من يقرأ الشعر الجاهلي قراءة شاملة يكتشف أن قضية الحياة والموت كانت شاغلاً أساسياً من شواغل شعرائه، شيباً وشباناً. فقد كانوا يحبون الحياة ويتعلقون بها، ولكن هاجس الموت كان لا يفارقهم، حتى أننا لا نجد بينهم من ضاق بطول عمره سوى شاعرين هما: زهير بن أبي سلمى ولبيد بن ربيعة، برغم أن كثيرين منهم كانوا من المعمرين. ويبدو أن هؤلاء الشعراء توصلوا إلى قناعات خاصة بشأن هذه القضية، قد يكون مرجعها خبرتهم في الحياة، أو عقائد كانت سائدة في مجتمعهم، أو هذه وتلك، ولكنهم بلوروا لأنفسهم ما يشبه المفاهيم العامة المشتركة حولها، تجلت في قصائد ومقطوعات وأبيات من أشعارهم، وثبتت عندهم حتى ظهور الإسلام، وبقيت رواسبها عند من أدرك الإسلام منهم حتى بعد أن أسلم.
لقد اقتنع هؤلاء الشعراء بالحقيقة البسيطة القائلة إن الموت مصير كل إنسان، قوياً كان أم ضعيفاً، غنياً أم فقيراً، ملكاً أم تابعاً، وإنه يدركه مهما طال عمره، أو حصّن نفسه، أو تحاشاه، ولا مفر له منه إذا حان أجله. ورأى هؤلاء الشعراء أن السطوة التي يمتلكها الموت لا تقتصر على الأفراد، بل تشمل الجماعات من قبائل وممالك، فكم من جماعة بادت وذهب أثرها، وكم من مملكة زالت وتهدمت حصونها، وكان لهم في عاد وثمود، وممالك اليمن والحيرة وكندة، أمثلة يذكرونها في أشعارهم تعبيراً عن تلك السطوة، لا سيما المتأخرون منهم.
وبرغم أن الموت قضية وجودية عامة يشعر بها كل إنسان، ويفكر فيها بهذا العمق أو ذاك، كانت هناك بواعث قوية تجعل الشاعر الجاهلي يطيل التفكير فيها ويوغل في تفكيره، ويتأمل مظاهر وجودها في حياته وحياة قبيلته والقبائل الأخرى من حوله. فقد كان يرى صور الموت في تقلبات بيئته الطبيعية الصحراوية القاسية بين الخصب والجدب، وفي الحروب الدموية المستمرة بين قبيلته والقبائل الأخرى، فضلاً عن الصراع من أجل البقاء في الطبيعة نفسها، وهي صور أقل ما يقال فيها إنها كانت تحرمه من الشعور بالأمن والاستقرار والاطمئنان إلى يومه وغده، وتذكره في كل حين بأنه مهدد في نفسه، وفي أهله، وفي ماله إن كان له مال، وفي قبيلته التي هي حصنه وملاذه، وتؤكد له بأن هذا التهديد سيلازمه طوال حياته، في اليسر والعسر. فإذا أمطرت السماء وأعشبت الأرض كان مع الناس في يسر، وإذا حبس المطر وأجدبت الأرض كان معهم في عسر، وما من يسر إلا ويعقبه عسر في دورة شبه أزلية. وإذا كانت قبيلته في يسر طمعت فيها القبائل الأخرى، وإذا كانت في عسر طمعت هي في غيرها. وهكذا يتقلب به الحال، وتفتك بقومه الحروب، وتزدحم ذاكرته بصور الموت، وكانت هذه الصور تلح عليه وتضغط، فكان لا بد له من أن يفكر بالحال الذي هو عليه، ويحاول أن يفهم كنه الوجود، وسر الحياة والموت، فهو إنسان في نهاية الأمر، بل إنسان مرهف، يحس ويعقل، ويفكر بمصيره.
لقد فكر الشاعر الجاهلي بهذا كثيراً، ليس بوصفه موضوعاً فلسفياً، فهو لم يكن فيلسوفاً، بل بوصفه حقيقة أولية بسيطة من حقائق الوجود الإنساني كان يدركها بحكم طبيعته البشرية، فانعكس هذا التفكير على شعره بوضوح، وثمة عشرات الأمثلة من عشرات الشعراء تؤكد ذلك. ولم ينعكس هذا التفكير على شعر الرثاء فحسب، بل شمل كل أبواب الشعر. فالشاعر كان يفكر بالموت حتى حين يريد أن يتغزل، أو يفخر، أو يمدح، أو يهجو، وهذا يدل على أن الموت كان في مركز انشغالاته الذهنية، وربما كان هو مركز هذه الانشغالات. وقد كان هذا التفكير يتفاوت في العمق بحسب تجارب الشعراء وخبراتهم الخاصة في الحياة، فكان يزداد عمقاً لدى الشعراء المجربين والمعمرين الذين شهدوا الحروب والنزاعات، واكتووا هم وقبائلهم بنيرانها مثل: عبيد بن الأبرص، والحارث بن حلزة، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، حتى ليقترب بعضهم من أن تكون له فيه رؤية شاملة حول الحياة والموت، كلبيد بن ربيعة وأبي ذؤيب الهذلي مثلاً. بل اننا نجد شاعراً شاباً قتل وهو في عنفوان شبابه كوّن لنفسه مثل هذه الرؤية واختار طريقاً خاصاً لمواجهة الموت هو: طرفة بن العبد.
وقد ربط الشاعر الجاهلي قضية الموت بالزمن ربطاً وثيقاً، واستخدم ألفاظاً محددة للتعبير عن هذا الربط، أبرزها وأكثرها تداولاً وتعبيراً عنه لفظان اتخذا صبغة اصطلاحية لكثرة استعمالهما هما: الدهر، والزمان. أما (الدهر) فقد ورد ذكره عند أكثر من أربعين شاعراً حسب ما لاحظناه في إحصاء غير شامل ولا دقيق، وقد انطوى ذكره على دلالة ميتافيزيقية لم تكن واضحة في ذهن الشاعر، ولم يكن يفهمها كما نفهم الميتافيزيقا نحن اليوم، ولكنه كان يعبر عنها في أقواله. فالدهر في هذه الأقوال زمن مطلق لا حدود له، فهو (طويل قائم ممدود) على حد تعبير لبيد بن ربيعة، وهو قوة مهيمنة وحاكمة وغامضة لا يدرك كنهها، ولكنها هي المسؤولة عن موت الأفراد وإبادة الجماعات وخراب الممالك وزوالها. وبذلك أضفى الشاعر على الدهر قوة مطلقة لا يملكها إلا الله في المفاهيم الدينية. فالدهر هو الذي يميت ويفني، وينزل بالإنسان النوازل، حتى وصف بعض الباحثين شعراء الجاهلية بأنهم دهريون، ولكن دهريتهم، في رأيه، تخالف دهرية الزنادقة الملحدين، فهم كانوا يقرّون بوجود الله برغم وثنيتهم. ويبدو أن هذه (الدهرية) كانت عقيدة شائعة بين عامة أهل الجاهلية، أو لدى كثير منهم، حتى جاء عنهم في سورة الجاثية (وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر).
ولكن هؤلاء الشعراء، أو بعضهم على الأقل، كانوا يسبّون الدهر حين يتذمرون من نوازله وخطوبه. فهو (غول) في وصف أمية بن أبي الصلت، وأحيحة بن الجلاح، وهو (خؤون) في وصف النابغة الجعدي، و(ختور) أي خدّاع وغادر في وصف الحارث بن ظالم، و(ريّاب) في وصف الخنساء، و(متقلّب) في وصف أعشى بني أسد، و(ذو فنون) في وصف سلميّ بن ربيعة. فهو يترصد للإنسان، ويفاجئه، ويغدر به، وكل ما يحدث له من مصائب ونوازل هي من (بنات الدهر) ومن (صروفه) و(خطوبه ). ومن الطريف أن أحد الشعراء المجهولين سمّي باسم (شاتم الدهر العبدي) إذ لم يعرف عنه سوى انتمائه القبلي وما قاله في سبّ الدهر. ويبدو أن سبّ الدهر كان عاماً وشائعاً بين الناس يومئذ، ولعل هذا ما حمل الرسول محمد (ص) على النهي عن سبّ الدهر، فقد جاء في حديث صحيح قوله (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر).
أما لفظ (الزمان) فقد استخدمها الشعراء بمعنيين: معنى الدهر كما أوضحناه الآن، ومعنى الزمن الذي يتبدى في تحول الفصول وتعاقب الليل والنهار وتغير الأوقات. فقد نسبوا إلى الزمان ما نسبوه إلى الدهر من صروف وخطوب ونوازل وحوادث، وربما كان هذا مجرد استخدام مجازي، فلعلهم كانوا يريدون بالزمان الدهرَ ولكن الوزن كان يضطرهم إلى استبدال هذه اللفظة بالأخرى. وقد كانت حركة الزمن ترعب الشاعر الجاهلي لسببين، الأول: هو أن هذه الحركة تأتيه بالكثير من المفاجآت السيئة، فتحرمه من الشعور بالاطمئنان على نفسه وأهله وماله. فهو يعرف ما حدث له أمس واليوم، ولكنه لا يعرف ما يخبئه له الغد. وقد عبر زهير بن أبي سلمى عن ذلك في قوله (وأعلمُ علمَ اليوم ِ والأمسِ قبله / ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عمِ). ولذا صار الشاعر يخشى ما يسميه (ريب الزمان) أي صروفه وخطوبه. أما السبب الثاني فهو: أن حركة الزمن تقوده نحو الشيخوخة والهرم والموت، لأنها تقضم جزءاً من عمره في كل شروق وكل غروب، على رأي الحارث بن حلزة. فما حياته إلا زمن يتبدد، بل هي والموت سواء، أو (مِثْلانِ) على رأي حسان بن ثابت، فكأن الإنسان يحيا ليموت. وكان إحساس الشاعر بهذه الحركة يشتد حين يشيب وتبدأ الشيخوخة بالزحف إلى جسده وإيهان قواه، فعندئذ لا يملك سوى التحسر على شبابه الذي ضاع، وضاعت معه قوته وفتوته وقدرته على الاستمتاع بملذات الحياة. (فلا لذّات للشِيبِ) كما قال سلامة بن جندل. وللشعراء في هذا شعر كثير، حتى أن بعضهم جعل من التحسر على الشباب مقدمة يفتتح بها قصيدته .
وهكذا قرَّ في أعماق الشاعر الجاهلي، وفي تفكيره، أن الموت قدر لا مفر له منه، واستخدم لفظ (القدر) في حديثه عنه في أحيان كثيرة. وحتى لو لم يستخدم الشاعر لفظ القدر في شعره فإنه كان (قدرياً) بمعنى من المعاني. (وإنّا سوف تدركنا المنايا / مقدَّرةٌ لنا ومقدّرينا) كما قال عمرو بن كلثوم. فالموت قدّر له ولكل الناس (وكان عليهم كتابا) كما قال أسامة بن الحارث الهذلي. فالجميع يموت. (لا سوقةٌ منهمُ يبقى ولا ملكُ) كما قالت الخنساء و(لكل جنبٍ مصرعُ) كما قال أبو ذؤيب الهذلي (وكلُّ أخٍ مفارقُه أخوه) كما قال عمرو بن معديكرب (والحي للمنون) كما قال سلميّ بن ربيعة. وهذه حقائق لم يكن من الصعب على الشاعر أن يدركها لأنه كان يلمسها في كل يوم من أيام حياته، ولم يكن في وسعه تجاهلها لأنها لصيقة بوجوده. ولذا تحتم عليه أن يتقبلها كما هي، ويتحمل آلامها بصبر، ويواجه قدره بمفرده بنوع من (الجبرية) التي لا بد منها، ويعيش كل لحظة من حياته، بحلوها ومرها، ويغتنم فرصة وجوده في الحياة فيقتنص ما يستطيع اقتناصه من لذاتها وهي: النساء والخمر والصيد، كما حددها طرفة بن العبد في معلقته .
ويبدو لي أن لهاجس الموت عند شعراء الجاهلية علاقة وثيقة، ولكنها خفية، بالمقدمة الطللية التي شاعت في أشعارهم. ففحوى هذه المقدمة، كما نعلم، هي الوقوف على الأطلال والبكاء على ما حل بالديار من بلى والدعاء لها بالسقيا. والوقوف على الأطلال هنا أشبه بالوقوف على قبر. فمن كان يقف عند قبر عزيز له يبكي هو الآخر ويدعو لقبره بالسقيا. وبذا تبدو المقدمة الطللية في نشأتها الأولى ضرباً من ضروب الرثاء، رثاء الديار والراحلين عنها، لأنهم أصبحوا على نحو ما في عداد الموتى. بل هي تبدو رثاء لكل الناس وللحياة نفسها. فـ (ما الناسُ إلاّ كالديارِ وأهلِها) كما يقول لبيد بن ربيعة. هم أحياء اليوم أموات غداّ، والديار عامرة بهم اليوم وغداً تصبح محض أطلال. وهكذا اتخذت الأطلال في ذهن الشاعر صورة الفناء الكلي الشامل الذي يتهدد الحياة والناس ومنهم الشاعر (وما المرءُ إلاّ كالشهابِ وضوئه / يحورُ رماداً بعدَ إذ هو ساطعُ) كما يقول لبيد نفسه. فهو ما يكاد يحيا حتى يموت. وكل ما في الأطلال كان يذكره بالموت الذي يترصده، ويترصد معه أحبته وأهله وذويه والناس أجمعين. ولذا تراه يقف عليها ويبكيها، ويتفقد ما حل بها، وهو يصفها بالتفصيل، صورة بعد صورة، وكأنه ينفس بهذا الوصف عن نفسه ويُفرغ ما يثقل عليه من هموم وأحزان، حتى إذا ما انتهى من وصفها ركب ناقته وانصرف عنها، وانتقل من وصف الأطلال إلى وصف الناقة على مستوى القصيدة. وهذه انتقالة طبيعية، فناقته رفيقته في الحياة، وهي رفيقته في الموت كما سنرى في ما بعد، بل هو يدعو سامعيه إلى الانصراف معه عن مشهد الأطلال بصيغة لغوية استدراكية مثل قول امرئ القيس (فدعها وسلّ الهمَّ عنها بجسرةٍ) أو قول غيره (فعدّ عنها) أو ما أشبه، وكأنه يريد أن يصرفهم، هم أيضاً، عما أثارته المقدمة في نفوسهم، وينتقل بهم إلى موضوع آخر ينسيهم إياها ويلهيهم عما جاش في صدورهم من أشجان.
بل إننا نذهب إلى القول إن كثرة تفكير هذا الشاعر بالموت جعلته يهتم بما يراه في الطبيعة من صور كفاح الحيوان من أجل البقاء، سواء في صراعه مع حيوان آخر يفاجئه ويريد افتراسه أم مع صياد يكمن له ويريد صيده. وكان يصف مشاهد هذا الصراع بدقة وتفصيل، وبما فيه من عنف دموي، ومن هلاك أو نجاة، وهي مشاهد درامية كثيرة ومتنوعة نجدها في قصائد العديد من الشعراء ومنهم: زهير بن أبي سلمى وكعب بن زهير ولبيد بن ربيعة وأبو ذؤيب الهذلي ومتمم بن نويرة وعبدة بن الطبيب وربيعة بن مقروم. غير أن الشاعر كان حيادياً في وصفه، لا ينحاز فيه لطرف من طرفي هذا الصراع، فهو يصف ما يراه وصفاً موضوعياً وكأنه يصف مشهداً مألوفاً لا غرابة فيه، وحقيقة ثابتة لا تتغير من حقائق الحياة. فالجميع يصارع من أجل البقاء، والجميع يبحث عن قوته في تلك البيئة الصحراوية القاسية، ولا لوم على أحد، فهو من (حدثان الدهر) كما يقول أبو ذؤيب .
على أن هذا الوصف نابض بالحياة، مشحون بالحركة، يسرده الشاعر في حكاية قد تبدو عارضة في الوهلة الأولى، ولكنها ذات صلة وثيقة وعميقة بشواغل الشاعر النفسية والذهنية. ولعل هذا ما كان يدفعه دون أن ينتبه، وربما انتبه، إلى تشبيه ناقته بهذا الحيوان المكافح، وأحياناً بحيوانين مكافحين. فكأنه يعبر بهذا التشبيه عن شبه غير منظور بينه هو وبين هذا الحيوان. فكلاهما يترصده الموت، وكلاهما يصارع من أجل البقاء. فهذا الشبه موجود سواء أكان محسوساً من قبله أم غير محسوس. ولعل في مشاهد الصراع الثلاثة التي صورها أبو ذؤيب الهذلي في (عينيته) الشهيرة ما يومئ إليه ويعبر عنه. ففي المشهد الأول يصور أبو ذؤيب كيف يقع بعض الحمر الوحشية صرعى بسهام صياد كان يترصدها عند مورد الماء. وفي المشهد الثاني يصور كيف يصرع صياد وكلابه الضارية ثوراً وحشياً برغم يقظته وتوجسه وذياده عن نفسه. أما المشهد الثالث فهو يوازي هذين المشهدين، فالصراع فيه بين فارسين، فارس شديد البأس، مدجج بسلاحه، محتم بدروعه، مزهو بفرسه، معتد بنفسه، وفارس آخر يكافئه في البأس والشدة والاعتداد يتصدى له فيصرعه. فالإنسان هنا كالحيوان في المشهدين الآخرين، لا بد له من مصرع، مهما بلغ من القوة والمنعة واليقظة والتحوط.
ولعل مما هو جدير بالملاحظة أن هذا الصراع كان غالباً ما يدور عند موارد المياه، حتى ليتخذ الماء في وصف المشاهد قيمة رمزية لم يقصدها الشاعر، ولكنها فرضت نفسها عليه دون أن يدري أو يحس. فللماء قيمة كبرى في حياة المخلوقات التي تعيش في البوادي. فالجميع يريد الماء، والجميع يسعى إليه، إنساناً كان أم حيواناً. وإذا كان الإنسان يقاتل من أجل الماء فإن الحيوان غالباً ما يقتل حين يرده . وأظن أن قلق الشاعر الجاهلي على مصيره، وخوفه من المجهول، وشعوره بتربص الموت به، جعله أكثر التصاقاً بقبيلته، لأن مصيره، في تلك البيئة الصحراوية القاسية، وفي خضم الصراعات القبلية الدموية، كان مرتبطاً بمصيرها. فقبيلة الشاعر هي بيته وأهله، وشعبه ووطنه، وهي درعه في النائبات، ودفاعه عنها دفاع عن وجوده، وفخره بها فخر بنفسه، فقد كانت عزته من عزتها، وكرامته من كرامتها، ومنعته من منعتها. وكان التصاقه بها يقيه الكثير من أسباب الموت ومخاطره، ويعزز جانبه في الصراع اليومي من أجل البقاء. وهذا لا ينطبق عليه وحده، بل على كل فرد من أفراد قبيلته. فالفرد من دون قبيلته يضيع، ومن دون حمايتها يُسترخص دمه وتُستباح أمواله. ولذا كان (الخلع) من القبيلة من أقسى العقوبات في المجتمع الجاهلي، وكان (المخلوع) لا يقر له قرار حتى يجد قبيلة أخرى ترضاه وتجيره.
وليس الموت بمعناه المجرد، أو بوصفه نهاية حاسمة للحياة ، ما كان يخيف الشاعر الجاهلي فقط، بل كذلك ما كان يتوقع أن يحدث له حين يموت. فهو يعرف أنه سيلقى بعد موته في حفرة مظلمة، ويهال عليه التراب، وتوضع على جسده صفائح من حجر أو خشب، ويترك وحده في (غبراءَ يُكرَهُ وردُها) كما قال عبدة بن الطبيب. وهو يعرف أن الذئاب والضباع قد تنبش قبره وتعبث بجسده بعد موته، فيموت مرتين. ولذا كان هناك من يسخر بمرارة من كل طقوس التجهيز والتشييع والدفن السائدة في مجتمعه. فهو مثلاً سخر من قول مشيعيه حسب التقاليد الاجتماعية (لا تبعد). ومن أبلغ ما جاء في ذلك قول مالك بن الريب (يقولونَ لا تبعدْ وهم يدفنوني / وأينَ مكانُ البعدِ إلاّ مكانيا). فالموت هو البعد بعينه في رأيه. و(كفى بالموتِ نأياً واغترابا) كما قال بشر بن أبي خازم. وليس هذا فقط، فقد كان يسخر حتى من تجهيزه ودفنه، ومن الشفقة والتأسي والنواح عليه، وخير ما عبر عن ذلك قصيدة الأفوه الأودي الرائية (ألا علّلاني واعلما أنني غرر). وسخر حاتم الطائي حتى من دفّانيه، الذين سيستعجلون نفض أكفهم من بقايا تراب حفرته و(يقولون قد دمّى أناملَنا الحفرُ). وربما بلغ الشنفرى، الشاعر الصعلوك، أقصى درجات السخرية من هذه الطقوس حين طالب بأن لا يقبر (فلا تقبروني، إن قبري محرمٌ / عليكمُ ولكنْ أبشري أمَّ عامرِ). وأم عامر هنا هي: الضبع، التي تنبش القبور .
لكل ذلك يصعب قبول فكرة أن الشاعر الجاهلي كان لديه هاجس من هواجس البحث الخلود، كما ذهب بعض الدارسين. فهو لم يكن يشك أدنى شك في أن الموت قدر لا يمكن الفرار منه، أو التحكم به، أو تأجيله، أو التلاعب بمعناه. وهو لم يكن يشك في أن الحياة خسارة مستمرة لا تعوض. وانغماسه في الملذات على طريقة طرفة بن العبد ليس بحثاً عن تعويض، بل هرباً من مواجهة حقيقة الموت، وقل مثل ذلك عن نشدان الذكر الحسن في الكرم والشجاعة والنجدة والمروءة وغيرها. فهذه كلها محاولات يائسة للهرب وتسرية مؤقتة عن النفس، لأن الشاعر الجاهلي أيقن بأن الموت هو الحقيقة النهائية العارية، وهو يتربص به في كل لحظة، وطريقه لا عودة منه فـ (غائبُ الموتِ لا يؤوبُ) كما قال عبيد بن الأبرص، فكيف يفكر بالخلود إذن ؟
والظاهر الواضح أن الشاعر الجاهلي لم يكن متديناً، أو كان رقيق الدين في أحسن الأحوال، فهو على قدر من الذكاء والبصيرة والإحساس المرهف بحيث لا يصدق أن الأصنام والأوثان التي يتعبد لها قومه يمكن أن تنفعه أو تضره. ولذلك أهملها، ولم يتحدث عنها في شعره، ولم يتعكز عليها في مواجهة (صروف الدهر) وخطوبه، ومنها الموت. وهذا ينطبق حتى على من تنصّر منهم كعدي بن زيد، أو تهوّد كالسموأل بن عادياء. فأنت تكاد لا تجد أكثر من شاعرين أو ثلاثة وصفوا بالتدين وما هم بمتدينين في رأيي، كزيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت. فأكثر ما نسب إليهم منحول عليهم. وإن وجدت قلة قليلة جداً من الشعراء تقسم ببعض الأصنام والأوثان كاللات والعزى ومناة، فهذا القسم لا يدل على تدين حقيقي صميم، بل على شيء جرى مجرى العادة بين الناس. ولكنك قد تجد شاعراً ذا تجربة عميقة حنكته الحياة وزادته حكمة فأصبحت له مثل أخلاقية وقيم إنسانية معينة كزهير بن أبي سلمى. وقد تجد آخر قادته تجربته الخاصة، ومنها الأحداث القاسية التي مرت به وبقبيلته، إلى ضرب من التأله الذهني مثل لبيد بن ربيعة قبل إسلامه. غير أن هذا وذاك شيء والتديّن، بالمعنى الذي نعرفه، شيء آخر.
وهذا ما جعل وطأة الموت ثقيلة جداً على الشاعر الجاهلي. فقد كان يعاني من فراغ روحي عميق، ومن افتقار إلى عقيدة دينية واضحة ومتماسكة يركن إليها، عقيدة تجعل لحياته معنى وهدفاً، وتفسر له كنه الوجود ولغز الحياة والموت، وتعده بحياة أخرى آمنة ومستقرة تثيبه على ما خسره في حياته الشاقة، أو على خسارته حياته نفسها، وتمنحه نعمة الخلود في جنة عرضها السموات والأرض، كما وعد الإسلام المؤمنين. ولذا واجه هذا الشاعر محنة الموت بمفرده، وشغله التفكير بها كثيراً، وقاده هذا إلى التفكير بما سيواجهه بعد الموت، ليعرف نهاية هذه اللعبة العبثية التي يشعر بأنه ابتلي بها، أعني لعبة الحياة والموت. وهذا طبيعي جداً، وله في شعره الكثير مما يعبر عنه .
فلدينا ما يشير إلى أن هذا الشاعر فكر بالبعث والنشور والحشر ويوم الحشر والحساب ويوم الحساب. فقد وردت كلمة (البعث) في بيت لعمر بن زيد الكلابي مثلاً. ووردت كلمة (النشور) في أبيات لحاجز بن عوف، وزيد بن عمرو بن نفيل، والشداخ بن يعمر. ووردت كلمة (الحشر) في بيت لجريبة بن الأشم الفقعسي. ودل بيت لعمر بن زيد على وجود (حاشر) يحشر المبعوثين. وورد ذكر (الحساب) في بيت لعدي بن زيد وآخر للأعشى ميمون بن قيس. وذكر (يوم الحساب) في أبيات لزيد بن عمرو بن نفيل، وزهير بن أبي سلمى، والأخنس بن شهاب. وطالب ابن أبي سلمى في بيتين من معلقته المرء بألا يكتم ما في نفسه عن الله، لأن الله يعلم بما يكتمه، فإما أن يدخره له ليوم الحساب أو يعجل فينتقم منه. وكل هذه الأمثلة يدل على أن شعراء الجاهلية قد فكروا بما بعد الموت وتوصلوا إلى أن هناك يوماً سيأتي ويبعث فيه الموتى ويحشرون ويحاسبون.
ولكن فكرتهم عن ذلك اليوم تبدو عامة وغامضة ومشوشة. فماذا بعد الحشر وماذا بعد الحساب ؟ هذا ما لا نجد له جواباً عند الشعراء. غير أننا حظينا بصورة ميثولوجية عامة مشوشة هي الأخرى، ولكنها تضيف بعض التفاصيل. فقد كان الشاعر يوصي ابنه، أو أقرب الناس إليه، بأن يربط إلى قبره ناقة فتية نشطة لكي يحشر عليها، وإلا فإنه سيحشر في يوم الحشر راجلاً يسعى على قدميه. وكانت هذه الناقة تدعى (البليّة) وورد ذكرها عند أحد عشر شاعراً بحسب ما أحصاه بعض الدارسين، منهم: أبو دواد الإيادي، والحارث بن حلزة، وبشر بن أبي خازم، ولبيد بن ربيعة، وهذا الإحصاء لا ينفي وجود ذكر لها عند شعراء آخرين. ويذكر بعض المصادر أن (البليّة) كانت تربط معكوسة الرأس إلى مؤخرها، مما يلي ظهرها، ومما يلي كلكلها، وكان أهل الميت يأخذون حبلاً يشدونها به من وسطها، ويقلدونه عنقها، وهم يسمون هذا الحبل (الوليّة). والغريب في الأمر أنهم كانوا يفقؤون عيني هذه الناقة البريئة، ويتركونها وحدها عند القبر، فلا تطعم ولا تسقى حتى تموت. ويبدو أنهم كانوا يعتقدون بأنها ستبعث هي الأخرى في يوم الحشر وتستعيد بصرها وقوتها ونشاطها وتقوم بما ينبغي لصاحبها .
ويفهم من الشعر الجاهلي أن الموتى يحشرون بأجسادهم زمراً، ويصاح بهم أن: اركبوا، أو اظعنوا، فيتدافعون ويتعاثرون، ومن لا يركب بليته يصرع، ولا يفوز إلا من كانت ناقته قوية صالحة. ويبدو من ذلك أنهم كانوا يعتقدون بأن مكان الحشر بعيد ناء، والرحلة إليه شاقة، وبلوغه يتطلب مثل هذه الناقة. وأطلق جريبة بن الأشم الفقعسي على هذا المكان اسم (الهار) ومن معاني (الهار) الجرف العميق المتهدم، غير أننا لم نجد عنده، أو عند غيره، ما يوضح صورته. فهل (الهار) عالم سفلي كالذي فكر به العراقيون القدامى مثلاً، أم شيء آخر ؟ هذا ما لا نعرفه. ويقول بعض المصادر التي تتناول أساطير العرب قبل الإسلام إنهم كانوا يعتقدون بأن (البليّة) تشهد لصاحبها بأنه حجَّ بها في حياته فيكون في ذلك شفاعة له. أما ما يحصل بعد ذلك، وإلى أين ستمضي النوق بالمبعوثين، فلم يتطرق إليه الشعر. ولكن ما دام ثمة حساب، فلا بد لهذا من أن يفضي، منطقياً، إلى ثواب وعقاب. وهذا ما يمكن أن نفهمه من بيتي زهير بن أبي سلمى اللذين أشرنا إليهما. ولكن ليس معروفاً كيف سيكون الثواب والعقاب، وليس هناك ما يشير إلى وجود (عالم آخر) بعد الموت في معتقداتهم .
وما دمنا نتحدث عن الموت وما بعد الموت، فلا بد من الإشارة إلى أسطورة كانت متداولة في الجاهلية وأشار إليها العديد من الشعراء هي: أسطورة الصدى والهامة. وتقول هذه الأسطورة: إن من يموت يخرج من هامته طائر يدعى (الصدى)، وإن روح القتيل الذي لا يدرك ثأره تصير (هامة) تزقو عند قبره وتصيح (اسقوني) فإذا أدرك ثأره طارت. ومن معاني (الهامة) عند اللغويين: طير الليل، أو طائر صغير يألف المقابر، أو هي: طائر البوم المعروف. ويمكن أن نفهم من هذا أن عرب الجاهلية كانوا يعتقدون بثنائية الروح والجسد على نحو ما، ويقولون على ألسنة شعرائهم: إن الموتى لا يبقى منهم سوى الأصداء (جمع صدى) والهام (جمع هامة) .
إذن فقد فكر الشعراء الجاهليون بما بعد الموت، مثلما فكروا بالموت. ولكن من يشكّون في الشعر الجاهلي سيقولون، أو هم قالوا: إن الأبيات التي وردت فيها إشارات إلى البعث والنشور والحشر والحساب ويوم الحساب هي مما نحل من شعر على الجاهلية بعد الإسلام، وقد تكون حجتهم في ذلك أن هذه الألفاظ إسلامية وردت في القرآن الكريم. ونحن لا نريد أن نسرع إلى نفي هذا الاحتمال، ولكن أليس في هذا الحكم إجحاف إذا تركناه على إطلاقه ؟ إن من التعسف أن نحجب عن عرب الجاهلية، وخاصة الشعراء منهم، القدرة على التفكير في ما فكر فيه البشر منذ أقدم العصور. فإذا كان لأقوام الحضارات القديمة، من سومرية وبابلية وفرعونية وغيرها، أساطيرهم وأفكارهم حول عالم ما بعد الموت فلماذا لا يكون لعرب الجاهلية وشعرائهم نصيبهم من هذه الأفكار ؟ أليس التفكير بالموت وبما بعد الموت من طبيعة البشر ؟ ثم إن ألفاظ البعث والنشور والحشر والحساب لم ترد عند شاعر واحد أو شاعرين أو ثلاثة، بل وردت عند شعراء كثيرين لم نذكر نحن إلا بعضهم، فهل أصاب النحل شعر هؤلاء كلهم ؟ وماذا يمكن أن يقال عن البليّة ؟ أهي منتحلة أيضاً، أم هي تجلّ واضح من تجليات الاعتقاد بالبعث والحشر ؟ وعلى أية حال، إننا سنرى أن القرآن الكريم يؤكد أنهم كانوا يعرفون عن البعث أكثر مما يظن المشككون .
غير أن هناك من يظن أن أفكار عرب الجاهلية حول البعث والنشور والحشر والحساب قد تسربت إليهم من اليهودية والمسيحية، أو من أقوام أخرى احتكوا بها وهم يرتادون بوادي العراق والشام وسيناء، وهذا ما لا نؤيده. فثمة مبالغات كثيرة قيلت، لأسباب غير موضوعية، حول انتشار اليهودية والمسيحية بين عرب الجزيرة وأطرافها، ومنها مبالغات الأب لويس شيخو مثلاً. ومع أننا لا ننفي احتمال تأثرهم، أو تأثر بعضهم، باليهودية والمسيحية، ما دام بعضهم قد تهوّد أو تمسّح فعلاً، ولكن علينا أن نتذكر أن الغالب على اليهود أنهم كانوا يعتقدون بأن الثواب والعقاب يحدثان في الحياة نفسها ولا يؤمنون بالبعث أو بحياة أخرى تأتي بعد الموت. وهكذا كانت المسيحية في بداياتها الأولى، كما نفهم من مقدمة سفر أيوب في الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس. وبرغم ما جاء في الأناجيل ورسائل القديسين، وخاصة رسائل القديس بولس، من إيضاحات عن: القيامة، والدينونة، وملكوت السموات، والحياة الأبدية، لم يكن لدى المسيحية مفاهيم واضحة ومحددة عن عالم ما بعد الموت، بل كانت هناك تصورات ورؤى شخصية لبعض الرسل والقديسين. وقل مثل ذلك عن فكرتهم عن الجحيم hell التي وردت في بعض الأناجيل وبعض رسائل القديسين، وعن الفردوس paradise التي وردت بشكل عابر في رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنتس. وظلت هذه المسميات، عدا القيامة، أقرب إلى التعبيرات المجازية طوال قرون، ولم تكتسب مضامين محددة، أو تتكون لها مفاهيم موحدة ترقى إلى مستوى العقيدة الشاملة ، إلا في عصور متأخرة نسبياً تطور خلالها اللاهوت المسيحي بفعل حاجة عامة المسيحيين إلى الوضوح والتشخيص.
لكن الأهم من ذلك أن الألفاظ التي استخدمها عرب الجاهلية في التعبير عن أفكارهم عما بعد الموت هي ألفاظ عربية أصيلة، ليس فيها ما هو مقتبس من المعجم اليهودي ـ المسيحي المتداول، بما فيه المعرّب منه. وليس في مضامين هذه الألفاظ ما يحيل إلى أية أفكار يهودية أو مسيحية حتى عند من تهود أو تمسح منهم. ففكرة البعث والنشور لدى الشاعر الجاهلي ليس لها أية علاقة دلالية بفكرة القيامة في المسيحية، ولم تخطر في ذهن هذا الشاعر أية فكرة عن ملكوت السموات والحياة الأبدية. وفكرته عن الحساب ويوم الحساب هي غير الفكرة المسيحية عن الدينونة. أما عن تأثير الأقوام الأخرى فلا يبدو له أي وجود ظاهر في الشعر الجاهلي، عدا ما ورد من ذكر للتحنيط في بيت لعبيد بن الأبرص قال فيه (وكل ذي عُمُرٍ يوماً سيحتنطُ ). وأغلب الظن أن في هذا البيت تصحيفاً، فالقول في رواية أخرى للبيت هو (وكل ذي عُمُرٍ يوماً سيعتبطُ) وهذا هو المرجح لدينا .
ويبدو لي أن أفكار عرب الجاهلية حول البعث والنشور والحشر والحساب من بقايا ديانة قديمة كانت القبائل المعدّية، حصراً، تؤمن بها، ثم قدم العهد بها فأهملها من أهملها، ونسيها من نسيها، ولكن معتقداتها ظلت معروفة بصورة من الصور، وهي صورة مشوشة في أية حال. فهناك من ظل يؤمن بالبعث على طريقته كمن ذكرنا من الشعراء، وهناك من أنكره. فممن أنكره الشداخ بن يعمر الكناني. فقد طلبت قبيلة خزاعة من قومه بني كنانة النصرة على قبيلة أسد، فرد عليهم معنفاً (القومُ أمثالُكم لهم شَعَرٌ / في الرأسِ لا يُنشَرون إن قُتِلوا). وقال شداد بن أوس بن عبد شمس وهو يرثي قتلى بدر من المشركين (يخبّرنا 'الرسول' بأنْ سنحيا / وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ). وقال عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه (حياةٌ ثم موتٌ ثم نشرٌ / حديثُ خرافةٍ يا أمَّ عمْرِ). وأغلب هؤلاء شعراء متأخرون أدركوا الأسلام وقاوموه، فمنهم من أسلم في ما بعد ومنهم من لم يسلم.
قد تكون الديانة القديمة التي أشرنا إليها هي الحنيفية، أو غيرها، ولكنها هي مصدر تلك الأفكار في أرجح الاحتمالات. والدليل على ذلك أن المشركين كانوا يجادلون الرسول محمد (ص) في البعث وينكرونه، ويعدونه من (أساطير الأولين) كما جاء في آيات قرآنية كثيرة. فهم كانوا يقولون للرسول (إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ). بل هم (قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون. لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل، إن هذا إلا أساطير الأولين). وهذا دليل على أن أسلافهم كانوا يعرفون البعث ويؤمنون به. كما يدل تمسكهم بأن آباءهم قد وعدوا به من قبل ولم يتحقق منه شيء، على أن أفكارهم عنه لم تأتهم من اليهودية أو المسيحية بل من عقيدة أخرى قديمة آمن بها أولئك الأسلاف، وإلا لكانوا قالوا للرسول: إنك جئت بها من إحدى هاتين الديانتين اللتين يعرفونهما جيداً.
وسواء كانت أفكار عرب الجاهلية وشعرائها عن البعث والنشور والحشر والحساب قديمة أم مستحدثة، وأصيلة أم مقتبسة، فإن الشعر الجاهلي عبر عنها بأسلوبه الخاص من حيث هو شعر يكتفي بالإشارة والإيحاء، ولا يشرح العقيدة أو يفسرها، وهذا يدحض، في ظني، قول القائلين: إن هذا الشعر لا يمثل حياة عرب الجاهلية وعقليتهم وديانتهم، ومنهم الدكتور طه حسين في كتابه: في الشعر الجاهلي. فالتفكير بالموت وبما بعد الموت أحد تعبيرات الشعر الجاهلي عن حياة العرب العقلية والدينية، وهو يعكس لنا ما كانوا عليه من فراغ روحي لم تملأه أصنامهم وأنصابهم، بل ملأه الإسلام بما أتاهم به من عقيدة شاملة متكاملة، ومن أجوبة حاسمة على التساؤلات المقلقة الراسبة في أعماقهم.
القدس العربي
01/07/2009
إقرأ أيضاً:-