مقـدمة:
يحاول هذا البحث تحديد وتحليل أهم تمثيلات الشرق، فضاءات وبشرًا وثقافة وحضارة في ديوان "الشرقيات" الذي خصصه ف. هوجو لهذا الموضوع كما يتضح من عنوانه .(1)
التساؤلات الأساسية التي نطرحها ونحاول تعميق النظر فيها ومن ثم الإجابة عنها هي:
أولاً: لماذا كرّس شاعر فرنسا الأهم في عصره مجموعة شعرية كاملة لهذا الموضوع وهو لم يزر الشرق ولم يعد إلى الكتابة عنه في أي من أعماله الشعرية والقصصية والمسرحية التي تلت مجموعته هذه؟
ثانيًا: ما الدلالات المركزية التي يمكن استنباطها من هذه النصوص الشعرية التي يمكن أن تصنف ضمن ما يسميه إدوارد سعيد "الاستشراق المتخيل" ويمكن إدراجها أيضًا وفي الوقت نفسه ضمن دائرة "الخطاب الرومانسي" الأوسع والأشمل"؟
ثالثًا: ما مدى مشروعية القراءة النقدية التي تحاور تلك النصوص القديمة نسبيًا من منظور يساعد على تلقيها باعتبارها علامة تحول عميق طرأ على النماذج الفكرية والجمالية السائدة في مطلع القرن التاسع عشر في فرنسا وعموم أوروبا ويبدو أن "الثقافات الشرقية" لعبت دورًا حاسمًا في حدوثه؟.
نطرح هذه التساؤلات في البدء لأننا نريد إثارة بعض القضايا النظرية والمنهاجية التي تنطلق من حقل الدراسات المقارنة الحديثة لكنها لا تنغلق في هذا الإطار فحسب. فالدراسات النقدية من هذا النمط لابد أن تهتم بمختلف أشكال التفاعل الخلاق بين اللغات والثقافات والفنون الإبداعية إذ أن هذا هو سبب وجودها ومجال بحثها كحقل متميز من حقول الدراسات الإنسانية الجديدة نسبيًا. والتركيز على المظاهر والأبعاد الإيجابية في علاقات التفاعل هنا مرده إلى أن الأشكال الجمالية والتيارات الأدبية والنظريات النقدية والفكرية لا يمكن أن تتبلور وتتطور إلا ضمن سياق التواصل والتأثير المتبادل فيما بين الثقافات البشرية. ومع أن اختلال علاقات القوة بين الدول والمجتمعات يجعل بعض الثقافات تحاول الهيمنة على غيرها في لحظة ما من التاريخ إلا أن البعد السلبي لا يقارن بتلك الأبعاد الإيجابية إلا حينما تقرأ الظواهر والإنجازات الجمالية والفكرية من منظورات إيديولوجية ضيقة المنطلقات محدودة الأفق والغايات. من هذا المنظور العام نحاول إيضاح الإطار الفكري الخاص للإشكالية التي تؤسس لفرضية البحث الذي بين أيدينا.
2- مدخـل نظـري:
منذ أن أصدر إ. سعيد كتابه الشهير عن "الاستشراق" (2) أصبح هناك ما يشبه المزاج العام الذي يدفع الباحثين العرب إلى تجاهل الآثار الإيجابية لعلاقات التفاعل المشار إليها آنفًا بمجرد أن يصنف متن أدبي أو معرفي ما ضمن "الخطاب الاستشراقي" وكأن عملية التصنيف تنطوي في ذاتها على حكم سلبي مسبق على النص لم يعد أمام القراءة سوى تسويغه ودعمه بالشواهد والأمثلة!. فهذا الخطاب عادةً ما يوصف في مجمله بأنه ظل يستعيد ويكرس عن الآخر العربي المسلم تمثيلات نمطية مكرورة ومبسترة تتصل بالخطاب – ومرجعياته وشروط إنتاجه وتلقيه أكثر من اتصالها بواقع تاريخي – ثقافي محدد لابد أنه متنوع وغني ومتحول بحيث يتعذر اختزاله. كذلك غالبًا ما يتم التركيز على أن الخطاب ذاته لا يمكن أن يخلو من آثار "المركزية الغربية" التي عادة ما تجعل الآخر المختلف، أيًا كان، يبدو هامشيًا، و"شاذًا" بمعنى ما، سواء تمت معاينته من منظور الإعجاب به والانجذاب إليه أو من منظور النفور منه والعداء له. أما القول بأن الخطاب الاستشراقي يمثل في مجمله سلطة ثقافية كثيرًا ما تداخلت مع غيرها من السلطات لتبرير أشكال الهيمنة الغربية على هذه الفضاءات فهو من قبيل تحصيل الحاصل في مقام كهذا المقام. هذه الأطروحات التي ألح عليها إ. سعيد، ومعه باحثون من قبله ومن بعده مثل عبد الكبير الخطيبي وأنور عبد الملك وحسن حنفي وحمدي زقزوق، تمثيلاً لا حصرًا، مبررة ومشروعة تمامًا، وربما نجد في الكتابات الفكرية والنقدية الغربية بهذا الصدد ما قد يكون أكثر منها عمقًا وشمولية (3) لكن الأطروحات ذاتها ما إن تتحول إلى حقائق صلبة، ثابتة ومطلقة، حتى تصبح عوامل توجه القراءات في مسار واحد فتعيق عملية البحث والإنجاز فيما يفترض أن توسع الأفق وتولد المزيد من الأطروحات. بصيغة أكثر وضوحًا نقول إنه عوضًا عن البناء على جهود هؤلاء الباحثين وغيرهم لمحاولة إثرائها وتطويرها وتجاوزها، أصبح الخطاب الثقافي العربي السائد في العقدين الأخيرين يراوح مكانه عندها إذ يستعيدها بطريقة تكرارية مملة وعقيمة في الوقت نفسه. فالمؤكد أن تلك الجهود تسمى ظواهر محددة في "الخطابات" الاستشراقية، ولا يمكن في اعتقادنا أن يخلو منها أي خطاب ثقافي حول الآخر المختلف في أي مجتمع أو عصر (4) لكن نقلها من مجال البحث المعرفي إلى مجال السجالات الأيديولوجية هو بداية الخلل الذي لابد أن تنعكس نتائجه سلبيًا على البحث والباحث، ذلك لأن المواقف المسبقة والأحكام التعميمية الجاهزة تهيمن على القراءة وتحد من قدرة الباحث على التحليل النقدي المعمق للنصوص والمنظومات الفكرية كممارسة معرفية جادة هي وحدها ما يفترض أن يميز العمل في هذا المجال. نعم، لاشك أن مبررات النزعة السجالية الأيدلوجية هذه كثيرة جدًا في سياق علاقات توتر تغذيها الأخبار والصور التي تغرقنا بها وسائل الاتصال الحديثة يوميًا، "هنا" و"هناك". لكن نزعة كهذه لا تعود مبررة أو مجدية في سياق البحث المعرفي الذي لابد أن يكون اجتهادًا متصلاً في سبيل تجاوز المعارف والأفكار والنظريات السائدة وإلا فقد الجهد معناه وقيمته. من هنا ينبغي، في اعتقادنا، التمييز الصارم بين أشكال مختلفة من "الخطابات الاستشراقية" التي ينطوي كل منها على خصائص متفردة ويعبر عن إشكاليات محددة تتطلب مقاربات تتناسب مع خصوصية النصوص البنائية والوظيفية من جهة ومع الأهداف التي يحددها الباحث لبحثه وبحسب مجال تخصصه من جهة أخرى. ونلح على هذا التمييز لأنه ضرورة منهجية للقراءة النقدية التي تحاور النصوص والأعمال المفردة التي عادة ما تنطوي على خصائص ذاتية تميزها عن غيرها، وهذه الخصائص هي التي تُهمش أو تهمل عندما يتجه الناقد إلى مظاهر التشاكل العمومية فيما بين الكتابات والكتاب (5)
لقد كشفت لنا قراءتنا المتأنية لديوان "الشرقيات" عن وجوه من التأثيرات الإيجابية الخلاقة للثقافة العربية الإسلامية على ف. هوجو نزعم أنها من أسباب تميز هذه المجموعة الشعرية تحديدًا. ومما يعزز أهمية الدراسة التحليلية المعمقة لهذه التأثيرات أن أحدًا من النقاد لم يعطها ما تستحقه من البحث رغم كثرة ما كتب عن الشاعر وبالأخص في اللغة الفرنسية (6) وفوق ذلك لاحظنا أن الباحثين الفرنسيين الذين أنجزوا دراسات متميزة عن هذا الكاتب الكبير يميلون إلى التعامل مع تلك التأثيرات كما لو أنها ظواهر عابرة أو ثانوية فيما نزعم أنها من بين أقوى العوامل التي شكلت وعيه الذهني وخياله الإبداعي وحددت بالتالي الأفق الجمالي لكتاباته الإبداعية في مرحلة حاسمة من حياته، وهنا تحديدًا تكمن الفرضية المركزية للبحث الراهن كما سنوضحه بإيجاز في الفقرات التالية.
3- جاذبيـة الشـرق:
في فترة مبكرة من حياة ف. هوجو تعاضدت مجموعة من الخبرات والتجارب لتولد في ذهنه ومخيلته مشاعر الإعجاب والافتتان بذلك الشرق الذي سريعًا ما تحول إلى مصدر إلهام وأفق تجديد لشعرية جديدة كان ف. هوجو من أبرز روادها وممثليها في مطلع القرن التاسع عشر (7) ففي حوالي العاشرة من عمره كان عليه أن ينتقل مع أسرته إلى أسبانيا التي ألحقها نابليون بونابرت بالإمبراطورية الفرنسية وكان والده الجنرال هوجو حاكمًا عليها. هذه الإقامة القصيرة (من 1811 إلى 1812) سمحت لشاعر المستقبل البارز باكتشاف بلد تختلف أنماط حياته ومظاهر عمرانه عما تعوّده في فرنسا، وعن هذا الاختلاف تحديدًا بدأت علاقات الإعجاب والانجذاب تتشكل لتقود الشاعر إلى الافتتان بأسبانيا وذاكرتها الحضارية المشرقية التي كانت آثارها الجمالية تنتشر في كل مكان. فالقصور والمساجد المزينة أبوابها ونوافذها وجدرانها بالآيات القرآنية وبالنقوش الزخرفية العربية شاهدها الطفل الموهوب تجاور الكنائس والقصور الغوطية مولدة "مشاهد متنوعة، متآلفة حينًا ومتنافرة حينًا آخر، جادة وعنيفة من جهة، ومرحة إلى حد البهجة من جهات أخرى.. "وهذا ما فتن به الشاعر في الحال" كما يقول أ. موروا كاتب أهم سيرة حياتية – أدبية عن ف. هوجو (8)
كذلك يذكر هذا الباحث نفسه أن ف. هوجو الطفل كان قد قرأ خلال تلك الرحلة نسخة من "ألف ليلة وليلة" حرصت أمه على أن تكون ضمن حاجات السفر، ولابد أن حكاياتها العجيبة المدهشة أيقظت مخيلة الطفل وأطلقت العنان لأحلامه باتجاه تلك الفضاءات الشرقية البعيدة الغامضة التي تترآى صورها الخلابة مرة في الحكايات ومرة في هذه المدن الأسبانية المليئة بآثار الشرق الحضارية الحية!.
أمر ثالث يستحق التنبيه إليه هنا ويتعلق بتعرف ف. هوجو إلى فتاة أسبانية تكبره ببضع سنوات ويبدو أنه شعر تجاهها بأول علاقة محبة في حياته لابد أنها عمقت افتتانه بالفضاء وثقافته. فعن هذه التجربة العاطفية المبكرة كتب الشاعر لاحقًا:
"في أسبانيا هذه التي أحببت/ مطلع كل يوم وكل ربيع/ قالت لي بيبا – أنا ابن الثامنة – يا فتى/ اسمي بيبا، ووالدي من سراة القوم هنا/ لحظتها شعرت بأنني رجل يعيش في بلد محتل/ وتراوده أحلام مختلطة بحالة الحرب" (9)
هكذا إذًا تفاعلت مجموعة من العوامل ليخرج ف. هوجو بتجربة غنية من رحلته إلى أسبانيا وإقامته العابرة في مدريد، ولاشك أن هذه التجربة تدخلت بقوة في تشكيل وعي الشاعر ومخيلته الإبداعية خاصة وأنها غذت حياته ببعد جديد مختلف لم يكن له أن يكتسبه من دون هذه الوقائع الموثقة كما يلاحظ. فأسبانيا التي تنقّل الشاعر بين مدنها وقراها وشاهد حدائقها وقصورها ومساجدها وكنائسها ستمثل عنده، وعند غيره من الرومانسيين، الثمرة الأجمل للقاء والتفاعل بين حضارات الشرق والحضارة الغربية. ولقد بيّنت أهم الدراسات المقارنة في هذا الموضوع بالذات كيف تحولت أسبانيا إلى امتداد واقعي ومتخيل للشرق الذي فتن به كثير من الأدباء والفنانين الرومانسيين من قبل ف. هوجو ومن بعده (10)
4- التحول إلى "الرومانسية" ودور الشرق في هذا التحول:
بعد عودته من أسبانيا بدأ حضور ف. هوجو "الشاعر" يتكرس في الوسط الأدبي الفرنسي بسرعة لا يحظى بها إلا قلة نادرة في كل زمان ومكان؛ ففي الثالثة عشرة من عمره نشر قصيدة مطولة فازت بجائزة من "الأكاديمية الفرنسية" التي نظمت المسابقة، وهي السلطة الأدبية الرسمية الأهم في فرنسا بالأمس واليوم. بعد ذلك بسنتين (1817) منحته الأكاديمية ذاتها وسام استحقاق اعترافًا بمواهبه وتشجيعًا له، وفعلت مثلها أكاديمية أخرى في تولوز بعد سنوات قليلة مما فتح أبواب الشهرة أمامه وهو في بداية مرحلة المراهقة!.
هذه النجاحات المبكرة لم تدفع به إلى الغرور والتهاون بل إلى المزيد من الجهد لتطوير ذاته وإبداعه كيما يحقق طموحه بأن يكون "مثل شاتوبريان أو لا شيء" كما كان يقول حينها (11) هكذا بادر وهو في السابعة عشرة إلى إصدار مجلة "المحافظ الأدبي" ليبلور، بالتعاون مع إخوته، آراءه وتصوراته من جهة، ولكي يتواصل مع الوسط الأدبي من حوله عبر هذا الوسيط الإعلامي الجديد والجذاب هو أيضًا في تلك الفترة. ومما يدل على تناسب الطموحات مع الإنجازات أن الكاتب أصدر خلال سنوات قليلة ثلاث مجموعات شعرية هي "أغاني وأشعار متنوعة" (1822) "الأغاني الجديدة" (1824) ثم "الشرقيات" (1829)، هذا بالإضافة إلى عملين قصصيين يؤكدان موهبته الروائية نشر أولهما عام 1820 والثاني عام 1823 (12)
فيما يتعلق بمجموعة "الشرقيات" تحديدًا هناك ثلاث قضايا تستحق التوقف عندها نظرًا لأهميتها الاستثنائية في تعزيز الفرضية الرئيسة لحثنا الراهن.
القضية الأولى أن نصوص هذه المجموعة تعدّ في مجملها علامة تحول جذري بدأ يطرأ على وعي الشاعر وكتابته وهو في منتصف العقد الثالث من عصره كما تقصاه أ. موروا بالكثير من الدقة والعمق (13) فالشاعر كان سعيدًا بحياته في أسرة صغيرة حققت لها إنجازات الكاتب الشاب اللامع والرعاية المباشرة لقصر فرساي سبل العيش المريح. كما أن فكره وذوقه كانا منسجمين مع قناعاته الدينية القوية، ومع ولائه للنظام الملكي الذي كان يعمل على إعادة ترتيب البيت الوطني بعد أن أربكته ثورة 1789 وأنهكته الحروب الطاحنة التي أشعلها نابليون في أكثر من مكان وانتهت بهزيمته القاسية في واترلو عام 1815، وهي الهزيمة التي أعلنت نهاية الإمبراطورية والنظام الجمهوري كما نعلم.
لكن انضمام الشاعر إلى جماعة "الرومانسيين الليبراليين" في منتصف العشرينيات دفعة إلى التخلي تدريجيًا عن قناعاته ومكتسباته السابقة ليصبح في طليعة هذه النخبة التي ضمت أدباء ونقادًا وتشكيليين ومسرحيين لامعين كلهم كان يحنّ إلى الجمهورية ويعمل من أجل المزيد تحقيق من أشكال التحرر في مجال السياسة كما في مجال الفكر والفن (14) في غمرة هذا التحول بدأ ف. هوجو يعبر عن رؤيته الجديدة لذاته وعالمه من خلال قصائده الشرقية التي كانت تلقي قبولاً حماسيًا من طرف أصدقائه الذين كانوا يجتمعون في منزله بانتظام، وكأنها التعبير الشعري الأمثل عن هذه الحساسية الأدبية الجديدة لدى جماعة الرومانسيين عمومًا. يقول أحدهم بهذا الصدد:
"كان فكتور هوجو ينجز أشياء رائعة بسرعة مدهشة، ومن وقت لآخر يلقي قصيدة شرقية فتقع على من حوله كالحجر على النمل.. فقصائده لم يسمع بمثلها من قبل، جديدة بشكل مضاعف إذ ليس فيها بيت شعري ضعيف وهي تستحوذ على المشاعر لحظة سماعها".
حتى الأدباء المحافظون سريعًا ما اعترفوا بالمكانة المتميزة للشاعر الشاب الذي تحول عن "النظم البارد" إلى شعرية متمردة حية "توقظ الذهن والروح" وتعبر عن رؤى جرئية ومواقف لا تقيم كبير وزن حتى للخطاب الرسمي السائد. هكذا كان الشاعر يؤكد عام 1824 أن "الشعر الفرنسي ينبغي أن يظل ملكيًا ومسيحيًا" وأنه لا يحب أن يوصف بأنه "تقليدي أو رومانسي"، وبعد فترة قصيرة يعلن في مقدمة "الشرقيات" ما يشبه "البيان" الأول والأهم للشعرية الجديدة (15) لقد أصبح يؤمن بأن الشعر "انطلاقة حرة في حديقة فسيحة ليس فيها من فاكهة محرمة" وأن الشاعر كائن حر لا ينبغي لأحد أن يسأله "لماذا كتب كذا وكذا" لأن "الزمن كله والفضاء كله له يتصرف فيهما كما يريد"، وأن من حقه أن يتمرد حتى على "قواعد اللغة التي لم توضع أصلاً للشعراء" لأن "الحرية هي القانون الوحيد الذي يعترف به الشاعر" (16)
ومع أن هذه الأفكار والتصورات قد تبدو لنا اليوم عادية، وربما مبتذلة، لكثرة تكرارها، إلا أنها كانت تمثل نقلة نوعية في حياة الشاعر وكتابته، بل هي إعلان قطيعة جذرية مع التيار الكلاسيكي المحافظ الذي كان يميل إليه الشاعر ذاته قبيل سنوات!.
هنا تحديدًا تنطرح القضية الثانية وتخص دور "المرجعية الشرقية" في هذا التحول، وهو دور لا يتوقف عنده أ. موروا طويلاً مثله مثل غيره من النقاد الفرنسيين الذين كتبوا عن ف. هوجو. فمقدمة الديوان ذاتها تكشف أن مرجعية هذه "الثورة الجمالية"، كما سيسميها بورخيس بعد حوالي قرن ونصف (17)، هي في حقيقة الأمر مشرقية أو عربية إسلامية أكثر من كونها ألمانية أو إنجليزية. هاهو الشاعر نفسه يلح على هذه المرجعية في ثلاث إشارات بالغة الدلالة إذ لا يمكن قراءة نصوص هذا الديوان من دون اعتبارها محددًا أساسيًا لعمليات التفهم والتفسير والتأويل.
الإشارة الأولى تتمثل في مقولته الشهيرة "في عهد لويس الخامس عشر كان الجميع هيللينيين واليوم نحن كلنا مستشرقون "مبررًا القول بكثرة الباحثين اللامعين في مختلف أنحاء فرنسا ممن تخصصوا في أدق تفاصيل اللغات والثقافات الشرقية "من الصين إلى مصر" (18)
فالاستشراق الذي يعنيه كلام هوجو لم يعد حقلاً معرفيًا منغلقًا يُعنى به الأكاديميون، بل تحول إلى اهتمام عام يشارك فيه الأدباء وغيرهم من المبدعين الذين عادة ما يبحثون لدى الآخر عما يغذي إبداعاتهم بالقيم والأشكال الجمالية الجديدة. والشرق لم يكن قط موضوعًا جامدًا أو صامتًا أو ميتًا يشكله الباحث أو المبدع كما يريد، بل هو كينونة حضارية حيّة تتدخل في إعادة تشكيل الوعي الفكري والجمالي للذات الغربية، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بشخص مثل ف. هوجو الذي فتن بآثاره الخلابة منذ نعومة أظفاره كما رأينا من قبل.
من هذا المنظور الإيجابي ذاته ينبغي أن نقرأ الإشارة الثانية التي ألح عليها الشاعر في مقدمة "الشرقيات" ونعني بها دعوته القوية إلى كتابة شعرية جديدة تضاهي تلك المدن الأسبانية التي تتجاور وتتآلف فيها آثار حضارات آسيا وأفريقيا وأوروبا لتشكل مشهدًا جماليًا وحياتيًا لا نظير له في المدن الأوربية الأخرى. إننا هنا أمام تحول يعلي من شأن "المعجزة الشرقية" على حساب تلك "المعجزة الإغريقية" التي اختلقها الخطاب الكلاسيكي في عصر النهضة ليعبر عن إعجابه الشديد بالحضارة اليونانية وليحجب تأثيرات الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا بزعم أن تلك الحضارة لم تقم بأكثر من دور "الوسيط" الذي نقل التراث الإغريقي اللاتيني إلى "أهله" دونما إضافة تذكر. فرغم أن الاستشراق التقليدي ساهم في تكريس هذه المقولة "الأيديولوجية" المتحيزة، إلا أن البحوث المعرفية الأكثر حداثة وجدية أفضت إلى اكتشاف حضارات شرقية أقدم وأعظم من الحضارة الإغريقية، ومنها حضارة وادي النيل التي لعب الفرنسيون دورًا حاسمًا في تفكيك شفراتها والترويج لمظاهر فتنتها، وفي عصر هـ. هوجو تحديدًا، كما تقصاه الباحث روبير سولييه في كتابه "مصر ولع الفرنسيين" (19)
أما من منظور الدرس المقارن التقليدي، وبحسب التقاليد الفرنسية ذاتها، فإن تأثيرات الشعر العربي على ف. هوجو ربما تحتاج إلى بحث مستقل وهذه هي الإشارة الثالثة التي نتوقف عندها بإيجاز. فالشاعر كانت له علاقة صداقة حميمة بمستشرق يدعي إرنست فوينيه (Ernest Fouinet) يصفه ف. هوجو بأنه "عالم موسوعي وشاعر ممتاز" كانت له دراية جيدة بالشعر العربي وترجم إلى الفرنسية مختارات منه بينها معلقة طرفة بن العبد وقصائد لتأبط شرًا وقطري بن الفجاءة وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وغيرهم. هذه النماذج القليلة ما إن قدمها فوينيه إلى صديقه الشاعر الشاب حتى أثارت دهشته وإعجابه بدليل أنه أوردها كاملة في مخطوطة ديوانه مبررًا ذلك بقوله:
"قراءة هذه النماذج التي تبدو على درجة عالية من التميز والجاذبية ربما تعوّد القارئ على ما يمكن أن يبدو له غريبًا في بعض النصوص التي يتكون منها هذا الديوان. وندين بهذه المقطوعات التي تنشر لأول مرة لكاتب ذي معرفة وخيال هو السيد إرنست فوينيه الذي يمكن أن يضع معرفته الواسعة بالشرق في خدمة موهبته الشعرية القوية. إننا سنحافظ على ترجمته التي تبدو لنا وفيّة للأصل وبالتالي فهي ممتازة" (20)
فالشاعر يعبر هنا عن إعجاب كبير بهذه "الشعرية المختلفة" التي استلهمها. وفي الوقت نفسه يدعو قراءه الفرنسيين إلى التفاعل مع نصوصه الخاصة في ضوئها إذ رغم أنها عينات قليلة إلا أنها "كالأحجار الكريمة" النادرة كما يقول الشاعر ذاته (21) هكذا يتضح أن الشرق الذي ينسب إليه الشاعر قصائده ويعلي من شأن آثاره العمرانية والأدبية في مقدمة الديوان، وفي هذه المختارات الملحقة به، لم يعد فضاء الآخر الخصم أو العدو، ولا مجرد موضوع بحث يخص الأكاديميين وحدهم. إنه أولاً وقبل كل شيء فضاء حضاري عريق ينطوي على ثروة غنية من الرموز والأشكال والقيم التي لا تزال تشع في الزمان والمكان ومن ثم فلا غرابة أن يتحول عنده، كما عند لامارتين وديلاكروا وغوته وغيرهم، إلى مصدر إلهام وأفق بحث واكتشاف لمنظومات فكرية ومعرفية وجمالية تختلف عما هو سائد آنذاك في أوروبا بقدر ما تعين على تجاوزه.
نعم، لا شك أن التمثيلات التي سنحللها في الفقرات التالية من البحث يمكن أن تكشف عن مواقف سلبية تمامًا للشاعر بخصوص شرقٍ ما. وهذه المواقف يمكن أن تجد مرجعيتها في تربيته الكاثولوكية الأولى، أو في الخطاب الاستشراقي التقليدي، أو في أيديولوجيا العداء للعثمانيين، (وهو عداء بلغ ذروته آنذاك بسبب حروب البلقان واليونان كما نعلم). لكن هذا البعد الدلالي لا ينبغي أن يحجب الدلالات الأهم لتلك التأثيرات الإيجابية لفنون الشرق العربي وثقافاته التي يلح الشاعر نفسه، وبأكثر من صيغة تعبيرية، على أن نصوصه لا يمكن أن تقرأ وتحاور إلا في ضوئها. فهذا الشرق الحضاري هو الذي فتنه منذ طفولته وشكل عنصرًا خلاقًا في تجربته الإبداعية أيام شبابه وتألقه، ولم تكن كتاباته عنه استجابة لموضة عابرة كما يذهب إليه بعض النقاد لأن الأمر يتعلق بتيار أدبي فني عام انتمى إليه الشاعر وظل رمزًا من رموزه البارزة إلى اليوم (22)
وفي كل الأحوال فإن هدف هذا البحث ليس إثبات أن هذا الشاعر كان يحب أو يكره الشرق والشرقيين، بل تحليل نصوصه من منظور نقدي حواري يساعد على التفهم العميق لأشكال حضور هذا الآخر وحضارته في تجربة شعرية غنية بالتمثيلات والدلالات. هذا وسنركز، لاعتبارات إجرائية، على تمثيلات "المدن الشرقية" و"الرجال الشرقيين" و"النساء الشرقيات" كيما نتقصى تلك الأبعاد الدلالية الغنية بعيدًا عن منطق الاختزال والأحكام التعميمية المسبقة أيًا كان مصدرها ومبررها.
5- المـدن الشـرقية:
القراءة الإجمالية لنصوص "الشرقيات" تسمح لنا بالتمييز بين ثلاث فضاءات مدينية شرقية يتم تمثيلها في النص الشعري من زوايا مختلفة باختلاف ما يسقطه عليها الشاعر من آراء ومشاعر وانفعالات لحظة الكتابة.
فهناك أولاً المدينة الشرقية المتخيلة، أو "الأسطورية" بمعنى ما، التي يستعيد الشاعر صورها وحكاياتها من "الكتاب المقدس" مما يعني أن مرجعية التمثيل هنا دينية في إطارها العام. وهناك ثانيًا المدينة الشرقية الموجودة في مكان من ذلك الفضاء الذي لم يزره الشاعر ولذا فهو يتحدث عنها استنادًا إلى المرجعيات الأدبية والثقافية المتاحة في عصره. وأخيرًا تأتي المدن الأسبانية التي عرفها الشاعر خلال مرحلة الطفولة وأصبحت آثارها الشرقية جزءًا من مكونات ذاكرته ووعيه ومخيلته ولذا فلا بد أنه يعيد تمثيلها شعريًا من هذا المنظور الذاتي الحميمي في المقام الأول. لنفصل القول بعض التفصيل في دلالات هذه المدن التي تحولت إلى فضاء مجازي يشيده الشاعر بالكلمات ليبرر مواقفه تجاهها وتجاه ما ترمز إليه من معانٍ وقيم وتواريخ.
5 – 1 - مدينة الحكايات التوراتية:
في القصيدة الأولى من الديوان، وهي بعنوان "نار السماء" تطالعنا صورة "سدوم" و"عمورة"، تلكما المدينتان اللتان غضب عليهما الرب "فأرسل عليهما مطر العذاب والنار ليدمرهما وأهليهما وكل البلدان المحيطة بهما وسكانها" كما ورد في سفر التكوين الذي يحرص الشاعر على الإحالة عليه في مطلع النص (23)
هذه القصيدة المكتوبة عام 1828، أي أنها من نصوص مرحلة التحول، هي الأطول في الديوان كله إذ تتكون من أحد عشر مقطعًا يدل ترتيبها على أن الشاعر أراد إعادة بناء الحكاية التوراتية في شكل نص شعري يجمع بين الملحمي والدرامي وينطوي على دلالات رمزية جديدة تبرر الحوار مع الحكاية ومرجعياتها القديمة.
المقطع الأول يخصص لمشهد السحابة الداكنة التي تعبر السماء وتلفت النظر إذ تظهر مرة داكنة ومرة حمراء قانية ومن هنا ينطرح التساؤل "من أين جاءت وإلى أين تمضي سحابة العذاب هذه"؟. هذا التساؤل المطروح بأسلوب شعري في نهاية المقطع الأول هو الذي يؤسس للبنية الدرامية في النص لأن السحابة المخيفة تلك ما أن تعبر فوق البحر – المقطع الثاني – حتى تسأل إن كان عليها أن تنصب عليه لتجففه في الحال فيجيبها صوت علوي بالنفي، ومن ثم تواصل رحلتها. إنها سحابة موجهة بإرادة الصوت الإلهي لا بقوانين الطبيعة، وما إن يتنبه القارئ إلى أن صوت الشاعر وإرادته حاضران في خلفية المشهد حتى يبدأ يتابع لعبة التمثيلات من هذا المنظور تحديدًا.
في المقطع الثالث تعبر السحابة فوق خليج تحف به الجبال الخضراء وتعيش فيه قطعان من الحيوانات البرية وجماعات من القبائل السعيدة، التي تعيش على الصيد ولا تعرف اللباس، وفي حياتها متسع من الوقت للرقص والمرح، ولذا فلا شيء يبرر الغضب عليها فيما هي النموذج الحي لذلك "البدائي المتوحش والطيب" الذي طالما مجده الخطاب الرومانسي بشقيه الفكري والأدبي (24)
في المقطع الرابع تبدو مصر بحقولها الممتدة كسجادة غنية بالزخارف بين بحر بارد في الشمال وصحاري دافئة في الجنوب، وأهراماتها الثلاثة تبدو كجبال من صنع البشر يحرسها أبو الهول. فوق هذا الفضاء الجميل وذاكرته الحضارية العريقة تتوقف السحابة لتسأل إن كان هذا هو فضاء العذاب المنتظر فيأمرها الصوت المزدوج ذاته أن تمضي بعيدًا عن بلد النيل والحضارة الأعرق والأجمل.
هنا تحديدًا نكتشف أن هذا "الفضاء الشرقي" يبدو جذابًا وفتانًا عند هوجو، مثله مثل فضاء الصحراء من بعده حيث "الرمال بعدها رمال في مكان خال ومقدس لا يعرف أسراره غير الرب الذي أنشأه" كما يقول الشاعر معبرًا عن مشاعره من جهة ومبررًا عدم استحقاق مكان آسر كهذا للعذاب من جهة أخرى.
في المقطع السادس تظهر "بابل" مدينة أطلال تسكنها الأشباح والتماسيح والسحالي وقطعان الفيلة والنسور الجارحة"، وعليه فلا معنى لتعذيب مدينة خربة كهذه. في المقطع التالي والأطول في النص تظهر المدينتان المغضوب عليهما وهما تتصفان بمجموعة صفات تبين سبب الغضب والتدمير. فهما، أولاً، مدينتان غريبتان غير معروفتين، مما يعني أن الشاعر لا يريد تحديد انتماءهما وهويّتهما رغم أنهما في فضاء التمثيل وحكاية العذاب الأصلية ينتميان إلى "الشرق" العتيق. وهاتان المدينتان تبدوان مليئتين بالأصنام والناس والعربات والحدائق والقصور والبروج والجسور والقنوات.. مما يدل على أنهما بلغتا درجة متقدمة جدًا من العمران. من جهة ثالثة يعيش أهل المدينتين حياة ترف ولهو وملذات محرمة ولذا فهما "تلوثان العالم"، وتدميرهما بتلك السحابة النارية الهائجة هو خلاص للعالم من الشر والإثم، وهذا ما يستعيده الشاعر من المرجعية التوراتية ومن ثم فلا جديد هنا (25) ومن هنا فإن السؤال الذي ينبغي طرحه بهذا الصدد يتعلق بالدلالة الجديدة لهذه المدن القديمة، أي بالدلالات الرمزية التي أراد الشاعر الإيحاء بها وهو يحول الخبر التوراتي إلى نص شعري مطول كهذا!.
في المقاطع الأخيرة من النص، وهي قصيرة جدًا، تظهر بداية الخيط الدلالي الأهم في اعتقادنا؛ فالشاعر لا يريد حصر دلالة الخبر والنص في سياق "شرقي" أو "غربي" محدد، بل يعمل على إطلاقه ليشمل أي مدينة تسير سيرة تلك المدن "المترفة الكافرة"، ولهذا يحرص على القول بأن أحدًا لم يسمع ولم يتعظ بأصوات الفزع والألم التي يفترض أنها عمت الأرض كلها. إننا هنا أمام رؤية إنسانية ممتزجة بالمشاعر والأفكار الدينية هي التي تجعل الشاعر يعاين التاريخ والواقع من هذا المنظور التراجيدي الذي لا أمل في الخلاص منه إلا بنسيانه، هذا النسيان الذي يعطي للتذكير بتلك الحكاية دلالة العبرة ووظيفتها عند الشاعر وأمثاله. بعد هذا لعل المحصلة الدلالية الأهم لهذا النص المطول تتصل بتلك الجاذبية التي يعبر عنها الشاعر تجاه الحضارة المصرية العريقة من جهة وتجاه الصحراء العربية وما تنطوي عليه من قيم وأسرار قدسية من جهة أخرى وهذا ما سنعود إليه لتعميقه لاحقًا.
5 – 2 – مدن الشرق الواقعية:
لا يخصص هوجو لمدن شرقية عريقة كأسطنبول أو دمشق أو القاهرة أو بغداد.. نصوصًا بعينها لكنها حاضرة في مقاطع متفرقة من قصائده بطرق غير مباشرة وذلك ربما يعود إلى أن الشاعر سمع وقرأ عنها دون أن تكون له أية صلة مباشرة بها كما لاحظنا.
من هذا المنظور لاشك أن عاصمة الإمبراطورية العثمانية هي المدينة الأكثر حضورًا ودلالة إذ أن الشاعر يتحدث عنها في كل نص من منظور مختلف؛ ولذا فمن المنطقي ألا تكون تمثيلاتها المتعددة ذات بعد دلالي واحد وإن كان الإطار العام واحدًا. أول ما تحضر هذه المدينة المركزية عبر قصور السراي الفخمة الدالة على عظمة الإمبراطورية من جهة وعلى حياة الترف التي يعيشها السلطان والطبقة الأرستقراطية المحيطة به. ففي مقاطع من قصيدة "رؤوس السراي" (26) تبدو أسطنبول مدينة بهيجة ذات جبين تزينه ظلال الأشجار مستلقية على شاطئ خليج تجعلها مياهه تبدو كما لو كانت كوكبًا فاتنًا تضيئه أنوار السماء إذ تلتمع انعكاساتها الراقصة على الأمواج الهادئة. وتتعزز فتنة هذه المدينة الجميلة ببعد دلالي آخر يتصل فيه الجمال بالقوة إذ تبدو المدينة وكأن قوى علوية خفية هي التي رفعت عاليًا قصورها وقبابها الزرقاء التي تضاهي قبة السماء وعليها ألف هلال وهلال يكاد جمالها ينسي الرائي الهلال الحقيقي. أما هويتها الشرقية – الإسلامية فتتجلى عبر تفاصيل أخرى كأسطح المنازل المستوية ومنابر المساجد البيضاء والشرفات الواسعة ذات المشربيات التي تسمح برؤية الخارج دون أن يهتك سرها أحد من العابرين، وتلك الأسواق المترعة دكاكينها وبضائعها بالألوان الجميلة، هذا فضلاً عن الحدائق وبساتين النخيل التي تحيط بالمدينة المبنية في واحة شرقية تطل على البحر مما يجعلها مدينة حلم رومانسي لا مدينة واقع فحسب (27)
هذه الصورة الجميلة إلى حد الفتنة سريعًا ما تدخل في علاقة تقابل وتعارض مع مشهد الحياة داخل قصر السلطان العثماني الذي يبدو في الليل كأنما هو في عرس، إذ تتعالى منه أصوات الموسيقى والرقص على السجاجيد الحريرية الشرقية لأن كل من فيه يحتفلون بالنصر في معركة من معارك البلقان، ولذا فإن جزءًا من المشهد يتمثل في رؤوس الأعداء الثلاثة المقطوعة التي أرسلت للسلطان وحاشيته! وعلاقة التضاد هذه هي التي تكشف عن موقف الشاعر الذي يبدو مفتونًا بهذه المدينة الجميلة لكنه يحرص على الإيحاء بأن نعيم الحياة "هنا" يقابله جحيم الحياة في مدن أخرى هي تلك المدن اليونانية والبلقانية التي تهيمن عليها أسطنبول وينبغي أن تتخلص وتتحرر من هيمنتها حسب رأي الشاعر.
كذلك لا يخفى أن هذه المدينة الكبيرة الجميلة لابد أن تنطوي على بعد دلالي أكثر سلبية ينبثق عن مظاهر الترف والإسراف في ذلك القصر الذي تتمحور حوله المدينة كلها، وهنا تحديدًا نلاحظ مدى التشاكل بين ملامحها وبعض ملامح سدوم وعمورة اللتين حق عليهما العذاب لهذا السبب. فالمدينة حاضرة الإمبراطورية، وهي كبيرة وجميلة، والحياة فيها جذابة دونما شك، لكنها في التحليل الأخير مدينة مترفة طاغية على غيرها طغيان قصورها على أحيائها البسيطة وطغيان السلطان على كل من يوجد في السراي!. وفي كل الأحوال لعلنا نلاحظ أن مجمل تمثيلات هذه المدينة تظل فقيرة الدلالات لأنها لا تنبثق عن تجربة اتصال عميق لدى شاعر شاب تستهويه التصورات الرومانسية الحالمة لكنها لا تنجح في تغطية موافقة الإيديولوجية المعادية بحدة للدولة العثمانية ولكل ما يتصل بها ويرمز إليها.
في نصوص أخرى تذكر مدن شرقية كالقاهرة وحلب والبصرة والموصل وفاس لكنها لا تذكر لذاتها بل لعلاقاتها بهذه المدينة – المركز التي يبدو الشاعر موزعًا بين مواقف الانجذاب إليها ومواقف العداء لها، وتحديدًا لما تمثله من سلطة استبدادية طالما فضحها وأدانها الرومانسيون حيثما تجلت في الغرب أو الشرق (28)
5 – 3 مدينـة الذاكرة والحلم:
أشرنا في فقرة سابقة إلى أن هوجو ظل مفتونًا بتلك المدن الأسبانية التي عرفها في طفولته ودعا وهو في أوج شبابه وتألقه إلى شعرية جديدة تضاهي جماليات التنوع في تلك المدينة المتعددة الملامح والآثار والهويات وكأنها الفضاء الأمثل لالتقاء وتفاعل الشعوب والقارات والحضارات. فالمدينة هنا ليست مجرد فضاءات خارجية يتم وصف مكوناتها الطبيعية والعمرانية من منظور الإعجاب بها أو الحنين إليها، بل تتحول عند الشاعر الرومانسي الكبير إلى مجاز كلي للقصيدة، وكذلك للشعرية الجديدة التي يدعو إليها ويجرب كتاباتها ويحلم بالمزيد منها. ولعل هذه الرؤية تبدو غريبة تمامًا على الشعرية الرومانسية التي تعلى من شأن الأرياف والغابات والصحاري بقدر ما تحط من شأن المدن إجمالاً (29) لكن هوجو نفسه يقدم ما يفسر ويبرر موقفه ورؤيته الخاصة في تلك المقدمة النظرية المطولة التي تشبه "البيان الأول" والأهم للشعرية الرومانسية في فرنسا كما أسلفنا القول. فالهاجس المركزي للشاعر في تلك المرحلة من حياته كان تجديد القصيدة وعموم الخطاب الأدبي، وقد تعاضدت خبرات طفولته وقراءته ليتحول الشرق عنده إلى أفق جمالي جذاب له ولأمثاله، ومن هنا تحديدًا جاءت بعض قصائد ديوانه هذا وكأنما هي التحقق الفني الملموس لتلك الجماليات الشرقية التي تحققت من قبل في المدينة الأسبانية أكثر من أي مدينة أخرى. بعد هذا لا غرابة أن نكون هنا أمام لعبة تمثيل تمتزج فيها المشاعر الحميمة بالمواقف والقناعات الفكرية؛ لأن القصيدة لا تعود مبنية على منطق محاكاة المدينة أو وصفها من الخارج بقدر ما تتحول المدينة ذاتها إلى مجاز للقصيدة ما دامت تبدو كلها في عين الشاعر أثرًا فنيًا يختزل ويجسد أجمل ما أبدعته الشعوب والحضارات السابقة، والأهم من هذا أنه أثر حي لا يزال يشع بالقيم والرموز الغنية جماليًا وفكريًا كما لا يخفى على ف. هوجو.
في نص بعنوان "غرناطة" تتجلى لعبة التمثيل المعقدة هذه بصيغ متنوعة فيها من الرهافة بقدر ما فيها من العمق وتتجه في مجملها إلى التعبير عن ذلك الموقف العاطفي المشبوب الذي يثوي وراء النص الشعري ووراء تلك المقدمة النظرية التي تغري وتغوي به. ففي البدء يورد الشاعر مثلاً أسبانيًا يقول "من لم ير أشبيليه لم ير أعجوبة خارقة قط" (30) ثم يأتي النص لا لينقض دلالة المثل وإنما لكي يحولها إلى "غرناطة" التي تبدو الأجمل من بين كل المدن الأندلسية الجميلة. فالنص هنا أيضًا يميل إلى الطول إذ يقع في خمس صفحات لكنه يعتمد بنية اللوحات أو المشاهد القصيرة المتتابعة التي تذكرنا بقوة "الذاكرة البصرية" عند الشاعر من جهة وبموهبته في رسم اللوحات التشكيلية اعتمادًا على اللونين الأسود والأبيض – كما هي حال الكتابة – من جهة أخرى (31) ففي المقطع الأول نقرأ:
"أكنت بعيدةً أو قريبة/ أسبانية أو عربية/ فليس من مدينة/ تنافس غرناطة الجميلة/ على تفاحة الجمال/ حينما تعرض أبهتها الشرقية/ تحت السماء البهيجة" (32)
بعد ذلك تتلاحق أسماء المدن الأسبانية مقرونة بأبرز ما يميز كلاً منها من مظاهر عمرانية أو طبيعية تكشف كلها عن جمال هذه المدن التي لن تبلغ مرتبة غرناطة:
"كل هذه المدن الأسبانية/ المنثورة في الأرياف/ أو النابتة فوق سفوح التلال/ كلها ذات حصون وقلاع/ طالما حمتها من المجانيق/ كي لا تظل بين أيدي الغزاة/ وفي كل منها كاتدرائية عظيمة/ ذات نواقيس جميلة/ لكن لغرناطة قصر الحمراء/ الحمراء! آه الحمراء/ هذا القصر الذي شيدته العبقرية كالحلم/ ليبدو آية في التناسق/ تحيط به قلاع ذات شرفات مزخرفة عتيقة/ وفي الليل تتعالى من حوله أصوات ساحرة/ تناجي القمر إذ يطل عبر ألف مقرنصة عربية/ ليزرع الجدران بالنفل الأبيض" (33)
ثم تتصل لوحات الوصف العاشق لهذه المدينة المعشوقة حتى من الرياح التي "تتوقف عندما تمر بها/ كيما تستمتع بمنظر المدينة/ إذ تنتشر نساؤها وورودها كل مساء/"
إلى أن نصل إلى المقطع الأخير:
"جزيرة العرب هي جدتها/ والموريون، فرسان القدر، لعبوا بآسيا وأفريقيا من أجلها وحدها/ لكن غرناطة اليوم كاثوليكية/ غرناطة مكرت بهم/ غرناطة الجميلة هذه يمكن أن تكون أشبيلية/ لو أن بالإمكان أن توجد مدينة مثلها".
إننا هنا أمام المدينة الأجمل في بلد كل مدنه جميلة، لكن مصدر وسر جمالها إنما يكمن ويتجلى في "قصر الحمراء" الذي هو أثر جمالي عربي شرقي تزهو به غرناطة ولذا لم يعُد من الممكن أن تقارن بغيرها. من هنا لا قيمة كبيرة لهوية المدينة الراهنة سواء من المنظور الوطني أو الديني، لأن هذا الأثر يظل يذكر بهويتها الحضارية التي لم يستطع أحد أن يمحوها أو يتجاوزها، كما لو كانت من إبداع كائنات خفية أفرغت فيها خلاصة الحضارات الإنسانية كلها. هذا ولعله من الواضح أن هذه الكتابة العاطفية المشبوبة عن الحمراء وغيرها من المدن الأسبانية تعبّر عن حنين عميق إلى أزمنة الطفولة، التي عاش الشاعر أجملها فيها لا في باريس أو في غيرها من المدن الفرنسية، لكنها تعبر أيضًا عن طموح مستقبلي باتجاه تلك الشعرية الجديدة التي يراد لها أن تضاهي هذه المدن الجميلة وتتماهى مع جمالياتها المتنوعة العناصر والمصادر.
يشير بعض النقاد الفرنسيين إلى أن تجربة الحياة القصيرة في أسبانيا ولّدت في الشاعر نزعة الافتتان "بفنون القرون الوسطى" (34)، لكن نصوص الشاعر من جهة ووقائع التاريخ المتعلقة بحياته من جهة ثانية تكشف لنا أن أكثر ما فتنه هو فنون الحضارة الإسلامية حينما كانت تعيش قرون ازدهارها ونهضتها، ومن ثم لا ينطبق عليها ذلك المفهوم ولا التحقيب التاريخي الذي يرد في سياقه. ثم إن فنون الباروك والروكوكو التي شاهدها الشاعر في أسبانيا ليست هي التي شكلت مركز الجاذبية في أي من أعماله الشعرية والقصصية لأن ما كان يبحث عنه ويؤسس له، هو وأمثاله، هو تحديدًا جماليات التنوع والاختلاف التي لا تتجلى في مكان أكثر من هذه المدن الأسبانية ذات الذاكرة التاريخية العريقة والهوية الحضارية المتعددة.
من هذا المنظور لم يعد من المستبعد أن تتخذ تمثيلات المدن الشرقية الواقعية في مجملها بعدها الدلالي الأشمل في سياق علاقات تقابلها مع "المدن الغربية" التي تمثلها المدن الفرنسية في هذا السياق. فالشاعر لا يتحدث عن باريس مثلاً، وفي هذا الديوان تحديدًا، إلا وهي تبدو إطارًا كئيبًا لحياة كئيبة يحاول الخلاص منها بالترحل المتخيل عبر تلك المدن الشرقية التي تبدو له أكثر جمالاً وبهجة وفتنةً حتى في أكثر السياقات تراجيدية (35) أما فضاء الإقامة والحياة والكتابة الأمثل عنده فهو المدينة الأسبانية، وبالأخص غرناطة مدينة الجمال المطلق، وهو جمال شرقي في جوهره كما لاحظنا. إننا أمام رؤية لا يمكن تفهمها بعمق ودقة إلا حينما نقرأ نصوص هذا الشاعر الشاب في ضوء التحولات الجمالية والفكرية التي بدأ الرومانسيون يتجهون إليها ويبشرون بها خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر. ففي تلك الفترة بدأ المبدعون الشباب في مختلف المجالات يعلون من شأن الترحل بين مدن الشرق واقعيًا أو خياليًا لأنها بأجوائها المشمسة وآثارها العريقة وعلاقاتها الحميمة البسيطة وتلويناتها الغنية كانت تمثل النقيض الواقعي والرمزي للمدن الأوروبية المعتمة التي اخترقتها قيم المنفعة والتقينات الإنتاجية الحديثة التي زادت من كآباتها وصرامة علاقاتها وقساوة الحياة فيها. وفي كل الأحوال فإن تمثيلات هذه الفضاءات العمرانية لا يمكن أن تنفصل عن تمثيلات البشر الذين يسكنونها وبناء عليه لابد أن تكتسب دلالاتها أبعادًا جديدة من هذا المنظور كما سنحلله بإيجاز في الفقرة التالية.
الرجال الشرقيون: الآخر العدو/ الآخر القرين:
تنتظم تمثيلات الرجال الشرقيين في مجملها وفق منطق عام يكشف عن نسقية الرؤية والوعي لدى الشاعر بهذا الصدد. ففي كل مرة يتعلق الأمر بشخصية تمثل سلطة سياسية أو دينية تنزع النصوص إلى إبراز الدلالات السلبية للشخصيات "الرسمية"، بينما تُصوّر النماذج الأخرى بقدر كبير من الإعجاب الذي قد يصل حد التماهي مع هذه الشخصية الشعبية أو تلك. وضمن المنطق نفسه سنلاحظ أن التوجه السلبي للدلالات يبلغ ذروته عند الحديث عن "الآخر التركي" الممثل الواقعي أو الرمزي للسلطة العثمانية، بينما تبلغ التوجهات الدلالية الإيجابية ذروتها عندما يتعلق الأمر بـ"الآخر العربي" الذي يبدو أحيانًا كما لو كان القرين الداخلي للذات الشاعرة أو نموذجها الإنساني الأمثل!.
من هذا المنظور العام سنركز على تمثيلات شخوص مركزية مثل السلطان العثماني والقائد العسكري ورجل الدين "المفتي"، ثم ننتقل إلى شخوص شعبية بعيدة عن السلطة أو مضادة لها مثل شخصية الدرويش وشاعر الخليفة والفارس العربي الذي يحضر في أحد أهم نصوص "الشرقيات" كما سنبينه لاحقًا.
فالسلطان، رأس الإمبراطورية العثمانية ورمزها، وهو لا يسمى أو يظهر مباشرة في أي من هذه النصوص، لكن شخصيته تتجلّى من خلال قصور السراي الفخمة المترعة بالحراس والخدم والجواري والحريم، ومن خلال قوة سلطته وسطوته العنيفة إلى حد التوحش أحيانًا. هذا ما نستنبطه من قصيدة "رؤوس السراي" التي كبتها الشاعر إثر سقوط إحدى المدن البلقانية في أيدي الأتراك عام 1826م، حيث يمعن في تصوير حياة الترف في قصر السلطان السعيد بالنعم المحيطة به، ولكن أيضًا بتلك الرؤوس المقطوعة التي تشكل جزءًا من المشهد الاحتفالي البهيج للسلطان كما أشرنا إليه من قبل. فالجيش الذي هزم العدو أرسل رؤوس ثلاثة من زعماء التمرد إلى السلطان كيما يتم تقديم صورته في القصيدة وهو يحتفل بالنصر بهذه الطريقة البهيجة من جهة والمتوحشة من جهة أخرى، وبهذا يتعزز موقف النفور منه والعداء له لدى الشاعر ولدى القارئ المفترض لنصه الشعري! (36)
وحينما تتقدم القراءة نكتشف بعدًا آخر للعبة التمثيل المأساوية هذه إذ أن تلك الرؤوس لا تلبث أن تنطق بآلامها مستثيرة الحماس العام في إخوتها "الأوربيين المسيحيين" علهم يخوضون الحرب ضد السلطان الطاغية وإمبراطورية الشر والفساد التي تهدد الغرب وليس فقط هؤلاء الثوار الأحرار. هنا تحديدًا يقترب هوجو من موقف معاصره البارز الشاعر بايرون الذي خاض تلك الحرب ومات فيها، لكن ما يميز هوجو أنه لا يتكلم هنا بلسان الشاعر الرومانسي أو بلسان المثقف الغربي الليبرالي، وإنما بلسان زعماء الحروب الصليبية الذين لا يقلون تعصبًا وعنفًا من خصومهم وإن لم يدركوا ذلك. فالشاعر يستحضر خطاب تلك الحروب المقدسة إذ يضع "عيسى" مقابل "عمر" و"الصليب" مقابل "السيف" و"ثوب المجد" مقابل "العمامة" ويستنفر "البحار" و"الراهب" و"الجندي" للتوجه إلى ساحة المعركة التي ينتظرها "أولمب الأبطال" و"سماء الثالوث المقدس" كما يقول في نهاية النص! (37)
إننا هنا أمام خطاب شعري انفعالي فيه من المباشرة والسطحية بقدر ما فيه من العنف والروح العدائية، وبالتالي فلا غرابة أن يبدو السلطان العثماني وكأنه النموذج الراهن لعدو شرقي مطلق يمثل قادة الإمبراطورية الفارسية وخلفاء الدول الإسلامية، وأخيرًا سلطان الإمبراطورية العثمانية أبرز رموزه التاريخيين أو الدينيين!
هذه الرؤية العدائية التحريضية تتكرر و"تتأكد" في قصيدة بعنوان "نافارين" تتحدث عن معركة وقعت في هذه المدينة وكان النصر فيها للثوار اليونانيين وحلفائهم الغربيين، ولذا فإن مشاعر الكره تختلط هنا، ضرورة، بمشاعر الفرح بالنصر على العدو الذي تجسده هذه المرة شخصية القائد إبراهيم باشا. فهذا القائد خاض المعركة باسم السلطان ولابد أن فيه من سيده الكثير من الخصال السلبية لأن الأمر يتعلق بشخصيات نمطية جامدة يسقط عليها الشاعر ما يريد من الآراء والأحكام المسبقة من المنظور العدائي التحقيري ذاته. هكذا يقدمه للقارئ المفترض شخصًا متعصبًا عنيدًا وعنيفًا إلى حد التوحش مثله مثل "الصقر الجارح" و"الذئب الجائع" وهو صورة مبتذلة من "تيمورلنك" وجلاد "لا يطفئ النيران إلا بالدماء" إلى غير ذلك من التعبيرات الانفعالية المشحونة بدلالات الكره والاحتقار والتشفي (38)
من هذا المنظور يصبح الانتصار على قائد كهذا في ساحة المعركة انتصارًا على منظومة كاملة من القيم السلبية التي تتجسد فيه وفي سيده السلطان العثماني لكنها تعم وتشمل غيرهما كما لاحظنا من قبل. إن إبراهيم باشا يخوض الحرب باسم "إفريقيا وآسيا البربريتين ضد "أثينا المتحضرة". هذا ما يعبّر عنه الشاعر بصيغة أخرى تدل على إن منطق التعميم في مثل هذا المقام الانفعالي يدفع الشاعر إلى اعتبار الصراع بين دولتين أو بين جيشين مجابهة بين "الحضارة" و"البربرية"، وما عناصره وأبعاده الدينية أو الوطنية سوى تلوينات يراد بها تبرير ذلك الموقف العدائي من جهة وبث المزيد من الحماس لتحقيق المزيد من الانتصارات على ذلك "العدو المطلق" من جهة ثانية.
ففي مطلع النص يستعير الشاعر "الرومانسي" جملة من قصيدة لاسخيلوس يتأسى فيها الشاعر الإغريقي على هزيمة أسطول أثينا على يد الفرس، وفي المقطع الأول يلح الشاعر على أن "أوروبا" اتجهت كلها إلى "الشرق" للمشاركة في الحرب ثم ندرك أن الشاعر يتحدث بلسان "كاناريس" الذي قتل في معركة سابقة ومثّل به كما رأينا في قصيدة "رؤوس السراي", وبالتالي فإن النصر الراهن هو أخذ بثأرات تاريخية تمتد من الماضي البعيد إلى المستقبل حيث يحرض الشاعر على تحرير كامل بلاد البلقان وليس اليونان فحسب.
يقول الشاعر موجهًا خطابه إلى ذلك القائد اليوناني الذي مات في ساحة المعركة البطولية:
"لكَ الآن أن تغتبط
فبين الجلادين وضحاياهم
ها هي أوروبا تعيد للعدالة موازينها
لكَ أن ترتاح، لا طاغية هنا بعد اليوم
حين تحارب فرنسا، يتغير الوضع في الحال
فيدها تأخذ بالثأر لك
ويكفيها عوضًا عن ذلك
ورقة من شجر بلادك
يونان بايرون وهو ميروس!
أنت يا أختنا.. أنت يا أمنا
لكِ الآن أن تغني إن لم يكن صوتك
قد بح لكثرة ما صرخت من قبل"(39)
وفي مقطع آخر تتحدد المقابلة بين طرفي الحرب:
"هنا أوروبا.. أخيرًا أوروبا تنطلق
بسفنها الضخمة تعبر البحار كالقلاع
وهناك مصر والأتراك.. آسيا الإفريقية هذه
وقراصنتها الأنذال الذين لم يجهز عليهم من قبل
لقد وقعت قدمها الشقية في وكور الجوارح" (40)
إننا هنا، وفي قصائد أخرى، أمام نصوص شعرية تنظم في مناسبة محددة ولذا لابد أن تعيد إنتاج الخطاب الاديولوجي السائد حيث يقتصر دور الشاعر على نظمه وفق القوانين الشكلية للخطاب الشعري ليظل النص في مجمله مباشرًا وسطحيًا، وهنا تكمن المفارقة التي تقوضه من داخله بمجرد انفصاله عن مقامه العابر.
فمثل هذه القصائد، ومهما كان نجاحها التداولي في زمنها، تصلح وثائق مباشرة لمشاعر وأهواء الجمهور العام في لحظة توتر ما، إذ لا تكمن أهميتها في "شعريتها" بل في دلالاتها على مدى انتشار الرؤى والمواقف العدائية في الوسط الثقافي والشعبي الأوربي الذي ينتمي إليه الشاعر ويحاول التعبير عنه بهذه الصيغ الانفعالية الحادة والمسطحة في الوقت نفسه.
هذا ما ينطبق أيضًا على نص عنوانه "صرخة المفتى للحرب" حيث يغير الشاعر منظور التمثيل الشكلي دون منطقه العميق. فالخطاب يعلن هنا بلسان "المفتي المسلم"، الذي هو شخصية رسمية تمثل السلطة الدينية المتصلة بالسلطة السياسية أوثق الاتصال، وبالتالي لا غرابة أن نكون أمام نموذج آخر لذلك الشرقي المتعصب الذي يدفعه دينه ذاته إلى تحويل كل حرب إلى "جهاد مقدس"، هاهو المفتي يصرخ:
"إلى الحرب أيها الفرسان.. محمد! محمد!
فالكلاب تنهش أقدام الأسد النائم
وترفع رؤوسها الوضعية على هامته
أيها المؤمنون يا أتباع نبي الله
اسحقوا هؤلاء الجنود المترنحين لطول ما عاقروا الخمر
هؤلاء الرجال الذين لا يتزوجون بأكثر من امرأة
الموت لجنس الفرنجة ولملوكهم البغيضين" (41)
فالحماسة الدينية تمتزج هنا بمشاعر العظمة والتعالي على الآخر "الكافر" الذي يبدو أقل مرتبة من المنظورات الدينية والاجتماعية والأخلاقية وبالتالي فإن الحرب ضده مبررة ومشروعة في كل حال. أما إعلان الخطاب بلسان هذه الشخصية الرسمية فيحقق هدفًا مزدوجًا حيث يبرر مواقف الشاعر العدائية تجاه الخصم المتعصب بقدر ما يستثير مشاعر العداء لدى المتلقين إذ يصور الصراع بين الشرق والغرب وكأنه مفروض فرضًا من طرف ذلك الآخر الشرقي البربري والمتعصب بطبعه وثقافته!
وفي كل الأحوال لابد أن نعود فنذكر بأن نصوصًا كهذه تظل محدودة بمقامات الصراع الذي أراد الشاعر أن يشارك فيه منحازًا إلى اليونانيين والبلقانيين، وهذا موقف منطقي متوقع منه ومن أمثاله لأن هؤلاء الثوار أوروبيون ومسيحيون مثله. نعم، لا شك أن هذه النصوص كانت ستبدو أكثر انسجامًا ومعقولية لو أن الشاعر "الرومانسي الليبرالي" صاغها من منظور قيم طليعية جديدة كالدفاع عن الحرية وحقوق الأفراد والشعوب في كرامتها واستقلالها. لكنه اختار كما نلاحظ تلك المنظورات الدينية والأيديولوجية المتخلفة عن زمنها وعن رؤيته الإنسانية التي يعلنها ويبشر بها هو نفسه في مقدمة ديوانه هذا، ومن هنا تتعمق تلك المفارقة التي تفقد هذه النصوص مجمل قيمها الجمالية والفكرية لدى القارئ اليوم سواء أكان غربيًا أو شرقيًا (42)
تتغير استراتيجية التمثيل شكلاً ودلالة حينما يكتب هوجو عن شخوص شرقية أخرى قد تكون نمطية في مستويات معينة لكنها تظل نماذج رمزية إيجابية يعجب بها الشاعر ويحاورها بما يلغي المسافة بينه وبينها إلى حد التداخل مع أصواتها وأفكارها ورؤاها لذاتها وللعالم من حولها.
هذا ما نلاحظه في قصيدة "الدرويش" حيث نجد شخصية دينية "شعبية" تمثل النقيض المباشر لشخصية "المفتي الرسمي"، لأنها تجسد حياة الزهد والبساطة والتسامي الروحي والعملي فوق عاديات الحياة وإغواءاتها، ومن هنا تتجلّى قوة حضورها وجاذبيتها. فهذا الدرويش، الذي لا يسمى بل يترك رمزًا عامًا مفتوح الدلالة، ما إن يمر به أحد القادة الأتراك من ذوي السلطة والنفوذ حتى يخاطبه بلغة غريبة تليق بهذه الشخصية الغريبة هي أيضًا. فالقائد هو "نور الأنوار عظيم الاسم واللقب، تحت إمرته جنود كثر، وهو ظل من الله على الأرض"، وبعد هذا التمجيد الذي أعجب القائد وداعب غروره ينحرف الخطاب إلى المسار النقيض إذ أن الدرويش يبشره بعذاب أليم نتيجة ما اقترفه من ذنوب ومفاسد تجعله يبدو أمام هذا الشخص الزاهد الجريء في مقام "كلب معلون". ويتطور المشهد المتوتر إلى انحراف آخر يوصله ذروته ونهايته غير المتوقعة هي كذلك. فالقائد يتقدم إلى غريمه متسلحًا بسيفه وثلاثة مسدسات وغدّارة وتوقع الجميع أن يفتك به دفاعًا عن هيبته وكرامته لكنه ما إن يقترب منه حتى يخلع عليه بردته ويمضي في طريقه!.
هكذا يبدو المشهد المتوتر ظريفًا وهزليًا في عمومه لكنه يظل مليئًا بالدلالات الإنسانية العالية إلى درجة المثالية، سواء فيما يخص هذا الدرويش الذي لا يتهيب من قول ما يراه حقًا ولو على حساب حياته، أو فيما يخص هذا القائد الذي يتفهم خطابه ويتقبله باعتباره خطاب تزهيد في الدنيا وحث على الفضيلة لا خطاب عداء وتحقير. من هذا المنظور تحديدًا يبدو الشاعر هو أيضًا وكأنه جزء من هذا المشهد الشرقي الغريب والمثير للإعجاب والتأمل لأنه أعاد صياغته من منطلق الكشف عن منظومة جديدة من القيم الدينية والاجتماعية والفكرية التي يمثلها الدرويش ويعترف المجتمع كله بمنطلقاتها وغاياتها السامية.
تتكرر نفس عملية التمثيل في نص آخر بعنوان "شاعر الخليفة" وإن كان البعد الغرائبي يتراجع هنا لصالح موقف تأملي أكثر عمقًا وغنى دلاليًا لأن الشاعر الشرقي يتحول إلى قرين داخلي للشاعر الغربي كما سنلاحظ. فالنص يبدأ بعبارة من سفر دانيال تتحدث عن عظمة الخالق الذي يفعل ما يشاء ولا أحد يستطيع رد قضائه أو سؤاله لِمَ أنفذه. ثم تكشف القراءة أن الحدث الشعري كله يحيل إلى الماضي البعيد مما يعني أن هوجو يعترف بأن المرجعية الدينية واحدةٌ في الأصل وبالتالي يمكن أن توظف عبارة من التوراة في سياق ثقافي إسلامي" وهذا ما يعبر عنه الشاعر الفرنسي بلسان شاعر شرقي مثله. هكذا يتوجه الشاعر البليغ الحكيم إلى السلطان "نور الدين" فيصفه بأن "الله أحبه فاختاره خليفة يحكم إمبراطورية عظيمة تمتد من البحر الأحمر غربًا إلى الصين شرقًا، وملوك الأرض كلهم يهابونه ويرجون مودته فيما هو يعيش هانئًا في قصور فخمة ذات حدائق غناء يحيط به خدمه وجنده وثلاثمائة من أبنائه، فضلاً عن نسائه وجواريه". وفي نهاية النص يتحول الخطاب من مقام المديح وطلب العطايا والهدايا، كما في التقاليد الشعرية العربية، إلى مقام التأمل والحكمة والوعظ غير المباشر، وذلك حينما يذكر الشاعر الخليفة بالموت من خلال مشهد استعاري كناني جميل وغني بالدلالات، وهو مشهد "القمر، كوكب الموتى، الذي يظهر نصفه الفضي في عمق سماء زرقاء صافية". هنا ينتهي النص دونما ذكر لرد فعل الخليفة تجاه هذا التحول المأساوي في الموقف وكأن الشاعر يريد لهذه الصورة أن تختم المشهد وتتركه منفتحًا على القراءات والتأويلات وهنا يكمن جماله الفني وثراؤه الدلالي (43)
لقد أشرنا سابقًا إلى أن هوجو عرف الكثير عن تقاليد الشعرية العربية، وقرأ بعض نماذجها، وها هو يستلهم تقاليد المديح ويدمج فيها تقاليد شعرية التأمل والحكمة لينجز هذا النص باسم شاعر شرقي هو آخره وقرينه في الوقت نفسه كما لا يخفى على القارئ.
أما الآخر الشرقي الذي يجمع بين وظيفتي القرين "والقناع" فنجده في نص بعنوان "بوناباردي" (44) – بونابرت - حيث يعلن الخطاب الشعري بلسان فارس عربي يهجر مدينة القاهرة ليعيش حرًا في الصحراء مع حصانه، وهناك يتغنى ببطولة "سلطان الفرنجة" الذي لم يعد قائدًا عسكريًا غازيًا وعدوًا بل "فارسًا" مثله يثير الإعجاب ببطولته الخارقة ولذا يخاطبه بقوله:
"أوه! حينما تعود لتحلم فوق هذا الجبل
تمهل قليلاً وأنت تعبر الريف يا بونابردي
سترى خيمتي الشاحبة فوق الرمال الثائرة
لأنني حر وفقير، عربي من القاهرة
حين أقول لحصاني: يا الله!.. يطير الحصان الأصيل
وتحت حاجبيه جمرتان متقدتان" (45)
إننا هنا أمام الآخر "القناع" الذي يتيح للشاعر أن يعبر عن إعجابه العميق بنابليون بونابرت دون التورط مباشرة في مجابهة مع السلطة الملكية القائمة حينها في بلده وهي سلطة لم تكن لترحم من يذكرها بخصمها اللدود فضلاً عمن يمدحه ويعلي من شأنه.
لكن شخصية الفارس – الشاعر تتحول إلى قرين داخلي في نص مطول يرد بعد هذا النص القصير مباشرة وفيه يستعيد هوجو المفاصل الأساسية لمغامرات نابليون الملحمية البطولية بصيغ تعبر أقوى تعبير عن إعجابه العميق به وحنينه إليه وحلمه ببطل مثله في المستقبل ها هو يخاطب ذلك "الكبير كالعلم" بقوله:
"دائمًا، تحت الشجرة الخضراء وفوق العشب الممتد
دائمًا، يطل عبر البحار والمروج
من فوق صخور الشاطئ ومن حواف الجزر المزدهرة
دائمًا يرى طيف العملاق الداكن وهو يصعد في الأفق" (46)
فالخطاب يعلن هنا بصيغة ماكرة وملتبسة يمكن أن تحيل إلى ذلك الفارس العربي أو إلى الشاعر أو إلى كل من يشاركهما الإعجاب بنابليون الذي يتحول هنا إلى عملاق أسطوري قادر على الحضور في كل مكان في أية لحظة. ومع أنه من المستبعد أن يكون في القاهرة أو في الصحراء العربية من يعاين نابليون من هذا المنظور التبجيلي آنذاك إلا أن الدلالة الأهم بالنسبة لنا تكمن في منطق الفارس وهو منطق الفروسية الذي يتبناه ويمجده حتى حين يتحدث عن خصومه. هنا أيضًا لابد أن نستحضر شعرية الصعاليك الذين قرأ هوجو بعض نصوصهم ويبدو أنه يستلهمها هنا لا من أجل تمجيد نابليون فحسب بل أيضًا للتعبير عن ولعه الخاص بحياة التمرد والترحل الحر في تلك الصحراء المتخيلة التي لا تحضر في نصوص ديوانه هذا إلا مقرونة بدلالات الغموض والفتنة والجاذبية كما عند معظم الرومانسيين.
ومما يعزز وجاهة هذا التأويل أن الشاعر يعبر في هذه النصوص عن ذاته الحميمة كشاعر متمرد على قيم وأفكار مجتمعه وليس عن أهواء ومواقف "الرأي العام" والمؤسسات الرسمية كما في النصوص السابقة. علاوة على ذلك نعتقد أن تلك النصوص المشحونة بالتعبيرات العدائية تجاه السلطة وممثليها في "الشرق" يمكن أن تؤول من منظور آخر يتصل بما نذهب إليه هنا أقوى اتصال. فصورة رجل السلطة المكروه والمحتقر يمكن أن تنصرف بعض دلالاتها إلى رجال السلطة الرسمية في فرنسا حتى وإن كان الشاعر يعبر عن نزعاته ومشاعره العميقة دون وعي بهذا البعد الدلالي. فخلال رحلته الأسبانية لابد أنه شاهد وسمع الكثير من الفضائح الوحشية التي ارتكبها أبوه الجنرال إذ كان يأمر أتباعه بقتل المقاومين الأسبان والتمثيل بجثثهم من دون رحمة فيقطع رأس أحدهم ويبقر بطن الآخر ويلقي بآخرين أحياء من نافذة قصره.. كما يشير إليه أ. موروا (47) أما في فترة الشباب والتحول فلا شك أن هوجو كان يكره ويعادي رموز النظام الملكي الذين ما إن يقارنهم بنابليون بونابرت حتى يبدوا ممثلين لفرنسا التقليدية الاستبدادية المهزومة والرجعية لا لفرنسا الجديدة التي هيمنت على الغرب والشرق وجسدت قيم الثورة والحرية قبيل سنوات!. فتلك الخبرات والتجارب المؤلمة في زمن الطفولة وتلك الآراء والمواقف الجريئة المتحررة في رحلة الشباب لابد أنها ظلّت كامنة في نفسه إلى أن وجدت طريقها الواسع للتحرر منها بإسقاطها شعريًا على رموز السلطة العثمانية، خاصة وأن الظرف التاريخي كان يستدعيها ويبررها كما رأينا من قبل.
وختامًا لهذه الفقرة، نشير إلى أن هناك تمثيلات أخرى للرجال الشرقيين لا تنكشف دلالاتها المركزية إلا عبر تمثيلات الشاعر للنساء الشرقيات ولذا أجلنا تحليلها إلى الفقرة التالية.
النسـاء الشـرقيات:
في كتابها المتميز "هل أنتم محصنون ضد الحريم" (48) تتوقف فاطمة المرنيسي قليلاً عند تمثيلات "الحريم الشرقي" في بعض نصوص هوجو التي تعتبرها الباحثة جزءًا من خطاب استيهامي عام برت تجلياته في كثير من اللوحات والمسرحيات وقصص الرحلة والقصائد، وذلك وفق رؤية نسقية واحدة في العمق وإن اختلقت تعبيراتها الفنية في الظاهر. فالشاعر ممن كان يستهويه عالم الحريم الممنوع والمرغوب في بيئته الكاثوليكية الصارمة، ولابد أن الوصول إليه وإعادة تمثيله يُعد تملكًا رمزيًا له وانتهاكًا لفضاء الآخر الأكثر سرية وحرمة، وهو انتهاك يتصل بانتهاكات أخرى تمت في ساحات المعارك التي غالبًا ما كانت تنتهي لصالح القوى الغربية الاستعمارية. لكن الذي ينبغي التنبيه إليه في قراءة كهذه هو أن بعض هؤلاء النساء الشرقيات لسن مجرد "موضوعات" لرغبات الشاعر وأحلامه المكبوتة إذ بينهن من يمكن أن تمثله وتنطق بلسانه وكأنها ذات أخرى له. ثم إن التوقف عند "عالم الحريم والسلطانات المحظيات" فحسب هو نوع آخر من الاختزال والتنميط الذي تمارسه القراءة بدل أن تحلله وتتجاوزه كي لا تسقط في المنطق الظاهري للنص المقروء. وبما أننا هنا أمام نص إبداعي متعدد المستويات الدلالية بالضرورة فإن هذا النمط من القراءة هو ما ينبغي علينا تجنبه انسجامًا مع منطلقاتq وغايات القراءة النقدية الحوارية التي نطبقها في هذا البحث كما أكدناه منذ البداية.
من هذا المنظور لعل أول ما يلفت النظر وجود أربعة نصوص متعاقبة يقدم كل منها شخصية نسائية مختلفة وهي "الأسيرة" (ص 76)، "ضوء القمر" (ص 79)، "الحجاب" (ص 81) و"السلطانة المحظية" (ص 84)، هذا بالإضافة إلى نصين آخرين يقدمان نموذجين نسائيين آخرين هما "سارة المستحمة" (ص 103) و"وادع المضيفة العربية" (ص 118) (49)
فالأسيرة امرأة غير شرقية تتمنى لو كانت حرة طليقة لتحب هذا الفضاء أكثر فهو "قريب من البحر الدافئ، أرضه مزروعة بحقول الذرة الجميلة وسماؤه مرصعة بالنجوم الزاهية" (50) وحينما ترى الحراس من حولها تتذكر بلادها "حيث يلتقي الشبان والفتيات ويتبادلون أحاديث المساء دونما رقابة"، لكن الذكرى لا تدل هنا على الحنين لأن هذه المرأة "الغربية" تنطوي على نزعة رومانسية تجعلها تحب تلك الشواطئ الشرقية الجذابة التي "لا يحل فيها الشتاء ولا تعبرها الرياح الباردة" (51) ومما زاد من تعلقها بالفضاءات الشرقية اكتشافها غرائبية المكان وجمالياته التي تراها في "الحصون القرمزية والبيوت الذهبية الجميلة كلعب الأطفال/ والهوادج المتأرجحة فوق ظهور الجمال والأفيال/ وموسيقى تلك الأصوات الهادئة/ التي تمتد من أعماق الصحراء/ لتنطلق غناء حرًا وفاتنًا في الهواء". فهذه التعبيرات الرومانسية الحالمة قد تكون تخيلات طريفة وساذجة في عمومها لكنها دالة على أن الشاعر يحوّل هذه الأسيرة إلى ذات عاشقة لهذا الشرق الغريب والجذاب كيما يعبر عن فتنته الخاصة بالفضاء ونمط حياته وثقافته الشرقية التي طالما حلم بها من دون أن يعايشها إلا عبر المتخيل (52)! بصيغة أخرى يمكننا القول بأن الشاعر يعبر عن ذاته العميقة على لسان هذه المرأة التي تجد في الأسر فرصة لا تعوض للعيش في ذلك الشرق الغامض والجذاب لأنها مثله فنانة مسكونة بفتنة المعجزة الشرقية كما بناها المخيال الجماعي الرومانسي!
في النص الثاني يتعزز هذا التأويل أكثر فأكثر حيث تطالعنا صورة أميرة فنانة تعزف الجيتار وتطل من شرفتها المضاءة بنور القمر لترى بحرًا باتساع وجمال أحلامها في لحظة رومانسية من هذه اللحظات التي لا يدرك جمالها إلا فنان يحلم بمثل هذه العزلة التي تقربه من ذاته وإبداعه. هنا أيضًا فإن مركز الجاذبية لا يتعلق بالمرأة التي لا يُذكر شيء من أوصافها الجسدية، بل بالفضاءات الشرقية الجميلة التي ما إن يراها الشاعر بعيون هذه المرأة المبدعة حتى يقدمها في نصّه كفضاءات خلاقه تحفز الإبداع الفني عزفًا على الآلة الموسيقية أو على كلمات اللغة!.
كذلك في قصيدة "الحجاب" نجد مشهدًا دراميًا متوترًا بطلته وضحيته فتاة شرقية تعود من الحمام "محاذرة عيون الأجانب والكفار"، لكن نسمة هواء تزيح الحجاب عن الوجه الجميل وهذا ما أثار غضب أخوتها الذين يتحلقون حولها لعقابها فيما هي تتوسل وتحاول شرح الموقف البرئ من دون جدوى!. فغاية التمثيل هنا هي كشف الحجاب أو الغطاء عن تعصب الرجل الشرقي الذي قد يدفع به حرمانه وتزمته إلى القتل دفاعًا عن شرف مزيّف، لكن ما لم يتنبه إليه الشاعر، وهنا تكمن المفارقة، فهو أن هذه الحمامات العامة لم تكن لتصبح جزءًا من فضاءات المدن الشرقية لو أن هؤلاء الأخوة هم النموذج النمطي السائد في تلك الفضاءات! (53)
أما بخصوص قصيدة "السلطانة المحظية" التي تحللها فاطمة المرنيسي فلا شك أن دلالاتها العامة أعقد وأغنى من مجرد كونها حكاية شبقية تنفس عن مكبوتات الشاعر وتداعب خيالاته. فالأمر يتعلق بفتاة يهودية جميلة يتعلق بها السلطان فتصبح الزوجة والعشيقة المفضلة بحيث يقول لها أنه مستعد للتضحية من أجلها "بنفسه وشعبه وجنوده وأجمل مدن إمبراطوريته من البصرة والموصل شرقًا إلى فاس ومدن البلقان غربًا". فسلطان مثله يحتاج إلى امرأة مثلها كما" يحتاج الخنجر النفيس المعدن إلى الجواهر النفيسة" حسبما يقول هذا السلطان مبررًا موقفه من هذه المرأة (54) ونظرًا لكون هذه المرأة تدرك جيدًا مدى جنونه بها فإنها تستغل الموقف لإشباع بعض نزواتها المرضية إذ "تطلب في كل عيد رأس ضحية جديدة"، أو لتحقيق مآرب أخرى تتعلق بمصالح قومها اليهود، وكأنما هي صورة أخرى "لسالومي" التوراتية. التي تتكرر حكايتها من جديد ما دامت الإمبراطورية الشاسعة الغنية في مرحلة الانهيار والجميع يبحث عن حصته الوافية من تركة "الرجل المريض". هكذا يتضح لنا من خلال التحليل المعمق أن هذه المرأة الفاتنة قد تعبر عن تلك الرؤية الشبقية المحتقرة والمقموعة في المرجعية المسيحية – اليهودية، لكن دلالات التمثيلات الأهم تتعلق بهذا السلطان العاشق النزق الذي يضحي بكل شيء من أجل امرأة جميلة بقدر ما هي شاذة وماكرة، مما يعني أن هذا السلطان الشرقي مبتذل محتقر لأنه يجمع بين الشهوانية الجامحة والسذاجة المفرطة! فالشاعر الذي كثيرًا ما يبدي مشاعر العداء تجاه هذا النمط من رجال السلطة كما رأينا من قبل يبدو هنا منسجمًا مع منطق عام يستعيده هنا بطريقة شعرية جذابة تلعب فيها المرأة دور الوسيلة أو الأداة الرمزية لا غير، وذلك لأن غاية التمثيل هنا، وفي النص السابق، تتحدد أكثر ما تتحدد بمقصدية تشويه صورة الرجل الشرقي الذي يحتقر المرأة من جهة ويقدسها من جهة أخرى لتبدو علاقاته بها متطرفة شاذةً في كلتا الحالين!. ولعل مما يدعم هذا التأويل أن الشاعر يعيش في مجتمع لم تعد أخلاقيات المسيحية المتزمة تمثل المرجعية الأهم لأفكاره وقيمه وعلاقات أفراده بعد أن هيمن "فكر التنوير" الذي اتخذ في فرنسا تحديدًا منحى علمانيًا جذريًا منذ القرن الثامن عشر. ولقد تزوج هوجو نفسه من امرأة أحبها أخوه وفقد عقله بسببها، وهي التي خطفها منه لاحقًا أعز أصدقائه، الناقد الشهير سانت بيف، ليظل الشاعر يعاني صدمة "الخيانة المزدوجة" هذه طوال حياته، ورغم كل مغامرات العاطفية الصاخبة التي عاشها بعد هذا الحدث المؤلم، هذا ولم تكن سيرة الأب والأم أقل تحررًا أو تحللاً كما يبينه بالتفصيل أ. موروا في كتابه المشار إليه في فقرات سابقة! (55)
القصيدة الوحيدة التي تعبر بشكل قوي عن حلم الشاعر بامرأة شرقية مثالية ونمطية في الوقت نفسه هي "وداع المضيفة العربية". فهذه المرأة البدوية تعيش في أعماق الصحراء بعيدًا عن مدن الأتراك وعالم الحريم والفساد، وما إن يمر بها فارس أوروبي "أبيض" حتى تقع في غرامه وتنظم هذه القصيدة في وداعه لتعبر عن تعلقها به ولتحذره من أخطار الطريق في فضاء يشبه المتاهة وتفوق قدرات كائناته السرية قدرات البشر. أما شخصية الفارس هنا، وكما فينص سابق، فهي الصورة المثلى التي تحلم بها هذه الذات الشاعرة التي تعشق حياة الانطلاق والترحل في الصحراء فضاء الحرية والمغامرة بامتياز، ولذا كان من الضروري تحقيق هذا الحلم الرومانسي الفاتن بالكلمات وعلى الورق. ولعل أهمية حكاية هذا الحب الممتزج بقيم الفروسية المتمردة على كل علاقة تقيد الشاعر – الفارس بمكان محدد تذكرنا مجددًا بشعرية الحرية والتمرد التي طالما تغنى بها الشعراء الصعاليك الذين قرأ هوجو لبعضهم بعض القصائد وأعجب بها وبهم كما رأينا من قبل، وهنا تكمن الدلالة الأهم للنص الراهن في اعتقادنا.
بعد هذا لا شك أن لعالم الحريم الشرقي الذي استهوى كثيرًا من الشعراء والرسامين والروائيين الغربيين آثارًا قوية في هذه النصوص الكثيرة نسبيًا والمنطوية على تمثيلات نساء جميلات من مختلف الأنماط والفئات حتى لكأن عنوان الديوان "الشرقيات" يحيل إليهن بقدر ما يحيل إلى قصائد الشاعر (56) لكن المؤكد أيضًا أن الأبعاد الدلالية لهذه التمثيلات لا يمكن اختزالها في إطار الرؤية الشبقية، التي تلح عليها فاطمة المرنيسي، وذلك لأنها تنبثق عن منطق أكثر تعددية وغنى كما حاولنا بيانه من خلال تحليل النصوص وليس اعتمادًا على التصورات السائدة عن الخطابات والفنون الاستشراقية. ثم إن عالم الحريم والجواري كان واقعًا ماثلاً في قصور وأسواق جل المدن الشرقية آنذاك، وما كتبه عنه الرحالة والأدباء الغربيون قد لا يكشف إلا جزءًا بسيطًا من أسراره ومآسيه كما ينبغي أن نعيه ونبحثه معرفيًا، وبعيدًا عن منطق السجالات والتبريرات التي لا تعين أحدًا على فهم النصوص ووقائع التاريخ.
ثم إن هذه الوضعية التاريخية الاجتماعية تبرر تلك الاستيهامات الفنتازية التي تحللها فاطمة المرنيسي من منظور سوسيو – ثقافي يختلف بالضرورة عن منظور الناقد المقارن الذي لابد أن نحتكم إليه ونلتزم به في سياق قراءة كهذه (57)
بصيغة أخرى يمكننا القول بأن حافز الكتابة في مجمل هذه النصوص ليس مصدره شهوات الجسد ونزوات الرغبة بل شهوات الكتابة الشعرية ذاتها، والشاعر نفسه يلح بدءًا من المقدمة على أن الشرق الذي أعجبه وفتنه هو ذخيرة من الرموز الجمالية والآثار الحضارية التي ينبغي لأمثاله التعامل معها لا كموضوعات للمعرفة والسيطرة بل كمصدر إلهام وأفق بحث عن تلك الشعرية التي كان هو ورموز تيار إبداعي كامل يحلمون بها ويدعون إليها ويحاول كل منهم تحقيقها في عمله الفني بقدر ما تتيحه له طاقاته وأدواته الإبداعية.
خاتمـة:
في مرحلة الشباب والتألق وجد فكتور هوجو نفسه في طليعة حركة أدبية – فكرية طليعية تعمل على إحداث ثورة في السياق الأدبي والجمالي تلبية لطموحات المبدعين أنفسهم، ولكن أيضًا تلبية لشروط التلقي الجديدة التي عمت أوروبا وهي في مرحلة التحول من "عصر النهضة" إلى "عصر الحداثة" أو من شروط "الخطاب الكلاسيكي" إلى أفق "الخطاب الرومانسي" المنفتح على عالم أوسع وعلى مستقبل ملئ بالوعود. في هذا السياق التاريخي العام أدرك هوجو وأمثاله أن شرق المبدعين لا يتطابق دائمًا مع شرق رجال السياسة والتجارة، لأنه ينطوي على ثروات معرفية وجمالية أغنى من ثرواته الطبيعية التي كانت تتنافس عليها القوى السياسية الاستعمارية آنذاك.
لقد أدرك الشاعر الشاب هذا الأمر بفضل تعمّق وانتشار المعرفة الاستشراقية من جهة، وبفضل خبرات الطفولة التي عاشها في أسبانيا ومدنها التي رأى فيها أجمل آثار الحضارة العربية الإسلامية كما يقول في المقدمة وكما يعبر عنه شعريًا في قصيدة "غرناطة" من جهة أخرى. أما التقاليد الشعرية العربية فقد لاحظنا مدى إعجاب ف. هوجو بها وحرصه على الحوار معها ولذا أوردها ملحقة بديوانه مؤكدًا لقارئه أنه استلهم بعض جمالياتها وموضوعاتها في نصوصه كما رأينا في فقرات سابقة من هذا البحث.
بناء على هذا كله جاءت تمثيلاته للشرق، طبيعة وعمرانًا وبشرًا، غنية بالصور والتلوينات والدلالات المتنوعة والمختلفة من مقام لآخر بحيث لا يمكن اختزالها في بعد دلالي واحد.
فالمدن الشرقية المتخيلة جذابة بقصورها ومبانيها البسيطة وأسواقها وحماماتها وحدائقها، والصحراء العربية فضاء غموض مقدس وحرية مطلقة يزيد من فتنتها خطوة المغامرة التي تجعل الكائن يدرك قيمة الحياة ومعاني الفروسية التي لا حضور لها في المدينة سواء كانت شرقية أو غربية. أما حينما تنتهي الرحلة المتخيلة إلى تلك الفضاءات ويجد الشاعر نفسه في مدينته الغربية فإن فتنة المدن الشرقية تستمر ولذا يكتب بأسى:
"في غمرة الشتاء الكئيب الذي يجلّل باريس
تغادرك شمس الشرق نحو الغروب
وحلمك الجميل بآسيا يتلاشى
فلا ترى أمامك سوى الشارع بضجيجه البائس" (58)
كذلك الرجل الشرقي يبدو من خلال تمثيلاته الشعرية متعدد الصور والنماذج لأن الشاعر يتخيله ويكتب عنه في مقامات وسياقات متنوعة وغنية في الوقت نفسه. فمرة يبدو الآخر الشرقي في صورة "العدو المطلق" لأن النموذج المُمثَّل هنا رمز السلطة التي يكرهها الشاعر، ولأن علاقات الصراع العنيف مع الدولة العثمانية في البلقان واليونان غذت مشاعر العداء ضدها في عموم أوروبا والشاعر يكتب عن الحدث معبرًا عن ذاته وغيره لأنه في مقام المشاركة الرمزية في حرب شارك فيها غيره بجسده كما فعل بايرون. ومرات أخرى يبدو الآخر ذاته إنسانًا يجسد مبادئ ومواقف سامية تجعل الشاعر الغربي يتخذه قناعًا لوجهه أو قرينًا حميمًا لذاته العميقة، لأن المقام هنا هو مقام البحث عما يغني الذات المبدعة عند ذلك الآخر المختلف تحديدًا.
لقد كتب الشاعر في مقدمة ديوانيه "لعل في آسيا البربرية أناسًا أكثر عظمة مما توهمنا به حضارتنا" (59)، ونحسب أنه حاول البحث في بعض النصوص عن هذه النماذج، وقد كتب عن الدرويش والشاعر والفارس ليكشف عن آثار تلك العظمة التي لم يعد من الممكن تجاهلها لأنها متصلة ولابد بعظمة الإنجاز الحضاري الأكثر عراقة في الماضي وجاذبية في الراهن.
أما المرأة الشرقية فقد تخيلها الشاعر ورسمها بكلماته من منظورات متنوعة، وهكذا نجد المرأة الفنانة التي تحول معاناتها الخاصة، في أسرها أو في قصرها، إلى حافز للإبداع كما يليق بذات مفتونة بجماليات الفضاء من حولها، والمرأة الجميلة البدوية التي تمثل النقاء والفطرة الأصلية وتحلم بالفارس الذي يليق بتطلعاتها المثلى، مثلها مثل الشاعر الذي تداعبه أحلام مشابهة ولا بد!.
وهكذا يبدو جليًا أن حضور الشرق في هذا الديوان يكشف إلى أي مدى كانت الآداب والفنون والحضارات الشرقية، وبخاصة العربية الإسلامية، عنصرًا تكوينيًا فعالاً في وعي الشاعر ومخيلته حين كان في ذروة الشباب والتألق. وإذا كان فكتور هوجو لم يعد إلى الكتابة المباشرة عن الشرق فما ذلك إلا لانشغاله الجدي بأحوال وطنه وشعبه التي كانت في فترة تحولات وتوترات عنيفة وحاسمة شارك فيها مبدعًا ومثقفًا وسياسيًا وعانى الكثير في سبيل ذلك ليصبح في النهاية رمزًا أدبيًا ووطنيًا لفرنسا الحديثة إلى اليوم (60)
ولعل قراءة مقارنة متأنية لأعماله التالية، وبخاصة ديوان "التأملات" الذي يعد أهم إنجازاته الشعرية، تكشف عن المزيد من التأثيرات الخلاّقة لذلك الشرق الذي لم يزره ف. هوجو قط لكنه فتن بآثاره وحاور أطيافه منذ مراحل الطفولة التي عادة ما تشكل خبراتها الذخيرة الأهم لكل مبدع ولكل إبداع كما نعلم، والله أعلم.