قراءة في " رصيف القيامة " لياسين عدنان

محمد أيت لعميم
(المغرب)

ياسين عدنانالحديث عن الشعر بصفة عامة من منظور معياري هو نوع من المجازفة، والكلام حول الشعر من زاوية الإطلاق لا يضيف شيئا ذابل بال الخصوصية وفرادة التجربة الشعرية عند كل شاعر على حدة. فالنظرة الاستجماعية وإصدار الأحكام العامة، وتحقيب الشعر زمنيا أو نوعيا أو إيقاعيا هو نمط من التبسيط والتسطيح للإمساك بكنه الشعر باعتباره فعالية منفلتة وعصية عن التعريف غير قابلة للتصنيف.
يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشل دوغي، صاحب مجلة Poésie: "كل واحد منا يعرف أن اللاَّمفهوم في كل قصيدة هو الشعر. إن هذه المنطقة المتعذر إدراكها في القصيدة تحول دون توصيف الشعر وتحديده ضمن أنماط ثابتة ومعقدة، فهذا الالتباس في تحديد مفهوم الشعر طرح أسئلة لم تفلح نظريات الشعر في تقديم إجابات مقنعة ونهائية عنها. فقد قدمت فقط مقاربات لوصف المنجز الشعري من خلال ربطه بأغراضه واتجاهاته ومدارسه ومرجعياته.
لقد أحس مُنظِّرو الشعر بهذا الالتباس، وعوض أن يجلو عنه اللُّبس عمَّقوه. في إحدى المحاضرات الهامة التي ألقاها رومان جاكبسون حول ماهية الشعر، يقول: "ما الشعر؟ ينبغي لنا إذا أردنا تحديد هذا المفهوم أن نعارضه بما ليس شعراً. إلا أن تعيين ما ليس شعرا ليس اليوم بالأمر السهل". فهذه الجملة التي افتتح بها محاضرته تضعنا أمام إحراج كبير، فهل للشعر المطلق لغة خاصة أو جغرافية معينة أو أغراض ثابتة؟ أم أن الشعر هو ذلك البحث المستمر عن نبتة الحياة التي ضيعها جلجامش في رحلة العودة.
في المحاضرة المذكورة آنفا، تناول جاكبسون قضية الغرض الشعري، مبينا أن هذه القضية عرفت تطورا قوَّض مفهوم الغرض، يقول :"في العصر الكلاسيكي أو الرومانسي كانت قائمةُ الأغراض الشعرية محصورة للغاية، ولنتذكر المتطلبات التقليدية : القمر والبحيرة والبلبل والصخور والوردة والقصر الخ. ولم يكن على الأحلام الرومانسية نفسها أن تبتعد عن هذا المحيط. كتب "ماشا": " لقد حلمت اليوم أنني كنت وسط أنقاض تتهاوى أمامي وخلفي، وتحت هذه الأنقاض، كانت الأرواح الأنثوية تستحم في بحيرة مثل عاشق يبحث عن معشوقته في قبر، ثم انطلقت عظام متراكمة في بناية قوطية خربة طائرة من خلل النوافذ "، وبصدد النوافذ فقد كان القوط يؤثرونها بتقدير خاص، وقد كان القمر يضيء بالضرورة خلفها. واليوم فإن كل نافذة هي أيضا شعرية في نظر الشاعر بدءا من المنافذ الزجاجية الفسيحة لمتجر كبير إلى كوة مقهى صغير في القرية وسخها الذباب, وقد سمحت نوافذ الشعراء إلى اليوم برؤية كل أنواع الأشياء.
فالشاعر المعاصر – في نظر جاكوسبون – يعتقد شأنه شأن العجوز كرامازوف "ألاَّ وجود لنساء ذميمات، وألا وجود لطبيعة ميتة أو فعل، وألا وجود لمنظر طبيعي أو لفكرة خارج مجال الشعر اليوم. ليخلص في الأخير من خلال هذا التحول إلى أن مسألة الغرض الشعري أصبحت اليوم غير ذات موضوع.
لقد كان تغريضُ الشعر في النقد العربي نابعاً من هاجس التعقيد ووضع الحدود. فمن الناحية التاريخية لم يعرف النقد العربي القديم وضع قوائم لأغراض الشعر إلا ابتداء مع "ثعلب" فهو "أول ناقد عربي قديم أثار هذه المسألة فوضع معالم مبدئية لأغراض الشعر وحاول إحصائها .... وتتحدد أغراض الشعر عنده في سبعة أنواع هي المديح والهجاء والرثاء والتغزل والاعتذار والتشبيه، ثم اقتصاص الأخبار. إن غرض التشبيه ليس المراد به الوجه البلاغي المعروف، وإنما يقصد به المحاكاة. يعلق أمجد الطرابلسي على هذا الجرد لأغراض الشعر التي أوردها ثعلب دونما تعريف مفصل لها أو شرح دقيق لسماتها: فإذا كان من الممكن أن نعتبر الأغراض الأربعة الأولى التي ذكرها هذا اللغوي أنواعا شعرية مستقلة بذاتها، فإن ذلك يصعب بالنسبة للثلاثة الأُخر، إذ لا نستطيع أن نعدَّ التشبيه غرضا شعريا قائما بذاته، إذ أنه أداة تعبيرية تتخلل كل شعر أو قول فني وقس على ذلك فيما يخص اقتصاص الأخبار. إن القائمة التي اقترحها ثعلب للأغراض الشعرية في عصره تم التعامل معها فيما بعد بنوع من التصرف إما بالإضافة أو التقليص أو التشقيق، لكن على العموم ما يشد الانتباه في القوائم التي حاول من خلالها النقاد أن يصفوا أغراض الشعر هو اختلاف النقاد حول عدد الأغراض. "ولعل مردَّ ذلك إلى تنوع أغراض الشعر هو اختلاف النقاد حول عدد الأغراض وتداخلها، خاصة إذا أدخلنا في الاعتبار بعض ما تنامى منها أو تكاثر طيلة المرحلة الإبداعية التي اهتم بها نقاد الأدب العربي القديم. ومعنى هذا أن شمولية الجرد لم تكن مسألة هينة بالنسبة لهم".
إن المفاهيم النقدية التي تبلورت ضمن نظرية الأغراض الشعرية عرفت بعض التسطيح والنقص والإقصاء، فدراسة الأغراض أقصت الخمريات والطرديات (الصيد) والحكمة، وأساءت فهم التوجه الاجتماعي لشعر الفخر، ثم هناك الرؤية التسطيحية لتحليل غرض الهجاء، فمرد هذه النقائص في بلورة نظرية الأغراض إلى أمرين :
الإرث الثقيل للتقاليد الفنية التي واجه النقاد من خلالها معايير نموذجية لم يستطيعوا التخلص من سيطرتها.
صوغ قواعد تنطلق في بنائها من مفاهيم مسبقة، وتصورات قبلية، أكثر مما تعتمد على الإنتاج الشعري نفسه.
إن المأزق الذي وقع فيه النقد هو ارتكانه إلى القاعدة والمعيار وسنِّ القوانين، في حين أن المخرج هو الاحتكام للنصوص، وجعلها تتكشف أمامنا معلنة عن لعبها ومكرها. فمن خلال هذه الرؤية المنفتحة يمكننا رصد البنيات والإبدالات ضمن دائرة الغرض الشعري من خلال الشكل والوظيفة. فالمسارات التي قطعها الشعر العربي في العصر الحديث عرفت تحولات على مستوى الأشكال والرؤى والمضامين والتيمات Thèmes لعبت فيها الظروف الاجتماعية والنفسية والسياسية والإيديولوجية دورا حاسما.
ولعبت فيها المُثاقفة والانفتاح على الموروث العالمي والثقافات المتنوعة دورا كبيرا، ناهيك عن التحول الذي شمل وظيفة الشاعر وتمثل العملية الشعرية، والأجناس الأدبية. إن هذه الأخيرة ظلت حبيسة التقعيد الأرسطي الجدي مما جعل جمالية نقاء الجنس الأدبي تهيمن على النظرية الأدبية لقرون عديدة. لقد أصبح الجنس الأدبي مُوجِّهاً من موجّهات القراءة، بمعنى أنه يمنح للقارئ مفتاحا لقراءة النص من خلال أعراف الجنس الذي ينضوي هذا النص تحته. ولذا فإن تكريس أعراف جديدة في قراءة النصوص تستلزم بالضرورة تخطي المُوجِّه الجنسي للنص، بحثا عن شعرية خاصة به، "إذ الحدود بين الأجناس تُعبر باستمرار والأنواع تخلط أو تمزج كما أن القديم منها يُحوَّر، وتختلق أنواع جديدة مما يجعل مفهوم النوع الأدبي نفسه موضع شك. إنّ الدعوة إلى تحطيم الحواجز بين الأجناس نشأت مع الرومانسيين الألمان، وخصوصا مع شليغل الذي يرى "أن تقسيم الأدب إلى أجناس، نوع من التحكم، لا يمكن قط أن يخضع له التأليف الأدبي.
إن هذا التحول في رؤية شعرية النصوص داخل ابنتيها وعلاقاتها الخفية أو الجلية بغيرها من النصوص، سمح بظهور مسميات جديدة مثل "النص" كممارسة لنوع حر من الكتابة يستثمر خصائص أنواع أدبية متعددة، كما شاع مصطلح آخر كنتيجة لخلخلة الأجناس الأدبية واختلاطها، وهو مصطلح "الكتابة"، وهو مصطلح يرفض قوالب الأجناس وحدودها وقد كان وراء هذا تصورات كل من موريس بلانشو وبارت وجاك ديريدا.
إن الشعرية المعاصرة تخطت حدود الأجناس، فكانت من وراء ولادة أنواع جديدة مثل قصيدة النثر التي احتفظت صراحة بما تنقله من النثر.
فمن خلال هذا التحول الإبستمولوجي في إدراك العلاقة بين الأجناس يمكننا أن نتخطى قضية الغرض ونعوِّضها بتقويضه وإعلان سديميته.
القصيدة المغربية الراهنة وجمالية المزج :
في هذه الدراسة سنتجنب الخوض في الحديث عن التاريخ للقصيدة المغربية الحديثة والتحولات البنائية والمضمونية التي عرفتها عبر مسارها المختلف من حيث الهواجس والقضايا والموضوعات وطرائق الصياغة، فقط سنكتفي برصد بعض النصوص ومحاولة استجلاء تشكلها من منظور جمالية المزج بين سجلات القول: Esthétique de l'hétéroclite. وتنتمي هذه النصوص زمنيا لبداية الألفية الثالثة، إذ يمكن تأطيرها ضمن التحول الكبير الذي شهده العالم، ويمكن اختزال هذا التحول في الحروب المدمرة وسقوط الأيديولوجية الكبرى وهيمنة القطب الواحد واقتصاد السوق، والإفراط في الاستهلاك والدعوة إلى تحرير الجسد وعبادة الفرد والعيش في العوالم الافتراضية والغزو المعلوماتي وسيادة اللايقين، وقد أفرزت هذه العناصر رؤية جديدة للعالم مأساوية يسود فيها اليأس والخيبة والسأم.
وتنتسب هذه القصيدة الراهنة جمالياً لحساسية جديدة تسعى إلى الاستفادة مما حققته قصيدة النثر في العالم الغربي على مستوى اللغة والشكل والدلالة والبحث عن اللغة الشخصية حيث إن قصيدة النثر "ولدت من التمرد ضد كافة أنواع الطغيان الشكلي التي تمنع الشاعر من أن يخلق لنفسه لغة شخصية؛ ويبدو أن بعض التجارب في المشهد الشعري المغربي المعاصر عملت بوصية الشاعر رايز ماريا ريلكه ولم تعمل بوصية ابن تمام. يقول ريلكه في وصيته للشاعر الناشئ: "اقترب من الطبيعة، حاول أن تقول، كما لو كنت الإنسان الأول، ما تراه، وما تعيشه وما تحب وما تفقد. لا تكتب قصائد حب. تجنب أولاً المواضيع السائرة، إنها الأكثر صعوبة. تجنب المواضيع الكبرى لصالح ما تقدمه الحياة اليومية. قل أحزانك ورغباتك. أفصح عن الأفكار التي ترد على خاطرك، عن إيمانك في جمال. قل هذا كله بصراحة حميمة، هادئة ومفعمة. واستعمل للتعبير الأشياء التي تحيط بك والصور التي تتخايل، والمواد المشكلة من ذكرياتك. وإذا ما تبين لك أن يومك فقير لا تتهمه، اتهم نفسك بأنك لست بعدُ شاعراً لتستدعي إليك ثراء اليومي. لاشيء فقير أمام المبدع كما ليس ثمة أماكن فقيرة لا دلالة لها. فحتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالم أفلا تبقي لك دائما طفولتك، هذه الثمينة، هذا الكنز من الذكريات، أدر إليها تفكيرك، حاول أن تستعيد مجرى الذكريات والانطباعات التي سالت على حوافيها ...وإذا ما واتتك في هذه العودة إلى النفس، في هذا الغوص نحو الداخل، أبيات من الشعر فلا تسأل إن كانت جيدة...إن العمل الفني يكون جيدا حين تلدُهُ الضرورة".
هذه الوصية الرسالة - في اعتقادي – تُعتبر مفتاحا لفهم التحول الذي حصل في القصيدة المغربية في اللحظة الراهنة، حيث صارت القصيدة تستجير بالحميمي واليومي والتفاصيل وتوليد الشعرية من المُبتذل وتقول الأحزان والرغبات دون تهويمات، وتصطاد الأحاسيس والأفكار التي تتوالى على النفس والذهن غير عابئة باللغة المكرورة أو الصور المستهلكة.
رصيف القيامة بين موضوعة السأم واستلهام تقاليد الأدب القيامي :
"رصيف القيامة" هو عنوان الإصدار الثاني للشاعر المغربي ياسين عدنان. وهو ديوان صدر أول مرة عن دار المدى في دمشق سنة 2003 قبل أن يعاد نشره مرفوقا بترجمته إلى الفرنسية في طبعة مغربية صدرت عن دار مرسم سنة 2005. وعنوان الديوان مستمد من قصيدة/بؤرة في نهاية المجموعة؛ وفي ذلك دلالة واضحة على أن ما سبقها من نصوص هو بمثابة مقدمات وتوطئات وهوامش على النص/المركز؛ وقد اتسمت هذه القصيدة أو هذا النص التركيبي بالطول والتنامي الدرامي للحدث؛ وهيمن فيها السرد والمشهدية وصور الموت والدمار؛ وخيمت عليها مُسحة سوريالية استمدها الشاعر من لوحات سلفادور دالي. هذه العلاقة مع دالي تأكدت أكثر حينما بدأت "أعضاء الخلق تسيل على رصيف القيامة"، قبل أن تتبعها "الشرفات التي على الجدران".
والواقع أن بإمكاننا تاطير هذا النص ضمن تقاليد الأدب القيامي. هذا الأدب الذي يمتح من النصوص الدينية ومن مشاهد القيامة، وحكايات المعراج، ومن النصوص الأدبية الكلاسيكية مثل رسالة الغفران، والتوابع والزوابع، وكتاب التوهم للمحاسبي ومنامات الوهراني والكوميديا الإلهية لدانتي، وبونتاغرويال لرابلي، ومن لوحات الفن التشكيلي مثل جنان اللذة والجحيم الموسيقي لجيروم بوش.
وإذا كان القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة قرن الموت بامتياز وقرن استعجال القيامة؛ فلا غرو إذن أن يشتبك الشعر مع هذه الظاهرة. إذ الأدب القيامي هو محاولة للإجابة على قلق الذات أمام مواجهة العدم وشبح الموت، والخوف من المجهول الذي يتربص بنا.
لكن، في سياق الحديث عن قصيدة "رصيف القيامة" يمكننا أن ننطلق من فرضية هل كان الشاعر يعمل على محاكاة أدبيات الكتابة القيامية أم أن نصه هو جواب شخصي وذاتي عن سؤال اللحظة الراهنة خصوصا وأن النص كُتب زمنياً في مرحلة عرفت انتقالاً مثيراً من ألفية إلى أخرى وما صاحب هذا الانتقال من نبوءات وتخيلات حول نهاية العالم، ناهيك عن شلال الصور التي استهلكناها خلال هذه المرحلة وكلها تدور حول الموت والدمار والخراب؟
نستطيع أيضاً تأطير هذه المجموعة برمتها – وبمختلف نصوصها- ضمن موضوعة السأم وما تفضي إليه من موتيفات كالخيبة واللاجدوى والألم والقلق والملل واليأس. إن عوالم نصوص "رصيف القيامة" تعيد إنتاج الموضوعة المركزية لدى الشاعر الكبير بودلير في أزهار الألم خصوصا نص سأم باريس Spleen de Paris. فالشاعر في رصيف القيامة "قطع براري العمر لاهثا في الطريق إلى عام ألفين" ولكنه بعد كل الأخاديد التي حفرتها الأيام بداخله لم يحدث شيء وأصيب بخيبة أفق انتظار قوية دفعته إلى أن يعتبر نفسه في قصيدته "زهرة عباد اليأس" مجرَّد خطأ في كتاب الكون، فسماؤه مسقوفة بهشيم الخسارات، كما أنه سئم المشي في هذه الجنازة الفادحة التي تُسمى عزاءً الحياة على غرار زهير ابن أبي سلمى الذي سئم تكاليف الحياة. وبعدما تصادى بقوة مع سأم زهير بن أبي سلمى وشارل بودلير، هاهو الشاعر يتخذ لنفسه قناع طرفة بن العبد، هذا الشاعر المنبوذ والمفرود كالبعير الأجرب مخافة العدوى :
          إنني عطشان ومنبوذ
          وشبه طاو
          بعيد عن مقهى الأصدقاء بمراكش
          قريب من بيت طرفة
أم تجد لي أيها القدر المُرُّ
سكناً غير هذا البيت؟ (ص 31)
فهذا الإطار القاتم للعوالم المتخيلة في مجموعة "رصيف القيامة" تعكس لنا مدى ارتباط هذه التجربة الذاتية بسياقها العام وهي تحاول تمثيل رؤية مهيمنة تتضاعف فيها انكسارات الأحلام وتتالى.
إن لهذه المجموعة مداخل عديدة لفهم العالم المتخيل فيها، ولعل من بين المداخل التي تُعتبر نواة صلبة لاستيعاب التجربة هو هذا المقطع المقتطف من قصيدة "زهرة عباد اليأس" التي أهداها الشاعر لطرفة بن العبد في عيد ميلاده. وما طرفة هنا سوى قناع للشاعر كما أكدنا سابقاً:
          آه يا سُكَّر الاستعارات
          المغشوش
          تحلل بعيداً عن فنجاني
          أريد القصيدةَ مُرّةً
          كقهوة السكران
          كي تُدوِّن في سواد عيونها
          هذا الصداع العظيم
          الذي يزلزل رغبتي في العيش
          وأنتم أيها الآخرون
تأهبوا للانقراض
فالسلالة مُدلاَّةٌ في الغيابات
في مذكرتها سرطان
يستشري
          وبين فخديها ورم يتفسَّخ (ص 36)
هذه المرارة وهذا السأم واللاجدوى وهذا اليأس من انتظار غودو التي نجدها في قصائد "الطريق إلى عام ألفين" و"بحيرة العميان" و"صيادون بقمصان الحصاد" و"حديقة المهملات" و"زهرة عباد اليأس"، سيجد تجليه الأقصى في قصيدة "رصيف القيامة".
ففي هذه القصيدة - التي أعتبرها أفضل نصوص الشاعر حتى الآن – تنعكس تجربة الكتابة بدل كتابة التجربة؛ وهذا مطلب ينبغي للشعرية الحديثة أن تعكف عليه. إذ ما يُلاحظ عموما هو فقر المرجعيات في التجارب الشعرية الجديدة. لكن عمل الشاعر في هذا النص سيتركز على عملية الكتابة فوق الكتابة مستفيداً من روح قصائد معاصرة وأخرى تراثية قاربت هذه الموضوعة وطرقت هذه الأجواء؛ عامداً إلى الاغتراف من تقنيات الكتابة المشهدية والمقطعية (السينما)، حريصاً على أن يبتكر لوحات تشكيلية أصيلة يسهل على أي رسام محترف تنفيذها على القماش، ومجلياً بالخصوص لروح الأدب القيامي. هذا الأدب الذي يهدف إلى استشراف الضفة الأخرى لنهر الحياة حتى إن الكتابة تتحول فيه إلى نقد وإدانة الممارسات الشاذة بطريقة ضمنية وبلاغية متكتمة. ففي قصيدة "رصيف القيامة" يتخيل الشاعر هذا العالم كنادٍ للأدباء والسياسيين والشخصيات التاريخية وبعض الشخصيات العادية؛ وقد عمد الشاعر إلى خلط العالم والأزمنة بغية إحداث المفارقة المبطنة بالسخرية، فالشاعر بقدر ما كان يحشر أصدقاءه ويحرص على دعوتهم الى رصيفه، كان يصفي حساباته الشخصية مع شخصيات لا ترغب فيه؛ وأغلب الصور الشعرية تداعت من خلال مقروئه الطفولي. ففي هذا المقطع بنى الشاعر عالمه من خلال نص مشهور قرأناه في الطفولة هو نص "أكلة البطاطس" الذي قرأته كل شبيبة الستينات والسبعينات من القرن الماضي في سلسلة "إقرأ" لصاحبها أحمد بوكماخ. يقول الشاعر :
فقالت المرأة التي شهقت لابنتها:
اشربي من عين الزهرة
قالت البنت:
أنا لا أشرب من عينٍ معلقة
في السماء
قالت الأم للهواء:
كن هدنة النار ودع ماءك يجري
على تراب اليقين
قال الهواء:
أنا إسكافيُّ المحبة. سادن زهرة العشاق
ولن أسقط في حبائل الطين
فقالت البنت:
سأتسلق الهواء لأشرب من العين، وشربت. (ص:53)

ورغم أن نص "أكلة البطاطس" ليس أكثر من نص مرح بسيط تقول فيه الأم لولدها أن يأكل البطاطس فيقول الولد: أنا لا آكل البطاطس. فتقول الأم للعصا: اضربي الولد، وتستمر المحاورة بهذه الخفة، إلا أن الشاعر عرف كيف يستل التركيب الحيوي للنص لبناء مقطعه بشكل ذكي. وكأن الشاعر أيضاً كان حريصاً على أن يلقي بالتحية لأحد بوكماخ الذي درست على يديه أجيال عديدة في المغرب. كما تتداعى أيضا من خلال هذا النموذج صورة أخرى لاستيهامات الشاعر حول هذا العالم الذي تأسس لدينا عبر النصوص المكتوبة خصوصا نصوص مشاهد القيامة التي تسللت إلى مخيلاتنا في مراحل الطفولة.
تفتتح القصيدة بمقطع ملتبس يتأرجح بين الهنا والهناك بين الحضور والغياب :
          كنت أظن وأنا أعبُرُ شارع الموتى
          أنَّ القيامة مجرد حكاية في كتاب
حتى جاءت الساعة بغتة
وانفلقت الجبال العظيمة عن فئران
صغيرة سوداء
ورياح شديدة الفتك
بعد هذا المقطع الذي يشرع أفق انتظار القارئ على عالم الموتى والبعث ومشاهد القيامة يعمد الشاعر إلى استعراض شخوص من التاريخ المعاصر والحاضر بصيغة تكرارية "وجاء" مُقترضاً هذا التركيب وإيحاءاته من النص القرآني "وجاء ربك والملأ صفا صفا"، وموظفاً مرة أخرى هذا التركيب بالكثير من الخفة والحيوية. يقول :

فجاء الملوك والمنجمون
وجاء الحكماء من الكتب القديمة
وجاء أدونيس وادَّعى أنه المتنبي
وجاء عبد المنعم رمضان فسألته العصفورة عن ناريمان
وجاء قاسم حداد ليدُلَّ الوعول على قبره
وجاء حلمي سالم فبدا رومنتيكياً للغاية
وجاء ابن سيرين عارياً من أحلامه
وجاء أسامة بن لادن ومجاهدو بيشاور والملا عمر أمير قندهار
وجاءت حاملات الطائرات وصواريخ الكاتيوشا وعميلات الموساد الشقراوات
وجاءت الناقة فعقروها
وجاء الكُسَعي ولم يكن نادما على الإطلاق
وجاء معاوية بن أبي سفيان وكان مُحرجاً للغاية
وجاءت مرام المصري وبيلين خواريث وسوزان عليوان
ورحنا جميعا ننفخ على النار لتصير برداً
ونعض بأسناننا على لهب مطاطي قديم
ولم يلتفت أي منا نحو شجرة الخروب
حيثُ كان ابن حزم يمسك بخناق شاعر مغربي حديث.

بعد هذا الاستعراض الذي انبني على تكرارٍ سمح للشاعر أن يوسع دائرة إشباع المعاني الناتجة عن مجموع الكنايات من خلال أسماء أعلام لهم حضورهم في المشهد الشعري المعاصر وأعلام لهم حضورهم في المشهد السياسي العالمي، حيث امتزج في هذا المقطع الحاضر بالماضي، والأصدقاء بالأعداء، انتقلت القصيدة إلى رصد مشاهد المسخ والتحولات التي طالت الأجساد الآدمية. فكل الأجساد المألوفة فقدت طعمها وهويتها.

لم نعد قادرين على الفرح ولا على التعب
من الوقوف
لأن أرجلنا تقلصت بالتدريج
ذابت الأصابع أولاً... ثم انمحت الأقدام
ولم تعد هناك في العربية
كلمةٌ اسمها الخطى ...

هذا التحول الجسدي الذي أسفر عن تغيرات في اللغة والقيم والأحاسيس أفضى إلى تحول في الإدراك وتمييز الأشياء وأضحى النسيان هو البديل وامتزجت الرؤى كما امتزجت سجلات القول المختلفة في القصيدة نفسها.

صرنا ننظر إلى بعضنا دون أن نشعر بأي شيء
ودون أن نتذكر أسماءنا ولون عيوننا
فظننتُ مثلاً أن المعري الذي كان ينفخ بجواري
على النار لتصير برداً
هو الذي كتب "أنا باز"
وأن عبد الرحمان بن ملجم مَن اغتال السادات

تنتهي القصيدة بمشهد التلاشي وسيادة الظلام والسقوط في العدم واستدعاء الأسطورة التَّوراتية حول برج بابل وتبلبل اللغات:

تدفق المزيد من اللزج اللاهب
والمزيد من عشب القيامة الضاري
فإذا جرارُ اللغة تتهشَّمُ
على صخرة العدم
وأظلم صوتي بعد أن زُلزلت تحت سقيفتهِ
اللغات
فلم أعد أعرف الفرقَ بين الشاهقِ وسيارة نقل اللحوم
ولا بين عواء الذئبة والحب
لم أعد أعرف هل هي بابل أم نيويورك?

فنهاية القصيدة الكارثية استدعت لحظتين متداخلتين: لحظة انهيار برج بابل وما أسفر عنه من بلبلة العالم، فالشاعر يبني عالمه المتخيل عبر التداعي إذ الحاضر لديه خلق الماضي. ثم مشهد نيويورك القيامي يوم 11 سبتمبر. فلحظة الانهيار تلك حفزت لدى الشاعر كل هذه الصور الرهيبة ذات الإيحاء الجهنمي.
تأسيساً على ما سبق نلمح أن قضية الحديث عن الغرض الشعري لم تعد لها سلطة لتوصيف القصيدة المعاصرة. فقصيدة "رصيف القيامة" مثلاً سيكون من العبث مقاربتها انطلاقاً من مقوله الغرض الشعري. ذلك أن مفهوم القصيدة نفسه شمله التحول حيث أصبحت حاملاً لسجلات القول المتنوعة تنتسج داخلها مجموعة قضايا ومضامين في ذات اللحظة. فالذات هنا حاضرة في تشابكاتها مع الآخر ومع العالم ومع الموروث القديم والحديث كل ذلك ينصهر ضمن انشطارية المرجع. لذا صح القول أن إحدى أهم إنجازات القصيدة العربية الحديثة هو تقويضها وبشكل تام ونهائي لأغراض الشعر التقليدية.