في ديوانه الأخير توقف الكثير من الذين قرأوا عمل محمود درويش عند عنوانه، لا تعتذر عما فعلت (دار رياض الريس، بيروت 2004)، فقد رأوا في العنوان اكتمالا للتجربة الشعرية عنده، ليس من ناحية التطور الشعري أو التجديد الذي يعلق عليه درويش نفسه علي انه تعبير تعليمي مدرسي، فالاكتمال هنا اكتمال التجربة والنضج، حيث يتحول الشاعر الي حكيم والشعر لمساحة يمارس فيها الشاعر تجربته الفلسفية الجديدة، يسائل فيها الذات ويتجول معها عائدا، الي المكان القديم الجديد، المكان الذي فقد ملامحه الأولية وظل مجبولا في روح الشاعر الشاب. عودة محمود درويش الي البئر الأول هي عودة الشاعر الي صورته شابا وهي سياحة الشاعر بكل ما تحمله الكلمة من تعابير صوفية جوفية في الماضي، رحلة يعود فيها الي الأماكن الأولي يفتش عن وجه، فهو غريب ـ معروف، مجهول، وجزء من المكان، أصيل ومنقطع، ميت وحي، حر وأسير، انها الثنائية الساحرة التي يحاول فيها درويش إعادة الحكاية وسردها أحيانا مستخدما إيقاعا شعريا قريبا من النثر، أو استعادتها عبر إيقاع الشعر.
يدهش قارئ درويش دائما بالمخزون الشعري والدلالي الذي يجهد الشاعر في تقديمه، ويعجب أكثر بالتلاعب الذي يصل أحيانا حد السخرية والفنتازيا والذي يتم بعفوية وتماسك فذ، نحن هنا أمام شاعر يبحث عن صفاء القصيدة في صفاء التجربة، يريد الموت بهدوء، حصان تعب من السفر، لا يريد التوقف عند المحطة القادمة، شاعر يريد تأكيد وجوده من خلال سرد سيرة المنفي والمستبعد، فـ الشبح الذي يشير الي هذا الكائن الذي لا يذكر انه فلسطيني، يظل قابعا علي قلب الضحية التي تحولت جلادا، فالجلاد يتساءل باستغراب عن الشبح الذي يحمل في داخله دما. محمود درويش في لا تعتذر عما فعلت، شاعر متجدد، ليس بالمعني البسيط للكلمة ولكن بالمعني الذي يشي به التصنيف التشومسكي للغة الإبداعية، الجدة في خروج الكلمات كأنها طازجة لم يسمعها المتحدث/ السامع من قبل. وهذه الجدة التي تشير لإبداعية اللغة، وهو هنا يبدو طازجا، خارجا من الزفير، يحمل حرارة القلب والروح، وفيه يدخلنا في لعبة الضمائر، حيث الواحد يصير متعددا، والتعدد يصير وجودا والوجود يقابل ويدفع العدم، والعدم يتحول وجودا، هذه المثنوية الجميلة التي يقع عليها القارئ في معظم قصائده تقوم بمساءلة تاريخ الشاعر باعتباره جمعا، المسافر والعابر والراحل والعائد، وتسائل بالضرورة تاريخ المكان الذي يقول عنه انه صغير، مثل حبة سمسم، وله سقف سماوي مقدس ويحتوي علي كل الإشارات والرموز والكتب المقدسة ويحمل في طياته تاريخ الإنسانية والبشرية. لبلادنا وهي الفقيرة مثل أجنحة القطا كتب مقدسة وجرح في الهوية.
هنا يعود الشاعر الي صورته القديمة المعلقة في بيت أمه، ويسائلها باعتبارها معادلا له أو متوالية من متواليته عن الماضي والحاضر والمستقبل، ويعرف الشاعر ان كل شيء تغير، حتى الجليل الذي يظل بالنسبة له يمثل العالم لم يعد كما كان، وهنا يريد الشاعر ان يتحوصل في دودة قز ليصير حريرا يدخل في إبرة امرأة ويصير شالا معلقا أو تائها في الريح.
يتواصل درويش مع تجربته الشعرية ويدخلها في أفق كتابة جديدة وتجربة تبتعد كثيرا عن بداياته الأولى التي كانت منشغلة بالكفاح نحن لا نكتب أشعارا ولكنا نقاتل، الى حوار مع الوجود، حوار مع الضحية التي صارت جلادا، فالأنا التي يلح عليها الشاعر تصير في بعض تجليات القصيدة انا العدو، الذي يتماهى مع انا الشاعر، في محاولة من الشاعر تكسير هذا الرمز، هنا يصبح الشعر اقوي من الدبابة أو الطائرة أو الحديد.
يبدأ درويش رحلته الجديدة بقصيدة يختارني الإيقاع، و لي حكمة المحكوم بالإعدام الذي يموت بالانتظار قبل ان يموت بالحقيقة، فالانتظار هنا يصبح موتا أكثر، وتجددا بحياة ولعبة المنفي أو المستبعد الذي هو بالضرورة الفلسطيني تكون هي اللعب في الوقت الإضافي عندنا وقت إضافي لنكبر بعد هذا اليوم.
عودة درويش، ان كانت هناك عودة، هي محاولة للامساك بالأشياء كما كانت أو الى ان يستعيد الشيء صورته كما هي، واسمه الأصلي فيما بعد، فالقصيدة هي جزء من سلالة الشعر، وهي تنويع علي تجربة الشاعر، وفي لا تعتذر عما فعلت تدخل القصيدة مجال الحلم كل قصيدة حلم، حلمت بان لي حلما سيحملني واحمله هذا الحلم ينتهي بفتنازيا المعراج للبحيرة أو فانتازيا الوصول. الوصول هنا لا يقودنا الي نهاية للتجربة، ففي الحقيقة لن يلبس السيد المسيح حذاءه الشتوي ويمشي ككل الناس من اعلي الجبال الي البحيرة، بل يدخلنا درويش في أناه، اناك سواه/، انا هو/، وكل التنويعات التي يتقنها في التلاعب بالضمائر. فهو يأخذنا في رحلة مع الصورة التي ترنو الي ولا تكف عن السؤال أأنت يا ضيفي انا و يا ضيفي أأنت انا كما كنا، فمن منا تنصل من ملامحه، وحتى في هذه المواجهة مع انا الماضي وأنا الحاضر الزائر، لا يتوقف البحث، فهو يريد ان ينط من الجدار ليدخل فيه ويري ما لا يري وأقيس عمق الهاوية.
تجربة دائرية: صعود هبوط
تجربة الفلسطيني هنا تبدو دائرية، فالنهاية لا تعني الموت، والهبوط الي عمق البئر تعني الصعود للقمة، فلا بداية ولا نهاية، ولا نهاية للبداية ولا بداية للنهاية، لا اسبرطة ولا طروادة، لا تاريخ يكتبه الشعر ولا شعر يكتبه التاريخ، لا تعتذر عما فعلت ولكن هنا استثناء وحيد، لا تعتذر إلا لامك.
يعترف درويش الذي ينقلنا الي مدار التجربة ومدار الكون الذي يدور حول الوطن والوطن يدور حوله، انه تحلل من كل التصنيفات القديمة، عن اللاجئ والراحل وانه يبحث عن شيء واحد فهو يريد موتا بسيطا هادئا، أو موتا في حديقة أريد موتا في حديقة لا اقل ولا أكثر، يحرره من النسيان. الموت كما لاحظنا لا يعني النهاية ـ فالشاعر يتحرك في ميتافيزيقا تعمل خارج المكان والزمان والموت هنا ليس نسبيا وليس نهاية، قد يكون في لغة الصوفيين الوصول الأخير الذي يتحد بالكون، قد يكون الصعود الي بداية التجربة التي تبدأ بالموت، لا نريد ان نقيس مسافة الشاعر بتجربة الحلاج الذي قال اقتلوني يا ثقاتي ان موتي في حياتي، ولكن الشاعر ليس بعيدا عن هذا التوصيف.
درويش لاعب جيد بالكلمات ولكنه لا يستجدي عاطفتنا انه يكتب ما يري ولا يري، لا يتحسر علي الماضي باعتباره ماضيا ولا يعيد كتابة التجربة بطريقة السرد الذي لا يترك شاردة أو واردة انه يبحث في التجربة عن ذاته وفي بحثه يكتشف تاريخه ويكتشف كل التوليفة التي صنعته، من حماسة أبو تمام الى معجم البلدان وقبلهما أفلاطون وأرسطو وبعدهما شكسبير، هذا جوهر أو عرض التجربة في سياقها الكوني، أو بعدها الميتافزيقي.
واللافت للنظر ان درويش يحتفظ مع كل هذا بمسافة بينه وبين الانا فهو الحاكي أو السارد وهو اللاعب أو البطل الأسطوري أو البطل السلبي أو البطل العبثي، انه هنا في قلب كل التجربة غريبا يبحث عن نبوءة، ونبيا يبحث عن ارض وشعب ووجوه تعرفه. في مرحلة من مراحل البحث يكتشف درويش ان الذي تغير هو الشاعر الذي طلب منه ان يخرج من اناك الي سواك و قل لنفسك: عدت وحدي ناقصا قمرين لكن الديار هي الديار، فما تغير إذن شعور الكهل بثقل الزمن لكن المكان هو المكان وليس بحسب أبو تمام لا أنت أنت ولا الديار هي الديار في الأولي فقط غربة الشاعر عن المكان وفي الثانية غربة وانقطاع عن النفس والمكان، فالشاعر لا يعرف نفسه أو المكان.
يسدل درويش ترنيمة الستارة علي كل شيء، علي الشعر وعلي الانتظار الهوميري، وعلي الألم المصاحب للذاكرة ومع ذلك يعود ليقول ان الانسحاب من التاريخ لن يتم لأننا سوف نحيا قرب ذكرانا نجرب موتنا العادي، ننتظر القيامة ههنا في دارها في ما بعد الأخير.
درويش يبحث عن تجربة فوق التجربة الإنسانية، تجربة تستحق ان يقال فيها شعر أو تتسع لها اللغة، هنا يعلن مرة ثانية وفاة القصيدة بمعناها التقليدي، القصيدة التي تعيد وتنوع علي التجربة، يبحث عن قصيدة قادرة علي استيعاب واجتراح الفعل الجديد، أو الدخول في رحم التجربة التي يريدها الشاعر كاملة هادئة عفوية، والتي تستطيع الاحتفاء بما بعد الذي كان لم يبق في اللغة الحديثة هامش للاحتفاء بما نحب فكل ما سيكون كان... سقط الحصان مضرجا بدم القصيدة وأنا سقطت مضرجا بدم الحصان.
ويذهب درويش بعيدا للقول وتساءلت، لو كانت الكاميرا والصحافة شاهدة فوق أسوار طروادة الآسيوية، هل كان هومير يكتب غير الأوديسة، إلغاء القصيدة أو الملحمة في شكل الماضي لا يعني نهاية للملحمة، فدرويش يكتب نصا ملحميا، ولكنه معاصر، فيه مسرح وسينما وصور فوتوغرافية وتلوين ورسم كما سنري.
لماذا يقول درويش هذا؟ لاعتقاده ان تجربة بلادنا فلسطين في هذه الحالة اكبر من التجربة، فهي الجوهرة التي تشع علي البعيد تضيء خارجها وإما نحن داخلها فنزداد اختناقا، بلاد لها سقف السحاب (الجنة) وعمق الهاوية (الجحيم) لا يمكن ان ترمز الي الأرضي انها تشير الي رؤية الصوفي الذي قال ان هناك قدسين، القدس الأرضية التي زارها درويش، (اعني داخل الأسوار) والقدس السماوية.
يؤكد درويش هذا المعني في القصيدة التي تلي قصيدة لبلادنا، حيث يقول ولنا بلاد لا حدود لها، كفكرتنا عن المجهول ضيقة وواسعة.. بلاد. ومع كل هذا يعترف الشاعر هنا بان الحب الذي يكنه سكان البلاد لهذه الأرض هو بمثابة مرض وراثي، فالأرض حبلي بالسكان الذين ينتظرون ولادة اخرى لكي ننسي الخطيئة.
يؤكد درويش ان الكنعاني الذي اختار الزراعة كان محظوظا من جهة، وكان سيئ الحظ من جهة أخرى لأنه اختار البساتين القريبة من حدود الله، حيث السيف يكتب سيرة الصلصال هنا رسم جميل للأرض التي ستظل مراحا للصراع، صراع الروايات والآيات، وهي ارض الدم الذي سفكته في الماضي الآلهة القديمة وتواصل الآن سفكه آلهة الحديد.
صحوة الصوفي
في قراءته لتاريخ ارض كنعان وتغريبة الكنعاني يذهب درويش الى القدس التي يعيد لها اسمها الأول يبوس عندما يواجه يانيس ريتسوس اليوناني الساكن قلب الآلهة التي تحكم المدينة، في هذه الرحلة الروحية يري درويش ان الأنبياء يتقاسمون المقدس، في القدس (داخل الأسوار) يسير مثل النائم وفي حالة بين الصحو والنوم، الرحلة هنا هي معراج صوفي لأنه يشير الى الضوء والتجلي، حيث يقول انا لا انا في حضرة المعراج لكني أفكر:
وحده كان النبي محمد يتكلم العربية الفصحى وماذا بعد، ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية هو أنت ثانية؟ (...) قلت قتلتني ونسيت مثلك ان أموت.
في الإبحار نحو الفردوس السماوي الذي يبتدأ من الأرضي يبغي درويش البحث عن بداية ولادة جديدة، وتطهير وتطهر من الخطيئة الماضية، عودة أخرى لآدم الثاني وبلا خطيئة، فالشاعر الذي يتجسد في صورة قائد روماني يطلب من أخوة الزيتون الغفران. هناك ولادات وتوالد في النص الدرويشي الجديد، وهو نص يبدأ أحيانا من لا مكان ولا هنا أو هناك، ويخرج الي النهائي أو يحل في المطلق.
نحن هنا أمام نفس ملحمي حديث/ معاصر أو قل ملحمة حديثة تتخذ من السماوي، السحاب الغياب والغمام ملعبا لها، وتستحضر كل الشخوص الذين عاشوا في ملاحم المعري أو كوميديا دانتي، باستثناء واحد هو ان ملحمة درويش ليست معنية بالتفاصيل أو تقديم رسم بياني للطريق، والشاعر لا يحتاج الى دليل، فهو الدليل، أخره أناه، سواه، اله والهي هم الذين يقودون خطوه. وفي هذا السياق الملحمي الجديد، يملأ الشاعر فضاء الملحمة بالصور الخلابة، فهي كوميديا أرضية تبحث عن مطلق سماوي أو بالعكس، فيها ملائكة وشياطين، كل الملائكة الذين أحبهم اخذوا الربيع من المكان، صباح أمس وأورثوني قمة البركان. وفيها حضور لأرواح الشعراء الذين نجد أسماءهم في نصوص الشاعر، أو في إحالات غير مباشرة، فالنص الأخير يذكرنا بنص لمعدي بن يكرب ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا، هناك حضور لنيرودا ولوركا وكل الشعراء الذين يحبهم درويش، وهناك مرثيات واستعادات للعراقي السياب، و الجنوبي أمل دنقل الذي كان عربي الوجه واللسان، شاعر من سلالة أهل الخسارة، وابن وفي لريف المساكين، قرآنه عربي، ومزموره عربي وقلبه عربي. وهناك حضور لمعلقات الجاهليين انا هنا ازن المدى بمعلقات الجاهليين، نحن أمام نص يقول مسرحا، فيه توتر وإثارة فيه فتنازيا كما في نص لي مقعد في المسرح المهجور فهو المؤلف والمتفرج والكاتب والممثل. وفيه، اي النص، خروج وبعث، وفيه رحيل دائم/ وهذا النص بطله مفرد يعبر عن الجمع وجمع يعبر عن المفرد، وفيه البطل متوزع بين الخير والشرر، اذا أخذنا الصورة الهوليوودية الأخيار والأشرار، وعلي خلاف هذا التقسيم الحدي نجد ان درويش يتماهى أحيانا في الكل الواحد والجمع، ويحاور أناه الأخرى، التي تواصل أحلامها الكابوسية، من هذا الذي يلاحقها، ففي نص بارع يهرب درويش من أناه التي تلاحقه وتملس شعر القطة لخوفه ان هذه الانا التي تلاحقه مع عين أو جاسوس قد تكون قاتلا غامضا.
ومحمود درويش الطروادي هنا يمارس عذابا آخر علي الاسبرطي، انه هناك ولا يمكن التغلب عليه أو قتله. هنا تصوير جديد للواقع الفلسطيني، فهو وان قبل لعبة التعايش إلا ان اللعبة لم تعد قائمة علي التصوير القديم دخلت أنت خرجت انا بل دخلت أنت وبقيت انا.
يهاجرون من السياج الي الحديقة
يجهز درويش علي فكرة الرحيل باتجاه واحد وفضاء بعيد، عندما يقول لا ينظرون وراءهم ليودعوا منفي، فان أمامهم منفي، لقد ألفوا الطريق الدائري، فلا أمام ولا وراء ولا شمال ولا جنوب، يهاجرون من السياج الي الحديقة، يتركون وصية في كل متر. كما يقلب درويش الأدوار متسائلا لم يقولوا للمؤلف اي ضحية تقتل الأخرى، هناك في الحكاية قاتل وضحية، ما يحدث إذن في فلسطين انتهاك صارخ للنص، خروج عن النص غير مقبول.
نصوص لا تعتذر عما فعلت تحمل كل علامات التجربة الدرويشية، فهي تواصل مع تراكم، وهي معمار علي معمار أو تجديد في معماره الخاص، هي تواصل لـ الجدارية وتواصل بالضرورة للسلالة الدرويشية التي تتوالد دائما، وفي هذا التواصل يدخل درويش اللغة في مواجهة مع الكون، ويقوم بتوليد اللغة نفسها، درويش يؤمن بقدرة اللغة العربية وقدرة الموسيقي الشعرية العربية، فالقصيدة الدرويشية هنا لا تتعب من التجريب وتفجير اللغة، ولكن تثويرها جاء عفويا وقريبا من القلب، فهو يسرد، يكتب بحيادية عن الماضي والحاضر والمستقبل، يدخل درويش في نصه الجديد اللغة مدارا جديدا، والنص هنا شهادة جميلة علي قدرة اللغة العربية التي تمثل عالما عربيا مهزوما وفي زمن العولمة الإمبراطورية الأمريكية علي تقديم شيء مختلف، إنساني اكبر من الهزيمة العربية، عالمي اكبر من التلاشي العربي، كوني اكبر من أوطان العرب. والشاعر يضع العربية في مصاف اللغة الملحمية.
هنا يؤكد لنا درويش ان الإشكالية لا تنبع من الشكل الشعري بل في قدرة الشاعر علي تخليق الشكل وتثويره، درويش يؤمن بتعدد الإشكال الأدبية لكنه ينفر من التصنيفات التي تري في اثر الغنائية مثلا علي المعني أو اثر المعني علي الإيقاع، ولكنه فوق هذا يؤمن بالخصوصية للشاعر، فالعرب يتنفسون الشعر منذ قرون ولكن الشعر الباقي هو الشعر القادر علي البقاء، هذا هو إذن جوهر القصيدة عند درويش انها تنشد دائما المطلق لتتماهى فيه وتبقي.
كوميديا سماوية معاصرة
رب قائل يقول ان هذا جوهر التجربة الشعرية تنمو وتتجذر وتنضج، والشاعر هنا متواضع، ولكن هذا كلام إنشائي، لان درويش يعمل دائما علي بناء معماره الشعري، ولهذا تبدو القصيدة نسيجا وحدها.
في نص درويش هناك حمام كثير، حمام يتشكل علي شكل نهد أو حمام يطير، دوري، أقحوان وبيلسان وأرجوان وسنديان وزيتون وتين وبلوط، سرو وياسمين ولوز ونخيل وقطن، هنا أرجوان ودم وحصان، فرسان، سندس وسوسن ـ فردوس، انهار، بحيرات، محيطات، جبال، قيعان، هاوية، بركان، هناك حرير ودود قز وفراش، وقمح وتوابل، ملح في الجرح وفي القصيدة هناك أنبياء، مسيح، يلعب بالثلج يريد المشي مثل كل خلق الله، وهناك أيضا مسيح حاف يسير نحو الجلجلة، وكتب مقدسة، آيات ومزامير، وصلوات، هناك مسرح وسينما كلوزاب اقتراب من الأنا هنا معلقات الجاهليين تراث الكلاسيكيين فردوس الحالمين، وهنا سماوات صافية، سحاب، غيوم، ضباب، هنا أسطورة رجل ينام مع خشف الغزالة، وهنا جلجامش، هنا أيائل وريش حمام، وشاعر يكتب عن نفسه، هنا رامبرانت ـ يرسم نفسه شعريا أو شاعر ينظر بالمرآة يبحث عن ندوب تركها الفرس الحرون علي وجه الصغير الذي كان، وحاول إخفاءها بالمكياج، هنا أيضا ممثل ونص، ومخرج، هنا حليب، عسل معطر، هنا حضور، وغياب، برود وخواء الروح، خواء البيت، برودة الذاكره، تاريخ انتقاه الآخر ووضعه في متحف، حول الذكري لتاريخ متحفي، فبدلا من التذكر صار نسيانا هذا هو النسيان: ان تتذكر الماضي ولا تتذكر الغد في الحكاية. كل هذه العناصر تشير الي عالم خاص، عالم سماوي أو ارضي ـ سماوي أو جنة أرضية. وهنا أيضا أغان، أحلام مكسرة، تراجيديا وفنتازيا، محاولة للخديعة والتلبيس علي الانا، التخفي من الحضور، والحضور في المطلق، وهنا أيضا همسات، وشوشات، أصوات وترانيم، صدي كنائس مهجورة، ومآذن مكسورة. وهنا أيضا طرق طويلة وتعاريج مسيرة طويلة للنسيان، لان في التحرر من النسيان مقام الحرية ونهاية السالك في رحيله للتوحد مع المطلق. وهنا أيضا حركات وإيقاع، ملائكة ترقص، فراشات وبجع في رقصته الأخيرة، وهنا تتابع اليوم والليل، فجر، شمس، توهج، نوم، حلم، وحالة بين الحلم والحقيقة، صحو وموت، ظل، عمي لوني، إشراق.
وفي داخل هذه الفنتازيا والعالم اللامرئي هناك عالم حقيقي بشر يتحركون يركبون الباصات، يستمعون للراديو، يقرأون الصحيفة، ويشربون القهوة، يدرسون الاركولوجيا ولكنهم لم يتعبوا من البحث. وفي النص تنويعات علي الانسنة، فهنا رومان، وفراعنة وبرابرة وإغريق، وأكراد لم يبق لهم إلا الريح، قدرهم التوحد مع الريح، وفي هذا الوصف يربط الشاعر بين رمز الفلسطيني والكردي. وجه الوحدة هو الحرية أنت الآن حر، يا ابن نفسك، أنت حر من أبيك ولعنة الأسماء.
وهنا مدن، دمشق الشام القدس يبوس تونس وقرطاج، أثينا مصر القاهرة، ابن النيل ومصر الصعيد. وهناك موت وبعث ونشور وقيامة، خطيئة ومغفرة وتطهر . وهنا حروب صليبية، حروب العولمة، وفكر أيديولوجيا، وأسطورة ميثولوجيا، وانسنة اركولوجيا، وهنا قياصرة وملوك وشعراء، رسامون وموسيقيون. طرق وعرة يسير عليها الفلسطيني، وحديقة مستوطنة طريق الي طلل البيت، تحت حديقة مستوطنة. في طريق الساحل يجرب درويش كتاب قصيدة نثر، يتلاعب فيها علي الأضداد والثنائيات المضادة.
في معظم نصوص لا تعتذر عما فعلت، محاولة من الشاعر للإيهام ان الكلام انتهي، والقصيدة اكتملت، وهو في توصيفه هذا يريد التحرر من ذاكرة المكان الذي يصبح عنده ضرورة ماذا سيبقي من كلامك أنت.. نسيان ضروري لذاكرة المكان. ومع ذلك يظل الشعر في حواريته مع يانيس ريتسوس علي شاطئ الباسيفيك، في دار بابلو نيرودا يري درويش ان الشعر في نهاية الأمر هو تقاسم الجمال العمومي، وهو يا صاحبي هو ذاك الحنين، الذي لا يفسر، اذ يجعل الطيف شيئا، ويجعل الشيء طيفا.. ولكنه يفسر حاجتنا لاقتسام الجمال العمومي ، والشعر بهذه النظرة هو رحيل نحو الأبدية ان كان لا بد من رحلة. فلتكن رحلة أبدية.
في لا تعتذر عما فعلت، يبرر الشاعر حكاية الاعتذار وجوده وعدمه بالانتصار الذي يحققه الشاعر، يبدو واضحا في نصه الأخير، ليس للكردي إلا الريح، حيث يعلن انتصار اللغة، علي كل شيء بما في ذلك مكان الولادة، واليباب والصحراء.
وبهذا الانتصار يمتلك الشاعر الناصية ويسيطر علي الهوية باللغة انتصرت علي الهوية، قلت للكردي، باللغة انتقمت من الغياب، فقال لن امضي الي الصحراء، قلت ولا انا.. ونظرت نحو الريح/ عمت مساء.. عمت مساء. بعد كل هذا لا حاجة فعلا للاعتذار.
القدس العربي-2004/01/06