نعيم عبد مهلهل
(العراق )

لم يكن الوطن أختيارياً
لم يكن المنفى إجبارياً
البرد يقرصني بدرجات
ولي أن أشتمه بأكثر من لغة
                                   جاكلين سلام


نعيم عبدمهلهلالشعر في الأرث الروحي للتأريخ هو المشاعر عندما تقترن بزمن ومكان معين وهو أبتهاج لاتصنعه سعادات مقصودة إنما هو وليد ردة فعل مصنوعة حتى من مشهد موت ، والبهجة هنا حين تخرج القصيدة من معطف هذا الموت لتكون كائناً جمالياً يأرشف لمشي التأريخ في جادة الأعوام والعصور .
ولكي نؤكد قيمته على المستوى الجمالي والروحي والأجتماعي علينا أن ننظر أليه في كل الأوقات على أنه الطيف المصنوع من حدس لايوجد على الأرض ، إنما هو يأتي فجأة ببساط من رغبة أو حلم أو دافع ليجلس داخل رؤوسنا وهذا مايقول عنه أرسطو : الوافد ، العليم ، المهيج ، ومانح الطاقة لأقول شيئاً لافتاً للنظر .
وكلمة لافت للنظر كلمة حديثة أما كيف ترجمت الى ذلك ، فأنهم أرادوا بها أيصال قصد الفيلسوف وهو من الساعين الى كشف ماهية الشعر وتأثيره على كافة المستويات .
أكثر من يكتب الشعر هم الذكور ، ولا أقول الرجال ، لأن حتى في تغريد الطيور ، ومناجاة ذكور الخيل ، فإن موسيقية الحنجرة ودعوة المواددة تكون عند الذكور أكثر من الأناث .
ولكن لنتأمل الأنثى وهي تكتب الشعر ، إن روح السيدة والقصيدة تمثل بهجة متوترة بقلق غريب ، فالمرأة تجد في الشعر تفوقاً على نفسها أولاً ، عكس الرجل فهو يجده تفوقاً على الآخر .
الأنثى تصنع من القصيدة معولاً تحطم به الكثير من جدران العزلة بين الحرية والشهوة والرغبة وأثبات الوجود ، أما الرجل فيرى في الشعر تأدية لدور تفرضه طبيعة تعامله مع الوجود من خلال حس أو رسالة أو طمع بمال . لهذا قلما نجد مادحة في الشعر فيما التأريخ زاخر بذكور الشعراء .
المرأة ترى في الشعر أيقاظ لصمت قرون أزاء هيمنة الآخر على أحلامها المتكأة على وسادة الوضع الكوني للأنثى ، وحين تكتب إنما تريد أن تصل بجبروتها إلى خانة ينظر فيها على أنها ليست كائناً سريراً ومربية مهد فقط ، أنما هي كائن حكيم ورائي متفوق حتى على قدرة الذكر في ما تناول ما يجبرنا به حسنا العالي لنقوله أو نكتبه .
والشاعرة جاكلين سلام أنثى من طراز خاص ، وأنا هنا أتعامل معها على مستوى ما أقرأ لها وما وصلني من قصائد منها ، والتي أرى كما فهمت من مداولات الأثير أنها تفكير حداثوي لشعر يتفوق على ظاهرة أن يكون الذكر هو البادئ في صناعة قيامة القصيدة ، وهي ربما حملت وصية أخمانوتوفا القائلة : نحن أناث الرب ، عندما نكتب أو نبكي يتغير شكل السماء من الأزرق الى القرمزي .
لهذا كنت أرى تلك القرمزية موشومة كهلال على زند غجرية حين أقرأ قصائدها ومنها هذا النص الروحي العالي التقنية والحس والذي أرسلته ألي مؤخراً وقد قرأت تماماً الجهد المعذب الذي دون هذا النص ، وفهمت تماماً أن سلام وقد تسورت بأحلام دمشق تريد أن تصنع من منفاها وغربتها الكندية < يوتوبيا مؤلهة برغبة العثور على وطن خارج مجموعتنا الشمسية >.
ونصها الموسوم < وصلنا الى المنفى ..نقدم الشكر لساعي البريد > والمكتوب في تورينتو أواخر 2003 ، بدايات 2004 ..وهذا النص مستحدث بشكل جمالي متقن بفضل حسية عالية من رائية يحسب لها أن مايقوله الشعر في كيانها ،إنما هو أستجابة لثقافة الروح ، وهو كما يصفه ديكارت : الموجود بأحسن صورة والذي تهيمن عليه مثالية السماوات الراكعة لحلم الأنسان لا لحلم الآلهة التي يصنعها ذلك الأنسان .
والشعر كما في قراءاتي لتلك الرائية هو تدوير لحركة مستعجلة داخل الذاكرة ولكنها حركة متقنة كما يكشف هذا النص في مشاغله الحياتية والروحية والوطنية، ففي قراءة صامتة للنص تكتشف الموسيقى على شكل غربة وتكتشفها على شكل لوحة وتكتشفها على شكل مدن ثلجية يسعى الشعر الى تأطير ألمها برغبة إكتشاف عاطفة ما وهو ما تسعى اليه جاكلين تماماً وقد ورثت من حلمها قدرية تبغي من خلالها أكتشاف منفى الأفق الذي غطته سني الأبتعاد عن الحارة والزقاق والنافذة ، فكان لهذا النص أن يكون رائية زرقتها شذر لحنين إمرأة طالت على مديات أجفان الشعر الممتد تحت ضفاف عينيها إمتدادات لبحيرات ينام في قاعها تنين الألم الذي منه أخذت جاكلين شكل الموروث الذي ميز شعرها بشئ من شفافية التقنية وموسيقى الجملة وحكمتها الدافئة :
<< الأشياء تستوحش أيضاً
الأوراق التي لاتصل تموت من الحزن
الثلج ينام في الشارع
يموت
الشارع / الشاعر
الأحرف بترتيب يختلف
وثمة المعنى ، وثمة سيدة وثمة محبرة
وهناك …في البعد الآخر أحدهم
يتذمر ، لأن أمي تزرع الغاردينيا في النافذة
وما تزال تسقي أشجار أنتظاري >>
هذا شعر لمكان فيه تصور مختلف وأزمنة تتداخل بترتيب قدري متقن . إن الشاعرة تنظر الى العالم كما تنظر الشمس الى آخر النهار ، الحركة يرتبها ديالكتيك متقن لهواجس تفسر الوجود عبر هاجس يتأمل ، وهي في نص كهذا تنتهي وتبدأ في آن واحد ، وهي تصوغ توافقاتها بجدية على أثر رجعي حين تكون صورة الأم القديمة مقترنة بجمال آنية الكاردينيا وما يتعلق بها { الغربة ، الوطن ، الطفولة ، التذكر وشئ من ألم لايحتمل وظفته الشاعرة في تأبين الزمن برثاء من أجفانها وهي تفسر الوجود من خلال صورة الشعر { الشارع والشاعر ، الأوراق التي لاتصل ..التي هي رسائل ربما ؟ ..الثلج ينام في الشارع }
صور تقترن بغربة الروح قبل غربة الجسد ، أي أنني أرى الشاعرة تقود موهبتها الى توافقات عالية الحسية للزمان والمكان ، أو بالأحرى إنها تريد أن تتمكن من محنتها وهي بعيدة عن موطن الدمعة :
< وصل البياض الجارح
باقة شعر لم يعفره الكلام >
تلك القدرية صنعت بدء الحدس تقول عنه الشاعرة : إنه اكتمال لخيارات وحشة المنفى وغربته القاتلة ،وإنها من خلال الشعر تؤكد رؤى شكسبير في سونيتاته الجميلة :{ الشعر هو من ينادمنا ارواحنا على حساب غربتها القاتلة }.
وجاكلين أدركت من هذا المعنى ماتريد أن تتفوق به على خيارات النساء وهن يدركن في الشعر بعضاً من غايتهن ، إلا أنها هنا تريد أن تدرك غايتها كاملة .وإن صورة الأم وهي تزرع الغاردينا نزعت لأكتشاف ماهية الزمن البعيد من خلال طلاسم الشعر . وذهابنا مع القصيدة يثبت لنا نجاحها أو عدمه :
<< الشاعرة تحسد الثلج على بياضه
تعيد : أمي الثلج أبيض
لا ،الثلج ليس أبيضاً ، أمي
تتبدد سيرة اللون ، أحدنا أنكسر ،
الضوء ، أم أنا ! >>
هذه الديالوج ،تهيمن عليه مشاعر المراودة ، والمراودة في الفقه تعني تقليب الفقرة وجرها الى الخضوع ، وفي اللغة شئ من التحايل لكن جاكلين في جملتها المهومة بتحسس ما للبياض من أثر على ذكرياتها وبيئتها تشغل الكائن الأخر في صخب هذا المنفى وليس هناك سوى ظل الكاهنة البعيد الذي هو الأم ، وهذه المراودة الشعرية في جعل الحوار نمطاً ليكون أو لايكون أعطى للسيدة مهابة أن يكون الوجود الآخر مشغولاً عنها بنيات اخرى ،لكنه في الواقع كان مستسلما لها من خلال تركها لتبحث عن ضياعها الزمني في طرقات البياض ، والضوء ، وهي في رآئية بهذا الشكل إنما تعيد بناء التكوين الروحي لعاطفتها عبر الإنتماء الى الذاكرة الممثلة في الطبيعة وجنسها الأشد رقة :الأم .
يتسع هذا الأشتغال . ويفكر هذا الكائن المتحصن بغربته من خلال أرتداءه معطف الثلج ، يفتح الهم أمامه نوافذ تطلع الى تواهيم لاتعد ولاتحصى . فهي بلاد تتكيء على التأريخ المفتعل ، والناس هنا لايغريهم المثول في حضرة كاهن .القس يفعل كل شئ في صندوق الأعتراف .والشاعرة هنا تطلق أستغاثة مغايرة لكل الذين
لا يريدون صناعة خواطر جديدة لهذه البلاد .لهذا فجاكلين تعود الى فرضيات البيئة الأولى .ذلك التحامل القسري على المغادرة تلك الشهوات المدثرة في سلال الحنين وأشياء يقول عنها فرجيل :تحمل الأغريقي على أن يشم عبق الشرق كله . وهذه الأستغاثة تمنحها هم يطول ويقصر بقدر نمو الجنين الجديد في مدن المنفى . أنها تطرح قضية ، تحتاج الى جلسات مشاهدة وأستبيان وأعادة نمط قراءة تربية الطفولة وقد صنعت في الذات المحسسة نوعاً من قلق التفكير والمغايرة وتأنيب القصيدة على سرعة تعبيرها عن قسرية الألم الذي تصنعه مثل تلك المنافي :
<< أطفالنا يكبرون أيضاً ياغريب
كبرنا
وتكبر الشروخ في كل مكان >>
في أعلاه ، صوت يعي حجم الكارثة . هذا يذكرني بخاطرة لأخمانوتوفا وهي تعيش عزلة المنفى داخل روسيا في شقة مربعة .تقول : الغريب أن الحب والمنفى أي كان شكله يمثلان عاطفة متحدة من أجل قتلي ، ولكني لن اموت . لماذا ؟ لأنني أكتب الشعر .
جاكلين سلام تفكر مثل أخمانوتوفا ، تعيد شاهدة المشهد ، وتقرب التعابير الى قلبها ثم تسرب كل هذا الضوء الى الفضاء الشامي البعيد على شكل قصيدة :
< مرة ذرف القلب نثرات الكرستال
أنغرزت في الكف
مازالت تنغرز
لها أن تنغرز
لأنها من القلب >
هذا الشعور الدامي بمشكلة ما يضعنا أمام أشكالية هل أن الشعر دواء لقتل سأم ووحشة المنافي ،أم أنه منفى جديد ؟
انا أراه منفى آخر ، وربما سلام تراه كذلك ، لكني عالق كمشبك في جيد تعابيرها المتأزمة بين وحشة النظر من خلال نافذة وتأمل العاصفة وبين خيارات أن يجد الأنسان نفسه بين ملايين الهكتارات من شتاءات لاتفصح عن نفسها حتى على السرير .
يقول جون أبدايك : قصصي تخلقها المواسم الغريبة عني ، وهي عواصف الثلج وعدم توفر الخشب في المدفئة .
ولكي نقف على مستوى أداء مثل هذا الشعر سنجد مالم يجده الرائي نفسه وهو يحوك خيوط ضوء نهارات المنفى الطويلة ليدرك أن قدرة الشعر تخلق موازنات أدائية يكمن فيها أكثر من حس درامي لبهجة أمرأة أرادت أن تقول شيئاً أو تجعل محنة حياتها في التعامل مع غربتها نمطاً لتشكيل أيحائي مميز تدرك فيه هذه الأنثى المشتعلة غايات لاتبتعد عن حلم الأريكة أو النافذة أو الشارع الممتد على طول سجادة الثلج في بلاد قد تأكلها العواصف في أي لحظة ، لهذا فإن جاكلين سلام في نصها الطويل هذا تمد خيوط عزلة تصوفها ليؤدي الى حصر مشاهد الروح في مقاطع تصل بنا الى حقيقة أننا ينبغي أن تلاحق أحزاننا حيث توجد منافيها وهي بذلك تحرر ألمها الى سعادة الشعر الذي يغطي دمعه كل مساحات الوعي بالآخر الوطني الذي ترتكن أليه الحاسة الشعرية لجاكلين  :
c 8 ـ
<< لم لا تقوى الكلمة على الأنهمار ؟
الكلام الذي أبتلعه
يكون سببا غير وجيه
في أن أشعر بالعطش
ـــــــــــــــــ
    6 cـ
صديقي لديه مايكفي من المبررات
كي يدفق كلانا
أحزانه فوق المطر >>
أنها بهذا الشعور تدرك خطايا التفكير بالنأي البعيد الذي يسقط على عزلتنا ثلجه الثقيل وهو بهذين المقطعين الممتلئين بشفافية الوقوع في فخ تصدع الحواس تمسك شيئاً من محنة التفكير بالآخر المتمثل بالكثير من الأفكار الآتية ألينا من توارد خواطر طفولات المنفى أو الحارات المنسية في دهاليز المنافي ، لهذا ماتصل أليه جاكلين لاتصل اليه القصيدة المبتسرة بأشتغال عابر كما تفعل الكثيرات ممن يدركن في الحلم عبوراً غير هذا الذي تحسه الشامية المهاجرة الى نقاط ترصد شروق القمر من الزاوية المنحرفة من العالم :
 c 5 ـ
<< حين يحل المساء في جوارك
أخبرني
أشعل مصباح القلب ، تراني
أراك غبشاً
يتهالك وميضه في أغتراب
والعابرون يقطفون عن حوافه الليل والياسمين >>
وأنا أتحسس بقايا رؤى المنفى المدثر بعباءة الوجود الشتائي لنواظر متعبة من شجن حسيتها لرؤى المكان وأزمنته المتفاوتة التعابير أقف عند هاجس يثيرني تشكيل الوعي فيه وأسميته بقصدية من أدراكي لمعاناة الشعر في ذاكرة جاكلين { عاصفة الثلج الكندية } وهذا المقطع المرقوم ب   4c.والذي يذكرني تماماً بنص لساداكي الشاعر الياباني والقائل :من محاسن العاصفة أنها تنسيك حجم ألمك من جراء عشق .
وهنا كما في تدوين الفكرة وفلسفتها وحتى صورتها تحاول جاكلين أن تبني مناخاً من أحاسيس مغايرة لكل خواطر يومها الأخر، وهي حين تجعل الصديق شاخصاً لتذكر حياة قديمة إنما تعيد تركيب شريط الأمس من خلال عدسة مكبرة ولكنها تدور في أجواء قاسية التضاريس كما عاصفة الثلج الكندية .
هذا النص أقترب من وعي ساداكي من دون شعور مناوب بطغيان هيمنة المكان القديم بل أن القصيدة ذهبت الى المكان بشئ من فاجعة المناخ وعبرت من خلاله أكثر من محيط لتصل الى دفء قلب تريده يتكور تحت جفن النافذة التي تقدر سير العاصفة وأتجاهاتها في أزمنة لاتحاكيها سوى هواجس الرغبة بأكمال دالة الوجود لأنثى أتعبها عزف المنفى وخلاصاته التي لاتجئ ، ورغم هذا ثمة هزيمة تفتعلها الشاعرة في آخر هذا المقطع الوجودي المليئ بالموسيقى وأنفعال العلاقات والألفة الى الآخر :
<< كلماتي أقل من زوبعة في طاسة الأفق
    فلماذا أحشر أنفي في سير العاصفة ؟ >>
ريلكه في واحدة من تنهدات الألم القاسي قال : عواصف الروح ..هي مدامع حبنا الفاشل .
مابعد سير العاصفة وسقوطها في قعر فنجان القهوة المهيل لصديق أو صديقة الوحدة تبتعد جاكلين سلام في المقطع الجديد عن قلقها المشروع في متاهات لاتنتهي من أخيلة الأفتراضات الواعية لأنثى أبتكرت شيئاً من حقيقة أن يكون الشعر هو سخونة الحدث والمرادفات الزمنية لحاجة الأكتمال والوصول ، وقد هيمن الشعر على الكثير من قدرات الجنون الناعم لتلك المغتربة في أقاصي الشمس الباردة وقد أرتدت معطف التودد لآلهة وثبت على الشرفات بعاصفة لاتهدأ إلا عندما تحطم الكثير من مستحيلات الطفولة والصداقات المحكومة بقدر القلب والثقافة وكان لهذا الهدوء الساكن بأفتراضات حلم شاعرة مايبرره لذا بدا في المقطع 3c  ، مايقدر لنا أن نطلق عليه { شجن مابعد العاصفة } وهو نوع من الركون الى تأمل بقايا عصف الروح على مساحة المنفى الشاسعة وقد لملمت بقاياها بشئ لاتفتعله آثار الفجيعة كما أبقته لنا قراءتنا لقصة ماركيز { آثار دمك على الثلج } ، بل أن الشاعرة أختزلت المرارة والشعور بعنفوان وغضب المنافي بتلك الحالات الساكنة والقابعة في حجرة بحنجرة ، وأختزلت مشهداً هائلاً من العنف والغضب في مقطع غلبت عليه قدرة الشعر على السيطرة على مواقف قد تنفلت فيه الروح والطبيعة الى مديات لانهاية لها :
<< كسرت مزاميرها في حنجرة النوافذ
وفي صدري قصيدة وحشية
لملمت بقاياها ، العاصفة
ذهبت ..
ليحل علينا الثلج >>
وهذا مايأتي في هذا النص هو بقايا كل تلك البراكين التي أحدثها العصف الأول لقصيدة المنفى القابع في حقيبة ساعي البريد ، ونرى في القادمات من مقاطع الحديث المدرك بوعي وشاعرية خالصة شئ من موسيقى متمدنة التعابير ، موسيقى تصدح بنبؤة لجمال يسكن بعيداً عن متاهة القصيدة ويمثل هدوءاً لفوران لاتفتعله الرغبة بالوصول الى نهاية مقنعة ، أنما الشعر هنا تفاعل حي لشجن مرئي ومقروء وحي لواحدة أرادت أن تخلق عبر تراث شجنها الأزلي واحدة من مزامير الحس العالي { لتوراة الثلج } فكان النص في مقاربات الوصول الى القصد يعطينا نمطاً روحياً ذو فعالية حاسمة للكثير من البهجات المفقودة والتي وجدتها الشاعرة حين هدأت العاصفة ، لهذا كان جمال النص يفترض لجمله المضيئة أفكاراً مضيئة ، ولحسه العالي لحناً متفرداً من جمل لاتختصر مسافة الوصول الى وطن بمجرد حلم بل أن جاكلين صنعت تحت أجفانها الرائية خيالاً من سفينة يولسيسية أرادت بها أن تهجع الى قناعة أن الجمال وحسن التخيل والقدرة على إمساك الصورة وتأطيرها ببريق الآلهة الفينيقية لا يأت إلا من خلال ألم تصنعه عاصفة تمتد على مساحة جسد المنفى كله وحين ينتهي تأثير المهيمن الكوني ولم نعد نسمع فجيعة الثلج وشظايا مدافعه الهادرة نعود الى صفاءنا الروحي وندون أناشيدنا بطرائق لاتختلف أبداً عن طرائق آلهة أولمب حين يدفعها صفاء البحر الى تأليف أغنية عن الحب ، لهذا أستطاعت جاكلين في نصها المزماري والذي تشرك فيه الطبيعة والبيت والصداقة والأغتراب أن تصنع في نهاية هذا النشيد مدونة منوطة بالكثير من تأثيرات مابعد وجع الشعر :
-2c
<< تواً يعبث اللحن بخلخال الكلمات
    والروح مشلوحة ‫
    حفنة على مفترق هاويتين >>
ـــــــــــــــــــ
  1cـ
<< كي تؤول الأصابع الى قداس ورقصة
    لابد من نبيذ
    ليس بالضروة الماسة أن يكون فرنسياً
    أن يكون كندياً
   إنما من اللائق أن تكون أنت
   المجهول الذي يفك غمار اللحن >>
في النهاية ثمة بداية مختفية عن قصد ، هكذا يقول الصينيون . لقد علمهم كونفشيوس ذلك ، وهو ماينطبق على هذا النص بدوافعه المسيسة لغايات حكمت بمعانات من نوع خاص ، بهجر مقصود وحتمية متكاسلة أوجدتها توهيمات الأغتراب عن المهد .
لقد شكل شعر جاكلين سلام عبر مسارات عديدة ومنذ المطبوع الأول حدساً مفترضاً للعثور على رغبة مفقودة عند أنثى تفكر بطريقة واعية للكثير من شجون النأي الوطني تحت أجفانها التي تتسع لملمت عاصفة مثل تلك التي شملت مساحة كندا كلها . وكان هذا النص تأكيداً على رائياتنا على مزاولة الهم بطريقة هيموروسية تحتفي بملاحم المكان وتحيله الى نص لاتبتعد تعابيره عن شجن الحلم وهو يقود خلاصه عبر سفينة نجاة صنعها طوفان قديم .
هذا الشعر .وهذه الرؤية محكومة بصورة للنفري تشع جمالاً لايرى لناظر :< أن أدركت صورتي بقصيدة ملكت حياتي كلها >
هي أدركت العاصفة . فملكت من حياة الشعر هذا النص الأنيق بأحتفاءياته الروحية والكونية وحتى الوطنية، لهذا أعتقد أن جاكلين وجدت في قراءتها ومسوحاتها التدوينية لنص المنفى راحة تستكين أليها من مغايرة ماتراه في وضعها كأمرأة تعيش خارج حدود ولادتها . فكانت درامية هذا النص تأتي من وهج أفكار لاحصر لها ، لكنها أفكار تشع برغبات يصنعها التكوين المثقف لشاعرة مثل جاكلين ، وفي حصيلة القراءة لهذا النص يتشكل فعل الهوس والتخيل وتنامي الصورة والتحول في واجهة مرئية من زجاج قلب إمرأة تستطيع أن تكشف محظورات الهم من خلال نص يتوازن فيه المحكي والمرئي عن المكان البعيد .
 ليصل بنا النص الى كثير من مستويات الحلم ، حلم الجمال وحلم الأنتماء وحلم أخير لميتافيزيقية سير العاصفة في طرقات المنفى :
0c ـ
<< لم يكن الوطن أختيارياً
لم يكن المنفى أجبارياً
البرد يقرصني بدرجات
ولي أن أشتمه بأكثر من لغة ..>>

 النص أختير من قبل الكاتبة رغبة منها كأحد النصوص التي يمتلك إحساسا خاصا بذاكرة الحلم عند جاكلين سلام وقد كتبته في نهاية 2004 وبداية 2003.
الترقيم لمقاطع القصيدة دونتها كما وردت في النص .