عصيا إلى درجة لم تستطع معها الكتابات فك حروف الدهشة ليتبين أيهما أمين وأيهما قاسم؟ إذا فأمين هو هذا الكائن الخرافي المشغول بنسيج مغاير، يغادره دوما ليكشف عن ماهية جديدة في الكتابة، هل ما خدع النقاد ما قاله أمين عن نفسه؟ أو ما وصف به بعض نصوصه بأنها (قصص) كما في غلاف الفراشات ! وهل انطلت الحيلة على الناقد حين اقترب من النصوص؟ ألم يقل أمين بأنه يجترح النص أكثر من اجتراحه لأي شيء آخر !([1]) وهل النص جنس أدبي يخترق كل الأجناس؟ هل بإمكان أمين ذاته ان يفلت من الشعرية؟ ألم يكن هناك تنظير باتجاه شعرية السرد.
إذا فهو يتهجى تجاربه و هي تنـزاح لتستسلم للشعرية تماما، والتي كان بدئها في "هنا الوردة.. هنا نرقص" ـ 1973م، ثم "الفراشات" ـ 1977م، "أغنية ألف صاد الأولى" ـ 1982م، ثم "الصيد الملكي" ـ 1982م، "الطرائد" ـ 1983م، "ندماء المرفأ.. ندماء الريح" ـ 1987م، "العناصر" ـ 1998م، "الجواشن" (نص مشترك مع قاسم حداد) 1989م، "ترنيمة للحجرة الكونية" 1994م، "مدائح" ـ 1997م، "موت طفيف" 2001م، "هندسة اقل خرائط اقل" ـ 2001م، الوجه و الظل في التمثيل المسرحي"ـ 2002م.
و لنا ان نقول عن أمين صالح :أن له تجارب متنوعة، واهتمامات بعيدة عن الإبداع الأدبي، فهو بالإضافة إلى كونه مبدع للنص، إلا انه له اهتمامات معمقة في مجال المسرح و السينما، كما انه له العديد من المقالات منشورة في هذا الجانب، إلا أننا آلينا على أنفسنا إلا ان نتناول أمين من تلك الجهة التي تفتح نوافذها على نوافذ مغلقة تحلم بالانفتاح على آفاق لم ترها عين بعد.

نبش الذاكرة

ربما نلمس بين أيدينا في ثنايا مدونة الكتابة في البحرين تلك الملامسة الأولى التي تمرد عليها الناقد بين السردية و الشعرية عند أمين صالح، فنجد في ذاكرة الكتابة حين يقول الدكتور إبراهيم غلوم :" إن ابرز ما تؤكده التجربة الجديدة في قصص أمين صالح و خلف احمد خلف هو حرية الفنان في توظيف وسائله و معالجة كافة أشكال التعبير التي تكفل له صورة موضوعية في التجسيد و التأثير.. و هي لذلك تستفيد من بعض المفاهيم السريالية التي تدعو إلى التحرر من النظام و المنطق الواعي و تلتمس الواقع في أحيان كثيرة من كوامن اللاوعي وإمكانياته الهائلة في التعبير عن تناقضات الواقع الحقيقي.. و هي تلجأ إلى توظيف الأحلام و التراث و الرمز واللغة الشعرية، و الأشياء المحيطة بالإنسان (الطبيعة) لا من اجل إظهار تماسك معين و ثبات محدد للعالم بل من أجل كشف أسرار التناقض الكامن في الحياة الإنسانية و الوقوف فيها موقفا واضحا."([2]) وها نحن نشهد هنا تلك اللمسات الأولى التي تبدأ بإدراك اختراق الشعرية لكتابة أمين صالح.

الواضح الغامض أبدا

يبدو ان هناك تياران يسيران بشكل متساوق في مسارين متوازيين، يتشكل الأول داخل تيار نقدي يميل إلى اعتبار الكلمات واضحة في ذاتها، كما ان هدف التراكيب الفنية هو الوضوح، و يوازي ذلك الاعتقاد ما انتشر عند عامة الناس، و هو ما يتمثل في فكرة وضوح الأدب، و بالتالي انساق الناس وراء اعتقاد قد يشير إلى أمرا ما واضح في الكلام. لكن إعادة النظر فيما هو واضح في الأدب كثيرا ما تكشف انه ليس كما استقر عندنا في المتخيل، كما انه ليس على ذات الدرجة من الوضوح حين يوارب ذاته و يختبئ تحت بنيته العميقة بوح لا يجنى بسهولة، و ربما كان لفكرة الأدب الواضح علاقة.
ويمكننا تلمس اعتقاد مضاد لمسألة الوضوح في الأدب، و ندرك انه لا يوجد أدب واضح كل الوضوح، ان الأدب الذي يعطي نفسه بهذه السهولة للمتلقي والناقد على حد سواء ليس أدبا على الإطلاق، ان هناك ميزة في داخل الأدب تجعله مراوغا وعصيا على الإمساك في كل الأحيان، فكلما تمكنا من فك شفرة ما تقلب في سراديب الوعي ليقول شيء آخر، أو لعله يشير و يومئ إليه أكثر مما يقوله.
ولربما تمكنا من تخيل نص ما قصة، ولكنها تحوي من الشعرية أضعاف ما تحويه مما ينتمي للسردية العربية، مع صعوبة تحديد المساحة الفاصلة بين الفنون التي تتغذى على بعضها البعض وتتناص مع المدونة التاريخية للفن في ذات الوقت الذي تكون فيه تناصا على الواقع المعيوش.

دلائل الشعرية

هل هناك دلائل على الشعرية أكثر من اقتراب الشاعر لملاغاة النص، هل نسمع هسيس النار التي تطلقها هذه الكلمات لفوزية السندي فنقرأ :"أمام النص لا وقت للنصح. وأمام أمين صالح بالذات الذي يعي فنيا و رؤيويا مدى استباحة الآخرين له. لهذا نراه يستبسل في سبيل هتك مثل هذه الأدوار التي يرفض أن تصوغ صولجانها من خلقه. فأعتاد أن يترعهم (مثل أكباش تتناطح فوق نتوء يفضي إلى هاوية تعج بالجمرات) أو يأمرهم (تعال يا قارئ أبراجنا الكسول لنرميك بلا هوادة في لغز المشهد) أو يهمس لهم (لن يفهم العبارة غير الذي يمتزج دمه بدم البحر). هذا هو التحدي الفني الذي ترتهن له الكتابة حين تأتلق لتصد غزاتها"([3]).
ان لم تكن هذه المقاربة الشعرية للنص تغري بانسياق الكتابة و انسرابها نحو الشعرية، فما الذي يغرينا ! ما الذي جعل شاعرة مثل فوزية السندي تقف أمام نص أمين صالح بكل طاقتها الشعرية في استفتاح كوني أمامه، ان لم تكن حساسية الشاعر هي التي تشتغل إمام ملكوت النص فما الذي كان يحرك كل هذا الهواء في فضاء من الخصب و المغايرة؟
لقد ذهبت فوزية السندي في إغواء الشعرية في النص بحساسيتها الفائقة التي جعلتها تستقصي حركة الحروف التي تتابع في كتابة أمين في مشهدية التماثل المتقارب و المتباعد في نحو الصوت، أليست هذه هي ذاتها الاشتغالات والاشتعالات في الشعرية فنسمعها تقول إذ تستقصي ما يستعصي :" عابقا بسيرة عشاق باسلين (ع ب، س، ع، ب س ) يجوبون قباب الغابات (بون، باب، بات) و راء أميرات نهمات (راء، رات، مات) يلقحن أثداءهن(حن، هن) بزبد نقي بحليب أنقى (ب ب، ن ق، ب ب، ن ق) ممتقعات مرتجفات (م ت ت، م ت ت) حياء حبورا (ح، ح) يسفحن فضاء الجسد ليسرح (س ف ح، ف، س، س ح) روابيها ترفا ووجدا (رو، ر، و) "([4])، أليست هي انفتاح الشعرية في نبرها الخاص؟
هل هناك شاهد ما على ما نقول في ذات المقال تقول فوزية السندي :"تتبدل حركة الكلام في نص الندماء بما يتفق و طبيعة الحالات التي ترتادها العناصر في كل نص لترافق حمى الحدث و تزدهي بحضورها الفاعل في نحت المشاهد، هذه الأمثلة نماذج عن تباين الحركة في كل مقطع للتدليل على خضوع النص لأسر هذا التشوف اللغوي بسحر الشعر الذي تخلق فيه"( [5]) إذا فأن فوزية السندي تدرك تماما إنها في حضرة الشعرية وهي تتحرك في النص.
و ها هو ناقد آخر (عبد الله جناحي) يسير في ذات الركاب الذي سارت فيه الشاعرة فوزية السندي بمقالة المخصص عن ديوان "مدائح" فنسمعه يقول : "مدائح أمين صالح انتصار للشعر، ها هو القاص أمين صالح يصدر ((ديوانه الجديد (مدائح)) ذلك النص/النثر الشعري، انه هنا قد حقق حلم النبع، حيث الأصل، حيث يأتي الكاتب من حدود الأشكال إلى حرية الكتابة نحو لذة المجازفة و نشوة الاكتشاف ليشهر جمالية المغامرة، و إذا كانت جمالية قاسم هي نحو المزيد من الإبداع و إبهار و اللاتكرار للأشكال و لكن تحت ظلال الشعر، و الشعر وحدة، فأمين صالح دخل هذه المغامرة التي أوصلته إلى التخلص من كل الأشكال المتعددة و المشروعة في القصة و القصة القصيرة والرواية و الالتزام بالتألق الشعري "([6]).
و السؤال المعذب هنا، هو لماذا عندما كانت هناك إرادة بكسر كل الحواجز بين النصوص صار النص إلى الشعرية و استسلم لها؟ هل لان الشعرية في شكلها الجديد هي أكمل أشكال النص وهو ينحو لإبراز مكامن التحولات فيه؟ و هل صورته الفائقة تجل لمحاولة القبض على الحرية؟ هل دائرية حاكمة لحركة الاكتشاف، توقد لها نيران العنقاء لتظل في أفق الاحتمال هواجس للشكل، ولكن ألم يخترق البحث أكثر من شكل؟ و لماذا استقر في آخر المطاف في شكل محدد هو الأقرب للشعرية؟

وسوسات الإغواء

و السؤال الذي يبرز أمامنا، هو كيف تحولت تجربة أمين صالح من ما كانت تدعيه من سرد إلى فنية الكتابة الشعرية؟ وهل مزج الأساليب الشعرية بالنثر هو الذي جعل الأولى تتغلب على الثانية، و لسنا ندعي هنا إننا سوف نقوم باستقصاء كامل حول الموضوع، و لكننا سنحاول ان ندق بعض المسامير على حائط كفله النسيان، فبدايات التجربة و الانزلاق نحو الشعرية تنبثق بالنسبة للنصوص التي ضمنها إصداراته في (هنا الوردة هنا نرقص) – حسب ما أرى – ولعلنا نستعلم عن بعض تلك المنابع التي تشير إليها المجموعة الأولى من خلال عتبتها التي تنبثق من العنوان الذي اختير بعناية تامة.
وأود ان أشير إلى استخدام هيجل لذات العبارة في كتابه فلسفة الحق، واقتبس من الحاشية فنقرأ :"هيجل هنا يلعب بالألفاظ فكلمة RHDUS لا تعني فحسب جزيرة رودس لكنها تعني أيضا كلمة ((وردة)) و كلمة SALTUS تعني قفزة، لكن صيغة الأمر من هذا الفعل و هي SALTA تعني ((يرقص)) و الوردة رمز للمرح و البهجة و المتعة. و من وظيفة الفيلسوف – في رأي هيجل – أن يجد البهجة و المتعة فيما هو حاضر باكتشاف العقل الكامن فيه، وبعبارة أخرى : فإن الفلسفة يمكن ((أن ترقص)) طربا للمتعة التي تجدها في هذا العالم و ليست بحاجة إلى تأجيل ((رقصها))، اعني متعتها : وبهجتها، حتى تفرغ من بناء المثل الأعلى للدولة في مكان آخر "([7]) و نحن نقول (هنا الوردة هنا نرقص)، و التناص واضح بين المسألتين، لكن رقص أمين لا يكون طربا، انه رقصات مضادة لحالة العذاب الإنساني، فهو ينحدر في ذوبه نحو الشعر بكل تأكيد.
ما أردت الإشارة إليه في الفقرة السابقة يتمثل في انه على الرغم من ان أمين صالح قد وسم المجموعة بذات الاسم الذي تحمله أحد قصص المجموعة، وهو أمر عادي بالنسبة لكثير من إصدارات القصص القصيرة، إلا ان العنوان في ذاته ليس عاديا إذ تطلب الغوص عميقا في القرار الثقافي ليخرج منه مرموزات يمكن ان تتباعد عن ذهنية المتلقي الذي يصطدم بالعنوان، فيظن انه ليس إلا عنوان إحدى القصص، فهنا تمارس الكتابة متعة الاكتشاف، لا تنتظر، و لا يوقفها انطواء الريح أمام الأزمات، ان ميل أمين صالح للتكثيف الشديد و إظهار ذلك الكنـز على انه عبارة عادية، هي في ذاتها مسألة من تقنيات الشعرية في الصميم.

إبهار المراوغة

كما انه في هذه المجموعة بدأ يمارس لعبة الإغواء بطريقة سوف تترسخ في النصوص التي يقدمها للقارئ، تلك اللعبة التي بدأت تدخله عميقا في لب التجريب، الذي كان يقربه من النص الشعري ببط لكن بدأب، تلك الحالة التجريبية التي نتلمسها في اللغة المحتشدة، حيث تتشظى في ذات الوقت الذي تتكاثف فيه لتدخلك في لعبة المعنى و إلا معنى، الواضح الغامض، إنها تلك الفتنة التي تتحرك داخل النص، و تراوغ القارئ حتى النهاية، تلك الكتابة التي تحترم القارئ باعتباره مغامرا آخر سيدخل حلبة الرقص ليختبر التواء السماء بين أصابعه، لكنه يدخلها بفضل تلك الأبواب التي نسميها تقنية الكتابة و التي يوظف فيها حتى الحاشية.
ان تجربة أمين صالح تثبت في جانب كبير منها انه لا يوجد هناك شكل واحد أخير للشعرية، إنها ذلك التمرد المستمر الذي ينمو مع فضاء الحرية، حيث يلعب فيه الشاعر دور الحاوي الذي يتحول في دهشة الأطفال إلى حكمة الشيوخ، وذلك من خلال طرقه المستمر على معدن الشكل الرجراج ليحوله إلى أواني جديدة قابلة لاحتواء هذا المخبوء في عمقه، و استقامته الخاصة، المنـزوعة من نهر عظيم. هل لنا ان نشير إلى ان أمين صالح في نصه "موت طفيف" عمد إلى شكل الشطرة الشعرية الذي بات يفرض نفسه على النص بقوة، و ان تمدد في بعض نواحي النصوص، إلا أننا نجد انه تقلص حتى ليصبح شطرتين لا أكثر فنقرأ "19 بخطى واثقة يدخل جحيمه / غرفته، ليسلي وحدته بالبكاء" و "94 يوبخ الثلج/ لأنه مر و لم يطرق نافذته" "36 الباب موصد/ لان أحدا لم يطرقه".
كما ان أمين لم يسم العمل إلا بالعنوان، ولعل تقنية العنوان من تقنيات الشعرية الحديثة باعتباره مفتاحا خاصا للنص بدونه لا يكتمل، و لكن أمين لم يقم إلا بترقيم النصوص و لم يجعل لك منها عنوانا خاصا، و هو دليل على ان العمل متصل في استفاقته نحو موت طفيف، والذي لا يلجمه القارئ إلا مع فراغه من النص بكليته، و أثناء عودته إلى العنوان من جديد، لذلك تكتمل دائرية النص، على الرغم ان القصائد المرقمة تقوم بذاتها ان شئت، لكن التجربة الكلية تخترقها حتى العظم.

باب للتقاطع المستحيل

موت طفيف، ليست إلا عتبة الكتاب كما أشرنا، وهي عتبة في داخلها شعرية كبيرة، إذ إنها تمثل إحدى فيمات النص الأجد (قصيدة النثر) كما ندعي، ففي قراءة أولى للوحة التي اختارها أمين لتصاحب هذا النص، و هو فن ينتمي من ناحية الشكل إلى الطبعة الفريدة، كما سيطرت على اللوحة تقنية إنتاج الفن التشكيلي في جانبه الحروفي أو ما يسمي (الكلوجرافي)، فيجلس أمين صالح فوق العتبة الأولى يحلم بالكوابيس التي ينتجها الواقع العربي، و هو يفترش تلك الألوان الرمادية المجللة بخطوط قاسية يتوشحها الأسود في برودته القاتمة كعالمه السفلي، أو يقوم في حركة مناهضة للاستدارة التي تطل من أعلى، و نجد ذلك الاشتغال البارز على اللوحة التي هي عبارة عن طباعة على معدن النحاس، ذلك النحاس الذي أربكته تأثيرات خاصة أضافها الفنان عباس يوسف، تلك الارباكات تستهدف إظهار ذلك الغور البالغ الذي نحسه في تساقط أجزاء الحرف، انه تجل للحروف القديمة التي تميل في داخلها إلى نوع من الخشونة، وهي التي تخبئ في داخلها الكثير من الغموض، انه تجل لحركة الحرف العربي خلال مراحل تطوره والتي امتدت طويلا من الخشن اليابس الغامض إلى الطري الناعم المنساب. ان الحروفية في لوحة غلاف الكتاب تتخلى هنا عن فعلها التواصلي، لتكون ذات طبيعة جمالية بحتة، يمكننا ان نرمق الاستدارات و البطن المشترك بين الحروف وامتدادات الألف أو رأس اللام.
ان أمين مخبوء هناك في مكان ما، يرمق العالم، هل هناك عين مسلطة على أمين وهو يكتب؟ هل الاستدارة الأخرى هي بطن حبلى بالأشعار والزعفران؟ هل انكسار الخطوط على الحواف و لا تقاطعها هي انهمار للوحشة المكتنـزة ! هذا الخداع البصري بالعمق بين انحناء الخطوط واستقامتها، يرمينا في عمق المكان الذي هناك، و اشتهاء للنيلج المختبئ في ندف البنفسج و هو يومض معتصرا ما تبقى من انهمار، يصرخ أمين آمين.

تكاثر الموت

بعد ان تركنا العنوان و أمين وهو يندغم في اللوحة التي اختارها لتقدم الكتاب، و كأن من قدم اللوحة يهجس بذلك الخفاء الكبير الذي تمارسه الكتابة من همهماتها المستحيلة، و لنحتفي بما تحمله مكتنـزات العنوان من تداعيات، نحاول بث ما تعنيه كلمة الموت، ذلك الثقيل الذي يختبئ في الكائنات الحية، فالموت ليس إلا نوما ثقيلا يجثم على الإنسان و الحيوان و النبات و المكان، لكن لا انتباهه بعده. و في مراوغة أخرى نحن قوم إذا ماتوا انتبهوا ! والموت هو ما ينخر الكائنات ببطء، ويكبر فيها، انه الانتصار الذي يجمع العالم على فجائعيته في هزيمة الحياة التي لا ترى مقاومة إلا في تجددها وامتدادها على مساحة الزمن، انه الفساد و التحول في كينونته الكبرى.
لكن الموت يمكن ان يكون اسما للنوم الذي به نبصر الأحلام، هذا الموت المؤقت والمؤجل دائما في فجواته الكبرى، انه ما يفتح لنا بوابة مشتركة كنافذة للدخول إلى تلك العلاقة بين الإبداع و بين الحلم.
المبدع سيد الموقف، كذلك هو النائم، على الرغم من القول بموت المؤلف، لانصباب الجهد الفني على تحليل النص، و ان المبدع، إنما تعمل فيه قوة اللغة و تتجلى من خلال تملكه لها تملكا واسعا، فهو ليس إلا وسيلة لظهور اللغة، و نصه في نهاية المطاف ليس إلا تناصا على نصوص عديدة أخرى، فهل موت طفيف يحلم بموت مؤلفه (أمين صالح) لأنه يصبح خارج نصه، و يعود فور الانتهاء من إبداعه إلى عامة القراء، انه هناك خطورة تترصد موت الكورس و موت المؤلف، و تهدد بأحيائهما ثانية في المراوغة. يتعدد النص الذي أمامنا في إعادة القراءة، و في تعدد القراء، يتصل و ينفصل بالقارئ و الكاتب و التاريخ و النصوص الأخرى، باللغة التي يحاول ان يتحايل عليها و يتفادى حنكتها.
أو لعل الموت هو السكون الذي يركب مراكب الأشياء، أو هو ذهاب العقل وموته بالجنون، و في القاموس النوم هو الموت الخفيف، و قد تم استبدال الخفيف بالطفيف، للخروج من تقليدية اللفظة إلى فضاء التشكل، وفي استقصاء لما تحمله لفظة الموت من طبقات لها علاقة بالموروث، التاريخ، يمكن ان تتحول لفظة الموت إلى شيء يتسرب إلى كل الأشياء في الوجود، ومنها الأرض الموات، التي يحيها المطر المنهمر، فموتها مؤقت ليس إلا انتظارا للمطر، كما ان كل الأشياء المعنوية تموت أيضا كالكرامة، و الفعل يموت بانقضائه في مساحة الزمن كالضحك الذي يستحيل إلى صمت، وهي حالة من الغياب يمكن ان تتجدد و تنهض لتقول بقابلية الأشياء، و لكن أمين يعمد إلى استبدال صفة الموت المؤقت (الحلم) أو الموت الدائم الثقيل بكلمة مراوغة (طفيف)، وطفيف تحتمل ان تكون بمعنى قليل أو بمعنى الخسيس الدوني الحقير، فهل يمكن ان يكون هناك موت قليل أو خسيس أو دوني أو حقير؟؟ هكذا هو الشعر يبدأ في تحريك ما نعتقد أننا نعرف، لنكتشف أننا لا نعرف ما كنا نعتقد أننا نعرف.

تقنيات السرد و الشعرية

عند ملامسة نصوص أمين صالح في "موت طفيف"، نلحظ اختفاء تلك المسحة الغنائية المشهودة للشعرية العربية، وهي ما يتمثل في حضور ذات الشاعر، تلك العلاقة التي تحكم كائناته التي يخلقها، و هي التي تضفي على الأشياء نسقا من فرادة العزلة إذ تحتفي بالأشياء، ولعلها سمة فارقة هنا، إذ نجد في النص ذلك الراوي المختبئ تماما، و البعيد الذي يراقب الأشياء و يصفها، لكن وصفه هذا يتعارض مع السردية في نقطة مهمة، إذ انه في حالة السردية يستبطن السارد الحالة الشعورية التي تتدفق من خلال النص عبر تقنيات السرد التي تتلاعب بالزمن عبر امتداد السرد، وتتفنن في اقتناء الراوي الذي يستبطن الكاتب و البطل في مشاعره، إذ يظهر باعتباره كلي المعرفة في بعض الأحيان، إلا ان نصوص أمين صالح تكاد تخلو من ملامح الزمن السردية كتقنية إيقاف الزمن باستطالة التصوير، وهي تقنية تعبر عن استطالة زمن القراءة أمام زمن الرواية ذاته، و يميل إلى التعامل مع الزمن بطريقة الشعرية، حيث ان الشعرية دائما ما تقوم حركاتها في زمن الفطحل.
و أمين في نصوص "موت طفيف" إنما يقوم بجرجرة المتلقي ليضعه في مكان الشاعر، انه اشتغال الأنا و هي تعلو على ذاتها لتلامس كل الذوات الأخرى، انه الحفر في أفق الإنسان ذاته، لكن ذلك الإنسان ليس بلا ملامح انه مملوء بالملامح العربية، المحلية و القومية و الإنسانية، و كأنه يرسم دائرة تنداح لتشمل الكل، فكلنا حين يحزن يبكي، وكلنا حين نفرح نضحك، و كلنا حين نتألم نتأوه.
ويمكن ان نتصور أحد محاور لعبة أمين، فكيف يمكن ان نشعر ما يشعره رجل وحيد أمام كل الذهابات التي تتركه فريسة للوحشة، وهو لا يعرف كيف يكلم المياه، وهو ما تهدف إليه القصيدة برجل غير معرف و لكننا يمكن ان نتخيله لكن ما هو الماء الذي يحتاج ان يكلمه الإنسان؟ وما اللغة التي يتكلمها الماء؟ هل يشف الحزن عن ماء؟ هل للكلام ماء؟ هل للماء حالاته؟ هل الماء حياة؟ هل الماء أنا تقابل أناها في المرآة؟ ومن هو الرجل الباقي أمام المياه إلا يمكن ان يكون أمين ذاته إذ ينعكس في مرايا الماء؟ ان الحركة تمور في الأشياء لأنه يدركها كما هي متحركة (الزوارق تمر، الرياح تمر، اللقالق تمر.. و الآن، الضفة وحيدة مع رجل لا يعرف ان يكلم المياه.) إننا نتأمل تلك الحالة الإنسانية التي تستشعر الفقد ليس في تلك الوحشة الساكنة في فراق الأحبة، لكن الوحشة مقلوبة هنا فالضفة هي الوحيدة، و من تأنيث اللفظة يأتي تذكير الرجل ليقف على الضد، انه الحضور الإنساني في ملامحه الأولى، انه الرجل مقابل المرأة في جهة مراوغة للذكر مقابل الأنثى في الحيواني و البهيمي، و إنما هو تجل للذات في شمولية الذهاب الذي يتركك وحيدا كأمين أمام فلوات الفراق، أليس الذهاب هو في ذاته رحلة الموت، موت للحضور، و اكتناز في هوة الغياب، استسلام للنوم، أو انطفاء بعد التوهج، تكاثر الذهاب في الكائنات، " بعد ان غابوا و لم يعودوا."
ما الذي سيظهر لنا و نحن نستقصي ما نعتقد أننا نقبض عليه في هذا النص المراوغ انه تسمر الذهاب المتكاثر " تزركش شعرها الأبيض لئلا يمر الأبناء و لا يطرقوا باب نومها الطويل" ان الكثافة اللغوية تدعو النص لان يتضاءل في تكوينه ليختزل بالكثافة ما يمكن ان يعبر عنه النص في امتداده الطولي "ليل الفضة / يتواطأ مع الرغبة المجنحة/ التي تطرق أهداب النائمة تحت عطر الغابة" هل أغلق أمين باب القلعة (المعنى) وبقى وحيدا في النص؟؟ هل يتعقد تركيب النص لتعقد الواقع الاجتماعي و تعدده و ختله المراوغ، هل نراوغ الموت المكتوب المؤكد بموت تخترعه الذات لنفسها لتخدع الموت؟ "للمرة الأخيرة، أراد ان يتأكد/ نظر إلى المرآة و رأى الضغينة في عيني من يراه /آنذاك، أدرك ان العدو يتربص به من الداخل."

ختل الصورة

لعلنا هنا نحاول ان نتفهم كيف يتم تركيب الصورة عند أمين، فنلاحظ مثلا " يخرجون من خيمة الليل" يتحول الليل إلى خيمة، لكن هذه الخيمة لا تعدو ان تكون بحجم يمكن الخروج منه على ما يدل فعل الخروج، إذ ان هناك تصورا يستقر في قاع التراث عن خيمة الليل، و لكنها خيمة بحجم الوجود يستحيل على الأفراد الخروج منها، ان خيمة أمين هنا خيمة مضادة محدودة في سوادها قابلة للانكشاف و العبور، لكن الضمير الذي يشير إليهم لا يترك العبارة معلقة في أفق الصورة المحدود، و إنما يحث القارئ و يستدرجه لإكمال الصورة "الشاحبة وجوههم، الضامرة خواصرهم" إذا هذه هي صفاتهم التي تعود على الضمير في الصورة التي بدأت في الشطرة الأولى، لكن تلك الصفات لا تفصح عن أولئك الخارجين من الليل، و إنما تزيد في تعميتهم على الرغم من الصفات المغدقة عليهم، لذلك تراوغ الصفات، و نلاحظ حركة الإقلاق بين الصفة والموصوف فبدل (وجوههم الشاحبة، خواصرهم الضامرة)، إذا تتغلب الصفة على الموصوف و بالتالي تفتح فضاءه على أفق الاحتمال، من هم المجهدون الراكضون للخروج من خيمة الليل؟ انهم أولئك الذين "يهرولون صوب سديم الفجر" و قد صور الفجر كأنه ضباب رقيق، و لعل العلم الحديث يضيف إلى المعنى اللغوي المتعارف عليه للسديم، انه بمعنى السحابة الهائلة التي تتخلق منها النجوم في المجرات، و لكنهم يهرولون "بلا يقين، و بلا كلام/ مهيئين للمدينة الشائخة طعنة رحيمة." و كيف تكون الطعنة رحيمة، هل هناك موت جميل وطعنة جميلة، الطعن بشع، لكنه في إعادة التخلق جميل، هدم للبناء، و إزاحة للعالم يموت ليولد من جديد، هل نحن على أعتاب العنقاء؟ انه ذلك الحفر في اتجاه لا يقينية الأشياء و انفتاحها على أفق الاحتمال، لا يوجد عالم أفضل، ان أفضل العوالم ما تخلقه أصابعنا، لكن على الرغم من ذلك يظل أفق الاحتمال مفتوحا نحو عالم أفضل !
لعلنا نستطيع تلمس تلك التقنية التي يحتفي بها أمين صالح في موت طفيف من خلال تقنية المشهد الذي يصور حركة الواقع المتخيل الذي ينزف بالألم الكامن في الحياة، كما في "كانت على فراشها تحتضر حين شعرت بأصابع حانية تلاطف جبينها، أصابع كأنها من ضوء، ففتحت عينيها بتثاقل وهمست معاتبة : لم تأخرت؟"، ان انكسار الصورة بواسطة استخدام التشبه القديم موظف في النص بطريقة حديثة، نجدها من تقنيات قصيدة النثر، و بقاء الضمير غامضا فيما يعود عليه، هو الذي يراوغ أفق المعنى حيث يمكننا الذهاب إلى تأويلات متعددة، الموت، الحبيب، المنتظر.... الخ.

بساتين الوحشة

ها نحن نقوم ببعض الاستقصاء للموت كما يتبدى في النصوص، ولعلنا نطلب من القارئ ان يعذرنا على بعض هذا التطويل الذي يظهر فيه الموت على شكل النقائض ملتبسا في وجوده، لكنه لا يكاد يفارق النص إلا لكي يختبئ فيه من هنا نرى ان الموت تجلي على شكل، الارتهان : موت للحرية في سجن الأنا أو الأشياء. السجن، السجين، المنفى: موت الحرية. الغياب: موت بالذهاب، البعد، الوحدة. الذاكرة: سجن الحضور المؤجل. موات الأرض: الانبعاث المؤجل، الأوراق الميتة. الحلم: الموت المؤقت. الترمل: موت الزوج. الوحشة : عذابات الترقب. المجازفة : موت الأمن. القتل: الموت الإجباري. الإعدام: الموت جبرا ببراءة أو بذئبية. الكمون: تربص الموت. موت الأطفال : موت الأمل و الفرح. الانبعاث :موت المدينة القديمة. الحرب: موت مجاني. الشهادة: موت يخلد البطولة. الأشباح: بقايا ألما بعد. الغرق: موت بتنفس الماء. الجنون: موت العقل. البتر: موت الأعضاء. الهدم: موت البناء. الانتحال: موت الصفة. النسيان: موت الذاكرة المؤقت. الاستعمار: موت الاستقلال. الهجر: موت الألفة، موت للحب. الانقراض: موت الجنس. الافتراس: موت الفريسة. الاحتضار: الموت المؤكد بالمقاومة. الانتصار:موت يكرره الأمل كل حين. الحلم: موت في اليقظة، يقظة في الموت. الشيخوخة:موت الشباب. البلادة: موت القريحة. العدم: موت الوجود. كر الزمن:الموت البطيء. الفقد: انكشاف الموت بغتة. الصمت: موت الكلام.
هذا بعض ما يمكن للموت ان يتمظهر خارج دائرة القاموس في تلك اللعبة اللغوية التي تظهر أمامنا مواربة أبوابها، و لولا التطويل لكان بالإمكان الاستقصاء الشامل الذي سنتركه لدراسة قادمة، و لنا ان نلاحظ بروز الموت باعتباره المعنوي و الفعلي على مستويات الإدراك المتعددة عند المتلقي، كما تبرز في النص ذاته، و ماذا بعد، أقول : مرحبا أمين أيها القاص، الشاعر، المحلق نسرا كبير.

عن (أشرعة)