هاشم غرايبة
(الأردن)

رواية

كهف الغرباء

هاشم غرايبة.. صباحاً؛ عندما رأى المساجين يتجمهرون على شبك الساحة الداخلي، فيما قلم السجن يقوم بإجراءات تسجيله نزيلاً موقوفاً على ذمة المخابرات؛ تذكّر السيرك الذي أقيمت خيمته على الملعب البلدي في إربد قبل سنوات، وألهمه رسوماً زاهية نالت إعجاب معلّميه..
باص قريته نهاري لا يعمل بعد المغرب. والسيرك ليلي! اختار عسّاف جحشاً سائباً على البيادر، وقال لاثغاً حرف الرّاء: (تعال نركبه، ونروح السيرك).. ركبا الجحش، وذهبا ليتفرّجا على السيرك..
يتذكر أنه تفرّج على السيرك مع عسّاف، لكنّه لا يتذكر كيف توصّل عسّاف إلى صفقة مع متعهد السيرك الذي اشترى الحمار طعاماً لنمور السيرك مقابل دخولهما الخيمة.. وعادا مشياً على الأقدام..
وذهبا مرّة مع أصحابهما إلى إربد لحضور فلم "سنجام" الهندي الذي استدرّ دموعهم لخمس ساعات متّصلة!.. وعادوا ليلاً على ظهور الدواب يغنّون.. (ميري منكي جمنا، ميري منكي جمنا..
بور راسا بور سنجا، بوقا كي ناهي.)
- مرحبا ابن عمي!.. الحمد الله ع السلامة.
ميّز وجه عسّاف بين الوجوه المحتشدة على الشبك الداخلي للسجن، وهتف بفرح ملوحاً بيده: ميغي منكي جمنا..

* * *

لما ترفّع إلى المدرسة الثانويّة في إربد.. صار يمرّ كلّ صباحٍ وهو يصعد التل إلى المدرسة من أمام السجن الرمادي العتيق الذي يطلّ على المدينة الخضراء متوعداً.. فيتخيّل كائنات متمردة خلف القضبان تزمجر محاولة أن تكسر أقفاصها، أو تقبع في الزوايا متظاهرة بالانصياع فيما تفكّر بالهرب!
الآن وقد دخل القفص تحضر ملهاة "النمور في اليوم العاشر" لزكريا تامر.. يتساءل بمرارة: هل أنا في اليوم الأول؟..
- لماذا تحمّلت ثلاثة شهور من العناء في زنازين المخابرات؟!
ابتلع مرارة السؤال، وتوقّف عند الخطّ الفاصل بين الظلّ وبين سطوع الشمس، واستدار يستمتع بالشمس الصّاعدة من الشّرق.. فالخروج من مبنى المخابرات إلى السجن يعدّ فرجاً بعد التحقيق، والشّبْح، والفلقة، والإضاءة الساطعة على مدار الساعة..
كأنما كان يمارس نوعاً من التنويم الذاتي لحواسّه، فيتحمّل الفلقة، والفروجة، والضرب في "ساحة التحقيق" على أنحاء جسمه بعصي الخيزران.. وبعد كلّ جولة يُلقى به في الزنزانة مدمى وسعيدا!!!.. فيوطّد العزم على تجاوز ساعات "الشّبح" بحزم؛ حيث كانوا يربطون يديه إلى قضبان الكوّة الكحليّة في أعلى الباب، ويبقى واقفاً زمناً رصاصياً لا يدري هل هو مستقطعٌ من الليل أو النهار.. يستعين بأحلام اليقظة لمواجهة الزمن، يتخيل نفسه في كوكب آخر يلعب مع "الأمير الصغير"، يستحلب رائحة الياسمين من ذاكرته، ويفكّر في لذّة التحدّي بصمت جريء منتظراً لحظة الفرح الخارقة حين يفكّون يديه!..
كان الضرب أهون من الشّبح، ربما لأن الخيبة كانت ترتسم على وجه الخصم بوضوحٍ أمام ناظريه!.. أما "الشّبح" فيضعه أمام جدار الزمن المصمت.. إلى أن يفكّ قيده حارسٌ لا يبدي شماتة، ولا يجرؤ على التعاطف..
وجاءت ساعة مختلفة عن كل الساعات التي واجهها بعنادٍ وثبات.. واجه خلالها وسيلة تعذيب مبتكرة لم تخطر على باله، ولم يقرأها في الأدبيات الحزبيّة التي تتحدث عن تجارب الآخرين: أخذوه إلى "الساحة"، كلبشوا يديه إلى الخلف. ربطوا إبهام رجله إلى تمرة عضوه بخيط نايلون قصير!!.. وقفوا يتفرجون عليه! لم يتذكّر شيئاً من [حكاية الأمير الصغير] ، ولم يفكّر بالياسمين، لأن جسده أُنهك خلال دقائق، وداهمه ألمٌ لا يطاق يشعّ من سلسلة الظهر، ويصعد إلى الرأس مثل كرة من لهب! حاول استحضار أحلام اليقظة التي برع بها ساعات "الشّبح" على باب الزنزانة فلم يفلح! وفي لحظةٍ بالغة القسوة شعر كأن مسنّنات دماغه تتفكك، وتدور عارضة صوراً وأفكاراً خارج السيطرة! فزع فزعاً شديداً، ورفرفت راية الاستسلام غائمة في خاطره..
لحظة قرر الانهيار، أغمي عليه!..
لما أفاق؛ تفقّد عضوه فوجده متورماً.. داعبه فتحرّك. اطمأن وعاود النوم.. نام نوماً عميقاً وبلا أحلام.. بعدها توقّف التعذيب!
هل حقاً توقف؟
وجد نفسه وحيداً في عتمة اللمبة المضاءة على مدار الساعة! يواجه الزمن بثقله وتوقفه وعناده.
الوحدة صحراء تكافح لبّ الروح. في العزلة يطير الطائر ما بين المنكبين أربعين خريفاً لا يصل..
صار يتمنّى جولة من الجَلدِ تؤنس وحشته، وتعيد ذاكرة الياسمين إلى خياشيمه!
ليلة في العزلة كألف ليلة مما تعدّون.. ما أصعب أن يعاشر الزمن وجهاً لوجه بلا شريك.. يواجهه في توقفه وتخفّيه.. الزمن لا يُرى نهره في العتمة الساطعة، ولا تدرك ضفافه عبر التكرار الصارم لوجبات الطعام، ومواقيت الخروج إلى الحمّام!..
بعد زمنٍ لا يدري مداه، انضمّ إليه في الزنزانة زميلٌ من حزب التحرير الإسلامي آنس وحشته!.. فأينعت شجيرة الياسمين في روحه، واتسعت الزنزانة أضعافاً مضاعفة بوجود شريك يقص عليه حكاية الأمير الصغير، فصار المكان قاعة للمناظرات، وملعباً للشطرنج، والسيجة، والضّامة، والقطار، والغولف أيضاً، وساحة للرهان على عدد النملات في الغرفة، ومكونات فطور الغد، وشكل الخفير المناوب.. وصاروا يعاملونه معاملة حسنة حتى ظنّ أنه سيفرج عنه..
ذات مساء جاء المحقق المناوب لتفقد الزنازين..
قال للتحريري: انصحه لزميلك. شيوعي متيّس. بده نصير مثل روسيا.. الناس هناك يحلموا ببنطلون جينز ما يطولوه. الستات هناك يشرمطن مشان علكة. همبرغر ما عندهم.. هأ هأ هأ.. وبالصين الشيوعية ما يعرفوا الخبز!
ردّ التحريري بنجابة جاءت في غير وقتها: خذوا الجينز والعلكة والهمبرغر.. والخبز كمان. مقابل أنتمي لأمة عظيمة، ودولة صاحبة قرار!
- هلا هلا، هاي متفقين علينا.. فرقوهم!
فرّقوهما، وعاد الفتى بغط إصبعه بمرق البندورة، ويرسم على الجدار [أفعى بواء تهضم فيلاً ]!!
في صباحٍ ما، سمحوا له بالاغتسال، وألبسوه ملابسه العاديّة! وسمحوا له بمقابلة والده..

* * *

في ساحة السجن، تزاحمت على لسانه استفسارات كثيرة لم يطرحها على ابن عمه عسّاف النصّاب الذي استقبله بحفاوة، وحمل "برشه" وبطانياته بمبادرة ودودة..
في زنازين المخابرات كان ينام على فرشة اسفنج تعدّ وثيرة بالقياس إلى هذا البرش المعفّر برائحة بودرة الـ "د.د.ت"، ويبدو مثل بساط صغير لحمته من بطانيات قديمة مسرّدة إلى قطع طويلة، وسداه خيطان قطنيّة غليظة!
عسّاف يكبره بسنتين، ولكن السنتين تعتبران فارقاً كبيراً لمن هم في مطلع العشرينات من أعمارهم، وتلزم عسّاف بواجبات ابن عمه الأصغر..
تجاوزا حوض ماء يسمّونه هنا "البركة"، وقطعا خط سير ثلة من الأفنديّة ببدلات وربطات عنق وأحذية لامعة.. وهم يذرعون الساحة ذهاباً وإياباً بخطى سريعة، وجديّة عالية، غير آبهين بالظلّ وبالشمس!.
علّق عسّاف: (أفنديّة الدار البيضا).. تفاجأ الفتى أن هنا أفنديّة، ويقطنون داراً بيضاء!..
زغردت امرأة في مكان ما! ضحك عسّاف: (يمكن واحدة منهن أجاها إفراج).. وأشار إلى الجهة الجنوبيّة الشرقيّة قائلاً بلا اكتراث: (سجن النسوان)!
احتفظ الفتى بتعجبه لأن المشهد الذي أمامه صار أكثر غرابة: رأى ثلّة من الأولاد مشطّبي الوجوه، موشومي الأذرع، يغطسون في حوض ماء يتوسّط الساحة، ويتراشقون صاخبين.. نهرهم عسّاف مرغرغاً حرف الراء: (لا تطغطشونا بالمي..)
أول سؤال خطر على باله: لماذا يمشي المساجين بسرعة؟ إلى أين هم ذاهبون؟ لم يسأل.. فقد تعلّم في الزنزانة التعايش مع الغموض.
دخل عسّاف "ليوان" عميق يفصل بين بابين عريضين، واتجه يساراً إلى "القَاووشْ"; الجنوبي، فتبعه الفتى.. شعر كأنه يدخل "مغارة". المكان معتم، وتفوح منه رائحة عطنٍ عتيق، وأمونيا حادّة مختلطة برائحة بصل مقلي!
القَاووشْ ليس فيه ميزات تذكر سوى باب حديد عريض، أما في الدّاخل فالأرضيّة كلّها مفروشة بالنزلاء.. ورأى خيطاً من البراغيث يتسلّق إطاراً خشبياً خرّمه التسوّس لنافذة نصف نافذة، يتدلّى عليها عنكبوت ترثو نسيجها بصبر وأناة..

* * *

عسّاف يتردد على السجن منذ نعومة أظفاره.. فقد بدأ حياته المهنيّة وهو في الصّف السادس عندما كان يبيع "سجائر فرط" للطلاب، واتضحت مواهبه يافعاً عندما استفاد من حقيقة الوزن النوعي للزيت.. فباع طناً من زيت الزيتون لتاجر في عمّان، واكتشف التاجر أن الصّفائح مليئة بالماء الذي يطفو على وجهه بعض الزيت..
صدق المثل القائل: (النصّاب أكل مال الطماع!)
جعبة عسّاف في النصب والاحتيال لا تنضب، لكن خبرته كسجين ساندت الفتى في سرعة الاستقرار في هذا المكان العجيب.
أفسح عسّاف مكاناً لابن عمه "الغر" إلى جانبه بلا اعتراض واضح ممن حوله.. وكان ثلّة من المساجين يتناجون في الركن الجنوبي الشرقي على مقربة من الفسحة الضيقة التي فرش فيها برشه.
ازدحام فظّ، لا يوجد مكان لشيء لا على الأرض، ولا على الجدران.. كلّ مساحة إصبع مستغلّة بطريقة ما..
السقف ينبعج إلى الأعلى، وحجارة قباب السقف الصّغيرة مكشوفة؛ ويتدلّى من بين مفاصلها جدائل أسلاك كهربائيّة عشوائيّة، وحزم أمتعة، ودلاء بلاستيكيّة، وملابس، وأدوات طبخ مشحبرة..
في الجدار الغربي كوّة سوداء عالية، تسمّى شباكاً، وإلى الشرق شباكان استعملا كخزائن لحاجيات المساجين، وما بينهما كتابات "مسماريّة" مخطوطة بمسمار أو أداة حادة على سواد الجدار..
السجن للرجال..
كلّه من النسوان..
"خولقت" للعذاب..
(سيشاهد ذات العبارات مقترنة بخنجر أو قوس وسهم أو أفعى.. موشومة على سواعد وأكتافٍ وصدور كثيرة هنا..)
قال "ختيار" ذو أنف ضخم من الذين يتناجون في الركن:
- ظل حدا هناك؟
ردّ الفتى باستغراب: وين هناك؟ شو قصدك!
- في إربد.
- ناس؟
- ناس!
- طبعاً.. كثير.
- رح يظلّوا هناك مدة طويلة؟
- إيش مدة طويلة؟
- هاهاها
انفجر الجمع بالضحك.
قال الرجل الذي يتوسط الثلاثة: الأخ حرامي؟
ردّ عسّاف مرغرغاً حرف الراء:
- أبوك "حغامي".
توجّه الرجل إلى الفتى:
- لا تزعل مني.. أنا "أبو حديد" شاويش السجن، طبعاً علي أن أعرف كل شي. شو قضيتك؟
رد عسّاف: سياسي.
- إيش سياسي؟
شعر الفتى بكلمة "سياسي" كبيرة عليه.. فسكت، ولم يجب..
الرجل الثالث ظلّ مطرقاً وصامتاً!.. لكن وجهه بدا مألوفاً للفتى.
تابع شاويش المهجع استجوابه: الأخ فدائي؟
رد عسّاف: حزبي.
قطع الاستجواب دخول شاويش حقيقي صغير الرأس، سمين الجذع، رفيع الساقين، يتهادى مثل بطّة، بيده ورقة وينادي..
- عماد الحوّاري..
وقف الفتى: نعم.
- تعال، المدير يطلبك.

* * *

خرج عماد مع شاويش الشرطة..
- أسرع.. يديك ورا ظهرك.
نفّذ.
اجتازا الساحة، ووقفا بين البوابتين..
كانوا يقتادون سجيناً جديداً..
- مرحبا حيدر.
- أهلاً يونس.
(ردّ الشاويش على شرطي آخر)
- هات سيجارة.
- "لولو"..
- إن شالله هيشي. محشش.
- لص؟
- لأ.. قاتل، وسجينك؟
- شيوعي.
- عوذا..
أشاح يونس جانباً، ومال بجذعه الطويل مثل صندوق العجب، وتفل في عبّه ثلاثاً!
غمز شرطي ثالث ذو سحنة مصفرّة الشاويش حيدر، وهزّ رأسه باتجاه درج داخلي يصعد إلى الإدارة، فأخذه حيدر إلى مدير السجن.

* * *

تكرّر الطلب، وصارت زياراته لمدير السجن منتظمة يومياً لأسبوعٍ قادم حتى صار الأمر لا يطاق لكليهما.. وصار عماد يعرف ماذا سيقول المدير، وماذا سيفعل. وإلى أين ينظر.
.. سيخرج قلم Bic من جيب سترته العلوي.. يخرجه.
سيدقّ الطاولة بأسفل القلم دقّات رتيبة.. يدق.
سيسحب غطاء القلم، ويثبته من الجهة الأخرى.. يثبتّه.
سينفخ في كفيه.. ينفخ.
سيقرأ الورقة التي أمامه.. يقرأ:
(أنا الموقع أدناه، أستنكر الحزب الشيوعي الهدام، وأعلن ولائي وإخلاصي لجلالة الملك المفدى، ولحكومته الرشيدة.)
سيقول: وقّع هنا.. يقول.
سيرمي المدير القلم على الدفتر بضجر.. يرميه.
سيلقي فروته عن كتفيه.. يلقيها.
سيقوم إلى المدفأة في وسط الغرفة.. يقوم.
سيرمي طاقيته على الطاولة.. يرميها.
سيمسح صلعته براحة كفه.. يمسحها.
سيعود للجلوس إلى الطاولة.. يجلس.
- يا إلهي ما أضيق عينيه!
الحاج "مُلقي" مدير السجن رجلٌ طيب، يعرف بحدسه أن انصياع سجينه للتوقيع سيكون خدمة لا تنسى "للباشا".. لقد حوّلت دائرة المخابرات القضيّة إلى المحكمة، لماذا يُقحم نفسه في هذه المهمة؟ هل يُشفق على الولد؟.. ربما، لعلّ الدافع وراء هذه المناورة اليوميّة هو كسب رضا الباشا..
أثناء هذه المواجهات لم يكن يفكر بالدفاع عن أنبل وأصعب فكرة راجت في القرن العشرين، ولم تحضر مقولات ماركس ولينين، ولا كان يدافع عن برنامج الحزب الشيوعي الأردني.. كانت لعبة "مجاحرة" تنتهي بفعلي أمر متلازمين:
(اعترف!!!!!.. استنكر!!!!!)
فلم يجد غير غصن الياسمين يتمسك به، واسترجاع حكاية الأمير الصغير يتسلى بها، والعناد يستمتع بإشهاره سلاحاً يرسم الخيبة على وجوه خصومه!..
ظلّ وفياً لرائحة الياسمين، ويشعر بسعادة غامرة كلّما أمعن في العناد..
يعاود الحاج مُلقي الدقّ بالقلم على الطاولة بملل.
- إذن ستواجه المحكمة.
...
- إنها محكمة عسكريّة..
...
- لا تمييز ولا استئناف..
...
- عشر سنوات مقابل التوقيع على سطرين؟!
في البداية كان يقول كلّ جملة على حدة، وينتظر الرد. ثم صار يختصر فترات الصّمت بين الجمل؛ حتى وصل به المطاف إلى قولها سريعة متتابعة وكأنه يُسمع محفوظة: إذن ستواجه المحكمة، محكمة أمن الدولة، إنها محكمة عسكريّة، لا تمييز ولا استئناف، عشر سنوات مقابل التوقيع على سطرين.
لما سمحوا لأبيه بزيارته في مكتب مدير المخابرات، هتف به حانقاً: انت مجنون ولك، تقبل يحكموك عشر سنين بدل التوقيع على سطرين حكي، لا يزيدوا بملك سيدنا، ولا ينقصوا من طولك فتر!
ردّ مبدياً خفّة دمٍ راقت لوالده: يابه أنا واحد مجنون زي ما بتقول، لكن الحكومة مجنونة تسجن واحد عشر سنين من شان سطرين حكي؟..
أطرق والده، ووجّه شتيمة دارجة للحكومة: (خرا على هيك حكومة).. وتظاهر المدير بأنه لم يسمع.

* * *

خلال زمن قصير اكتشف عماد فوائد الهرولة في السجن!.. وتعوّد دقّات كنيسة الروم المجاورة أيام الآحاد. وتعرّف على أصوات الباعة غرب شباك المهجع الذين تتغير نداءاتهم وألحانهم حسب بضائعهم، وصار يصغي لنغمات الطبلة والزغاريد خلف الجدار الشرقي.. وتخيّل نساء مارقات شهيّات يرقصن شبه عاريات هناك..
صار له حيزٌ على الحائط بعرض تسعين سنتمتراً يعلّق عليه أشياءه. وله امتداد هذه التسعين سنتمتراً على الأرض مسافة متر ونصف، فعلى نزلاء السطر الذي ينام فيه أن يثنوا سيقانهم عند النوم ليلاً ليفسحوا المجال لمن ينامون في "المَرْدَِوان"، أي الممر النهاري المتاح بين السطرين الشرقي والغربي..
مفردات مثل (الكناش، البرش، الفورة، القاووش، المردوان) ظلت حية من أيام الحكم التركي.. ومتداولة فقط في السجن!! وكأن السجن له جيناته الخاصة التي لا تتأثر بالزمن، ولا تكترث لتبدل الأحوال!
ونزلاء الممر ليلاً هم "الزُّقْرُط".. عامّة المساجين الذين لا حول لهم ولا قوة، يقضون وقتهم في شكّ الخرز، ونسج جرزات الصّوف، وعمل مسابح طويلة من نوى الزيتون..
تعوّد عماد أن يسهر في الليل، وينام بعد أن يفرغ المَرْدَوَان من نزلائه كي يمدّد ساقيه بطولهما!.. فيرى العجب: الشخير والنخير. وذاك الذي يمشي وهو نائم. والذين يتبادلون المواقع لأسباب غامضة. والذي ينام جذعه على الأرض وساقاه مستندتان إلى عمود الوسط..
عند قدميه مباشرةً كان ينام لصّان "خلف خلاف"، أي رأس هذا عند قدمي ذاك، هما أبو زهرة والقط.. استيقظ أبو زهرة على ارتعاشات جسد القط، ولهاثه المريب.. استند مستنكراً: شو فيه؟!
وضع القط قدمه في صدر أبي زهرة المشجر بالجروح الملتئمة، ودفعه: انطم ولك. عيب تتجسس على أحلامي..
عش رجباً ترى عجبا!.. لولا عسّاف لكان مبيته بين هؤلاء في الممر.. لكنّه "محظوظ!" لأنه صُنّف مع عسّاف في الطبقة الثالثة من النزلاء.. فالسجناء هنا خمس طبقات حسب تصنيف الختيار:

  1. العفش: لأن عفشهم؛ أي فراشهم وأغطيتهم وأوانيهم وطعامهم من خارج السجن، وهم سكان الدار البيضا."النخبة المختارة"، سند الإدارة في تنفيذ قراراتها، وترويج إشاعاتها، والنموذج الرسمي للانضباط، والخضوع، قدوةً لعامة المساجين.
  2. النواطير: عرفاء المهاجع ومن وازاهم أو حاباهم أو رشاهم.. ويحتلّون زوايا المهاجع، ويتنافسون لاحتلال أحد الشباكين لاستعمالهما خزائن بالغة الأهميّة.
  3. النزلاء: نزلاء السطور الأربعة المستندة إلى الجدران مثل أصحاب الدكاكين، والذين يتلقون دعماً مالياً من ذويهم مثل عماد..
  4. الزقرط: وهم "الكادحون"؛ ينامون متراصّين خلف خلاف؛ ويتكوّرون على أنفسهم في المساحات الميتة حول قواعد الأعمدة الضخمة.. هم أول من يستيقظون صباحاً، وينامون بعد تناول وجبة العشاء مباشرة.. منهم الذين يعملون في المطبخ، والتنظيفات، والمشاغل؛ يصلحون المعطوب، وينسجون الأبراش من البطانيات المهترئة، ويصلحون البريموسات.
  5. السفراء، وهم شمّيمة الآغو، والسكرجيّة العابرون، وضرّيبة الشفرات، والنشّالين، ومن لا والي لهم ممن قُبض عليهم في "ظروف تجلب الشبهة"، ولا قضايا واضحة يحاكمون عليها! يخرجون من السجن ويعودون إليه بين عشيّة وضحاها.. لا مكان محدداً لهم في السجن، ولا خارجه! لذا فهم "سفراء" رُحّل دائماً.. وفي سجن عمّان لهم مهجع خاص بهم يسمى السفارة!

.. قد يرتقي "النزيل" إلى مرتبة أعلى، وقد ينزل إلى منزلة أدنى. ولكن لا مناص من ذكر ملحق خاص بفئتي "التنابل" و"العصافير": العصافير هم أعين الإدارة، وآذان الأجهزة الأمنيّة الكثيرة.. ويغضب واحدهم إذا نعتّه بالعصفور.. وهم مبثوثون على درجات السلم الخمس كلّها.. ومثلهم فئة التنابل الذين قرروا مواجهة الحبس بالتنبلة، والنوم، والتطنيش. موجودون في كلّ مهجع، وأشهرهم معالي الوزير، نزيل الدار البيضا.

* * *

يتم عد المساجين مرتين يومياً: العد النهاري ويتم بعد الغداء بوقوف المساجين في الساحة طابور بخمسة مسارب. كل خمسة بجانب بعضهم بعضا.. والعد الليلي يتم بأن يقف المساجين كل واحد على برشه ومن يتم عدّه يجلس.. ويعاد العد إذا لم يتطابق مع الرقم الإجمالي المسجل عند قلم السجن.
جاء الشاويش حيدر بعد تمام العدّ المسائي.. تخطّى أجساد النائمين في الممر بحرص، وجاء إلى حارة أبو حديد.. كان عماد مستمتعاً بالاستماع إلى المساجين، وهم يتبارون في تجويد حبكات قصصهم، ويضخّمون بطولاتهم في محاولة لإغرائه بكتابتها..
المساجين صادقون وقساة، وإذا شاب قصصهم بعض المبالغات المكشوفة؛ فهي تخرج من باب الكذب وتدخل فضاء التهريج، أو متعة الحكاية!..
شاركهم الشاويش حيدر الحديث. وتدخل بين لاعبيْ شطرنج..
- نخّش لحصانك يا بو زهرة.
- لا.. يعقط يا شاويش.
ضحكوا..
أخرج شاويش الشرطة ورقة وقلماً، وتوجّه لشاويش المهجع:
- طلباتكم يا بو حديد. شو ناقص عندك؟
- خير يا طير؟
- خالتنا الحكومة صايرة حنونة هالايام، شو السيرة!
نهرهم حيدر: مِشْ عاجبتكم الحكومة يا همل؟
- حكومة روعة. هاهاهاهاها
- مين قدّنا؛ شرطة، وأجهزة أمنيّة، وقضاة، ومحاكم يسهروا ع راحتنا.. هاهاهاهاها
- خالتنا الحكومة تقدم لنا الطعام مجاناً..
- قصدك العلف. هاهاها
- والخدمة الصحيّة مجاناً..
- أسبرين وبنسلين لكلّ العلل..
وتداخلت الأصوات في هذر ساخر، فأخرج حيدر صفارته من جيبه، في إشارة تحذيريّة، وقال:
- كل واحد يضب على اللي عنده. أنا فعلا مكلّف بنقل طلباتكم للإدارة.
- شو؟ الصليب الأحمر جاي تفتيش بكرة؟.
تدخّل الشاويش أبو حديد: خالتكم حنونة، وتسأل عن طلباتكم ليش الزعل..
أشهر الشاويش حيدر ذيل قلمه، وأشار نحو عماد: نبدا من عند الضيف..
ردّ عماد بجديّة ندم عليها: هذا سجن هذا؟ هذا اصطبل. زريبة..
سارع عسّاف بامتصاص تقطيبة الحاجبين التي ألمّت بالشاويش:
- أنا عندي طلبات يا شاويش.
- قول يا عسّاف.
قال عسّاف بفصحى ساخرة: أنتم لا تنظمون لنا رحلات سياحيّة.
(ضحك حيدر)
كرّت سبحة السخرية من جديد:
- راتبي قليل..
- كندرتي ضيقة يا شاويش.
- مرتي تطلب الطلاق.
غضب الشاويش حيدر، وهتف:
- من العمود وجوا كلّكوا محرومين من "الفورة" بكرة.
ردّ صوت من المَرْدَوان بدا نائماً طيلة الوقت:
- يا لطيف. حرمتنا من نزهة على شواطئ الريفيرا..
قال حيدر بمزاج رائق: انت صاحي يا نص نصيص؟ قوم فرجينا تمثيليّة..
قام القط يؤدي مشهداً كوميدياً، ويستقطب هدوء المهجع:
(ها هو القط يتقدم. ها هو يتناول ربع الكونياك.. بوغوص لا يترك القنينة قبل أن يتناول ثمنها. يفلت القط يده عن "بريزة" بحالها. يلتقط بوغوص البريزة. يعيد له قرشين.
- ثلاثة يا بوغوص.
- لما ترجع القنينة توخذ القرش. (يقول بوغوص).
يقلب القط الربعيّة في فمه. يأخذ نفساً عميقاً. ينفض رأسه فتهتز شفتاه، وينفخ منتشياً..
- ديزل!.. خذ الزجاجة يا بوغوص. لا ترجع القرش. أعطني بالقرش مخلل..
يأكل القط المخلل. يشعر برغبة في جرعة أخرى، بوغوص يقول له الدفع أولا.. ماذا يفعل المسكين؟
- هه. يسرق!
- وماذا تفعل عين الحكومة الساهرة؟
- تحبس القط..
- يسهرون من أجلي! هههه..
كأنه لا يوجد لصوص في هذه البلدة غير القط!)
هذه أول مرة يضحك فيها عماد من قلبه في هذا المكان.. لقد شخّص القط دور بوغوص بلكنته الأرمنية، وكرشه العريضة، ورموشه التي لا تكف عن الرفيف، وأدى دور الزبون الدايخ، وتقمّص عين الحكومة الساهرة.. لقد أدى المشهد بمهارة..
خرج حيدر وهو يضحك مردداً: مجانين. مجانين..
ونسي أن يخبر عماد بموعد محاكمته التي تقررت في 26/4/ 1977م!

محكمة..!

يبدو أن ذاكرة الألم قصيرة..
ألف عماد أناقة عساف، وخفّة القط، ووشم ذراع "أبو زهرة"، وشلاطيف أبو حديد، وصمت الشكيك.. وأنف الختيار المتورمة (لماذا تتضخم أنوف المسنين!).
انتظم إيقاع عقارب الساعة..
اليوم مثل الأمس مثل الغد؛ تماماً كما يعيش الناس الزمن خارج السجن!
نسي رائحة الياسمين، وألف البراغيث. وشميسة الصّبح، وحوض الماء، وشبك الزيارة الممتد إلى الشرق من البوابة الداخليّة . وتعوّد نكهة القضامة المتفحمة في قهوة الطموني، ترف النزلاء المتاح.. معدّاتها الشحيحة المعلّقة على الجدار بمساحة لا تزيد عن متر مربع؛ كافية لتزويد النزلاء بالشاي والقهوة: كاسة الشاي بقرش، وفنجان القهوة بقرشين.. وسيجارة الكمال بتعريفة..
اشترى عماد سيجارتي كمال وفنجاني قهوة، وجلس في ركن مشمس مع "الختيار" الذي كان ينسج له قلادة خرز..
رفع الختيار عينيه الكليلتين عن الخرز، وتحرّكت تفاحة آدم صعوداً وهبوطاً بين ثنايا رقبته المجعدة، وقال: شو عموه؟ أشوفك انسجمت مع حياة الزريبة؟
لم يفهم.. تفرّس وجه العجوز؛ كانت الحطّة المرقّطة بالأسود التي يرتديها دائماً حتى وهو نائم تلقي ظلالاً على أخاديد وجهه فتبدو أعمق من المعتاد.. حقاً إنه "ختيار" يُذكّره بكبير عمّال مطبعة "جريدة الصّباح" حين يجهده السهر.. (عمل في الصحيفة متدرباً الصّيف الماضي).
قدّر أن الختيار منزعج لوصف مهجعه بزريبة الدّواب..
- هون نام أجدادك قبل ما يسكنوا حواره.. آه، كان الحكم للبدو، وما حدا يسكن السهل.. بتعرف ليش؟
صمَتَ: عن ماذا يتحدث الختيار..؟
- كانوا يحصدوا محاصيلهم ويضبوها بالمغر والبيار، ويطلعوا ع الجبل، وباليل يشيلوا مونتهم منها أول بأول..
وازن "مِعْقَلَه"، وتابع: هيك كان الفلاح يسرق لقمته من سطوة البدو، وضرايب العصملي.. ما حكى لك أبو ك وجدك؟
فهم ولم يفهم.. وتشوّق لسماع الحكاية. وحكّ رأسه ليسأل عن أجداده وعلاقتهم بدار السرايا..
توقفت أصابع الختيار عن العمل، ووجه أنفه الضخم إلى كبد السماء:
- لكنه اليوم سجن، زريبة على رايك. الدواب تتعود مرابطها.. لكن الزلم ما تنربط!
بماذا يرد عماد؟ صمت!
- أنا تعوّدت وراحت علي.. لكن انت شاب بأول عمرك.. خليك صاحي!
ثم رفع رأسه باعتزاز: أنا ابن "التل"، بيتي ع الدرج هناك، درج التل ما غيره.. جنب دار المُكنست..
غصّ الختيار بدمعته، وتابع: أحسّ كأن بيتي بعيد عني بعد نجم سهيل.. تعوّدت! أوعى تتعوّد يا بني..
قاطعهما حضور عسّاف. وقف أمامهما، وهتف برعونة من يزفّ بشرى: اطمئن يا ابن عمي ما فيه محكمة!
مسح الختيار أنفه الكبير، وما سال على وجنته بطرف شماغه، وضحك: سلّمت تقاريرك وجيت يا عسّاف؟
لم يعره عسّاف اهتماما،ً وتوجّه إلى ابن عمّه بثقة: خبر من راس النبع..
رفع الختيار حاجبيه الثلجيين دون أن تكفّ أصابعه عن تحريك الصنّارة على خيط الخرز بمهارة، وقال داغماً حرف الراء على طريقة عسّاف: من وين عرفت؟.. من الملازم عطا الله؟!
سأل عماد بجديّة: مين الملازم عطا الله؟
قال عسّاف: سيبك منه، مخرفن، هذا خبر من عمي الباشا ذات نفسه.
ضحك الختيار: الباشا اللي حبسك؟!
رغم أن خبريّة: (ما فيه محاكمة!) لاقت هوى في نفس عماد. إلا أنه تظاهر بعدم الاكتراث؛ لأن عسّاف حقاً حُكم هذه المرّة سنتين بسبب احتياله على الباشا.. فقد زار الباشا في عمّان وقال له:
- يا عمي سودت وجهكم.. وأنا نادم.. يكفيني مشاكل. بدي أعقل وأصير آدمي، أرجوك توسط لي بوظيفة كويسة أكسب منها رزقي.
قال له الباشا: يا عسّاف ما عندك حرفة ولا شهادات.. ماعندك غير سجلّك العدلي..
- ولكني بودّي أتوب عن جد يا عمي.
- دوّر شغل بالسوق، واثبت حسن سلوكك.. بعدين يمكن نساعدك.
دفعاً للبلاء منحه الباشا عشرة دنانير، وأرسله مع سائقه الخاص ليوصله إلى باصات إربد. فما كان من عسّاف إلا أن طلب من السائق التوقف أمام محل أثاث فاخر..
- أنا فلان الفلاني. عمي الباشا.. وهاي هويتي.
- أي خدمة يا بيك؟
- الباشا يجدد أثاث داره، بدنا ثلاجة وغسالة وتلفزيون و.. و
صرف عسّاف بك سائق الباشا، وحمل غنيمته في شاحنة، وذهب ليبيعها في السوق!
وصلت الفاتورة إلى الباشا بستة آلاف دينار.. وسجن عسّاف!
سأل عماد ابن عمه عسّاف:
- بكم بعتها يا عسّاف؟
- بألفين.
-.. بعتها برخيص!
- أبداً.. هيه هيك بالجملة، انت ما تعرف جشع التجار!
- شو عملت فيهم؟
- اشتريت "فكسة" بيضا مثل الحمامة..
ما علينا.. ظلت تحوص في بال عماد حكاية (ما فيه محكمة..)
قال لعسّاف: قم نمشي..
مشى عسّاف مع ابن عمّه، وهمس له: الخبر أكيد لكن مو من الباشا.
- من مين؟
- من الحكومة..
- أي حكومة؟
الملازم عطا الله حكى لي.. وقال لي ما أخبرك، لكن..
- .. لا تكمل.
تركه، ورجع عند الختيار: مين عطا الله يا بو محمد؟
قهقه الختيار بصوت مجلجل: ما قلت لك؟!..

* * *

لما وضع رأسه على المخدّة عادت خبريّة عسّاف: (ما فيه محكمة) تطنّ في خاطره.. فاح عطر الياسمين في خياشيمه، وسرح يفكّر بالإفراج.. شعر أنه حرٌ كطائر يحلّق فوق جامعة اليرموك؛ يتذكر زملاءه وزميلاته، ووجبة الغداء على المسطح الأخضر.. ويبحث عن يقينه المتفائل أبدا بتحرير فلسطين ووحدة العرب والعدالة الاجتماعية، وعن اندفاعه الحار بالترويج لحق الناس في حرية التعبير وحرية التغيير!
أحلام اليقظة تذهب به إلى محاضراته في قسم "الصّحافة والإعلام" مع أساتذته وزملائه وزميلاته، ويتذكر تلك المناوبات الليلية في صحيفة الصباح العمّانية حيث كان يستمر الجدل بين الشباب منقسمين بين مؤيد لتدخل الجيش السوري في لبنان إثر اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وبين معارض لهذا التدخل.. ويسرفون في شرب القهوة والتدخين حتى طباعة النسخة الأولى من الصحيفة، فيهبطون مع أول خيوط الفجر مشياً إلى وسط المدينة ليتناولوا الحمص والفول والفلافل والشاي على رصيف مطعم هاشم، ويستعرضون مهاراتهم في رصد تفاصيل استيقاظ المدينة.
الآن هنا لا تراوده الأحلام الكبرى حول الحرية والتحرر، ويتراجع إحساسه بأنه فاعل في تغيير هذا الكون، وأنه جزء من مشروع إنساني يوحده مع أحرار العالم في كل مكان، ويكتفي بالإشفاق على أحوال المساجين.. يتذكر زملاءه الذين يضيقون ذرعاً بالمحاضرات وبالمناوبات الليلية في الصحف.. ولا يدركون متعة أن تجلس مع صديقتك على الرصيف المغبر، ولا يستمتعون حقّ المتعة بالجلوس تحت دالية الصّريحي الذي جعل حديقة بيته كفتيريا صيفيّة لطلاب الجامعة..
- آه يا صديقاتي كم أضعت من الوقت في مدح الاشتراكية، وفاتني أن أقول كم أنتن جميلات!
- آه ما أقسى أن ندور في باحة السجن بلا هدف..
- آه ما أروع أن نهيم في شوارع عمّان مع بزوغ الشمس!
- آه كم أحنّ لياسمينة بيتنا!
ختم تأوهاته بتساؤل له طعم القطران: لماذا أنا هنا؟.. لماذا أنتم هناك؟..

* * *

كان يقظاً لما نادوا عليه بعد أذان الفجر ليجهز نفسه للسفر إلى عمان!
جهزوا موكباً ضخماً لمرافقته:
وحده في "البوكس": سيارة المساجين التي يتسع مقعداها الخشبيان المتقابلان لعشرين أو ثلاثين سجينا. وأمامه سيارة نجدة تصرخ وي وي يويو ووووو، وخلفه سيارة جيب مسلحة بمدفع رشاش، وتوجّه الموكب إلى عمّان!
كانت المحاكمة أسرع مما توقع:
دخل قاعة المحكمة حيث كان المحامي عدي مدانات بانتظاره هناك..
قال الأستاذ: حكمك تقريباً جاهز، ولكن سأترافع عنك.
بعد قليل دخل مدير مخابرات إربد، ومعه ضابطان من جماعته، وجلسوا في مقدمة القاعة.. تبعهم رجلان جلسا في منصة الشهود.
دخل ضابط بنجمتين لامعتين، وسيم بشوش، وقف عند منصة مكتوب عليها "المدعي العام"..
سيجحره.. "جحره"! البحلقة في عيني الخصم بوجه صارم عادة أردنيّة أصيلة!.
أعاد المدعي العام ما كان يقوله الحاج ملقي.. الفرق الوحيد أنه لم يمسح جبينه براحة يده.
بعد صمت قصير، قال: لا حاجة بنا لاعترافاتك، ولا لتوقيعك.. المحكمة ستقرّر..
جلس في قفص الاتهام، وصاح جندي عليه وشاح أحمر:
- محكمة..
وقف رجال المخابرات الثلاثة، والمدعي العام، والمحامي والشاهدان.. الشرطيان اللذان يخفرانه كانا واقفين بجانبه سلفاً مثل الرقم عشرة، يونس طويل ورفيع، وحيدر قصير وسمين..
لم يقف عماد لأنه لم يكن يعرف أن عليه الوقوف..
دخل القاضي ومعه عضوا اليمين واليسار، ووقفوا خلف المنصة، وكان الأستاذ المحامي يشير بيده هاتفاً:
- انهض. قف..
لكن عماد تنّح..
[كبار السن لا يفهمون شيئا وحدهم، وإعطاء الشروحات يتعب الصغار.. لا يريدون أن يفهموا أن الرسم ليس صورة قبعة، بل هو لأفعى بواء تبتلع فيلا.]
خرج القاضي يتبعه العضوان غاضبين، وانقلبت الدنيا..
المحامي يوضّح. وضابط المخابرات يتوعّد. المدعي العام يمسح جبينه، وينظر من النافذة. حيدر يرجو عماد أن يمتثل للمحكمة..
فجأة أحسّ بخطورة ما فعل، وهبّت في ذاكرته نشوة الياسمين، فاستمرأ التحدّي..
- محكمة..
دخل القاضي وتابعاه.
لم يقف عماد!
خرج القضاة !
أعجبته اللعبة، وركب رأسه.
رفعت الجلسة!
أخيراً.. وجدوا الحل.. أخرجوه من القاعة، ونادى الحاجب:
"محكمة"..
وقف جميع الحاضرين إلى حين جلس القضاة تحت ميزان العدالة الذي تمسكه يد امرأة عمياء!! فجلس الحضور..
ثم أدخلوه.
قال المدعي العام شيئاً عن الخطر الشيوعي، وقال مدير مخابرات إربد شيئاً عن منشورات وكتب وأوراق، ووقف شاهدا إثبات لم يرهما في حياته، وأكدا أنه شيوعي خطير.. ردّ المحامي بطلاسم عن القوانين والدستور والمحاكم النظاميّة..
أخيراً "جحره" القاضي، ووجّه له سؤال القضاة الأبدي:
- مذنب؟
أجاب بثقة: غير مذنب.
- رُفعت الجلسة.
بعد أسبوع سافر مرة أخرى إلى عمّان، لم تستغرق الزيارة إلا دقائق معدودة..
باسم الملك، تلا القاضي الحكم بعشر سنوات سجن. بموجب قانون مكافحة الشيوعيّة رقم 92 لسنة 1953م..
يشعر كأنه مشارك في عرض مسرحي مثّل فيه دوراً غامضاً! وكان منتشياً بالاقتباس من حكاية الأمير الصغير: [الذين يطرحون علي الأسئلة، لا يسمعون..!]

لم يضطّرب، بل لم يفكّر بقرار المحكمة، كأن الأمر لا يخصّه!..
ضحك متسائلاً: هل أنا سوي؟!

* * *

عند الضحى عاد الموكب من المحكمة العسكريّة في عمّان إلى ظهر التل في إربد.. [لعل هذا الكون ليس هو ما هو عليه؛ بل ما نتصوره نحن عنه..]
تبدّى له مشوار العودة أقصر من رحلة الذهاب.. الربيع في آخره.. هبط من "البوكس" فبهرته شمس الضحى. فرك عينيه بيديه المكلبشتين إلى الأمام. مشى محاطاً بحرّاسه، مرّواّ ببائعات البصل الأخضر، وجرز الخبيزة، وسلال العكوب، وصواني التوت.. توقف الشاويش حيدر عند حزم الحاملة ملانة يتذوقها، وهبش يونس كمشة توت أبيض. وخفتت أصوات الباعة قرب "درج الدرك"، حتى مرّ الموكب.
صعد الدرج الخارجي المفضي إلى غرف الإدارة فوق السجن.. درج حجري مكشوف بلا بسطات يقود إلى الإدارة دون المرور ببوابة السجن..
صعد عرزال الحكومة المطلّ على المدينة متوعداً ومنافقاً، حسب تعبير القط.. أول ما لفت انتباهه أبراج الحراسة، أو بدقّة أكواخ الحراسة: قباب خشبيّة صغيرة كالحة الزرقة بالكاد تحمي الخفير الضجر من المطر أو سطوة الشمس.. قباب حراسة مهترئة. أسوار قديمة متهالكة. أسلاك شائكة صدئة. وحراس يأكلهم الملل.. ولكن أين المفر!
رأى خفيراً يقف بكآبة عند نهاية الدرج، وخلفه أصص نباتات مصفوفة على الدرابزين غير أنه لا وجود فيها لنباتات أو أزهار..
(ربما مرّ على المكان "بك" يهوى الأزهار ونباتات الزينة، وأهملها من جاء بعده..)
ابتسم عماد: يشتاق معرشات الدالية على مداخل بيوت إربد المتراصّة حيث تجلس في عمقها النساء على المصاطب والبرندات المزدانة بأصص الريحان، وأحواض البنفسج، ومكنسة الجنة، وزهور فم السمكة، ونباتات السجادة ذات الأوراق المخملية متعددة الألوان..
الغرف العلويّة تعتبر حديثة بالنسبة للمهاجع التي تحتها.. أدخله الشرطي المناوب على باب المدير.. قام الحاج ملقي من لب فروته، واستقبله في المنتصف: أهلا عموه.
أمر بفكّ قيده، ودعاه للجلوس على كنبة جانبيّة.. وكان يجلس قبالته رجل بملابس مدنيّة..
سأله الحاج ملقي كما يسأل ضيفاً عالي المقام: كيف قهوتك؟
- مرّة.
الرجل الذي بملابس مدنيّة مدّد ساقيه، وصعّر وجهه، وقال ساخراً: غاب وجاب والله.. عشر سنين؟! هيك الزلم ولا بلاش..
تنحنح الحاج ملقي، وكأنه غير موافق على ما قاله الرجل.
مال الرجل الذي بملابس مدنيّة بجذعه للأمام، وفرد كفّيه كمن يستعد لتلقي هديّة، وجحره: لازم تعرف الآن انك محكوم عشر سنين سجن.. يعني إن عشت؛ تطلع من هون لما ينوّر الملح.
أجمل ما في الحاج ملقي عينيه الضيقتين لأنه لا يستطيع أن يجحر أحداً. لذا مسح صلعته بكفه، وقال: شو ذنب أبوك الحجي تجرجر عباته وراك عشر سنين..
صمت عماد صمتاً نحاسيّ الرنين.
- أنا حزين لـ أمك..
انعقدت سحابة مرّة في حلقه فبلعها، واعتصم بصمته النحاسي.
قال الحاج ملقي: الحكومة ما هي مجنونة.. انس المحكمة والحكم، أي وقت تقرر تغيّر رأيك احنا جاهزين نسمعك..
ربما اقتنع بما قاله الحاج ملقي، ولملم أفكاره ليدخل بحوار ليّن قد يفضي لتغيير رأيه!.. لكن الضابط الذي يلبس بنطلوناً رمادياً وكنزة خضراء وجاكيتاً بنياً سارع للقول: غير هيك.. لما يخلصوا العشر سنين برضه رح نظل وراك، وننكد عيشتك.
"هيك" أيقظ الذئب بقوة!.. "جحر" عماد الرجل بتحدٍّ واضح.
رفع الحاج ملقي فنجان القهوة التي قدمت لهم بلا صحون، رشف منه بتأنٍّ، وقال: كان بدهم ينقلوك لسجن المحطة بعمان..
- عند المنظمات والرفاق.. (قال الرجل هازئاً)
شفط الحاج ملقي رشفة طويلة من فنجانه، وقال: لكني قلت تظل عندي.. أقرب لأهلك..
بعد صمتٍ باردٍ قصير تابع الحاج ملقي كلامه: فكّر بالموضوع يا بني، وعفو سيدنا واسع..
رأى عماد خيطاً طرياً من القهوة على جانب الفنجان المشروم أمامه.. رفع فنجان القهوة بهدوء، فترك قعره دائرة سوداء مغلقة على الطربيزة.. كان الفنجان ثقيلاً ثقل العشر سنوات القادمات.. لكنّه شعر أنه قادر على تجرعه، بل والاستمتاع بنكهته..!
مسح خيط البن بإبهامه، وراح يتأمل مكان بصمة إبهامه:
- ابصم.. لا أبصم. ابصم؟! ما أنا بباصم .. حتماً لن أبصم.
تحاشى الجانب المشروم من شفة الفنجان، واحتسى قهوته بهدوء محملقاً بالدائرة المغلقة التي تركها الفنجان على الطربيزة الخشبيّة أمامه..
فرك الرجل الذي يرتدي جاكيتا بنياً كفيه، وقام دون أن يلمس فنجان قهوته: ما فيه فايدة..
تركه الحاج ملقي يشرب فنجان قهوته حتى آخره، ثم أمر بإعادته إلى السجن.
لسرٍّ ما كان لكلّ باب رائحته.. غابت بوابة الياسمين، وحضرت بوابة العطن. عتبة باب السجن خطوة صغيرة بين عالمين.. في السجن يصير الباب حارساً، والحارس مفتاحاً، والمفتاح خصماً.. أصغر المفاتيح مفتاح الكلبشة. أخطر المفاتيح أصغرها؛ يقولون: (مفتاح سجنه بيده، أي وقت بده يطلع من السجن يستنكر ويطلع.. راسمالها يكتب ورقة!..)
ورقة!؟ ما أثقل هذه..
أهذا المفتاح؟!..
المفاتيح في السجن ليست مفاتيح بل مغاليق.. تخشخش هنا ليل نهار لتذكّر السجين بأنه سجين.. ومفتاح فرجه ورقة تذكّره دائماً بأنه حرً وسجين في الوقت ذاته، ما أصعب المعادلة!
ريثما يُتمّ قلم السجن إجراءات تسجيله سجيناً ينفّذ حكماً قضائياً؛ وقف في البرزخ الحرام بين الباب الخارجي والشبك الداخلي. هذا البرزخ الذي سيؤرق ليإليه في قادم الأيام بغصّة معدنيّة تتدحرج من حلقه إلى أسفل السرّة وبالعكس. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا..
ثلاثة شهور وخمسة أيام وثلاث ساعات انقضت مع عجائب السجن، وقبلها شهران وواحد وعشرون يوماً وتسع ساعات في زنازين المخابرات، مرّت مثل ليلة حمّى طارئة؛ واستيقظ على رائحة عطن السجن.. حتى لما اعتقلوه من فراشه في ليلة صفرت فيها الريح، وكان البرد يسفع الجدران، ويلسع العظام.. ووضعوا القيد في يديه وألقوا به في اللاند روفر لم يشعر بهذه المرارة..!
لمّا جاء زوار الفجر لاعتقاله قاومهم بقبضتيه وركلات قدميه.. خرج أبوه بمنامته شاهراً بندقيته "الكلاشن".. وأطلق صلية في الفضاء. ارتفع صوت أحدهم هاتفاً: مخابرات. مخابرات.. وأيقظت ليل القرية صلية رشاش ثقيل رابض في مؤخرة لاندروفر داكنة، فظنّ أنها موجهة إلى صدر أبيه. توافد الجيران بمناماتهم مذعورين. خرجت أمّه مذهولة منفولة الشعر، وحضنته تتلقى عنه اللكمات.. جرّوه من حضنها بعنف، فتشبث بشجيرة الياسمين التي على باب الدار.. وعوى ذئب في مكان بعيد.
وضعوا القيد في يديه، وألقوا به في الحافلة فوجد غصناً من الياسمينة عالقاً في قبضته. هزّه بحنق وتصميم، وهتف بصوت ذئب جريح سمعه الناس المتجمهرين: (ولا يهمّك يمه..)؛ وفاحت رائحة الياسمين المطرّز ببلورات الماء المتجمد تملأ روحه تصميماً على تحدّيهم.
ذلك اليوم الربيعي في ذلك البرزخ بين بابي السجن شعر بالمرارة تثقل رائحة الياسمين في نفسه، وضاقت روحه بذلك القفص الذي كان يراه من الخارج في غدوه ورواحه إلى المدرسة، ويظنّه دائماً سيركاً أعدّ لسواه!..
- لا لن أتعوّد هذه المرارة يا ختيار.
- لن أستسلم لزمن السجن ورتابته..
- سأستنكر الحزب، وأستريح..

* * *

عاد إلى برشه ومهجعه وندمائه مغموماً.. استقبلوه بحرارة وحفاوة كأخ عائد من دول الخليج.
- شو أخبار العفو؟؟
- ما بعرف.
قال أبو حديد كمن يقرّ بديهيّة: طبعاً فيه عفو عام بمناسبة عيد الاستقلال.
مجرد ذهابه إلى عمّان وعودته يستدعي الاستفسار عن "العفو"، وكأنه ذهب لمقابلة الملك ذاته!..
"العفو": هذه الكلمة السحريّة التي ينسج حولها كلّ يوم حلما بالحريّة، وتتردد حكايتها في مهاجع المساجين منذ عرف بنو البشر الحبس؛ سيتردد صداها على مسمعه وفي روحه حتى يقرر هو خلاصه الخاص..
إشاعات "العفو"، مخدّر يجترّها السجناء باستمرار حتى يصير الأمل في الإفراج بعد أيام طويلة من المناورة والمطاردة والإلحاح سراباً لا يجرؤون على الاعتراف بزيفه..
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
ما أضيق السجن بلا وهم يهدهد أوجاعه!
نهل من شراب "الوهم" المسكر ليخفف المرارة في حلقه، ونقل لأمه وأبيه إشاعات العفو التي يتداولها المساجين، فأشرقت أساريرهما بالأمل!

الرفيق

كأن صدور الحكم الرسمي بحقّه شرعن انتماءه الحزبي!.. صار الشاويش حيدر يروي تفاصيل الرحلة الربيعيّة من إربد إلى عمان، ومجريات المحاكمة باستمتاع، ويشيد بجسارة "الرفيق"، وكأنه رفيق الرفيق!
(وين الرفيق؟ راح الرفيق. أجا الرفيق. تلعب شطرنج يا رفيق؟ اسألوا الرفيق)..
صار يعرف بينهم ب"الرفيق".. صار له لقب يعرف به كما كلّ المساجين؛ فأبو حديد وأبو القناني وأبو حجاب.. كذلك الختيار والشكّيك واللبيس؛ والتنبل.. ألقاب اكتسبوها هنا، ومثلهم الكرزم، وشعيط، ومصيص.. وهنا القط والواوي وزغلول ووطوط.. الشرطة والضباط ومدير السجن لهم ألقاب أيضاً: حيدر كبة، ويونس المطميط، والحاج ملقي أبو فروة، وعطا الله قفا المحماسة.. لا يمكن إحصاء كلّ الألقاب..
بدعمٍ من الشاويش حيدر؛ ارتفعت مكانة الرفيق في المهجع، وأسند برشه إلى ركن محترم بجانب ركبة القَاووشْ الجنوبيّة الشرقيّة، وصار عسّاف يتوسل به لتمرير ألاعيبه التي لا تنضب. ويستغلّ قربه من الرفيق لتعزيز تقاريره للجهات الأمنيّة!.. وتعوّد الرفيق كآبة السجن!
الجانب الجيد في كلّ هذه التطورات: صار بإمكانه أن يمدّد ساقيه أثناء النوم.. وصار له مخدّة يتوسّدها، ويبثها مشاعره..
تنشب رائحة الياسمين في حلقه الليلة، فيشعر بالذنب لأنه تسبب بترويع أمه وأبيه ليلة اعتقاله.. يشعر بالأسف من أجل مكتبة الدار الصّغيرة والجليلة التي نهبوها كلّها ليفتشوها فيما بعد على مهل بحثاً عن ماركس وأنجلز وتروتسكي ولينين وماو تسي تونغ، فلم يجدوا غير كتاب [الأمير الصغير] تحت مخدته!
الغريب أنهم أدرجوا كتاباً عن الثورة الجنسيّة عند فلهم رايش، وكتاب كفاحي لهتلر ضمن "المستمسكات" التي قدمت للمحكمة لإدانته!..
لما زاره أخوه المهندس، ضرب الجدار الذي يعزل بينهما بمقدمة حذائه، وهزّ قبضتيه على قضبان الحديد بحنق، وقال: يا ريتني مكانك..
ماذا يقول لأخيه؟!.. شبك الزيارة جدارٌ بارتفاع متر وعرضه ثلث متر، تعلوه قضبان حديدية إلى السقف لا تسمح إلا بمرور اليد للمصافحة..
شدّ على يدي أخيه، وصمت..
أخوه بعثي من "جماعة صلاح جديد". محروم من جواز السفر، ممنوع من العمل في الوظائف العامة، لكنه وجد فرصته في مكتب هندسي يدرّ عليه دخلاً أفضل من الوظيفة الحكومية.. أخوه من المغضوب عليهم عند: حزب البعث الحاكم في سوريا، ومن حزب البعث الحاكم في العراق، ومن حزب المخابرات الحاكم في الأردن..
يقول أبوه: شو هالحزب اليتيم؟ لا مع ستي بخير، ولا مع سيدي بخير!.. بعد اعتقال ابنه الأصغر صار يقول: (اقبل منحوسك لا يطلع لك أنحس منّه..)
يُطرق أخوه متحيراً، ويتمتم: صارت أمي تحرّم دخول الكتب إلى بيتنا!
سلّم أخوه على سجين زميل له؛ "المهندس" نزيل الدار البيضا، وأوصاه بأخيه خيراً، ومضى..
يشعر أن حظّه عاثر، فهناك عشرات الرفاق المعروفين، ومئات الحزبيين المعارضين، وآلاف الموالين للمنظمات الفلسطينية يُضيّق عليهم السفر، وكسب الرزق، والعيش بأمان. وقلّة منهم تصطادهم قضبان السجن.
- هل اصطادوني ليروعوا بي جامعة اليرموك الفتيّة..
- هل هي مجرّد رمية نرد رمتني في هذا المكان الكئيب!
- السجن تواطؤ قانوني بين السلطة والمجتمع..
- السجن منافق!..

* * *

حياة السجن أضيق من الحياة خارجه، ولكنّها مزدحمة أيضاً. هنا يعدّون حبّات الخرز، ويحرّكون أحجار الشطرنج، ويرمون النرد، ويحسبون دبيب الزمن المتتابع فوق جلودهم..
محدوديّة المكان إحساس سطحي أولي. السجين يفتقد أشياء لا يفطن لها الناس في حياتهم اليوميّة. إنه يفرح كطفل بكلّ ما يعتبره الناس عادياً..
- أليس متعة أن أمدّد ساقيّ إلى آخر مدى أثناء النوم؟
- أفتقد متعة أن أمشي مسافة طويلة باتجاه واحد..
- ما ألذّ أن تأكل كعكة بملح ودقّة زعتر على عجل، في الطريق إلى الجامعة..!
- ما ألذ رائحة الياسمين على باب بيتنا.
تفوح رائحة الياسمين ببساطتها المذهلة، ويحضر طيف أمه بجدائلها الخصبة المدلاّة كحبل نجاة..
( يمّه؛ روحي ترفرف مثل عصفورة منتوفة الريش تحنّ إلى دفئك..)
يحنّ إلى صوتها، ويستعين على حبس دموعه باستعادة قصصها قبل النوم..
كان ياما كان..
كان فيه حديدوان..
وكان فيه غولة.
- اسنانها.. كيف اسنانها يمه؟
- من الأول يا يمه.
- أووه... ما قلنا وعدنا.
- حلفتك بسيدي شرحبيل من الأول يمه.
- من الأول صعب.
تهتف الأخت: يا يمه كملي.
- وين وصلنا؟
- لحد ما سكنت الغولة في القرية.
يتراقص لهب السراج في كوّته للحظة، وتكمل الأم: هرب الناس من القرية وتركوها للغولة، وما ظل بالميدان غير حديدوان.. الغولة لحقت حديدوان..
- ومسكته؟
- طَوْلي بالك يا مقصوفة العمر.
حاصرته في أحد الأزقة، هجمت عليه. هرب منها. لحقته تهز الأرض من حولها..
اختفى داخل دكان الحداد، يد الغولة الكبيرة تسد عليه الباب، دق الجدار بعزم.. وفجأة صرخت الغولة صرخة هزت القرية. وسقط حديدوان مذعوراً.. ويا للعجب! شاهد يد الغولة تنكمش، وتنسحب مسرعة خوفاً من النار..
الغولة تخاف النار!؟
أمسك قطعة خشب طويلة وأشعلها، فهربت الغولة. حمل حديدوان ناره وراح يسير في شوارع القرية الخاوية كما يشاء، ولما بزغ الفجر عادت الغولة فاختبأت في مغارتها.
وقف حديدوان على السور وصاح:
- يا ناس.. الغولة تخاف النور والنار.
صار حديدوان يعمل نهاراً ليجمع ما يقتات به، ويشعل في الليل ناراً تحميه من الغولة..
يقف كلّ صباح على سور القرية ويصيح على من تسوقه الصّدفة قريباً من السور أن يأتي ولا يخاف. لكن الهاربين نقلوا الرعب لمن التقوا بهم.
.. ذات يوم مرّت بنت حلوة وشجاعة، سمعت حديدوان. وقفت عند باب السور. وسلّمت عليه. فرح بها حديدوان كثيراً، وقال لها: تعالي نتزوج ونخلّف بنين وبنات ونطرد الغولة. لكن الغولة استغلت ليلة احتفالهما بعرسهما، وراحت تلتهم كلّ ما هو قابل للاشتعال في القرية..
غضب حديدوان كثيراً، وصاح بالناس الخائفين خارج سور القرية أن يعطوه حطباً يجدد به شعلته في الليل، لكن الناس خارج السور كانوا مشغولين بصياحهم، وإعداد الطعام للغولة..
ليش يطعموها يا يمة؟!
الخوف..
ليش حديدوان ما يخاف؟
تتثاءب: يا سامعين الكلام نحكي ولا ننام؟..
يهمس عماد لنفسه: احكِ يا أمي؛ احكِ، فصحراء هذا الليل بلا حدود..
يتناول لوح "التربلاي" المربع الذي يستعمله طربيزة شخصيّة للشاي والقهوة وصحن الطعام.. وعندما يسنده إلى ركبتيه يصير منضدة للقراءة والكتابة.. يستدير متربعاً في مواجهة الحائط، يسند "الكناش" إلى ركبتيه. يمسك قلمه ويكتب..
لست حديدواناً.. لست بطلا.. [تعيس هو الوطن الذي يحتاج أبطالاُ] .. لا أدري لمن هذا القول الجميل!.. هل يحتاج وطني أبطالاً!.. يدّعي الراديو أن وطني (واحة الأمن والاستقرار والأسرة الواحدة).. هل الوطن سعيد لأني في السجن؟.. المخابرات سعيدة بزجي في السجن، والحزب سعيد بصمودي، وأصدقائي سعداء لأني لم أشِ بهم.. الوطن سعيد جداً بدوني!! لكن أمي ليست سعيدة.. لا أريد أن أصير بطلاً.. فقط أريد أن أعيش حراً مثل باقي خلق الله.. طز بالحزب.. طز بالحكومة.. طز بالأصدقاء.. سأستنكر و..
يحبو القط من بين النائمين، ويسند ذقنه إلى حافة الكناش، فيجفل عماد..
- ايش يا قط!
- زهقت!
يجيبه عماد باستخفاف: وأنا زهقت.
- روّح..
يُخفي الورقة التي كتبها براحة يده، ويسأل:
- كيف؟
-.. طر. أنت حر..
تنهد عماد: لو.. لو إلي جناحين..
يضحك القط: إذا صممت يصير لك جناحين عن جد..
- كيف؟
- لسه ريشك زغب.. شوي يكبر ، وتتعلم الطيران.
- طيب. طير من هون يا قط. بدي نام.
يختفي القط، يتمدّد عماد، وتبقى عيناه معلّقتان بقبة السقف المبعوجة، يستشير مخدّته بشأن "الاستنكار"، تجهمت له، وحاورته حتى نام، في المنام رأى ورقة "الاستنكار" على هيئة عتبة على باب السجن بارتفاع شبر، وهو يخطو فيجتازها إلى الخارج، لكنّه يجد نفسه في الداخل.. استيقظ وهو عبثاً يكرر المحاولة!.. بكى حتى بلل مخدته.

* * *

اعتاد عماد مسامرة القط، فهو عذب الحضور، وينام أقل من غيره، لكنّه يرى خلال نومه من الأحلام ما يكفي غيره لشهرين أو ثلاثة.. إنه يرى أحلاماً زاهية، فردوسيّة، خرافيّة. يستيقظ دائماً على عطرٍ سماوي، وسرعان ما يفوح أريج مملكة أحلامه السعيدة على من حوله..
ينحّي عماد الكُنَّاش: لكن المساجين هنا يلفظونها بالفتح وبلا  تشديد، وهو لوح خشب رقيق مربع أو مستطيل ملازم لكل نزيل، يستعمله كطربيزة شخصية للشاي والقهوة وصحن الطعام.. وعندما يسنده إلى ركبتيه يصير منضدة للقراءة والكتابة. قال ابن الرومي: لا تعذلوه فإنه رجل   يروي من الطب ألفَ كُتّاش مبتسماً للقط..
- هات. سولف؟
شفت في المنام.. غزلان الندى شايلة مع ضو الفجر، سألتني: وين يا مسهّل؟ قلت ع القصيلة.. أخذتني معها، صحّينا الدحنون الغافي، وصبّحنا ع وادي الغفر، وطرطشنا شتلات الدفلى بالندى، ومرينا على خيمة الغجريّة، حملتها بين يدي وطرت فيها لشجرة التوت.. قالت الغجريّة: اتركني بدي نام. قلت لها: اشبع منك وارجعي نامي..
- شبعت؟
- رغباتي ما تشبع.
ضحك عماد، وسأله بشهيّة مفتوحة: شو هي رغباتك..؟
لمعت عينا القط بشوق عميق، وقال: بدي كل شي.. بَسْ كل شي.
ضحك عماد: بَسْ؟!
- أبَسْ!
انفتح سيل رغبات أجاج في نفس عماد ولم يتوقف. هو نفسه لم يكن يدرك أن لديه كلّ هذه الرغبات..
تنهد، وقال للقط: بكرة طالع إفراج!
- كيف؟
-. أستنكر الحزب الشيوعي الهدام.. وخلص.
- هو هدّام يا رفيق؟
ضحك الرفيق، وقال: مِشْ صاير له لا يبني ولا يهدم..
وازن عماد بين مكسبه الذاتي، وخساراته العامّة؛ هو يحترم حزبه، ويحب رفاقه، كان في الجامعة منافحاً قوياً عن مبادئ حزبه، ومواقف قيادته الشجاعة، وتضحياتهم الباسلة في فلسطين والأردن.. هنا لا أحد يحفل بآرائه..
هو قارئ جيد منذ نعومة أظفاره، وحالم ألهمته أحلامه كتابات ورسوماً نالت إعجاب زملائه وتقدير الكبار، فتعزز شعوره بذاته، واحترامه لنفسه، وعندما عرف الحزب من خلال الرفيق أبو موسى، لم يعثر على "عَرّابه" الذي يقرأه ويعينه ويوجهه فحسب، بل تعرّف على منهج يلمّ شتاته، ويمنح رسوماته، وقراءاته، وأحلامه، وتأملاته معنى وحيوية ووهجا..!
في زنزانة المخابرات لم يحضر في باله شيء من هذا، ولا فكّر بالمادية التاريخية، أو نظرية فائض القيمة، بل حضرت حكاية الأمير الصغير التي كان ينتحل مقتبسات منها ليدهش زميلاته وزملاؤه.
[إذا كان في مكان ما لا نعرفه، خروف لا نعرفه، أكل أم لم يأكل وردة.. ما الفرق؟.. هل أكل الخروف زهرة الأمير الصغير أم لا؟.. لا أحد من كبار السن سيفهم..]
وضع رأسه المتعب على مخدته متنهداً: (لا أحد من كبار السن سيفهم!.. ع بال مين ياللي ترص بالعتمة.)

* * *

القط هو حقاً قط! لم يكن وسيماً ولا مهماً، لكنّه عندما يعود من عمله مساء، تشيع خفّته في القَاووشْ جواً من البهجة.. يدخل ومعه مواويله وحكاياته..
لما يغيب القط عن المهجع، تحلّ الكآبة مبكرة على نفس عماد.. ولماذا يغيب القط عن المهجع؟ لأن ضابط الخفر عاقبه وأنزله القبو. ولماذا عاقبه؟ لأنه تسلل إلى المنطقة المحرمة عند الباب الخارجي..
ليست هذه أول مرة يغيب فيها القط عن المهجع، لكن عماد يفتقده..
تسلّى بالورقة والقلم.. رسم "العصفور والقفص" الصّورة الأكثر سذاجة وعمقاً عبر التاريخ، ويعرفها حتى الأطفال.. رسم بالقلم المتاح له، قلم الكوبيا ، لكنّه دفع برأس العصفور خارج القفص.. ومدّ جناحيه ممزقاً الأسلاك .. ظلّ يحدّق بالرسم الذي بين يديه دون أن يضيف خطاً؛ يفتقد رائحة الياسمين. يفكّر بالخروج من بطن حية الأبوا قبل أن تهضمه، والتخلّص من خليط الروائح المزمنة في هذه المغارة الكئيبة: هل يستنكر الحزب، ويعلن ولاءه "للحكومة الرشيدة"!..
يضحك بأسى: لو أنها رشيدة ما حبستني.
- لماذا لم أفعلها من أول يوم!
- كيف سينظر لي القط وعسّاف والختيار؟
- هل سيحترمني مدير مخابرات إربد، وأنا أتقدم له بورقتي، مثلما احترمني وهو يودعني من دائرته! شدّ على يدي وكأنه يقول: عفاك..
- هل أخذل غصن الياسمين؟
- هل أخذل أختي التي تفاخر بي بلا هوادة؟
- أبو موسى.. رفاقي الرّازحين بثبات تحت عسف الاحتلال الصهيوني في فلسطين.. زملائي في الجامعة.. أخي. أبي.. وأمي!
- سأخذل روحي..
شعر عماد بغصن الياسمين يمدّ جذره في صدره، ورأى حاجز العتبة على باب السجن يرتفع إلى مستوى حزامه..
أيهما أسهل: تحمّل الحياة المشروطة والمشروخة، أم تحمّل القَاووشْ ورائحة كثافة بخاره الكريهة؟!
لم ينم.

* * *

في الصّباح كان أول من خرج إلى قهوة الطموني.. وحيداً يحتسي قهوته المرّة، ويقلّب وجهه في السماء بحثاً عن فضاء يتسع لأسئلته داكنة الزرقة..
.. قطعة السماء الصّغيرة المعلّقة فوق السجن مشرّمة الحواف، منفصمة عن مساحات السماء الرحبة.. لا، ليست هذه القطعة من السماء العامة. إنها رقعة غير متقنة في عباءة المدينة الواسعة.
محدوديّة المكان تفتح على سؤال الزمن. الزمن قنديلٌ زيته الحركة، وفتيله الإنجاز.. حتى الجنّة لا تطاق بلا إنجاز..
يقطع تأملاته حضور القط: يخرج القط من القبو مبتهجاً. يفرد ذراعيه مستقبلاً نصف الشمس المطلة عن السور. يفتح خياشيمه. يتنفس بعمق، يمرر أصابعه الطويلة إلى الخلف عبر شعره الناعم الطويل.. يضيء. تتضح معالم وجهه؛ عينان لامعتان. وجهٌ ناحل. فم واسع عريض الشفتين، أذنان ريشيتان مشنفتان.. ترتعش فتحتا أنفه وهما تتشهيان رائحة شاي مغلي مع السكر..
يطلب له عماد كاسة شاي، يضيف لها الطموني ملعقتي سكر.. يضحك القط: أربعة يا طموني والرفيق يدفع.. يرتشف القط الشاي بتلذذ.. يخرخش الشاويش حيدر بمفاتيحه، وينهره: يا الله يا قطيط بلا نياطة.
يتسلم القط كيس العدّة من وكيل العهدة عند الباب الداخلي، ويمضي إلى عمله. فهو يعمل سبّاكاً، يصلح الحنفيات، ويسلّك المجاري، ويصلح المعطوب من المواسير.. وهذا ما يتيح له التجول في دائرة أوسع من الساحة والقَاووشْ.. ويتيح له أيضاً التسلّل إلى المنطقة المحرمة عند البوابة الخارجيّة مع الغروب كي يمتّع نظره بمشهد المدينة وهي تنحدر من سفح التل باتجاه شارع فلسطين، ثم تتمدّد أحياؤها الجديدة صاعدة على مهل باتجاه الجنوب: المستنبت، جامعة اليرموك، القصيلة حيث شجرة التوت والدحنون يخضب العشب بالحمرة حول عرزاله!
مساء يتجمع حوله المساجين ليحكي لهم تفاصيل يومه.. يروي المشهد كأنه حرٌ في عرزاله؛ يتناول فطوره تحت شجرة التوت المطلّة على وادي الغفر داكن الخضرة، ويصف لهم ينابيع تسيل في ضوء القمر ماؤها فضّة، ويجعلهم يتنفسون هواء نقياً يوقظ الحواس.. وينقلهم إلى مضارب الغجر، ويغني لهم..
مرّين وما معهن حدا دادي
يمشن ع قطر الندى والبرادِ
- ياه قديش رقصنا وغنينا سواً..
- كنت أحبها..
- كنت أعطيها ملحفة زرقا بحالها..
ويختم قصته ضاحكاً بصخب: ههههه.. لا تسألوني من وين جبت المصاري..
( يا الله! لقد خُلق للحريّة والأغاني. وا أسفاه لكنه لص، وا أسفاه إنه في السجن..)
يصمت القط قليلا، يشعر بالامتنان لمستمعيه، ثم يستسلم بعد ذلك للحزن تدريجياً، وينكمش داخل برشه، ويغفو!

قِط

قرّب عماد القط منه، فغضب عسّاف!
اعترض عسّاف على انضمام القط وشريكه أبو زهرة إلى زمرة الشاويش.. كانوا يعدّون طعام العشاء بأنفسهم، ويتناولونه في زمر صغيرة..
قال عسّاف: أبو زهرة. آه. موافق. يجلي الصّحون ويشغل البريموس. أما القط! لأ. موسرجي. بقرف منه.
فرك الختيار أنفه المبجلة، وقال: هو أنظف منك.
قال الرفيق: طبعاً. القط يستحمّ بمي ساخنة يومياً..
لم يستسلم عسّاف، همس للرفيق: ابن عمي انت ما تعرف القط. اسألني أنا.. القط ابن حرام. مقطوع من شجرة. لا والي ولا تالي.. راسماله هالعرزال وسيخ تسليك المجاري.
ياعساف. هاي المساجين قدّامنا.. أولاد الحمايل والعشاير أكثر بكثير من أولاد الحرام بهالسجن!
- القط واشي ما تنبل بثمه الفولة.. بكرة تقول يا عسّاف ما قلت..
وناصب القط العداء!
أقدميّة عسّاف في هذه المجموعة تعطيه الحق في الاعتراض على من ينضم إلى المجموعة التي تضم الرفيق وعسّاف وأبو حديد وتابعيه الختيار والشكّيك.
عساف يبدأ الهجوم: طول النهار غاطس بالمجاري. أنت لازم يسموك جرذون مِشْ قط..
- من برّا طقشه طقشه ومن جوا خرا محشي. قال لبّيس قال.. (يرد القط ضاحكاُ بصخب)
عسّاف شاب وسيم ذكي، حاضر البديهة، واسع الخيال، لقبه هنا "اللّبيس"، لأنه أنيق الملبس؛ حذاؤه دائم اللمعان! ولثغته في حرف الراء أرستقراطيّة، توقع الطمأنينة في نفس السامع.. كان في صباه يلفظ حرف الراء ياءً، لكنه اكتشف أن حرف الغين ألين وقعاً على أذن السامع، ولها سحرها الخاص. هذه المواهب الإلهيّة وظّفها للاحتيال على عباد الله. فهو من زاوية أخرى نصّابٌ مراوغ، وكاذب حاذق. وكاتب تقارير سريّة أيضاً! والأخيرة هي التي تجعل الشاويش أبو حديد يتساهل مع اعتراضه على قبول القط في مجموعة النخبة.. نخبة المهجع الجنوبي طبعاً.
نعم، القط "عصفور" صريح، يغرّد أمام الشرطة بما يرى ويسمع دون تردد.. لكن الرفيق يغفر له هذا النوع من الوشايات العابرة: فلان عنده سكين. القرنة الشماليّة هرّبوا حشيشة. دكان فلان يبيع آغو..
ضحك القط كثيراً لما رسمه الرفيق بصورة نمطيّة: عصابة سوداء، وسلسلة مفاتيح كبيرة معلّقة في خصره، ومفك في يسراه (هل هو أعسر؟)، ضم أصابعه ولفّها بحركة نصف دائريّة، وقال:
- أدير مسكة الباب، أو أدفع الشبّاك بإصبعي.. إن فتح دخلت.
- وإن ما فتح؟
- لرجلك (في الحقيقة هو قال كلمة أخرى).. غيره يفتح.
السجن ملجأ اللصوص المريح، ففيه يأخذون إجازة من العمل. لم يُسجّل على القط أو أبو زهرة وزملائهما زلّة سرقة واحدة داخل السجن.. ومع ذلك فإنهم يسجّلون أعلى نسبة هروب من السجون مستعينين بخفتهم في التسلل، وحنكتهم في فك المغلق..!
أبو زهرة، لصّ عتبات متواضع؛ يسرق ما تيسّر عن العتبة، من الحوش، عن البرندة. يسرق الغسيل، يسرق شبشب. يسرق ولو شتلة أو "زهرة" من الحديقة!.. لكنه أمهر "ضرّيب شفرات" في السجن، إضافة إلى مهارته في لعب الشطرنج.. قدّم جندياً على رقعة الشطرنج، وروى للرفيق..
(القط هرب من السجن ذات ربيع ليسرق، ولما بذّر ما جنى، عاد طائعاً في أول الشتاء من تلقاء نفسه. سلّم نفسه للشرطة، وتوصّل معهم لتسوية حول قائمة المسروقات الطويلة في أدراجهم، وعاد إلى السجن. و"السبّاح" شيخ لصوص الأردن هرب أيضاً أكثر من مرة، ومن أكثر من سجن.. ولكنّه قضى فترة تقاعده يلعب الضامة في سجن المحطة حتى وفاته..)
حرّك الرفيق فيله بمواجهة ملك أبو زهرة بحركة ظن أنها قاضية، وسأل القط عن حادثة هربه فاحمرّ وجهه حرجاً، وتلعثم!
كان زمان.. انسى.
كش..
أنهى أبو زهرة دور الشطرنج حامياً ملكه بحصان، محاصراً ملك الرفيق بلا زهو واضح.. وتابع روايته..
القط فهيم، تظاهر بألم في الكلية اليمنى، وظلّ يراجع الطبيب، ويصف له أعراض حصوة الكلية بدقّة حتى حوّله للمستشفى.. ألصق حصاة بخاصرته، ظهرت في صورة الأشعة وسط الكلية. أدخلوه المستشفى، ففر من شباك الحمّام!..
إنهم أوفياء، ويتحدثون عن بعضهم بعضاً باحترام.. والمساواة بين اللصوص أمر يبعث على الدهشة!.. أياً كان مستوى تعليمهم، ومهنهم، ومصائرهم، واختصاصاتهم؛ فإنه لا يتكبر لصٌّ على لص بحسبه ونسبه، أو بمستواه التعليمي.. التعليم ليس إلزامياً عندهم. والمستوى التعليمي لا يمنح اللصّ أيّة أفضليّة على الإطلاق، بل الأفضليّة للخبرة، وهم يمتازون بحريّة تبادل المعلومات والخبرات، ويعرفون القوانين التي تخص مهنتهم أفضل من القضاة.
موظفو الدولة المختلسون محرومون من اللقب.. لأنهم - حسب القط -يعملون، ولهم رواتب شهريّة، والسرقة عندهم عمل ثانوي من باب الطفاسة، ودناءة النفس..

* * *

على غير عادته لم يغنّ القط موالاً هذا المساء.. ولم يرو تفاصيل يومه بطريقة فكاهيّة.. ولما سأله جلساؤه كالأمسيات الأخرى: هات. قُص. شو شفت اليوم؟ أجاب: ولا شي..
ونام!
بعيد منتصف الليل استيقظ القط، رأى الرفيق متربعاً أمام كناشه الحميم، زحف مقترباً منه..
- صاحي يا رفيق؟..
زجره الرفيق برفق:
- فكني من أحلامك يا قط..
- مِشْ حلم يا رفيق. شي عن حق وحقيق.
- كلّ أحلامك تسولفها كأنها صارت عن جد.
همس بإصرار: قصة ما بقدر احكيها لغيرك.
- احكيها لقلم الشرطة.
غام وجه القط، وبدا عليه ذلك الحزن الذي يكوّره كمخدّة.. أشفق عليه الرفيق، وضع كناشه جانباً، وتنهد: احك، تفضل..
همس القط على عجل: امبارح دخلت سجن النسوان..
وانتظر ابتسامة إصغاء من الرفيق.. ثم تابع: كالعادة ظبت مليكة خانم السجينات بغرفتهن. ورجعت لمكتبها.. عند باب الحمّام فك الشرطي كلبشاتي..
كفّ الرفيق ساقيه، تربّع. وضع قبضته تحت حنكه، وأصغى للقط..
.. اللذة المزبوطة يا رفيق لما أتذكر اللي صار. كأني هناك كنت مِشْ فاضي. كلّ حالي كانت غرقانة باللذة.. أما.. مِشْ عارف أشرح لك.. اللذة المزبوطة بتصير بعدين. لما تعيد الفلم..
- الفلم؟ مِشْ فاهم عليك. احكي على مهلك.
- دخلت الحمّام أسلّك المجاري. لما فتحت المنهل فارت ريحة حامضة. أنا متعوّد. الشرطي سد الباب علي وشعّل سيجارة.. قلت له افتح ريحة شخاخهن تخنق. قال لي: يعني ريحتك كالونيا..
ما علينا.. لقيت حالي لحالي بالغرفة اللي يستحمّن فيها. كان بالزاوية بريموس يهدر عليه سخان مي يغلي، وبخاره يملى الغرفة.. بالزاوية فيه حوطة ناصية شوي على بابها مشمع. تحرك المشمع!.. فركت عيوني من شان اقشع. شفت نص مرة واقفة بالحوطة. بالأول لمع قدامي بز. فكّرت حالي بحلم. فركت عيوني، وقرّبت.. انذعرتْ. طمّتْ ورا الحوطة. قرّبت أكثر، وشفت!.. شفت خصلات شعرها سود مدلية على وجهها، وتنقط مي.. صدرها مليان.. حلمتها نافرة مثل حبة نبق. دخت. رحت ما أقع من طولي.. تطلّعتْ باستغراب. كنت بدي أقول: جاي أسلّك المجاري. لكنّها أشطر مني. وقفت، ورفعت إصبعها على نص تمها.. وهمستْ: لحالك؟
ايدي لحالها راحت تلحمس عليها.. ارتجف حنكها لما مدّيت راسي من فوق المشمع. لسعتني شفايفها الرطبة. غبيت فيهن.. صارت تفور فور ياخوي. جسمها طري وساخن. مثل حبة دراق ذايبه. يمكن عمرها ثلاثين. يمكن أربعين. مِشْ مهم.. شعرها يجنن؛ ناعم وطويل. وعيونها تضحك.. تفتحت مثل وردة. ما ظل براسي غير ريحة صابو نها ووشيش البريموس.
الشهوة تطوي كل شي بعسلها.. عبطتها وما ترددت. وقع المشمع بيني وبينها. مدت يدها وطلّعته، مسّدت ظهره على مهلها. عنتر. ركعتْ ولقفته بتمها.. رقبتها سكر. أذانها ينقرشوا قرش. شفايفها براطم تشبع.. وقفت ع طولها. التفت الساق بالساق. تزحلقنا.. صرت فوقها. ما ظل بيني وبينها غير رغوة الصّابو ن تبقبق.. الصّابو ن مع العرق على بشرتها زبده وعسل.. صدرها لحاله يكفي أحلامي لتالي العمر. ظهرها بيدر.. بطنها يتهفت مثل بطن القطة.. من الزنار وتحت مليانة أكثر من فوق.. يا خوي لما دعرته فيها لنه سخن وذايب مثل حبة القطايف المرنخة بالقطر.. بعيد وغميق ولذيذ. شدتني بكل حيلها وتموجت. أنا دبيت الصّوت وشهقتْ.. اندفق عسلنا.. ودار فينا الحمّام مثل دولاب الهوى...
صار وشيش البريموس ينوس وذبنا رغوة.. انضبيت بحضنها وصرت انتفض. سحبتْ فوقنا ثوبها الرطب. كان مرمي على طرف الحوطة.. وغفيت.. غفيت كأنه ما فيه شرطي ع الباب ولا سجانة بالحوش. نسيتهم. نسيت السجن. نسيتكو.. كانت هي وأنا وريحة عرقنا.. حسّيت بالأمان. لما طابت نفسي.. ووشوشتني: شو اسمك؟ قلت: سعيد.. لكن ينادوني القط.. ضحكت: قط؟!
بستها وباستني..!
وانتي؟
فهدة. وهون اسمي دحنونة.
دحنونة؟!
وضحكنا ناسيين حالنا وين.. وانتبهنا على صوت الشرطي:
ما فتحتْ يا قط؟ (قصده المجاري)..
احتمينا بزاوية الحوطة. قرقعت بسيخ التسليك تمويه، وقلت: لا. معصلجة..
انطفى البريموس. راحت غيمة الشهوة، وفاحت ريحة الكاز والسناج والصنّة.. لمّت هدومها ولاذت ورا الباب.
فتحت الباب.. بهرتني الشمس.. فطنت اني بالسجن!.. صرت أرمش، وصورتها تروح وتجي..
قال خفيري: شو شكلك فت كلّك بالمجاري.
قالت مليكة خانم: كلّه تمام؟..
ظليت ساكت. حتى ما حسّيت بالكلبشات لما شدهم الشرطي على زنودي.. حملت عدّتي، وطلعت.. ما فيه براسي غير صورتها.. لو اني برسم مثلك لرسمتها كلها. حتى شامتها عند الإبط، والوحمة اللي تحت سرتها، وبصمة تطعيم الجدري على ذراعها.. لكن فيه شي ما ينرسم يا رفيق: ريحتها.. يعني.. كيف؟ مِشْ ند وريحان.. ريحتها. قصدي ريحة جلدها.. مِشْ كل واحد منا إله ريحة غير؟ ريحتها علقت بخشومي ما تنمحي..

* * *

شاعت قصة "فهدة والقط" في السجن..
أقسم عماد للقط أنه لم يفش سره.
وضع القط يده على كتف الرفيق مطمئناً، وقال ضاحكاً:
المنحوس عساف كان نايم ومِشْ نايم.. طز. ما يهمني.. ههههه
وشوش السجناء بعضهم بعضاً مكملين نقص الحكاية.. فرُويت القصة بحكايات مختلفة. كلّها تعتمد على التفاصيل الجنسيّة حسب خبرة الراوي، أما الحادثة فتباينت أشكالها حدّ التناقض.. صارت الحكاية "فلم" السجن المفضل الذي يخرجه كلّ سجين على هواه..
انفرد أبو حديد بالقول: حكاية فهدة من أولها لآخرها كذب، وشطحة من شطحات القط..
لكن فهدة غذّت أحلام المساجين السريّة بصور لا تنضب.. ما عدا المسكين أبو زهرة..
حرّك الرفيق جنديه الأبيض في وسط الرقعة، ولم يحرك أبو زهرة ساكناً..
وين سارح يا بو زهرة؟
ترغرغت عينا "أبو زهرة" بالدمع، وهمس: ليلة امبارح استحلمت يا رفيق..
ضحك عماد: فهدة!
- يا ريت!
- استحلمت بولد؟!..
غصّت الكلمات في حلق أبو زهرة، ثم قال بحسرة: حلمت اني أمرج..
- وين المشكلة؟
انخرط أبو زهرة في البكاء، فلملم عماد أحجار الشطرنج، وقام يمشي مع أبو زهرة في الساحة..
فهم منه أنه وعى على أمه تتذمر نهاراً، وتتأوه ليلاً، وماتت وهي تلد.. ولما شبّ عن الطوق قَتل أبوه أخته لأن أحداً ما نام معها!..
لم يمارس الجنس في حياته لا مع امرأة، ولا مع غيرها، إنه يعتبر الجنس إيذاء للطرف الآخر!! وهو لا يستطيع أن يؤذي نملة.. المسكين تنحصر خبرته العدائية بتشطيب جلده بالشفرة إذا غضب. وتنحصر خبرته الجنسية في الاستمناء فقط!
على ايش تستحلم؟.. شو تتخيل يا بو زهرة؟ مسح دمعته، وقال بمرارة: حمارة. قطة. فرس. نعجة..

* * *

صارت فهدة كلمة السر التي تواطأ النزلاء على إخفائها عن مسمع خالتهم الحكومة رغم كثرة "العصافير": وشاة ومخبرين وكتبة تقارير على اختلاف انتماءاتهم: المخابرات. الأمن الوقائي. إدارة السجن. الأمن المركزي. مكافحة المخدرات.. الرفيق أيضا لم يفش هذا السر للحزب..
بعد حكاية فهدة، علت مكانة القط في المهجع، وانضم هو وتابعه أبو زهرة إلى "الصّفوة"، وصارا يأكلان معهم على مائدة واحدة..
همس عسّاف حانقاً: سفلة.
جامله أبو حديد قائلاً: كل الناس سفلة، وكل واحد يغطي سفالته بشطارته.
تظاهر عسّاف بالاستكانة والقبول! وتنكّد عماد من هذه المقولة أيما نكد!

استنكار

اليوم كان صيفياً بامتياز. فُتحت الأبواب على أمل صدور عفو ملكي عن السجناء بمناسبة عيد الاستقلال.. وحصلت بادرة تؤجج المشاعر بقرب الفرج.. بعد تمام العدّ النهاري قرقعت سماعة السجن بأسماء 142 "سفيراً" من موقوفي المحافظ ليتجمعوا في الساحة.. بعد الإفراج عن ثلث المساجين تنفست الممرات من الزحام، وتبدلت مواقع المساجين: ارتقى بعضهم إلى مواقع أفضل، وتمتع آخرون بمد سيقانهم إلى مداها أثناء النوم.. لكن يوم الاستقلال مضى، وتلته أيام التشويق الثلاثة، وبدت إشاعة العفو الملكي الشامل بالتبخر..
في هذه المسافة القصيرة بين إشاعة عفو وأخرى ينتاب المساجين شعور حاد بالغبن، وكأنهم سجنوا من جديد.. شعر الرفيق بخيبة مريرة، وكأن العفو الملكي المأمول يخصّه وحده.. ظلّ يتقلب على جمر الأسئلة.. مع تسلل خيوط الفجر إلى المهجع كان قد اتخذ قراره..
(أنا شجاع. مثلما تحديت التحقيق وملحقاته، أستطيع تحدي الاستنكار وتبعاته..)
كتب الاستنكار بخط جميل في وسط صفحة بيضاء حجم A4، وكتب اسمه كاملاً. ذيّله بتوقيعه، والتاريخ الهجري والميلادي.. ونام قرير العين.
استيقظ منتصف النهار عند صفارة العد النهاري. سحب الورقة التي كتبها، قرأها على مهل. دسّها بين أوراقه. وتذرّع بأن الدوام الرسمي انتهى اليوم.. سيؤجل الأمر إلى الغد..
عصراً عاد القط من عمله، اغتسل، وجاء إلى قهوة الطموني ضاحكاً: شو ساكتين مثل اللي قابر حدا! هههه قبرتوا إشاعة العفو. عيب ع الرجال ينتظروا "العفو"..
قال الختيار: يعني انت ع راسك ريشة يا نص نصيص!
- أنا.. ههههه..
شفط كاسة الشاي على دفعات متتالية، وقام متسللاً إلى الباب الخارجي مثل كلّ مساء، وسرّح نظره بعيداً عبر البوابة الواسعة..
ياه ما أحلى إربد تحيط بها قرى القصبة كالقلادة: حدائق معلّقة، سطوح بيوتها أقحوان. سناسلها تين وزيتون. وبحرها قمح.. هواء نقي، غيم وندى، وخضرة على مدّ النظر..
يمسك به الخفير. يرسله إلى القبو.. يتوسط له الرفيق عند الحاج ملقي..
- حرام.. الزلمة ما عنده نيّة..
احترمه الحاج ملقي، وأخلى سبيل القط.

فورة!

التجربة المرّة تصير شجيّةً إذا كتبت بمداد الحاضر. الزمن طويلٌ تحت وطأة العزلة، قصيرٌ إذا نظرته ملموماً في كفّ الذكرى. الزمن مثل الماء يأخذ شكل المكان..
طال النهار، وقصر الليل، و"تعوّد" عماد صوت مؤذن الجامع المملوكي كل صباح، وطنين جرس كنيسة الروم كل أحد، وتعوّد المثول في طابو ر الخمسات للعدّ النهاري، والوقوف والجلوس للعد الليلي، وانتظمت زيارات أمه له، وعطّلت المدارس، وكفّ طلاب الثانويّة عن المرور من عند السجن.. ووفدت الفلاحات يجادلن محتكري البسطات غرب شباك القَاووشْ لبيع القثاء واللوبياء والبامياء، وتناهت إلى المساجين نداءات الباعة على البطيخ والشمام والتين.. وظل رجال البلدية يقلبون البسطات كلّما قلّت الأتاوات.. وظلت الشمس تشرق وتغرب كلّ يوم، والرفيق يقلّب ورقة الاستنكار كلّ ليلة، ويعيدها إلى مكانها، وكأنه ينتظر مناسبة ما ليتقدم بها..!
بعد جولة القيام والجلوس امتثالاً للعد المسائي؛ تحلّق المساجين حول موائد العشاء.. مسح أبو زهرة فمه براحة يده، وقال: خلّصنا عشانا والشمس بعدها ما غابت!
جحره أبو حديد وهو يلوك لقمته مصدراً مضغاً يشبه من يمشي في الوحل جق. جق. جق..
أوقف الختيار اللقمة قرب فمه، وقال: وعدونا يمدّدوا "الفورة" لاذان المغرب.. الحاج ملقي ذات نفسه وعدنا.. وبحضور مندوب الصّليب الأحمر.
قال عماد وهو يجمع فتافيت الخبز المقدّسة بورع: ضابط الخفر بده يعد، ويلم المفاتيح، ويرتاح ع بكير.. ونحنا ننزرب من العصر مثل الدجاج!
قال الشكّيك بصوته الواهن دائماً: ع كيفهم؟! هو نحنا عبيد عندهم!.
سحب عساف منديلاً ورقياً بالإبهام والخنصر من جيبه، وقال: إذا وعد المدير لازم الضباط يلتزموا.
قال أبو زهرة وهو يلم نوى الزيتون، والصّحون الفارغة: حاكمك لاكمك.. شو بدنا نسوي..
قال عماد وهو ينسحب إلى برشه: بكرة المسا لما يرنّوا جرس الدخول ما ندخل.
همس عسّاف: اش لا حدا يسمعك ابن عمي.. هذا تمرّد.. والله يطخّونا.
صباحاً خرج عماد يحتسي القهوة مع الختيار عند الطموني.. صار يبتسم له مساجين بالكاد يعرفهم.. وشجعانهم يمرون بموازاته فيضمون قبضتهم إلى جانبهم ويرفعون الإبهام تشجيعاً!
يبدو أن تلك "الإش" من عسّاف؛ سرعان ما وصلت الإدارة: (الرفيق يقول ما حدا يدخل المهاجع عند المسا).. وانتشر التحريض بسرعة عجيبة بين المساجين!
انتشرت عدوى الريبة بين الجميع؛ المساجين يتحركون بحذر وتوجس، وينظرون إلى بعضهم بعيون تفيض بأسئلة مبهمة مغلفة بالصّمت.. الشرطة يحملون عصيهم، ويتصرفون بخشونة، وأجبروا بعض المعفيين من الطابو ر على ترك أشغالهم والاصطفاف.. حتى سكان الدار البيضا خرجوا واصطفوا في الساحة!
طابو ر العد النهاري الذي يتم بعد الغداء في الساحة أنعش رغوة الهياج، وكشف التوتر.
أوجس عماد خيفة، وتراقصت ركبتاه.. بعد تمام العد، طلب مقابلة الحاج ملقي اتقاء للأسوأ. قال له الضابط المناوب بجلافة:
- الحجي مجاز. شو بدك؟.
لمع ذلك العرق تحت الترقوة، موقظاً "الذئب" في داخله!
بلع مخاوفه، وقال للضابط بجفاء ومكر أيضاً: مِشْ شغلك.
ارتبك الملازم عطا الله قليلاً، وعاد بلهجة أقل حدّة: أنا أقوم بمهام المدير، إذا عندك شي احكي.
هذه اللحظة الفاصلة محيّرة، مثل شرارة تومض بصوت ذئب بعيد، وتذهب سريعاً، لكنّها تشعل الروح بما يشبه الهوس.. فتتلاشى الحسابات والتوقعات، وتترك اللحظة المشحونة تقطّر في روحه خمرتها الخاصة!
ركب عماد رأسه، وقال بحزم: شكراً.. ومشى.
بُهت رئيس قلم المباحث، وفكّر: بما أن معظم المساجين يتعاونون معي، فإن الذين لا يتعاونون معي يتعاونون مع غيري!.. هذا الولد عمّه باشا.. ربما يتعامل مع من هم أعلى مرتبة مني!
ربما هذا ما رفع عن الرفيق الاستجواب والعقوبة المباشرة!
لما قرع جرس المساء كان عماد والشكّيك يذرعان الساحة بخطى سريعة كما يفعل السجناء عادة..
الشكّيك لم يخفض صوته، لكن صوته خفيض بطبيعته، سأل: ندخل يا رفيق؟
أجاب عماد بعفويّة: (ما حدا يدخل..)
سرى التعليق العابر وكأنه أمر يخص كلّ المساجين، ويخص كلّ سجين على حدة أيضاً.
عندما قالها الرفيق لم يكن قد قرّر شيئاً، ولكن لحظة وجّه الشكّيك سؤاله تقرّر كلّ شيء..
خفت ضجيج السجن، وهدأت قرقعة الطربيزات البلاستيكيّة الصّغيرة المنتشرة عند قهوة الطموني.. وفار المساجين إلى الساحة. حتى أولئك المساجين الذين كانوا منشغلين بالإعداد لوجبة العشاء خرجوا إلى الساحة!..
كرّر عطا الله نداءه عبر مكبّر الصّوت: (مآمير ضبوا المساجين..)
ردّدت حارات السجن الخمس صدى صافرات "المآمير" ؛ وهم الشرطة المناوبون داخل السجن، كلّ مأمور منهم مسؤول عن مهجع: مأمور الجنوبي. مأمور الشمالي، مأمور الشرقي، مأمور الدار البيضا، مأمور الأحداث..
صافرات الشرطة النزقة تعلن نهاية "الفورة"، والمآمير يأمرون السجناء بالدخول إلى مهاجعهم.. لكن السجناء لم ينضبوا!
أعلن جرس السجن النفير، فخرج مآمير السجن الخمسة من الساحة، وأغلقوا الباب الداخلي للسجن، فيما استدارت الرشاشات التي على الأسوار نحو الساحة، وظهر الشرطة شاهرين أسلحتهم الخفيفة على السطوح..
ارتبك خطو الرفيق، وتلعثم: "نفير"..؟! فيما الشكّيك يواصل المشي متجاهلاً هلع من حوله، وزغاريد سجن النساء، ونداءات مكبر الصّوت المتوترة: كلّ واحد على مهجعه فوراً..
انفعل المساجين، واكتظّت بهم الساحة الرئيسيّة، وكأنهم قدموا من خارج السجن!
سمع المساجين صوتاً ينادي: اعتصام يا شباب. اعتصام! (كان صوت الرفيق..)
اعترضه عسّاف متسائلاً بخوف عن الذي يجري؟..
رد الشكّيك متوجّهاً لكلّ الذين تجمعوا في الساحة: ما ندخل إلا بعد اذان المغرب..
وقف الكرزم عريف الشمالي على حافة حوض الماء بحماسة، وقال رافعاً ذراعه الموشومة بأفعى رقطاء، وقال مفخماً حرف القاف: هاي قلّة حيا منهم، والله يا رفيق ما نفوت لو طخونا..
استدار القط نحو جمهرة المساجين الذين تكاثروا بسرعة في الساحة، وقال بصوت مرتفع: شباب ما حدا يفوت ع مطرحه..
زغردت امرأة في سجن النساء! ومزط أبو زهرة فانيلته معرّياً صدره المشجر بالندوب، وأشهر "الزقرط" شفراتهم كاشفين عن أذرعهم المشومة ؛ في إعلان جازم عن استعدادهم للتضحية بتشطيب جلودهم، إذا هاجمتهم الشرطة!
زال الارتباك عن الرفيق لما رأى كلّ المساجين يستجيبون للتحريض، ويتجمعون في الساحة.. حتى ترانزستور، وكناري والماصورة خرجوا من الدار البيضا، وجلسوا على حافة حوض الماء، ثم جاء حشيش باسطاً كفيه أمامه ورافعا كتفيه، قال لهما شيئاً بانفعال، ودخل ثلاثتهم إلى غرفتهم البيضاء!
طال صمت مكبّر الصّوت، وطال الوقوف في الساحة، الترقّب عند المساجين وعند الشرطة بلغ مداه..
بدأ عسّاف موجة التذمر: شو بدنا ننام برى الليلة؟
قال القط ضاحكاً: وماله زمان ما شفنا القمر والنجوم.
قال أبو حديد: والله لا تشوف نجوم الظهر إن ما دخلنا..
شعر الرفيق بسحابة الخوف تنقشع من داخله على مهل، وتشرق روحه بفرح مثل ذلك الفرح الذي كان ينتابه بعد كل جولة تحقيق.. قال بصوت مرتفع:
- شباب ما ندخل إلا أذان المغرب.
ضاع صوته في الأصوات المتداخلة والآراء المتضاربة!
صاح وطوط عريف الشرقي بصوت جهوري: يا الله ندخل يا شباب..
ماجت ساحة السجن بالارتباك، وتضاربت الاقتراحات.. في هذا الوقت المائع كاد يفسد الاعتصام، لولا مبادرة الشكّيك..
أخذ الشكّيك يد الرفيق بيمينه، وأمسك يد كرزم بشماله، وقال:
- نحنا قاعدين هون اللي بده يفوت يفوت.
فرح عماد، واستكانت نفسه كأنما يجلس على المسطح الأخضر في جامعة اليرموك بعد قيادته مظاهرة صاخبة تضامنا مع انتفاضة الجليل رداُ على مصادرة الاحتلال آلاف الدونمات من الأراضي في شمال فلسطين .

جلس ثلاثتهم على الأرض في مواجهة الباب مسندين ظهورهم إلى حوض الماء.. ارتبكت حركة المساجين من حولهم.. ما لبث الختيار أن تبعهم، وجلس. ثم تبعه القط وأبو زهرة .. جلس غالبيّة السجناء.. فتح أبو حديد فمه الذي يشبه فم الشكوة، وصار يلهث مثل كلب عطشان، ومنخاره العريض يفتح ويغلق بعصبيّة، لكنّه لم يجلس، ولم يدخل إلى المهجع..
الذين لم يجلسوا على الأرض ظلوا يحومون في أطراف الساحة إلى أن أذّن المغرب.. عندها قام الرفيق والشكّيك والختيار ودخلوا مهجعهم دون أن يقول أحدهم شيئا.. تبعهم المساجين، وتنفس الجميع الصّعداء!
أكبر الرفيق وقفة زميله أبو ليلى الشكّيك!.. وكأنه يعرفه اليوم!
الشكّيك استمدّ لقبه من غموض القضيّة المسجون عليها: "دفع شيكات بدون رصيد".. هل هو نصّاب مع سبق الإصرار والترصّد؟ أم أن سوء التقدير والحظ العاثر أوقعاه في الشبك!.. وضعه ملتبس وعصي على التصنيف.. هو غامض. سكوت. لا يتبرم من شيء وكأنه مولود هنا. من الصّعب التكهن بما يدور في خلده.
الآن يتذكر عماد لماذا ارتاح لسحنة الرجل الخضراء مجرّد أن رآه!.. إنه نسخة من وجه أستاذ الكيمياء الذي درّسه في ثانويّة إربد، يذكر أنه كان معلّماً مرحاً، عندما يريد أن يوقد الشعلة في مختبر الكيمياء كان يقول: هات ولعة يا ولد، ثم يضحك: نصكم يدخن بالسر. لازم واحد معه كبريتة.. يسارع أحد الطلاب لإيقاد الفتيلة..
يأتي أخو الشكيك المدرس في الثانويّة قبيل نهاية وقت زيارة الثلاثاء بقليل - يفتح شبك الزيارة للزوار يومي الثلاثاء والجمعة من العاشرة وحتى الثانية ظهراً- يقف الأخوان التوأمان كأنما ينظر أحدهما في مرآة... وعند رنين جرس نهاية الزيارة يمد الأستاذ يده إلى جيبه ويناول الشكّيك ورقة نقديّة مطويّة بعناية، ويمضي!..
في المهجع لا يتحدث الشكّيك عن نفسه، ولا عن غيره. بل لا يتحدث إلا مضطراً، وإذا تحدث يتحدث بصوت واهن يكاد يمحو من ذاكرة عماد ضحكة شقيقه المرحة.. لعل هذا الغموض دفع المساجين لإطلاق لقب "الشكّيك" عليه دون غيره من "الشكّيكة" النصابين أو الساذجين. فالناس يتعاملون أحيانا مع ما أُشكل عليهم بتغليفه بعنوان واضح.. لترويضه ربما، أو للنكاية به! هكذا مثلما نضع على زجاجة لا نعرف ماهيتها، ولا مزيج محتوياتها ملصقاً يقول "الزجاجة"..
من جهة أخرى، منحه هذا الغموض مهابة خاصة وضعته في مصاف شيوخ السجن!
الشكّيك كان يبدو في الخمسين من العمر، هو طويل بائن الطول. ليس بديناً ولا نحيفاً. شاربه أسود كث، عالي الجبهة، أجعد الشعر. يميل وجهه للخضرة، يضع دائماً نظارة قاتمة على عينيه. باهت المشاعر. قليل الانفعال.. بعد الاعتصام صارت صورته أمام الرفيق أكثر بشاشة وشبابا وحماسة، وبدا في نهاية العقد الثالث من العمر..

* * *

داخل المهجع ظل التوجس جاثماً على الأنفاس.. اصطف طابو ر طويل أمام المبولة الداخليّة. لم يشعل أحد بريموس، ولم يكلّم أحد جاره، ولا فتح صاحب دكانٍ صندوقه.. ففي كلّ مهجع دكانان: 1- البقالة وهي صندوق خشبي له قفل صغير يحتوي بضع علب من الفول والحمص والسردين والتونة والحليب المكثف والبسكويت.. وباكيت أسبرين للصداع، وعلبة فملكس يطرّي المعدة .. 2- دكان الخرز: كيس بلاستيك كبير به أكياس صغيرة تحتوي على خرز صغير بألوان مختلفة، وكيس به خيطان، وآخر به صنارات، وثالث إبر وميابر، ورابع للكشتبانات.. يضاف إليها لوازم الوشّامين: أقلام كوبيا، كحل. صمغ. حزم إبر رفيعة وطويلة. ورق شمعي لرسم الوشم قبل طبعه على الجلد، فصناعة الوشم من المهن المربحة في السجن. أما المسابح والأطواق والمنسوجات الخرزيّة فهي مصدر رزق محترم؛ يبيعونها للزوار، ويرشون بها الشرطة، ويشترون بها مواقع أوسع لأبراشهم..
بعد أذان العشاء، دخل المآمير لعد المساجين. تمّ العد المسائي بهدوء.. بدأت النفوس باستعادة توازنها، وشيئاً فشيئا دبت الحيويّة في المهجع، وارتفع لغط خفيف ما لبث أن تصاعد مختلطاً بفحيح البريموسات التي هدرت تنضج الطعام، وتغلي الشاي.
بعيد منتصف الليل داهم الشرطة المهاجع مسلحين بهراواتهم وكلبشاتهم..
كان عماد ما زال يقظاً يداري وساوسه بتصفح الكتاب الثاني من تاريخ الجبرتي لما خشخش قفل الباب..
انتبه. وقف مستنفراً من حوله:
- قوموا. أجونا..
وسرعان ما بطحه شرطيان مقنعان. لفّا ذراعه بعنف إلى الخلف. ربط أحدهما عصابة على عينيه، فيما ركبته تضغط على ظهره، وتكاد تقطع أنفاسه، وثبت آخر الكلبشات في معصميه.. ولم يعد يشعر بما حوله..

قبو الأخيار

صحا عماد من إغماءته مقلوب الحال.. تقيأ.. أسعفته أشباح لم يستبن إلا هسيسها.. وانتعش قليلاً.. سمع ضحكة القط، وهو يقول:
القبو منوّر بضيوفه..
فح صوت الشكّيك:
- كيف صرت يا رفيق؟
قال: جوعان.
قال الكرزم: وانا حموت جوع..
توقف القط عن النطّ، وقال: يخسا الجوع.. أزاح حجراً في عمق القبو.. مدّ يده في العتمة وأخرج قرطاساً به كمشة زيتون، وكسرات خبز يابسات.. ثم انطلق إلى زاوية أخرى، فأحضر قنينة بها ماء ووضعها أمام ضيوفه.. وجلس يوزع كسر الخبز وحبات الزيتون.. كأنه المسيح في لوحة العشاء الأخير..
قال عماد: ياه، في حياتي لم أذق أطيب من هذا الزيتون، ولا ألذ من كسر الخبز اليابس!
صحّة وهنا..(قال الشكّيك)
قام القط يتمايل مثل خيال الظل ويغني:
يا مين يرجعني صغير وياخد مالك يا دنيي
أوف أوف أوف وارجع إكبر ع الهدا
سرت عدوى البهجة بينهم، فاصطفوا حول القط يسحجون الدحيّة، والقط يحوشي بالوسط برشاقة وخفة..
هويدا ويدا لك يا هويدا ويدا لي
يا حلوة يللي ع الجبل ظلّي اضحكي و تدلّلي
هههههه
فرطوا من الضحك. الضحك العالي الذي يرفع قبة القبو الصّخريّة عالياً، ويستدر دمع القلب الصّافي..
قال كرزم: الله يكفينا شر هالضحك، ويعطينا خيره.
قال القط: ويعطينا غيره..
قال الشكّيك وهو يشرق بضحكته: كان لازم يسموك كناري أو بلبل مِشْ قط.. ردّ القط مترنماً:
واغنم من الحاضر لذّاته، فليس في طبع الليالي الأمان
ظلّوا يسخرون من الحاضر ولذّاته، يضحكون ويثرثرون حتى الصّباح.. لا يدرون أي وقت من الصّباح.. لكن باب القبو فتح موارباً، وأطلّ طعام الفطور: بلوك خبز، وحفنة زيتون، وثلاثة أكواب شاي!.. تناولها القط وقسمها بينهم بصفتهم ضيوفه!..
ازدردوا طعامهم واستسلموا للنوم صرعى..

* * *

لما لكزه القط ليصحو لم يدرك أنه في القبو.. تذمّر واستدار متابعاً نومه.
همس القط: اصح يا رفيق.. اصح.
- هم.. شو يا قط.. لا تنام ولا تخلي حدا ينام؟
صحا. شعر أن جسمه مهدود، حرك أطرافه بحذر..
- فيق يا رفيق.. قوم .. أرضيّة القبو رطبة، والنوم الطويل عليها مِشْ كويس لعظامك.
نظر حوله بدهشة، رمشت جفونه ليعتاد العتمة.. وقف يحرك ساقيه، فاضطر للانحناء قليلاً لأن سقف القبو قريب وغير منتظم..
- تعال هون عند الباب.. الرطوبة أقل. (قال القط)
جلس بجانب القط، وأسند ظهره إلى الباب الخشبي الثقيل..
- بدي أقول لك شي..
ضحك عماد: شو!. فيه "دحنونة" هون؟
ضحكا..
- بدي أقول لك شي يا رفيق..
ضحك: شو فيه؟
- شايف الحجر اللي كنت مخبي وراه الأكل؟
قال عماد: الحجارة مثل بعضها.
القبو عبارة عن مغارة صغيرة، جدارها المقابل مسدود بحجارة منتظمة!
ضحك القط: تفقدتها حجر حجر، شو وراي، على ايش استعجل.. لما تزحزح الحجر.. احزر شو لقيت ؟.. خفض صوته أكثر: لقيت سرداب..
هتف عماد مندهشاً: سرداب! لوين يوصل؟
- حبوت فيه لجوا، بعدين خفت اختنق ورجعت.. يعني أوله تمشي فيه وانت مقرفص، بعدين صرت ازحف على بطني.
- تفكّر بالهرب يا صديقي؟
- دايماً أفكّر بالهرب.
لمعت بذهن عماد فكرة: ليس مشهد القصيلة عند الغروب هو ما يجذب القط للتسلل إلى المنطقة المحرمة عند الباب الخارجي. بل الرغبة بدخول القبو.. هنا يستكشف طريقه إلى الفضاء يوماً بعد يوم حتى تكتمل الخطة! من هنا يرى حريته. يرى عرزاله ودحنونه وصفرة البابو نج.. وشجرة التوت!
شعر بخيط نور رشيق ينعش زهو الياسمين في صدره..
- بدك أهرب معك؟
ضحك القط، وقال: صح. مزبوط..
- من السرداب؟
- من الباب.
- أي باب؟
- الباب الرئيسي..
شعر كأنه يحاول تضليله: قطيط! لا تسرح فيَّ، انت تتسلل عند الباب الخارجي، وتتعمد تستفزهم تا يحطوك بالقبو.
ضحك القط: كلّ القصة وما فيها؛ لما يتعوّدوا يشوفوني بالمنطقة المحرمة، يبطلوا ينزلوني ع القبو.. آه.. ولما يتعوّدوا يشوفوني هناك يبطلوا ينتبهوا..
- ولما يبطلوا ينتبهوا..؟!
- هيك، شي ليلة برد وشتا بمزط من الباب لنّي بالشارع..
(لماذا يبوح بخطته..)
صفن عماد: حيّرتني يا قط!
[لم يكن الأمير الصغير يعطيني التفسيرات أبدا، لقد كان يظنني شبيها به. ولسوء حظي لم أعد أستطيع رؤية الخروف من خلال الصندوق. أظنني أصبحت أشبه كبار السن قليلاً.. لقد هرمت.]

* * *

حسب خبرة القط في حياة القبو فإن الوقت صار المغرب.. فقد فُتح باب القبو مصدراً صريراً حاداً أيقظ النيام.. تناول القط من حارس القبو قصعة ألمنيوم بها أرز تغشاه بضع حبات من الفاصوليا البيضاء، وإبريق ماء بلاستيكي كان في يوم ما أخضر اللون.. تناول الكرزم إبريق الماء. "زنقح" قليلاً. تمضمض.. ثم مد يده اليمنى فصب عليها قليلاً من الماء ومسح وجهه. تناول الشكّيك الإبريق واستدار إلى الجنوب.. وهم بأن يتوضأ.. سارع القط فأمسك الإبريق!
رفع الشكّيك حاجبيه مستنكراً.
قال القط: المي ما تكفي.
قال كرزم: ضروري الصّلاة واحنا على هالحال؟
استدار الشكّيك إلى الحائط "فطبطب" عليه براحتيه مثيراً بعض الغبار المعتم، وتيمم.. ثم صلّى المغرب والعشاء جمعاً وقصرا.
هذه أول مرة يتناول الطعام المطبوخ في مطبخ السجن.. لكن الجوع أمهر الطباخين.. صار الأرز ينقص، وظلّت حبات الفاصوليا البيضاء تتدحرج من جهة إلى جهة.. كلّ واحد منهم يوفر التلذذ بها لزملائه..
قام أبو ليلى الشكّيك بتوزيع حبات الفاصوليا بينهم بالتساوي.
قام الكرزم ضاحكاً: المثل يقول اصطبح ومد وافلح. تغدى وتمطّى. تعشّى وتمشّى..
قام يمشي هو والقط في المساحة المتاحة أمام عتبة الباب..
من الصّعب على الشكّيك وعلى عماد المشي تحت السقف الهابط، فانزويا في الركن تاركين مساحة أوسع لخطوات زميليهما..
لكل قبضاي وشمه الخاص. كرزم وشمه الأفعى.. وهي الشيء الوحيد الممطوط على جلده أما ما تبقى فكلّ ما فيه مربع؛ رأسه مربع، وجهه مربع، أنفه مربع.. وهو مربوع القامة، متين البنية كأنه قدّ من حائط.. حنطي البشرة، شعر رأسه مثل كومة مسامير صدئة، له شارب أشعث كفرشاة مستعملة، جفن عينه اليمنى المتهدّل يوحي بالمكر..
القط لامع العينين، شعره طويل ناعم، يحفّ لحيته وشاربيه ويصبغ شعره بانتظام.. يبدو وهو ابن الستين أصغر من كرزم الذي جاوز الثلاثين من العمر!
القط يمشي صامتاً.. الكرزم يتمتم بلعنات دارجة، ختمها بسؤال زميله القط:
- وين سارح يا القط؟ مزاجك اليوم مِشْ مثل امبارح؟!
لم يجبه القط، بل كتّف ساعديه، وتربّع قدام الشكّيك، وقال:
- عللنا يا بو ليلى..
ضحك الشكّيك.. (ربما كان ممتناً للقط لأنه ناداه بلقب نادراً ما ينادى به هنا!) وقال: فيه حدا يحكي وانت موجود؟!
تنحنح القط، وقال للكرزم: أقعد يا رجل، حولتنا وانت رايح جاي.
جلس كرزم، وقال: إذا فاتتك المدارس عليك بالمجالس..
عقد القط يديه على ركبتيه، وراح يقص:
كان يا ما كان.. كان فيه قرية اسمها اليونان.
أهلها شاطرين ويفهموا، ما خلوا شي ما سألوا عنه، وكتبوه..
كان ربهم اسمه زيوس، وكان فرحان بعلّمهم، ويباهي فيهم أرباب القرى البعيدة..
لكنّهم زادوها وحطوا راسهم براسه. وقالوا مين هو زيوس؟ بدنا نعرفه.
فقام زيوس لبس زيّهم، ونزل يتحداهم..
صادف شاب أول طلعته، يعني قدك يا رفيق.. سلّم عليه، وسأله: صحيح انتو تعرفوا كلّ شي؟ قال الشب باستظراط: تفضل اسأل.. سأله الرب: بتعرف وين زيوس؟ تطلع الشب لفوق، ونظر لتحت.. رفع عيونه بالزلمة اللي قدامه، وقال له: دورت بالسما ما لقيته، وفتشت ع الأرض ما لقيته.. الرب واحد من اثنين يا أنا يا أنت! غضب الرب، وحط كفه تحت القرية اللي أحبها، وقلب عإليها سافلها.. تهدمت مبانيها، وطارت أوراق أهلها بالهوا.. ووصلت القرى البعيدة، فقروها الناس، وتعلّموا منها..
من يومها كلّ الفهم اللي بالدنيا أخذوه الناس من الورق اللي كتبوه اليونان..
تنحنح عماد، وسأل القط: انت قرأت أرسطو وأفلاطون..؟
لم يجب.
ساد الصّمت! وراح عماد يفكّر:
من أين أتى بهذه القصة؟ هل هو قاريء جيد، أم هي مجرد حكاية برتها الألسن حتى وصلت هذا القبو الترابي على هذا النحو!..
توسّد الشكيك حذاءه، وتمدّد.. حذا الآخرون حذوه.. وناموا.. الوحيد الذي وجد نفسه هنا حافياً بلا مخدّة هو عماد!.

* * *

الشكّيك هادئ بطبعه، لكن غموضه تكشّف عن رجل شجاع، مبادر. ذي قوة كامنة.. كرزم محكوم سبع سنوات بقضيّة سطو: "كسر وخلع"، لكنّه ثعلب حذر. متربص.. صديقي القط رائع وهو يحطم ببساطة طفل كلّ ما يفرض إطاراً لروحه..
يشعر عماد أن هذه العصبة من البشر الخطائين تمتلك القدرة على التضامن، والمزاحمة، والصّمود، أكثر من النخب المثقفة، والأحزاب المقموعة..
هذه الأفكار طارئة على منظومة مسلماته، فقد كانت نظرته النقدية تعاين الواقع بمهارة لكنها كليلة عند النظر إلى قدرات المعارضة الهشة، الابتعاد قليلاً يتيح له رؤية الخاروف داخل الصندوق..

* * *

في هزيع من النوم أحسّ عماد بدفء جسد في حضنه! صحا على الكرزم يتلوى دافعاً ظهره نحوه. شعر بحرج بايخ، واستدار جسمه جهة الشكّيك. الشكّيك يغط في نومه بعمق. ما لبثت المسافة بينه وبين الكرزم أن تلاشت! كتم أنفاسه البيض، بل انكتمت أنفاسه توجساً، هل الكرزم يتقصّد ملامسته؟
التصق ظهر الكرزم بظهر عماد وشعر بيد كرزم تمتد وتعبر وسطه باحثة عن.. هل يحلم الرجل؟.. فزّ عماد هاتفاً: كرزم!
استيقظ القط: خير فيه شي؟
كان كرزم قد انزاح قليلاً متكوراً على نفسه.. وبدا كأنه يغطّ في نوم عميق.
بلا تفكير مسبق هتف الرفيق: كلب..!
لم يقل القط شيئاً، فرد فردتي حذائه، وأشار للرفيق أن ينام من جهته. لفّ فردة حذاء القط بقميصه، توسّدها وتمدّد.. لم ينم.
ثمة سلوكيات يحاكمها العقل. فيرفض أو يتفهم. يدين أو يبرر. ينذر أو يعذر؛ وعلى الجسد أن ينصاع.. وثمة أشياء يشعر بها الجسد فيكبت ويتظاهر، أو يبحر في مسار آخر معانداً العقل والمعقول.
للجسد سلطانه إذا أشار أو رغب أو تعب، وله غواياته إذا رقص أو انتشى أو طرب.. وللجسد حدسه بالمسرات، وتوقه للتحرر، وغلوّه في الانفلات.. لولا أن العقل لجام!
هل الجسد من طين حقير، والعقل من نور مبين؟! هل الجسد معصية، والعقل معرفة؟!
معرفة العقل ناعمة يسهل خدشها ونسيانها، ومعرفة الجسد نقش معجون بالرغبات، مدموك بصخب التجارب..
ولسرٍّ ما يعاقب الجسد بجريرة العقل! فقد تُسلط عليه لسعات السياط، وقد يقضي سنوات في ظلمة السجن.. ذلك أشبه بالساحر الذي يهوي بهراوته على جسد الممسوس لطرد الجن.
الجسد متسامح حنون. دائماً يغفر زلات العقول، ويتحمّل الأذيّة، ويقبل تحمّل المرض والحرمان والسجن، لكنّه في لحظة ما ينسحب من اللعبة وللأبد.. ويتركنا معلّقين في الفراغ!
عدّل عماد فردة الحذاء تحت رأسه. فرد جسمه محملقاً بشفافيّة العتمة.. إنه يحنّ إلى مخدته. يحن إلى برشه. يفتقد همهمة وغطيط المساجين في المهجع!.. آه ما أسرع ما تضيق الرغبات.
يقطّر القبو برد الهزيع الأخير من الليل فيذكّر الجسد بالدفء.. بالضبط دفء جسد قريب. دفء الكرزم وهو يتململ؟! يتساءل الرفيق: هل الكرزم "منيك"؟ لم يشع عنه ذلك. رغم أن هذه الإشاعة تلاحق الكثيرين من النزلاء من كافة المستويات والأعمار!..
سبق أن سمع عماد عن وسائل استدراج "المستجدين" للغواية: يغري اللوطي طريده المستهدف بملاطفته، ويسمح له، بل يغريه بأن يلحمس على مؤخرته حتى ينتعظ، فيداعب العُتُل عضو شريكه بحنكة حتى يفيض، ثم يطالبه بردّ الجميل.. وهكذا خطوة خطوة حتى يصطاده في ملعبه!
انقلب على جانبه مديراً وجهه باتجاه القط. نصف وجهه غائر في فردة الحذاء. النصف الثاني غارق في الهدوء. جسد القط الناحل يتمدّد على بعد سنتمترات قليلة. بوده لو يقترب.. يتأمله بمحبة. شعر خلايا جسمه تتوق للاقتراب أكثر. استيقظت شهوة خمريّة داخله. رغب بدفئه. اكتست أنفاسه بزغب أحمر. وكاد يزحف باتجاه القط.. في لحظة وميض أزرق، انقلب إلى الجهة الأخرى باتجاه الحائط.. بلل كفه بلعابه نفض سمه، وغفا.
استيقظ على صوت شجار!
أبو ليلى الشكّيك يمسك بخناق الكرزم، ويصفعه: يا وسخ. يا واطي.
- هو عبطني من ورا، والله ما..
- تعبطك هاه. (وصفعه مجدّدا..) بدكو توسخوا أنبل واحد بها السجن يا عكاريت.
يبدو أن القط وشى به للشكيك.. تدخل الرفيق بينهما.
- خلص ما صار شي يا بو ليلى.
- ما عليك انت.. (وصفع الكرزم مرة أخيرة): بعرف نجاساتكو كلّها يا واطي.
تملّص كرزم من قبضة الشكّيك، وأدار وجهه جانباً، وقال:
- وانا بعرف مين شمط المأمور اللي اسمه..
انقلبت سحنة الشكّيك.. وارتجف حنكه غضباً.. رفع قبضته بتصميم وحنق ليسحق الكرزم. لكن الباب فتح في تلك اللحظة، وبقيت قبضة أبو ليلى الشكّيك معلّقة في الهواء..
لم يدخل طعام الإفطار، بل قال الشرطي: تعالوا كلكوا.. اطلعوا.

انقلاب

طلعوا.. غابو ا ليلتين عن السجن وشؤونه؛ لكن أشياء كثيرة تغيرت!.
تحقق مطلبهم؛ وصار المساجين يؤوون إلى مهاجعهم عند أذان المغرب!
تبدلت اليافطة المربعة السوداء على باب السجن المكتوب عليها بخط الرقعة "سجن إربد" بآرمة زرقاء كبيرة مستطيلة مكتوب عليها بخط النسخ:
[المملكة الأردنيّة الهاشميّة/ مديريّة الأمن العام/ مديريّة مراكز الإصلاح والتأهيل/ مركز إربد للإصلاح والتأهيل]
علّق الختيار محتجاً: إيش يعني؟ إحنا معاقين!.. إذا مستعرّين من كلمة سجن يسمّوه بيت الخالة.. مِشْ لما يسجن واحد يقول عنه الناس راح "لبيت خالته"!
دخل السجن نزلاء جدد.. وأُفرج عن آخرين؛ دخل السجن قبضاي اسمه أبو القناني سبقته سمعته إلى هنا، وأفرج عن الشكّيك فجأة دون أن يُشبع فضول أحد ببيان علّة سجنه، ودون أن يُعرف سبب الإفراج المفاجئ عنه!..
أُحيل الحاج ملقي على التقاعد، وحلّ محله عطا الله بك في إدارة السجن!.. ترفع الشاويش حيدر إلى وكيل ضابط، ونقل إلى مديريّة السير، واستلم البوابة الداخليّة الشاويش يونس!
صار مصيص شاويشاً للشرقي بدل وطوط. وانتقل عسّاف شاويشاً للقَاووشْ الشمالي بدل الكرزم، وظل أبو حديد محتفظاً بمربعه الذهبي!
عوقب كرزم بالجلد في وسط الساحة لأنه قال: تبدلت غزلانها بقرود.
وتقرر نقل الرفيق من الجنوبي إلى الغرفة البيضاء!..
اجتاز ظرفتين خشبيتين خفيفتين، تعلوهما مظلة من الزينكو، الباب طُلي بالأبيض تمييزاً له عن باقي أبواب السجن السوداء ذات المحور الواحد..
يا للترف!
لكن الرفيق ليس مرتاحاً بانتقاله إلى هذه الغرفة.. يشعر كأنه نفي إلى جزيرة نائية!..
زملاؤه الأفنديّة والبهوات السبعة لا يرحبون بوجوده بينهم!.. انشغلوا عنه بمتابعة التلفزيون الصّغير، امتيازهم الخاص الجالس على رف في الحائط الغربي بجانب الباب..
بعد ما فرد برشه، تشاغل عنهم وعن تلفازهم بتقليب صفحات كتاب البدوي الملثم عن عرار دون أن يقرأ حرفاً..
وشششش.. وششششش.. وشششش.
انقطع البث.
خلال فاصل اعتذار عن خلل فني على الشاشة الصّغيرة تنحنح شاويش الغرفة المدعو حشيش، مضيّقاً عينه اليسرى، وسأل: شو صرت موالي للحكومة يا.. ؟!
رفع الرفيق عينيه عن الكتاب، وسأل بعبط: أي حكومة؟
- هيء هيء هيء..
ضحك الرجل، وقال: الحكومة اللي حكمتك عشر سنين.
وضحك الجماعة شامتين..
تنحنح علاء الدين ملبورو، وسأل ساخراً: بتفهم في السياسة؟
قال الرفيق بجديّة: شو الموضوع اللي يهمك؟
فتأتأ ملبورو مرتبكاً، ودارت عيناه بمحجريهما حيرة: السياسة.. مِشْ انت معتقل سياسي!
علّق أبو زكي كناري: في جزر الكناري ما حدا يهتم بالسياسة.. خمر ونسوان وفت مصاري. هناك ما فيه سياسة.
تبرع حسن ترانزستور بإكمال الحوار، دفع وسط نظارته بسبابته، وقال بجديّة: شو رايك بمؤتمر جنيف؟
أجاب كتلميذ يقظ: فلسطين يحررها النضال ما تحررها المؤتمرات.
علّق معإليه هازاً لغده الوردي: شاطر والله.
فضحكوا مجاملة لمعاليه..
قال أبو جميل المهندس، أو أبو جميل الماصورة، وهو أحد خريجي موسكو الحمراء، يقال انه كان شيوعياً متطرفاً هناك، لكنّه ينكر ذلك ويستنكره، قال وهو يمسح شعره الذي بلون الألمنيوم:
- لكن الاتحاد السوفييتي العظيم هيء هيء.. موافق على مؤتمر جنيف جديد.
رد الرفيق: ونا مالي.. لكنّه شعر بالحرج في داخله وكأنه مسؤول عن السياسة الخارجيّة للاتحاد السوفييتي.
هتف أبو زكي كناري ماداً ذراعه إلى مداها باتجاه تلفزيونه المنشغل عن هذرهم بوشيشه: بدنا نظل نستنى.. قوم يا ولد حط ع الشام.
قام خادمهم الطج يبحث عن محطة الشام تحت وابل من إرشادات المشاهدين.
يشعر الرفيق بحرج مبهم، لا يرغب أن يصير ثامنهم.. بالضبط هو ليس ثامنهم، هم ستة وخادمهم. موقعه هنا بين السابع والثامن.. بينه وبين عتبة الباب ثامنهم: الطج..

* * *

كلّ مكان يشتقّ رائحته الخاصة، رائحة الزنزانة بول ودم. رائحة السجن سناج ود.د.ت، رائحة القاووش فساء بشري وبصل مقلي، رائحة القبو تراب معتّق وعطن الرطوبة، رائحة الدار البيضاء تبغٌ وشواظ شحم حيواني..
الغرفة مربعة الشكل .مسقوفة بالخشب. لها شباك شرقي. وخزانة غائرة في الحائط الجنوبي. أمامها باحة صغيرة في زاويتها الشماليّة مرحاض ومغسلة وحنفيّة ماء مزروع بجانبها شتلة ريحان، ونبتة سجادة خمريّة اللون.. في الزاوية الأخرى جرّة ماء، ونتوءات حجريّة توضع عليها أدوات الطبخ..
ربما بسبب هذه الإضافات سُمّيت مجازاً "الدار البيضا"..
ليلته الأولى في الغرفة البيضاء أرق!
تجافيه المخدّة.
لما سمحوا لأبيه بزيارته في مبنى المخابرات، قالوا له: ابنك شيوعي كافر. قال لهم: كافر!.. هاي لرب العالمين يحاسب عليها.. شيوعي؟ هاي سياسة. انتو واياه تصطفلوا عليها، لكن اليد اللي تنمد على ابني بكسرها..
توقفوا بعد هذه الزيارة عن ربط رسغيه بكوة باب الزنزانة.. بل كفوا عن الإيذاء الجسدي دفعة واحدة!
هل الثقل العشائري يخفّف عنه ثقل القاووش..؟
هل يحاولون عزله عن جمهرة المساجين؟
هل يرمون إلى تجنيده مع "العصافير"..!
في المنام رأى نزلاء الدار البيضا على هيئة ضباط أمن يتحلّقون حول مائدة كبيرة يتداولون في أمره وهو في الوسط مثل جنرال ماركيز في متاهته.. صحا مكتئباً جافّ الفم.. قام يشرب ماءً.. باب الغرفة مفتوح على ضوء القمر.. القمر يضيء هواجسه بشراسة، فيهرب للتحديق بتفاصيل الساحة وهي خاوية..
جنوباً نافذة المطبخ. إلى جانبها غرفة "الأحداث" أي الأطفال الجانحون. بجانب "غرفته" شمالاً القَاووشْ الشرقي. أو قاووش المهربين.. وهو أوسع، وأحدث مهاجع السجن. يقال انه بني بعد أيلول الدامي عام 1970م..
الضلع الشمالي من السجن يتكون من الحمّامات والمغاسل والمراحيض والقبو الذي تعلوه بوابة طوارئ شماليّة صغيرة الحجم مغلقة دائماً.. الواجهة الغربيّة والبوابة الجنوبيّة هما فخر السرايا وتاريخها العتيق..
مال إلى مخدته الناعسة يفكّر.. هل تَوَقّعَ سنان باشا وهو يصمم مباني العثمانيين وقلاعهم واصطبلات خيلهم أنها ستصير مهاجع للأحزان!..
توسّد مخدّته عنوة، وهمس: في الصّباح سأطلب من الإدارة إعادتي إلى مكاني في الجنوبي، وإلا.. وإلا سأتقدم ب"الاستنكار".. واخلص!!

* * *

طلع الفجر، الوقت الشجي العزيز على النفس.. يتلوه خروج "الأحداث" مدججين بمكانسهم الطويلة ودلائهم البلاستيكيّة، يشطفون الساحة.. ثم يختفون فجأة. وقتٌ للصّمت. يا لجلال اللحظة. يحبُّ ساعة الفجر.. هي له في هذا الجزء الصّغير من الكون، وما يتمناه الآن أن لا يعجلوا بفتح الأبواب، حتى ينعم بمزيد من السكينة الصّباحيّة..
أشرقت الشمس. فرح بحزمة أشعتها العابرة من فسحة في الشباك.. توهج مع ذرات الهباء في حزمة الضوء الذهبيّة، وتبعها إلى حافة الشباك المُغَبّر.. سمع ضجيج استيقاظ المدينة. تشمم الرائحة المازوتية لعوادم السيارات التي تصعد التل. وضع عينيه بعين الشمس..
- حرريني أيتها الغزالة من ترف الغرفة البيضاء.. ما من أحد سواك قادر على انتشالي من هنا خفية عن أعين الحراس.. خذيني أيتها الحرة مع شعاعك المنسحب إلى فضائك الشاسع!
أنهت الشمس زيارتها القصيرة لنافذته. سحبتْْ آخر خيوطها الذهبيّة، ودبّت الحركة في باحة السجن. خرج إلى قهوة الطموني.
- أحلى فنجان قهوة للأفندي..
- ما بدي قهوة يا طموني. بدي شاي.
"الأفندي"!.. لم يُطربه اللقب الجديد، واستعجل ارتفاع الشمس كي يتمكن من محو هذا اللقب عنه!.. طلب من يونس مقابلة المدير الجديد.
ناوله الطموني كاس شاي مبكر طازج وساخن.. شربه على مهل، شربه على طريقة شرب "الزقرط"؛ شفط منه شفطات طويلة متمهلة: يففففففففف، وأتبع كل شفطة بتنهيدة: إحححح، لكن هذه الحركة لم تقرّبه منهم. قام يحوم الساحة أفندياً مُنبتاً غريباً عن المساجين الذين غادرهم، منبوذاً من "نخبة السجناء" الذين حلّ بينهم! حتى استدعاه عطا الله بك..
البك رجل جهم القامة. مكور الرأس. أكرت الشعر. له أنف ملموم، وفم صغير، وعينان عاديتان؛ لكن هذه التفاصيل ضائعة في سمرة وجهه الشاسعة.. حقاً إن وجهه قفا محماسة!..
قال البك بلا مواربة: نقلناك للدار البيضا مشان تعقل..
تحسّس عماد ورقة "الاستنكار" المطويّة في جيبه، وقال: لكني مرتاح في الجنوبي.
كأنه لم يسمع. كان متحمّساً لمهامه الجديدة.. راح يثرثر مستعرضاً أسلوب إدارته "الحديث" الذي ينسجم مع مفهوم الإصلاح والتأهيل:
..المساجين عندي سواسية كأسنان المشط.. ما فيه عندي كبير غير سيدنا.. اعتصامات وإضرابات ونمردة ما عندي.. الرحمة تخص والغضب يعم.. وغمز بشكل غير مباشر من إدارة الحاج ملقي: (سياسة دقة ع الحافر ودقة ع المسمار) أخذها الحجي معه الله يسهل عليه. زمان أول حول.. إدارة الدقة القديمة انسوها.. وختم حديثه بقوله: اختر الدار البيضا أو القبو؟
اختار عماد بلا تردد: القبو.
جحره البك جحرة وطنيّة عارمة، جعلها قاسية قدر الإمكان.. وهتف:
- فشرت. أنا قراراتي ما تنزل الأرض.
قرع الجرس. حضر شرطي مخطوف اللون. أدى التحيّة، وتهيأ.
قال عطا الله: كلبشوه، ورجعوه ع الدار البيضا..!

* * *

نام ليلته الثانية في الغرفة البيضاء مكلبش اليدين.. لكن مخدّته صارت حنونة، تمدّدت شجيرة الياسمين يانعة خضراء في روحه، ونام بعمق.
لا أحد يا رفيق سيصدّق أنك كنت تعود من ساحة التحقيق إلى زنزانتك مدمى وسعيداً.. إلا من عاش التجربة!.. لا أحد سيتفهم فرحك بأساورك الليلة إلا مخدتك!
في الصّباح توافد المساجين يتفرجون على نزيل الدار البيضا "المكلبش"..!
خرج الرفيق وجلس في الباحة الخارجيّة مقابل زير الماء.. جاء أبو زهرة يتأبط صندوق الشطرنج الذي لا يفارقه. سلّم عليه، وصار يبكي..
عسّاف غضب غضباً شديداً: (يفضح خواتهم أولاد شغموطة).. وهدد بأن "يشكيهم!" للباشا.
وطوط، شاويش الشرقي المعزول شدّ على ساعده، وقال مؤازراً: ولا يهمك.. شدّة وتزول.
لوى كرزم شفته السفلى غاضباً، وقال: بسيطة.. الجايات أكثر من الرايحات.
جلس الختيار بجانبه دون أن تكف أصابعه عن ختم آخر غرزة في طوق الخرز، وقال: جابو ك لهون مشان تتعوّد. خليك جدع.. ثم مدّ يده مقدّما طوق الخرز إلى عماد..
هديّة مني.
عِقْدٌ باهر منسوج بالخرز الملون الناعم بتدرجات قوس قزح.. قلادة في غاية الدقة والإتقان..
قال عماد: ولكن..
لم يقل ما يفكّر به.. (ما حاجتي به؟ لمن سأهديه؟..)
- الهدية ما تنرد يا رفيق.
جامل الختيار بتأمل ما صنع، وشكره..
أحبّ عماد الختيار.. رغم أنه من وجهة نظر العدالة قاتل مع سبق الإصرار والترصد!.. إلا أنه عقل راجح. ورجل كريم.
الختيار محكوم مؤبد، أمضى عشرة أعوام، وبقي عليه عشرة.. يقول انه كان مضطراً لقتل الرجل! وبدا هذا "الاضطرار" مقنعاً للرفيق اليوم أكثر من أي وقت مضى..
عند الضحى قطع القط عمله، وجاء إلى صديقه..
المفارقة بين نزيل الدار البيضا المبجل، و(العيّل المكلبش مثل الزعران)؛ فيها من الطرافة ما أضحك القط حتى وقع على الأرض هامساً: هذا البيك مهستر.. ثم انزوى إلى جانب الرفيق، وهمس له: أبو حديد قال؛ باعنا الرفيق.. أبس الختيار بهدله.. ثم خرمش صوته مقلداً الختيار (وحد الله يا زلمة)... الكرزم علّق على جيتك للدار البيضا؛ (ناس عز وناس معزى)..
ضحك الرفيق: فُكْني يا زلمة من القال والقيل.. روح لشغلك أحسن ما يبهدلوك.
قال القط: مِشْ قبل ما أقدم لك خدمة.. أشعل لك سيجارة؟
ضحك، وقال له: اسقني.
رغم نظرات ملبورو المستنكرة!.. ذهب القط إلى جرة الماء. تناول كأساً ورقيّة من تلك التي "يُبذّرها" سكان الدار البيضا، وداعب نبتة الريحان بكفّه حتى فاح عطرها، ثم غرف ماءً وعاد.. شرب عماد فيما القط يفرك كفيّه، ويتنسم رائحة الريحان..
- تحب الريحان؟
- أحب كل شي بنحب.. لكن أحب الدحنونة أكثر..
- طبعاً.. مين أغلى من فهدة؟!
- ههه! انا قصدي الدّحنون ما غيره..
- الدحنون؟!
- الدحنون لون واحد، أحمر أو أحمر. الدحنون زاهي ومتواضع. يطلع وين ما كان: بالسهل، بالجبل، بالحارات، ع السناسل.. إن قطفته يذبل، وان تركته يكثر.. عمرك شفت حدا زارع دحنون، أو يبيع دحنون؟ هههه عمرك شفت دحنون محبوس بغرفة، أو مربوط بباقة؟ الدحنون حر..
ضحك عماد: قط وفيلسوف!
ردّ القط بمرح: قط وحرامي. قط وسباك. قط ومهرج. قط وعاشق..
قاطعه ملبورو ساخراً وردد على نغم الإيقاع: قط و"عصفور"..
ضحك القط: يا ريت أصير عصفور.. وأطير.
تدخل الطج: قصده واشي. يعني عصفور من إياهم هاهاها..
انكمش القط بجانب عماد كمن أصيب بسهم، نظر عماد بودٍ إلى صاحبه.. وراح يواسيه بقصة:
كنت مستلقياً أراقب عنكبوتاً مدلّى بخيطه الواهي يهبط على الزاوية..
تمنيت لو أنقلب عنكبوتاً لساعة واحدة.. لا. لا.. ساعة واحدة لا تكفي لاجتياز سور السجن.. طيب. ليوم واحد. إذن علي أن أتسلق الجدار، وأمر من بين الأسلاك الشائكة أعلى السور، سأتبختر قليلاً أمام كوخ الخفير وأخرج له لساني اللزج شامتاً، وأمضي إلى الجهة الأخرى.
ترى كم سرعة العنكبوت ماشياً؟..
هناك عند حافة الجدار سأتدلّى بخيطي الواهي.
عامداً سأتدلّى على نافذة مدير السجن.
سألقي نظرة على ما بداخلها من باب الفضول، ثم أتابع نحو الأسفل..
كم سيحتاج عنكبوت ليتدلّى مسافة عشرة أمتار مضافاً إليها دقيقة تلصّص على غرفة المدير وهي تضطّرب بسبب هرب سجين؟..
الآن سأقطع الشارع..
ماذا لو داستني قدم عابرٍ، أو فعسني عجل سيارة مارّة؟
إذن علي أن أنتظر حلول الظلام إلى حين تنقطع الحركة.
لا. لا.. هذه خطة غير مضمونة: ماذا لو صرت عنكبوتاً إلى الأبد؟
أيّة حياة هي حياة العناكب.. ما هي عاداتها وتقاليدها.. كيف ينسج العنكبوت شبكته ليصطاد رزقه؟
حتى لو نجحت.. هل سأمضي حياتي أصطاد الحشرات؟..
حياة العناكب غير مسلّية. أفضّل أن أصير عصفوراً.. أرفرف جناحيّ برشاقة وأطير.. هذا أفضل.
أحط على السلك الشائك فوق السور..
ألقى نظرة أخيرة على الأسوار، الأسلاك الشائكة، البنادق، المهاجع، الزنازين، المطبخ ذي الرائحة المنفرة..
ألوي رقبتي، وأميل رأسي قليلاً كما تفعل العصافير، وألقي تحيّة الوداع على المنهمكين في الدوران في باحة السجن، ثم أنطلق..
أحوم حول الباحة، أرفرف فوق الأسوار، أمر من أمام أنف الخفير الواقف خلف رشاشه في برجه العالي. ثم أبتعد مبحراً في زرقة السماء الواسعة.. وإلى الأبد.)
ضحك القط، وقال: قصة جميلة!.. ذكّرتني بصرصور كافكا يا رفيق.
فتح الرفيق فمه مندهشاً لبرهة..
(القط مثقف منحرف، أم لصّ موهوب؟!) ..
- شو عرّفك بكافكا يا منحوس! .. انت بتقرا؟.. تطالع كتب؟.. يعني انت ..؟!
- أنا قط.. ههههه.. انولدت قط.
تجهم عماد، فرفع القط رأسه، وتنهد..
- اسمي سعيد ولقبي القط.
- سعيد ايش؟
- سعيد القط يا رفيق!
وقام القط معتذراً أنه تأخر عن عمله!
[توجد على كوكب لأمير الصغير أعشاب صالحة وأخرى غير صالحة، وتوجد بالتالي بذور طيبة وبذور غير طيبة، ولكن البذور غير مرئية. إنها تنام في باطن الأرض حتى تحس إحداها بالفنتازيا فتستيقظ..]

* * *

أثار قرار البيك المتسرّع تعاطف المساجين مع الرفيق؛ بقدر ما أثار نزوله الدار البيضاء جفوتهم بالأمس!.. لكن وضعه صار أكثر غربة بين زملائه السبعة في الدار البيضا.
نظمي حشيش كان ضابطاً كبيراً في مديريّة مكافحة المخدرات، سجن لأنه (حوينة.. بضاعة بالألوفات تروح حريق).. وهو هنا يحب أن يدخن النرجيلة مساء وهو يمشي.. فكان يسير في ساحة السجن وخلفه خادم اسمه الطج يحمل له "الشيشة" يبقبق بها الماء المطعّم بأوراق الغار، وينفث الدخان بغطرسة تليق بجنرال!! يخفي صلعته بكوفية وعقال، ويرتدي دشداشة بيضاء تداري كرشه البيضاوي، ويحمل سبحة زرقاء فاخرة تلائم وجاهته.. ويتلهف على أيام عزّه بأن يداوم على انتقاد (شرطة هـ الايام).. موضوع انتقاده اليوم هو الرفيق.. شدّ خيط مسبحته فانتصبت مشيرة نحو الرفيق.. (كيف يكرّموا واحد لا عنده ولاء ولا انتماء، ويحطوه بالدار البيضا!..)
حسن ترانزستور، حجمه ترانزستور، وحذاؤه ترانزستور، ونظارته ترانزستور. وصليبه الفضي على صدره ترانزستور.. ما عدا شاربه الأشقر كث وعريض. كان موظفاً في دائرة ضريبة الدخل، يصنف نفسه بعثياً، فقط لأنه خريج العراق، لذا فهو يهتم بالشأن العام، ودائماً يرفع عند أذنه راديو ترانزستور بحجم الكف، وموقفه ضد الرفيق "أيديولوجي" وليس شخصياً.
سأله عماد: شب جامعي بأول طلعتك لسه ما عركتك الحياة شو مورطك بالرشوة؟
- يا أخي والله ما كانت بنيتي، ولا مفكّر فيها، لكن رحت أنا وواحد من عتاعيت الدائرة نقدر ضريبة الدخل عند تاجر كبير.. ونحنا طالعين، قال التاجر: هات مفتاح سيارتك. قلت: ما عندي سيارة. قال: أعطني عنوان بيتك. أعطيته.. فكّرت براديو. مكوى كهربا.. تلفزيون في أحسن الأحوال. لما روحت، وأجا الطرد، لقيت فيه خمسة آلاف دينار!
سخسخت..
اشتريت سيارة وتلفزيون وثلاجة.. وظل معي شوي. بعدين صرت أروح ع التجار أطلب بلساني..
قاطعه ملبورو: دخلك شلون توظفت بضريبة الدخل؟ على علمي البعثيين مثل الشيوعيين والتحريريين ما يوظفوهم، وتحجز جوازات سفرهم..
صمت، ولم يجب. زادها عليه، وأضاف: إلاّ إذا صرت تشتغل عند الجماعة..
لكز حسن طرف نظارته بظاهر كفه المضمومة، وفتح فمه ليقول شيئاً.. ثم بلع الملاحظة، وصمت.
هنا أيضاً شيوعي سابق هو المهندس أبو جميل الماصورة. وهو خمسيني طويل نحيل أسلت، ذو رأس مثل دورق ألمنيوم لامع، يحفّ ذقنه وشاربه ليبدو أصغر سناً. هل يشبه الماسورة!.. ربما.
المهندس متهم بالاختلاس والتواطؤ مع شركة خاصة في صفقة مواسير لسلطة المياه، أما روايته هو فكانت تتلخص ب: (يا رجل نَقّص الموَرِّد كم ماصورة – يلفظها بالصّاد- حبسونا احنا!!).
المهندس كان مهتماً بالبرستيج.. نظر إلى معإليه بتزلّف قائلا: هزلت.. يجيبوا من هب ودب ويدحشوا عندنا!
أما الجمركي السابق السيد علاء الدين ملبورو (هل اتضح سبب سجنه؟) فأبرز ما في وجهه فمه الممطوط للأمام وكأنه ينفخ على شيء ما. وفوق هذا البوز أنف حاد طويل، وتحت البوز دقن حادة، وتحتها تفاحة آدم تكاد تقفز من رقبته النحيلة الطويلة. حقاُ طلّته تشبه حرف دبليو على باكيت الملبورو! أما سبب نكده: ما فيه وسع يا بو نظمي. غرفة كلها أربعة متر بخمسة متر. شو؟.. صارت قاووش!.
ثمة رجل أربعيني، يبدو دائماً مستحماً للتو، فهو مسؤول الحمّام هنا، لكنّه غير أنيق في ملبسة.. جاكيت مربعات على دشداشة مدعوكة، أو بنطلون وقميص وقرافة بلا جاكيت، سترة بسحاب على سروال كاكي. صلعته دائريّة تماماً مثل طاقيّة. له سكسوكة متصلة مع شاربه وتتلاءم مع شكله الدائري. وهو دائم الابتسام كسمسار يستثمر البشاشة. كان يعمل سمساراً - وما زال- باع أرضاً لا يملكها في عمّان الغربيّة، وذهب ليصرف ثمنها متنزها في جزر الكناري، وعاد ليقضي عقوبته سنة في السجن.. مقايضة حسبها سلفاً، وارتضاها ونفّذها بكامل رغبته.. فاكتسب لقبه عن جدارة: أبو زكي كناري.. يسجل له قصب السبق بأنه أول من أدخل التلفاز إلى السجن..
نظر إلى الرفيق، وكتفاه تهتزان من الضحك:
- هأ هأ هأ.. يمكن بداركم ما فيه تلفزيون.. يا الله تفرّج ع حساب الأجاويد.
معإليه يلقب هنا ب"التنبل"، ولا يستعمل هذا اللقب بحضوره، سجن بتهمة إصداره وثيقة مزوّرة!.. ينظر إلى سقف الغرفة الخشبي مدوّراً شفتيه المكتنزتين الرطبتين مثل شقي تينة ناضجة، ويرسل دخان سيجارته الكنت على شكل دوائر منتظمة. ويقول: والله كنت بفكّر حالي بقدم خدمة لسيدنا، طلعت غلطة العمر..
لكنّه لا يفسر أبداً ما هي الخدمة، وكيف حسبت ضده غلطة لا تغتفر!
دلّى لغده الزهري، وواصل نفخ دخان سيجارته مترفعاً عن تبرير اشمئزازه من حضور الرفيق.
رغم ما تقدم، أو بسبب ذلك تضافرت جهود نزلاء الدار البيضا بالضغط على (صاحب أسنان المشط)، فأمر بفك قيد الرفيق.
جلس على برشه مطلق اليدين. تناول الكناش، وتشاغل عن مبغضيه بالرّسم.. هرب من سحناتهم المغمومة إلى وجوه أصدقائه الأليفة. صحبتهم العميقة تؤهله لرسم طبائعهم..
أبو حديد متهور الطبع. رمّام. يضمر الشر بقلبه. كالضبع، إذا ردعته؛ يزعزع الفضاء بقعقعته. القط روح حرة وجدت نفسها في قفص.. أو قطٌ يحلم أنه طائر غرّيد في فضاء شاسع! الختيار عاقل. صبور. وهادئ.. جملٌ؛ عندما يستفز يصير صعب المراس. عسّاف ناعم. أملس. وتتوهم أنه بين يديك، وإذا به ينزلق إلى الجهة الأخرى. نابه متحفز مثل أفعى.. كرزم ثعلب متربص. سريع. يضرب ويختفي بسرعة. يجيد التناغم مع بيئته.. أبو زهرة ضعيف مذعور مثل السحليّة، يخاف كلّ متحرك..
ثم توقف عماد عن الرّسم متسائلاً.. ( أنا من أنا؟ ليتني أعرف!..)

الدار البيضا

صار من أصحاب "العفش"، استبدل برشه بفرشة صوف ولحاف ومخدّة جاءته من البيت..
(ما ألذ رائحة الأم الكامنة في الشراشف المغسولة..)
اختنق بعبرات الحنين..
(أحبك يمّه. دموعي تسحّ حنيناً لدفئك. سامحيني يمّه، وحدك تحتسبين جحودي وفاء مؤجلاً، وترين في نقصي كمالاً. وتلهجين باسمي مع تسابيح الفجر..)
صار لكناش الرفيق لاقط ورق وغطاء جلدي يحفظ أوراقه؛ مثل كناش "كتبة العرض حال".. وصار له رفٌ يضع عليه كتبه.. دلّل نفسه فصنع إضاءة خاصة مكونة من أسطوانة كرتون مدلاة بجانب فراشه داخلها (لمبة 75w) تضيء له كناشه لما ينام السادة.. خط عليها بخط كبير konnash bulb..
وتوطّدت العلاقة بين كناشه والمخدّة. مايدونه في الكناش يناقشه مع المخدة، وما تهمس به المخدّة يفزّ ليدونه في الكناش..
[ - أصحيح أن الخروف يأكل الباوباو ؟..
- أشجار الباوباو ضخمة. قطيع من الفيلة لا يستطيع التهام شجرة واحدة.
- ولكن أشجار الباو باو كانت صغيرة قبل أن تصبح كبيرة.
- صحيح. ولكن لماذا تريد أن يأكل الخروف أشتال الباوباو؟
- لأنها ضارة، وتؤذي زهرتي الجميلة..]

* * *

الأيام كفيلة بالألفة والإيلاف.. ألفته الدار البيضا، وفسح له "التعوّد" حضورٌ خاص في الفجوة بين خلافات "النخبة"، وتحالفاتهم المتغيرة دائماً..
تقبّل السجناء التدخل الفج للمدير الجديد في شؤون حياتهم، ورحبوا بحضور شهر الصّوم يكسر تكرار عاداتهم، ومواقيت تعوّدهم، وعشق عماد حزمة شعاع الشمس الصباحيّة تسقط على مخدته، وحشرجة مكبر الصّوت تعلن فتح المهاجع، فيطغى ضجيج السجن على صوت محركات السيارات الصّاعدة إلى التل.. وتعوّد رائحة غليون البشمهندس، ودوائر سيجارة الكنت ينفثها معاليه، وسعلة حشيش وهو يدخن النرجيلة، وطقات مسبحة السيد ملبورو، وسماجة الخادم الطج.. وصار يستمع لراديو مونت كارلو مع حسن ترانزستور، ويختلي مع فيروز في الصباح، ومع أم كلثوم في المساء ملصقاً الراديو الصغير على أذنه، وإذا لم يكن هناك رقيب يسمح لدموعه أن تسح دون أن يدري لماذا تسح. لكنه يستمتع بذلك..
في الصباح يقرأ الصّحف اليوميّة بمعيّة معاليه.. وفي الليل يتفرج على التلفاز تحت مِنيّة أبو علي كناري..

* * *

انمحق هلال شهر رمضان، وانتصف شهر أيلول، وصار الليل مطعماً ببرودة حنونة..
بانتظار إعلان رؤية هلال عيد الفطر الذي يحيّر المسلمين كل سنة، ويختلفون عليه دائماً، راح يتصفح ديوان "عشيات وادي اليابس"، فاستوقفته هذه القصيدة التي يعتدّ غلاة الأرادنة بريادتها لشعر التفعيلة..
هلّ الهلال.. فمن منكم رأى طيفه
قبيل تقدم السجان يوصد كوة الغرفة
لقد عم المساء ولفّعت آفاقنا سدفة
وحيانا وجوم لم يزل يعتادنا من ليلة الوقفة
ومزق صمتنا قيد تثاءب موقظاً رسفه..
يبدو أن المهم ليس القراءة، بل إعادة القراءة!..
تخيّل عماد "الشاعر عرار" منثالاً مع قصيدته ليلة عيد الفطر، يكتب بيده اليسرى من اليمين إلى الشمال، تصوّر "عرار" أعسرَ مع أنّ أحداً لم يقل عنه ذلك..
بدا عماد مثل عرار: أسود العينين، حادَّ النظرات، يبدو في مطلع العشرين من العمر، بسيط المظهر، قليل العناية بهندامه، بريئاً من التكلّف إلى أقصى حد..
(هل هذه صورته أم صورتي؟!)
صوت "غرامفون" ناءٍ في مكان ما حول تل إربد يطلق صوت أم كلثوم:
حديث الروح للأرواح يسري..
وتدركه القلوب بلا عناء.
هتفت به فطار بلا جناح ..
وشق أنينه صدر الفضاء.
هل هو صوت غرامفون من زمن عرار، أم راديو ترانزستور يحمله حارس ضجر؟!..
(أنا على قمة تل إربد سجيناً، وعرار الذي سجن هنا قبل خمسين عاماً على السفح رفاة..)
يا أردنيات إن أَوديت مغترباً
فانسجنها بأبي أنتن أكفاني
وقلن للصحب واروا بعض أعظمه
في تل إربد، أو في سفح شيحان..
داهمته موجة سوداويّة من الأسى الكرّار التي تلم به وبغيره من السجناء بمبرر أحياناً، وبلا مبرر أغلب الأحيان..
بكى بلا سبب واضح.. قام إلى بنطاله المعلّق على مسمار فوق رأسه. نبش جيوبه، أخرج ورقة الاستنكار. قرأها..
أستنكر: الإذاعات العربيّة تغصّ ببيانات الشجب والاستنكار.
أعلن ولائي: لم يفكّر ب. ولا سمع أحداً من الرفاق يتعرض للملك والنظام.. برنامج الحزب: "نحو حكم وطني متحرّر"..
الحكومة الرشيدة: كل إدارة، حتى إدارة السجن تدّعي أنها أرشد من التي قبلها..
- أستنكر، أعلن ولائي.. الحكومة الرشيدة.. كلمات لا معنى لها!
هي شعرة بين أن يسمي إعلان الاستنكار جرأة، وتوقاً للحريّة، أو أن يعتبره خسّة، وانهياراً، وضعفا!..
(أنا من يقرر ذلك ليس الحزب، ولا المخابرات، وليس الأصدقاء، ولا الخصوم.. فيم كل هذا العناء؟ سأستنكر، وأوالي، وأقرّ لحكومتنا بالرشاد!..)
لكنّه عندما قرّر ذلك رأى نفسه مثل حيوان السيرك الذي يخرج من ساحة الخيمة المسيّجة، ليدخل في قفص ثقيل يرافقه أينما ارتحل!..
دسّ ورقة "الاستنكار" بين أوراقه.. وظلّ يتقلب على شوك التردّد حتى الصّباح.
(أسلمها لهم؟.. لا أسلمها.
استسلم!.. لا أستسلم..)

* * *

انتسب عماد للحزب قبل عامٍ واحد من اعتقاله، خلال نشاطه من أجل تأسيس اتحاد طلبة الجامعة.. فوجد في الحزب مثقفين يجادلهم في البنيوية، والوجودية، ويختلف معهم حول السبيل إلى الوحدة العربية، وتعريف الاشتراكية.. وتعرّف على مناضلين أججوا أحلامه بالحرية والتحرير والعدالة الاجتماعية.. ورافق "أبو موسى"، فوضع إصبعه على معنى أن يكون..
هل هذا ما يُسنده في مواجهة سؤال السجن؟.. هل هو الشعور بدفء الانتماء لنخبة ألفها؟ أم هي لذّة الاختلاف والمغايرة؟..
الأفكار كانت غائمة في ذهنه! لكن وهجها وهو يحاول الفهم هو ما يدفعه للإصرار على قول لا..
ما هو ذلك السرّ الذي كان يجمع زملاءه الطلاب للتظاهر من أجل.. أو دفاعاً عن.. ويجمع المساجين من حوله اليوم بانبهار متبادل!
ما هو ذلك الخفي المنيع العصي الذي يخاف أن يخسره!
ذاك التوهج المشع من احترامه لذاته، وإيمانه العذب بمقترحاته.. أم ذلك البريق في العينين عندما يحاجج وهو مؤمن بما يقول..
ما الذي يعصمه من مغبة "الاستنكار؟ هل هي جرأة امتلاك سلطة ما.. ولو كانت مجرّد سلطة حقّهِ في قول لا..؟
ما هي الجرأة؟..
كتب في كناشه:
ماذا يبقى مني إذا سلبت الحق بقول "لا"..
الحرية هي أن يكون لنا الحق بقول "لا"!..
لا؛ خصبة.. نعم سهلة. خانعة. قاحلة..
لا؛ مفتاح الحرية..
لا شيء يهب الجرأة كنسيمها الحرية.

عيد

عندما علا أذان الفجر، فاجأته نسمة ياسمين هبّت من داخله. انشرح صدره، نحّى أوراقه جانباً، وقام يشرب ماءً من الزير. شعر شعوراً فريداً بلطافة هذا الفجر من أيلول.. تحديداً؛ يوم عيد الفطر، الخميس الأول من شوال 1397هـ الموافق 15 أيلول 1977م.
جلس في الباحة الصغيرة أمام الغرفة البيضاء غير عابئ ببرد الصباح، وراح يراقب انبلاج الفجر بنهم.. انتشى برائحة ترانيم العيد تفور في فضاء المدينة..
الله أكبر الله اكبر ولله الحمد..
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله..
يرى وجه أمه يتموج بين زهر الياسمينة وهي تكنس باب الدار في ضوء الفجر الأبيض..
يسمع خرير ماء.. هل قام أبي إلى وضوئه؟
يشم رائحة خبز.. هل هي أقراص العيد تخبزها أمي؟
خرير ماء بعيد، وعبق قهوة محمّصة؟ ورائحة خبز طازج.. وشذى الياسمين..
في البيت؟
في القرية؟..
في المدينة!..
هل كانت هناك مدينة وقرية وبيت؟
هل ثمة ياسمين، وخبز، وقهوة، وماء؟..
هل جاء العيد!
(السجن لا يبتلع الناس؛ بل يبتلع طعم الأشياء ونكهتها..)

* * *

في العيد يأتي زوار غير متوقعين..
فرح عماد بثلّة من زملائه في الجامعة يتجرؤون على زيارته!.. لم يتحدثوا في السياسة، ولا عن شؤون الجامعة. ثرثروا عن البنات طبعاً.. ودسّ واحد منهم ورقة في كمّ الرفيق!
بجانبه على شبك الزيارة كان البشمهندس ينحني بطوله الفارع ليتحدث مع زوجته وابنته التي لفتت انتباه الشباب بشعرها الناري المموّج.. قال أحد زملائه: (هاي البنت شايفها عندنا بالجامعة).. ولاحظ عماد أن والدها طلب من أحد الأولاد الذين يخدمون على الشبك أن يحضر ماءً، فجاءه بالماء من عند الطموني، وضعت البنت شفشق الألمنيوم على حافة جدار الشبك القصير الذي يفصل بين الزوار والمساجين، ولم تشرب!.. استأذن الرفيق زوّاره لدقائق، ودخل.. أحضر دورق ماء زجاجي نظيف، وبضع كؤوس ورقية. سكب الماء للمهندس وزوجته وابنته طبعاً، فانفتحت شهية الزوار للماء.. دار بالدورق والكاسات الورقية وسقى العطاش..
علّق المهندس مستعرضاً خبرته:
- هاي المي من نبع راحوب. ما فيه أنقى منها بالأردن.. في كل إربد ما ظل غير حاووز التل موصول بنبع راحوب.. وباقي أهل إربد يشربوا ما هب ودب..
غادر زملاء الرفيق شبك الزيارة، وراح يجمع الكؤوس الورقية المستعملة في كيس فارغ..
(شكراً) قالت الزوجة..أمسكت الصبية كأسها الفارغة، وقالت:
- حضرتك..؟!
انصاع المهندس لرغبة ابنته، فدعا الرفيق ليسلّم عليها..
- ابنتي مها.. دخلت الجامعة هذا العام، وتسمع عنك من زميلاتها وزملائها..
"السنفورة" رغبت بالتعرّف على الطالب المشاكس الذي يتحدث عنه زملاؤها بخوف وإكبار! والمهندس فخور بابنته التي تدرس الأدب الإنجليزي في جامعة اليرموك، وفرح عماد بـ"السنفورة" النحاسيّة ذات العينين العسليتين الذكيتين اللتين لا تشبهان أبداً عيني غزالة المها الواسعتين الساذجتين..
جاملها قائلاً: أكيد البشمهندس رح يطلع براءة..
هزّت غرّتها جانباً، وقالت: حقاً..
طوال حضورها لم يسمعها تتكلم جملة كاملة؛ لكن كلماتها المقتضبة رفرفت حوله مثل فراشات ملونة..
(.. أطارد فراشاتها الزاهيات..
وأنسى ما قلتُ..
دار الكلام بين الزوار والمساجين هشاً مثل العهن المنفوش.
كلانا قال جملاً عفوية..
تعليقاً أو توكيداً لحديث دار حولنا..
لقطت أذني كلمات تناغي الطير في علاه!
كأنها قالت كل شيء!
كأني لم أقل شيئاً!
لم أنفش ريشي الملون مثلما تفعل الذكور بحضور الإناث.
لم تكن معنية بتوكيد حضورها المفطور على البهاء..
لكن صوتها انبجس داخلي ينبوع عسل!..
انحنت على الشبك، فتدلى عقيق سنسالها ناعماً مثل تاء التأنيث؛
بلا تكلّف جعلتني أتجسس على أناقتي.
ياه ما أحلى التفكير بها!
لم يكن بيننا موعد للقاء.
لم تلتق عيوننا خلسة عن أمها وأبيها؛
ولا تبادلنا ابتسامة المجاملة البلهاء.
مجرد مرحبا..
ووقفتْ بقدها الممشوق على رمشي!
بلا تبرج ولا مكياج باعدت صورتها بين رمشي ورمشي..
بلا استئذان استولتْ حركاتها وسكناتها على إيقاع نبضي!
تغادرنا
.. لا أغادرها!
شعرها الناري!
تضرّج خدها!
النمش البني حول أنفها الشامر عن بسمة دائمة الحضور.
التماعة عينيها!
بهاء قدها!
.. طيفها
موسيقى كلماتها المبعثرة.. تناغيني!
عطرها يشتت خطوي إلى حيث لا أدري.
ها هي تسرقني من صخب المكان.. وصفير الشرطة.. وزحمة المساجين.
بين مدماكين؛ ألحظ زهرة أقحوان صغيرة بحجم عقيق قرطها..
زهرة أصغر من زر قميصها تلغي جهامة الجدار العالي.
تطل مطمئنة لهامشيتها. واثقة بهامشها.
زهرة أصغر من زر قميصها تلغي المكان..
وترسم قميصها المفتون بصدرها على الجدار!
بين المساجين المسرعين والمتمهلين؛
لا أرى إلا قامتها بارعة الحضور.
بلا إحساس أني نسيت شيئا.
أجوب الساحة سعيداً بظلّها الوارف يتمدد داخلي..
ولا أرى إلا حركة بنطالها وهي تغادر الشبك!
ياه.. كم مضى من الوقت أفكر بها؟
لا أدري.
ياه.. ما أحلى التفكير بها!
يا لجمال الغروب..
كأنه فجر جديد!
ما أرقّ هلال العيد يرتسم كخط حاجبها في الأفق!
كأني اكتشفت جمال الكون هذا المساء!
كأني أرى السماء لأول مرة!
كأني أسبح مع الغيم!
كأني..!
كأني أحبها.)

يمشي وحيداً في باحة السجن..
ياه ما أحلى الإلهام!
يمر حسن تراتزستور: مسا الخير يا رفيق..
لا يرغب أن يحدّث أحدا.
يريد أن يستمتع وحده بهذا المساء العيدي ذي السماء السماويّة.. يسترجع طلة ذات الشعر الأحمر، والعينين الباسمتين، والأنف الصغير المحاط بالنمش.. يستمتع معها بمشهد تبدّل أشكال الغيوم السابحة إلى الشرق متجهة إلى السهل الخمري الذي نبتت فيه طفولته.. يبتسم لخاطر طري: لماذا نتذكر طفولتنا بحضرة من..
يتلعثم قليلاً: بحضرة من نحب؟..
ثمة عصافير بدأت تزقزق وهي تأوي إلى أعشاشها في الجدار العالي..
وحده القط يجيد مداهمته في هذه اللحظات الخاصة.. مشى إلى جانبه دون أن يقول شيئاً. لما ارتفعت صافرات الشرطة كي "يضبوا المساجين" في مهاجعهم، اقتنص اللحظة، وسأل مبتسماً: عجبتك؟
دهش لمداخلته! وبسط كفه باسماً: ثعلب!..
ضرب القط كفّه بقوة على الكف المبسوطة له، فسقطت الورقة المطويّة من كُمِّها.. التقطها عماد على عجل، وأوى إلى مهجعه في الغرفة البيضاء.
هذا المساء كان فضاء السجن شاسعاً.. تُحلّق زهرات الياسمين في فضائه مثل فراشات مرحة.. إن ما يسندنا حقاً وبقوة؛ أشياء في غاية الرهافة، الأشياء البسيطة التي لا نعيرها اهتماماً لشدة قربها منّا..
[قال الأمير الصغير: الأساسي والمهم لا تراه عيون البالغين]

* * *

ليلاً حاول التقرّب من المهندس، سأله عن مسار قضيته، وهل ستحوّل للمحكمة؟.. تشاغل الرجل بحشو غليونه، ومتابعة مسلسل "بيتون بليس" على التلفاز!..
كان حسن ترانزستور شغوفاُ بتوقع تطور أحداث المسلسل، أو المباراة، أو الفلم المعروض على التلفزيون، ونادراً ما تزبط معه، فصار محط تندر السادة..
الليلة زبطت معه، بل غيّر الاصطفافات والتحالفات في الغرفة البيضا.. حدث ذلك أثناء متابعة فلم عربي عن شابّة متزوجة من ثري عجوز، وتحب السائق..
عادة ما تجري المشاحنات والمناكفات هنا حول مباريات كرة القدم.. أما هذا الفلم فقد أثار حماسة المتفرجين أكثر من مباراة بين الوحدات والفيصلي.
انحاز المهندس وحسن إلى الزوجة التي تحب السائق، وانحاز ملبورو وكناري إلى نظمي حشيش في تشجيعه للزوج الثري الجلف.. وظلّ معإليه على الحياد.
تلطّف المهندس، وقال: الرفيق مع الزوجة طبعاً؟
ضحك، وقال: أنا مع السائق.
علّق كناري هازئاً: طبعاً. شيوعي.. نصير الشفيريّة والشراميط.
حاصله،
انقسم الجمهور إلى فريقين؛ ثلاثة ضد ثلاثة..
عماد سعيدٌ بكونه من فريق البشمهندس لأسباب ورديّة أخرى..
دخول الرفيق في تحالفاتهم أمر طارئ لم يعجب أبو نظمي.. فحاول استقطاب معإليه إلى صفه: معاليك ما ترضى بالخيانة؟
أطفأ معإليه سيجارة الكنت في منتصفها، وسعل سعلة خفيفة، ولم يقل شيئا..
يئس حشيش من استقطاب معإليه لفريقه، فقال:
- طبعاً التنابل ما عندهم غِيرِة..
تظاهر معإليه بأنه لم يسمع، وتابع استمتاعه بالتنبلة.. كل ما كان يقوم به لإثبات وجوده هي كحة قصيرة بين الحين والآخر لا مبرر لها.
لمّا لاحق الزوج امرأته الشابة ببندقيته، راح حشيش يحك ذقنه، ويهتف: طخها الخاينة..
الطج حائر! مشاعره مع فريقنا؛ لكنّه لا يحتمل فكرة مخالفة أبو نظمي.. معإليه ظل محتفظاً بتنبلته، وسعلته التي لا مبرر لها.. لكن هذا الحياد لم يعجب أبو نظمي، فأطلق سيل شتائم على الزوجة والسائق؛ والتنابل.. وكأنه يشتم كل من لا ينحاز له.. شيء ما في أعماق الطج انتفض، فانفلت زمامه فجأة، ونفض جرابه في وجه الوزير..
- على ايش شامر خشمك وساكت؟ إذا مِشْ عاجبك حكينا؛ نوّرنا برايك..
احمرّ وجه الوزير، واعتدل في جلسته !
أحسّ الطج في تورّطه؛ لكنّه بدل أن يتراجع رفع صوته بحنق!..
- تستنى رئيس الوزرا يقوم ويقول لك تعال اقعد محلي!.. منك وورا.
جحظت عينا معالي الوزير دهشة. وفجأة، تناول منفضة السجائر وضرب بها الطج، فأخطأه، ارتطمت المنفضة بالباب، وتناثرت أنصاف سجاير الكنت..
أحسّ الطج أنه تجاوز حده، راح يلم أعقاب السجاير، وهو يتمتم: ما خلص، راحت عليك. حط عنها واستريح..
توتر الجو. وصمت الجميع صمتاً له حسيس مكبوت..
انكمش الطج على برشه عند العتبة، وكفكف حشيش شفاهه كاتماً ضحكته، لكن كناري انفجر مقهقهاً، هأ هأ هأ.. تبعه الجميع مقهقهين واحتقن وجه الوزير!
انسحب عماد منشرح الصّدر إلى كناشه. واستفاد من الجو المتوتر الذي ساد الغرفة، فأضاء لمبته، وأسند الكناش إلى ركبتيه، وفرد الورقة التي كانت في كمّه..
[ الحزب الشيوعي الأردني- المكتب السياسي.
خاص- تقرير إخباري للكوادر المتقدمة في الحزب.
يلاحظ في السياسة الأمريكيّة أن الرئيس كارتر يعتمد النهج الشامل، ويفضل على وجه التحديد إقامة وطن للفلسطينيين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة يكون على ارتباط بالأردن. كما أنه يوافق على عقد مؤتمر جنيف مجددا بمشاركة الاتحاد السوفيتي وكل أطراف النزاع.
بيغن من جانبه ينفى أن يكون للفلسطينيين أيّة حقوق وطنيّة، ويعتبر قرار مجلس الأمن 242 لا ينطبق على الضفة الغربيّة وقطاع غزة. ويعأرض عقد مؤتمر دولي بمشاركة الاتحاد السوفيتي، وجهود اللوبي الصّهيوني في أمريكا ناشطة من أجل عرقلة خطط كارتر لعقد مؤتمر دولي. وهناك مشكلة في الجانب العربي أيضا. فالأردن وسوريا يفضلان تمثيل العرب بوفد موحد في حال انعقاد مؤتمر جنيف مجددا، فيما سادات مصر يفضل أن تكون هناك وفود منفصلة..
وصول حكومة يمينيّة إلى السلطة في إسرائيل برئاسة مناحيم بيغن في انتخابات مايو (أيار) الماضي وضعت نهاية لثلاثة عقود من سيطرة حزب العمل على الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة. كما أسفر وصول حزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل عن تغيير رئيسي في السياسة الخارجية لإسرائيل. حزب العمل براغماتي شغله الشاغل أمن إسرائيل، أما الليكود فهو حزب قومي متمسك بمشروع «أرض إسرائيل». وهو يرفض أيّة مطالب للأردن تتعلّق بالسيادة الأردنيّة في الضفة الغربيّة، كما يرفض أي حق للفلسطينيين في تقرير المصير.
الحكومة الإسرائيليّة الجديدة لن تكتفي فقط باحتواء الضفة الغربيّة بل ستنفذ عمليات طرد جماعيّة واسعة للفلسطينيين من الضفة الغربيّة إلى الضفة الشرقيّة. يضاف إلى ذلك أن رئيس الوزراء الجديد، مناحيم بيغن، هو زعيم لجماعة إرهابيّة يمينيّة في السابق، وعضو في حكومة الوحدة الوطنيّة برئاسة ليفي أشكول، وصرح آنذاك أن فلسطين تقع شرق نهر الأردن، وأن الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى تغيير هو الحكم الملكي لأن غالبيّة سكان الأردن فلسطينيون!
إذاً، المساومة بشأن الضفة باتت خيارا مستبعدا من جانبي إسرائيل والأردن على حد سواء.
(الخيار الأردني) دُفن، وحل محله (الخيار المصري)..
أيلول- 1977م.]
تبسم بعد أن قرأ تقرير الحزب: بيش كيلو الخيار.. مع من سأتحدث بمضمون هذا التقرير؟!
أخرج قلادة الخرز التي نسجها له الختيار، وصار يعاينها بعيداً عن أعين الزملاء في الغرفة!..
- هل أهديها لك يا مها؟ هل تقبلين..
فيما يقلّب القلادة بفرح.. اكتشف أن الختيار جعل مربع الصّدر في القلادة مثل جزدان صغير.. خرج يندس فيه رسالة غرام..
(- مِشْ قليل الختيار! )
دسّ تقرير الحزب في الجيب المنمنم، وعلّق قلادة الخرز على مسمار بجانب اللمبة.. ونام.
حلم أنه عصفور على شجرة ياسمين.. ثم رأى نفسه يقف على سور السجن، يفرد ذراعيه إلى آخر مدى. يمطّ رقبته فتطول ويكسوها الريش. يحرك ذراعيه كجناحين.
يهتف به القط من ساحة السجن: طر. حلق..
- قدماي ثقيلتان.
- مد ساقيك وارم جسمك.
- لا أستطيع.
- تخيل نفسك تسبح. اسبح يا رفيق.
- سأقع وأتهشم..
.. رأى الخفير الذي في البرج العالي يصوب رشاشه نحوه.. اختل توازنه. هوى. رفرف.
هتف القط: طر. حلق يا رفيق!
حلّق. وسمع صوت صليات الرشاش خلفه. فأفاق مذعوراً، والشرطة يسدّون باب الغرفة البيضا!
كانت حملة تفتيش!
الغرفة البيضا لا تخضع لحملات التفتيش الداخلي التي يشنها الشرطة فجأة على المهاجع الأخرى. هذه المرة الغرفة البيضا هي المستهدفة. وبالذات "عفش الرفيق"! نبشوا الفرشة. فتحوا المخدّة، قلّبوا أوراقه ورسوماته وكتبه صفحة صفحة، نبشوا ملابسه جيباً جيبا، وثنية ثنية.. صادروا الكتب والأوراق والرسومات.. وفي أثناء ذلك كان ذهنه يعمل بسرعة.. يعرف عن ماذا يبحثون، ويعرف أن يهوذا كان من الحواريين المقربين..
- شكراً للختيار على العقد الجميل.. وتباً لك يا القط..
فيما هم يغادرون زاويته يائسين سحب ضابطهم سلك اللمبة بقوة هاتفاً: - هاي ممنوعة كمان..
فلذعته الكهرباء!..
- هاهاهاها..
ضحك الطج، فصفعه الشاويش يونس، وواصل عمله.. مرّوا سريعاً في أطراف الغرفة، فصادروا راديو حسن. وسكين أبو نظمي، ومغلفات "كُنْدُم" لم يعترف أحد بملكيتها..
سأل الضابط الشاب مندهشاً: لإيش هاي!
قال الشاويش يونس للضابط وهو يمطّ واحدة منها، ويضحك: واقي! للنظافة العامة.. نظر مواربة إلى معالي الوزير، وأمال شفته السفلى بخبث، وقال للضابط:
- شو رأيك نقيس على حجم مين فيهم يزبط؟
كانت أوداج معاليه، تنتفخ ووجهه يحمر، وتنفسه يصير شخيراً..
وفجأة صرخ المهندس مذعوراً ملخوماً: معالي التنبل؟ معالي الوزير!.. معاليك.. حملوه إلى عيادة السجن.. لكنّهم لم يستطيعوا أن يصلوا به إلى المستشفى حياً!

إربد

انتظم إيقاع عقارب الساعة، وانتظم طلاب مدارس ظهر التل في دوامهم.. وتناوب عليه كابو س السرداب. وكابو س المشي على حافة السور..
يشتاق للكابو س المتكرر أيام الدراسة.. كان يرى في المنام أنه تأخّر على الامتحان. أو أن مدة الامتحان تنقضي دون أن ينهي ما يكتب.. يشتاق لمقاعد الدراسة في الجامعة. يشتاق صباحات إربد وعبق محامص البن، ورائحة مقالي الفلافل، وخلائط دكاكين العطارين..
يشتاق رابطة الكتاب في مقرها المتواضع خلف البريد. يشتاق شعراءها ومناكفاتهم، وكتابها ونمائمهم، ورساميها بلحاهم الشعثاء وشعرهم المنكوش.. يشتاق لدوار القيروان، ودوار البريد، ودوار الجامعة، والزوايا التي يبيعون عليها اليانصيب، وزواريب الكندرجيّة، ومظلات كتّاب الاستدعاءات، وبسطات الأرصفة التي يتعثر بها المشاة..
يشتاق مساءات إربد بغيومها الشفيفة، ولسعة برد الصباح، وغبرة الظهيرة وهي ترتفع زوابع مع ضجيج المدينة إلى ظهر التل..
يشتاق جرس المدارس، وعاش المليك ساميا مقامه.
يشتاق "جولق" يصيح على الجرائد في شارع السينما: بيروت ولعت بصراحة.. الملك يقوم بزيارة خاطفة إلى عمّان.. إعدام البندورة في الأغوار.
يشتاق الحسبة الممتدة من الجامع المملوكي غرباً إلى المسجد الكبير شرقاً فيما الخضرجيّة يصيحون: جاي ع التين جاي. من عسل راحوب هالتين جاي.. أشقر وملظلظ هالشمّام. من حواره الأناناس.. بتيري هالبيتنجان.. مثل الكوسا يا كوسا. من فوعرا هالكوسا.. حمرا وغندورة يا بندورة. مال رحابا هالبندورة..
يشتاق قهوة الكمال، وكنافة العفوري، وحمص الدرزي، وفول ياسين.. وتصفح الكتب والمجلات عند كشك الزرعيني..
يشتاق مجمع الشيخ خليل: آخر راكب لعمّان.. آخر جندي للزرقا.. تهيا يا باص تهيا..
يشتاق شبيحة سوق البالة ونداءاتهم عند الضحى: هتنورة للغندورة. فرح ولدك بعشر قروش. هاي الشلحة لفلحة..
يشتاق الناس في غدوهم ورواحهم عبر شوارعها المتقاطعة مثل تقاطعات صينيّة البقلاوة.. يشتاق لباص الجامعة والقلوب المرشوقة بالسهام على ظهور المقاعد..
يشتاق إربد مع المساء؛ عندما يؤوب وافدو القرى إلى قراهم، يتلاشى صخب المدينة، ويتحلّق الرجال أمام دكاكينهم المشتقة من بيوتهم يدخنون، ويحتسون الشاي بالنعناع..
يشتاق حجارة البيوت السود والبيض وزهور المجنونة الزاهية تتعربشها. يشتاق الريحان والنعنع ونبات السجادة بألوانه المخملية على شرفاتها. يشتاق زهور الساعة والمدادة تكسو سياجاتها، وشجيرات الياسمين، ومكنسة الجنّة.. ومعرشات الدوالي في مداخل بيوتها، والقحوان الطالع في مفاصل حجارتها..
يشتاق باعة الكعك والهريسة والترمس وشعر البنات يجوبون الحارات والزواريب..
مثل الباعة المتجولين يهيم في الطرقات باحثا عن بيتها كما وصفه البشمهندس متبجحاً..
هاهو يتنسم معها عبير الياسمين المسائي، فيما تستسلم إربد لكونها بلدة وادعة!
- أشتاق مها.. هل أحبها!
.. عندما يتوهج رأسي بما يفرحني، أتمنى قلماً من ذهب، وورقاً من حرير لأخط عليه كلماتي.. لم يكتبوا معلقاتهم بماء الذهب للمباهاة، كان ذلك تتويجاً لفرحة المبدع بما أبدع.. ولم يكن تعليقها على جدار الكعبة إلا تزيداً للفرح، وتفضلاً على الناس!؟
لكن وميض الفرح قصير المدى.. ما تعطيكه الدنيا بيد تعطيك مثله غماُ ونكدا في اليد الأخرى.. حتى في السجن يحدث ذلك!

قبضاي!

لكلّ شيء باب، وللشهوات عتبات وأبواب ومفاتيح وحراس، وللحمّام باب ومفتاح وحارس. مفتاح باب الحمّام بعهدة "أبو علي كناري".. يشرف على تنظيم الدور، ونظافة الحمّام، وتزييت البريموس..
الحمّام غرفة مستطيلة سقفها عقد بقبة واحدة، ولها شباك واحد بجانب الباب الشرقي، وكوة واحدة في زاوية الجدار الغربي تحتها موقد نار وفوقه برميل ماء.. قام البريموس مقام الحطب الذي كان يوقد في الموقد في سالف الأيام. جداره الجنوبي مقسومٌ إلى خمس خانات، يرتفع الحاجز ما بين الخانة والأخرى متراً واحداً فقط، كي يبقى المستحمّون تحت الرقابة، اتقاء للموبقات، لكن الموبقات مخاتلة تندل مظانّها، وتصطفي أوقاتها.. هنا يتعرف المساجين على عري بعضهم بعضا، فتنكشف العاهات الخفيّة، والندوب المكسوّة، والوشم المخجل.. ومفاتن الجسد المستورة أيضا..
وما يهم عري الجسد في مكان فيه الناس مكشوفو السريرة، أرواحهم مشرعة الأبواب، مخلّعة النوافذ.. هنا لا تعود العادة السريّة سريّة. هنا يتبارى الشباب من يقذف منيه أبعد. وهنا يختار اللوطيون شركاءهم ولو بالأحلام إن عزّ المنال..
دخل هذا الحمّام أول مرة بصحبة عسّاف، وتباهى عسّاف بأن عضوه أكبر.. كان ذلك يوم وصوله إلى السجن..
بعد انتقاله إلى الدار البيضا استفاد من ميزة السكن مع "النخبة"، وصار يدخله وحيداً بلا رقابة متمتعاً بمزايا الخلوة مع جسده! فقد خصص أبو علي كناري يوم الأربعاء بطوله للنخبة..
اليوم ضاق الوقت بسبب ازدحام الغرفة البيضا بنزلاء طارئين راغبين بالاستحمام.. فدخل عماد الحمّام بصحبة حسن، احتلّ عماد ركناً قصياً بعيداً عن حسن.. غرف الماء الساخن وسكبه على جسده. لاب الصابو ن على رأسه وغسله. فرك رقبته وصدره. ليّف ظهره بمهارة، ووصل إلى وسط جسمه، أجرى الصّابو ن بكثافة هناك. تلقائياً انتصب. أغمض عينيه يستحضر صورتها.. صورة مها، لكن حضورها كان غائماً.. قطع عليه خيالاته نداء حسن. حسن لا يرى جيداً بدون نظارته مما اضطره للاستعانة بعماد ليناوله الصّابو نة التي مزطت من يده وهو يستحم. تناول الصّابو نة عن الأرض. ووقع بصره على عضو حسن بقلنسوته المدلاة مثل الزائدة الدوديّة. رفعها بطرف الصّابو نة.. ضحك، وقال: عندك دلايّة زيادة..!
أمسك حسن الصّابو نة، وقال: تضحك على حمامتي؟
ضحك حسن.. ومد يده إلى عضو عماد: وحمامتك مثل ايش؟.. واوا، معنتر!
تلامس جسداهما في إغراء الدفء ونعومة الصّابو ن، وسرقتهما اللذة للحظات كانت كافية ليداهمهما أبو علي كناري..!
كان كلاهما عاريين في خانة واحدة من الحمام، ويضحكان.. يا للحرج. يا للعار!!!!!
لم ينتبها لرشوته بما يكفي لسكوته إلا بعد أن صارا في قبضة عطا الله بك، الذي وجد فرصته ليذلّ الرفيق!
أمر بتعرية جذعيهما، ودهنهما بالدبس، وصلبهما على الشبك الداخلي ليتفرّج عليهما المساجين..
ما أقسى الشمس!..
ما أبطأ الدودة الترابيّة وهي تدغدغ مسامة الجلد، وتجتازها حلقة حلقة!
ياه ما أثقل الذبابة..
الفراشات أيضا هرعت لوليمة الجلد المشاع..
فليذهب الهسهس إلى الجحيم!
اللعنة على الزقرط..
أي مسافة قطعت النحلة اللعينة لتنال نصيبها من الأعصاب المشدودة..
الدبابير. النمل الناعم مثل السمسم. اليراعات اللامعة. اليعاسيب بأجنحتها الشراعيّة. الفراشات البائسة بلون التبن.. على ماذا كانت تتغذى هذه الكائنات قبل هذه الوليمة!
ما أثقل حبّة العرق وهي تتكون وتتدّور وتتدحرج وتنقط كاوية نهايات الأعصاب!
يبدو أنه ليس من حقّ أحد أن يفكّر بأن الأسوأ قد انقضى.. يقشعرّ بدنه من سماجة الحشرات التي تنوش جلده بشراسة، وتقشعر روحه من برودة العار.. يختنق بألم رسغيه وكاحليه المسلّخة بحبل التعليق.. ويغصّ بمرارة الهزيمة.. حتى لما ربطوا إبهام رجله بتمرة عضوه، وفكّر بالانهيار لم يشعر بالهزيمة!
حسن يصرخ ويبكي ويسترحم، فيما عماد يكزّ على أسنانه، يحملق بالسماء، ويشعر بالقهر: ليس أمامه من يتحداه وينتصر.. ليس هنا فكرة يدافع عنها، أو تنظيم يتستر عليه.. مجرد سجين ينال عقاباً بسبب حماقة السيد كناري.. يشعر بالقهر والخذلان، وتتصاعد في روحه الرغبة في الانتقام لتواسيه قليلا..
حوله عيون جاحظة بالرعب والشماتة، وخلفه شرطة يدخنون ويثرثرون لمواراة مشاعرهم..
عقوبة مثل هذه كافية لتمويل منامات المساجين بالكوابيس لشهرين قادمين!
عقوبة بهذا الوزن، ترهب المساجين والشرطة على حدٍ سواء، وتعزّز مكانة عطا الله بك عند رؤسائه، وتكرّس جبروته على مرؤوسيه..
فكّوهما بعد ساعة. كانت ساعة أطول من يوم ميشع!
هل انقضى الأسوأ؟
يا للخيبة!
( لَوْ أَنَّ الفَتَى حَجَر، تَنْبُو الحَوادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُوم)
لم تكف ألسنة المساجين عن تقليب مواجعه، صار مضغة في أفواههم! وصار لكلّ سجين روايته الخاصة..
احزروا مين السمن، ومين العسل؟
- شيوعي ينط ع أمه.
- قال أفندية قال..
صار السجن كلّه عشّ دبابير!
(اللعنة على الزقرط!)..
يشعر أن ما بداخله يشبه زلزالاً من الدموع، غاب شذى الياسمين من ذاكرته. وصار عواء الذئب عويلاً في داخله. صارت الغرفة البيضاء قاتمة موحشة..
لم يكف عن تعذيب روحه، وكفّ عن التفكير بمها، وصار يخجل من الخروج إلى شبك الزيارة. أطلق لحيته على سجيتها فنمت مبعثرة، وبدا شاربه خفيفاً فصار شكله مثل تلاميذ "الميلوية"..
جافى الحمّام، وغاب الاستحلام عن مناماته، ولم يعد قادراً على ممارسة العادة السريّة..
ذات الجسد الذي كانت تُشفِي جروحه رشّة ملح صار يتحسّس من كلّ شيء. ولم تلتئم جروح رسغيه وكاحليه السطحيّة بيسر!
كره كناري بكل حواسه، وتجنبه، وصار يقضي ليله باكياً بصمت..
آه يا وجع العزلة.. ألمٌ دائم الوحدة بعيد مطلع الفجر!
ما جدوى الصّمود، والتحدّي، إذا كان يمكن أن ينكسر الإنسان في معركة تافهة وغير متوقعة؟! يا للهشاشة!
[هل أكل الخروف زهرة الأمير الصغير؟]

* * *

قد يدمّر الإنسان ولكن لا يهزم!.. ماذا لو أن شيخك يا همنغواي افتُري عليه وصار أضحوكة للصيادين.. وهو الذي قهر غطرسة البحر!
القط والختيار نجحا في انتشال عماد من عزلته..الختيار ظلّ مخلصاً في دفع الألسن عن الرفيق، يُسكت المتنطعين بنبش مخازيهم..
واظب القط على العناية بالرفيق حتى تماثلت جروحه للشفاء..
يصطحبه الختيار ليشربا الشاي في زاوية الطموني..
- صديقك القط جدع. يتفنن بشرشحة كلّ واحد يلوق ثمه بحقك..
يتوقف القط عندهما ضاحكاً وهو في طريقه إلى الحمّام ليغتسل..
- قطع لسانه اللي يجيب سيرتك يا رفيق.. سيرتك تشرف شاربه!(يقصد كناري.)
يدفعه الختيار بيده: امش روح تحمم بلا لقلقة..
يزيح القط وجهه باتجاه الدار البيضا متوعداُ: رح تشوف كناري يركع عند رجلك، بس طول بالك.
ينهره الختيار: استغفر الله العظيم!.. قب من هون يا قط.
مجرد ذكر اسم كناري يوقظ الرغبة بالانتقام في نفس عماد.. يدرك الختيار ذلك بحدسه. الختيار يريد أن يجنبه المشاكل.. يقول لعماد:
- أنا هون لأنه ركبني شيطان النقمة يا رفيق!

* * *

ساعده التضامن على التصالح مع نفسه، وتصالح مع حسن، وتوحدا للصمود في وجه الشائعات، وصارا صديقين!.. لكن تصالحه مع جسده تأخر طويلا!
تغيرت نظرته لمن حوله أيضاً: منهم من ارتفع بنظره مثل عساف الذي اعتبرها قضية عشائرية، وتصدى للدفاع عن ابن عمه، والسيد ملبورو الذي تجاهل الحادثة كلّها، والطج الذي لم يتغير سلوكه تجاه الرفيق، وإن لم يستطع حفظ لسانه عن البربرة.. ومنهم من هبط مثل أبو حديد الذي وجد في الحادثة توكيداً لقناعته بأن البشر سفلة بالفطرة..
المهندس كان منشغلاً بتشعبات قضيته التي شغلت الصحافة، وصار "الاختلاس" بسببه حديث العامة والخاصة.
( أنا بني آدم مثلي مثل حسن، حسن انتهت مشكلته لما تخلّص من الأذى الجسدي. لماذا أتعذب كلّ هذا العذاب وكأني وصيّ على مكارم الأخلاق، ومسؤول عن الكمال البشري..
القط يقول؛ ليس لدينا الوقت إلا لكي نكون سعداء.. أينه درب السعادة؟!)
شاويش الغرفة نظمي حشيش، نكّد عيشهما ببقبقة شيشته.. وبتعليقاته السمجة.. أبو علي كناري صار يتجنبهما، ويتظاهر باللامبالاة.
تجاربه علّمته الصّمود والمنافسة، وحذق التحدي، فانتصر على نظمي حشيش بالتطنيش، وألزم كناري بخصومة معلنة عنوانها "الاستظراط" والتتفيه يمارسه ضده في كل سكناته وحركاته..
يوماً بعد يوم هدأت الدبابير، والتأمت جروحه. لكن طنين مخدّته لم يهدأ!
قام إلى لمبته وكناشه، رسم فيلا في بطن أفعى الأبوا، وخروفاُ يرعى أشجار الباو باو.. حاول أن يُجبر شجيرة الياسمين على الخروج إلى الورق فأبت. حاول رسم الغرفة البيضا.. اكتشف أنها لا توحي له إلا بمربع قاتم.. استعرض وجوه نزلائها! يا للوحشة! إنها بلا عمق في داخله، يراها مجرد وجوه وأحجام!
لم ينجح في تلمس أرواحهم، فكيف يبث الحيويّة في رسومهم.. رمى القلم، وأسند مرفقيه إلى كناشه، وراح ينظر الى ساحة السجن تحت ضوء القمر.. في الليل تبدو واسعة!

* * *

هذا الصّباح مرّت حزمة الشعاع مروراً سريعاً على النافذة.. ناوله حشيش جزءاً من الجريدة على مضض. وأحضر له الطج فنجان قهوة من عند الطموني كالعادة.. وقلّب أوراق صحيفة الصّباح بلا تركيز. وانتبه!
صوت شجار في صحن السجن.. أصغى. إنّهم يتشاجرون مردّدين كلمات تبتعد عن الذوق: .. أمك يا أخو الشر.. عرضك وأشل بختك يا عكروت.. ربك.. دينك.. سماواتك.. يحق لنا أن نصفها بأنّها الكلمات الدارجة والمألوفة، ويعرفها حتى الأطفال، لكن لا أحد يعترف بأنّها متداولة وحيّة خاصة عندما يكتب..
نحّى الصّحيفة، وخرج إلى الساحة.. القانون المجتمعي يفرض عليه الفزعة لابن عمه عساف.. خلال دقائق معدودة سالت دماء، وهُشمت عظام.. وكان كناري واقفاً أمام الحمام، يتفرج على "الطوشة" مستمتعاً، وكرشه تهتز من الضحك! اهتز ذلك العرق تحت الترقوة، موقظاً الذئب في داخله. قفز خفيفاً مثل وشقٍ شرس. عبر ساحة المعركة. تعثّر بعساف المبطوح أرضاً. وقع فوقه. نهض على ركبتيه وإذا وجهه بمواجهة كرش كناري.. لمعت شفرة حلاقة لا يدري من وضعها بيده. انتفض مثل ذئب. وجرّب شفرته في رقبة كناري بضربات حانقة جازمة متتابعة سريعة.. انهار كناري مثل بعير يشخر..
انتصر فريق وخسر فريق.. وتشطبت وجوه ورقاب. وتمزقت ملابس.. كان عسّاف ملقى على الأرض ووجهه مغطى بالدم، وأبو حديد يمسك ركبته بيد، ويبصق أسنانه المهشمة في راحة يده الأخرى.. أما عماد فقد كان الدم ينقط من كفيه الذاهلتين، وقميصه مدلًى كاشفا كتفه اليسرى، وكناري يشخر مذبوحاً.. وكان جرس السجن يعلن النفير!
خلال دقائق قليلة أُغلقت المهاجع على من فيها، ونُقل جرحى لعيادة السجن، وأُدخل عدد كبير من السجناء إلى القبو.. وظهر "الأحداث" بدلائهم البلاستيكيّة البيضاء ومكانسهم الطويلة يشطفون آثار المعركة.

* * *

عادة ما تعبّر الخلافات الدمويّة عن نفسها هنا ب"الشفرة"، إنه الأسلوب الأكثر شيوعاً بين الزقرط.. إنها شفرة الحلاقة الصّغيرة الحادة. سريعة التأثير. سهلة الإخفاء، المحترفون يخفونها ملتصقة بسقف الحلق.. وحروب الشفرات مشروعة في السجون، مثل شرعيّة الوشم الذي ينبري له واشمون مختصون يخلطون السناج بالصّمغ، ويدقونه بحزمة إبر حتى يستقر تحت البشرة. في عملية "طقسية" معقدة تمنح الألم والراحة معاً.. كلّ ما يلزم في ختام الحالتين حفنة ملح مباركة تُرشّ على الجروح السطحيّة لتجفيفها، ويتباهى السجين المحترف بهذه الشطوب والندوب مثلما يتباهى بالوشم!!.. فهي رمز السيطرة على الذات. وتنقذ الروح من الشعور بالقهر! لعلها رمز امتلاك مساحة من الحرية. رمز القوة!.. لقد نجحت تضحيات أجيال من المساجين من انتزاع هذا الهامش، وتكريس طقوسه في عقد غير مكتوب بين الحاكم والمحكوم.
هل يعرف أبو زهرة هذه المعاني؟.. أبداً، لكنه يقول:.. الحرب تنعنش، ترد الروح.
(.. هذه أول مرة أستعمل بها الشفرة. متعة غريبة انتابتني وأنا أضرب لغد كناري والدم ينفر ويطرطشني!! هل سأصير "ضرّيب شفرات"؟.. وأوشم ذراعي برأس ذئب أو زهرة ياسمين مثلاً!
أبو زهرة الذي ناولني الشفرة يشهد لي أني استعملتها بمهارة محترف! لعلها مهارة المنتقم، وليست مهارة المحترف يا بو زهرة..!
يوجد هنا سكاكين للشجار، مصنوعة محلياً من غطاء علبة سردين، أو من ذيل ملعقة يجري طيّها وسنّها على حجر العتبة لأيام طويلة حتى تصير أداة صالحة للطعن.. لو ناولني أحدهم سكين لقتلت الرجل! ألهذا الحد كنت أحقد على كناري.. الآن أشعر بالشفقة عليه. رجل كبير مكسور الخاطر. منزو في زاويته. عازف عن تلفازه. يخفي ما ألمّ برقبته بشماغ أحمر كبير..
العراك مثل اللعب؛ حاجة إنسانيّة لا تخص مرحلة عمرية أو شريحة من الناس..أما الدم فإنه خطير مثل السجائر والخمر والحشيشة!.. كثيرون هنا يدخنون حب الهال، ويأكلون النمل، أو يشمون الآغو، أو ينهلون بخار المجاري ليدوخوا، والسكرجية يشربون التوسفين بحجة علاج الكحة، والسبيرتو يسرقونه من عيادة السجن، أو يهرّبون صينيّة هريسة مشربة بالخمر بدل القطر فتصير رائحتها مثل رائحة الجرابات العفنة..
السِرُّ يكمن في الإدمان. غالبيّة المساجين مدمنون! يدمنون على ارتكاب "حماقاتهم" بشتى السبل.. النشّال مدمن نشل الجيوب ونبشها! واللصّ مدمن على السرقة! والمغتصب مدمن اغتصاب! واللوطي مدمن لواط! حتى الأسلوب إدمان؛ أسلوب كلّ فرد في ارتكاب حماقته الخاصة يتكرر مثل بصمته الخاصة!..
هل الإدمان ممتع؟!
هل أنا مدمن قراءة! مدمن كتابة! مدمن على الرسم!.. أول أمس استمتعت بتشطيب كناري!.. بعدها راقت لي فكرة أن أوشم ذراعي!
لماذا حضرت فكرة الإدمان وأنا أفكر بالانتقام؟!..
للانتقام دوافعه الخفية والمسكرة مثل "الأرتكاريا" التي تدفع المقامرين للمراهنة على زمن تحليق ذبابة!)

* * *

إدارة السجن لا تعاقب على ضرب الشفرات!
عشيرتَيْ عماد وكناري أقاما الدنيا وأقعداها خارج السجن من أجل الحادثة، جاهات، وعطوات .. وأخيراً صك صلح عشائري!
لم يحظ عماد بهذا الكم من التعاطف والمؤازرة من أبناء عشيرته لما اعتقل.. لكن بسبب هذه الحادثة زاره شيوخ حكماء يفاخرون به، ويحذّرونه من غدر "المغدور"، وتردّد عليه شباب ينفخون حماستهم على شبك الزيارة استعداداً لنصرته. لماذا؟..
(لأنك "قبضاي" رفعت راسنا.. مش مثل عساف منكّس راسنا برّا وجُوا..)
إذن هو وعسّاف مثل بعضهما البعض في نظر العشيرة! الفرق أنه "جاني".. وعساف "مغدور"!
ههههه مغدور!..
أبناء العشيرة لا يحبون أن يقولوا "الخاسر" أو حتى الـ "مجني عليه".. ابن العشيرة بطل لا يؤخذ إلا غدراً!!!!.. غُدرنا في حرب 1948م، ولم نهزم عام 1967م بل غدرونا..!
طيلة أسبوع لم يخل شبك الزيارة من أبناء عشيرتَيْ عماد، وكناري!
انتدب عماد الختيار وكيلاً عنه على شبك الزيارة أمام أهل "المغدور" ..كناري، وانتدب كناري "أبو القناني" وكيلاً عنه أمام أهل "الجاني" : عماد.
لأسباب تكتيكية اعتبر عساف ضحية كناري مما سهل الصلح. وأغلق الملف!

* * *

في هذا الجو المتوتر الذي أعقب المعركة ليس له متعة كالقراءة.. عادة يقرأ ما تسمح به إدارة السجن، عفواً إدارة مركز الإصلاح. يقرأ الكتب كأنما هو عمل عليه القيام به، أو قدر عليه الانصياع له. يقرأ بسرعة، لأن الإدارة تسحب الكتب التي سبق وسمحت بها كلّما قامت بحملة تفتيش داخلي. بهذه الطريقة قرأ صحيح البخاري، وتاريخ الجبرتي، ورسائل ابن تيميّة، والأم للشافعي.. ومنعوا عنه كتاب "تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم".. والاعتراض كان طريفاً: (الله خلق إبراهيم مِشْ صنعه)! وكادوا يمنعوا عنه رواية "المقامر" لولا أن رئيس قلم المباحث الجديد استعرض ثقافته مشكوراً، وكتب عليها: مجرد رواية لا تضر ولا تنفع لكاتب روسي غير شيوعي.. ا
المقامرون هنا لا يختلفون عن مقامر دستويفسكي.. الشعور بضيق المكان هو الدافع.. هل القمار هو سبب "الطوشة"؟

* * *

رغم الجشع الظاهري في ممارسة القمار، إلا أن له شروطه وقوانينه.. أما الزعامة فلا حدود لجشعها مهما صغر ميدانها!
حاصله،
- أنا مع عساف. عساف مع أبو حديد. أبو حديد ضد أبو القناني. صديقي القط مع أبو القناني. أبو زهرة ناولني الشفرة.. اكلها كناري!! فهمني ياختيار.
- (حلّوها ودّي) في القَاووشْ الشرقي، ظلّ وطوط يحل ويربط بين المساجين، وصار مصيص يوقع على كشف العدد، ويراجع الإدارة، ويستلم "الأرزاق" من المطبخ؛ لكن وطوط يوزعها، وطوط ينزّل المساجين بمطارحهم أيضاً، ويشرف على توزيع الكاز للبريموسات.. أما ابن عمك عسّاف شاف حاله وساق فيها للآخر؛ صار كل يوم ينكّل بواحد من هروش القَاووشْ.. وأبو حديد انفلت عياره بعد ما طلع الشكّيك إفراج.. صار يتجبّر بالناس. طعجه أبو القناني بالمكاسرة تا يوخذ على راسها.. ما ورّعش صاحبنا.. تحالف أبو القناني وكرزم ضد أبو حديد وعساف وظل وطوط ومصيص ع الحياد.
- منين طلع هاظ أبو القناني؟ سأل عماد.
- عامل حالك ما بتعرف!
- مالوش شهر بالسجن!
- ولو، هو رد حبوس، كان شاويش قَاووشْ لما كان أبو حديد اسمه "قرقع"، وينام بالممر.
- أفهم منين جاب كرزم قضيب الحديد اللي كسّرهم فيه؟
ضحك الختيار: هذا القضيب خباه أبو القناني لما طلع من السجن قبل سنتين!.. ولما جت عازته عرف لمين يعطيه..
- طيب، القط شو ذنبه يرفعوه فلقة سوبر؟..
قال الختيار: قضيب الحديد كان مخبى عنده.
- بالمجاري؟
- صح. شاطر..
- يعني اعترف عليه صاحبك أبو القناني..
ضحك الختيار، وقال: لسه ريشك زغب. بدك فت خبز يا ابني.
- ما فهمت!
- استدعته الإدارة، وقالت له بدك ترد لزلمتنا اعتباره، وإلاّ..
- ونخ؟!.. سبعه.
ضحك: هو كاين حمار مثلك..
تفاجأ!
أنت يا الختيار تقول عني حمار!..
غضب..
استدرك الختيار: قصدي ذيب.. والله ذيب.. ذيب جسور..
لم يرغب بسماع المزيد، ترك الختيار، وقام يمشي في الساحة على غير هدى.
لم تقبله مخدته هذه الليلة! بقي ساهراً يسأل نفسه: هل أنا حمار؟..
هذا تجرؤ لم يعتده من الختيار.. خسر القط، وها هو على وشك أن يخسر الختيار..
- هل أنا حمار؟
( لا. ليس الختيار من يقول ذلك بل السجن.. السجن يمتحننا دائماً بلا مواربة.. ويعرّينا بلا رتوش.)
مع الفجر فاحت رائحة الياسمين في قلبه.. راح يستعيد صورة مها فلم يفلح! فقط تذكر نقاط النمش البنيّة حول أنفها.. يستبد به الشوق للذهاب إليها، إلى جامعته، إلى بيته، إلى أمه وأبيه.. يفكّر ب"الاستنكار".. تنتصب أمامه الورقة التي نسيها منذ زمن بدا له بعيدا جداً، فيراها جداراً مصمتاً يسدّ عليه باب السجن! يشيح عن الجدار، يتناول قلمه الكوبيا، ويحاول أن يكتب شيئاً.. لكن مخيّلته تستحضر اللوحة التي مزّقها قبل أكثر من شهر؛ " قفص السيرك": نمر. قط. ذئب. أفعى. جمل. سحليّة.. القط.. كلنا محشورون في مكعب القفص حيث: لا مفر للضبع، ولا سِلع تختبئ فيه الأفعى، أو مكان تتربص منه السحليّة بحشرتها..
يسأل نفسه: أنا من أنا في هذا القفص!؟.. شيء من الهوس يملأ كلّ جوانحه تجاه أن يعرف من يكون، ما أكثر الذين يتوهمون أنهم يفهمونه، بل ويدركون أسراره! تلك الأسرار التي هو نفسه لا يدركها.. وغالباً ما يختصرونه بكلمة "شيوعي"، ثم يضعونه على رفّ من رفوف أفكارهم واعتقاداتهم مثلما يفعل الصّيدلي بقناني الأدويّة..
من يا ترى يقدر أن يحوّل السديم إلى تماثيل وأنصاب!!..
(الختيار قالها: حمار!.. أنا حمار.. وإن قبلت المجاملة؛ ذئب!)
رسم نفسه ذئباً برأس حمار له أذنان طويلتان منفرجتان تحيطان بمشهد السيرك كلّه.. ضحك.. قلب ذئب جريء، ورأس حمار حرون!؟.. هذه أول لوحة يكملها بعد أن صادر الشرطة رسوماته وأوراقه..

صُلح..

ذُبحت خراف كثيرة، وأولم أهل عماد، ونجح الصلح العشائري خارج السجن، وعادت المياه إلى مجاريها داخل السجن.. وعاد صديقاه من مستشفى الحكومة: كانت ذراع عسّاف معلّقة برقبته، وأبو حديد يحجل متكئاً على عكازة.
طبعا ذهبت هيبتهما، ولم يعودا صالحين للقيادة.. لكنّه تعهدهما بالبيض واللبن، وكتب لهما أوتوغرافات مسلّية على الجبس.. (تعيش وتوكل غيرها.. الكرزم أصدق إنباء من العصافير.. منيح الـ.صار هيك، ما صا(غ) غير شي..)
قال عسّاف: قبضاي يا ابن العم.. لما نطلع من هون حمامتي الك.
حمامتك هئ هئ هئ!
سيارتي!.. الفكسة البيضا..
ضحك عماد ساخراً: "سياغتك!" قِبْ من هون.
قَبّ عساف، واستدار الرفيق إلى "أبو حديد" مواسياً: علقة تفوت ولا حد يموت يا بو حديد.
انهار أبو حديد باكياً: أنا معثّر من الله خلقني يا رفيق. يا ريتني مت لما احترقت أمي.. وراح ينشج ويروي لعماد مأساته:
.. تقول أمي انولدت بيوم قيظ حارّ، ولما انولدت مات أبوي. لا تستغرب. لما بشرت الداية أبوي: مبروك أجاك ولد. طار من الفرح لخزانة الملابس. هناك في بارودة ورثها عن جدّي، وما استعملها من لما استلمها؛ انفجرت وقتلته.. وبعد مرور سنة ونص على وفاة والدي انفجر بريموس الكاز بأمي وهي تسخن مي لتحممني، احترقت المسكينة واحترقت الدار لكن الجيران أنقذوني. وعشت عند جدتي لأمي لكنها ماتت.. بعد هيك أخذني عمي، وكنت في الصّف الرابع، وبعدها ما رجعت للمدرسة، مِشْ لأني كسول أو غبي بس لأني يتيم. أخذني عمي لعجلون لأسرح له في قطيع ماعز، لما كبرت طلبت منه يزوجني بنته. زعل! وطردني!.. جيت إربد أعمل عتّال في السوق.. حتى أجا يومي الاسود.. ما كنت أروح لبيوت الناس. كنت أحمّل وأنزّل حمولة شاحنة كاملة لوحدي.. ولكن القدر ساقني هذاك اليوم الاغبر لأحمل أثاث بيت. حمّلته من المعرض للشاحنة. لكنّهم طلبوا مني أركب مع الشاحنة لتنزيل الأثاث في بيت، وكانت هناك حرمة. مِشْ عارف ليش كانت وحدها.. استفزتني بكثرة طلباتها: لا مِشْ هون.. لا هناك.. زيحها ع اليمين.. حطها بالزاوية.. وهي تمسح الطربيزات الجديدة فسحلت. استثارتني. الشهوة عميا.. هجمت عليها. شلّخت وجهي.. لكن اغتصبتها.. حكموني 15 سنة. كانت أول مرة وآخر مرة..
(سالت دموعه غزيرة على وجهه..)
المساجين يحلموا بالنسوان أشكال ألوان، وبوضعيات لا تخطر على بال. الهمل يحلموا بالولدان على هواهم.. أنا يا رفيق من لما دخلت السجن ما حلمت إلا أني بضرب الحرمة وأغتصبها.. بحياتي ما شفت ست عارية، ولا حلمت فيها إلا بثياب مشققة!.. حتى لما راجت حكاية فهدة والقط ما قدرت أتخيل السولافة إلا اغتصاب.. حلمت إنها معلّقه بشعرها على بكرة بالسقف، وتنزل وتطلع بحبل طرفه بيدي.. حتى بالمنام بغتصب النسوان!
وغصّ في بكاء مرير..
في اليوم التالي انتقل أبو حديد إلى سجن عجلون بناء على طلبه.

* * *

حلّ أبو القناني مكان أبو حديد، وعاد كرزم شاويشاً للشمالي!
بعد المصالحة والمصارحة؛ جاء أبو القناني بصحبة القط لـ "يزور القبضاي عماد" في الدار البيضا.
أبو القناني كذّاب من طراز فريد. ليس عبثاً اختار رسم الهدهد وشماً لرمانة كتفه. يستحي بالكذبة التي تحتمل التصديق.. جامل الرفيق وادعى أنه يحب الرسامين والكتاب.. أطلعه الرفيق على رسوماته، فتمعّنها وهزّ رأسه بملل، وقال: هات اقرا لنا شي من قصصك يا رفيق..
أُخذ عماد برعونة الشعراء والقاصين اليافعين، فاستل ورقة من كناشه، وقرأ قصة بعنوان "القشة":
القشة هي القشة. منها يبني العصفور عُشّه، ومنها ما يعكّر صفو الشراب.
القشة هي القشة، قد تذروها الرياح بسهولة، وقد يبدأ بها حريق الغابة الكبيرة!.. القشة قد تقصم ظهر البعير!
أفعى تهاجم عصفوراً. العصفور يمسك قشة طويلة بمنقاره. يعصى العصفورُ على البلع. القشة سلاح. تطول المعركة بين القشة والناب.. قد ينتصر العصفور!.
قال له ضاحكاً: حبيت رسماتك وما حبيت قصتك.. السولافه اللي ما فيها كذبة تهز السامع مش قصة.
قال عماد: لكن هاي قصة رمزية مش سولافه، يعني تخيّل القشة في فم إنسان..
هؤ هؤ هؤ إنت تتباهى بالكذب كمان.. حلو!
هاي قصة مش كذبة.. فيه فرق..
القصة كذبة، لكن الناس يصدقوها، أما أنا.. حتى لما أحكي الصّحيح يروح بسوق الكذب. مشان هيك أحتفظ لنفسي بالصّحيح والسليم، وأبيع للسوق بضاعة معطوبة.. أكذب. هئ هئ. أنا الرابح!
حذفه الرفيق من دائرة اهتمامه، واستدار إلى القط يناكفه.
- طلعت من المولد بلا حمص.. وأكلت "فروجة" من الشرطة، ونمت ثلاثة أيام في القبو، وما طلع لك شي. ظليت مثل ما أنت تنام في المَرْدَوان..
- هههه.
ضحك القط من قلبه..
- هيك أخف.. كيف بدي أطير وحملي ثقيل؟..
تنهد وتابع: مشكلتي مع السجن مِشْ قادر أحوّله لفكاهة وأطنشه.. السجن فكاهة سمجة.. بقدر اطنش الموت لكن مِشْ قادر أطنش السجن! .. إذا طنشت الموت بصير الموت مِشْ موجود.. حتى لما تموت ما تعرف انك مت لأنك صرت بالجهة الثانية.. السجن ما فيه ناحية ثانية إلا الحريّة!..
ثم عوج شفته السفلى مقلداً مثقفي التلفاز: "الإنسان لا يولد حراً وإنما يأتي للعالم مع إمكان أن يصير حراً.."
ههههههههه.
فاحت رائحة الياسمين في روح عماد!

مها

بعد تردد، طاوعته قدماه بالذهاب إلى شبك الزيارة، وهو يعلم أنها هناك..
كانت تحمل زهرة ياسمين بين السبابة والإبهام!
بادرته بالسلام!
ردّ عليها التحيّة بمودة..
- هاي ثالث زهرة. كل زيارة أقول اليوم أشوفه..
- ..
قالت بحماس: شاركت باعتصام في الجامعة مشانك.
كان والدها المهندس منشغلاً بالحديث مع أمها عن اتصالاتها بالمسؤولين.. وترك الغزالة تتحدث مع زميلها!
دار الكلام بينهما بيسر.. امتدّ خيط الكلام وتشعب، السؤال يسحب إجابة، والإجابة تمدّ خيوطاً من الملاحظة والاستفسار. هل صمت المحيطون بهما؟.. دورة الكلام تزداد قوة وحميميّة، فتعزلهما عما حولهما.. دار فيهما شبك الزيارة الكئيب مثل دولاب العيد، وانفتحت قنوات جديدة للفرح، وتقطّع كل ما بقي من خيوط الحذر والتحفظ.. لم تعترض أمها؛ بل رمقتهما بنظرة مجاملة.. لم يتوقفا عن الكلام رغم صفارة الشاويش يونس معلناً نهاية وقت الزيارة..

* * *

- كأننا نعرف بعضنا بعضاً من ألف عام..
- ..
- لابسين مثل بعض.. بنطلون جينز وقميص أبيض وشوز رياضة!
..
- صدفة؟ ولاّ فال..
- ..
- أريد أن أشرب..
- ..
- من ماء راحوب؟
- ..
- عرفتك قبل أن تعرفني.
- ..
- رأيت صورتك على قصاصات متطايرة في ساحة الجامعة تطالب بالإفراج عنك..
- ..
- سرعان ما تختفي..
- ..
- إذا صادف أن لاذت ورقة عن أعين الحرس الجامعي كان الطلاب يخافون التقاطها، ويهمسون لبعضهم محذرين: "مناشير.. مناشير".
- ..
- تجرأت والتقطت واحدة واحتفظت بها بين أشيائي الخاصة..
- ..
- وما زالت.
- ..
ضحكتْ: إذا حوكم أبي سيعلق معه كثير من الناس اللي فوق.
- ..
- سيفرج عن أبي قريباً..
- ..
- صرت أتباهى بين زميلاتي أني أعرفك شخصياً..
- ..
- يسرني أن أرى رسوماتك.
- ..
- أحب أن تكتب لي..
- ..
- زهرة ياسمين..
- ..
- لك. ألم تقل أنك تحبّ الياسمين.
زهرة ياسمين "واحدة فقط" استولت على روحه.. وأججت اخضرار الشجرة التي في صدره، وشعر بجذورها تتمدد في عروقه!
يستعيد عماد كلّ كلمة قالتها.. يُبحر في عمق عينيها العسليتين، ويسترجع عقصة شعرها الأحمر المطعّج، وفتحة قميصها الأبيض على الصّدر الناهد، ولون حزامها الأسود اللامع على الخصر المخصور كثيراً.. ودرجة الأزرق في الجينز الضيق.. استرجع كل ظل ابتسامة، وكل هزّة لغرتها، وكل نمشة عند أنفها.. ولا يستطيع تذكر ما قال هو، أو كيف تصرف!
يدور في باحة السجن مع الدائرين، ويراوح حول فكرة واحدة:
- هل ستزورني زيارة خاصة؟..
- ولمَ تزورني!.. لأني كنت أرتدي مثلها قميصاً أبيض وبنطلون جينز وشوز خفيف؟! هئ هئ هئ.
- لن تزورني.. ولمَ تعرض نفسها لمساءلات أمنيّة؟
- لكنّها أهدتني زهرة ياسمين..
- سأعطيها ما كتبته لها يعد اول لقاء.. "كأني أحبها".
لم يشعر أن القط يسير بجانبه إلا لمّا انطلقت صفارات الشرطة لإغلاق المهاجع..
وضع يده على كتف عماد، فانحنى قليلاً لتقبل المجاملة.. قال وعيونه تشع وداً: تطمّن هي كمان تحبك!
ابتسم عماد رافعاً زهرة الياسمين بين السبابة والوسطى بحركة لا إرادية: كيف عرفت..
ضحك القط: هسع نبت لك ريش وتقدر تطير يا رفيق.
والجنحان؟
- يصير لك جنحان.
- ايمتى يا صديقي؟
- لما تجي الساحرة العجوز وتغز ابرتها بعرق اذنك..
وضحكا..

* * *

في الغرفة البيضا بدا البشمهندس ودوداً منشرح الصّدر.. وبعد يومين أفرج عنه.
بوفاة معالي الوزير، والإفراج عن المهندس نقصت هيبة الدار البيضا، وتراجع نفوذ نزلائها لدى الإدارة.. فقد صارت محطة للعابرين من أقارب المسؤولين المحليين الذين يُسجنون في حوادث طارئة لأيام معدودة مثل: حادث سير. إطلاق النار في عرس. طوشة عشائريّة.. حتى أنه في بعض الليالي كان يُشتقّ فيها مردوان لينام فيه الضيوف العابرون..
كل هذا كان يمر، وعماد سابح في ملكوت آخر! رسمها بالكوبيا المشع، رسمها تركض في كروم راحوب، ابتسم لصورتها.. أخرج زهرة الياسمين الذابلة، وحاورها:
- تحبني.لا تحبني.. ولم تحبني؟
- قالت إنها تحتفظ بصورتي.. ولو..
- تحب ماء راحوب.. ايش يعني؟
- تريد أن ترى رسوماتي.. متى؟
- اكتب لي.. كتبت لها، ولكن.. هل تحبني؟.. أنا دائم التفكير بها.. هل هذا هو الحب؟!
يحاول متابعة رسمها "بورتريه".. هي في خاطره أبهى وأجمل وأذكى..

مجانين

في الصّباح جاءه القط متوعكاً، جلس معه عند قهوة الطموني، وطلب له كاسة شاي وسيجارة كمال. رفض السيجارة فدخّنها عماد، وسأل القط: ما عندك شغل اليوم؟
طلب القط من الطموني كشتبان سكر زيادة، ذوّبه في شايه، وارتشف رشفة طويلة بتلذذ، وقال: صاحبك تعبان يا رفيق.
- سلامتك.
- ما قدرت أطير امبارح.. كل أحلامي صارت كوابيس.
ضحك الرفيق: يا خسارة! مين يطير فوق إربد ويخبرنا أحوالها..؟
- ظهري! ظهري محلول يا رفيق.
- هاي فهدة حلّت ظهرك. شغل بالنهار ومرج بالليل!.. ارحم حالك يا زلمة..
- آخ يا ظهري.
- ..
اصطحب عماد صديقه القط لعيادة السجن..
- ظهري ي يا دكتور.
- تشكو من شي ثاني؟
- كل شي يؤلمني..
تدخّل الرفيق: أرجوك يا دكتور تهتم فيه.
- ليش على راسه ريشة، ولا نظمتوه معكم بالحزب.
- أرجوك إذا صار له مكروه مين يحلم لنا.
ضحك الطبيب: صار يلزم طبيب نفسي.. يفهم عليكوا.
تأوه القط: أرجوك يا دكتور ما أقدر أركِّب حنفيّة.
نظر الطبيب إلى رجل المباحث، وقال: يمكن دسك لازم صورة أشعة.
فتح الرجل ملفّ القط، وقال: القط ما يطلع من هون إلاّ إفراج أو ميت.. ثم توجّه له قائلاً: هاي ملفّك قدامي. ما نسينا حصوة الكلية يا قطيط.
قال القط متمسكناً: أرجوك ما ظل علي إلا كم شهر.. ما رح أهرب.
ردّ رجل المباحث: قِبْ! منك وورا .
قال الرفيق لرجل المباحث: تتحمّل المسؤوليّة إن صار له شي.
- طز. وزير بحاله مات عندنا، وما صار شي.
نظر الطبيب إلى الرفيق بتعاطف، وقال: أنا كتبت له تحويل للمستشفى والباقي مسؤوليّة الإدارة.
وضع القط يده على أذنه وراح يغني:
حن الحديد على حالو وانت ما حنيت
لو كنتَ تدري بحالو من زمان حنيت
طرب الطبيب: صوته حلو..!
قال رجل المباحث: وسكوته أحلى. امش يا قطيط بدنا نشوف غيرك.
خرج القط بصحبة الرفيق، ودخل حسن..

* * *

مساء، زار حسن الرفيق على برشه، وقال: ما بدك تعرف شو صار معي؟
- حبسوك..
ضحك حسن، وقال: تتذكر فهدة؟
- شو جابها على بالك؟
- شفتها؟
- وين؟
- كنا ثلاثة رايحين المستشفى يعني كل اثنين بكلبشة وظليت أنا فرداوي.
- أحسن لك.
- فعلا بعد شوي أجت، وخلفها شرطيّة..
سأل عماد: مين هي؟
قال حسن: ما غيرها.
- مين ما غيرها؟
- فهدة يا رجل!
- آه.. عرفت ليش القط طلب عيادة، دخل ع طبيب السجن يتعكز علي من وجع ظهره، وطلع يحجل مثل الحصان!
- فكرك كان يعرف إنها طالعة المستشفى؟
- هذا القط عفريت. استموَتْ من شان يطلع المستشفى اليوم.
مسح حسن نظارته بطرف قميصه، وتابع: كانت مرتبكة ومحرجة، وكأنها تلوذ بي..
هي أول من ذهب إلى عيادات الاختصاص وآخر من عاد. كان زميلاي في الروفر المخصصة للمساجين على مقعد، وأنا وحدي على طرف، جلست حدّي.
همست لي: تعرف سعيد؟
- مين سعيد؟
قالت: القط..
- القط؟ طبعاً. طبعاً.
- قول له؛ فهدة تسلم عليك، وتقول لك إنها حامل.. والصّحة كويسة.
صمت حسن، ونظر إلى الرفيق محاولاً أن يعرف رد فعله على الكلمة الأخيرة..
تساءل الرفيق: وبعد؟
قال حسن: القط صاحبك!!

* * *

دار عماد مع القط أكثر من عشر دورات في ساحة السجن، وهو يفكّر بطريقة مناسبة لإخباره.. أخيراً قالها دفعة واحدة..
- يا صديقي. فهدة حامل!
هتف القط بفرح: دحنونتي؟!..
- وبصحة كويسة.
ابتعد خطوة، وفرد ذراعيه إلى آخر مدى، وقف على رؤوس أصابعه.. وفتح خياشيمه إلى آخرها.. واتسعت ابتسامته حتى أذنيه..
همس: دحنونتي.
همس عماد: ياسمينتي.
رفرف القط بذراعيه راقصاً، رفرف معه عماد.. وقف على رؤوس أصابعه. وقف القط مثله، فردا ذراعيهما. فتحا عروتي أنفيهما على آخرهما. ابتسما إلى آخر مدى... نقرا الأرض بأقدامهما. تمايلا. تموّجا.. ورقصا بمرح غير عابئين بتجمهر المساجين حولهما.. ولا بتعليقاتهم الساخرة:
- انجنوا..
- شو شاربين؟
- شو شامّين!
- ها ها ها ها ها
- مجانين.
صفّق القط بكفيّه إيقاعاً جميلاً فصفّق عماد. وصفق المتفرجون.. وما لبثت الأصوات أن هدأت، وانتظم الإيقاع.. ترت تو.. ترت ترت ترتو.. انهمر رذاذ ناعم يؤجج حماسة المحتفين، وانطلق صوت القط:
خايف كون عشقتك وحبيتك
ويكون الهوى رماني ببيتك
ونطير ليليّة نشتاق ليليّة
خبرنا شو صار يا طير العشيّة..
انتقلت عدوى الفرح إلى كلّ زوايا السجن.. فارت الساحة بالمساجين. أصيب السجن كلّه بمسٍّ من الجنون. حتى المآمير الخمسة، والشرطة في الأبراج رقصوا.. وعلت الزغاريد في سجن النساء! انهمر المطر ولم يتَّقِه أحد.. أصيب السجن بأسره بمس من الجنون، لعل المساجين رأوا حريتهم متجليّة في هذه الساعة من الهوس الجماعي!

* * *

عادت قصة فهدة والقط لتتصدر أحاديث المساجين. في الدار البيضا، تحمّس السيد ملبورو للخوض في القصة، وذهب لتوقع شكل العائلة التي ستبنى من لص وشرموطة وابن حرام!
أزاح حشيش مبسم الشيشة عن فمه، ولوى شفته مستهزئاً: يمكن يكون مِشْ ابنه! اللي عملتها معه ممكن تعملها مع غيره..
دافع عماد عن صديقه: هي في سجن النسوان. مين يقدر يصلها!
- مثل ما وصلها القط، يصلها غيره.
قال حسن: أنا شفت المرة وحكيت معها.. شكلها مرة محترمة.
قال كناري: عادي. بلاد بره يتزوجوا ويكون عمر ابنهم سنتين وثلاث..
خرج عماد من حلبة النقاش إلى كناشه..
كتب لمها:
زيارتك تحلّ ألف عقدة في حبل روحي، تحول الانتظار، وهو رمضاء، إلى حرائق وبساتين.
زهرة الياسمين جنتي أحملها في صدري أنّى اتجهت..
صرتُ أسير في هذا المكان المسحور وفي عيني نور، وفي قدمي عزم.
ياه..
الصّبح قريب وأنت بعيدة .
أنتِ قريبة والصّبح بعيد.
أنتِ بعيدة والصّبح بعيد.

* * *

في الصّباح الباكر جاء القط للرفيق بالجريدة، وكان الطج يعدّ طعام الإفطار كالعادة..
- قطيط.. خليك افطر معنا.
تنطّع الطج: صحيح يا قط ابنك مِشْ ابنك؟
- ما فهمت.
- يقولون فهدة حامل.
- انت شو دخلك.
- حشيش يقول.. مثل ما عملتها معك، يمكن تعملها مع غيرك.
صرخ به حسن وكان نائماً تحت لحافه الملوّن برسومات ميكي ماوس:
- طج!.. بلا حيونه على الصّبح.
دخل حشيش إلى الغرفة يحمل فنجان قهوته، وقال بتحدٍ وحنق: آه قلت. اللي ما سمع يسمع.. شو ما فيه سالفة غير القط، كمان شوي تطلع أخبارك ع محطة مونت كارلو..
- مهلك مهلك يا حشيش. ليش محتار.. أولاً الحرمة لسه ما ولدت. ما نعرف ولد ولا بنت. ثانياً اللي ببطنها إلها، وهي ويا اللي ببطنها إلي أنا. أنا بدي أتزوجها مِشْ أنت..
تلبّك أبو نظمي، وتلعثم: انت.. قصدي.. خليك افطر معنا.
قال الطج، وهو يفسّ البريموس تحت إبريق الشاي: والله فسّه مثل البريموس.
احتدّ أبو نظمي: ولد يا طج!..
ذعر الطج، وارتبك، فانقلب إبريق الشاي عن البريموس..
(إذا كان الحب يستولي على المحب تماماً في الحياة العاديّة، فما الحال مع من ليس له متعة سواه؟)

رجعت الشتوية

رجعت الشتويّة، ورياحها المتقلبة تُشتت صوت فيروز الدافئ: (رجعت الشتويّة ظل افتكر فيه..)
رجعت الشتويّة وأفرج عن السيد مالبورو، وأعيد للخدمة في وزارة أخرى! وزار السادات الكنيست الإسرائيلي في القدس المحتلة! وعقد أبو علي كناري صفقات عقاريّة غير ناجحة، و"زحلق" في واحدة منها فأقام منافسه دعوة ضده، فتأجل الإفراج عنه لحين البت فيها.. (يبدو أن تلك الحادثة لخبطت كيانه.. وسيظل زقرط السجن يعيرونه بها كلما دق الكوز بالجرّة)
نُقل عسّاف إلى سجن الزرقاء رغم أنه لم يبق من "محبوسيّته" إلاّ شهر لأنه نصب على مدير السجن نفسه..
(كتب له تقارير مبالغ بها عن وجود ذهب مع المساجين، وهذه حقيقة لكن بشكل قليل ومشروع: خاتم. سنسال. ليرة عصملي..
ثم وشوشه أن بإمكانه أن يلم له الذهب من المساجين بسعر بخس..
- لا يكون مسروق يا عسّاف؟
هنا كشف عسّاف نواياه لحضرة الضابط.. رغرغ حرف الراء، وهمس: مسروق. منصوب. منهوب. انت يهمك تربح.. القرش يرمي قرشين بأسبوع زمان!
وباعه كيلو ذهب "فالصو" !)
الضابط لم يجرؤ على فتح قضيّة ومحاكم لعسّاف، وبكلّ ما عنده من صلاحيات استطاع نقل هساف إلى سجن آخر.. لكن في السجن كل شيء مكشوف!.. حتى قصة عماد مع بنت المهندس.. (اللي ظلت تزوره بعد ما طلع أبوها) صارت مكشوفة..

* * *

[ - إذا أحببت زهرة توجد في نجمة فإن من الرائع ليلا، تأمل السماء. كل النجوم ستكون مزهرة.
- مثل زهرتك الجميلة على كوكبك الصغير.
- الشيء المهم لا يمكن رؤيته.. يمكن الإحساس به. قال الأمير الصغير]

رجعت الشتويّة، ومرّ عيد الأضحى، ومضى عام على وجود عماد في السجن!.. كان ذلك منذ زمن يبدو اليوم بعيداً. زمن صارت معه الشوارع والمدارس والجامعة والقرى نائية.. قريته حواره تبعد من هنا مسير ساعة على القدمين، وخمس دقائق في السيارة لكنّها بعيدة.. كل الأماكن التي كانت أليفة ومألوفة يراها موغلة في البعد، ويتساءل:
- هل حقاً كنت هناك؟
رجعت الشتويّة، قصر النهار وطال الليل، ودخلت جيبوتي عضواً في الجامعة العربيّة، وفرح الرفيق بفوز منظمة العفو الدوليّة بجائزة نوبل للسلام لأنهم كانوا يرسلون له بطاقات تضامن تنتهي بعبارة :
keep your thump high..
وعرض تلفزيون "أبو علي" كناري الجديد برنامجاً عن وفاة "ملك الروك، الفس برسلي" بجرعة زائدة من المخدرات، مما أرعب متعاطيها في السجن..
رجعت الشتويّة، وسرت بين المساجين الشائعة الأكثر رواجاً: عفو ملكي قريب.. (تبييض سجون ع راس السنة الجديدة)!
شبههم بقوم يأجوج ومأجوج الذين يلحسون سدّهم الفولاذي بألسنتهم ليل نهار حتى يصير رقيقاً كورقة، ولحظة يتأهّبون للاندفاع خارج السور تعود للسدّ سماكته، ويعاودون لحسه بألسنتهم.لا السدّ ينهار، ولا الألسنة تكف عن الثرثرة..
صار يعرف أن "إشاعات العفو" ليست إلا رغوة الأماني الدفينة.. لكنه استعان بهذا "الوهم" الماكر ليخفف من مرارة أيامه..
رجعت الشتويّة، وجاء كانون صريحاً بعدوانيته: برد قارس ومطر نزق.
هلّت "المربعانيّة" وغيّر المطر إيقاع ضجيج السيارات الصّاعدة إلى التل والهابطة منه..
رجعت الشتوية، وانتعش الياسمين، وزادت الأيام الماطرة، وصارت طلّة الشمس مرغوبة، وظلّت مها مواظبة على زيارته كل ثلاثاء، وأمه تواظب على زيارته كل جمعة..
كتب لمها:
رائعة زيارة الأم.
تحدثنا عن الدار، وشجرة الياسمين، والموسم الزراعي.. سألتها عن همّة والدي معها فزجرتني.. تنقلتُ معها بين التفاصيل؛ تحدثتْ عن الأخوال والخالات.. الأحفاد والحفيدات..
أختك خلّفت ولد سمته على اسمك.. تلمع عيناها بفرح طفولي وهي تقول: صاروا سبعة بحواره على اسمك..
لا تتكلّم كثيراً، لكنّها تشد أزري بطريقة لذيذة لا تجيدها إلا الأمهات:
- ما يقطع الراس غير اللي ركبّه..
(يتحسّس عقد الخرز في جيبي. أهم بأن أخبرها عنك يا مها لكني لم يهتد لصيغة ملائمة لعرض علاقتي بك..)
طابو ر الرجال أطول من طابو ر النساء على باب السجن.. يصل أبي متأخراًً ومبللاً.. أجلّ أبى بإخلاص ومودة.. يسلم باقتضاب لكن بحرارة.. نتحدث عن أحداث العالم، ونتدرج إلى أحوال العرب، وننتهي إلى سياسة قريتنا..
حضر عسّاف وحسن والقط والختيار ليسلموا على أهلي..
قبض عسّاف "المعلوم" من عمه الحاج.. وسلم على أمي، ومضى.
جامل والدي حسن، وسأله: مطول هون عموه؟
قال حسن: حكمي 27 شهر، مضى عشرين، وبعد سبع أشهر.
قال أبي: هانت. اللي ينقص يخلص. وانت يا سعيد؟
ضحك القط: بعد علي ثلاثة شهور.. والله ما يفرحوا فيهن..
وضع يده على كتفي مجاملاً، وتابع: ما بطلع غير أنا وهالشبل.. رجلي على رجله.
ضحك والدي، فقد تعوّد خفة دم القط، واستدار نحو الختيار، فلم يحرجه بالسؤال نفسه، بل قال: كيف الصحة يا بو محمد؟
قلت لأبي: الختيار يقول هون ناموا أجدادك قبل ما يسكنوا حواره..
وازن الختيار معقله، وقال: آه، حكيت للرفيق عن أيام سطوة البدو، وضرايب العصملي، وحرابة البدو والفلاحين..
ضحك أبي، والتفت للختيار: دشّرك من سواليف السلف يا بو محمد، تراها تورث عيالنا مشاحنات قديمة هم في غنى عنها اليوم.
تدخل القط: صادق يا حجي. كل واحد من كبار العشاير يدير النار ع قرصه، وما حدا يعرف الصّحيح..
تنحنح الختيار، فسلّموا على أمي وانصرفوا..
يشرب أبي شايه بتؤدة متنحياً قليلاً لأمي.. إنها تتحسّس وجهي وكتفي وتتفقد ملابسي.. تدعي دائماً أنى نحيف، ولا ألبس ما يكفي لمواجهة البرد..

* * *

استعان عماد بكتب التاريخ ليشبع فضوله حول ادعاءات الختيار..
[تل إربد الذي تلّله الناس قبل 5 آلاف عام بقطر 400 متر، ومحيط 1100 متر، وارتفاع ستين مترا. وجدت فيه آثار تعود إلى الحضارة الآدوميّة، ووجدت آثار إغريقيّة ورومانيّة وإسلاميّة، وأغلب الروايات تعيد أصل البناء الحالي إلى العهد المملوكي، حيث كان يتم فرز قوالب الثلج القادم من جبل حرمون وإعادة تغليف أكبرها، وإرسالها إلى مصر، وظل التل كلّه قلعة مملوكيّة مسوّرة حتى دخل العثمانيون البلاد سنة 1571م.. فآلت القلعة إلى الخراب.. فسكن الناس أطراف التل وسفوحه.
أعاد العثمانيون بناء "دار السرايا" في زمن سليمان القانوني وفقاً لمخططات سنان باشا ( المتوفى 1580م)، وصار رمز سلطتهم في المنطقة، وأكد ذلك الرحالة السويسري بيركهارت الذي مر بإربد سنة 1812م.. ثم حسّنه وبنى طابقه العلوي ودرجه الغربي المصريون سنة 1833م إبان حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام.. وبعد خروج إبراهيم باشا من بلاد الشام 1841م آل البناء إلى الإهمال من جديد.. ومر به الرحالة الألماني شوماخر عام 1884 م فوصفه: (يعلو المدخل الجنوبي قوس ويؤدي إلى حوش مربع تحيط به صفوف من العقود بنيت بالحجارة الجيريّة والبازلتيّة، وعند باب الحوش ترتفع عدة أدراج إلى الطابق الثاني. ويأوي إلى هذا البناء المشرف على ما حوله من سهول الرعاة واللصوص والمزارعون أثناء فصل الشتاء..). ظل كذلك إلى أن وطّد العثمانيون سلطتهم على إربد وجوارها مرة أخرى، فالتفتوا لأهميّة التل، ورمموا البناء ليصير مركزاً للدرك وسجناً منذ عام 1886 ميلادي (1304) هجري حسب النقش الحجري المثبت على واجهة بوابة السجن اليوم الذي يتألّف من طابق أرضي 6 عَقدَات وليوان (القَاووشْين الشمالي والجنوبي وبينهما ليوان)، و10 غرف ومستودع (قبو)، وطابق علوي من 14 غرفة مختلفة المساحات، ومساحة كامل البناء 1458 متراً مربعاً، ومساحة ساحته الداخليّة 600 متر مربع.. واستمرت الدولة الأردنيّة باستعماله سجناً..]
(يبدوا أنه في الفترة ما بين اندحار المصريين وعودة العثمانيين جاء أجدادي ليزرعوا أرض حواره، فأووا إلى هذا المكان المشرف عليها..)
أعادته كتب التاريخ إلى القبو! لو يمشي في السرداب الذي وصفه القط هل سيكتشف تراكم الحقب التاريخيّة وعمقها منذ زمن الظاهر بيبرس إلى عهد عطا الله بك؟ أم سيكتشف طاقة للفرج!
اعتاد أن يرى نفسه على حافة السور. بهوي. يرفرف. يطير. يسمع صليات رشاش ثقيل. يفيق.. تغير الكابو س صار يرى نفسه يزحف على بطنه في سرداب. يرى ضوءاً في آخر النفق. الضوء يقوده إلى متاهة من السراديب.
كبس السرداب على مناماته؛ وسيطر القبو على أحلام يقظته..
قرر أن يدخل القبو، ويتسلل عبر سردابه، إما أن يجد كنزاً، أو يجد مخرجا.. أو يغيب في السرداب كما غاب (الشاب مربوع القامة، حسن الوجه أقنى الأنف، أجلى الجبهة، والشعر يسيل على منكبيه، الذي يعود ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلما وجورا..)
هذه المرة طوعاً؛ بكامل رغبته وإصراره تسلل مع القط إلى المنطقة المحرمة عند الباب الخارجي، ووقفا يتفرجان على إربد مع الغروب، وهي تنفض ناسها إلى حاراتهم وقراهم حتى انتبه الحرّاس لهما فطلب الشاويش يونس منهما الدخول بلطف..
همس القط باسماً: قلت لك.. تعودوا!
قال عماد: نفسي أبيت في القبو.
- ليش؟
- أشوف السرداب. أدخله..
- بدك تهرب..؟!
رفرف طيف مها في باله مثل فراشة زاهية.
نظر القط في عيني عماد بود، وقال: تحبها؟
رد بفرح: آه. بحبها.. بحبها!
عاد إلى برشه جذلاً بالكلمة التي لفظها.. يشعر أنه اجتاز حاجزاً كان يتهيبه: أن يفكّر بها. أن يستحضر جيدها وسنسال الذهب الناعم المدلّى على لهيب فتحة قميصها الأبيض. نبرة صوتها، أن يعد حبات النمش حول أنفها غيباً. أن يسأل نفسه ما هو الحب؟.. مرحلة يختلط فيها الوجل بالشوق.
(أحبها..) عندما لفظها. سمع صداها يتردد في داخله.. وشقّ صدره نور يشف عن صورتها. وصار نبضه يلهج باسمها..
خرج من القلق الجميل، ودخل في الجذل اللذيذ! انتقل من عالم التجريد إلى عالم التكوين.
أضاء كناشه، وكتب لها كلمة واحدة كبيرة بخط النسخ: (أحبك)، وأودعها جيب عقد الخرز.

* * *

سلّمت عليه بكلتا يديها، وقالت: بحبك، وأعيدها معتزة.. بحبك.
رمى آخر سهم في جعبة توجساته:
- لأني بنظرك بطل؟!
قالت: البطولة تلهمني، تجذبني إلى السير على دربك.. تجعلني أحبك كما يحبك الآخرون.. أما الحب!!!!!!
صمتت.. تستذكر صورته وهو يدور بمرح يسقي العطاش على شبك الزيارة.. ذلك الاحترام والنبل الذي تجلّى لها وهو يقدم لها الماء.. بساطته وهو يلم الأكواب الفارغة.. ابتسامته الودودة رداً على شكرها.. هي أشياء لا تجيد لملمتها بكلمات.. كأن ماء راحوب في تلك الكاس الورقية الصغيرة هو ما سكب محبته في قلبها..
حضنت أصابعه الطويلة بكفيها الناعمتين.. رفعت عينيها العسليتين إلى عينيه العميقتين.. وصمتت.. ما جدوى الكلمات هنا!
حلّقا فوق نبع راحوب، وسهل حوران، وجبل عجلون، لعبا مع الريح.. رحبت برفيف جناحيهما الآفاق.. غرّدت لهما الطيور.. وتفتحت تحت ظلّهما الورود.
دار فيهما المكان، و"حنّ الحديد على حاله"، وصار شبك الزيارة مرجاً فسيحاً. وصارت المنسوجات الخرزيّة المدلاّة حولهما متحفاً باهراً..
رن الجرس منهياً وقت الزيارات.. أهدته خصلة من زهر الياسمين بحجم الإبهام، وكتاباً بحجم الكف سحبته من بين دفاتر محاضراتها، لم يلفت انتباه الشرطة.. وأعادت له طوق الخرز!

* * *

أخرج رسالتها من جيب الطوق، وظلّ يتنسم شميم الحب، ويعيد قراءتها بفرحٍ عسلي العينين..
(.. خيطٌ رفيع من ماء راحوب نشب في ذاكرتي من أثر الزيارة الأولى، تسلل معي في دروب إربد، وذهب معي إلى مسطحٍ أخضر في جامعة اليرموك..
اشتريت سندويش فلافل وكاسة شاي. طلبت من عامل الكفتيريا أن يسكبها في الكأس الورقية التي احتفظت بها من شبك الزيارة، وجلست تحت شجرة التين، مقابل شلال الماء الصناعي حيث قلت لي انك كنت تجلس.. لم أجد من ملامحك في مخيلتي سوى ثنيتك المائلة قليلاً إلى الخلف، وحب الشباب الذي يطفو على وجهك بغزارة، ومع ذلك صارحت نفسي بلا مواربة أنني أرغب بزيارتك مرّة أخرى، واقترحت على نفسي أن أحمل لك الزهرة التي تحبها..
حاورتك في مخيلتي، تخيلت الطريقة التي ستبوح لي بحبك، وأحضّر الرد، والابتسامة، وهزّة الغرة أيضاً..
تدفّق حضورك في روحي مثل ماء راحوب الذي يروي ويروي..
مثل ظلال شجرة التين المكتظة بالرغبة..
كالشلال الذي يشبه الشوق..)
لماذا يعيد القراءة بنهم، هل فاته شيء في القراءات السابقة؟!
بعد ليلتين أو ثلاث؟ هو ليس متأكداً.. بعد أن أصدر تلفزيون "أبو علي كناري" وشيشه الختامي استل الكتاب يتصفحه فغمره عطر الياسمين!!!!
.. ياه ما أجمل هذا "النورس" ! لو لم يكن يحب مها لعشقها لأنها عرّفته على عالم هذا النورس الذي يتعلّم الطيران..
[إن أصعب طيران، وأهم طيران، وأمتع طيران، هو الطيران إلى عوالم المحبة واكتشاف معنى الحنان..]
- ياه كم أحبك يا مها!
- ما أروعك يا ريتشارد باخ!
[يكفي أن يفكّر المرء بمكان ما، ويريد أن يكون فيه بكثافة وصدق، حتى تجعله الإرادة حقيقة واقعة..]
نام والكتاب بيده. رأى حبيبته عند ملتقى غيمتين تغتسل في الزبد الحليبي. رقصا مع الغيم الأبيض. حلقا مع النورس جوناثان. هبطا مع غزلان الندى. ناما على ورق الياسمين. توسّدا بتلات أزهاره البيض..
أفاق وعطر ياسمينها ينتشر في روحه مثل معجزة..
يبدو أنه وجد مرهماً لروحه، فقد فعل هذا الكتاب بجلده ما لم تفعله المراهم والمهدئات. رحلت الحساسيّة، واكتشف نعمة الصّابو ن من جديد، وصار الكتاب رفيق مخدّته، واحتلت مفاتن هذا الكتاب الصّغير جزءاً كبيراً من زمن لقائه ومها على شبك الزيارة..
قالت بهيام: أحلم بأن أترجم هذا الكتاب ذات يوم..!
أمسك يديها بكلتا يديه عبر مربع القضبان..
- حبيبتي..
لم يستطع أن ينتظر العودة الى كناشه لينبش ما يحمله العقد.. فرد ورقة زهرية مزدانة بفراشات يومياتها، قرأ غير عابيء بفضول مزاحميه على شبك الزيارة..
(.. ما أجمل كتاباته! ما أرقّ مشاعره. له عينان تفيضان حناناً ومحبة.. لما يضع مرفقيه على شبك الزيارة وينحني بشوق ليحدثني، أشعر برغبة جامحة في عناقه، وتقبيل كل حبّة شباب في وجهه الوسيم. أحياناً، أود لو أمسكه من شوشة شعره المفلفل، وأقول له: بحبك يا عماد!.. لن أقولها له، إذا لم يقلها هو..)
ضحك: ما هذا يا مها؟ هل كنت مغفلاً!
أمسكت يده، وقالت ضاحكة: كتبتها أثناء محاضرة بليدة ..

* * *

ظلّ العقد يروح ويجيء بينهما كل زيارة، والنورس جوناثان يرفرف بينهما معطراً فيض مشاعرهما برائحة الياسمين، ومؤججاً انثيالات أشواقهما بوعد الحريّة. يتألق العقد باشتعالاتهما واشتهاءاتهما، ويغص بعواطفهما دون أن يلفت انتباه أحد.. فشبك الزيارة مشنشل بالخرزيات التي يتداولها المساجين والزوار.
حبيبتي مها
اليوم الثلاثاء. أول كانون 1977م
استيقطت الساعة الخامسة والنصف لأكتب لك.
الضوء يجلل الكون ويعطي ساحة السجن قبضة من بهائه.
صديقي العصفور ينقر شيئا ما خلف الشباك الشرقي. عصافير السجن متشابهة كأيامه. لست أدري أهو عصفور بعينه أم أن هناك تبادل مواقع بينه وبين عصافير أخرى. لكني أرى دائماً عصفوراً واحداً على نافذتي. زقزق وقفز لما انتبهت لحضوره. حمّلته لك (مرحبا) وابتسامة.. كنت سأحدثه عنك.. ضجيج سيارة عابرة أبعده عن نافذتي. طبعاً لم أرها. النافذة أعلى من الشارع بكثير. إذا مررت من أمام مدرسة حسن كامل الصباح قد ترين العصفور يتقافز على لفة الأسلاك الشائكة بانتظارك.
الساعة السادسة صباحاً فتحت المهاجع. فار المساجين إلى الساحة. بقي ست ساعات لأراك. كيف ستمضي الـ 360 دقيقة القادمة؟! الشوق يتكاثف كلما مرت دقيقة!
قهوة وجريدة: أقرأ الأبراج قبل أن أقرأ مقال بدر عبد الحق.. لا أهتم بما تقوله الأبراج، فقد رايتهم في جريدة الصباح كيف ينسخوها من صحيفة أخرى كيفما اتفق. لكني عندما أقرأ برجك أشعر بنوع من التواصل الحميم معك.. اطلعت على أسعار الخضار أيضاً!!
الآن علي أن أستحم، وأحلق ذقني، وأتجمّل مستمتعاً بلحظات انتظارك.
أحبك.

* * *

ذات مساء عادي القسمات، وبلا دافع محدد، أخرج ورقة "الاستنكار"، قرأها على مهل كأنما تخصّ شخصاً غيره.. كعبلها بلا اكتراث وقذف بها إلى سطل القمامة عند الباب. شعر بضياء مرح ينتشر في صدره، وكتب بمرح:
أحب الياسمين. أحب الدحنون. أحب نبع راحوب. أحب اللون الأزرق بلون السماء.. أحب الأمير الصغير والنورس جوناثان. أحب القط والختيار. أحب كرة القدم وبابلو نيرودا وعزيز نيسين وإميل حبيبي وسلفادور دالي وغويا وجواد سليم وسعدي يوسف وكزنتزاكس وكرايسكي. أحب فيروز وأمي. أحب أبو موسى وأبي. أحب مارسيل خليفة وفرقة الطريق وعبد الحليم حافظ وابن الرومي والخيّام. أحب الغيم والقمر وعرار ووصفي التل وجدّي. أحب هو شي منّه وكاسترو وعبد الناصر وهواري بو مدين وأخي. أحب العصافير واليمام وأسراب طيور أبو سعد. أحب بودابست والعقبة وحوّاره والإسكندرية وتونس. أحب خالتي أمينة وعمي سليم ومعلمتي الأولى نادية أبو رحمون وأختي. أحب غوار وانتوني كوين ومنى واصف وفرقة الأبا. أحب دستويفسكي ووالت ويتمان وهمنجوي وأرسولا أندروز. أحب سورة الرحمن ونشيد الأنشاد والمزامير.. أحب المشي. أحب المطر. أحب الليل. أحب الصّباح. أحب الزيت والزيتون والخبز واللبن والخبيزة.. أحب تذوق الأشياء على مهل.. وبقدر ذلك كلّه أحبك أنت..
بين ثلاثاء وثلاثاء كبرت الرسائل: ورقة. ورقتان. ثلاث.. حتى ضاق بها جيب الطوق..
سلّمت عليه كالعادة بيديها الناعمتين.. تمعّن في عقدة إصبعها الوسطى كانت زرقاء محبّرة وناتئة قليلاً..
قال: مجتهدة.. وقالت: في الكتابة لك.. وضحكا..
- طلعنا مظاهرة ضد زيارة السادات للقدس. (صارت تطول وتبدو أكبر من سنها)
- ..
- وسط المدينة، سكّرنا شارع السينما. (ودّ لو كان معها.. ليحميها!)
- ..
- رح يجيك رفاق جدد، دير بالك عليهم.. (بدت له مثل أخته!)
- .. نظموكي الرفاق؟
قالت بفرح طفولي: أنا طلبت ذلك. (كانت عيناها تضحكان.. غامت عيناه)
توقّعَتْ أنه سيفرح.. لكنّه شعر أن شيئاً ما أثقل صدره!..
ودّعها بيدين متعرّقتين، وعينين زائغتين..!
هذه المرة فتح طوق الخرز عن ورقة مختلفة!
[خاص- تقرير إخباري للكوادر المتقدمة في الحزب.
في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977م فجّر السادات مفاجأته أمام البرلمان المصري وقال: أنا على استعداد للوصول إلى آخر الأرض من أجل السلام، وحتى إلى الكنيست نفسه.. وبعد عشرة أيام قام السادات بزيارته إلى القدس الشريف، وتخلى عن مؤتمر جنيف والنهج الرامي إلى تحقيق سلام شامل. أحدثت زيارة السادات إلى القدس فوضى وانقساما في العالم العربي. بعض القادة العرب أيد المبادرة، وعارضها آخرون، فيما آثر بعض آخر الانتظار ليرى ما يمكن أن تصبح عليه المواقف.
إن العرب لن يستطيعوا استعادة حقوقهم إذا جاءت مساعي تحرير الأراضي العربيّة المحتلة والتوصل إلى سلام عادل بمبادرة من جانب واحد أو جزئي أو غير ملتزمة بموقف عربي مشترك.
يتحدث السادات عن كسر الحاجز النفسي الذي كان يشكل، على حسب قوله، 90 في المائة من النزاع العربي الإسرائيلي. وصار السلام يمكن تحقيقه دون انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة!!.. إلا أن السادات لم ينجح في اختراق الحاجز السياسي للسلام، وعلى وجه التحديد رفض حزب الليكود الانسحاب من الضفة الغربيّة. وفي هذا الجانب فشلت زيارة السادات..]
يحرق التقرير، ويفكّر بمها: ماذا لو تعرضت للملاحقة، أو فصلت من الجامعة؟ هل يعتبر نفسه مسؤولاً عن أذيتها؟.. يراها أختاً.. رفيقة.. يتذكر قصة تداولها الرفاق عن رفيق بدوي أراد أن يتزوج فاقترحوا عليه "فلانة" فقال لهم. (اخسوا يا شينين هاذي رفيقة ما تجوز لي..)!!
ضحك، ثم اغتمّ.. فكّر في رفاقه الذين يتعرضون الآن للضرب والشبح والعزلة، من منهم سيصمد، ومن سيمزط.. غصّ القهر مراً يابساً في حلقه. إلى متى؟!..

* * *

يوم الجمعة زاره أخوه..
- ..
- لما هجم الدّرك مزطت..
- أحسن. لو مسكوك شو بدّه يصير بأمي!
يضحك أخوه: أمي تقول طستنا عين، وصرنا من المغضوب عليهم.. قلت لها مِشْ أحسن ما نكون من الضالين يمّه..
ضحكا..
- شفت مها بالمظاهرة، بنت قد حالها..
أطرق الرفيق، ولم يجب.
- شو؟.. فكّرت رح تنط من الفرح؟
- لسه صغيرة ع المظاهرات..
- ليش! أول مرّة طلعنا مظاهرات كنا أصغر منها..
- بصراحة ما بدي تنشغل بالسياسة..
- هذه أنانيّة!..
ضحك أخوه: هذا موقف رجعي..
يحاججه: لما عرفت إنها أختي انتسبت للحزب زعلت!
- زعلت لأني ما بدي تصير شيوعية مثلك.
- قصدك حزبية.
ضحك أخوه: خيوه معك حق.. هاي أدران موروثة، بدنا زمن لـ نخلص منها.
عاد من شبك الزيارة مؤرقاً بالأسئلة..
لا. ليس صحيحاً أن: (اللي تحت العصي مِشْ مثل اللي يعدّهن).. يقشعرّ بدنه عندما يتخيل "مسلسل التحقيق" الذي أجتازه يتكرر مع رفاق له يعيشونه الآن!
الألم المزبوط يتحلّب من الذاكرة ويكوي الروح بأثرٍ راجع. كأنه هناك كان غارقاً بالتفاصيل التي كانت مجهولة له.. أما الآن: يشعر أن الألم الحقيقي يأتي من استرجاع الشريط كاملاً: الشتم، الصفع، الضرب، الفلقة، الفروجة، الشّبِح، خيط النايلون، العزلة.. ثم مرارات السجن ومفاجآته..
- آخ يا سني!
نام نوماً متقطعاً. وكلّما غفا يعاوده ألم الأسنان يتناوب مع الكابوس نفسه..
يرى خيالات رفاقه مباحة للفلقة والفروجة والشبح فيفرّ مذعوراً ليجد نفسه في القبو يتحسّس الجدار حجراً حجرا بحثاً عن حجر قابل للزحزحة فيقشعر جلده يأساً..
يرى رفاقه يبتسمون له فرحين بكلبشاتهم. يهبّ لملاقاتهم رافعاً إبهامه، فيصطدم بباب السجن.. ثم القشعريرة ذاتها أمام الجدار المصمت.. فزّ من نومه ليهرب من الكوابيس، فشعر بحب السميد يطفر على جلده..
خلايا جلده صارت إبراً تأكل نهاره، وتؤرق ليله.. ولم يعد العصفور جوناثان قادراً على هدهدته حتى ينام!
فحصه طبيب السجن، ورطن للممرض:.. "سكيبس"
حاول إقناع الطبيب أنه لا يعاني من الجرب، بل هي الحساسيّة، فزجره الطبيب بعنجهيّة:
حضرتك طبيب!.. تعال اقعد محلي.
دهنوا جلده بمحلول الكبريت ذي الرائحة الصّفراء التي تجلب الغم حتى للطلقاء، وعُزل في غرفة منزوية من غرف الإدارة على الطابق الثاني..
شعر بالعزلة كما لم يكن يستشعرها في الزنزانة، وأزعجته حكّة جلده كما لم تؤلمه الدبابير "يوم الدبس".. وفجأة استحوذ ألم الأسنان على آلامه كلّها!..
في اليوم التالي كان غير قادرٍ على تمييز الرّحى التي تؤلمه.. كل أسنانه تلمع ألما كما لو أنها موصولة بتيار كهربائي!
توسط له الباشا ذاته ليسمحوا له بالذهاب إلى طبيب الأسنان!
اجتاز باب السجن.. لأول مرّة يتفحص البوابات والمساحات والأقفال باهتمام.. كأنما يبحث عن حجرٍ فالت في الجدار!
أخذ طبيب الأسنان احتياطاته من العدوى، وفتح فم مريضه على آخره، وضع ساحبة اللعاب تحت لسانه، وراح يكيل الانتقادات للاتحاد السوفييتي الذي لا يناصر العرب ضدّ إسرائيل كما ينبغي، ويكيل الشتائم للشيوعيّة حسب فهمه لها.. فيما عماد يفكّر في النورس جوناثان:
[إنه ليس شيوعياً، لكنّه منع من حق الكلام، وطرد من القطيع لأنه اكتشف أن الطيران هو الحريّة، وعليه أن يدفع ثمن هذه الخطيئة..!]
أنهى الطبيب عمله وموعظته معاً، وكتب له وصفة أسبرين.. حبتان عند اللزوم.. وأوصى بأن يفحصه طبيب الجلدية المختص..
أخذت ممرضة الجلدية خزعة من البثور وأرسلتها للمختبر..
ليلاً، في محجره الصحي فوق القَاووشْ الجانبي، زال أثر البنج.
آخ يا سني.
العزلة، وألم الأسنان فتحا على سؤال العمر.. يشعر أنه عاش عمراً طويلاً.. كأنه كبر في سنة، عشر سنين!
تنهد: (ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم). أنا سئمت تكاليف الحياة في الثانية والعشرين يا زهير ! يوم ولدت كان عمر جدي قد جاوز المئة! يا إلهي كم أمامي من الآلام!.. آخ يا سنّي!

* * *

يفكّر بالمظاهرات، ويقلق على مها، ويتألم من أجل الرفاق المعتقلين.. عندما يكون تفوّقُ الخصم طاغياً وحاسماً فليس أمام الضحية إلا القشّة تحميه من البلع!..
لما كان يناظر زملاءه في الجامعة، كان يمجّد الصامدين البواسل بحماسة رومانسية، ويصف المستنكرين والمستسلمين بالمتساقطين بلا هوادة.. الليلة يجد عذراً لهؤلاء، وهؤلاء! لا يساوي بينهم، لكنه لا يحتقر الضعف البشري..
(نحن نناضل مجتمعين موحّدين، ونواجه العسف والتعذيب فرادى، كل واحد حسب طاقته الروحية..)
أخيراً تنهّد قائلاً: كل شاة معلقة بعرقوبها.. تناول حبتي أسبرين، ونام..
يراها تطير معه بين غيمتين. تغتسل في زبدهما الحليبي.. تهبط مع غزلان الندى.. تتوسّد بتلات الأزهار.. وينهمر شعرها الناري على وجهه.. وفجأة يصطدم بباب السجن، ويجد نفسه أمام جدار مصمت..
أنقذه تقرير المختبر من العزلة، وأقر طبيب السجن بأن جلد عماد يعاني من الحساسية.. ولم يصرف له علاج الـ "فاليوم" لأنه محظور تداوله في السجن.
مساءً عاد إلى مخدّته في الغرفة البيضا، تناول كتاب "النورس جوناثان ليفغنستون"، من تحت مخدّته، فتحه ففاحت منه رائحة الياسمين، صار يقلّب أوراقه كيفما اتفق، فقد حفظه عن ظهر قلب..
[غادر القطيع ليعيش وحده في المرتفعات المشرفة علي البحر، واكتشف أن الضجر، والخوف، والغضب، التي تجعل حياة النورس قصيرة، يسببها القطيع بكبته للنورس، ومنعه من الطيران.. وها هو جوناثان يكبر دون أن يشيخ، وإنما تزداد طاقاته على التحليق بشكل مذهل. ويطير ويطير حتى ينجح في الوصول إلى السماء.. وذات مساء، يفاجأ جوناثان بوصول نورسين شفافين أجنحتهما من نور، وأخذاه إلي بلاد النوارس التي تجيد التحليق، لكنّه يكتشف أن خلف هذه السماء سماء أخرى، وخلف معرفته بالطيران معرفة لا تنتهي..]
يهتزّ ذلك الوتر تحت الترقوة معرباً عن الشوق لاكتشاف سماء أبعد من رقعة سماء السجن.. عن التوق للتحليق، للطيران إلى بلاد النوارس التي تجيد التحليق، ويصرخ: آخ يا سني!.. تناول حبتي أسبرين ونام..
مع طلوع الشمس تفاجأ بجلده ناعماً.. ربما للأسبرين معجزاته في هذه الدنيا العجيبة!.. الحساسيّة بدأت بالتلاشي مطفأة حب السميد!

* * *

(لما أخضرّ المرعى مرضت العنز!).
قاربت سنة 1977م على ختامها، وقارب يوم الثلاثاء على أن يفرط ولم تأتِ.. هل حصل لها مكروه؟..
حف وجهه مرتين، وأدمى حبّ الشباب على عارضيه، ولسع بشرته بالكالونيا، وغير قميصه مرتين بسبب نقط دم تائهة. وانشغل طويلاً بهندامه..
يُطرق أمام فنجان قهوته عند زاوية الطموني، شعر بشفتيها المكتنزتين تمرّان على دبابيس روحه بحنان رطب، وتنعشه بقشعريرة لذيذة..
يوقظه من سرحانه صوت حسن، فيضطرب كأنما لو كان يتجسس على أفكاره..
- وين سارح، صار لهم ثلاث مرّات ينادون عليك زيارة.
كمش شتات أفكاره كيفما اتفق، وقام راكضاً يكاد يتعثر بفرحه..
لم تكن هي، بل هو!
كان الرفيق الذي يدسّ ورقة في كمّه على شبك الزيارة.. قال:
- حملة اعتقالات جديدة!
- بسبب المظاهرة؟
- بسبب السادات.
- ..
- بدك شي؟.. ما رح نتصل فيك الفترة القادمة.. تعرف.. طوارئ.
- ومها..؟
- لقد منعوها من زيارتك..
- مَن؟.. أهلها!
لاذ الرفيق الزائر بصمت رملي المذاق.
- من؟ الجهات الأمنيّة؟!
تابع الرفيق الزائر صمته، ثم تنهد قائلاً: بل الحزب!..
كأن الرفيق الذي يزوره يستلّ فروع الياسمينة من عروقه!.. تمتم بما قاله أبوه عن الحكومة قبل عام: (خرى على هيك حزب).. وتظاهر رفيقه بأنه لم يسمع!
آه يا قط. بودي لو استعير صوتك واصرخ: أوف. أوف.. أوف حتى تنشق السماء.

القط !!

هل مرّ يوم؟
التعوّد يقتل الزمن!.. لما سأل الختيار ماذا يقصد بقوله: إياك وتعوّد السجن؟.. ضحك الختيار.. ثم تنهّد متحسّراً: الواحد منا لا يتعلّم إلا من وجعه.. والعصر، إنّ الإنسان لفي خسر..
يسير وحيداً في الساحة على غير هدى، ولا يتّقي زخات المطر.. تسلّل القط إلى مساره المحموم حول حوض الماء، ومشى إلى جانبه فلم يعترض.. بل بشّ له متوقعاً أن يقول أو يفعل شيئاً يبدد غمامة الحزن التي أرسلها له الحزب.. لكن القط ظلّ صامتاً.. لما أطلّت الشمس من خلف السور مقنعة بالغيوم، تناول القط مقعديّ بلاستك من طربيزات مقهى الطموني المغلقة بسبب المطر. وسحب عماد من كمّه إلى زاوية لا يطالها إلا رذاذ المطر، وجلس قبالته..
ابتسم عماد: خير يا طير..؟
- تحب تعرف مين القط يا رفيق؟
رفع عماد حاجبيه مستغرباً، فقد كان يفكّر في مها، وليس به رغبة أن يسمع شيئاً عن سواها.. كما أنه قرر بينه وبين نفسه أن يقبل القط كما هو، وألا يلحّ في سؤاله عن أصله وفصله.
أسند القط كوعيه إلى ركبتيه، ووضع قبضتيه تحت حنكه، وانطلق صوته بكلام فصيح يتلوه كتلميذ يردّد محفوظة، فيما شعره المصبوغ ينقط ماءه معتماً حبة إثر حبة مثل زيتون اليتامى..
[.. وُلِدْتُ كآلاَفِ مَنْ يُولدونَ بآلاَفِ أيامِ هَذَا الوُجودْ.
لأنَّ فَقيَراً بِذَاتِ مسَاءٍ سَعَى َنحْوَ حِضْنِ فَقَيِرة، وأَطْفأ فِيه مَرَارة أيّامِهِ القَاسِيَة.
كبرتُ كآلافِ مَنْ يَكْبُروُنْ، حِينَ يُقاتُون خُبْزَ الشُّموُسْ. ويُسْقَوْنَ مَاءَ المَطَرْ. وتلْقَاهُمُ صِبْيّة ياَفِعينَ حَزَانى على الطُّرقُاتِ الحَزِينَة. فَتَعْجَبُ كَيفْ نمَوْا واسْتطالُوا، وشَبَّتْ خُطَاهُمْ.. وهَذِي الحَيَاةُ ضَنِينَة!
قال مجيباً الأسئلة التي تومض في عيني الرفيق:
هل تدري يا رفيق، أني يوماً ما.. كنت أحبّ الكلمات..
هبطت خصلات شعره المبللة على وجهه، وتابع:
لمّا كنت صغيراً وبريئاً كانت لي أم طيبة ترعاني.
وترى نور الكون بعيني. وتراني أحلى أترابي. أذكى أخداني.
فلقد كنت أحبّ الكلمات.. وأغنيها.
أقضي صبحي في المدرسة. وظهري بين المكتبات العامّة وبسطات الكتب، ومساء أعود لأفاجئها بالألفاظ البرّاقة كالفخار المدهون.
أمي كانت تتلذذ بأقوالي. تتلقّاها أذناها شهداً. يبتسم خدّاها، عيناها، مفرقها المتغضن. ويغرّد فيها صوت لا أسمعه إلا في ذاك الحين:
- الله يصونك لي. ويمد حياتي حتى أراك أستاذاً، أو قاضياً، أو واليا، أو صاحب نعمة..
نفض شعره عن وجهه وقال بأسى: لكني صرت "حرامي"!
هبط حاجبا عماد تعاطفاً ولم يقل شيئا..
مسح القط دمعته بإبهامه وتابع مشيحاً عن عيني رفيقه المندهشتين:
- كانت أمي خادمة تجمع كسرات الخبز، وفضل الثوب من بعض بيوت المترفين.. وأنا لا همّة لي إلاّ في هذا اللغو المأفون!
مرضت أمي، قعدت، عجزت، ماتت..
هل ماتت جوعاً؟.. لا،
هذا تبسيط ساذج يلتذّ به الشعراء الحمقى والوعّاظ الأوغاد. حتى يخفوا بمبالغة ممقوتة وجه الصدق القاسي.
أمي ما ماتت جوعاً! أمي عاشت جوعانة، ولذا مرضت صبحا، عجزت ظهراً، ماتت قبل الليل..
ثم تنهد دامعاً: ما تركت لي إلاّ العرزال وشجرة توت..)
قاطعته صافرة يونس تدعوه لتسلم "كيس العدّة..
فاضت عيناهما بالدمع..
مسّد عماد شعر القط الذي صار بلون الألمنيوم المعتم، وقال بحنان: هاي من صلاح عبد الصبور !
قال وهو يغصّ بدمعته: مزبوط يا رفيق.. لكن عبد الصبور غلطان.. هاي قصتي مِشْ قصة الحلاج.. صدقني يا رفيق.. الجوع ممكن يصنع شحّاد أو حرامي.. الجوع ما يصنع ثائر.
ثم ضحك من بين دموعه.. وقال وهو يخلخل خصلات شعره الرمادي إلى الخلف: أنا اخترت الثانية.. السرقة أشرف من الشّحدة.. ههههههه.
اجتهاد!
شدّ على يدي القط بود خالص..
قال القط: قريباُ تفرج.. لا يهمك.
لكن مشاكل السجن لا تنضب!

سرّ السرداب

- كنت بالسوق، ومرّيت أشوفك.
كان أبوه يزوره أحيانا في غير أيام الزيارة..
فهو يتمتع بوجاهة فطرية، توسع دربه أينما ذهب، وهذه الميزة سرعان ما جعلته قائداً للجان الدفاع عن المساجين، وموجهاً ومتحدثاً باسم أهالي المعتقلين السياسين.. مما أثار حنق المسؤولين، دون أن يصل الأمر لاتخاذ إجراء مباشرٍ بحقه..
ركب عطا الله بك رأسه هذا النهار، ومنع الحجي من الدخول، متمثلا انزعاج الحكومة من مبادرة الحجي الذي اقتحم جلسة افتتاح "المجلس الوطني الاستشاري" ، وطرح قضية المعتقلين السياسيين في الأردن، ووزّع مذكرة بالأسماء والأحكام ومدد التوقيف على وسائل الإعلام..
طلب أبوه من أحد الشرطة، وهم يعرفونه ويحترمونه، أن يوصل كيس برتقال لابنه، خرج عطا الله بك عند الباب. متقمصاً دور الحكومة، وقال بعنجهية: قلنا ممنوع يا حجي. روح من هون.
عزّ على والد عماد أن يُزجر بهذه الطريقة، رمى كيس البرتقال في وجه عطا الله بك:
الله لا يكثر خيرك.
وصل الخبر إلى عماد بسرعة البرق، مدعماً بالتحريض:
كحش الحجي عن الباب.
كب الهديّة ع الدرج.
الحجي حلف ما يزور السجن وعطا الله فيه.
لا تفوتها لعطا الله النذل.
ماذا يفعل الرفيق؟!!
خرج إلى الباب الداخلي، وإذا عطا الله بك يقف بين البابين يرغي ويزبد..
هاي فوضى، كل واحد يجر عباته ويجي..
قاطعه الرفيق صائحاً من خلف الباب الداخلي..
عطا الله. انت قد الحجي تيجي فيه، إذا انت زلمة ادخل هون..
تفاجأ عطا الله، وارتبك.. تدافع المساجين يسحبون الرفيق عن الباب الداخلي.
تناقل المساجين الحكاية، وبهّروا موقف عماد، وقلّلوا من هيبة المدير.. وتحدث الشرطة عن البرتقال الذي تبعثر على باب السجن، وتدحرجت حباته على المنحدر، وزيادة في التشويق تداول المساجين حكاية أن إحدى الحبات راوغت المارّة، ونجت من عجلات السيارات، وقطعت شارع الهاشمي بأمان، وظلت تركض إلى أن توقفت في حسبة الخضار عند الخضرجي الذي باعها!
مضى اليوم ولم يدخل عطا الله بك ساحة السجن!..
المدير لا يدخل السجن يومياً، وقد تمضي أسابيع، لا يراه أحد من المساجين.. ولكن ما إن أوى المساجين إلى مهاجعهم، حتى بدأ الهمس:
(المدير خاف من الرفيق وما دخل السجن اليوم..)، مضى اليوم الثاني وارتفع اللغط: (عطا الله جبان)، وصل اللّغط لمسمع الاثنين المدير والرفيق، فشعر كلاهما بالحرج، إذا دخل المدير فهي استجابة متأخرة وساذجة لتحدّي سجين لا حول له ولا قوة، والرفيق محرج لأنه إذا دخل المدير ساحة السجن فماذا بإمكانه أن يفعل..
أخيراً، ضعف المدير، ودخل ضحى اليوم الخامس بصحبة لجنة صحيّة تزور السجن دورياً..
كان الرفيق يذرع الساحة بخطى سريعة كما يفعل كل المساجين في كل الدنيا.. تواثب "الزقرط" حوله:
- هيّو دخل..
- روح له ابن..
- اكحشه زي ما كحش الحجي.
جلس الرفيق عند الطموني وطلب كاسة شاي، علّها تخلّصه من الإحراج. دخل المدير لتفقد المطبخ مع اللجنة، فتنفس عماد الصعداء.. بعد قليل توجهت اللجنة إلى قهوة الطموني، والمدير في إثرهم، توتّر الرفيق، لمع العرق تحت الترقوة. استيقظ الذئب. وقف هاتفاً:
إلك عين تجي هون يا عطا الله الطز!
تراجعت اللجنة.. ارتبك المدير، واصفرّ وجهه!.. التفّ بعض المساجين حول الرفيق، وناوله أحدهم عصاً قصيرة لا يدري من أين جاءت. شعر بإناء الخوف يتهشم داخله ساكباً عصير الجرأة في عروقه. هجم. ولّى المدير هارباً باتجاه الباب!.. لم يدر الرفيق بالضبط كيف حدث ذلك، لكنه رأى العصا تنقذف في إثر المدير وتسمطه في أسفل ظهره.. تعثّر عطا الله وكاد يسقط لولا أن الشرطة أسندوه، وخرج. قُرع جرس السجن. أُعلن النفير.
رفعه الكرزم على كتفيه، وتجمّع المساجين حوله يغنون:
عريسنا شيخ الشباب شيخ الشباب عريسنا
ودرّج يا غزالي يا رزق الحلال
وتلولحي يا دالية يم غصون العالية
تلولحي عرضين و طول تلولاحي مقدر اطول..
دي دي دي
حرس الأبراج تركوا رشاشاتهم، واصطفوا على السور يلوحون للرفيق باسمين..
لحظتها رأى السجن كله غابة ياسمين.. وشعر الآن أكثر من أي وقت مضى. أنه يستطيع الطيران!
اقتاده "المآمير" إلى القبو كمن يزفّون عريساً.. تكشّف للجميع أن عطا الله بك مكروه من الشرطة، أكثر مما هو مكروه من المساجين!
في القبو وجد فرصته ليتفحص السرداب.. انحنى، وحبا، ثم زحف كما وصف له القط، وفجأة أعتم السرداب وضاق ثم استدقّ حتى لم يعد يتسع إلا لذراعه.. مدّها إلى آخرها فلم تصطدم بمغلق.. قرّر أن يوسع الكوّة، وبدأ يزيح الأتربة بحماسة.. امتلأ صدره بالغبار.. وصار تنفسه ثقيلاً.. تمدّد ساكناً، وغمرته سعادة نديّة لأنه هنا وحيد في عتمة السرداب. بعيد عن السجن وضجيجه، وعن المدينة وضوضائها، وعن الحكومة وأساليبها.. يحظى بحبّ الجميع، ولا يكرهه أحد..
غفا ورأى مها تهزّ له زهرة الياسمين بين السبابة والإبهام، وسمع أمه تزغرد، ويتطاير من مفرقها رغوة بيضاء، فيعج الفضاء بزهر الياسمين.. هل سمع عواء ذئب بعيد؟!
أحسّ بالتراب الذي نبشه يتسرب من تحت قبضته.. انتفض، تنفس هواء عطناً قادماً من باطن التل.. تتبع حركة التراب فوجده يتسرب في فتحة صغيرة إلى الأسفل، انكشف التراب عن روزنا بوسع طبق، صار يلمّ التراب من حوله ويهيله فيها وهي تبتلع.. ودّ لو يحصل على قنديل ليرى ما في هذه الهوة التي انفتحت فجأة في أقصى السرداب!..
هل تفضي هذه الهوة إلى الحرية، أم إلى ظلمات هذا التل المكتظ بأسراره؟..
إذا كان جوناثان اكتشف سماء خلف هذه السماء، فربما يكتشف هو أرضاً تحت هذه الأرض.. سأفوز بإحدى الحسنيين، أكشف سراً، أو أجد مخرجا..
هل ستخرج من وكرك قاصداً المدينة هكذا؟ أنت أيها الهارب.. من تظن نفسك؟ أتظن أنك قادر على الفرار، ثم الفرار، هكذا إلى الأبد! أيها الأحمق، سيدورون خلفك من مقهى لمقهى، ومن شارع إلى شارع..
توقف انثيال التراب إلى الهوة. نظر فيها فلم ير إلا العتمة، ولمعت في العتمة صورة الفتى الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجورا..
(عظمة ذاك الفتى أنه غاب وهو في كامل زهوه، وتمام ألقه!.. في أوج زهوي؛ لا أبالي إن غيبني السرداب إلى الأبد.)
أفاق على نفسه في المستشفى، وحوله شرطة وأطباء.. وأهله، وعمّه الباشا أيضا.. عبثاً بحثت عيناه عن مها بين المحتشدين حوله!

* * *

نُقل عطا الله بك إلى شرطة الحدود، وعاد أبوه يزوره كلّما سنحت له الفرصة.. دُكّ القبو بالإسمنت؛ وانطوى التلّ على أسراره. وصار القبو حكاية من الماضي يرويها السجناء للأغرار..
صار المدير الجديد للسجن يداريه، ونزلاء الدار البيضا يسعون إلى رضاه، والمساجين يتسابقون لخدمته.. لكن مها غابت!
جاءته اللّكمة هذه المرة من حيث لا يحتسب!.. في الدار البيضا يتحدثون عن زميلهم السابق البشمهندس.. (نيّاله، بده يهاجر هو وعياله على أمريكا..!)
أكّد له أخوه الخبرية، فالمهندسون يتابعون أخبار بعضهم بعضا:
- بعد قضية الاختلاس صارت الهجرة من مصلحته ومصلحة رؤسائه..
- ومها..؟!
رفع أخوه كتفيه كمن يقرّ بديهية: طبعاً سيأخذ أسرته معه.
وفجأة ظهرت مها على شبك الزيارة..
جاءت بكامل ألقها، وشجاعة اندفاعاتها..
جاءت مثل ماء راحوب الذي يروي ويروي..
مثل ظلال شجرة تين مكتظة بالرغبة..
كالشلال الذي يشبه الشوق..
أدخلت ذراعها عبر مربع القضبان. طوّقت عنقه. وقفت على رؤوس أصابعها. قبّلته بحرارة وشوق وكبرياء.. أمسكت كفيه بكلتا يديها عبر القضبان غير عابئة بمن حولهما..
راجعة حبيبي.. سأزرع لك شتلة ياسمين أينما ذهبت.. سأترجم النورس جوناثان.. أكمل تعليمي وأعود.. سأكتب لك من هناك.. اكتب لي دائماً..
غصّ قلبه باللوعة!.. تصرّفت وكأنها انتمت لذلك المجتمع الجديد قبل أن تنخرط فيه!.. هل ستظل وفيّة له. هل سيظل وفياً لها؟!!
عاد من شبك الزيارة.. [يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا].

*

طلب أن ينقل إلى سجن المحطة..
ضحك القط: لكن السجن سجن، ولو كان على شاطئ الريفيرا..

لا مناص..

مضى عام ونيف على اعتقال عماد..
حطّت الشتوية أحمالها، فصار البرد يسفع الجدران، ويلسع العظام، ووافقت مديرية مراكز الإصلاح والتأهيل على نقل عماد إلى "سجن المحطة" في عمّان، بوصفه حالة ميئوس منها.. وناءت الغيمات بأثقالها، فانهمر المطر!
حبس المطر والبَرَد المساجين في المهاجع، ولم يخرجوا لطابو ر الخمسات في الساحة، وجرى العدّ النهاري كما الليلي داخل المهاجع. فيما عماد يحزم أمتعته استعداداً للرحيل إلى عمّان صبيحة اليوم التالي.
رغم الجو العاصف تجمع أصدقاؤه يقيمون له "حفل وداع" عند قهوة الطموني..
للمطر في السجن إيقاع شجي يثير الذكريات.. لا صوت أجمل من صوت المطر سواء أكان هاطلاً على شق بدوي، أم منسكباً من مزراب بيت طيني، أم ينقر على زجاج نافذة غرفة الصّف! أم يخشخش عبر زهرات الياسمين على باب الدار.
شقعة المزراب لها شجونها وذكرياتها..
(هل يوجد مزاريب عالية في سجن المحطة؟!)
يملأ القط إبريق الشاي من المزراب. يوقد الختيار ناراً في زاوية الطموني المعطّلة بسبب المطر. يتجمّع هناك بضعة مساجين يتوحوحون من البرد، ويصطلون النار..
يأتي أبو زهرة بقرطاسٍ فيها سكر وشاي ويفرغها في الإبريق..
يسند القط ظهره للحائط ويغنّي من قلبه. من فرحه. من أساه. من أسى رفاقه ولوعتهم..
حن الحديد على حالو وانت ما حنيت
لو كنتَ تدري بحالو من زمان حنيت..
غنّى غناء حُرٍّ مكلوم على إيقاع صوت شآبيب البَرَد، ونقر حباته في ساحة السجن الإسمنتيّة، فيرتدّ الرذاذ سلاماً على الزاوية التي يلوذون بها قرب الباب..!
حتى حديد الأشباك يكاد يتمايل معهم حزناً وطرباً بين لحظة وأخرى!
يشربون الشاي والدموع تسحّ مع الرذاذ المتطاير على وجوههم..
يصمت الجميع حابسين نشيجهم احتراماً لأذان العصر..
يشدّ الختيار حطّته حول عقاله، ويصلّي العصر تحت الرذاذ المرتد عن جدران السجن!..
يغذّي أبو زهرة النار بما تيسّر من سقط المتاع،
الكرزم يسأل القط: (انت متأكد انه عساف طلع من سجن الزرقا؟).
يهز القط راسه مؤكداً..
يسلم الختيار يمنة ويسرة منهياً صلاته، ويقول بلهجة تقريرية صارمة:
(كلّه تمام..)!!!!!!
يضحك عماد غامزاً (ايش كلّه تمام؟ على ايش تتهامسوا؟)..
يعصر القط آخر نقطة شاي في الإبريق، وينتقل إلى لحن آخر برشاقة..
أوف أوف.. أوف.. أوف
أوف يابا..
خدعنا القاضي خدعنا.. وع تلة أوراقه قعدنا
أوف.. أوف..
قدرنا ع السجن.. وع همّه صبرنا
لكن مين ع رد القضا يقدر يعاونا
أوف.. أوف
تسحّ دموع الختيار مع رذاذ الماء فتصنع أنهاراً صغيرة تسيل مع أخاديد وجهه المتغضّن.. يأخذ الكرزم الإبريق الفارغ.. يملؤه بماء المطر مجدداً، وهو يتمايل مع اللحن، ويهتف بصوته المبحوح:
- أوف يابه.
مال القط نحو عماد، وقال: سامحني يا رفيق!
ضحك: على إيش؟
- الورقة..
- أي ورقة؟
- ما قدّرت الوضع..
- عن ايش تحكي يا زلمة.
- لما وشيتك للشرطة.
ضحك.. نظر في عيني القط الغائمتين: انت نورس مِشْ قط!
- مِشْ وقت المزح يا رفيق.
رغب أن يقصّ على القط حكاية النورس جوناثان ليفغنستون، وضع يده على كتف القط، ونظر في العيون المُندّاة بالمطر والدموع حوله، فأصغوا..
كان ياما كان. كان فيه نورس، اسمه جوناثان..
قرّب القط فمه من أذن عماد، وقال: سيبك من الشعر والحكايات والأحلام يا رفيق.. فيه طرق ثلاثة لتخرج: إذا استنكرت. أو إذا مت. أو إذا كسرت الباب..
نفاجأ بالجدية التي كست ملامح القط.. لكنّه صمت.
عاد الكرزم يحمل الإبريق مليئاً بماء المطر، وعلّق ضاحكاً:
- شو؟ الرفيق ما بدّه يحكي لنا قصة؟
بلا مبرر واضح، نهره الختيار: سد بوزك وله. واحد هامل.
ضرب الكرزم إبريق الشاي في الحائط صارخاً: أنا هامل يا كرخنجي!
دفر الختيار السطل الذي يوقدون فيه النار، ورفع عقاله، وراح يضرب به من حوله يمينا وشمالا..
ارتفع الضجيج، والسباب، والتكسير. واتسعت دائرة النار!
وصاح أبو زهرة:
حريق.. حرييييييييييييييييق..
حريقه.. حريقه!!!!
فار المساجين من مهاجعهم مذعورين..
شدّ القط رفيقه من كمّه، وقال: أسرع يا رفيق. تعال.
ظنّ عماد أنه يبعده عن المشاكل، لكنّه كان يأخذه إلى باب الساحة الذي انفتح، واندفع عبره المآمير الخمسة مذعورين بسبب الشجار، حيث تقتضي وظيفتهم أن يكونوا دائماً داخل السجن..
عبر القط وعماد الباب الداخلي باتجاه المنطقة المحرمة.. رمت السماء وابلاً من حبات البَرَد مثل خرز المسابح..
في تلك اللحظة، هبط الشاويش يونس الدرج الداخلي بين البابين حاملاً عصاه، وعبر من أمامهما دون أن يعيرهما اهتماماً، ودخل السجن..
قال القط بجديّة: عفاهم الزلم. زبطت الخطة.. عبرا الشبك الخارجي باتجاه الباب الرئيسي.. قفز لينوش الجسر الذي فوق الباب، فلم يصله..
الآن فهم عماد كلّ شيء!.. تمّ الشجار من أجل تسهيل فرارهما!
تردد، وهمس: لا تغامر يا سعيد! ما ظل عليك غير شهر حبس.
- صار لي سنتين أجهّز حالي لها الفرصة.. لو إفراجي بكره الصّبح ما أرجع.. مد يدك فوق يا رفيق.
لمع ذلك العرق تحت الترقوة، موقظاً "الذئب" في داخله!.. مدّ يده وعادت خائبة، علا الضجيج في باحة السجن.. استعجله القط:
بسرعة. ما معنا وقت.
مدّ يده ثانية فوق جسر الباب، وأرجعها تحمل قطعة حديد طويلة، أدخلها في عروة قفل الباب الخارجي، وعتلها!
لمع البرق كأنما يشق صدعاً في جدار الأفق. من الصدع يرى أمّه تلمّ شعرها في ضفيرتين خصبتين، وتفتح ذراعيها مرحبة..
رفع قدمه. نظر إلى القط، وبدأ العدّ: واحد. اثنين. ثلاث..
ضربا معاً قضيب الحديد بكلّ عزمهما وتوقهما للنجاة، فانكسر القفل مقرقعاً مع هزيم الرعد..
انفتح الباب..
(ياه ما أوسع السماء!!!)
عبرا إلى الخارج. كانت السماء ترمي نتفاً من الثلج تتطاير مثل الريش..
انتبه لهما الخفير الملتصق بكوخه الخشبي.
أطلق صفارته، وتهيأ صارخاً: مكانك. قف!
تجمّد القط مكانه باستجابة مذعورة فاجأت الرفيق..
بحزمٍ وعزمٍ، رمى عماد الشرطي بقضيب الحديد الذي ما زال في قبضته، فأربكه.. وهتف: سعيد!.. طر . اعبر الشارع.
نطّ القط يهبط درجات المدخل القليلة مثل قط مذعور..
سمع عماد صريراً حاداً، وفجأة رآه يطير!..
وسمع نفسه يصرخ: جوناثااااااااااااااان..
كانت سيارة عسّاف: الفكس، البيضاء، الصغيرة.. تترنح عند آخر المنحدر، وترتطم بسور دار الحنّاوي!!
أعلن جرس السجن النّفير.
انطلقت زغرودة في سجن النساء.
هرع الشرطة من كلّ صوب..
ردّدت جنبات التل صدى الأصوات:
القط شرد..! الرفيق معه... عماد فل!..
على ثلج الشارع كانت بقعة الدحنون تتسع بسرعة؛ وتلّون ذوب الثلج المنساب إلى شوارع المدينة.
تجمّع ثلّة من الناس شرق كنيسة الروم يتّقون هطول الثلج..
لعلعة صلية رشاش خلفه: (هيا.. طر.. حلّق يا رفيق..)
شعر بالريش الأبيض يغطّي رأسه. كتفيه.. ويمتد على جذعه..
فرد ذراعيه إلى آخر مدى. أشرع جسده لياسمين السماء، ملأ رئتيه بالهواء المبلول. وقف على رؤوس أصابعه. تجلّى له وجه مها بكامل نمشه.
رفرف. طار..
طار عالياً حيث تظهر له بساطة الأشياء وعمقها..
وارتفع أذان المغرب.