جودت فخر الدين
(لبنان)

ناصر مؤنس - العراقلا يُسأل شاعر عربي عن حال النقد في أيامنا إلا ويسارع الى الشكوى من ضموره أو انحطاطه أو غيابه. ومعظم الشعراء العرب يمارسون الكتابة النقدية لسبب أو لآخر. وهم بذلك يشكلون جزءاً ليس بسيطاً من الحال النقدية التي يشْكون منها, وإن كانوا يميّزون كتاباتهم عن الدراسات النقدية ذات الطابع الأكاديمي, ومنهم من يترفّع عن الاتصاف بصفة الناقد. الشعراء يشكلون جزءاً من الحال النقدية حتى وإن لم يمارسوا الكتابة في مجال النقد, يشكلون ذلك بما لهم من مواقف وأحكام, وبما لهم من أذواق وتأثير في الذائقة العامة. لهذا يمكننا الكلام على مسؤولية الشعراء في تكوين الحال النقدية السائدة اليوم.
يمكننا الكلام على هذه المسؤولية من ناحيتين: الأولى تتعلق بواقع الشعر نفسه, والثانية تتعلق بملاحظات عن أغراض بعض الشعراء وتصرفاتهم. في الناحية الأولى نستطيع القول ان الساحة الشعرية العربية باتت مستباحة لأعداد كبيرة من كتّاب الشعر, الذين لا يملكون - في غالبيتهم - المقوِّمات الكافية للكتابة. هؤلاء الكتّاب لا يتورّعون عن الإدلاء بدلائهم في مجال النقد, ويجدون في وسائل الإعلام فرصاً للتعبير عن اتجاهات شعرية يتوهمون أنهم في سياقاتها. وغالباً ما ينضوي هؤلاء الكتّاب في تكتلات "صغيرة" أو كبيرة, تحكمها علاقات شخصية لا شأن لها بأي أمر فني. من كل ذلك تخرج كتابات نقدية ضحلة, تتناسب في ضحالتها مع الكتابات الشعرية لأصحابها. وفي هذا إساءة للمشهدين الشعري والنقدي على السواء.

في الناحية الثانية, نستطيع القول ان بعض الشعراء ممّن يمارس الكتابة النقدية ويملك الكفايات المطلوبة لها, ينجرّ أحياناً, أو غالباً, وراء أغراض لا تمتّ بصلات قوية الى مواقفه أو قناعاته الفنية, فيكتب المقالات - القصيرة أو المطولة - في مديح هذا أو ذمّ ذاك, لتصفية حسابات ضيّقة, يتوخى منها الكسب أو الانتقام. ولا يخفى على قارئ مثل هذه المقالات ما فيها من ممالأة أو مجافاة للصدق. وهذا أيضاً يُسيء أبلغ الإساءة للمشهد النقدي, بل يجعله مليئاً بالزّيف, ويتركه على هامش الحياة الثقافية, لا يكاد يلتفت إليه أحد. وإذا كانت له تأثيرات على الشعر فإنها تأثيرات سلبية أو مفسدة.
إذا, ليس لكتّاب الشعر ان يُلقوا المسؤولية عن تقهقر النقد على المنصرفين إليه أو المتخصصين فيه, فمسؤوليتهم هم ليست بسيطة في العمل على خلق حركة نقدية حقّة, تكون فاعلة وصادقة في طرحها الأسئلة العميقة على الشعر بخاصة, وعلى الأدب بعامة. وطالما كان الشعراء - على مرّ العصور - أصحاب الآراء الحاسمة في رسم الملامح الأساسية لاتجاهات الشعر ومراحله. ولو أخذنا على سبيل المثال تطوّر الحركتين الشعرية والنقدية في تراثنا العربي, للاحظنا ان الشعراء كانوا أصحاب النظرات الثاقبة والآراء السديدة في الحكم على النتاج الشعري منذ بداياته المعروفة في العصر الجاهلي, وذلك على رغم قيام حركة نقدية قوية ظهرت بوادرها في القرن الثالث للهجرة.
لقد أنتجت الحركة النقدية العربية في العصور العباسية نظرية عامة في الشعر سمّيت "عمود الشعر". ولكن على رغم ذلك كان للشعراء, ومعهم الفلاسفة, إسهامات نقدية أثّرت على نحو أكثر عمقاً من إسهامات النقّاد أنفسهم. وفيما كان النقّاد يسعون الى تحديد الشعر وتقييده بالمعايير والمقاييس, كان الشعراء يقومون بتحريره وإطلاقه الى آفاق جديدة. ويكفي ان نذكر هنا ما قام به أبو تمام في الشعر, وما رُوي عنه من آراء تذهب في تقويمه وفهمه أبعد من النقد. وكان لمختاراته في "ديوان الحماسة" أبعاد نقدية مهمة.

أما في الآداب الأجنبية, فيمكننا ان نجد النماذج الكثيرة من الشعراء النقاد الذين لم يكتفوا بتقديم الآراء النقدية, وإنما تعدوا ذلك, الى إرساء نظريات أثّرت عميقاً في الأدب, وفي الشعر خصوصاً. نذكر على سبيل المثال الشاعر والناقد الفرنسي بول فاليري, الذي قدّم من المسائل النظرية ما أعطى إشارات لمّاحة للنقد الغربي الحديث. ونذكر أيضا الشاعر والناقد ت. س. إليوت, الذي عد رائداً للحداثة الشعرية المعاصرة, والذي دعا الى منهج في النقد الأدبي عرف بالمنهج "الاتّباعي", الذي يقول إن النقد ينبغي ان يكون تابعاً للأدب, يعمل على توضيحه وتفسيره وتقويمه, وليس له ان ينافسه في الإبداع كما تريد له بعض الدعوات في اتجاهات نقدية أخرى.
ومن الظواهر النقدية التي نشهدها يومياً, تلك المتابعات أو المراجعات التي تفتح لها الصحف صفحاتها الثقافية. ومن حيث المبدأ, قد تكون مراجعة الكتب الصادرة حديثاً ذات فائدة ملموسة وتراكمية, لما تنطوي عليه من رصد وتقويم للنتاج الجديد, وتالياً لما ينبغي ان تؤدي إليه من تحديد للمستجدات أو المتغيرات في الحركة الأدبية. هذا من حيث المبدأ, ولكن ما يحصل فعلاً لا يؤدي - ويا للأسف - المهمة المشار إليها.

ما يُكتب من نقد صحافي هو في معظمه شهادات قاصرة أو مزيفة. الأولى, أي الشهادات القاصرة, نقصد بها تلك الكتابات التي يكتبها أشخاص متطفلون على النقد, وهم كثر في ساحتنا الثقافية التي تسودها الفوضى, وتبدو سائبة لكل من يرغب في ارتيادها, أو حتى في تصدرها. أما الثانية, أي الشهادات المزيفة, فنقصد بها تلك الكتابات التي تصدر عن كتّاب متخصصين, أي معنيين بشؤون الأدب والنقد, ومنهم شعراء وروائيون... وغير ذلك. ومن المؤسف ان الكثيرين من أصحاب هذه الكتابات يملكون القدرة على إعطاء آراء نقدية ذات قيمة, أي أنهم على قدرٍ كافٍ من المعرفة بالمقومات الأساسية للكتابة النقدية, إلا أنهم يفتقرون الى ما يكفي من الإحساس بمسؤولية الكتابة في هذا المجال, وبسبب من ذلك نراهم يستعملون النقد في الصحف, وخصوصاً مراجعة الكتب, لأغراض أو منافع شخصية. نراهم يهدفون من خلال كتاباتهم النقدية الى إقامة علاقات تبادلية, لا تعود على النقد الأدبي بأي نفع, بل هي تعود عليه بالضرر, كما سنبيّن بعد قليل. انطلاقاً من هذا كله, سمّينا كتاباتهم بالشهادات المزيفة, لأن الواحد منهم لا يتورع من امتداح كتاب رديء, أو من التهجم على كتاب جيد, متبعاً في ذلك هواه أو نزوته أو مصلحته, متناسياً انه بذلك أنما يفرّط بجوهر القيم الثقافية التي ينبغي له, من حيث المبدأ, ان ينذر نفسه وجهده لها.
قد يقول قائل ان ما يُكتب في صفحاتنا الثقافية لا يثير إلا اهتمام حفنة من القراء المعدودين, وإن بعض المقالات النقدية لا تعدو كونها رسائل شخصية موجهة من كتّاب هذه المقالات الى أصحاب الشأن, من مؤلفي الكتب خصوصاً. وتالياً قد يضيف القائل ان كل ما يُكتب في صفحاتنا الثقافية, أو معظمه, ليس له قرّاء, وهو في النهاية من دون جدوى, ليس له منفعة ولا ضرر. انه في النهاية نوع من الهدر, من إضاعة الوقت والجهد.
من الممكن التعليق على مثل هذه الأقوال بأنها صحيحة في جانب كبير منها. ولكن من الممكن القول أيضا إن هنالك مظهراً من مظاهر الضرر المترتب على تلك الكتابات النقدية (الصحافية), قد لا يكون ملحوظاً على نحو مباشر, ولكن له تجلياته السلبية في نواحٍ قد تخفى على الكثيرين, حتى من المعنيين أو من الذين يعتقدون بأنهم معنيون بهذا الأمر أو ذاك من أمور الثقافة. في ما يأتي, نعطي مثالاً على تلك التجليات السلبية.

بعض الباحثين, وخصوصاً من طلاب الجامعات في مراحل الدراسات العليا, يلجأون أحياناً الى مقالات الشعراء وغيرهم من الأدباء ليستعينوا بآرائهم في ما يقومون به من أبحاث أو دراسات. ففي هذه الحالات, تكون المراجعات النقدية للكتب الصادرة حديثاً, والمكتوبة بأقلام بعض الكتاب ذوي الأسماء المكرّسة أو المعروفة, مراجع لأولئك الطلاب, الذين يصعب عليهم ان يميزوا بين الآراء السديدة والآراء المزيفة التي يرجعون إليها. ومثل هذا التمييز يصعب أيضا على الكثيرين من أساتذتهم. أي تضليل إذا, هو ذلك الذي يتعرّضون إليه في رجوعهم الى ما يصادفونه في شهادات الأدباء بعضهم في البعض الآخر؟

لقد بات من العادي والمستهلك الحديث عن أهمية النقد بالنسبة الى الأدب, والى الثقافة بعامة. واذا كانت الشكوى من ضمور النقد قائمة عندنا, فإنها تعبّر عن مشكلات مختلفة في وضعنا الثقافي. وفي ما يتعلق بالشعر ونقد الشعر, على وجه التحديد, رمت هذه المقالة الى التركيز على مسؤولية الشعراء العرب المعاصرين في ما آلت إليه الحركة النقدية عندنا. فهؤلاء الشعراء ليس لهم ان يتنصلوا مما يشكون منه حيال النقد, وإنما عليهم ان يبذلوا الجهد الكافي لامتلاك القدرة على التقويم والتمييز والنظر الى التجارب الشعرية برهافة وتجرّد. عند ذلك, يفتحون أمام الحركة النقدية سبل النموّ والتطوّر.

الحياة- 2004/05/31