Article
تمجيد الحرية والأهواء بلا قيد “قلب القيم”. هذه العبارة قد تختصر رؤيا ادونيس ان جاز الاختصار. ان للشاعر مشروعا فكريا يكاد يماثل ما بشر به نيتشه في الفلسفة الغربية حين دعا الى تمجيد الغريزة وتسفيه العقل والتغني بالأهواء والعالم الأرضي وانتهاك التقاليد. الى تماثل كبير مع الفلسفة الوجودية التي تؤمن بالتحرر من الماهية الجاهزة، وبأهمية الاكتشاف الذاتي للحقيقة، كما تؤمن بأن السلب هو الطريق الملكية للإيجاب، إذ استقر في الأذهان ان العقل هو دليل الحقيقة، وان الجسد مرذول، والدنيا دنس ينبغي الفرار منه، والسلطة لا تنفصل عن العنف. ذلك ان العالم الذي تتحدث عنه النظرة التقليدية راسخ ثابت لا يحتاج الى تأويل جديد، وهو محكوم بآراء مسبقة لا تعرف التبدل او التحول. من هنا توق ادونيس الى قلب القيم، مؤكدا ان ما يعدّه الناس سلبيا او مهمشا او مكبوتا لا قيمة له هو الشرط الحقيقي لكل حرية و إبداع. وقادته عملية القلب هذه الى فكرة أثيرة لديه هي الاكتشاف بلا أفكار مسبقة، او ماهية مرتبة سلفا، ودفعته أيضا الى فكرة عناق المتناقضات التي رآها بعض الوجوديين علامة على ولادة جديدة، وعلى تجربة غنية خصبة. ولا شك في ان ادونيس من أجرأ شعراء هذا العصر ومفكريه. وفي ديوانه “اول الجسد آخر البحر”() يتكلم ادونيس عن الحب بعد انقطاع دام عقودا، وتحديدا مذ كتب قصيدته المشهورة “تحولات العاشق” فكأن الرجل عاش ما عاش من غير ان يستولي الحب على قلبه، وإذا به يصبح أسير المرأة وقد ناف على السبعين. ولئن كان ادونيس طفل الولادات، يهجر الماضي ويعيش في زمن الوعد والتفتح الذي لا حدود لامكاناته، الزمن غير المتشكل سلفا لأنه بداية جديدة وحرية مبادئه، فمن الطبيعي ان ينبذ ما يسميه “الحكمة”، وهذه الكلمة توحي لديه لا القصورات المسبقة فحسب، بل التجارب النمطية المقولبة. يقول: “كتبنا بحبر مرارتنا هوانا؟ وعشنا بلا حكمة/ وسكنا القصيدة”، كأن الحكمة ان يكون المرء متجردا من كل حكمة، لا ليبقى أحمق، بل ليكتشف أكثر ويجرب في عمق. الحكمة هنا عبارة عن قيد فحواه نظرة السالفين، بينما يروم الشاعر ان يعيش الحياة بنفسه، بمرارة هواه، ولا يتبع خطى من سبقوه. لذلك يسكن القصيدة، في معنى انه يبدع ويحيا في ملء التجارب القصية فتراه يقول في موضع آخر انه لا يريد انتماء ولا نسباً ولا هوية، والمقصود هنا انه يرفض كل شيء جاهز يعوق الابتكار.؟ وحين يفتش المرء – وكل تفتيش هو عن النفس وعن الانسان – متخليا عن دليل يحدد له مجال التفتيش، تكتسب لغته نكهة الجموح. من هنا يدخل الشاعر ليل حبه المضيء حتى يمسي الخروج من هذا الليل عتمة كالحة وتامة. والحق ان الوضوح النير أي التفسير المسبق المعبد بمنزلة ليل المعرفة. أما الحرية ونشوة الحب فهي ان تقتحم ليلا بكرا لا تعرف مناطقه سلفا، لأنك لو عرفت لتخليت عن المعرفة وعن مغامرة اكتشاف الآخر. فهذا الليل مضيء لا لأنه يدفعك الى الريادة فحسب، بل لأنه يحفزك الى مزيد من الاستقصاء والابتعاد عن المألوف والمدجّن. فلا حدود مرسومة للتجارب الكبرى، ومنها تجربة العشق، إذ قد تتحول هذه التجارب من جناح الى قيد، من ارض المغامرة والتوتر اللذيذ الى فردوس ذهني بليد بعيد عن عالم الممكنات والصيرورة الذي وحده يمنح الحياة نشوتها الرائعة ويجعلها تستحق ان تعاش. الحب إذن خروج على العادة، على ما تعوّده الانسان ورسخ في ذهنه مقبولا لا يحتمل المناقشة والتغيير. وليست الفتوة الا بنت التمرد على المألوف ومعاشرة المجهول والجديد والمفاجئ. لذا يقول الشاعر: “علمني جسدك ان انقلب على العادة/ عرفت جسدك فعرفت نفسي”. وتلك ميزة الشخصيات الكبيرة التي حوّلت مجرى التاريخ، او غيرت تاريخ حياتها، كالعشاق والشعراء والمصلحين وحتى قادة الجيوش.؟ لا بد من ان تختبر الحياة بنفسك، وليس من خلال عقول الآخرين وقلوبهم، وهذا يعني انك تخرق العادة، وتختط طريقا جديدا. قد تستنير بخطى الآخرين شرط ان تختبر بنفسك تصوراتهم واختلاجاتهم. الحرية عديلة الحياة ولا حياة من دون حرية، ولا حب أيضا بلا حرية. لا أغالي ان قلت ان شعر ادونيس وجودي بامتياز، حتى لو استلهم أحيانا فلسفة نيتشه، فهذا لا يمنع ان الفيلسوف الألماني كان وجوديا بامتياز. لذلك نرى شاعرنا يقلب القيم التقليدية، فبينما يمجد الناس الصعود الى فوق متوهمين ان المثال الأعلى نقطة ثابتة، وقمة فكرية ينبغي ان يضحي المرء بوجوده ليتكيف معها، إذا بنا نجد ادونيس يعكس الآية فينظر الى الهبوط على انه صعود مظفر. فأن تكتشف نفسك عبر المكبوت والمرذول فيك فتلك طريق الحرية التي لا تزكيها الوجودية فحسب، بل يزكيها التحليل النفسي ولاسيما الشق الوجودي منه. يقول متحدثا عن اورفيوس الذي خاض الجحيم ليعثر على حبيبته/ نفسه: “أتعلم سر الهبوط الصعود/ على درجات الجحيم/ أتعلم ان اشرب الكون حتى الثمالة”. وحين تهبط الى جحيم المكبوت، وعندما تود ان تشرب الكون كله في معنى ان تعيش لا حياة بيولوجية او آلية، او حياة منسجمة مع ما قررته سلفا التقاليد او المعايير من ادوار وأقنعة، لا بد لك من ان تطلق الميول التي تراها سلبية ولا مناص لك من ان تتعذب، فكأن الجحيم هو شرط النعيم، وكأن الصعود لا يتم بغير الهبوط الى الأعماق. ويعرف الناس، على ما يقول احد الفلاسفة، ان يحددوا الخير والشر المفيد والضار. أما إذا نادى احدهم بأن الخير قد يكون شرا، وان الشر قد يكون خيرا بل إذا جاهر المرء بأن النفس البشرية ملتقى الأضداد، فقد ينسب كلامه الى الحماقة وضعف الرأي. فكثيرا ما تتجاور في العقل الباطن مشاعر متباينة لأن الانسان ليس عقلا فحسب. انه لا عقل أيضا. لذلك يؤكد الشاعر: “لا تجتمع التناقضات ولا تتعايش الا في كيان من طبيعة إلهية”، والإلهي هنا هو السامي والمتفوق. هكذا تصبح الطريق الى الحب طريقا الى غيهب المرارة، كما يقول، إذ لا يمكن أحيانا فصل الأليم عن اللذيذ، ولاسيما في تجربة الحب. وقد يكون بعض أنواع المرارات من أجمل الحلاوات على ما تبشر به الرومانسية، والشواهد أكثر من ان تحصى. وقد يصل الشاعر الى لحظة دقيقة لا يميز فيها بين النشيد الفرح والبكاء: “لا نشيد/ إذا لم يكن مثلها/ آتيا من تخوم البكاء”، كما لا يميز بين الحب والكره لأن التجربة القصوى تخض النفس فتختلط المشاعر وحدودها: “آه، يا أعمق الحب كرها/ آه، ما أعمق الكره حبا”. كما يعجز عن الفصل بين الموت والحياة: “هل كتابة الحب؟ ماء وحياة وموت في كأس واحدة؟”. ولعله يشير الى ما يسميه الفرنسيون “الموت الأصغر”، وهو حالة السكينة التامة الشبيهة بالموت بعد الفراغ من العملية الجنسية. وقد يصعب الحكم في هذا الموضوع، فلا نعرف إذا كان الشاعر يتلذذ بالألم على عادة المازوشيين، او انه يستقصي تجربة فريدة نادرة تجمع اللذة الى الألم، كما نجد ذلك جليا لدى من يقوم بعمل شاق إنما ممتع. ولعل هاجس الموت الذي يتكرر كثيرا عند ادونيس يشير الى الرغبة في التطهر من الانفعالات السلبية. ولا تنفصل مسألة قلب القيم عن جدلية الخيال والواقع. ويعتقد بعض الناس ان الواقع هو الحقيقة الوحيدة مع انه جانب من جوانبها. فالواقع محبط ومؤلم. انه نهاية الحرية، في حين يمثل الخيال بدايتها وعالما غنيا من الممكنات غير المحدودة. يقول ادونيس: “سأصعد الى ذروات وهمك/ وأتذوق أعالي الواقع”. ذلك ان مملكة الخيال لا نهاية لها، أما الواقع فهو مقفل ومحدد سلفا، وخليق بالشاعر ان يؤخذ بالخيال البعيد، خاصة انه يترجم الرغبات التي تعاند الأمر الواقع. إما المرأة لدى ادونيس فهي شبيهة بالأم. الحب لديه رضاع دائم، او طفولة دائمة. هذه النزعة الفمية المتشبثة بالثدي الشهي المدرار تقترن بالحنين الى رحم المرأة حيث يدخل الشاعر دهاليز عتماته ويخرج مولودا جديدا، على ما قال احد جهابذة التحليل النفسي. والحق ان شاعرنا مهووس بالولادة الجديدة، متخليا عن كل صورة مسبقة، والإله الحقيقي لديه لا يخلق الانسان على صورة مقررة مسبقا، بل يدعه يخلق نفسه بنفسه بعيدا عن أي فكرة او عاطفة جاهزة. لذا يطيب للشاعر ان يسبح في رحم الأنثى مثلما يسبح الطفل في السائل الافيوسي فيشعر بالحماية والدفء وبعالم حميم هو نقيض الواقع القاسي: “ولماذا يتحول جسدك آنذاك الى بحر يتموج في أعضائي ولا شاطئ له”. ولعل السر الذي ينقذ ادونيس من النكوص السلبي انه يرى في الاتحاد بالمرأة/ الأم اكتشافا جديدا لا شاطئ له، أي لا تخوم مقررة. ولا شك في انه يعيد الأهمية الى الجسد بدلا من التركيز على الروح فحسب: “ليست الروح هي التي تتذكر بل الجسد”. كما يعيد الأهمية الى الطبع والطبيعة او الغريزة بحسب نيتشه فلا توجد في نهاية المطاف قطيعة بين الجسد والروح، بين العقل والطبع، فتلك مسألة برع في تحليلها الأقدمون، و سفّهها نيتشه والمحللون النفسيون. من هنا يشدد المؤلف على الجنس، ملمحا الى الأساطير القديمة والأديان الوثنية التي ترى في الجسد مستودعها للالوهة الكامنة: “كأنما الطبيعة فَرْج/ والألوهة المني”. ان التأله الحقيقي بالنسبة اليه لا ينفصل عن النشوة، وما عدا ذلك ليس الا اغترابا عن طبيعة الانسان. وأكثر من ذلك، يعتقد ان الشهوة هي التي تمدّن، في معنى انها تلطف العدوانية وتجعل الانسان متقبلا بذار الحب والتعاون. نفهم جيدا لماذا يجد ادونيس نفسه مثل فينيق في علاقته بالمرأة يحبل بنفسه ويلد فيه من خلالها. فليس العقل هاديا وحيدا بل ان للأهواء معرفة خاصة:”وأهواء جسده هي ان يظل مرتجلا أهواءه بلا نظام ولا قيد”. فلا قيود دينية او اجتماعية او خلقية في الحب لأن شرط تحقق الحرية هو ان يُطلق سراح الأهواء طبقا لما يقول نيتشه انها تعلّم أكثر من العقل والتعقل. وفي تعبير آخر، يتأكد المرء من حقيقة مشاعره وأهوائه، لكنه غير متأكد من صحة العقائد الفلسفية والسياسية وسواها. ثم ان الانسان في أعماقه هوى كبير وصبوات متلاحقة، لكن المشكلة لا تكمن في إطلاق سراح الأهواء بل في تنظيمها. ثم ان سحق العقل بالجملة قد يعادل خراب العقل وفساد الأهواء في آن واحد. وتلك فكرة لا يفطن لها ادونيس الذي ينادي برغبة بلا نظام ولا قيد، والسبب في ذلك شدة الكبت التي تتطلب بنوع من رد الفعل الفج، تلك الحرية العشوائية. وفي اختصار، المرأة لدى ادونيس اكتشاف، كمن يرتاد غابة لا سهلا مطمئنا. الشاعر، ذاك الطفل المندهش دائما، والمكتشف دائما كالطفل له نزواته الجامحة حيال الأم المعطاء. هكذا نرى ادونيس يقلب القيم كلها: الحكمة هي التجرد من الحكمة، الهوية هي ان يكون بلا هوية، السقوط هو الصعود، الحزن طريق الى السعادة، الجسد دليل على الأبد، المرأة رحم وموت... وفي كل ذلك تتلاقى الأضداد وتتعانق في لحظة توتر وجودية خصبة. إنما نشير الى إننا لا نجد جديدا في الديوان لو قصدنا بالجديد شيئا يشذ عن الخط الأدونيسي العام. ثمة تنويع على القديم، وتفريع للأصول، لكن ذلك مصوغ بقالب يتراوح بين الطرافة والإدهاش، وبين الذهنية الباردة التي تتأمل المعاني والصور ثم تصبها صبا. تارة يتسم بالحرارة وطورا بالبرودة. والحقيقة ان “اول الجسد آخر البحر” يفتقر الى الحرارة العاطفية التي لطالما هزت القلوب والعقول في “أغاني مهيار الدمشقي” وفي “كتاب التحولات”، وفي “المسرح والمرايا” و”وقت بين الرماد والورد”. لذلك يغدو الإيقاع بطيئا بليدا في بعض الأحيان، بل قد لا تشعر في بعض المواضع بأنك تقرأ كتابا في الحب. ولعل المزاوجة بين التأمل الفكري والهزة الشعورية مهمة جليلة ومطلوبة كما يقول بودلير. لكن تحقيق ذلك ليس بالأمر السهل، وخاصة لدى شاعر مهووس، مثل أبي تمام، بتوالد المعاني بحيث يبدو “جنون” ادونيس نوعا من الحكمة الباردة، وإن تكن حكمة جميلة”.
الخميس 18 تشرين الثاني 2004
|