سركون بولص
(العراق/امريكا)

سركون بولصلا أخفي عليكم أنني أنا أيضا
أفكر أحيانا بماهية الشعر بخطورة القضية
بنوع من التوبة كما هي حال الجميع وفقر العصافير الأسطوري وفي أغلب الأحيان وأنا نائم أحلم أنني أتعثر برجل نائم تحت جبل وأركله لأوقظه برفق أولا ثم بتهور وصراخ حتى يستيقظ، و يوقظني وأحيانا يكون الفرق الوحيد بين الحياة والنوم هو هذه العلاقة الزجاجية بين المصادفة والقصد بين أن تستيقظ بنفسك، أو أن توقظ، بواسطة حذاء حتى إذا لم يكن هناك جبل حتى إذا لم يكن هناك!

ذات فجر يقع المحذور برمته ودون مصالحة
كما يقول صديقي الذي كتب أطروحة عن صمت أبي الهول لنيل شاهدة الدكتوراه باليانصيب ذات فجر يقع المحذور ينتقل فيه نبع القرية من وراء السياج إلى فم رجل نائم يرصّعه الظمأ يحلم أن فرقة مدربة من الأعداء تهيل الصحراء بالرفش وطوال الليل في قصبته الهوائية، دون كلل، ذات فجر عندما يقع المحذور ويحظر التجول ويفشى السر تحت شبكة الأحكام العرفية غيمة واطئة تركب أبخرة النهر تتلصص على النائمين في ضفتيه بثقوبها المطرية الاثني عشرة، أو ربما كنت أؤمن ببساطة، أن هذه التورية هي المسؤولة ترفع بالسطل مخلوقاً أخضر كان ينام بانتظاري في بئر السبعينات ومنذ الطفولة أو ربما كنت أؤمن ببساط الريح إيماناً أعمى لا يشفيني منه علماء الجاذبية حيث القصائد لا تحتاج إلى مجذاف لتعبر بنا جميعاً إلى الضفة الثانية وكل كلمة فيها، كوّة سرية يتجسس منها الماضي على الأحياء.

في حالات كهذه عادة أحوم حول أسوار العالم حيث أسجل في دفتري مواقع الثغرات بدقة وأضيفها إلى الخارطة بالمسامير أفكر بجبران بن خليل يسير في نيويورك بشجاعة الحالمين، بأبي فراس أسيراً في بلاد الروم يخاطب (على بحر الطويل) الحمامة وعندما أكاد أنسى العربية اغمض عينيّ وأحلم لأستحضر المعجم من الذاكرة في رأسي مركب نوح في بحبر متلاطم من المخلوقات تدوزن كل سمكة فيه حراشفها وهي تسبح في / على عتبة / خارج نافذة مشرعة على مصراعيها وسط لساني موسيقى ربع اللحن بيات أصفهان سيكا همايون الشرق يدندن على العود في آبار الجهة الغربية وعلى حين غرة وعنوة وبالكاد ولكن تماماً كأنما في موسم للرجم بالحجارة يصب فيه الجميع سخطهم على النوافذ في قصور الذئاب المالكة يظهر راوية ذئب مهلهل الثياب حاد يهلهل هامساً يهمهم بالهلاك يروي عليّ كالسيل ويل الشعر: رأس مشعث يثب من مناماتي من قراب ذاكرتي من حجارة المعرّات حيث الشعراء يطالبون بأن يسمَلوا ليفتحوا حواراً مع رهين المحبسين أو أقرب العميان يهمهم بالهمس يهلهل بالهلاك كأنني فتحت حنفية المحيط بمطرقة يروي عليّ كالسيل ويل الشعر رعش الليل وقيل إن شاعرا جاب ممالك مؤرقة تحكمها بمشاعل من ذهب خالص رعشة وحيدة تحاول الفرار من ثغرة في رسغه كان يجلس في الإيوان المهيأ لذوي المظالم البعيدة كان يجلس في الديوان المهيأ لرمل لا يعرف مستقراً ينتظر قافلة منسية في بئر الآلاف بيدين ضارعتين ديباجاً ترفوه يداه اللتان تتجاهل إحداهما الأخرى وحبراً وفيراً يسيل على حين بغتة إلى وريد البائية الأبهر من قبر الحائية الكبرى من يديّ الأعمى الذي نظر إلى أدبي بعينه الثالثة وبكى

كان رحمه الله يصبّ العزلة في إناء من الفضة كل مساء أو نحوه و ما إن يشرف الغروب على الهروب وإذ يرفعه إلى شفتيه (أي الإناء لا المساء) كانت والله أعلم (هنا قد يهر الراوية كتفيه أو يقهقه بجنون أو ربما يجهش بالبكاء) أفعى رقشاء مكحولة العينين بتوابع الزوابع الرمادية تصعد بدلال وغنج من باطن الإناء وتقصد الراحة في حاجبيه الكثين= رأس يثب فجأة من خندق فمي حين أفتح شفيّ من الظمأ يتسلق أسناني أكياساً من الرمل هاجماً إلى الأمام شعره مشعث ولكن في فمه كالإعجاز تتذأبن الحمامة يهدل الذئب يذكرني بالحروب بالحصارات وأحياناً بحزن ينصب منجنيقات الضوء الصدئة حول قلعة أوهامي التي نهضت وتركت مكانها على التلة ذات ليلة
ذئبي الذي يهدل بين الخمائل بعذوبة، حمامتي التي تصيد الحملان لتذكرني بالطرق الطويلة التي قطعتها لتصل وتنقذني بوصولها من التبول في فوانيس القطارات ومضاجعة التلال المجنزرة بأفخاذ العذارى. ثم نامت الصحراء، واستراح التراب.

وجدت نفسي نائما في حانة السلحفاة والأرنب في حانة الكلب والثعلب ورجل الأعمال في حانة الخلد والفراشة والعظاءة والقرد بجانبي مقامر نائم تتدلى ذراعه من الكرسي وفي يده ملكة دينارية وجوكر. أطباء ملتحون، حلاقون وعارضات أزياء أساتذة وتجار ماشية وتجار أسلحة ومهندسون يدللهم الحاكم والنائب والله
وتحرسهم الدولة بالمدافع بحياة آلاف الشعراء والعاطلين إذا اقتضى الأمر يتقاضون أجورا عالية لن أطالها حتى في أكثر أحلامي تفاؤلاً في عطلة رخية على المحيط الهادي تحت القمر الغربي الذي يحمل كتابات بالإنكليزية وبالروسية في جانبه المظلم، لافتات في “بحر الهدوء” تعلن مالكيه
وجدث نفسي نائماً في الجانب المظلم من العالم أثقب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذر يربطني بك، أنت، دائما وحتى أنني أتردد في أن أسميك لأنك، لست امرأة أو الأرض أو الثورة ، شجرة فقيرا حذاء في الطوفان لا أسمي أحدا بالضبط لكنني أريدك أن تشعر بخطورة القضية! لكننا نبدأ عادة بالبداية أي الخروج بكل ما نملكه من الصدق نحو الفريسة التي ستقودنا إلى قلب المعنى لأن المعنى دائما هناك يدخن صابرا في نهاية القصيدة
منتظرا وصولك وهو يبتسم باحتقار وأنت تلهث أو تبكي أو تصل بقدم واحدة أو مشلولا من النصف أو ميتا من التعب يطاردك الدائنون بهراوات القانون أو في نقالة المرضى أردت أن تكون هذه قصيدة تجرب فيها أن تهاجم نفسك بالقلم والجوع والمشاعل والحجارة؟ ليصب بعض الدم في حضن القارئ؟ لكنني ويجب أن تصدقني (أعلم انك ستصدقني) أؤمن بأنها ضرورية إيمانا غريبا يفاجئني لأنني لست واثقا من نفسي حين أقول هذا!

لذلك أخرج لأشتري علبة سجائر في أعماق الليل وأزور صديقي لنناقش الشعر ونقذف المسبات في وجه الغرب حيث نعيش كلانا مؤقتا بالدين وبنوع من الشعور العميق بالعمى والتبول بإسهاب على تابوت الرأسمالية الباهظ التكاليف كأننا شربنا برميلا كاملا من البيرة الرخيصة.

أطرق على الباب ثم أطرق على الباب ثم أصيح ولك قواد! لك أخي افتح يا هذا وأسمع حركة متراجعة كالريش نحو الأعماق ثم صوتا بإنكليزية زنجية تشوبها لكنة فلسطينية لا تخطأ ولوا يا أولاد القحبة ماذا تريدون لن أعترف لكم لن أعترف ك، س، م، ح، (غمغمة غير مفهومة بأية لغة (ضحكات يائسة بالعربية)
الصباح أذهب إلى فلمور وهو حيّ الزنوج في سان فرنسيسكو على طريقة هارلم في نيويورك لأزور صديقي الفلسطيني في دكانه المسيج بالقضبان (جميع الدكاكين في أحياء الفقراء بأمريكا مسيجة بالقضبان) صباح الخير كيف الصحة أبو الشباب؟ وكأنه يقذف باتجاهي قرحة مزمنة: بلاد العرصات بدك تشنق حالك، مش هيك؟
بيخلوك تروح تستأجر شجرة! وإلا عمود تلغراف؟ كيف حال الشعر هذي الأيام؟
لعلك أدركت قصدي، من الواضح كما ترى أنني أهدف إلى شيء غامض قليلا لأنه لم يكتمل بعد وأقول هذا بمنتهى البساطة أيها الصديق لا أريدك أن تسيء فهمي هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة أذكر هذا لكي لا تتهمني بأنني تأثرت في كتابتها، بشاعر “عالمي!”

أي شاعر يخاطر بالكتابة على هذا النحو لن يكون حتى محليا! وسيقضى سنواته الباقية بعيني نسر محموم أو رجل ينتظر زيارة صاحب البيت الشهرية وهذا يعرف جيدا أن الرجل الفقير لا يستطيع أن يدفع الإيجار لكنه مع ذلك وللتسلية، أو إشباعا لنزعة غريبة في الإرهاب، أو ربما لأن الكلب يعرف أن شرطة العالم والتاريخ كلها تقف من ورائه يقرع الباب بحذائه، وخصوصا بالكعب المليء بالمسامير…

سيقضي سنواته الباقية إذن بانتظار الجلاد الذي سيأتي متنكرا ببدلة ممرض رسمي طيب القلب يخفي وراء ظهره سلسلة حديدية وسترة للمجانين.
ابتسامته الكاذبة ستملأ الأرض بموضوع هذه القصيدة.

(سان فرانسيسكو 1975)