المعارف آفاق مفتوحة وكل شيء قابل للنقاش

شوقي نجم
(لبنان)

نادر سراجصدرت حديثاً النسخة العربية من كتاب "حوار اللغات" لمؤلفه نادر سراج، بعدما كان صدر بالفرنسية في باريس في العام 2003. قراءة الكتاب تشكل متعة، من حيث توزعه على فصول تشمل مقالات وحوارات، ومن حيث أسلوبه الكتابي المبسط، وبحثه عن "جيم... نا العربية". نادر سراج باحث لساني يؤمن بأن كل ما يتداوله الناس من فصيح وعامي يثري اللغة ويغنيها. ينهل من اللسانيات الحديثة التي لا تنفك تسعى الى وصف اللغة وصفا متكاملاً متفاعلاً، أصواتاً وصرفا ودلالات، على أساس أنها بنية اجتماعية لا تهدأ ودينامية لا تستكين.
يعرض سراج في كتابه لأفكار لسانيّين فرنسيين، اندره مارتينيه وهنرييت فالتير، بعد مقدمة الطبعة الفرنسية بقلم جان اندره مارتينيه زوجة اللساني المشهور التي تتحدثت عن العلاقة بين الباحثين من جهة والطالب اللبناني نادر سراج من جهة اخرى. مقدمة الطبعة العربية بقلم سراج الذي قال ان الكتاب يقدم للقراء اجابات عن اسئلة منها: كيف يمكن التجربة اللسانية الوظيفية التي تكاملت تعاليمها في خواتيم القرن المنصرم ان تعزز البحث اللساني الميداني في بيئاتنا العربية الخصبة والمتنوعة؟ وما هو علم اللسانيات الوظيفية؟ يقول: "تعلّمنا أن اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة الإنسانية. تعتمد الوصف والملاحظة منهجا لها وتنبذ في المقابل كلّ موقف معياري من اللغة. أدركنا لاحقا أن اللسانيات الوظيفية تتميز باعتبارها تتحدّد كدراسة للألسن، متعارضة بذلك مع سواها من التيارات المعاصرة التي تشدّد على أن اللسانيات تنحصر في دراسة اللغة الإنسانية. ومع ظهور علم الفونولوجيا (فرع من علوم اللسانيات، يدرس الفروق الوظيفية بين الأصوات اللغوية) في ثلاثينات القرن المنصرم، انتقلت اللسانيات إلى ميدان علمي صرف، وأثبتت أنها تتأسّس على حقائق منفصلة. فالفونيمات (الفونيم أصغر وحدة صوتية وظيفية يمكن بواسطتها التفريق بين المعاني في لسان معيّن)، التي تشكل وحدات منفصلة بذاتها، تؤكّد الحقيقة المنفصلة للمونيمات (المونيم أصغر وحدة لغوية مجردة ذات مغزى)، من حيث استخدامها لتكوين دالاّت لهذه المونيمات (الدّال هو أحد عنصري الوحدة اللغوية = الإشارة)".

كتاب "حوار اللغات"، حكاية التجربة التي عاشها المؤلف منذ غادر بيروت يافعاً إلى باريس لطلب العلم، حيث عاش في أروقة السوربون، وخالط أساتذتها ونهل من علومها، ليدرس المحكيّة العربية التي يمارسها أهل بيروت ويحلل العوامل التي تؤثر في مختلف مستوياتها. يستنتج أن هناك مستويات لسانية عدة في محكية بيروت: اللغة العربية الفصحى، وهي لغة التعليم في المقام الأول، وهي كذلك لغة الثقافة والفكر والتراث والدين. هناك أيضاً العربية الحديثة، أي لغة الصحف ووسائل الإعلام، كالإذاعة والتلفزيون. أخيراً، هناك اللهجة المحلية التي تختلف عن هذه وتلك في الصوت والمفردات والتراكيب النحوية. يستعمل أهل بيروت في حياتهم اليومية كل هذه المستويات اللغوية، وفق مواقف التواصل اللساني ومقتضيات الواقع الكلامي.
حصل حرف الجيم العربي على حصة مهمة من حيث استحواذه على اهتمام مارتينيه، في تعدد اوجه لفظه واستعماله. يتحدث سراج كيف ان مارتينيه طلب منه التوسع في الكتابة عن هذا الموضوع من جملة مسائل اخرى: "الجيم العربية. هذا الفونيم المتميز في المنظومة الفونولوجية العربية اثار اهتمام اللساني الفرنسي فبحث في تطوره وتبدل احواله. وقد اخترته بوصفه نموذجا لمسألة حية من مسائل اللسان العربي التي سبق لي ان اثرتها وتحاورت في خصوصها مع مارتينيه الذي رغب عبر هذه الدراسة في استجلاء معالم "الجيم" ومتابعة سيرورتها وسوق رأي في شأنها".
يعتمد أسلوباً مباشراً للمعاينة يرصد من خلاله مجريات التطور الصوتي للجيم، والذي يفضي وفق أحوال وظروف متشابكة الى قيام ثلاثة بدائل معروفة هي "الجيم المصرية" و"الجيم الشامية" و"الجيم الفصيحة". التمرين في ذاته نموذج للباحث اللساني الذي يتحول الى تقني دؤوب ومتمرس حينما ينصرف الى دراسة مسائل لسانية دقيقة مثل "جيمنا العربية".
طريقة لفظ الجيم حكاية ممتعة. قد يهرب المرء لدى سماع لفظ الجيم عند بعض الجماعات، لكن في القراءة متعة اخرى. يقول سراج: "الجيم التي نشأت وانا اسمعها في محيطي العائلي والمديني وتعلمت ان ارددها في اعتبارها تدخل في عداد المنظومة الفونولوجية للهجتي المدينية البيروتية، هي ما اصطلح على تسميته بالجيم الشامية. رخوة وخالية من الشدة، ومخرجها من وسط الحنك. في المقابل، ثمة تلفظ آخر لها، تردد على مسامعي من قبل ابناء البقاع عموما، وبعلبك الهرمل تحديدا، وهو تلفظ معروف بالمبالغة في تعطيشه. أما الجيم القاهرية التي ألفنا سماعها في الأغاني والمسلسلات والأفلام المصرية والخطب الناصرية، فهي شديدة لا يشوبها شيء من رخاوة، وتخلو من التعطيش، وتلفظ من اقصى الحنك".
يقدم سراج عرضا استشهد فيه بباحثين وكتاب قدامى ومحدثين تناول فيه مثلا الجيم في وصف كل من سيبويه وابن جني، عطفا على آخرين. وتحدث عن الجيم معطشة وشامية كما وردت عند رفاعة الطهطاوي في "تخليص الابريز في تلخيص باريز" (1834) ثم عن الجيم الفصيحة عند الدكتور ابراهيم انيس في "الاصوات اللغوية" والذي انتهى الى ان للجيم من الناحية الصوتية ثلاثة انواع، "شديدة خالصة الشدة وتلك هي الجيم المصرية، ومزدوجة من الشدة والرخاوة فيها من الصفتين معا وتلك هي المسماة بالفصيحة، واخيرا تلك الجيم الرخوة الخالصة الرخاوة وهي الجيم الشامية. ومخرج النوعين الاخيرين من وسط الحنك".

يتضمن الكتاب عدداً من اللقاءات حاور فيها المؤلف كلاً من هنرييت فالتير وأندره مارتينيه. في المقابلة التي أجراها مع مارتينيه يقول العالم الفرنسي: إن الناس لا بد أن يتواصلوا في ما بينهم، وهم يتواصلون بواسطة اللسان. وإذا كان المتكلم والسامع يعرفان لسانين مختلفتين، يحصل نوع من التداخل بين اللسانين حتى يتمكنا من التفاهم والتواصل. مما يؤدي إلى نوعٍ من التفاعل بينهما. وإذا كان الناس في ما مضى يتواصلون في مواقف تتطلب الاحتكاك المباشر، فإن الأمور بدأت تتعقد في أيامنا هذه، وذلك لأن التخاطب أصبح ممكناَ في مواقف متعددة لا تتطلب في الضرورة اللقاء الشخصي بين المتحادثين. هناك الهاتف والتلفاز والإذاعة، وهناك كذلك التواصل المكتوب أو الشفهي عبر شبكات الأنترنت.

أما في ما يتعلق باللغة العربية فإنَّ لمارتينيه رأياً دقيقاً وعميقاً. يقول إن الحاجة للالتقاء بين المتكلمين العرب تلحّ يوماً بعد يوم، وهذا دليل على التطور. ولما كان الناس يحتاجون إلى كلمات وأشكال وتراكيب نحوية مشتركة في ما بينهم تساعدهم في التواصل، فلا بد من أن يطوّروا ما لديهم من لغتهم الأم بحيث تظهر في المغرب والمشرق لغةٌ عربية تنبع من اللغة الفصحى وتتناسب مع مقتضيات التواصل العاديّ والمعاصر. وسيكون التواصل بين العرب متنوعاً بحيث ستأتي هذه العربية المشتركة لتقضي على اللهجات المحلية. وهذا التطور هو فعلاً ما حصل بالنسبة الى اللغة الفرنسية منذ قرون حتى يومنا هذا.

يؤكّد سراج ومارتينيه أن "اللغة ترتبط بالهوية"، وأن "كلّ الألسن متساوية". فإذا كانت الانكليزية تفرض نفسها في هذه الأيام، فهذا لا يعني أنها اللغة الوحيدة الموجودة في الحياة الثقافية في العالم. يقول مارتينيه: "اللغة تتغير لأنها تشتغل" و"من وجهة النظر الثقافية، نعتبر أن الإبقاء على لسانٍ آخر أمرٌ محتّم، وهو بالطبع ذو قيمة بالنسبة الى العالم بأسره. إنَّ لنا فائدة، في جميع الثقافات، أن يكون في تصرّفنا لسانٌ آخر".
أما هنرييت فالتير، المؤلفة المعروفة التي ذاع صيتها في أوروبا بعدما نشرت العديد من الكتب تحلل فيها "مغامرات" اللغة الفرنسية، واللغات الأوروبية، فتقصّ حكايات حول انتقال المفردات، وتزاوج اللغات في ما بينها، وخيانة إحداها للأخرى، وصداقة بعضها مع بعض ثم الفراق في ما بينها. اللافت في كتاب سراج أنه يدرج لقاءً مع هذه الباحثة تتحدث فيه عن مضمون كتبها هذه، وتجيب عن أسئلة كثيرة. هي صاحبة كتاب "بدون سراويل" وتقصد بهم الاشخاص الثوريين، وذلك تمييزا لهم عن الاريستوقراطيين الذي كانوا يرتدون السروال هو لباس رجالي يتألف عموما من قماش شديد النعومة يلتصق بالجسم من الوسط الى الركبتين. كان الثوريون يحملون لقب "بدون سروايل"، وتريد فالتير من التسمية الحديث عن كلمات الثوريين.

من الموضوعات التي تتناولها هذه الباحثة مع سراج، العلاقة بين لغة الشباب ولغة الصحافة، فعلى عكس مما يظنه المرء للوهلة الأولى، لا يتأثر الشباب بلغة الصحافة بقدر ما يتأثر الصحافيون أنفسهم بالعادات الكلامية التي يستخدمها الشباب. فالإعلاميون يحبّون دوماً أن يجاروا العصر، وأن يسبقوا إخوانهم في استقصاء كل جديد والإتيان بكلّ مستجد. لذلك نجدهم دوماً يصغون إلى هموم الشباب ومشاكلهم، كما يرهفون السمع إلى كلامهم ومفرداتهم، فيتعلمونها ويستعملونها ويردّدونها. لذا، نجد في معظم الأحيان أن الإعلاميين والمسؤولين عن الدعاية والإعلان هم أشدّ الناس تطوراً وأولهم تجديداً. أما أهل السياسة ورجال الدولة فيأتون في الدرجة الثانية بعد هؤلاء. هم كذلك يهتمون بلغة الشباب ويقلّدون أساليبهم ويستعملون مفرداتهم. أهمّ دليل تأتي به فالتير دراسة قام بها علماء الأصوات في انكلترا، فوجدوا أن طريقة نطق الملكة للكلمات في خطبها تطوّرت عبر الزمن بحيث بدأت تميل شيئاً فشيئاً إلى تبنّي طريقة نطق العامة من الناس، وخصوصاً الشباب منهم، ولكن ضمن حدود.

النهار
24 -9-2007