سهير جابر عصفور
(مصر)

جابر عصفورسمعت من أبي يوماً جملة شديدة الذكاء والدقة في ما يختص بتحليل العمل الأدبي، سمعته يقول: "الكتاب أنواع، نوع يكتب كما عاش ونوع يكتب كما قرأ ونوع يكتب كما قرأ وعاش"، من هنا تشجعت وأقبلت على الكتابة عن تجربتي معه... أبي، في محنة مرضه الأخيرة غير مدعية كتابة الأدب ولكن فقط مسجلة مشاهد ومفاهيم عايشتها للمرة الأولى في حياتي.

جلطة المخ بكل أنواعها ودرجاتها المختلفة لها عرض واحد أساس قد يزيد أو يقل بحسب حجم الجلطة. هذا العرض هو نوع من أنواع تغييب العقل. في حال أبي - ولله الحمد - كانت حالة شبيهة بالمريض الذي استيقظ لتوّه من جرعة البنج، أو كمن أخذ جرعة من المخدر... فلا هو غير واع ولا هو نفسه الذي اعتدناه. كأنه في حالة سكر خفيف. وبحسب علمي، فإن حالة السكر أو التخدير هي تلك الحالة التي لا تغيب الوعي تماماً ولكنها تخدره قليلاً... تخرجه عن مساره الذي نشكله له نحن ونأمره بأن يسلكه، فنحن البشر عموماً، على اختلاف المواقع التي نحتلها في الحياة والسمات الشخصية التي تميزنا، نقوم بقصد وتعمد باختيار مجموعة من: السلوكيات والألفاظ واللغة الجسدية وردود الأفعال ونبرات الصوت... ونأمر عقلنا ان يتبناها في شكل مطلق وبأن تكون هذه السمات هي مساره الأوحد الذي نسمح له بالسير فيه، ومع مرور الوقت تلتصق بنا، أي بعقولنا، هذه الأوامر لتكون هي ما يصفنا به الآخرون، فمثلاً يقولون إنه شخص ضحوك أو عبوس، هادئ أو عصبي، مهذب أو وقح، حلو المعشر أو حضوره ثقيل... الخ.

لكن حين يغيب العقل، كما في حالات السكر مثلاً، يظهر الشخص على طبيعته الأولى ويكون شديد الصدق في ما يقول أو يفعل لأنه ليس في حالة وعيه القصوى التي تسمح له بمراقبة عقله والتأكد من أنه يسير على المسار الذي رسمه له طوال عمره، لذلك نرى أشخاصاً حين تسكر تكون عكرة المزاج، اكتئابية أو شديدة الوقاحة، بينما نرى أشخاصاً آخرين يتسمون بخفة الظل والحنان، والرقة... إنها الأقنعة التي اخترنا أن نقدم بها أنفسنا للعالم الذي يتصور بعضنا أنه عارٍ ضعيف من دونها.
في حالة مرض أبي حدث هذا معه، سقطت كل الأقنعة التي فوجئت أنا شخصياً بأنها أقنعة. فالابنة، كما نقول بالعامية المصرية، هي "حبيبة أبوها" التي تبدأ في ملاحظة أبيها ومراقبته من سن الطفولة وتظل كذلك طوال عمرها، حتى بعد ان تكبر وتحب وتتزوج في معظم الأحوال يظل حضور الأب في حياتها بلا منافسة، وأنا كأية ابنة واقعة في أسر حب الأب الشديد، ظللت ألاحظه وأدقق في ملاحظته وتفسير أفعاله عمري كله، حتى أنني تصورت، بكل سذاجة، أنني أفهمه كما يفهم نفسه وأعرفه كل المعرفة حتى حدثت أزمة الجلطة ففوجئت بشخص آخر أود بشدة أن أحدثكم عنه.

بعد أن اطمأننت من الأطباء إلى ان تأثير الجلطة فيه سيزول تماماً والحمد لله وأنها مسألة وقت فقط لا غير كان كل ما يشغلني، بل يرعبني، هو كيف سيتفاعل "هو" مع هذا الموقف؟ كيف سيتقبل فكرة المرض أو عدم اللياقة أو الكمال من وجهة نظره لبعض الوقت. كنت واثقة من أننا، أسرته، سنعاني حالات الغضب والعصبية التي ربما لم نشهدها فيه من قبل. تصورت أنه قد يصرخ ويحطم الأشياء رافضاً الإحساس بالعجز أو الضعف. رأيته شبه رؤى العين يخلع عن نفسه كل الخراطيم والإبر التي تقيده وتلزمه فراش المستشفى ويحاول الخروج من هناك. كنت أتوقع نبرات صوت شديدة الارتفاع وتأففاً وضيقاً من فترة المرض. ولقد بنيت كل هذه التوقعات على أساس معرفتي التي كنت أظنها كاملة به وبطباعه،فهو رجل قوي، يرفض الضعف ويكرهه، لم يستسلم في حياته أبداً لأي ظروف حياتية سيئة بل دائماً يبذل أقصى جهده لتحسينها وتغييرها. لا يطيق المرض ولا يشعر بالسعادة إلا في الحركة والعمل. نشيط وحيوي إلى درجة أصبحت أنا، وأنا في الثلاثينات من عمري، لا أستطيع أن أجاريه فيها... شخصية قيادية تعوّد على أن يكون زمام قيادة الأمور في يده، خصوصاً أنه يجيد اتخاذ القرارات الصحيحة... إلى آخره من الصفات التي تتعارض تماماً مع فكرة المرض الشديد والضعف والاعتماد على الآخرين.

غير ان الله شاء ان تأتي لحظة الكشف في هذا النوع من المرض لتسقط عن أبي كل أقنعته التي ألبسها لعقله وأجهده بها حتى ناء هذا العقل بحمله وقرر أن ينفلت من كل هذه القيود ويتعرى أمامنا، ولو لفترة وجيزة، ليعرفنا بحقيقة هذا الرجل الرائع.
وكانت المفاجأة... الرجل سمح لا تغيب الابتسامة عن وجهه حتى في الأيام الأولى من الأزمة حين كانت آثار الجلطة واضحة وضوحاً شديداً على نصف وجهه الأيسر. صابر على المحنة - المرض ومستسلم تماماً لقضاء الله في شكل به درجة شديدة من الرقي، من التصالح مع النفس والقدر، لا أظن أنني قادرة على إبداع لغة تعبر عن هذه النظرية البريئة الطيبة التي ظللت ألمحها في عينيه طوال تلك الأيام... نظرة رضا عن أن الحالة كان من الممكن ان تكون أسوأ بكثير، وامتنان شديد لله، امتنان حقيقي نابع من القلب، كل نظرة في عينيه ونبرة في صوته وأدائه انعكستا في هذا الامتنان، كلمة الحمد لله لم تفارق شفتيه وظل يردد سواء بالكلمات أو النظرات في كل لحظة كأنه يقول لنفسه: "لم أصب في واقع الأمر بجلطة في المخ بل إن الله أنقذني من مصير اشد سواداً"، وهذه الحقيقة التي نعيها نحن، فكل الملابسات التي حدثت للسيطرة على حجم الجلطة وآثارها كانت تدل على أن الله لم يرد سوءاً بهذا الرجل بل أراد توجيهه ولفت انتباهه إلى عواقب عدم المحافظة على صحته، لكن أن نرى نحن هذا وندركه، فهو شيء يختلف تماماً عن ان يدركه هو منذ اللحظة الأولى. الطبيعي ان يكون المريض واقعاً تحت تأثير الصدمة والخوف مما قد يحدث له، خصوصاً ان ذهنه ليس صافياً إن لم يكن بسبب تأثره بداية بالجلطة فحسب، فسبب هذا الكم الهائل من المهدئات التي تحقن في دمه كل بضع ساعات على أمل ان يستسلم جسده المنهك إلى النوم، لكن ليس جابر عصفور، فدرجة الوعي في عقل هذا الرجل حتى حين تسقط عنه كل الحصون ونقاط الدفاع التي بناها لنفسه لا تتأثر، وتبقى في عقله درجة عالية من التنبه، وأخرى أعلى من التسامح أصابتني بالدهشة.
صحيح يا أبتي أن درس التسامح كان درساً حاولت طوال حياتك ان تعلمنا إياه، وكنت أنا أحياناً أعتب عليك وألومك خوفاً من أن تعطي بعض ضعاف النفوس فرصة استغلالك أو تمنحهم، بتسامحك هذا، فرصة أن يفترضوا فيك ضعفاً غير حقيقي لمجرد انك تقبلت منهم الخذلان والغدر، ثم نسيت وغفرت، لكن من المؤكد ان أعظم درس في التسامح هو الذي تعطيه لنا الآن حين جعلتنا نراك غير غاضب أو حتى رافض للمرض.

كان هذا هو موقف أبي تجاه حالة مرضه. أما موقفه تجاهنا نحن، أبناءه، فهو أقوى وأجمل وأكثر إنسانية مما فاق خيالي. فأبي شديد السعادة بنا لمجرد أننا حوله! فبعد مرور ساعة واحدة على حدوث الجلطة بدأ يردد: "الحمد لله أنكما كبرتما لتكونا على هذه الصورة، فهذا يعني أنني قد فعلت خيراً في تربيتكما". لم يكف عن ترديد هذا المعنى كل بضع ساعات في شكل أو آخر. أليس من المدهش لإنسان في مثل هذه الأزمة أن يظل يرى كل ما في هذه الأزمة من إيجابيات؟ أليس هذا أمراً يحتاج إلى درجة عالية جداً من العذوبة ورقّة المشاعر وسمو الأخلاق... أن يستطيع الإنسان ان يحجم أزمته الشخصية ويرتقي فوق مشاعر الخوف والترقب والضعف - التي هي مشاعر إنسانية طبيعية ومفهومة تماماً في مثل هذه المواقف - لكي يملأ قلبه عن آخره بمشاعر السعادة بوجود أولاده حوله؟ أليس هذا أمراً هامشياً في مثل هذا النوع من الأزمات؟ خصوصاً أن سلوكنا هذا لم يكن يدعو إلى الدهشة، فلم نكن يوماً من أولئك الأبناء الذين أبدوا أي مؤشر للتخاذل أو ضعف الولاء تجاه والدينا. ولم يكن هو بالنسبة إلينا إلا أباً جميلاً معطاءً كريماً وهب لنا كل حياته وأغدق علينا حباً واهتماماً ورعايةً. فلماذا يلتفت بشدة إلى وجودنا حوله في أزمته؟ كيف وجد في عقله وقلبه مساحة لملاحظتنا وهو في مثل هذه الحالة؟ أظن أن حالات المرض والألم هي الحالات الوحيدة التي يحق فيها تماماً للإنسان أن ينشغل بذاته فقط، بل أن يترك المقربون كل ما لديهم لينشغلوا به أيضاً.
غير ان هذا الرجل هو أبي الجميل الذي حين سقطت عنه كل أقنعته - من دون قصد منه - تكشف عن وجه أكثر جمالاً وعذوبة وإنسانيةً مما كنت أظن... وأنا التي كنت أظن ان الله أكرمني بأفضل الآباء على وجه الأرض.

لذا، فبدلاً من قلقي وترقبي للحظة التي يعود فيها جابر عصفور إلى طبيعته التي اعتدتها طوال عمري قررت ان أستمتع بهذا الحضور الجديد الموقت لأتعرف أكثر على دفء مشاعر وطيبة ورقّة وروح دعابة أبي الحقيقية. ادعوا معي له ولكل مريض بالشفاء التام.

الحياة - 2005/04/10