ذاكرة الشاعر قديمة.. عميقة في وجدان العماني عبر تلك الأزمان حتى الوقت الحاضر، ويمثل الشعر حالة خاصة فهو قرين الوجود الإنساني في رقعة الأرض العُمانية.
لا أخال أنني أغالي بأن الشعر في الحياة والقول مرتبطان بوثائق ظاهرة وخفيّة تمثل هذا خير تمثيل في القول الشفهي والمكتوب ، وظل العماني كأخيه العربي مرتبطاً ارتباطاً لا انقطاع له عن الشعر امتثالاً لقول الرسول الكريم "لا تترك العرب الشعر حتى تترك الجمال حنينها" ، حتى نصل الى قول العُماني الفراهيدي "الشعراء أمراء الكلام".
اليوم يمكننا القول ان الشعر هو خير رصيد، وخير معين، وخير زاد لنا ولغيرنا في هذه الصحراء التي نسميها الحياة، التي تقود الكائن البشري نحو هلاك لا محالة عنه بالتخريب المبرمج والممنهج وبالفساد والتخلف والنكوص وبالحروب والعولمة.
الشعر في عُمان عبر مسيرته البعيدة والقريبة كان صوت الأمة وصوت الفرد.. صوت الأمة التي تناضل لأن يكون لها وجود في ظل الالغاء والحروب والنزاعات السياسية والدينية فهو يستنهض وجود الأمة في لحظتها تلك من الاستغلال والضعف. وصوت الفرد في كينونته الخاصة ووجوده الأصيل، بعيداً عن قافلة الجماعة وابتلاعها له.
هكذا يخلق الشاعر وجوده الشعري عبر تلك التميزات الخاصة للشعر في تمظهره الأصيل المبدع والمختلف.
هنا، أخْلص الشاعر العُماني عبر تلك المراحل الزمنية وحتى اليوم في صوغ عباراته الشعرية وفْق حالات المكان بين السلب والايجاب.. فتارة.. نرى الشعر العُماني متجلياً بما هو راق وفي أفضل حالاته، وتارة هو كلام منظوم منضّد. وظل الشعر العُماني يتوسل اللغة والقالب الكلاسيكي حتى نهاية العقد السابع من القرن الماضي، حينها انبثقت الكتابات غير تلك التي سادت قبلها شملت الشعر وأطر الكتابة الإبداعية إجمالاً.
شهد العقد الثامن من القرن العشرين نقلة نوعية على مستوى الشعر العماني، فبدأ الشعراء العُمانيون في داخل الوطن يكتبون الشعر المختلف عما هو سائد تمثل في قصيدة التفعيلة ببحورها المتأثرة بالنزعة النزارية الطاغية على المشهد الشعري العربي وبأشكال متمثلة لتلك التجربة. وكان بعضهم يحاول الخروج من عباءة نزار قباني من حيث الشكل لكن الذاتيات التي تحلقت أو حلقت حولها تلك الكتابات ظلت تنقل المقفى باستخدام الأشطار والتقسيمات التفعيلية وذلك لخلق اختلاف ليس إلاّ.
وبقيت الكتابة الشعرية تلك رهينة ما قبلها.. رهينة ماضيها العريق، وإن حاول البعض التأثر بشعراء المهجر اللبناني خصوصاً، إلا انها كانت (تلك المحاولات) دون المستوى رؤى ورؤية.
ظل المشهد الشعري العُماني في الداخل حتى الثمانينيات من ذلك العقد الماضي يراوح بين القصيدة الكلاسيكية وبعض المحاولات لكتابة قصيدة مختلفة وان تلبست بالجديد (التفعيلة) فان أعماقها ظلت وفية لذلك الماضي رغم محاولات تهجين اللغة والأسلوب بين قديم وجديد، إلا ان خروجها استصعب، واستمر الحال كما هو مع استثناءات محدودة فرّقها عما كانت فيه بسبب وجود بعض المهرجانات والقراءات والسفر.
أما بالنسبة لنفس الفترة، فقد عرفت أيضا نقلة نوعية في الكتابة الشعرية الجديدة متمثلة في الشعراء الشباب الذين يدرسون في الخارج متأثرين بالكشوفات الشعرية العربية والعالمية وقارئين جيداً لإبداعات السلف التي كانت مطمورة أو تلك التي غيبتها الأحوال السياسية والدينية بنوع من الإشراق المعرفي. وهنا، ظهر صوت الشاعر العُماني بصيغة الفرد.. الشاعر الذي يحمل خلاصه بنفسه ونار شعلته لسانه وكلماته.
بدأ الشاعر العُماني الجديد يكتسب كما يريد أن يكون هو صوت ذاته، يكتب النص الجديد بانفتاحه على كل المعارف الإنسانية أي بعبارة "جوته" (الشعر لهو خلاصي) هذا الخلاص الذي يكتبه الشاعر العماني لنفسه كان له صدى تمثل في اتساع وانتشار هذه الكتابة الجديدة سواء بكتابة قصيدة تفعيلية مختلفة عما سبقتها أو بكتابة قصيدة النثر أو القصيدة الجديدة التي ظللنا نحن الذين نكتبها محتارين في اسمها.
هل، نحن نكتب (القصيدة الحرة) أم (قصيدة نثر) وتداخلت علينا المفاهيم، ولكننا استمررنا نرد بمعرفة أو بغير ذلك اننا نكتب قصيدة (نثر).
ظل مصطلح قصيدة النثر ملتبساً ليس علينا (في عُمان) ولكن في معظم أقطار الوطن العربي لكن الكتابات النقدية والاشتغال على القصيدة الجديدة فرقا لاحقاً بين القصيدتين وأظهرا الاختلاف بينهما، كما أظهرت الدراسات النقدية ان قصيدة النثر ذات ملمح وطابع فرنسي، وان القصيدة الحرة ذات ملمح وطابع أمريكي (هذا في العموم).
ففي اشتغاله الشعري ومنتوجه الإبداعي حافظ الشاعر العُماني على أضلاع المثلث فنجد في الديوان الواحد قصيدة تفعيلة + قصيدة نثر+ القصيدة الحرة+ قصيدة التفاصيل (لاحقاً) وهذا (للتمثيل لا للحصر)، بل ان بعض الشعراء ألحقوا دواوينهم بما كتبوه من بعض قصائدهم الكلاسيكية.. لكي يقولوا للآخرين أو لمآرب أخرى.. إننا موجودون.. موجودون.
الأساس الذي يمكن قوله ان كتابة قصيدة النثر في تلك الفترة والمرحلة كان ضرباً من ضروب المغامرة والاشتغال الاستثنائي، وقد تأثر عدد من الشعراء في عُمان بقصيدة النثر، كونهم وجدوا فيها صوتهم الخاص والمتميز وانها (قصيدة النثر) خير معبر عن ذواتهم المتشظية، ألمهم، فرحهم، هذيانهم.
هذا الحضور للقصيدة الجديدة وفي مقدمتها قصيدة النثر وانتشارها حفزّ آخرين للوقوف ضدها. فأول الواقفين أمامها وأمام الجديد من طرائق الكتابة المبدعة هم الكلاسيكيون والتفعيليون القدماء وكذلك عدد من أساتذة كلية دار العلوم المصرية المنتدبين للتدريس بجامعة السلطان قابوس والمشابهين لهم بالإدارات الثقافية. فقد حذّر هؤلاء من طرائق الكتابة الجديدة قائلين بأن قصيدة النثر هي قصيدة التدمير للثقافة والهوية واللغة العربية.
هذا التعميم السلبي بدلاً من أن يقلص حجمها على الساحة العُمانية زاد من رقعة كاتبيها، وزاد من حضورها في الفعاليات والمهرجانات، وحفّز الجيل الجديد بالمغامرة لولوج وجوس عوالمها كونها الأقرب إليهم والأكثر صدقاً بالتعبير عنهم.
إذاً شكل عقد التسعينيات زمن قصيدة النثر العُمانية بامتياز، فمجمل دواوين ذلك العقد هي دواوين قصيدة النثر. ومع بداية الألفية الثالثة أخذ الشعر الجديد في عُمان وضعه ومكانته الذي هو أحق به، لكن مغامرة الكتابة الجيدة للشعر المتميز صعب القبض عليه، فهو رهين كتابته الإبداعية واسثتنائيته وشفافيته وأفقه الرحب ومغامراته الضاربة في العمق للتفرد وفي وجه المتغيرات. وبتعدد ملامح التجربة الشعرية تعددت الأسماء إناثاً وذكوراً وأبدع الجميع في كتابة قصيدة جديدة مؤثثة من فضاء المعرفة الرحب وهذا ما هيأ بالفعل لوجود نص شعري عُماني خلاّق. وأصبحت القصيدة تقول للشاعر إذا أردت أن تكون شاعراً اصنع نفسك بنفسك، وتجلى ذلك بالاستفادة من التجارب والقراءات وحضور الندوات، هذا النداء أتى ثماره.
ويمكننا القول انه الجيل الشعري العُماني الجديد المتقارب الرؤى والأفكار والهواجس والذي ما زال كل فرد فيه يكرّس حضوره وصوته الخاص بكتابة نوعية تبشر بأن المستقبل في صالح القصيدة الجديدة.. رغم كل الأحجار التي تنتشر على الطريق.
فمع ان المشهد الشعري الجديد كرس حضوره إلا اننا نلاحظ بعض الخفوت في بعض الأحيان نتيجة لظروف المكان العُماني والعربي إجمالاً الذي لا يدفع نحو العطاء المتجدد بل السمة الظاهرة فيه التذبذب بين صعود وهبوط لعوامل منها حالات اللااستقرار الوظيفي والمكاني للشعراء وكذلك ظروف المحْفزات الإبداعية (في مجملها سلبية) والطباعة وحرية الأفكار وإشكالات النشر والمكافآت الهزيلة والرقابة وكذلك عدم وجود تفاعل مع ما ينشر إلا ما ندر، حيث المناقشات والحوارات والقراءات الحقيقية والمعمّقة غير موجودة.. وان وجدت على قلتها- فهي لا تتناسب والانتاجات الإبداعية المبشرة بما هو قادم وهذا راجع الى قلة وجود الأكاديميات وتخصصاتها وأيضاً الى ضعف القائم من الادارات المنوطة بالفعل الثقافي، والأدهى من ذلك ان الموجودين في المشهد الشعري (خصوصاً) والابداعي في مجملة لا يتشاركون اللقاءات ولا تبادل الأفكار والآراء – إلا ما ندر- وتلك هي أحد أهم اشكالات المشهد الثقافي العُماني (ومن ضمنه الشعري) الذي تتحكم فيه في بعض الأحيان الذاتيات الخاصة والأفكار والرؤى الضيقة.
مع هذا لا يجب أن يتصور المبدع العُماني والشاعر أولهم أن انتاجه ستفتح له الأبواب على مصراعيها.. واذا كان قد دخل هذا الحقل الملغّم فعليه أن يخط مسيرته بالكفاح المتواصل للوصول بقصيدته نحو الأفضل.. وهذا ما نجده بالفعل في عدد من النصوص الابداعية العُمانية التي تكتب الأصول.. تكتب ما هو متفرد وعميق.
الشاعر العُماني تتلبسه نفس إشكالات الشاعر المعاصر أينما يكون . فقصيدته وان انبثقت من المكان العُماني فانها أيضاً جزء من القصيدة الإنسانية- الكونية بعلائقها وارتباطاتها، همها، ومضامينها..
في الختام.. أسئلة الشعر في عُمان هي أسئلة الإنسان ووجوده.