الأرض
تلك الساهرة على عتبات آلهةٍ سودٍ
يؤرجحون الأجرام كي ينسوا عزلتهم.
الأرض الملأى بالحليب والهتافات
المجوّفة لكائنات لم تتشكل بعد. ذات
الأثداء العذرية والأفواه التي لا تُعد.
الخائفة من فناء عناصرها قبل أن
تولد. المختومة بالوحشة. الحاملة
أسرار النبوّة والصلوات المنحوتة في
معابد لم يشيّدها أحد. الواهبة
حلباتها للتناحرات الشهيّة. الباكية
في مهبّ النجوم حين تتساقط
أشجار البلّوط قرب البحيرات الغريقة
والشياطين، من شدة الكآبة
والوحدة، ينتحبون ببراءة،
ترتجل الهدوء الأول وتزرع في مقلتيها الحلم الشاسع: حلم أن تزدهر يوماً بالأساطير والحضارات، أن تكون واحة البهاء والمسرح القزحي في كونٍ مزدحم بالكواكب المقفرة.
آنذاك لم يكن ثمة إغواء أو هداية، لا معرفة ولا خطيئة. القوارض كانت تستحم بحريّة في جسد الغابة الحيّة. أمواج المحيط كانت تبلّل رؤوس اللقالق وهي تحلّق في فضاء مزيّن بكوابيس لا تُرى. والإنسان، ذلك الكائن المغسول بالرعب، من كهوفه الشاحبة، يطل على هذيان الانشقاقات القادمة ثم يرفع رأسه ضارعاً.
ها هي الأرض تسامر الضجر الكوني فيما يلهب الليل، بلا ملل، أجراس اللذّة، غير أن. لا أحد. لا شيء.
وأنت، أنت أيها الليل الإباحي، الكريم
كالموت، الطاعن في العمى، الممعن
في غزو الأماكن الخالية، أما ساورك
الشكّ بعدُ في العبث الكوني وأنت
في مجلسك تتخيل رفيقات
سماويات يستحممن فيك فتمجّد
الانتشاء المحرّم بينما الرفيقات محض
ظلال مجنّحة لقمر يموّج المحن ذاتها.
تمعّن أيها الصديق المجنون: هدأة
الأمكنة. غياب الفرح البشري. نداءات
خفيّة لمخلوقات لم تتناسل بعد.
هاهي الأرض، في غيبوبة الصحو، تلامس بأطرافها مرح الأعشاب. وإذ تسري الارتعاشة، الأكثر شبقاً، في هضاب روحها، يدغدغها التهيّج وتجتاحها الحمّى النهمة التي تقرض تخومها البيضاء باشتهاء.
يا أعشاباً تتمرأى مأخوذةً في
خصوبة الماء، يا عشيقة الماء
المدلّلة، أمِنْ أجل المتعة وحدها
تفعلين ذلك؟ تذرفين الندى
العذب حين يداعبك النسيم
الشهواني وتدهنين السيقان
بعطر الينابيع لحظة هبوب اللذّة.
لا عرّاف هنا يدثّر طمأنينتك
بالنبوءات المبهجة. تقرأك
الحيوانات المنقرضة في أفول
المواسم. أي رثاء أدبّج لشهوة
الرياح! أجل، فأنت قناع الفراغ
وبك تسطع المجابهة.
أمنحكم، يا فرسان البداءة، وساطة النار لتعبروا أفواجاً تخومي المتداعية وتتدفقوا في الأرجاء مثل جيش باسل موعود بالنعمة. لكم الأسلحة والثيران المتوحشة، لكم الفتح والسفك، لكم كنوز القارات وأخشابها الطريّة، لكم كل ما تشتهون.. لكن
أحضروا لي الذاكرة البكر
والإرث المذهّب
هل تعلم الأرض، تلك التي كانت بلا ذاكرة فأضحت مكتنزة بالصّور والمشاهد، أنها حبلى بالضغائن والآثام؟
جلبوا لها ما شاءت من أساطير واختراعات، جسور وأبراج، حيوانات مروّضة وأعياد، أسواق ومنتزهات، أزمنة وحضارات..
غير أن مخلوقات البداءة ما تزال تعيث في الأرجاء فائضة بالحقد والتعصّب, منذرة بفتكٍ أشد ضراوة.
دم القاتل يمتزج بخمر القتيل
خرائب تتوزّع في قلب الغابة
حرائق تغتصب طفولة الأشياء
أيتها المسرفة في الرذيلة,
أما آن لك أن تملي علينا وصيتك الكاذبة؟
فجراً, يهيئ لك الإله نعشاً وثيراً.
لا. دعوها غارقة في الندم. تتورّم بحشود فاتنة مطعّمة بالنهب. أين كنوزها الخرساء؟ تاريخ مضلّل. ذاكرة متقرّحة. ماذا بقي لها تلك الساذجة, المشبّعة بالذنوب؟ جيوش تتقاسم الغنائم. طفل ميت. في قلب الرجل, المشطور نصفين, نواة الشر. حدث ذلك في الظهيرة. كانت القارّة كتلة واحدة مكتظة بالأنواع. ما كان فتحاً أو اكتشافاً بل مذبحة. النبات المتطاير كان يشفّ عن طغاة بلا عدٍ, في راحاتهم تتساقط المدن كالقتلى. حين جاءوا تناثرت أوصال القارّة.
لا. دعوها تتوقّع اندثارها الحلو كل ساعة.
في ما بعد,
في ما بعد,
آه، يا للفعل الخارق! يا للجرأة!
كأن الأرض تكتشف عريها للمرة الأولى, كأنها تتغرغر بخلقٍ يولد.
تجفل في بادئ الأمر, ثم ترقب في دهشة ملكية. تلك المسيرة العظيمة لسلالة هربت من أمامها المدن في لمحةٍ:
شعب الجهات. توأم الحجر.
من أين جاءوا؟ أمِن الباطن, من المناخات السحيقة أم كانوا هنا وهناك منذ الأزل؟ (لكن, يقيناً, ما كان لهذا النص أن يوجد من غير سلالة تأتي هكذا, كالفجاءة أو كالصدفة, لتمتحن شكيمة الخرائط وتستجوب الضمائر. وإذ نتأمل المسيرة المهيبة, المفعمة بالوجع, الباطشة بالرمل, نشحذ مخيلتنا لنرقب عن كثب هبوب المأساة).
ما كان ينبغي, بعد أن تبدّدت دهشتكِ الملكية, أن تديري ظهرك هكذا بلا مبالاة. يأسك الدمث ليس عذراً. الأحرى أن تفتحي ذراعيك مرحّبة. أن تسفحي سهوبك مأوى لشعبٍ علّمته الهجرة كيف يخاطب مكامن الفخاخ. أنظري التعب الذي يلطّخ أصداغهم والنبال المتاخمة. يراوغون الطرقات المتخمة بالدسائس في مهارة فائقة, ويبذرون قتيلاً عند كل منحدر مثل قرابين مقدّسة. شعب يتفاوض مع الفضاء
بلغة دافئة كالخبز,
ببكاء نبيل كالبحر,
بحقد دفين لا حدّ له.
إذن, لم يبق إلّا أن ندهن الزناد بالعنف ونطلق, برباطة جأش, سيلاً من الرصاص على رأسك المشحون بالذئاب الثملة. بعدئذ نلقّن ذئابك, التي لا تهجع, غريزة الفريسة وفتوة الذبح. نغويها بالخطيئة تلو الخطيئة حتى تنفجر من الإثم. ليس فينا نكهة المغفرة.
ها هم, في مدارات السمّ, على مرأى من المسوخ الأنيقة, يتقدّمون خفافاً, كما لو كانوا منذورين لحلمٍ بهيّ, تضيئهم الإشارات الغامضة.
فوق الأغصان, أغصان الشجيرة المتعرّجة, تتدلى حدقات معدنية لا تومض.
إلا أنهم يمضون سائرين في إثر ألق المسافات: مزامير النهر.
انبجاس معجز ذلك الذي شهدته العقبان ذات المناقير الذهبية. وإذ يرفعون رؤوسهم المكسوّة بالغبار بحثاً عن ملجأ، تجهر السهام بالهجوم.
ها هم، موشومين بذخيرةٍ أرّختْ لها الكتب, يتأبطون بهجة الأنثى المرصودة لخميرة الوقت. من جهة واحدة يأتون, مثل رعد الأعالي أو مثل بركان الأعماق, لكنهم سيذهبون إلى الجهات كلها.
كلما وضعوا الألم على حجر, شبّ وبالغ في مضاهاة الجسد المجنّح, فلا تسعه التقاويم وتميل لوطأة معدنه الذاكرة. سلالة لا متناهية في التنّوع, طاغية الحضور, مضيئة بالزبَد والصلصال. أكثر هيبة من النار.
ها هم, لوقع أبصارهم هيبة الغابة وغرور الدخان. ما من موجة إلا وهيأوا لراحتها رمل الأقاصي وغرف الرحيل. ما من سفر إلا وانتظر إيابهم الهادئ. يهيمون مثل ماءٍ مأخوذ بالجنون. كلما انتبذوا سهرة وانتخبوا الأقداح, فزعت الأقاليم تحت غفلة أنثاهم الفاتنة. ينكسون أدواتهم المتعبة عند سفح الغيم, يؤثثون الظل بأسمال ورثوها من سماء قديمة, وينشدون في رفقة مزاميرهم المائية.
عندما يلتفتون إلى الجهة التي خلعتهم, يرفعون شظايا الأقفال عن مائدة الطريق. ثمة حديد يحرس المداخل. ثم نسل من قلامات البراكين, قيل أنه بوصلة تضلّل النساك وسدنة الهيكل.
يتكلمون
فتنهض معهم اللغة, وتخجل الكلمات العذراء
مرة قيل أنهم سعاة الرياح الزرقاء.. تلك الرياح المقدسة. وقيل أنهم أجمل من تبادل الفقد مع الخريطة.
عندما يستريح حوذي النيازك, ويسند مهاميزه إلى حافة المشهد, تتعثّر به سلالة المباغتة, فيما تناوش مجاهل المجرّة سائلة عن جهة ضائعة وعن خطيئة تنتظر المغفرة. منذ الآن لن يهدأ الحوذي المفرط في الزهد, المفرط في الجهل. سوف يطلق سراح الرعونة من غمد اليأس, سوف تئج مهاميزه مثل عجلة العاصفة, سوف تغمس نيازكه الشاحبة حوافرها في رغوة البداءة. يقظة الجحيم.
منذ الآن لن ينسى أحد رنين الأهداب الملحدة, صديقة الفتنة, وهي تسأل الأمكنة عن المحنة المبجلة.
أنثاهم الفاتنة, التي شغفت بها شريعة الغزو, وشاغلتها غريزة الخطف.
أنثاهم الناطقة بالوعد, رفيقة الخطوة والجلجلة, تعرّي في مجون الكارثة نهديها العاجيتين وتطلق من مدخل المأساة عويل الابتهالات. من النهدين تنحدر: غيبوبة المساء، نشوة الضحايا، آلهات الحداد, بقايا الدسيسة, شعائر النهب, رماد الحديد، سلال الأرامل, وأفراس تحسن المكابرة وتعرف كيف تتملق الموت.
مَن أنتم حتى تندفعوا بمثل هذه الضراوة في عين الأنثى بلا رويّة؟
أعضاؤكم مسنونة على شفق الحجر
تقايضون الضفاف البخيلة من أجل أن تدلكم إلى شفرة الرصاص
مَن أنتم؟
سوف يتاح لنا نخبٌ وترنّح ماجن في مأدبة الطبيعة، وسوف يسألنا معدن الناس
من أنتم؟
وسوف نسمع من يصقل النواقيس معلناً:
ها هم …..
نتفقد منظر تكويننا, نرى عناصرنا الأولى قبل الخلق. نتقمص الولادات ونعد السفينة بالريح
نقول :
هنيئاً لنا هذه الأقدام التي ترسم
النبات على الرخام
هنيئاً لزوج من الجنادب يبدآن
سهرتهما الخرافية في ظلام
الخميلة
هنيئاً لخراب سيفتك بهيكل الكتابة
فاتحا الأفق على نص يتمرغ في
حرياته.
بكاء طفل: شكوى كونية.
هكذا هي البدايات, ندخل الآن في المأساة أو ربما في الملهاة. منْ يجزم أننا نعرف ما سيكون. لسنا أكثر معرفة أو أكثر حكمة. نجمّل الحكاية ونعلن موتها في آن. نشكّل النص ونقوّضه في آن. كل حدث تختزنه ذاكرة مشوّشة, مضلّلة, مسرفة في التباهي. كائنات شتى تنداح في الذاكرة. استيطان موجع. لدينا أسئلة تعشي البصر.
لدينا أنواع من الحيل: بناء مفكك، حبكة غير محكمة, مقاطع سردية غير نافعة, لغة مفتوحة, خيوط ملوّنة تغوي وتخذل.
نرمي الشِعر كالقرص, وأحياناً كالنرد, لتقتات به مسوخنا الجميلة وأشباحنا المرحة.
يا للفرح!
صديقان حميمان يمزجان الضوء والعتمة. أرواح شفافة تهبط من الأعالي, فنلهو معها.
نضع مرآة كبيرة عند كل منعطف لنصطاد بها الدم العاهل.
من يقدر أن يروّض هذا الشيء الخرافي, هذه الأبهة الملكية؟ خذنا, خذنا أيها الدم الفاخر, قبل أن تذوب فينا الدهشة وينحسر عنا الهذيان.
كم من وقتٍ نحتاج لنتكلم عنك أيها الباذخ؟
تلك مخلوقاتنا تتكاسر مثل كواكب في ضلالة الفضاء. لسنا نملك قناديل للهداية. لا نعظ ولا نهدي. لا نعد بشيء. نغوي بتيه لا يضاهى. يحدث أن نشهر الفضيحة كالمخلب ونبجّل الخراب.
رغبات تحتمل وطأة التآمر, والعشق فوهة الجسد.
جوال غامض هو البحر
مياه مذعورة هي الحرب
نسمع سعال الجبل أوان شحوب الغابة: تلك الطفلة العذبة التي تلملم ألعابها لحظة نشوب الحرائق.
فلتجنح مخلوقاتنا إلى العنف إن شاءت. آنئذٍ يختلج المعنى إزاء لغة تبطش بالتوقعات.
نعرف أن المساء سرادق الحب وشهوة الممسوسين بالحب. نعرف ذلك, نعرف أيضا أن الكتابة امتحان للبسالة.
نرى التياتل شاخصة تستنطق الحصون بقرونها الفضيّة.
هكذا, نفضح اليقين بالشك, ونرتاب في الشك ذاته.
عندما تخوض شراك هذا النص, لا تتوقف كثيرا عند المعاني (التي قد نبعثرها هنا وهناك، أو ربما تجدها بالصدفة). ليس لدينا المعنى. المعنى فيك, في داخلك. محض استدراج. فليكن طموحاً مشتركاً. نغرّر بك لتثق بأن ذخيرتك الكامنة، المكبوتة, أكثر غنى وجمالا. احذر التأويل الوثير وتعال إلينا لنقتحم مخيلتك ولتكتب معنا هذا النص.
أي تيه فاتن
سيقود خطانا
إلى لذة الغيبوبة!
نزال يومي غير متكافئ، مرّ كالكذب، له رائحة صنوبر محروق، ذلك الذي تشهده فصائل من البرمائيات الباكية .
بين أرض ترفع ملوكها المرابين – المملوءة أفواههم بالزبيب ولحم الموتى – فوق قمم خشبية محفوفة بالمشاعل، يطلّون منها على جيش مأجور يخضّب الأصابع بصمغ الاغتيال وينصب المجانق عند تخوم سامّة تتظاهر بالخصوبة وتكوّر أديمها كما الحبَل الكاذب،
وبين مسيرة وديعة تخرج من غشاء النهار بلا عطر، بلا نجوم، تتحسّس كالضرير منابت الضغينة.
يحدث أن يخرّ القتلى في الميدان العام, على أرصفة مبلّطة بالرخام والأعشاب الطريّة, تحت شرفة مزدحمة بأمراء صغار يتنزهون في سهرة الطفولة مطلقين الضحكات البريئة, وشرفة أخرى تتحرك فيها الخادمة بهمّة لتغيّر ماء المزهرية أو تنادي البقّال, وشرفة ثالثة تصيخ لأنّات ذكر وأنثى يغتسلان بالجنس, وشرفة رابعة تتصدّع تحت وقع مخبرين يبثّون الإشاعات المزدوجة.
المرأة ذات النوْل, التي تغطي بالقطن جسمها المرضوض, تذرع الميدان شاردةً, لا تعرف إلى أين تمضي, تتوقف برهةً لتتأمل شيئاً, تتجه إلى ناحيةٍ, ترفع رأسها, تحدّق إلى السماء, ثم تخفض بصرها, تعضّ على شفتها السفلى حتى تكاد تدميها, تهرول, تركض, تتوقف.. فجأة ـ في منتصف الميدان ـ ترفع رأسها وتطلق صرخة مدوّية أشبه بالعواء.
شرطي يتوارى خلف عمود, يبرز رأسه بين الفينة والأخرى. هو لا يرصد أو يراقب أحداً, بل يتوقع حدوث شيء.. شيء يجهله. إن انعدام الحدث, إضافة إلى غياب المعرفة, أمر يقلقه كثيراً, وربما يعذّبه. يشتهي أن يبكي, يشتهي أن يعود إلى زوجته وأبنائه, يشتهي أن يسدل الميدان أجفانه ليشبّ الظلام. مع ذلك, هو لا يكفّ عن حركته الآلية تلك.. كأنه يخشى أن يُضبط متلبساً بالإهمال وعدم تنفيذ الأوامر.
قطيع من الماعز يداهن الميدان من أجل أن يعبر, إذ يحك أظلافه الصقيلة بأطراف التماثيل الطينية الممتقعة, وقت كان الراعي المخبول يسرد هذيانه البهيج: خصوصاً عن انطلاق الهداهد من مفارق الموج لحظة كانت العاشقة تروّض النوم بأمشاط الرغبة. أيضاً, يحكي عن الموشومات بملح الاغتياب, حارسات القصب والفلفل, اللائي يمزجن الليل والنهار ويطلقن النباح المسعور في أرياف القادة الفاتحين.
على مقربة تداهم الغفوة الرصاصية أصحاب الحوانيت المائلة وتأخذهم إلى نافورات تخدّر الحواس بثمارها المتلألئة.
وحده الرسول التائه, ذلك الذي جاء من
جرْم بعيد, وحده بلا شريك ولا رسالة,
وحده يمتطي بغلة تائهة اختلطت عليها
اللغات والطرقات,
وحده ينحدر على مهل فيرتجّ الميدان
تحت وقع الحوافر.
عندئذٍ ينقل الحمام الزاجل أعشاشه إلى
موقع آخر, فقد عرف بالخبرة أن الخراب
قادم، وأن الأنقاض سوف تزهر بعد قليل.
وقتذاك,
كان الحاكم المعطّر بالكراهية يطوي بلاطه الفاحش ويخرج لجمع محتشد خارج السور المذهّب.
عندما يريد أن يفتن جمهوره المتثائب ويستحوذ على مشاعره, كان يرتدي زيّ الحكمة وينتعل خفّاً مطاطياً يتيح له حرية التواثب بين لحظة وأخرى. ألقى الخطبة فأنصت الجمع بلا حماس. قال ما معناه أن المسيرة غير شرعية وأن الشريعة, قال. والجمع المحتشم, الذي نسي عادة الاكتراث, يصغي. لقد جاء متوقعاً أن يسمع خبراً يبهج, لكن ها هو يبصر اللغة تستمني علانية. والحاكم في ذروة هيجانه يقذف الكلمة الأخيرة.
بعد ذلك, يبسط بلاطه المنسوج من مواعظ المرائين وآيات الصيارفة..
بعد ذلك, يبسط الجمع نحاس الغياب, ينحني لجلالة الأفيون.. ثم يمضغ الأيام الحامضة..
بعد ذلك، يرتقي الحاكم العتبة الإباحية, تؤججه وصيفة شبه عارية تفرد ذراعيها, وآن تفغر شدقيها, يهتز الإيوان..
بعد ذلك, يفتح القرويّ باحة النسيان ليخترقه الذنب..
بعد ذلك, يمصّ الحاكم حلمة اللهب ويشقّ فم العشب بجذع الرذيلة,
فتئن الوصيفة لذةً
ويئن القروي وجعا ً
ويئن الجمع إثما ً
ويئن الاحتشام
وقتذاك،
تباطأ. وضع قدما ً في شرَك الطبيعة. كان شاعرا ًغريب الأطوار. أخذ يتنشق نكهة الدم السائل على كاحله فيما كان يرنو إلى طيور التمّ ترقص عائمة في مستوى منخفض وترتطم الواحدة بعد الأخرى بقمم الجبال الواطئة. ضحك للمنظر ولم يعرف معنى لضحكته, لكنه أيضا لم يكتب القصيدة. سار وهو يصفّر تاريخاً مبهماً، ناسياً قدمه على الرمل.
كان ذلك في آخر الصيف, عند تقاطعات القرى, حين كانت الأجراس الكبيرة تطارد الصواعق الضالة:
الحدّادون في الإسطبل يطرقون حدوات أحصنة وهمية لن تحضر أبداً.. إنها تترقرق في صدر غيمة غاربة.
القرويون يرقّعون الطريق العام بالأوجار لكبح اندفاعة شاحنات النفط.
النساء الملوّنات يتمرّغن لاهيات في كثبان الذرة بينما الأرغفة الموشاة بالسمسم تمتقع داخل الأفران الطينية.
الباعة العابسون يلملمون منسوجاتهم ومستحضراتهم التي لا يشتريها أحد ليمضوا بعد ذلك صوب عشائر البدو الذين يقايضونهم بجلود ماعز وقارئات كفّ منبوذات.
علماء الآثار ينتشلون بالشباك المعدنية مدينةً غائصةً في الرمال المتحركة، مزدحمة بالقباب المسوّسة.
والشاعر يقف وحيداً وسط حقل
الشاي المقمّط بالشرور، رافعاَ
قصيدته كالحربة..
لكنـه كان يبكي.
وقتذاك,
اتكأ المحارب على حلمه المحمحم, المضرّج بالضباب, تاركاً سلاحه يغفو على مقربة منه. كان مثقلا بالسهر وبأعياد مهجورة. أراد أن يخاطب البطولة فيه, لكنه لم يشعر برغبة في الحديث. كان طعم الليمون المرْ مايزال ملتصقا بحلقه الجاف. أشفق على حلمه، الذي يرافقه أينما يمضي كالسراب, فلملم صوره ووضعه برفق على الحشيش العابق بالأنداء, ثم دثّره بلهاث الأصيل.
في مهب الفراشات العمياء, بين كلاب تطارد شمساً غاربة, وأفق يطوّق خاصرة المدى بزنار ذهبي, كان المحارب يصون حلمه براحةٍ فسيحة كالسهْب, وبعينيه اللتين يحتقن فيهما فضول الهزيع كان يرنو باندهاش إلى أزهار السحلب البازغة من هدب الطبيعة.
مع ذلك, كان يعلم, أثناء استراحته القصيرة تلك, أن عليه أن يحترس كثيراً, فالوهاد تتنكّر أحياناً في صورة شلّال يرش حارس البحيرة بثلج أصهب. كذلك الغارة التي تموّه أشكالها وتنطق بلسان الببغاوات. وما السراب إلا حيلة تبتدعها الطبيعة, بلا ضجر, لكي تضحك على ورطة المخلوقات.
سطو كثير هنا, ينبغي أن.
"هل سيطول انتظارك أيها الشبح؟" تسأل زهرة السحلب.
"أنا لا أنتظر أحداً." يجيب متململاً.
"لكنك تقف هنا منذ سنوات بلا حراك, ودون أن تمسح رماد الليل عن وجهك. لا نسمع سوى أنفاسك الثقيلة, البطيئة, أشبه بحشرجة تنّين".
"كان ذلك في حزيران, عند مساقط الخوذات قرب النهر الميت, أوان نزول الفتيات المشوّهات من المنحدرات الصخرية, حين التقيت به. كان ذلك في حزيران. جثث تستحم في مياه ضحلة. نسور تطعم صغارها فضلات مدن آفلة. الفتيات ينفضن العرق من أجسادهن المحروقة ثم يتمرّغن في الطين الشفيع, في حزيران. التقيت بحلمي الذي. قرب تشنّجات برك مليئة بقادة عصابيين ينهشون أفخاذهم بشراهة. عند مساقط الخوذات والرؤوس اليافعة التي تتطاير وتتدحرج. كان ذلك في حزيران. حلمي الذي ما إن رآني حتى غرز مخالبه النحاسية في صدري. قلت. في حزيران قلت. كاشفني. كشف عن وجهه فعرفته. قال لا تذع السر. عند النهر الميت حيث يطفو الحديد. حدث ذلك. وقت كانت الأذرع المتفحمة تهرب من جثام مسعور. فتيات عاريات ينزّ الدخان من الفتحات الصغيرة في أجسادهن اللينة. في حزيران التقيت به. ما كان عندي دثار. فرحت الفتيات حين جاءت الشظية من بعيد. فرحت حين تكوّمت المدن الرخوة في قبضة طفل. كان ذلك في حزيران".
ظلال الخطايا تتنزّه في البحيرة,
فوانيس هاذية تزحف نحو منجم مهجور لتموت هناك,
خشخاش طاعن في الوحشة ينحني ماداً أذرعه الشاحبة لتلامس ماءً مجنوناً، شديد الصخب، هائج الحركة,
وفوق مرج فيروزي مسوّر بأسماك تتواثب في هرج, تجتمع ذوات البشرة الداكنة ـ النساء الداكنات ـ المبقّعات بريش الغمام رافعات المناديل والخمائر، شاهرات جدائل الرهان:
إلى أي الجهات نرهن أرواحنا الشفيفة؟
يقايضن الغبار بزعفران المدى, يحتكمن إلى التخوم البعيدة التي موّهت حرّاسها, يبسطن النذور على مائدة العرّافين. لكن أحداً لم يصغ إلى الداكنات اللائي سلب النسيان ألوان عيونهن واغتصب ما تبقى من بهاءٍ وعذوبة.
ما من صوت أو همس أو صدى في هذا القفص الرملي حيث القش الوابل يلاحق يأسنا ويصادر كرز طفـولتنا.. ذاك الذي قطفناه في عيد الأولياء يوم كنا ناصعات مرصّعات بالغبطة واللهو, نؤرجح تنانيرنا وندلّي خصلاتنا فيثب الغناء من حرير أثدائنا وحافيةً تدخل الأحلام الحمراء مقصورات نومنا. كنا نشبك الشرفات مثل حبات الخرز ونعلقها قلادة على صدر البلدة في ليل الأعراس كي تضيء مواكب الأعيان وهي تختال بين الطرقات الزاهية مزهوةً بالحسناوات اللائي يرشقن الفتيان بالزهر, وكنا نرش الأفاريز برضاب أنوثتنا جاهرات بالفتنة وأننا الممالك التي ليست للنهب، أننا عطر الحكمة المنذورة للقلب, وفي المدى الأبعد, بين هضاب تشهد دون اكتراث زحف أجناس تبني على عجل دويلات تسنّن قرونها وتسمّم نبالها استعداداً للعراك, كنا نرمي غلائل المكيدة ونصطاد طوائف غضّة نرطّب بها شبق الرغبة والهيمنة.
لكن ها نحن الآن مستوحشات يشرنقنا الخراب حيث لا فيء بل سماء مثقوبة تمطر زيزانا تسلب ذاكرتنا إقليماً إقليماً, معصوبات بالرمل يستبيحنا الخفاش وعلى راحاتنا الملساء يتمعدن السرّ. حتى الأمومة لم تعد تستطلع الأرحام وتغسل مداخلها بأنفاس المها.
هكذا, كل ساعة, ينزعن الأنوثة مثلما ينزع الصباح قناعه, ويطلقن في عراء الروح صيحات الفريسة آن يضرّجها الحنين.
نساء حجريات. مهمَلات في موقع مهمل.
ساعةً يضرمن الجدال والرهان,
ساعةً يجمّدن الوقت ويمسحن الكلام.
نساء حجريات. يجوس النمل الأحمر بين أسنانهن الحامضة حيث تتعارك الأرواح المغلولة.
جئن من المساءات الألف المأهولة بالحكايات والسهر, المأخوذة بالسفر, تلك الرافلة بالأهواء بين مأدبة أمير مولع بقنص الأميرات ومائدة مغامر لا يملك ثمن الجعة لكن يلمح في ذؤابة الشمعة خارطةً تخبئ كنوزها وتمحو الإشارات بسحابة فيجهش، ويجهش الفقراء فيما يطوون مآسيهم لئلا تتشوّه الحكاية.
مساءات بلون الخلوة, التي تستر عاشقين مسفوحين للكراهية, طافحة بالغدر والمكر والجنس والحيل. جاريات يهبطن من فم الحكاية مثل دمى في قارورة جنيّ. خليفة يتفقد الرعية مدججاً بالفخاخ. بلاط يتقوّس تحت انحناءات قضاة يخرقون الشرائع بدبابيس زوجاتهم .
يا لبذخ المساءات!
غامضة كابتسامة فتاة بزغت للتوّ من النهر.
تجمع في جرّة واحدة فخامة الطقوس ورعونة المهرجان.
وئيداً تشدّ المجرّات كالأحصنة إلى مرابطها, وتبذر الهدايا في عتبات الأزمنة.
جئن. وحين أعلن المبشّر الأبكم أوان الولادات, غسلن أفخاذهن ببلور المخادع وأنجبن في عشيةٍ سلالةً متجهمةً ركضت كالجراد مقتفية خفاف أقطار كانت تتساقط إعياءً في الأرجاء. ولم تعد السلالة من رحلة الصيد. كانت الأمكنة, الأكثر اخضرارا ً وبراءةً, تشرع ممّراتها الليّنة مثل عذراء ترجو صداقة الوحش. كانت تستدرج بسلالم طريّة نصالَ الغزو لتستقر في الغمد, حتى أنها وهبت ما شاء الجباة من سبايا وعطايا, ولم تعلم السلالة مدى حنكة الأمكنة .
قيل أنها ضاعت في مهب المجون. قيل أنها صارت طريدة لأقطار تعلمت البطش منها.
في ذلك الفجر, المثقل بحشرجات الوقيعة, استنطق الحديدُ الجمرَ ومضغت الحمُر الوحشية بقايا عرش جليل. كان تابوت بحجم إمارة محمولا ًعلى كتف فارس شاحب يجوب الحانات المقفرة وإلى جواره يسير جواده الشاحب مطلقاً من منخريه نفحة الموت.
حين رأى المبشّر الأبكم زوارق تهرول في الصحراء ساحبةً خلفها أنهاراً سوداء مكتظة بالغرقى الحالمين والدلافين المحمومة, أدرك أنها العلامة فدفن نفسه حيا في صدفة توتياء..
ولم يبق للداكنات غير التيه والعويل
أفقن. تلك جزيرة الأحفاد تدنو مسروجةً بالمشاعل, تردم الماء بالانشقاقات. من حول حيزومها الفصيح تكبر نوى الفتوحات, وكل نواة تجثو وتستعير ملوحة المرجان قابضةً دفّة الشكيمة لحشدٍ ينتعش في رئته العصيان. ثمة ليل رؤوف يلتقط حيواناته الشاردة في ساحة الصدى, وآبار تنتحي مسدلةً الضباب على عزلتها.
افتحن بهو النواقيس الخرساء لنهيئ استقبالاً يليق بذريّتنا. إلينا بالبشاشة, إلينا بالرموز والمزامير, بالأراجيح الفسفورية الحائمة تحت عريشة العناكب. كم حلمنا بهذه اللحظة!
من منا لم تحلم بمملكة رخوة, صغيرة بحجم الكف, تشرع بواباتها النحاسية لكتائب الأحفاد يدخلونها متعبين جائعين لكنهم أكثر مرحا من الحشائش التي تغطّي أكتافهم, فنمدّ لهم راحاتنا الملآى بالقمح, ومليّاً نتأمل أحداقهم العميقة التي لا تكفّ عن إغوائنا.
آنذاك نتجرّد من الحجارة، ويأخذنا الماء المسرف في الوداعة إلى جذورنا: ملتقى الأسلاف, الرعاة والراعيات, مضارب تسفح أرتال الظباء في هبوب الحشائش، والإبل تجترّ سفر الأودية في ذاكرة خائنة تحرّف الصور. لكن العشيرة رأت ما هو أبعد من مرمى البصر.
حسبنا هذا, حسبنا هذا المشهد!
نراهم يجيئون عراةً وعرايا يضيئون بقاماتهم المديدة مخابئ الكواكب النائمة، يمدّون جسراً إثر جسر, ويدحرجون القنافذ البيضاء مثل كرات ثلج تقتحم أوكار الخلاء.
وئيدا ً تشق الجزيرة قلب الأرض
بطيئا ً نهمس للحلم أن لا ينطفئ
ثمة نشيد. أشعلنا مصابيح الماضي كي نبصر جوقةً باسلةً ترمّم الحضارات بالمصاحف. ما رأينا غير الصراخ. نشيد أم نشيج؟ اختلط علينا, نحن الأسيرات المهجورات, المملوءة أعيننا بالرمل حتى أن النحيب صار يطفر من جباهنا. وكنا ننتحب ليلا ً لئلا تسمعنا الحدأة: رسولة الجحيم.
كم اشتقنا لمجئ عابر يقدر أن يخاطب الحجر فينا لنسأله:
أما رأيت دويلات بلا قوائم يجرّها أحفادنا الطغاة مثلما جرّ أسلافهم القارات من أذنابها؟ أما رأيت خطواتهم تشطر وجه المحيط وتزرع في شقّه بأس الغزوات؟
يتدفقون من المغاور ـ كما تقول النبوءة ـ مجبولين بخمرة المعارك، شاهرين نداءً بعلوّ الولادات. أذرعهم الطويلة, البيضاء الطويلة كبياض العنف, تجتاز الأبعاد فيما يقوّسون ظهورهم لاغتصاب الأرض الموطوءة بالصراخ.
إن أردت وصفاً أكثر بلاغة أخذناك إلى سرادق النعناع, موطن أرواحنا, وهناك نريك الأبراج المنجّمة تستجلي بويضات الغد.
انتظر يا رفيق الصمت.. انتخبناك مرشداً أو رسولاً, قائداً أو رائياً, فقل لنا أي المسالك أكثر أماناً وأي الخطى أكثر رصانة. ليس لنا ما نفعله غير الحدس. لكن لماذا لا يسطع صدغك تحت ضوء أعيننا الميتة؟
نتحدث بإسهاب فتسخر منا, نعرّي أمامك حماسنا فتشيح مشمئزاً! كأنك لا تشبه جنس الفرسان.
كأنك لست أنت ولست أحداً:
جثّة هلال. ظل يبعثره الهواء.
واحسرتاه..
نطرّز أثداءنا بآجر الفصول كي لا تعرفنا الدسيسة
ونبقى وحدنا مع بقايا السنين الشائخة
إذن
اصرخن يا فزاعات
اهزمن يا أمهات الأمس
فما يدثّر نداءكن غير الصدى
والنشيد المحتل
هنا, ولآخر مرّة, ينبت الصبّار من أفواهنا.
كنّ يتظاهرن بالنوم آناء مسيرة الطمي نحو الأمم الراكضة خلف تضاريس لا وصاية لأحد عليها. وكنّ ـ حينذاك ـ يصنعن من طين العروش ممالك يفتحها الأحفاد بضربة فأس وضحكة فاجرة.
لكن خشخشة أقدام مترعة بالتعب تفاجئ النوم فتنفتح الأعين بغتةً وتطل من شرفة السديم:
من هناك؟
من ذا الذي يفضّ رئاتنا الحاسرة ويطعن حضورنا بلهاثه الصلب؟
لا أحد! لا شيء!
إذن كنا نحرّك أرواحنا الناعسة في المهد ولا ندري.
وإذ ينعسن صباحاً، يوثقن فروة المملكة بخيط حول أناملهن. وكنّ ـ حينذاك ـ يدهنّ وجه الشمس بالزيت ويطلقنه مثل بالونة في بهو النهار.
في النعاس تحلج النساء المرتجفات أحلاماً بلا صور تداهمها بين الفينة والفينة مناقير اللقالق فما يبق منها غير نثار جثة تتوزّع بين ضفاف الفرات وأطراف الأوراس. لكن لم يخطر ببال المرتجفات أن الخلوة تلد حلفاً متواطئاً
وأن فراديسها هالكة لا محالة وأن
الجثة
تسقط
وتنكسر
هكذا
المرة
تلو
الأخرى
وأن الموت كاهن معتزل في معبده, يطل بوقار من كوّة شابكاً قبضتيه خلف ظهره, يوجّه نظرات ثاقبة نحو النساء المنبوذات فيما يهمس لغُرابه بكلماتٍ مبهمة فيطلق الغراب قهقهة عالية ويمضي ليدشّن قبوراً فاخرةً لشعوبٍ فاخرةٍ بينما يظل الموت ـ قرناً بعد قرن ـ في موقعه لا يحرّك هدباً، كأنه الحارس المتجهم والشاهد الأعمى. وحده يفتح بعينيه الأهوار ويملأ راحتيه سراطين نهمة تقرض الأعوام على مهل, والأعوام تترك أطرافها هناك، حيث المنبوذات يضحكن ويولولن في آن (وكنّ حينذاك ينشرن هذيان الماضي الحيّ على أغصان شجرة كثيرة الحيل, فتارة تلولب جذعها وتنتحل شكل ماموث وتارة تصبغ أوراقها بالفحم) .
ووحده يصطفي كرسياً وكتاباً وشهقةً منبلجةً من إبط امرأة تشتهي أن تموت.
من رأى كائناً يتآمر ضد نفسه؟
رأيناه يطل من كوّة رافعاً بيدين ثابتتين مرثيته كالمعول.
مقصلة صدئة نسيت أن تشحذ نصلها.
صحنا بصوت واحد:
هيا اجهز علينا في لمحة
نكن لك عاشقات وخادمات
ابتهلنا للطعنة أن تدوّي في نحورنا بلا تباطؤ كي نعبر المجرّة وتغسلنا يد الله.
صحنا بالحجر تمزّق يا رداء
بكينا تكفينا المحن والخيبات
ما كان ينبغي أن يهملنا إلى هذا الحد.
قرأنا في الرؤيا أن أحفاداً بلون الأقحوان ـ فوق رؤوسهم تحوم الغنائم ومواكب الأسلاب, يسوقون أشرعة المدن بهدير تجفل له الأرض ـ سوف يقبلون نحونا فلولاً أشد احتداماً من وقع البروق. بلّلنا أجفاننا بعنب السهر وإلى هنا جئنا. مكثنا صبورات نحرّك الرؤيا بطواحين صبورة تدور يوما بعد يوم وما اندلق الحلم بعد.
كفانا انتظاراً فقد اجتاح الحجر أجسامنا وطمر بصيرتنا. صرنا لا نشمّ أعياد الأحقاب. طلبنا ملائكة فأتت الأشباح تضجّ من حولنا كل حقبة تدهننا بالكافور وتلملم أطرافنا المثقلة بالرياح حزمةً حزمةً في سلالٍ لا تُرى لتطعم بقرات لا تُرى ثم لتعيدنا من جديد ذبائح يومٍ لامبال.
إلينا إذن بطعنة لا تتقن الرأفة, تخترق السرّة وتسحل الأحشاء
إلينا بالضغينة والضراوة, بالعصف والقيامة
إلينا بذبح يحنو ويداوي
إلينا بكل شياطين الهتك
النقاء! النقاء!
واحدة ٌ تنحدر من قميص البهلول
الذي كان وقتذاك يرفّه بوجه مهرّج عن
حروب صغيرة جالسة بين أعواد القصب
الأكثر علواً من ضفائر العنف، وكانت لها
رائحة الكمْء, وعندما يرهقها الضحك
تضطجع في وداعة فيلتقطها واحدة
فواحدة ويمددها في ساحة حدباء
تلبس قناع كابوس يائس يحضر مهرولاً
ليلقن الحروب الصغيرة مراهقة النار
وأسرار الحديد غير آبه لفزع السناجب
التي تنحدر من قميص البهلول
وتشمّر سواعد الضباب. بيدين عاجيتين تحلب الخرافة.
أعيروني عيناً من فضّة. الطفلة خرجت ليلاً تبحث عن مدفأة. كان الثلج يحترق في قمة المئذنة. من النافذة سمعنا كل شيء: كلام الثلج, احتضار الذئب، نشيج أصابع صغيرة تعدو في بهو الدم. وعندما أرخينا المقل أبصرنا كل شيء: الطفلة تلبس جسد الذئب وتتسلل بين الأعمدة اللولبية لتغوي أطفالاً يخرجون ليلاً ويدفنون أصابعهم في إقليم الرصاص.
لم تعد العائلة مزاراً مقدّساً. مات الأب, نام الابن والأم في سرير العناق, تقوّض الكتاب والضريح. ما من أوسمة لكتيبة تحتضر في أدراج قائد مخبول, أو لألوية تنتظر إشارةً لتسقط في أجيج الجنازة. نعش للمدينة. لدينا ما يكفي من الفضائح. وإذ نخرق العادة ونشق باطن الطبيعة السويّة, نهيب بالمحارم أن تفيض وتنقضّ بالباطل على مناسك الحكماء, وللفقهاء نبتكر أخلاق الضد. نجمّل قبح الأشياء, نقبّح جمال الأشياء. ونتمادى في قلب نظام الطبقات.
ها نحن, الذئاب البشرية, نرمي مرساة البدْر عند اكتمال التناسخ ونرفع أعناقنا الراشحة شبقاً صوب سهوب مدحورة نمضي إليها عدْواً حيث نتزاوج ونملأ شراشف القرى المجاورة بعوائنا الكوني
ونسبّح للانقراض
كان الذي يسكن ركعة اليأس يذرف
صلاة محروثة بالرؤى المجهضة:
كفيفةً تمشي المدينة إلى الجريمة.
ونسعّر الانقراض
حتى لا تظل هاوية شاغرة
والنجوم المشعّة تهوي كالمطر الأسود
ليمتطيها النسل الأنبل
مضرجاً خواصر المرافئ بالقتل.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه
نفسي طفلة ً ذئبة تقود التخوم
إلى منابع النسيان,
وما غادرْته قط !
واحدة تلوّن السماء بخضرة حدقتيها وترسم للأشياء حالاتها الغامضة. تفتح البوابات وتسمح للأكواخ
المزدحمة بالساعات والأسرّة وفلاحين
يتوكأون على فؤوسهم القديمة
شاخصين إلى قدور حبلى يحتدم في
جوفها الحساء المحموم الذي يبعثر
هذياناً متنكراً في شكل بخار يقتفي
كاللبلاب عتبات الضوء ويتأمل حقلاً
يرفع عمّال البلدية أطرافه كالملاءة
لكي تنزلق الينابيع صوب بوابات تشقّ
صدورها وتسمح للأكواخ
أن تدخل دهاليز المتاهة المحفوفة برؤوس أباطرة طغاة ينهشون كواحل العابرين إلى الثمرة التي لا يصل إليها أحد, وتقول:
ساحات تطير بلا أجنحة, أشجار تغيّر مواقعها كل دقيقة, قمر يسبح في عين مراهقة وردية.. كل ذلك ليس سوى حضور مبتذل للمعجزة. إن كان ثمة إعجاز في هذا الكون, فيمكن التحرّي عنه في العَرَق الأزرق الذي يطوي ملوحته وينسلّ بين جسمين ملتحمين حتى اللهاث الأخير يهاجم كل منهما الآخر بجذر الأنين الحلو ويرتجفان مع كل اهتزازة لعصبٍ أو لعضلة.
لذّة لا توصف في تفجّر الندى من فم البرعم,
في اندلاق العصارة داخل نفق الغضارة..
أقدر ـ أنا اللاهجة في عسل الخدر ـ
أن أحصي ارتعاشات أظافري
واجترح المدهش
ينحني انحناءة المتعبّد يعبئ أهدابي بالوجْد والعشق صلاة لمن لا قبّة له لمن غسل الكراهية بفراشة الحب ينثني ليتّحد بشهيق النهدين فأسافر مع مدّ البهاء في نبعي والعنق جسر يأخذني إلى عشّ مشعشع يفرد سطوعه فيغمرني وأغمره بالشقائق وبي وَجَع الغواية أغويه والإبط عريشة تأخذني إلى مسرح الأنداء حيث الحركة المنفلتة من أسر التلقين تؤلّه الفوضى الجميلة والعين قوس ومراكب تتهادى أرتقيه فيتهاوى نهوي في فيض كما الحلم السخي يمنحنا سرباً من الموج لا غناء أعذب من غنائه لا نداء أشهى من ندائه يرتقيني فأغيب ممسوسةً بالشهادة تخومي لهاث الذكورة أحاصره بالإباحة فيطعنني بالقُبل وإذ نتسابق في مجرى العسل اللاهب مأخوذيْن بإيقاعات التهيّج يتجانس في فضاء الحلمة أتجانس في نفحة التأوّه ومعاً نتمازج ونعلن الإشراقة العظيمة بأجراس جسدينا ونقول كيف لهذا الجسد البدئي أن يتجلى في حومة العري من غير منارة الجرأة والاحتفال يحتفي بي وأحتفي به طقسا كونياً معاً نستحم في صيحة الكائن الواحد نتمرّغ في قماش الماء الواحد أتيمّن بالشفة اللاثمة مهبط العشب وابتهل للغيبوبة الحلوة أن تأسرني ليتقرّى وحده نزيف مصبّاتي وأتهجّى وحدي رنين موجاته أنا العاشقة أتناثر وجْداً كلما استدرج العاشق أنّاتي وامتدح الرعشة الطالعة وردةً وردةً من مجرى عناصري وعالياً نرفع حياء الفضاء ونغسله بفراء الشبق الداجن فلا يغادر القمر الخجول سماء سريرنا إلا مهتاجاً وبلا سطوة.
فلما لمحتُه يحشد هتاف الطفولة بين جوانحه انهمرتُ في بنفسجة قلبه لتمحوني البراءة والمدّ وكان الكون عندئذٍ مطلياً بالدهشة.
أي حلمٍ جميل هذا الذي رأيت فيه نفسي
عاشقةً تبكي غبطةً وتجرّ بحراً خاشعاً
كالسرير إلى واحة الانتشاء،
وما غادرْته قط !
واحدةٌ تخرج, نابضة الحب ساطعة العري, من حرير نهر مخمور
يجرّ قوارب عمياء، ملآى بسلاحف محنّطة
محشوّة أقزاماً داعرين يثيرون الشغب في
المسالك ويؤججون حروب الشوارع من
أجل تحقيق حلمهم الخالد بالسيادة
وامتلاك العالم. لكن النهر الذي لا يحلم
على الإطلاق، الذي يغيّر مصبّاته ضجراً أو
قنوطاً, الذي يمقت السابحات القرمزيات
في حوضه القرمزي, الباحث إلى الأبد عن
نسغ نوراني يمجّد فيه النبوّة.. هو المدنّس
المتهم بالإلحاد والرذيلة.. مخذولاً يجرّ
القوارب ويدفعها تباعاً نحو مهاوي الخطيئة
التي تفتح أشداقها اللاهبة لابتلاع كل ما
هو حيّ ومقدّس.
"آخيتُ الرجْس حين رفضت صداقتي أيها
الإله". يقول باكياً فيما يبطش بمستقبل
الضفاف والموجات المضيئة التي تخرج
مرشوشةً بعصارات الزنبق. ما أزكى أنفاسها تلك الموهوبة براءة الذاكرة ونقاء العشق, تلك الواهبة نبض الكائنات في جنة مداها, ما أحلاها! وحدها الناجية من الدنس, البشرية الأكثر نعومة والأكثر حصانة. تحرّرت من إثم النسيان وأعلنت أنها الشاهدة على فجور الضعف وإرهاب الصمت.
ما إن تطأ كثيباً حتى تلد شبلاً نهماً يرضع الوسامة والجرأة من نرجسة الثدي. فيض من البركات تنهمر من أطراف أصابعها. وإذ تميل ملصقة صدغها على أجنحة العشب الشفافة، منصتة إلى حفيف شعوب ضاحكة تتنزّه في ممرات الحديقة وتتهامس فيما بينها، يخترقها – آنذاك - فجر عذب ملئ بالوعود والنعم.
هل نصفها؟
جمال المدفأة، قلب النورس، شفافية الظهيرة، هشاشة اللذّة، بكاء الدهشة، براءة النهد، بأس الأمومة، حنان الضحك، همس الوَله، طفولة الخجل، سخاء العنب، حزن الحزن، حياء المصادفة، إسراف الوردة، قناعة الجذل، أمانة المفاجأة، إشراقة الحب،
حدقتان تشعّ فيهما غرف مأهولة بالضوضاء، وثمة أطفال بحجم الدمعة ينثالون من النوافذ الكبيرة مع أسماكهم الملوّنة وطيورهم ذات الأجنحة الزجاجية ليثيروا فزع مرايا الشارع.
ذراعان مخمليتان تطوّقان بوداعة تعب الصديق وخيانة الصديق. والفم. نحسدك أيها الفم القادر على العفو، الفخور برضابه الحريري بلآلئه المرحة، فيك يسافر الهيام غير آبه لنداءات الحشمة. من أين لك كل هذا الشهْد، كل سبائك الحكمة والمتعة؟
هل نحكيها؟
الهلال..
زورق يرتعش في خلايا المدّ. يدغدغ ظلال رُسُل أرضيين يحومون في بهو السماء بعد أن خانتهم الذاكرة. يشق بخفّة قلب الماء الرحيم، مجذافه سحابة ليلية ومرساته حبل الخرافة. لا أحد يخمّن مقصده، لا أحد يعلم أين سوف يرسو، كأنه جاء من زمن غابر محمّلاً برائحة لغات محظورة وإشارات متناقضة.
الهلال..
زورق أزلي وامرأة مضطجعة في هدوء وسكينة بعد أن أوصدت أجفانها القطنية حابسة نجمة كانت تعدو في مجرى الدمع جامحةً. في منتجع الوريد يتشنّج ربابنة النوم قبيل مجئ الحلم النادر، وعلى أطراف الشفة تتغضّن الغريزة مغمورةً بزيت الانتظار. الليل المتّشح بالوجْد يعرّي بشرته الفضّية وينحني على البحر الطافح بالعاطفة. هذا هو الحب، هذا هو الحب، ولا اسم آخر، ولا نعت آخر، لهذا العناق الكوني.
الهلال..
زورق وامرأة دامعة ورجل يعلن عن حضوره بمداعبة الشعر الأنثوي الراشح نفحات وعطايا.
ياللطمأنينة! ياللارتواء!
كم سيحتاج من تضحيات، ومن جروح، ليستعيد - بعد زمن - اللحظة ذاتها، والرائحة ذاتها، ونداوة العالم ذاتها؟
لكنه الآن يتطلّع إلى البعيد، يرنو إلى المنارات البعيدة، كأنه يحنّ إلى الانتماء لشيء مجهول، لقارة لم يمسّها بعد. كأن وجود المرأة وحده لا يكفي لإرضاء جنون الفرح وإطفاء شهوة السفر.
ألهذا السبب كانت تبكي تاركةً شعرها المضئ يتلوّى ألماً في أسر حضنه؟
هات أحزانك الشوكية، يا امرأة مراعينا، لنمشّط بها ليلنا الطويل.
الهلال..
حيوان خرافي ينتصب على جرف سماوي ويخلب لبّ الفلكيين بتحولاته وتقمصاته المدهشة، يبتكر الحيل البصرية ويرمي في أركان الأرض رؤى آسرة.
هل نحكيها؟
رأيناها - المرأة الوارفة، الرافلة بالعصيان - تلتقط الكوابيس الخصبة من أذنابها وتمضي بها حثيثاً إلى كهوف بدائية لم تذق وحوشها طعم الخبز من قبل. هناك تسعّر المجاعة وتضرّج بالقسوة براثن الوحوش المزعنفة كي تغادر شرانقها وتنازع أشباهها الأليفة، القاطنة في المدن، لحم الكهنة وخبز الخشوع.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه
نفسي موجةً في عين شاعر
محموم يسحل بي الباطل،
وما غادرْته قط!
نصْل الكتابة, النساء الحجريات, بهنّ نقتحم
بهو الفضة
قبّة الوقت
حاسرات الصدور, شاخصات الأنوثة نحو
زعفران
المدى
الغريب
تخشعن لجلالة البياض. تخرجن من ماء الخرافة ومن عجين الغياب.
نخرج ـ زهرتين ـ من مستنقع القتل. أضع يدي على حزنه المقوّس، ونبكي معاً. ذلك أن طيور المخيّم كانت تهاجر فينا جزافاً.
نرمي فتات الفضيلة كي نستدرج فوانيس صلواتكن المقنّعة. إلينا بحضوركن الشاسع. ها هي المائدة فائضة بالمحابر. نرقب صليل الفاجعة آن تلامس أرواحكن شغف المخيّلة.
لحزنه - صديقي الضال - رائحة الفحم: لن يفقد الفقر أثره.
ياللأحداق الشاهقات!
كمن ينوي خديعة الجريح بسنان أكثر جمالاً
ولا نكاد نميّز حدود النص عن أهدابكن البتولة،
ذلك أن
مقلته المجنونة تئج في سبرها
الملعون، وتفيض بالقرمز مثل دن
النبيذ. يعرف – فيما يرمق رعشة
أصابعي في صلصال الحرف – أن
يكتشف أسلاب المنجم، يجوهرها،
يصقلها، ويفتن بها الضالين.
آه، يا الحجريات، الماثلات في المجابهة،
ها يجترح بكنّ المعجزات، فتجمحن به!
رأفة به، رأفة بالوديع الفاتك. ارخين له قليلاً، فإنه يدّخر لرذائلكن الذخائر ولأعناقكن قلادات من خرز الحمم. ما من جميلة أسلمت له جسدها إلا وزيّنها بخلود الأسطورة
يتقن كتابة الناس
يتقن كتابة النساء
لا يتقن شيئاً غير الكتابة.
لكن احذرن،
لا تجنحن إلى قصبة الجوقة
ستلتهب بكنّ مواضع العزف
مكامن النزف.
مقلته المجنونة
مكامن النزف.
مرّ شعب الجهات
بمحاذاة النساء الحجريات، ذوات البشرة الداكنة، مرّوا دون التفاتة. ربما لم يحسنوا الإصغاء، أو ربما لم تدلّهم الخرائط إلى المساءات الألف.
مضوا - رفقاء السفر - كالفجاءة من غير دروع ولا مركبات، مرفلين عباءة الجرح المستبد.
لم يتركوا رائحة أو كلمة.
نسدل سيرة أنينك البحري يا من تموت مراراً وما يزال في فمك طعم الغابة، أيها الغريب الذي يشتّت أشلاءه الرنّانة في مساقط الدم وانحسارات التضاريس، لنسرد - نحن المرشحين لمواقد الفتنة - مشاهد لا تشفّ عن رمز أو مغزى، وأشكالاً ماكرة تنزلق بكثافة في
خميرة الكتابة
هندسة الحكمة
أزياء المعنى.
أسلاك
أسلاك شائكة
تخوم مسيّجة. رؤوس منكسة: حيرة الارتياب، وجوم الأسلحة.
ثلاثة جنود، يزدهر بهم القتل، يقتادون شخصاً معصوب العينين، مقيد اليدين من الخلف:
تحقيق أم تصفية؟
شبّان يحدّقون في ترف الدم، صخب اللحظة، ويتهامسون: أسرى حرب؟
جندي يحمل رشاشاً ويراقب.. ثمة كابوس يتربص به في مكان ما.
برج مراقبة
أسلاك شائكة
جندي يهوي بكعب بندقيته على رأس أسير: يطأطئ النهر.
ثمة أرض تحتضن نشيج بلاد.
كتل من الأجساد المرجومة بالغبار والنصال تتلاحم في هذا العراء.
عبر فتحات الأسلاك الضيقة، التي تسيّج جسداً مثقلاً بالحديد ينزّ عرقاً أسود وكلما مدّ عنقه تجزأ وطناً وطناً، يهرّب شعب الجهات الذاكرة راجيا أن تعود بصفاء إلى سنوات اندلقت في قبو الزمن الذي أطبق أجفانه عليها فمضت في اللج بلا مصباح.
وعندما انحدرتُ من التلة لم أكن قد بلغت الخامسة بعد. هرعتُ الى جدّي الجالس تحت شجرة لوز يصغي إلى شحرور يشدو. قلتُ: "يا جدي، لقد أبصرت الفضاء والمرتفعات، لكني لم أر الجبل الأخضر". فأطلق تلك الضحكة الوقورة ثم قال: "أغمض عينيك لترى".
أغمضتُ، لكن:
سترى الرماد الكامن ينبثق كالعصف.
تشبّثْ به. هو الجناح الشاهق الذي يطل على
السريرة. سترى في ريشه الغيم. توشّح به.
تراه كأنه التراتيل الأولى.
بيت حدوده السماء.
أغمضتُ، لكن:
اصبر بأجفانك على الرؤيا، على احتمالها.
أطبق بهما، تصر لها جنة وجنيات. تشبث
بموتك تحيا تهاجم يحتفي بك الوقت والطريق.
احتفل برهبة الذكرى تكن عرساً
جريمةً تكن، تدور حولك الخرائط وتغتسل
الأنهار بقدميك.
هذا هو التل
اصعد
تصعد حول قميصك الرياح
وإن أغمضت، يراك الكون وتركض إليك العناصر.
أيها الطفل، ماذا ترى؟
... وكان التل أكثر علواً من الكلام. وللحجر بكاء الأنبياء. انحنى على زهرة الحجر، مسح غباراً شفيفاً فصار الحجر درَجاً، رسم قوساً ودخل، طالعته صبيّة مليحة تمد إليه ذراعيها، وعلى كتفيها تنسدل البحيرات القرمزية والبساتين المتصلة بنوافذ السماء. لمح في عينيها باباً، رسم قوساً ودخل، فانهالت حوله الحيوانات الزرقاء تحتك بجسده وتخترق قميصه. للحيوانات قرون طرية تأخذ شكل قناديل وأصص أزهار، وكان في صدرها طرق، رسم قوساً ودخل، فتقاطر حوله سرب رهيف من الشحارير الفضيّة تدسّ مناقيرها في ثنيات سرواله المهلهل، تخدش جبينه بحنان مخالبها وفي قَصة شعره تبني جسوراً. خاض في نهر غزير من الزنابق فيما كان الدم الغريب حتى الوحشة يغطي مقلتيه. رسم أقواساً ودخل، حتى وصل إلى حيث أخذته الحجارة. وكان مطر خفيف يرشّ قمة التل، ولم يعد مكان أعلى من قمة التل وسقف الرؤيا. نظر إلى أسفل..
ماذا رأيت؟
تلك بلاد تبدأ من حجر، وخاتمها سيد الأحجار.
جلستُ بقربه أتمرآى في لحيته البيضاء الرزينة. قلت لنفسي "سأفهم عندما أصير في مثل سنه". لمحتُ مفتاحاً يتواثب بين أصابعه الهرمة فسألته "ما هذا؟" نظر إليّ متسائلاً ثم أدار بصره الى حيث أشرت، أجاب بدهشة "مفتاح". قلت بتبرم لأن لهجته أوحت إليّ بأنه يتهمني بالجهل أو الغباء "أعرف أنه مفتاح، لكن لماذا تحمله معك دائماً؟". انقبضت تجاعيد وجهه فجأة فاعتقدت بأن طرحي للسؤال بهذه الطريقة لم يكن لائقاً، وندمت.
ظل صامتاً فترة طويلة. لم أنبس، فقد خشيت أن ينهرني. مع ذلك لم أغادر مكاني بل طفقت أحدّق في التجاعيد والشعيرات الكثيفة التي تكسو وجهه، وأتشبث بالوميض الذي يتوهج ثم يخبو ثم يتوهج ثانيةً في عينيه اللتين ترنوان بعيداً.. صوب أفق لا أدرك كنهه، صوب مدى لا يُحد. أخمّن أنه سيغفو الآن بعد أن تدثّر بالصمت وتوسّد الشيخوخة. أراهن أنه سيحلم عالياً مثلما يفعل كل مرة، وسأشاركه حلمه إلى أن يغزوني النعاس. لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل انتفض بشكل مباغت وتمتم: "أشمّ الآن رائحة بيتنا".
لم يكن بيتاً حجارة. كان شجراً هارباً مثل أفق لا تسعه الأحداق. أشمّه الآن، مفتوحة نوافذه على الروح، دم مذبوح يلهو بشاغر الهواء، تتراكض نحو السنابل. له لغات تحاورها الأعماق يستجيب لها الشغف الغريب. شاسع شاهق، ليس بيتاً حجراً. كلام صلاة كأنها في هدأة الهينمة الأخيرة قبل فجأة التوقع. له في شهقة الوليد في تأمل الحكمة عطره يجول في الخلايا والقلب مزدان كهودج النسرين. له الوقت الطرقات المفتوحة المختومة الآن هذا العبير المجنون الهارب من الصدى الهائل الذي لا يسع غرف القلب. دم مذبوح وياقوتة الروح منذورة له هذا الذي أشمّه الآن أراه يحضن المدى ينادي
تعال
ذهبتُ. عبرتُ المضايق والأرخبيلات، وفرشت لي التضاريس عتباتها. هناك بيتنا كأنه هنا. أشمّه الآن وأطراف الندى تمسك بردائي تقودني كمهاجر أضاع دربه. لا حاجة بي إلى من يقودني قلتُ رؤياي بوصلتي والحدآت دليلي قلتُ يرافقني الماء والحصى وعلى عجل نمشي نهرق عصير البدن نرهق الوقت حيث تغادرنا المسافات مساءاً وفي الصباحات تحيّينا بتعب "صباح الخير يا فرسان الرؤيا"
تعال، تعال
اجتاز الأبعاد، عبَر فوق إيقاعات الجغرافيا، والأقاليم الملساء كانت مسفوحة بين قدميه. وطأ التخوم دونما وجل وتوغّل في رئة الوقت. رويداً غاب الصوت الصدى الأبعاد المسافات المواطئ الزمان الزمان.. وحضر الجبل الحارس الذي لا ينام وفي حدوده تسرح الفصول.
تعال، تعال
تمتد حقول الكروم حتى المرافئ حيث ينثر البحر زبده على السفن الكسولة والأرصفة الضاجّة بالحمالين والصيادين. من بين دروب القرى المتعرجة تنسل أشجار الزيتون والبرتقال لتظلل الساحات والصبايا.
الطرقات تنزلق تحت خطواته وترشده إلى بيته
الأصيل موعد الزائرات الطيّبات ووقت الثرثرة الحلوة في فناء الدار.
البيت المسالم موغل في النوم. هدأوا في أسرّتهم بعد أن أرسل الليل جواميسه السوداء لتسرق – كالعادة - نواقيس النهار. هجعوا، ملاذهم حلم تتعدّد صوره وأحداثه. الأجاص الذي يتلألأ تحت ملامسات أنامل القمر يتدلى كأثداء عذراوات استحممن لتوّهن في نبع الياسمين وبزغ نصفهن الأعلى منتشياً بالطل: عصير المساء.
البيوت المجاورة، التي بدت كعناقيد أرجوانية دحرجتها الرياح العابثة تجاه هذا الموقع، أيضا أخلدت للغفوة ولم تسمح بأن يربك سكينتها ثغاء أو هسيس. ثمة ديك ضرير يغني، ثمة عجول تحاور نفسها هامسة، ثمة حقول تحرسها فزاعات جبانة تنتفض هلعاً لمرآى السناجب، ثمة أرض أباحت أرصفتها وثمارها ونامت.
تلك ساعة متأخرة من ليل نيسان فيها يحلو للمؤامرات أن تحيك دسائسها وتسرّح ضغائنها دونما لجام، فالأفعى شحذت أنيابها وانسلت عبر سلالم القرى، والنصال الشرهة انتصبت حول المدائن: وحدها البوابات الرهيفة اختلجت أهدابها، لكن لم ينتبه لها أحد.
دروب مهتوكة والحصى سيد الليل . ليل مهادن
حيث
الكوامن تخرج جائعة وفي هيام. درع لأحجارها كل صمت
تفتضّ، تلبس فروة الثعالب والعناكب أجراسها
تخبط في هدأةٍ وتمرُّ
حيث
كل غصن يضيق و يهلع. ضجّوا. هاتك الحلم والسرائر، توأم الوحش والنصال. استوى بيرقاً واحتذى في دماء لها صليل وسلطة. كل غصن فزاعة الليل تفزع
دروب مسفوحة والأرض قاع قباب لبغتة الليل.
حجارة تثمر أحجاراً. لم يكن للقرى كان للغاب ابتكاراً لجوقة الهتك عاراً لدماء الملوك كان
كل تاج مهادن كل سهم مضرّج بالسلالات وجْر.
حيث
يغفر الرب
يغفو في هذه الدروب، يمرّ في عشبةٍ في جناز
يعبر من قسطل الدم من كرمة تجنح
وابن آوى يقلب ضوءاً في الطريق، يقود الكتائب القادمة من الخرائط. أخلاط. أخفاف تخبط
مكامن النمل و تحزم الخريطة بسوار، تهجهج في هودج الليل مدججة تغتصب البكورة.
(انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء، أجلسي على الأرض بلا كرسي لأنك لا تعودين تْدعَيْنَ ناعمةً ومترفهةً. خذي الرحى واطحني دقيقاً. اكشفي نقابك شمّري الذيل. اكشفي الساق. أعبري الأنهار. تنكشف عورتك وتُرى معاريك. آخذ نقمة ولا أصالح أحداً.. اجلسي صامتة وادخلي في الظلام، لأنك لا تعودين تُدعين سيدة الممالك)
جنس يهندس العتمة على شكل أنشوطة
أظلافه تكشط العشب، لا يسهو لا ينتمي، يكبو في هيكل يسكن التراب
حيث
قطيع الضباع يخلع سر المعدن الأول. إرث من الشراك يتناسى أيامه ويهيم في سعة البهائم. كلهم يعبر الدروب ويسفك، والملوك الرقيق الملوك المعارون من جوسق الغدر جاءوا
قناصل مندوبة لاقتسام الذبيحة
وما خشع الدم بعد
وما نبت العشب بعد
وما وطأت الصلاة دفء نومها بعد.
جميعهم مروا من هنا، اقتحموا الجسد الهش وخاضوا فيه فاضوا وفاض الدم..
تلك هي قرابينهم :
فاتحة طقوس الذبح.
شرّعت يوماً أنحاءها وينابيعها وخواتمها باطمئنان وراحت تسرح في راحة الجبل لاهيةً، عاريةً، غير محصّنة. تسوق بضفائرها قطيعاً من النعاج سرباً من السمّان، بأناملها الموشّاة باليشْب تحفر الآبار تدشّن نافورات رخامية ذات مياه معدنية. وفي غمرة ابتهاجها لم تلحظ شحوب الجبل الذي بدا كمن يحتضر بل أمعنت في اللهو: عابثةً، متخمةً بالطفولة، تلهج بالشقاوة تلهث فرحاً. حيناً تدغدغ لحاء التين وتقطف السوسنات, حيناً تلوّح لسفيرات الطبيعة.. تلك الغيوم الملوّنة التي تمشي خبباً:
زائرات متشحات بلبن البحر, ينفثن أقواساً
قزحية ويمرقن بخفّة فوق سلالم الريح،
عجولات دائماً. "لا نستطيع التوقف، أيتها
السيدة، فليس هذا موسمنا"
كيف يمكن لهذه المتدثرة بالأمان والشفاعة أن ترتاب أو تستنطق المكامن كل يوم لتعرف بما يدبّر سراً من مكائد؟ كيف يمكن أن تلحظ شحوب الجبل؟
لو أنها استدارت قليلا ورفعت رأسها نحو فروة الجبل وبثوره المتعرجة، لأبصرت الخوذات وهي تتسلل خلسةً بحثاً عن مكمن. لكنها لم تفعل. وعندما ارتجت التربة تحت قدميها التفتت في هلع وفغرت فمها في رعب، غير أن الصرخة لم تطفر، فقد عاجلها اللهب، الفاتح شدقيه، بلدغةٍ من نابه الباطش.
لهبٌ ينهب المساكن ينهش أجساد القاطنين. لهب يهطل على الرؤوس الهائجة المذعورة. سنابل تُقتلع من التربة وتتطاير في الهواء محترقة. صبي يحاول الفكاك من نار تشبثت بملابسه وراحت تفترسه دون شفقة. خلع الرجال قمصانهم ورفعوها رايات بيضاء لعل التنين يكف عن السفك، فمداخل القرية قد احتلتها براميل البارود وحاصرت النيران ممراتها وينابيعها. النساء والأطفال محتجزون بين شفرة النار وناب الرصاصة. لكن الرايات تضرّجت بلعاب السفك وتداعت الصرخات والتأوهات لترتطم بالتربة المتوجعة.
شبّان كانوا بالأمس مصابيح القرية سمّار الجبل،
شبّان يا عيني كانوا
وين راحوا
ضاعوا !!
تقدّمن أسيرات، كسيرات الروح، سبايا يطوّقهن الأسر بحبال من صلصال:
احزمن خيالات شرفاتكن وأباريقكن والمهود
قبل أن يحين الغياب. وانتم تحاذون إقليم
الحنطة يا صبيّة ويا صبايا لا تنسوا أن تنثروا
زيت خطواتكم كي لا تنساكم وقت العودة.
ربنا ليكن الرحيل سفرا قصيرا وليس فراقاً.
ولم تعد تسرح بعد ذلك في راحة الجبل، فقد نسجت من ورق العنّاب رداءً تقمّص الحِداد، ثم التقطت جرّتها ومضت حافية صوب النهر. وجدتْ النهرَ ناضباً، فجلستْ على الضفّة وبكت.
تلك هي قرابينهم:
كانت تمشط شعرها في الليل وحيدةً، مكشوفةً في العراء، لا صديق لها غير شمعة تتغنج شعلتها ما إن يلامسها النسيم. لماذا لا تهجع هذه الكائنة مثلما تفعل رفيقاتها في هذه الساعة؟
بعد حين، نهضت بتثاقل ورفعت شمعتها ثم مشت. من يراها تتجول هكذا حول الحقول يظن أنها حارسة البقاع تستطلع زوايا البلدة. لكن لا. لقد هجرها النعاس وباتت تسامر الأرق فترة حتى ضجرت فخرجت تلتمس حضور مخلوقات أكثر جلبة واندهاشاً. مرَق طائر أزرق فوقها فرفعت رأسها لكنه كان قد غاب مخلفاً وراءه خطاً فضياً سرعان ما تلاشى. دنت من سنديانة تتقلّد الأجراس نهاراً وفي الليل تتوّج أغصانها بالثلج رغبةً في التمويه. جلستْ تحتها ووضعت الشمعة بقربها وأسندت ظهرها إلى الجذع المرشوش بالأبيض. ربما تطرّز بخصلاتها كوخاً للنبوءات تقطن فيه، لكن النبوءات مجنّحة ولا أحد يعرف مسالكها، لذلك لا تستطيع أن تتكهّن بما سيحدث. في آخر الليل، انطفأت الشمعة وخلعت السنديانة قميصها الثلجي.
قيل أنها كانت نائمة في حضن السهل حين باغتتها الطعنات.
قيل أنها حلمت بموتها فاستغاثت بالرب الذي مسح شعرها وهدّأ من روعها.
قيل أنها هبّت مذعورةً واستنفرت أظافرها ولم تكن تدري أن الأظافر شفافة كالضوء.
قيل أنها مجزرة تألّهت فيها الحراب.
بحثتْ عن شمعتها ولم تجدها. لملمت ثوبها المرتّق بخيوط الدم، التقطت جرّتها ومضت حافيةً صوب النهر. وجدت النهر ناضباً، فجلست على الضفّة وبكت.
مهموماً عاد المساء الى عربته، حاملاً قنديله الذي يرسم للأشياء ظلالها عند التقائه بها ويمحوها عند مغادرته لها، قائلاً: "إلى البلدة أيها الحوذي".
إنه يختزل المسافات. يخوض في ريش الطقس عابراً مدارات القرى المبعثرة كأشلاء محارب صريع مُثّل بجسده بعد موقعة ما.
الحوذي، لأنه أفرط في معاشرة الطرقات غير السالكة، يعرف كيف ينزلق في المهاوي المألوفة بلا سوط، فجياده لا تطرب لسماع الفرقعات بل يكفيها أن تمتلئ أفواهها بالجَزر. يعرف الحوذي المرخي أجفانه كيف ينزّه عربته برشاقة في شقوق الغرف الهوائية، لهذا يطمئن المساء ولا يخشَ السفر معه رغم تهوره .
يخبر المساء قنديله بأنه متعب قليلاً ثم يميل جانباً ويغمض عينيه. يطل القنديل من نافذة العربة ويرسل أنواره لتنزع أقنعة الطبيعة، آنذاك تشهق الطبيعة.
ـ هل البلدة ماتزال بعيدة، أيها الحوذي؟
ـ سنصل قريبا ً يا سيدي، إني أرى من هنا الجبل وهو يلوّح لنا بقبعته. عجيب هو بتناقضاته، يوماً يسقيني النبيذ ويوماً يلطم صدغي لأني جازفت بقطف ليمونة من قبعته من دون أن أستأذنه. أقول لك ..
ـ لا تقل لي شيئاً أيها الحوذي، كلّم جيادك لئلا تشعر بأنك تتجاهلها عن قصد.
أخيراً تصل العربة. من بعيد يمكن للرائي أن يبصر العربة المضيئة تتسلق خفافاً خاصرة الجبل وتمتطي صهوته.
يترجّل المساء مع قنديله ويودّعان الحوذي الذي يهمس لجياده بحمحمة غير مفهومة فتنطلق مبتعدة وهي تقرع درجات الريح الأبنوسية بحوافرها.
هناك ـ يشير القنديل ـ البلدة تسكب ذكرياتها عند السفح وتتمرآى في انعكاس روحها في مرآة الحلم .
أنا متعب ـ يقول المساء ـ سأرتاح قليلاً.
عندئذ يضطجع تحت شجرة ويغمر نفسه بالأوراق الرطبة.
يتأمله القنديل فترةً منصتاً إلى هذيانه الفصيح ثم يشرع في السير. ينحدر من الجبل مصطحباً معه ظلال الحشائش والحصى مسترشداً بخُلْد يتقدمه ويفسح له الدرب فيما يرمقه الحرذون في سخط لأنه داس على جحره.
عند السفح تتفرّع الطريق، وبلا تردد يتجه يميناً صوب البلدة. يتخطى السياج ويعبر ممراً ضيقاً محفوفاً بأعواد الذرة. ثمة جداول تشق تربة الحقل، إنها تتقاطع في أشكال هندسية بديعة، وعندما يصادف جدولاً يثب فوقه ويتابع سيره في الحقل. على مبعدة تلوح أشجار الزيتون والخوخ ومن خلفها تبزغ البيوت الواطئة التي تعتلي سطوحها أبراج الحمام.
يتقدم القنديل مصغياً إلى حفيف اللوز وتمتمات قبّرة تناجي البذور المبثوثة في كل حدب. القنافذ الفضولية تسأل في إلحاح عن كنه هذا الضوء المتحرك الذي يثقب الليل بجسارة، غير أن الجداجد ـ التي لا تفقه شيئاً مع أنها تتظاهر بالحكمة ــ لا تشبع فضول القنافذ بل تتمادى في الصرصرة كي تواري جهلها. في الجوار مقبرة تحرسها شواهد لا تكف عن الصلاة، وعندما ينهكها التحاور مع الله، تستحضر أرواح الموتى لتدخل معهم في حوار صاخب ومرح عن الأسفار والنساء الجميلات في حانات المرافئ، وتكتمل السهرة مع مجيء جوقة السحالي مع آلاتها الوترية فتهتاج المقبرة بأسرها انتشاءً بالضجيج والسُكْر.
ها هي الساحة التي تشهد كل يوم ضوضاء الأهالي: تحياتهم، أحاديثهم الودّية، شجارهم، مقايضاتهم.. أمست الآن خالية إلا من كلب مقطوع الذنب يجري، وآخر يبحث في القمامة عن عظمة أو بقايا لحم. على باب دكان صغير مقفل تزحف رتيلاء، وبين شقوق الجدران تكمن العناكب للبراغيث التي تهرول دونما حذر. الأبواب المطلة على الساحة موصودة، خلفها أسدل القاطنون ستائرهم وناموا. إلى هذا المكان يحضر البقالون في الصباح بخضرواتهم المحمولة على بغال تفرط في الاستياء، والصيادون أيضا يجيئون بسلالهم جالبين مع نداءاتهم البوري واللوقس والمياس، إذّاك تزدحم الساحة بالأصوات الضاجة المنفلتة من شباك السكينة.
يتوقف القنديل أمام بيت مسوّر يكسو حافته ليلك يتمدد ليعتلي الجدار الداخلي من الجهة الأخرى حتى يصل إلى الميزاب. يدلف القنديل ويلفي نفسه في الفناء الواسع الذي تتوسطه شجرة برتقال. تحت الشجرة تبعثرت بإهمال بعض حبات البرتقال، إذ لولا نزقها لكانت مع أقرانها فوق الغصن، وهي الآن توشك أن تتفسخ من العزلة. على الحائط تتكئ دراجة قديمة بعض الشيء، بهت لونها الأزرق من فرط احتكاكها بالأيدي العابثة. بجوار الدراجة تربض جرّة كبيرة مليئة بالماء تجاورها خزانة مكتظة بالأواني من مختلف الأنواع والأحجام. خلف الشجرة مساحة صغيرة مغطاة بالتربة يقيم في جانبها قنّ الدجاج وفي الجانب الآخر جحر عميق حفرته الأرانب التي لا تجرؤ على إبراز رؤوسها، خاصة في هذه الساعة. ثمة قطة تتجول، تدير رأسها في الأنحاء، عيناها المتألقتان كالبلور تخدشان نسيج العتمة وتفتشان من خلاله عن طعام، بعد برهة تجري وتقفز فوق السور، تتلفت ثم تسير على مهل. البيت يعبق بالصعتر: رائحة تستقبل الوافدين بحفاوة, والليل المشرئب إلى تموجات البرتقالة المبهرة يرطّب طقس البيت ويهب قرميده طراوة لا حد له.
يتحرك القنديل متجهاً صوب الباب الداخلي، يرتقي العتبة ويدخل. هناك يتجول بحريّة مطلقة، فالسكان قد لاذوا بالأسرّة غير مكترثين بتطفل كائنات الليل الداجنة. وحدها الأشياء انتصبت في بادئ الأمر على قوائمها متحفزة، مستنكرة هذا التسلل الذي لا يليق.. "هش لستُ غريباً" همس القنديل، عندئذٍ طأطأت الأشياء رؤوسها وسمحت له بالتجول والاكتشاف. بساط كبير يغطي الأرضية تتوسطه سجادة متعددة الألوان، فوق البساط توزعت المقاعد الواطئة المحشوة بالقطن والقش، والمكسوة بجلد ناعم أملس منمّق بالنقوش الذهبية، والوسائد قد رتّبت نفسها بعناية. في المنتصف تقيم منضدة مستطيلة، قصيرة القوائم، فوقها صينية صفت عليها فناجين قهوة مهمَلة تجمّد في قعرها البن. منضدة أخرى منسحبة إلى الطرف البعيد وفوقها يتلوى إبريق مزخرف يتنفس أريج مبخرة تتغنج بجواره.
على الجدار عُلقت آية قرآنية بالخط الكوفي ، يحجبها زجاج شفاف ويؤطرها خشب مصقول مزدان بالنقوش. من السقف تتدلى مشكاة فخورة بإشرافها على الموجودات المتوزعة في الأسفل. هنا تستقبل العائلة زوارها من الجيران والأصحاب والأقارب تتبادل معهم الأحاديث والأخبار والهموم. للأحاديث رنين لا يهدأ، حتى بعد أن يخرج أصحابها ويختلي المكان بأشيائه يظل الرنين حائما لفترة حتى يتشظى.
يصيخ القنديل إلى همهمات تتوافد من غرفة ما، فيتحرك نحو المصدر. يفتح الباب.
شبح يهتز في العتمة،
شيخ يتأرجح بين الصحو والغيبوبة. كان متربعاً على السرير، يوجّه نظرات زائغة في فراغ الهواء في نسغ الغرفة، يكلّم نفسه أو شخصاً غير مرئي بلغة مضطربة انفلتت من تحت اللهاة دونما كابح، ينثر كلماته كيفما اتفق. نبرات غير مستقرة تتصاعد حيناً إلى حد الصياح وتنخفض حيناً لتصبح همساً:
"شدّي يا زينب شدّي. لا أريد عنباً. شدّي يا امرأتي لا تجزعي. لقد انكسر القادوس وستبكي الناعورة الآن، فماذا نفعل؟ أنظري أولادنا، هدهديهم يا زينب كي ينعسوا. يا لرقتهم! أنظري. لا بأس. اذهبي إلى البيدر وسألحق بك. هاها، صرت هرمة لا تقدرين حتى أن تزحزحي ردفيك. كان عرساً لائقاً. كان. يا ويلي الناعورة تبكي. هاهم أحفادنا، نسيت أسماءهم. هيا قبّلوا جدتكم. لماذا أنت حزينة هكذا، أحزن عندما أراك.. لكن ادرسي بهمّة ليعرفوا أنك مازلت شابة وقوية. لا تشيحي بوجهك عني يا لئيمة، أعرف كيف أؤدبك. الناعورة. شدّي. أمس كان موسم القطاف. مرّ علينا ونسينا. لماذا ينسى؟ ألأننا كنا نائمين! الظلام يحيط بي منذ أن تركتيني. ساقك تؤلمك؟ ماذا أفعل؟ الظلام يريد أن يفترسني. ماذا أفعل؟ انهضي واجلبي الماء لنرش هذا الظلام. أعرف. يخاف من البلل. أين كنتِ؟ ولماذا هذا الثوب الأبيض الذي أراه لأول مرة؟ من أين لك بهذه النضارة وأنت عجوز؟ أخبريني، أخبريني يا أحب الناس إليّ. أنا وحدي هنا والناعورة تبكي. كيف أسكتها؟ اجلسي بجانبي. هكذا.. كما كنا. احكي لي. لا أحد يسمعك غيري ولا أحد يسمعني غيرك. أخذوني إلى المقبرة وكذبوا علي، قالوا أنك.. البنت سمّوها نجوى.. ما أحلاها. إلى أين أنت ذاهبة؟ لا تديري لي ظهرك عندما أكلمك يا لئيمة. عودي. زينب. أتوسل إليك أن تعودي. عودي يا حبيبتي فأنا وحدي مع الليل الملول. ما أضيق هذا الكون الأسود. الضوء البخيل وسط الظلام الشاسع يشبه النفاية. حتى روحي لا أستطيع أن أجدها بين أكداس الفحم. زينب لا تذهبي، أو خذيني معك كي أشفى.."
يعلو صوته مع النداء الأخير، يصير أشبه بالنشيج الممزق. ومن غرفة ما يأتي بكاء طفلة. يظهر أن صياح الشيخ قد أفزعها. ينسحب القنديل إلى تلك الغرفة، وقبل أن يدخل ينفتح الباب وتخرج منه الطفلة نجوى وهي تبكي. إنها تتجه إلى غرفة مجاورة بابها مغلق.
يدلف القنديل إلى الغرفة التي خرجت منها الصغيرة لتوها...
نعيمة راقدة على جنبها الأيمن.. إنها نائمة.
تبتسم في نومها. لابد أن حلماً جميلاً، مترعاً بالغبطة، يترنح الآن تحت إبطها وينزّهها في إمارته. يتعين على القنديل أن يتقمّص نفَس عرَق كي يمكن له أن يتغلغل في وريدها ويشاركها النزهة ويجلو غموض الحلـم.
قبل أشهر كانت تنام مع إخوتها في غرفة واحدة، وعندما فطنت الأم إلى نموّ الأنوثة العذراء في خلاياها، جهّزت لها غرفة مستقلة لا تُقمع فيها الرغبات المبكرة التي ستفيض يوما. وفرحت هي بمملكتها التي تحكمها وحدها، بلا شريك ولا رقيب. صارت تملك خزانتها ومشاجبها ومرآتها وعطورها. ولم تمانع من وجود نجوى معها طالما أنها لن تنافسها في الحكم.
قالوا لها كبرتِ وصرت ناضجة يحلو للشبان مغازلتك. خمسة عشر عاماً مضت. الزمن يمضي سريعاً ولا وقت لديه للتأمل، وآن تتمهل الأقمار والنجوم لاهثةً يلهبها بسياطه ليطرد الكسل عنها وتنفض غبار التعب عن عجلاتها. في الشفق يلبس المرء قميص الطفولة وفي الغسق يغادره. إذن ماذا سيقولون حين تبلغ العشرين؟
كانت تدنو من المرآة، تنظر إلى وجهها المتورد وتتحسس شفتيها النابضتين.. هل أنا جميلة حقاً؟.. تهمس للمرآة التي تطالعها بدورها في خفر. ببطء تفكّ أزرار ثوبها من عند الرقبة إلى أسفل كاشفة ً عن البياض المستور، عن الصدر المتواري في استحياء، والذي بدأت تتمازج فيه الصلابة والنعومة، وتتريّث عند ملتقى النهدين: بذار الأنوثة، التكوّر المهيّج، الموعود للملامسة واللثم. ستضمخهما الأيام المقبلة بالنداوة والشبق.
يغادر القنديل تاركاً نعيمة راقدة على جنبها كحصن هش يجتاحه الحلم الرءوف بصوره وشخوصه الشفّافة.
في الخارج يرى نجوم ماتزال تبكي وتخبط الباب براحتيها حيناً وبقبضتها الناعمة حيناً. ينفتح الباب بعد قليل وتظهر الأم بشرى التي تتثاءب وتهز رأسها في ضيق يخلو من القسوة. تنحني وتحمل الصغيرة التي ما إن رأت أمها حتى توقفت عن البكاء. تستدير الأم وقبل أن تغلق الباب ينسلّ القنديل خلفها.
غرفة نوم الوالدين. الأب نائم على ظهره يشخر بين الفينة والأخرى.. ربما بسبب شقاء اليوم أو ألم في الظهر. الأم تعود حاملة الصغيرة وتمدّدها بينها وبين الأب.. "نامي الآن. صغيرة أنت ومن الصعب أن تفهمي حالة جدك. إنه لا يعي ما يقول، وعندما يصرخ فإنه لا يقصد إخافتك. يجب أن تعتادي ذلك مثلنا".
لكن الصغيرة لا تفقه شيئاً مما تقوله، وهذا لا يهمها بقدر ما يهمها أن تكون قريبة من أمها وأن تلامس الدفء المنبلج من حضنها، لذلك فإنها سرعان ما تستغرق في نوم عميق.
بشرى تبتهل للنعاس أن يُقبل دون تباطوء، لكنه لا يُقبل عقاباً على ذنب لم تقترفه، فتمكث مستلقية على ظهرها، مفتوحة العينين، ترنو إلى السقف المغلّف بالعتمة.
تنثر الشعير فتهرع الدجاجات إليها يتقدمها الديك المتباهي بفحولته، تعاين مراقد الدجاج وتعثر على بيضة، أربع، سبع، عشر بيضات.. لدينا ما يكفي للفطور.
تمارس روتين يومها بلا تذمّر. لقد اعتادت على ذلك، ومن قبل لقّنها الأهل ما يجب أن تفعله عندما تتزوج وتنجب أطفالاً. إنها الوصايا العائلية التي لا بد من حفظها وصونها. وهي تهندس أيامها بنفس الدقة التي تخيط بها ملابس عائلتها والجيران. تشرف على كل شيء وتتدخل في كل شأن.. أمومة تعرف كيف تحزم خيوط الأسرة في كفها، وفي حضنها يعتصم كل فرد.
غرفة نوم الأولاد. يقترب القنديل من السرير ويطل على موسى. سبعة عشر عاماً تتمدد فوق السرير غائبة عن حلبة الوعي منتسبة ـ في هذه اللحظة ـ إلى موجة نافرة طفرت من خاصرة البحر وألقت مرساتها على الشاطئ وراحت تدور في قارورة الريح مدموغة بالذكريات الحافلة ببراءة الرمل وشقاوة اللعب.
يجتاز موسى عتبات الطفولة ويكبر، يتسلق مع صديقه سور المراهقة فخورين بفتوتهما ويظلان يتأملان بولهٍ ذات الجدائل الواقفة بالقرب من النبع تلاطف حمامة تستحم في راحتها. بعد دقائق يلتفت إلى صاحبه ويسأله: "تحبها؟". الآخر يدير رأسه ناحيته ويسأله: "وأنت.. تحبها؟". يلجآن إلى القرعة ، فمن يكسب يفوز بها. يكسب الآخر، وحين يعودان للنظر إلى الفتاة لا يجدانها. لقد مضت، والنبع اختفى، والحمامة نزحت إلى موقع آخر.
يتحرك القنديل نحو ابن العاشرة، إبراهيم، الموغل في النوم والذي يطارد الأرانب في الحقول وحين يتعب يركب القطار ويجلس في المقصورة مستمتعاً بمشاهدة الأعمدة الهاربة والأشجار التي تجري مبتعدة عنه. غير أنه لا ينتبه إلى نظرات المسافرين المحملقة فيه إلا بعد فترة، حينئذ يمتلئ رهبةً ويقفز من القطار عائداً إلى بيته ليبني مسكناً فوق الشجرة.
وئيداً يجرجر القنديل هيكله نحو السلّم، يصعد الأدراج الحجرية المؤدية إلى السطح، مخترقاً العتمة الرابضة في كل حدب. في نهاية السلّم يطلع له برج الحمام الخشبي بتشكيلاته الهندسية منتصباً في زاوية السطح ومغلفاً بالسواد الذي تتخلله الصفرة المستمدة من الضوء الآتي من القمر. ظلال الأشكال تنحني لتنكسر على السور المنخفض. البرج مأهول بالحمام. حمامة تهدل، أخرى تمدّ رأسها وتتطلع تجاه القنديل ثم تعود وتسحب رأسها إلى الداخل، ذكر يدور حول أنثاه بهيجان ويمتطيها.
يتقدم القنديل من حافة السطح ويطل على القرية الغافية عند سفح الجبل.
بوسعه أن يرى من هنا:
بيوتاً ساكنةً تحشر في ستراتها الغرف والأواني والنباتات وأغراض العائلة. ساحات خالية إلا مما يفرزه الليل من زواحف وحشرات وحيوانات صغيرة ضالة. حظائر مسوّرة تحرس مواشيها الكسولة. حقولاً تتمطى رافعةً أذرعها المكسوّة بالأغصان والأوراق، مسترخية على ظهرها، واهبة أطرافها العشبية للجداول تسري عبر مفاصلها وتعرّج كيفما شاءت. نتوءات الجبل البرّاقة أشبه بمحاجر جاحظة تتفرّس في التشتت اللامنظم للأشياء القائمة أمامها.
بوسعه أن يسمع من هنا:
أزيزَ حشرات الليل التي تظن أنها تؤانس سيدها فيما هو يزداد وحشة وضجراً. حفيف أوراق وطنين علب فارغة ترتطم بها الجرذان في الطرقات الضيقة الملتوية. أنين ناي ينفخه فم مجهول عند بيدر مهجور. نباح كلب وحيد لا مأوى له. أصداءاً تائهةً لكلام قيل في النهار ولم تصنه ذاكرة الساحة العامة .
فجأة..
تندلع السماء، تتزلزل الأرض.
بروق أرسلت جيوشها المسلحة بالنار لتهاجم.
لقد ابتدأ القصف وساد الهرج كل الأنحاء.
- الأهالي يخرجون من بيوتهم مذعورين لا يعلمون إلى أين يتجهون
- الأهالي يركضون في طرقات لم تعد مأمونة، تتلاطم أجسامهم في فوضى وارتباك، ترتطم بحافات البيوت المسننة
- عجوز مشلولة الساقين تزحف
- أطفال يتساقطون على الأرض. صرر تتطاير. الغبار يملأ المكان
- أياد متشابكة تنفك وكل يد تذهب في اتجاه مغاير
- منزل تتناثر أحشاؤه، ومع أحجاره يمكن تمييز أشلاء ساكنيه
- دواب تعدو، في الخلفية شجرة تُقتلع
- شيخ يصعقه الرعب فيجلس أمام داره واضعاً رأسه بين كفّيه
- امرأة تجري مفزوعة حاملة بين ذراعيها مخدّة وهي تحسب أنها تحمل طفلها
- أفراد أسرة يقفزون من السطح
- نيران تحاصر طفلة، يندفع نحوها رجل مخترقا اللهب بجسارة
- كهل يلوّح بعصا مهدداً ومتوعداً
- صبيّة شُقّت نصفين ومن فمها الفاغر تنبعث صلاة خرساء
- يد ذات عروق نافرة قابضة على حفنة تراب
- حبلى اندلق الجنين من حوضها المبقور
- ساق مبتورة
- عجوز تنظر إلى السماء ريثما تنجدها يد الله أو تجندلها شظية
- جثة تعانق الطريق
لقد فتح الجحيم أبوابه وانهمرت الحمم بمجانية تفصح عن حقد هائل.
كائنات تتغرغر بها مداخل القرى كي تخرج كالفيض كالفرائض تنظر الطبيعة فيها ارتعاشات السنابل تحت السنابك واحتدام الخشب ساعة التميمة. تتجرجر حيث الأرض تلقي بأقفالها في الكواحل جبّانة أو جنازة وهم العويل الأخير.
يا ملك القناديل،
استدر
هذي الخطى المنتعلة خفّ الخوف انحرفت عن عادة المسالك وهامت. أهدها واسهر على فجيعتها. استعر من زيت الحقل شهقتك الأخيرة واستدر.
تراهم يخرجون الآن من ثغر الحلم ويتزاحمون أفواجاً عند أبواب الغموض عند مضايق المنفى بلا سجادة ولا مشكاة.
تلك دروب أضاعت علاماتها فأضاءت جدائلها بالفوسفات لعل الشرفات تبصرها لعل المآذن تمد نحوها سبابتها وتدلّها،
تلك دروب تجري خائفة خلف من تركها وحيدة مع بكاء النواعير. تراهم يخرجون الآن من نفق النوم ليدخلوا ألِفَ المنفى ولم يبق لهم غير غبار أفق تائه
غير دثار رعبٍ حاكم
يا ملك القناديل
استدر
أدر وجهك شطر عويل يعلو لتبصر الأيائل المتخمة بالجروح تعدو.
من أين جاءت هذه الأيائل تتراكض كأشعة الخوف مثل الحب موغلة مثل الحقيقة.
جحافل بلا مرشد ولا جواشن كأنها انبثقت للتوّ من مغارة زمن غابر، شعارها الحزن والتهاليل.
يا بنات الأقاصي، أنا الأرض التي ترتاح لوقع أظلافك، أتباهى بقرونك المطرزة بحبات الرمان. لكن من أين لكِ كل هذا الدم الدم والأشلاء، كل هذه الغربة التي نتأت في المساءات الوسيعة فتوشح بك الغروب؟
تعالي أيتها المضرّجة بحنين الذبيحة وهلع الهتك، أيتها الخالدة في القنص والرحيل. لن تكوني منذ اليوم في مأمن أيتها الطريدة الجميلة. إني مفتوحة لك أبواباً ليس لسعتها أقانيم ولا تجلو عن النهاية. مفتوحة أحراشاً ومهاوي.
هل دلّك عليّ الطير أم الكمء!
أنا المفتوحة على السرير الأقصى حيث ليس لأمانيك غير الشوك والشرَك، الغياب. ترابي سجادة لك وسروجي الحرس لكن لا نافذة للنهار.
أما يزال طعم النبع يعرّش أحداقك؟
بعد اليوم لن تشربي ماءاً عذباً، ولن تختزن أحداقك سوى النأي والمطاردات.
تضرّعي إلى سيّد الماء ليدفّق القطرة في كبدك اليابسة. كوني عبدةً للطحين لتتعلمي لغة الخبز
وتعالي
فمن أخافك سيخيف خيمتك وخائنيك
تعالي
يا هاربة من صيادٍ إلى قبيلة لن تصطاد سواك. توزّعين دماءك كالوشيعة في حدود خرائب تسمى مدائن. تدشّنين حائطاً للبكاء وجبّاً للأمل. أنا لكِ، عندي لكِ رعونة الغبار فزع الكمائن.
ها أنت تغمرين الأفق بعصافير ملتاعة قدّر لها أن تتجانس مع تضاريس الهجرة.
عقدت الأيائل أغصانها وربطت القميص الأخير قالت هذا هو البيرق الذي لن يهوي قالت وأعطت أكتافها لصقيع الصحاري وانهماك الريح.
نتجرجر كأن الأرض صلصالها دمٌ ودمها كلام يلبس عادة التشفي. نسحب أعضاءنا ليس تعباً لكن عشقاً والتضاريس تصهل، كيف من أين جئنا إلى أين تركنا وسادةً مكتنزة بالأحلام. هجرنا لعل هذه الصرر المكتظة بالمفاتيح تنقذنا من اللجّة تحمينا من الجلجلة. من سيحمل هودجنا عندما يحين وقتنا؟
قال الشيخ: لا أريد أن أموت في أرض غريبة.
وحدها الحقول تفهم الطين يتعاطف مع انكساراتنا، حنين حنين نحنّ إليك يا جرّة السهر.
أرخى القنديل أيامه وكسر ضوءه. مدحوراً يرتّق آيات بيت تخلّف عن الركب، ويصيخ لبكاء زيتونة هجرتها الأصابع. في طريق مرصوفة بالنشيج صار يباهي بالدم المنذور للهدر .
أغطيك بأعشاب ودمع، أسميك خطى تصعد الرمل
أعطيك التل والمرايا، والبقايا تيجان لأطفالك
إذا مرّت يداك ارتج صدر الصحراء وانتحب.
يا دهشة التيه يا صخر، كن هودجاً جبيناً إلى الريح. هذي القدم المذعورة تخرج من دفئها تضرب الهواء كن لها بادئاً تلك أيامها البادئات
جثة أم جنين؟
امرأة مترعة بالخرق والصراخ ليس لها غير أطفالها وأجراسها كنائس الخرائب. كن لها فاتحاً، فالصحراء التي تحتضنها اليوم ستقتلها في الغد. غدر؟
جثة أم جنين؟
ترتدي قماش المسالك ترضع الأقاصي. أطفالها أشلاء ومراثي. فتحت دارها للغريب فضاقت الحكاية بالضجيج. يوماً ستصير الحكاية خرافة. تقبّل شفاعتها يا صخر وافتح لها الحنين. لا بأس أن تغلق الفضاء لكن اكتب لها أن تغوي كل من أغواها
هذه السيدة الواثقة من عذابها البادئ
بكت. تحوّلت. صارت تيهاً يخوض فيه شعب فقدَ بوصلته.
الوقت يرصد غفوتها، يحصد يقظتها، يصادر مواطئها
فرفقاً بهذه السيدة التي ترفل بالحرائق وأخلاط الجوع. خرجت من الدار إلى الدوائر تفتح أقواسا ً وتدخل، تنهال عليها المراثي وليس لاسمها ترجمة
هيا
انزلي
في
هذه
المسيرة
ملك القناديل بيرق لك، في أحداقه شهقة القرى والقرابين
يروي
رأيت القرى ترفل في ترف القتل والمخلوقات تتكاسر خارجة من الجحيم المزدهر. رأيتها تتكوّن مثل الوردة شلواً شلواً والأبناء يمزجون الحنجرة برغوة الرماد والجرار تتدافع في فزعة الصبايا. لم يكن النصل إلا فسحة لغرغرة الدم والدم يرسم قوساً طرقات والطرقات تتقطر أقداماً تنهال في شعث الأسماء وكان الله يراني أدفق ماء زمزم في ياقاتهم ليتدفأوا كسرة خبز ليشبعوا يراني
أفتح خرقةً في صلاة ٍ
أروي إسراء الروح في شهوة الجوع
تراءى لها رواقاً فسيح الأرجاء يفضي إلى مدخل له شرفة والشرفة مفتوحة على حوش مبسوط بالسندس وللحوش سبع قباب كل قبة أكثر علواً من الأخرى فلا تكاد العين أن ترى باطن السقف وعند نهاية القبة تمتد بركة تفيض ماءً ليس كالمياه مذاقه أكثر حلاوة من العسل وخلف القبة درج يفضي إلى إيوان وفي الإيوان يمتد نطع ليس لأطرافه حد وعلى النطع أصناف من المآكل والمشارب إلى الحد الذي ليس له عد وكان الخبز سيد المائدة فلما أدارت رأسها تبحث عن الناس لم تجد بشراً رأت كائنات أجمل من البشر قالت لها نحن الملائك الذين ينتظرونك منذ الخليقة الأولى وهذه المائدة المنصوبة لك موجودة هنا منذ الخليقة الأولى ومنذ الخليقة الأولى كنا نعرف أنك تأتين فاعددنا لك كل هذه المآكل التي لم تدر في بال احد وكنا نعرف أنك تجوعين إلى هذا الحد وكان لنا أن نحتفي بجوعك وكنا نعرف انك تعطشين إلى هذا الحد وكان لنا أن نحتفي بعطشك منذ الخليقة الأولى لم يبرد الطعام ومازالت رائحة الشواء طرية مثل عطر الوردة والفاكهة كأنها لم تزل في أغصانها والشراب المعصور كأنه هذه اللحظة هي مائدة الشريدة الجائعة التي تأكل كما لم تأكل من قبل كما لن تأكل من بعد
تراءى لها وكان الخبز سيد المائدة
طوت ركبتيها وركعت حتى مسّت بأناملها طرف الرغيف وانتابتها الرجفة الآسرة فقد كان ساخناً يلسع برودة أطرافها وعندما رفعت الرغيف انكشفت تحته فجوة عميقة ليس لها قرار وبغتة هاجت الفجوة بدماء ساخنة أخذت تطفح وتفيض وبدأت تغرق الأواني الملآى بالأطعمة وتسيل حتى تغطي رخام الإيوان وتتسرب تحت ركبتيها الراكعتين دون أن تقوى على النهوض كأن أعضاءها ليست لها وكان الدم سيد المائدة والرغيف الذي في يدها استحال شريحة لحم بشري ترتعش حية بين أصابعها التي لم تقو على تركها وليس لها سلطان على الاحتمال وعندما أدارت رأسها لتنظر إلى الكائنات التي قالت أنها الملائك التي انتظرتها منذ الخليقة الأولى لم تبصر إلا أجسادا بلا رؤوس تتمايل ومن رقابها المقطوعة تطفر دماء غزيرة
تراءى لها أن الجوع قد غرّر بها وأنها لن تنال شبعاً
تراءى لها أنها تموت
صرر تتساقط من الكواهل المتعبة وتتناثر محتوياتها كأنها إشارات أو معالم ترشد من تخلّف عن المسيرة.
عجوز تحتضر، ترسل الأنفاس الأخيرة وفداً إلى البيت العابق بالرياحين الذي احتله الماضي.
أخرى تسدل الصباحات لعلها تختصر الأبعاد في مقلتيها.
ظهور احدودبت قبل الأوان. أفواه تختّزن الغبار.
الطرق ملغومة بأسرار الحصى وصلاة الغصون، والقافلة تهيئ حيزومها لطينة جديدة تفتح أختامها وتدعو الملطخين
برعدة المطاردات
بتعب الطين
بخديعة الموت
هذا نشيد تنحته الجموع في
تضاريس الوقت
بياض الفجيعة
أشكال الوضوء
يفتتح الطقس بركانه البارد. التقوا وشَدّوا شراشف الأرض الممتدة من بؤبؤ العين حتى آخر المجرّة، يمشون تسبقهم آلامهم تتقرى المضارب الفسيحة التي لا تسعهم وليست حماية لهم. مرّوا، على كواهلهم تلاوين المجد والقش. انتضوا الأحجار والخرق وبقايا قديد لم يكمل دورته في الحلق. تنكّرت لهم الأقاصي وهربت من أمام خطواتهم الطرق التي نحتوها لفرط ما طرقوها. بعضهم يموت وبعضهم يؤجل موته.
يهيمون في وحشة السبيل. تحتدم أقدامهم في اقتفاء مواطئ هاربة، تتعثر كواحلهم في أوصال جيوش مهزومة وسوف تنهزم، في حطام عروش على امتداد اليابسة، في خيانة دويلات ونتانة أحلاف، في مناورات ساسة تحْدق بمصائرهم، في جمر فصول ولهو مفاوضات ومواسم ذبح. كلما نظروا باباً استحال خندقاً. فوق هاماتهم تضطرب الجغرافيا فيتشبثون بالمفاتيح. تحت أقدامهم تتكوّر السماء فيمعنون في الشك. تتوزّع أعضاؤهم بين الشعاب يطلبون راحةً في خرائط أخرى.
أفواجاً عبروا الحدود، تتقدمهم الهداهد الجاهلة، مصبوغين بالطعنات وأختام الاقتلاع. دخلوا بلا نواقيس ولا ذرائع، عزّلاً إلّا من أسمال اهترأت وحناجر تشقّقت. أحاطوا بالقرى المبثوثة كالبثور، تناثروا في الأقاليم. وعندما استقروا هنيهة تذكّروا موتاهم الذين تركوهم في الطريق بلا ملاك يحرسهم، أو قبر لائق، أو زهور صديقة ترطّب حدائقهم الموحشة.
كيف نرثيكم يا أجمل موتانا؟
يا من اكتفيتم بتلويحة متعبة، كأن يد الله تستعجلكم، ومضيتم بعيداً؟
أهرقت دموعي على جسمك الرهيف رجاة أن ينهض وتعودين يا أخت كما كنت: صغيرة، صبوحة، عذبة كالثمرة. أردت أن أشاطرك سريرك الضوئي لكن حال بيننا حاجز من التراب الشفاف. رأيتك تقومين من قبرك يحففن بك صبايا مليحات الوجه مزركشات بالزمرد مزخرفات بالنرجس، لهنّ طلعة بهيّة وثغورهن المضيئة تفترّ مبتسمات لك كأنما يدعونك إلى حفلة ميلاد أو عرس. وأنتِ تمشين بينهن في خفَر لا يواري فرحك.
كنتِ توأم الضوء صنو الغبطة.. بيضاء، بيضاء أجمل من القرنفلة أشهى من الفاكهة. كنت النسغ الملائكي وهن الينابيع، لوقعكن رهرهة الثلج حين يلامس باطن القدم الطريّ البساط العشبي مدغدغاً زغبه. ورويداً شرعن في الإنشاد بصوت عذب رخيم بينما الحلزونات الأرجوانية تتصدر الموكب وتقوده صوب كورس البجع المحتشدة في مراكب شفافة راسية فوق راحة المحيط، آنذاك أيقنت أنك موعودة بالصومعة المائية في فردوس المحيط.
قال الشيخ: سأرجع، لا قبر هنا يسعني.
منعوه خوفاً عليه، لكنهم لم يقرأوا ما كان يجول في خاطره. لقد تظاهر بالنوم فيما كان يرسم في المخيّلة شكل نبع يفيض فتتدفق منه خيول وفرسان وسعفات وأعراس وأجراس وقباب ودفوف وحشائش ونواعير وبيوت صغيرة وبيادر ومزارعون وسهول وسناجب وعنادل وطرقات وزغاريد وقرويات يفتحن أذرعهن ضاحكات مرحّبات بقدومه: "أهلاً يا حبيبنا.. لقد غبت عنا طويلاً."
ارفعي يا زينب الخمار المرصّع بالياقوت ليلمع ذقنك في مرآة القلب حيث شظية الله كانت لها السهول بهواً تنداح بها والصبْية يدورون حولها كأنها النقطة وهم الدائرة يشحذون نظرة تغسل المرايا المرصوصة بين العظام يجهشون بالحب وأنتِ تهدلين كالنسمة كأهداب الكون والله لأجعلنه أحلى عرس وأجعلنك أحلى عروس تتمايلين مع الحنطة كالحنطة بين النساء أنت الأشهى بين الحمام أنت الأبهى فهيئي الزناد خضّبيه بالحناء لأطلق من الماسورة أربعين طلقة في أربعين ليلة تميد خلالها الساحات نشوةً في صخب الأقدام التي ترسم دبكتها حتى الحجلان ستتقن الرقص في الليالي الأربعين ستصدح العذارى المتبرجات بالأهازيج كلما مالت هوادج الموكب عدّلتها النوارس والأرض لها فتوق تحضن زغاريد تحتفي بالعروس وكل هذه الصافنات تحمل لك الهدايا للنساء المسفوحات على شرفات المدن سأسرف في الولائم لا أدّخر ذبيحة للفاقة فلتأت القوافل حاملة البركات وأبناء المخاتير يضربون كفاً بكفٍ جنّ الفلاح ابن الفلاح ولا يفقهون سرّ جنوني إذ آتيك يا زينب فوق الحصان الأشهب ومعي كوكبة من الفرسان الضاحكين المشمري السواعد لا لأختطفك بل لأسكنك فسيح جناتي هناك ألا تسمعين القرى تتنادى جذلة بيوم المسرّة أطوف القرية مع حصاني وأنت أمامي شاهقة أكثر علواً من التضرّع والله سوف أهيئ لك دفئاً وهذه الأصابع التي اخشوشنت شوقاً ستكون أساور في معصمك وهذا القلب قلادة تتقلدينها في الصباحات تذرعين الحقل بخلاخيلك الشامية تروّضين ما لا يروَض وتسوقين الجداول الداجنة كيفما شئتِ وإن شئتِ لك الوقت سجادة آن ترخين تضرعات الطبيعة على أعطافك وأنا وحدي في رفقة الجنون أرى انتظارك الغامر يكشط اليأس ينتضي سلاحاً لحنايا روحي وحدي عالم يتجمّع في فسحة القلب أتجمّع على حدودك كأني النطفة أو الحنين الأول الأخير هنا أعدّوا السرج يا شباب فإن صبر زينب يكاد ينفد من طول انتظارها عند البيدر ولا رفيق لها غير النوارج وسلة ملآى بالكرز تلوّح لي من بعيد وذلك الألق في عينيها غرّة النساء زينب واقفة عند المشارف كالنخلة تتسامق فعجّل أيها العكاز بي وجع من الشوق وفي صدري حنين أنا الطاعن في الحزن المارق في عصب المراثي وأنت المطلّة على احتمالات الأرض وخبيئة الدهشة منتصبة كرمح الغابات صخرة الأعالي منتورة نافرة تمتدين في ذاكرة نساء لا تبلى لكن من هذا الفارس الذي يشطر اليابسة نصفين فوق جواد ينثر الخبب مثل الأرز والفقاعات تتموج من حوله وخلفه إعصار مهذّب يتأبط الصخور المائية ويدفع اللغات الهدايا وما أشمخ أحلامه هذا الطود الذي يهدهد ريشة الغيم لكن لماذا يطأطئ الجليل رأسه ويمضي بعيداً كأنه لا يعرفني ولماذا هو شاحب هكذا ووحيد إذن رجرجن أثداءكن يا بنات لئلا يقال أن العُقْر قد داهم ديارنا أديري الرحى يا زينب واطحني الزيتون فمن دثارك تنبثق السخونة اللافحة تلفحني وتصطفيني للحمّى زندك وسادة ومن الجديلة تنطلق يمامة زوّجوا الفارس أحلى صبيّة كنتِ وهذا عرسنا الألف فيه أهرقنا رحيقنا ولقّحنا عناقيدنا بلقاح عشب ينتفض كفرس الوديان الخارجة من الحظائر مسرجة بخضرة الجبال وقد أسّس لها الماء لغة هادنتها الوهاد شغفاً فلا فارس إلا وغلبته الغواية عندما تهشل بصليل الذخائر ارفعي خمارك المخملي فقد جئتك بريش النعام من أرض ليست أرضي وبلاد لا تسع أحلامي وأحداقي نسور متغطرسة تراقبنا نتعانق في فصاحة الدم نمتزج في رغبة الماء كان اللقاء الأول تحت الغصن المرصّع بالندف وحين غادرتُ رأيت حفيفك وأصغيت يا شجرة الريحان ظلك يسع مداي ومداك البحر البعيد الذي أشاطئه في الرؤيا حط الوقواق على كتفي أخيط لك السهل بإبرة الفضة آنذاك أنسج مقبض الحلم وأبسط شفرته بساطاً تمشين فوقه باختيال بين القرويات حاملات الجرات يتأودّن وكنتِ الأشهى وكنت الأبهى لكن لماذا يدخل أحفادك نفق القرابين عند كل سرادق منصوبة لطقوس النهب ولم نر في الجنازة غير الفقراء قلت سأبيع الخيار في المدينة إذا اقتضى الأمر أفضّ أحداق الكون بإبهامي غير وجل إذ تكونين لي فيئاً يشاطرنا كل عابر سبيل متوحّد مع كوفيته ولم أسمع حين قلتِ خذ الحيطة ولا تذهب وحين قلتِ تدرّع تقمّص لكن لا ترحل وها أنذا يا زينب شدّي الناعورة من فروتها فكلما اقتربتُ نأيتِ لماذا كلما أرخي قبضتي على العكاز أهفو إلى حضورك في المسامات وأنتِ لا تصيخين إلى حشرجتي الذائبة في الريح اسمعيني بالله عليك لا تسدلي صدرك أضيع ضاع الجبل الدرب الدار ليست هنا لستُ سوى هائم وكل المسارات موصودة بالتيجان آن أن تكشفي النقاب عن عورة جيش الإنقاذ عن مكر الملوك حسبي كفاف يومي لك أيتها المليكة خدعت الوقت خبأت البلابل المجنونة تجيء أجيء إليك مأخوذاً باحتمالات الغموض وَعْدِ الشظية مدخراً لك شغف الخطوات بها أستطلع احتضار النجوم وقريباً يسطع الجبل في جبهتي عند الناعورة اسفحيني يا زينب تحت إبطيك ثم أدخليني بحر الغرابة أجعلك دهشة الأوطان ودهشة كل من رآنا ننتشل الصغيرة التي وقعت في البئر وكانت تضحك بوضوح أراها الآن البحيرة ساعة انزلقنا فيها وسبحنا معاً بين جذل البدو وخجل طاحنات الحبوب اللائي يرمقنني طافياً أجيء إليك راجياً أن تحكمي الشدّ على ساعدي مبتهلاً انتشليني زينب واقفة في العراء مشعثة الشعر بلا سقيفة تظللها أو عريشة تضمّد سخونتي كي أبتهل انتشليني عندما تحتشد النوارس على شاطئ بيتنا أنزاح عن وشيعة أضلاعك فتشهقين في ذروة الرغوة نهبط معاً في جسد واحد وبقايانا تتشبث بنا لئلا نصير نثاراً في الحقل أراك من بعيد كما كنت في الليلة الأولى من الليالي الأربعين تنظرين نحوي لكن لا تلوّحين فأسأل ما شأن هذه العقارب بي ثم أهمس بي لوعة ووَجْد وأهمس من هنا مرّت العربات وكنت أقتفي آثارها وخلف الهضبة تختفي بغتة وإذ ألتقط الهضبة بيدي تنهمر الرمال اللاهبة ولا أجد في قبضتي سوى عجلة قديمة تصدّأ دولابها وبيت كان يحترق على مهل وقرويات أنتِ بينهن الأشهى وأنتِ الأبهى تجيئين يا كلّ عمري تجمّلين مواعيدي أحلاماً وأقول كم هي كثيرة هذه الأجساد التي تتوالد من جسدينا وكنتِ منذورة لرياحي معتصمة بي أيتها المعصومات يا بنات الحقل الواهبات أناملكنّ أشرعةً لنا غير أني انتفضت حين التفتّ حولي وصرخت من جاء بهذه المسوخ المحْدقة بي تنحر حواسي ولا ترفق بي يا زينب أطلي فقد رأيت فلاحاً يهب منجله إلى قاتله قلتُ هذا شعب يدّخر دمه لأوعية السلاطين هناك يريدون مني أن أخلع الخرقة لأرتدي عراءً يهادن الوقت الذي يحاذيني فأحاذيك وتديرين لي ظهرك دون كلمة فأعرف أن في البؤبؤ بازٌ يفقأ مقلتي آنذاك أهتف ارفعي الخمار كي أتمرآى في وميض ذقنك المشعّ وأصير مائلاً من الانبهار وتميل المصبّات صوبي ومن جدائل المطر أبني بيتاً لكِ أنسج الزمن ثوباً لك ولا أطلب شيئاً لنفسي غير أن تنظري وتكلّميني فمن أجلك جئت أسحب أهدابك غطاءً لجسدي البارد وجسدي المتعب غطّيه يا حلوتي غطّيه فمن أجلك أنتفض وارتعد واحتضر وينحسر عني الرداء وما إن أهتف باسمك حتى أراك تقْبلين الآن مبتسمةً الآن الأحلى والأشهى والأبهى كما كنتِ وكما تكونين تقْبلين يا أنتِ ضميني إلى صدرك الآن وامسحي هجرتي فمن أجلكِ وحدك جئتُ.
عاطلون إلا من أمل مستكين في كوّة الصدر يزقزق بالرجوع لكن الأجسام هزلت والشفاء تراخت من فرط الترتيل ولا نجاة من الموت إلا بالموت. صار الأمل يتضاءل وينزلق من الجيوب المثقوبة وكل أقنعة أصحاب الفخامة والجلالة أخذت تتمزق كنسيج مهترئ لتشفّ عن خيانات لا تُحصى وحُكْم يتآمر علانية وفي الشرفات الملكية يلمح الشعب ذيل طاووس يستر العورة كفى بيانات يا أمم كفى طعناً يا مَخادع جهورية سنمضي بهدوء دون أن نخدش حياءك في المجالس.
والمدائن تتقهقر أمام الزحف المجذوم، تتبرأ من الخطى المقهورة الراغبة في المصاهرة، تتحاشى محاذاتهم كما لو كانوا لعنة أرسلها الرب لتدق ناقوس الوباء، والعروش تطل من طاقات قصورها يثلجها هذا النزوح الوديع وحواة البلاط يلبسون دور الرزانة ويتفاوضون كفى تهريجاً يا خرائط المشرق فها نحن نندحر بعيداً عن فجورك تواكبنا الفصول لقاء حفنة من الدم.
عَمّدوا أصابعهم بالدم، أسرجوا كواهلهم بالصرر وتقوّسوا في درب المنفى تؤازرهم فصائل الزواحف التي تبرز رؤوسها بين الشقوق وتترقّب هذا الزحف المبهم: مَنْ يستضيف موتك غيرنا، من يتعاطف مع أسمالك غيرنا.. تلج الغامض المحصّن بلا درع. تهندس مداراتك الوهمية، كعب في الجدْي كعب في السرطان، وأضلاعك مشرّعة للغزو من كل صوب، إبق يا سيد المسافات، زحفك يتقرّى فاحذر.
البقاء في هذه الأمكنة أيضاً له أحابيل ليس بوسعهم تجنبها، لذا تابعوا سيرهم.
كان الجغرافيون يشطرون القارات بمعاولهم حين مرّ شعب الجهات قرب السور القرميدي ووطأ الإسمنت والقار ماضياً إلى جهة ليست قاطنة في البوصلات.
توقف الجغرافيون عن العمل مشدوهين لهذا الاختراق المدنِّس لتعاليم الجيولوجيا والذي لا يخطر لبالٍ، ثم أخذتهم الحماسة وولع الاستكشاف فتركوا معاولهم ونضوا عن أرساغهم الساعات وبدأوا يهرولون خلف الشعب الذي كان يبعثر خطواته الواسعة في أنحاء المراعي المأهولة بعرافات نائحات يتربعن تحت شجيرات لا تورق، فوق أغصانها الشوكية تتدلى الأباريق وقرون ثيران ذهبية، بينما النجوم المتوارية وراء الكثبان ترشق آثار المسيرة بالطباشير لتضلل الجغرافيين الذين لم يتمكنوا من اللحاق بها فلبثوا يتحرّون عابر سبيل أو منجّماً يدلّهم على من يبلبل الجهات الأصلية والفرعية.
ثمة أرائك رخامية يجلس عليها الخزّافون المتأبطون فخاراتهم وهم يرنون في استغراق إلى سهل تمرح فوقه الظباء. أحدهم يشعل لفافة ويدخنها بنهم، آخر ينهض بعد برهة ويضع الفخار برفق على الأريكة ثم يستدير على مهل ويمشي بتوءدة نحو امرأة ذات شعر أسود طويل، ترتدي ثوباً أزرق يغطي قدميها الحافيتين، واقفة عند سور بيت متهدّم. تنظر ناحيته وعندما يصل إليها يبدأ في الحديث معها، لكن الخزّافين الذين يرمقونهما لا يسمعون ما يقولانه ولا يفهمون إشارات أيديهما. بعد قليل تبتعد المرأة وتدخل البيت. يظل الرجل عند السور الأبيض المتآكل، منكس الرأس، واضعاً يديه في جيبي سرواله وينقر الحصى بحذائه المطاطي ثم ينحني ويلتقط حجراً يرميه عالياً بكل قوته، وبينما يتابع انطلاقة الحجر في الفضاء تجتذب بصره نافذة في الطابق الثاني من البيت نفسه فيلمح صبياً يطل من خلف زجاج النافذة. الصبي يتأمل بائع بالونات أعمى يسير بحذر خلف الأرائك لئلا يصطدم بالعرّافات اللائي – وقتذاك - يتمرّغن في الرمال غير أنه يصطدم بطفلة مبتورة الذراعين فيبتسم معتذراً ويختار بالونة صفراء ويمد يده نحوها لتأخذ البالونة إلا أنها تضحك في خفَر ثم تتنحى عن طريقه وتبتعد وهي تتواثب في جذل أما البائع فيلبث في مكانه فترة طويلة، مبتسماً، مادا يده والبالونة تتأرجح دون أن تتناولها يد.
إنها البلاد المصقولة بذخائر القنص تلك التي تفرش لك الآن عتباتها لتصعد مخموراً بخمر الأمان، والدَرَج الأخير يفضي إلى جناح يعقد لك أنشوطة في دائرتها المسنّنة ترقص الجنيّات اللائي يرفعن أطراف تنانيرهن لإغواء ساعدك،
تمهّل:
ما من مذبحة إلا وأنت رغوة الكأس فيها،
ما من جزية إلا وتصطفيك،
وتلك العواصم التي تجهض انتفاضاتك سوف تحيك لك تابوتاً من جلد الأفعى يجوب بك محيطات أنت غريب عنها.
تمهّل:
إنها البلاد المغسولة بالشراك تلك التي تسنّ الشرائع المراوغة بيدٍ وتسنّن السكين بيد.
البوابات كانت مفتوحة فدخلوها وتشتتوا مرة أخرى.
يا أهلنا جئنا نسألكم عن أهلنا، فهل لديكم خبر يفرح؟
الخيام
ندوب تفضح
بشاعة الأرض
تبدأ الأرض المزدحمة بالعناصر المذعورة تفتح أسوارها، والسماء المستثارة شريك شاهق تحنو، بألوان ليست للقوس ولا للقزح، على ولادة الأسرار الغائرة.
سرٌ سريره فوهة الكون، يهبط إلى الأعالي ويصعد إلى أعماق مأهولة.
لم يكن ضوءاً هذا الذي يأخذ شكله من نظرة الدهشة، يهندس الطبيعة على هواه. شالٌ تتشح به الأرض.
أرضه حيث له الحفائر وحظائر الناس وشغب الحيوانات وبراءة الغصون. طلوعٌ ترسله الأعالي في هيئةٍ من فضّة المصادفات. موسمه يملأ الأفق بآخر التوقعات مثل غياب التيوس الحمراء في عتمة الجبل. عتبات الأرض تتقافز لتحضنه بحنو.
انتظار هنا توقّع هناك. آتٍ، هذا الهيكل الهائل الذي من سديم البدايات تنتهي عنده المشاريع وخفقة الأقدام فوق نشوة السبيل. آتٍ، يضع أطرافه على مفازة شهقت من طينها من مداها.
هيكل من الوهجِ. كل هذا الجمال. هذا الجمال المتوحش يتشظى ببطء. يتهادى في اندياح كريشة في سلّم الهواء تنساب تهب المربعات والمثلثات تستدير تستطيل تضارع العلوّ تهيمن على الشسْع تهندس الأفق تنساب تتقوّس تتحلّق تصير لها هالات تكلّل الأرض التي صعدت في شغف وانبهار.
ريشة ترسم وتندفق، ليست في عجلة من أمرها. والوقت لا يكاد ينمّ عن بدء أو نهاية، نهار أو ليلة، جحيم أو جنة.
لكن الهيكل الذي من هناك يتجلى عن فارس بهيّ البياض، يتخلّق بين غموض الرؤيا وخصوبة المرايا.
من هذا الفارس المهيب تصحبه التوقعات؟
لا أحد يسأل
لا أحد يرى
يرى إلى العالم بسطوة المهيمن.
حصانه في الصهيل أرقط ينفث من خياشيمه ضبابٌ يصون إيماءات سيده. فارس جميل على صهوةٍ، بيده منجل يشغل الفراغ الذي تزرعه الخطوات كقلنسوة للفضاء. يرى إلى هنا حيث المخلوقات في طور ذهول بين واقع ووهْم ليس بينهما حدّ. يرى إليها بأحداق تتسع كلما اقترب، تصير مشرّعة مثل كهف كلما مسّها بنظراته. تتصاعد من كتفيه طيور مائية مناقيرها نافورات ترسل شباكاً لأعالي المدن وتفاصيل القرى. تتفصّد المخلوقات. يلامسها بحنان نظراته. منثورة في خيام. يتجول بين الخرق الكبيرة المنصوبة فوق الصلصال. كل خيمة تفيض بأنفاس العناصر الأخيرة.
صبيّة
تفتح للأرانب قلانس كانت مخبأة في إبطها وكلما
اندسّ أرنب رهرهت ضاحكة فتطلع الفراشات
الهائجة من بين أسنانها.
كهل
يتقمّص طاووساً ويرسم أبواباً كثيرة. يولج أصابعه
في محاجر كل خشبة يعالج أسرارها. مفتاحه
ترقوة مازالت مكسوة ببقايا أديم بشري، يسبر
غور الخشبة: "افتحي طريقاً لهذا الخيط
المهلهل، نصفهم مات نصفهم يموت نصفهم
سوف". ومن كل ثقب تخرج حيّات وثعالب
وخوذات. يرفع رأسه صوب الفارس المتعالي
القاطن صهوة حصان منتور الرقبة:
"ماذا تريد أيها البائس، من يقدر أن يأخذ
شيئاً ليس موجوداً؟"
حصاة
ترتعش لمرآى الحافر وهو يهوي، فتقذف
بنفسها بعيداً عن مهوى الحافر، تصطدم بقدم
صغيرة لطفل يعاين حرية الطريق. يثغو. لماذا
هي صعبة صعبة هكذا؟ يثغو. والحصاة تتألم،
لا يقدر الحافر على حصاة، والفارس يطرد
العقبان التي تتكاسر في عرف الحصان، حصاة
تهدهد قدم الطفل.. هكذا هكذا.
امرأة
تقود نسوة حاسرات، شعورهن تتوهج جمرات.
يلصقن شحمات آذانهن بجدار قلعة، يصخن
بشهوة مسعورة إلى أصوات مبهمة، فتنمو
لأعضائهن غصون مثقلة بسلاسل وغربان معفّرة
برماد ساخن. والمرأة تسكب في الأقداح سائلاً
من دورق صغير يملأ كل الأقداح ولا يفرغ. تفيض
ويمشي السائل في خفَر بين الأقداح والأقدام
تتهدل أسمال النسوة والفارس يشحذ نصل
منجله بعويلهن ويرنو إلى الضحايا في إشفاق:
هذي أرواح هشة كالدخان، كيف أجسّها بأناملي
دون أن تتفتت؟
يلكز الفارس بطن حصانه يدنو من خيمة تتهلهل بفعل الريح. يغادر مهاميزه ويترجّل. تطاله الأرض فتحمله إلى داخل الخيمة. يجول بنظراته كمن يبحث عن فرائسه فيرى الفرائس غزالات تحاصرها النيران تلهو بها. هياكل ذائبة بلا مأوى ولا شعير. عيون غائبة عن النظر مشدوهة بالقادم الذي يملأ شواغر الخيمة.
عظام ناتئة تتكسر عند ملامستها أحجار العتبة. كل هذا الهزيع في خرقة تكتب فيها الريح. من يقدر أن يأخذ شيئاً ليس موجوداً؟
صوت هرم مثل صدى جرس حجري قديم.
أشكال ضعيفة تهزم الفارس الذي ليس للهزم. يتململ. يخرج من الخيمة. تطاوعه المعادن المتشابكة في مدى أكتافه. خوذة مثقوبة تطفر منها أشجار الريح حتى تتصلصل الفلزّات.
هذا شجار مع الطين
هذا وقت تكتبه النساء في هامش الطبيعة
هذا أزميل يكالم الثواكل ويحرّض البحيرات
هذا شكل الأحياء الذين
هذي لغات لا تحسن المخاطبة
يلمح وعاء فارغا، يضع منجله جانباً وينحني. يدان شاخصتان في طين الإناء. يدان. لغتان. من أعطى لمختلج البياض جماد الأسماء. قبعة اليتامى. يدٌ في فضّة الصلصال. طين سيّد. قصعة تطفر منها موجة من بياض الحليب يتطاير يتناسخ حمائم صغيرة تعلو الواحدة بعد الأخرى فيصير الفضاء قميصاً يغمر فراغ الطبيعة والحمائم تتمادى وتنتقل
مرةً على وتد يشدّ الخرقة
مرةً على غيمة ضيّعت مسالك
لفجوة الرمل الهاوية
مرة
على
كسرة
الكبرياء
الموزّع بين دار مهتوكة
ودروب مجهولة
مرة على كتف لاجئ
بلا قماط ولا علامة
حتى أوشك الأفق أمام الفارس أن يصير كلاماً من الحليب لفرط الحمائم التي تتناسخ وتطير من القصعة.
بغتةً، يمرق طفل قذفت به قدماه إلى حيث لا يدري. عيناه مبثوثتان في المكان الأبيض تسألان.
إسمع، يهتف به الفارس الجميل ذو القصعة ذات الحليب.
إسمع، يستوقفه ويتقدّم نحوه بالقصعة.
تعال من عطشك الشرس، هذا الأبيض لك.
إشرب حيث لا ترتوي ولا يفرغ الإناء.
طفل نسى عادة الماء، في حنجرته شوك استطال حول صوته.
تأمل القصعة وهي تبعث بحمائمها صوب الفضاء المتعالي. كيف يشرب كل هذه الأجنحة؟
الفارس يترك ليديه تدنوان نحو العطش الفاغر. إشرب. يضع الطفل شفتين ناشفتين على اندلاعة القصعة فيطشّ الريش أمام عينيه.
من أين لهذا الفارس الغريب أن يملأ القنص بذخيرة الظلام. من أين للشوك كل هذا الاحتمال في مواجهة شلال الحليب المصطخب.
يمسح الطفل نثار الريش من شفتيه بكّمٍ مهلهل تحوّل لونه الأول
ـ ما أسمك أيها الفارس النبيل؟
ـ أدعى الموت
يكافئ الفارس بابتسامة مشحونة باليأس ويستدير كمن يواصل رقصة تعثّرت برهة.
الطفل يبتعد، يكبر كلما ابتعد، تعلو قامته كلما ابتعد..
والفارس يواري غموض ابتسامة لم تغادر.
يضع القصعة في الهواء فتطير. يأخذ منجله المنتظر هناك. يخترق الفراغ الذي يشغل الفسحة بين صهوة الحصان ومهاميزه.
يسرّ لحصانه كي يسير خارج المخيّم.
في الخارج يترك الحصان والمنجل والمشاريع المشحونة، يطلق للجميع حرية الحركة، ويبقى لحظة في وقفة الرفق بهذه المخلوقات الساكنة.
يسند جسده المتعب على جذع. هنا يعتزل مهمة الطاعة.
ينظر ناحية المخيّم، يتأمل،
ينتظر الشتاء الذي يشحذ العربات الثلجية.
أقبل الشتاء بمعطفه المنسوج من وبر الثعالب يتذرذر من ياقته الثلج، وحين يفرك يديه يتقطّر من أنامله المطر. حلّ بيننا ضيفاً متطفلاً: يغفو قليلاً فتصعقنا أنفاسه الباردة، وعندما يصحو يُخرج من سلته الخيزرانية مكبّات ملوّنة ويلهو كالحاوي بالخيوط النارية مدوزناً رموزه العنيفة: برق ورعد.
قلنا له:
يا سيد الثلج لا نريد أن نخذلك، كنا نعجب بألعابك السحرية ونصفق لمهاراتك، أما الآن فاعذرنا، رؤوسنا الحاسرة لا تستطيع أن تصدّ حتى الرذاذ. تعال معنا لنريك سبب تعاستنا. هنا الوحل يترجرج من فرط الخوض فيه، ومن صلصاله يصنع أولادنا الدمى والدواجن. وتلك خيامنا التي تعرّي أجسادنا.. لا تشهق رجاءً لئلا يُقتلع القماش الشفاف، ففي الداخل رجل يتحدث مع أمه الميتة. وهناك رجل مخبول يحرث الصخرة بمنقار عصفور، قصته محزنة ولن نرويها لك كي لا يتعكر مزاجك. أما إذا أحببت فلدينا حكايات مأساوية عديدة، وعلى أية حال ستشهد بنفسك فصولها الباقية.. وربما الأخيرة. من هنا يا سيدي لترى أحلى بنات القرية، كانت تقدر أن تسابق الظباء، أنظر إليها الآن وتأمل شحوبها، حتى الظباء لن تتعرّف عليها. أنهكناك يا سيدي؟ إذن استرح بعض الوقت.. هل أدركت سبب فتور حماسنا لمجيئك المبكر؟
أشاح الشتاء المتجهم وانزوى في بقعة بعيدة مهموماً مخذولاً أشبه بطفل عابث جاء يعرض ألعابه فأعرض عنه أهله. هكذا مكث هناك غير راغب في ملاقاة أحد لكنه نسي أن يحمل معه سلّته الخيزرانية لذا انفلتت الخيوط وراحت تسرح بحريّة في فضاء المخيّم، حيناً تشق الجو بسهمها المشتعل وحيناً تدوّم الرياح حتى تتشبع بثلج السماء ثم تطلقها..
هكذا سكنت الفوضى طقس المخيّم واختل الانسجام بين البرق والرعد.
الذاكرة توجع، تشهر أمامهم بلداناً صقيلةً كالمرايا يرون فيها بيوتاً تجري، أشكالاً تجري، حقلاً ينتحب وفي كل سنبلة مهاجر يرفو درباً.
موجع هذا النبش. أجدر لهم أن يوصدوا المقل ريثما يلتئم الجرح والمتاهة تصبح أقل التباساً.
شعب يستعير من السحليات الحيل بعد أن صار توأم الغبار، وبين الحين والحين يرهف السمع ويستقبل الفجيعة.
ـ أخبرينا يا فتاة الملجأ، ماذا تسمعين؟
قالت:
هبوباً ليس لريح ولا لموج. كائن من غبار له شكل بشري، لكن بلا ملامح، يحاذيني أينما أمشي كظل كجلد، وأنا خائفة من هذا الحضور المهيمن رغم وداعته. ماذا يحدث لو احتواني بأعضائه الرملية؟ أصير حجراً؟! التفتُ لكي أرى أحداً أعرفه فلم أر. كنت وحيدة في وادٍ بلا هوية. طويت خوفي ومشيت، والكائن الحارس يمشي معي، إلى أن وصلنا قرية مصبوغة ممراتها بالأحمر. كل شيء فيها أحمر حتى أشجارها وينابيعها وعنادلها. وما إن لامست أقدامنا تربة الساحة الحمراء حتى غاصت قليلاً في شيء سائل، تحركنا ببطء كما لو في نهر شحيح الماء، إنحنى الكائن وملأ كفّه بالسائل ثم شرب منه قليلاً وقال بصوت مرتعش: "هذا دم".
قالت النافذة:
أعناق ممدودة كانت تفتح المرايا الكثيرة على المشهد المطمئن حين لم يعد هناك مطمئنون في خليقة الكوكب. أعناق على خشبة التأمل الدامي كانت ترى من هنا، من هذا الشحوب المتربع. والجراد يأتي يجرّد ذؤابات المرايا، يثقب سلام الانتظار، يوازي هدأة الجرار المليئة بالغبن. أحفظ ملامح الوجوه واحداً واحداً. اصطفقت الأخشاب الرهيفة على الجانبين بفعل العصف المجنون الذي اجتاح الدار، ولم أعد بعدها أسمع هسيس الخطوات تنتقل بين الردهات والشرفات، بين أصص الأزهار المنتعشة وشراشف الأسرّة. بعدها بقيت هكذا وحيدة تسوّرني وحشة المستنقعات.. لا أحد يفتحني لا أحد يغلقني، ولم أعد أطلّ على شيء.
قال المساء:
عندما يلهو هواء المنحنيات بعطايا الأقدام كانت الأغاني المجروحة تتوّج نزهات كثيرة يقوم بها العشاق في هامش المساكن الطينية. أصير جبّة العاشق ووشاح العشيقة. ما من وسادة إلا وازدهرت عليها قواقع صفراء لا تسأم المنادمة. والأطفال مبثوثون مثل زنابق ضلت الحديقة، لا يروّضهم النوم ولا يحلمون بغير أعشاش الكناري المتألقة على حسك الغرف المشحونة بشهوة الأمهات. أتخلّل همس النسوة المتأرجحات بين الأسطح والعتبات، كل واحدة تنتظر مني أخباراً أو إشاعة فلا يحصلن إلا على مداعبات شقيّة حيث أسكب الطل بين نهودهن وأصيخ لصياحهن العذب. أخبئ للصبايا أحلاما طازجة لئلا يخطفها الزاجل، واجعل النوم يخاصم فتيان السهر. أقول للأشجار ارتقي أكثر فأكثر حتى يطال الأطفال حبات البرتقال من سطح الدار.
في الخيمة، كان الجميع يتكلم ويصغي
في الخارج، كان كل شيء يمتزج ويصغي
إلا الشتاء،
لم يقل شيئاً. وهنت عريكته وتهدّل البياض من أهدابه. استطال حتى امتزج بعناصر السهل. آخر الشتاء الأخير. غلب العويل شكيمة المطر الوابل.
لم يعد له مكان. احتلته فصول خارج التقاويم،
يطوي سجادة شرشتها الضفادع بكركرة الليالي الأخيرة. يجرجر أخطاءه الكثيرة.
أشياؤه الباردة تتدحرج عائدة إلى تجعّدات ملابسه الكالحة
القرائن كلها لا تكاد تكفي لوصف تحوّل الطبيعة.
ذئب المستنقعات مسلّح بقواقع تفتح البراري على الغزاة.
خوذات تتحدّب تحت وطأة الهباء، يكسر السياج.
ترافقه أشياؤه إلى بوابة الفصول. خائباً يخرج حزيناً يغادر المسافة الأخيرة من سقيفة الحديقة تدعوه الجنادب ليلقي تحيته الأخيرة، ليلقي نظرته الأخيرة على أزهار بدأت تنتخب أشكالها. خائباً يخرج تاركاً مكانه لغزاة شحذتهم الموانئ ومصارف الغدر.
وإذا سألوه: من أنت؟
لا يقدر أن يقول:
أدفأت الأقدام المذعورة بأسلاك الجليد وحزمت لكل
نهدٍ الأطفال
قلادةً لفزع
من الفرو اللبن
ودفقت لؤلؤ
لئلا
يتخثر الحزن في أمسيات الفجيعة
لكن،
من يصدّق فصلاً على وشك المغادرة؟ من يكترث لاعترافٍ ينمّ عن مكابرة التمائم؟
وهو يلملم أشياءه المبعثرة على قلق الشوارع ورهبة القرى، تتدرّع مخلوقاته بعراء الخِرق.
وإذا سألوه: ماذا رأيت؟
يشفق أن يقول:
شهدت
أمةً
تجاور
الليل
والنهار.
حضرت سطوة الغابة على شغب العشب، وتأرجح الحجل بين صيّاد يذهب وصيّاد يجيء. صارت يدي قبعات تضاهي صفرة الوجل وحمرة الخجل. كتابي تراث لا يعرف الشفقة.
لكن،
من يصغي إلى عجوز اخترق الجنون مثلما يعبر الهواء ممرات البيت، وصار يتلو وصاياه الأخيرة على:
تضاريس الروح ـ تهجّد الفريسة ـ جنادب المجهول ـ مدّخرات الكتّان ـ بياض الماضي ـ خِرق الجسد ـ حرية الموت ـ ذخيرة الرعاة ـ جواميس النهر ـ وبر المتاهات ـ إقليم الكسل ـ مراكب العصافير ـ لوتس الحكايات ـ حوافر الوحشة ـ رؤى المزامير.
الغيوم تتراشق ببلّوراتها في جذل، تتناثر البلورات في الجو وعندما تغيّر مسارها لتهبط صوب الأرض، رغم تحذيرات الغيوم، فإنها تتأكسد وتتخذ شكل برَد يطرق برعونةٍ الرأس المكسوّ بشعيرات سوداء وبيضاء، رأس ذلك السائر على مهل في ساحة المدينة الخالية تقريباً. يمرّ بحانوت انحشر فيه عدّة أشخاص يراقبون الطريق وينتظرون توقف المطر. يتباطأ عند عتبة باب انحسر عنه طلاؤه ويتوقف تحت شرفة تقيه من البرد.
كان مبللاً. ثمة قاطرة تعبر الساحة مكتظة بلقالق ووزّات لا أجنحة لها. ثمة ميازيب تسرّب الماء الذي يتقوّس عند اندلاقه على القار. يدنو منه درزي حاملاً صندوقاً خشبياً صغيراً، يتبادلان ابتسامة سريعة، يجلس الدرزي على علبة من الصفيح كانت مرمية عند العتبة ويفتح صندوقه المليء بدود القزّ ويبدأ في استخراج الحرير من شرانقها وعندما ينتهي يضع الحرير في كيس من النايلون ثم ينهض تاركاً الصندوق وواضعاً الكيس في جيبه ويمضي ماشياً تحت المطر شابكاً كفّيه خلف ظهره.
امرأة تطل من النافذة وهي تمشط شعرها.
طفلة تجري مغتبطة تحت المطر، تستحم برهة ثم تتجه إلى الرصيف المقابل.
عربة ذات عجلتين جاثمة جانباً.
ما بال الربيع لا يطل من محفّته على مخيمنا؟ ألأن البساتين المنمنمة بالأثمار والجداول غادرت إلى الجانب الغربي؟ متوعكاً صار من فرط التجول؟
ها هي خيامنا الراسية تتضرّع إلى الطقس أن يرأف بها ولا يجرّدها من كسائها فهي تعرف أن تحفظ أسرار الحجر مثلما يحفظ البحارة حكايات الأسماك ويصونون أسرارها.
أنظر، لقد جلبنا الصنوبر من مكان بعيد ومنه هيأنا لك مقعداً تتغطرس فوقه، فلا تكن عنيفاً أيها الفصل المدلّل.
من هنا يطفو نسل الخيمة في احتشام وينتشرون في البقاع دونما خفّ، يتقصّون آثار الأمس التي تاهت أو محتها حوافر بغل يائس.
تذهب؟ إذهب. لسنا بحاجة إلى أقحوان أو نسرين. هنيئاً لنا الشمس التي تسكب علينا عصارتها رذاذاً وتصقل أوتادنا. سننضو عن جلودنا الجروح ونعبئ أيادينا بالهتافات متنكرين لئلا تنكرنا الطرقات الغريبة.
من صحراء شاسعة ممتدة الأطراف تأتي شاحنات الأمن المنتسبة إلى العنف لتطرق غشاء المخيّم بخوذات صاهرت وجوهاً مكفهرة، بهراوات لها رائحة عظم مكسور، ببنادق مدّخرة ليوم تتباهى فيه ببطش البارود.
ذاك نهار جدير بأن يؤرخ له، بل ويُحتفى به، في وثائق الخطاطين والوراقين.. نهار أطبقت الشاحنات على صدر المخيم بعنجهية عامرة بالغدر.
مهلاً، تلك خيام انتخبت العراء موقعاً مؤقتاً، وتلك وجوه خرجت من مصاريعها رافعة مفاتيح القرى برهاناً على احترامها للتحالف المبرم مع عادات الضيافة. ما نحن إلاّ ضيوف. عابرو سبيل. خطوة هنا، بعدها نستقر بين كرومنا. فليكن نهاراً مؤجلاً هذا النهار. لقد أرعب هدير الشاحنات الرضيع النائم على ثدي جفّ حليبه وبدأ في الصراخ، بماذا نسكته الآن؟ والموقع صار يتشظى تحت وقع جزمكم العسكرية. رويداً، معنا أرملة ذاهلة لا توقظوها. وها نساؤنا يحلمن بنولٍ ينسجن به أردية لا لأجسامنا فحسب وإنما لذاكرتنا أيضاً. ونحن بدورنا نشيّد مناهل وهمية كي لا ييأس الشعب كثيراً.
خيراً، ماذا جئتم تفعلون عندنا.. نصيحة؟ أهلاً بها. تحقيقاً؟ نساعدكم عن طيب خاطر. آذاننا رهيفة ومن الأفضل أن نستعير صوتاً حليماً مرشوشاً بالحكمة ليس عرضة للمباغتة والإفحام. معكم سلاح، معنا أطفال.
حالاً يا مولانا؟! تريدون منا إخلاء هذا المكان حالاً؟ لماذا يفحّ صوتك بالحقد هكذا كأن ثمة عداوة بيننا؟ هل تعلم كيف وصلنا إلى هنا؟ حسناً.. تقوّسنا تحت القناطر بعد أن تركنا موتانا جاثين يختمون الرمل بأشياء جلبوها معهم مثل الأسماء والأسمال وأشتات صور لأيام حلوة ليس بوسعهم طمسها. أضرمنا أصابعنا في مهاوي حسبناها ينابيع ستنفجر بالماء ما أن تتقرّى رغائبنا. تخبطنا في أنين الطين وحدنا نسمع أنيننا كلما أمعنا في النأي.
بعد كل هذا تأتي أنت، يا مبعوث الدولة، لتطالبنا بالرحيل؟
إن كنا قد اخترنا هذا الموقع فلأنه قريب من وطننا.. قريب إلى حد أننا نكاد نجسّ زيتونه وعنبه ونلامس نداوة جدرانه المطلّة على الساحة والحقل. نصيخ في الأمسيات إلى خوار البقرات الهائمة في حظائرها، ونتذكّر تحلّقات الأبناء حول حكايات الجدّات بينما القهوة تتواثب وتندلق، ونرى من هنا أعراساً مشعشعة وننسى أننا هنا فنحلج المسالك ونهرول في الفراسخ ليس تيهاً ولكنه الوطن يلوّن حضوره في أحداقنا.
من جديد يشتتوننا، ماذا يبقى من العصب إن ظلت روافده ترشح على الإسفلت قطرة قطرة؟ ماذا يبقى من الوطن، إن ترذرذت القرى واستدرجتها أجراس الأحناش، غير مفاوز مختومة برميم الأكباش لا ترسو فيها قافلة عرس ولا رنين أرجوحة.
من جديد يجزّ المهندسون بطباشيرهم شرائح من أكبادنا ويوثقونها إلى الإسطبلات المستريحة على شفا المدن. نومئ إلى الوقت أن يدثّرنا بفوانيسه قبل أن تستدرجنا طلاسم الحرابي فنقع على ظهورنا.
درك مغلّف بالبراثن، شغوف بالهيمنة، يلوّح بسلاسله المحتدمة قدّام جمهور أعزل يحتكم إلى وتد صدئ. انصفينا أيتها المحنة، يا النهار العادل أخفق بجناحك على رهائنك المتوجّسين. إذا لم تكن السيطرة للهراوات فلمن الغلبة؟
لقد تزحزحت جواشن النهار الذي خذلنا وتركنا بلا معتصم كما الملوك المتوّجين بالخيانة.
حزيناً كان الساعي الواقف على ربوة يرنو إلى الشاحنات وهي تمرق على عجل، لوهلة حسب أنهم يلوّحون له فرفع ذراعه وأوشك أن يلوّح لهم، وعندما أيقن أنهم يترجمون له مأساتهم بإشارات لا يفهمها أحد غيره، أنزل ذراعه وغضّ بصره في أسى.
على مقربة يمرّ الإسكافي يحتذي جوارب مثقوبة تنزّ منها نقود معدنية تقرع الرمل بنقوشها كي تنبّه سيدها غير أنه لا ينتبه بل يمشي شارد الذهن يحمل صندوقاً مليئاً بالأحذية والأخفاف، حتى أنه نسي أن يلقي التحية على الساعي الجالس على ربوة مطأطئاً يتأمل بقجته المزدحمة بالرسائل ويتمتم "منذ زمن وأنا أطاردكم من أرض إلى أرض أيها الطاعنون في الهجرة. هلّا توقفتم برهة.. معي لكم أخبار".
بعد حين ينظر إلى جهة متخمة بتيوس تفرك قرونها بالحشائش وترْشي الجهة أن تضلل العقارب كي لا تقتحم مخدعها، ويتمتم "إنها القيلولة"، فيغفو جالساً فيما تتناهى مقايضات الجهة الطامعة في أظلاف تزيّن مداخلها، وفي نومه يرى قزماً متبرجاً بنياشين عثمانية يتسلل بنزق ويسرق البقجة، إذ ذاك يهبّ الساعي مفزوعاً ولا يجدها فينحدر عدْواً ويهرول خلف آثار أقدام صغيرة بعثرها قزم مأخوذ بالسطو.
إلى هذا المكان، بعد ساعات، جاء الفينيقيون ـ المسفوحون من جليد القوقاز ـ ملتفعين بعباءات أرجوانية، حاملين على أكتافهم السفن والعاج وقوارير العطور والطنافس المطعمة بالياقوت، فيما يرشّون ماء الورد على الطريق في سخاء وحبور. في ذؤابة الموكب يسير الكهنة المغمورون بالخطايا يسحبون، بحبال ملتفة حول أعناقهم، نواويس حجرية وجرار فخارية. أما في المؤخرة فيتجرجر العبيد الموثقين بسلسلة حديدية تصطخب في إيقاع مثقل بالصليل.
في هذا المكان حلّ الفينيقيون غير آبهين بالرعاة الذين تجمهروا حولهم مع حملانهم وكلابهم ومزاميرهم يتطلعون في دهشة وفضول ـ لا يخلو من الريبة ـ إلى هذا الحضور الأسطوري لشعب اندغم في تحولات الأحجار الأثرية حتى أضحى فصلاً في كتاب قديم. لكن ها هم، في لمحة خاطفة، يشيّدون هيكلاً مترفاً بالقرابين والمهرجانات والطقوس حيث يعلو صراخ الضحية أمام تمثال الإله اللاهب وتطيش الصلوات الثملة بالتهليل، ومن الأركان تنبجس مومسات الهيكل المبارك لتلجم مجون الكهنة وتبني بالسنديان والشربين أعمدة لمدينة غابرة.
وئيداً وئيداً يعبرون البوابة هاتفين لتموز وملكار حتى تطمرهم المدينة أمام مرأى الرعاة الذين راحوا يجترون المشهد الاحتفالي ويهزّون رؤوسهم في ريبة. ورويداً تتهادى المدينة بمن فيها مثل سحابة يجرها فاتح ضرير إلى جرم يقطن وراء الأفق. وعندما تتلاشى المدينة ينفض الرعاة عن عمائمهم شظايا الصور التي شاهدوها ولم يصدقوها وظنوا أنه السراب يلهو بهم. تقهقروا وخلا المكان من الجدل والجلبة.
ثانيةً يعود الساعي متقلداً حقيبة جلدية خاوية، يدبّج في ذاكرته تحيات الرسائل وحيناً يهلوس في دائرة التنجيم. مهموماً يمتطي الربوة ويتمتم: "حنانيك يا شاحنات".
تمضي الشاحنات في طريق ألف جلجلة، تطوي عجلاتها بعنجهية مواطئ رسمتها أظلاف ماعز وحوافر بغل كانا يتنزهان منذ برهة ثم اختفيا خلف التلال. شاحنات تحرث الهواء الذاهل المنزلق من شرفات مدن ساحلية بعيدة، وتئد مقصورة خُلْد متغطرس كان واقفاً على مقربة يرنو إلى سرب من الحجلان وعندما انتبه أخذ يهتاج ويشتم بكلمات بذيئة تلك الدواب الحديدية ـ كما يسميها ـ والتي تتباهى بالعنف والصخب.
شاحنات تنجرف بلا كابح، محمّلة بفصائل بشرية مغسولة بالغبار موسومة بالهجرة، اقتُلعت من مواقعها لتهوي في سراديب متعرجة بلا منافذ.. رهائن أزمنة تختلس الدم، وأمكنة موثوقة بشواهد قبور لا تُحصى.
يوم مشئوم ورث الفجيعة من يوم المغادرة.
دركي يتثاءب ثم يتكئ على بندقيته، لكنه لا يغفو بل يرشق رهائنه بنظرات حادة ومهدّدة، كأنه يحذرها من القيام بأية حركة تخدش السكينة
خبئوا
هفواتكم
بين
الآباط
لئلا
يصيبكم
الأذى
وبعد أن يتيقن من فعالية نظراته، يتطلّع أمامه وتدريجياً تسرح عيناه وأعصابه وأفكاره في بقاع أخرى غير موحشة، بقاع يعرف أخاديدها وزواياها وأهلها.
بماذا يفكر هذا الشاب الوسيم؟
حبيبة تنتظره في الشرفة؟
زوجة تخيط زراً لقميصه؟
وعندما تسمع الطرَقات تنهض لتفتح له الباب. تراه أمامها واقفاً يتأملها كما لو أنها حلم مستحيل. عندئذ تدرك مدى حنينه وشوقه فتفتح ذراعيها تدعوه أن يأتي، وعلى عجل يأتي ويرتمي على صدرها في رفق لاثماً كل أجزاء وجهها وعنقها وكتفها ثم يحملها بين ذراعيه القويتين دون أن ينبس ودون أن تعترض، وفي غرفة النوم يدعها تنساب منه برشاقة لتستلقي على السرير اللاهج بالشهوة، ولبرهة يتفرّس في بياض عريها الذي يلهث شبقاً ضارعاً إليه أن يدنو فيدنو مائلاً نحوها، ينحني، يتقوس..
بغتة يلدغه صياح طفل فيلتفت مفزوعاً ليرى طفلة تبكي في حجر أمها التي تهدهدها وتوشوش في أذنها.
لقد همّ بالنهوض وإخراس الصوت بكعب البندقية، أو توبيخ الأم، أو شتم القابعين في مذلّة، غير أنه تمالك أعصابه ومكث في مكانه مغمغماً لاعناً الأطفال والأمهات والعالم بأسره. ملامحه الوديعة اكتست بالشراسة، والمخيّلة انحسرت في حضور الشمس والهدير والوجوه الكالحة.
يظل ساهماً لفترة هدأت خلالها أنفاسه المضطربة وأعصابه المتوترة، وحلّت الشفقة والرثاء محل السخط والنفور. ودّ لو يجلس بينهم ويتحدث معهم، يحكي لهم عن لمياء الحلوة: وجه بيضاوي مستدير كالقمر. ضحكاتها تبلبل القلب وهمساتها تدغدغ العروق. تعرفون لمياء؟ ليس في البلدة من لا يعرفها. كل الشبان يهفون لملامسة أناملها ولكنها اختارتني أنا. قالت لي أنت من سكن قلبي. أستطيع أن أكلمكم عنها ساعات إن شئتم.
وجوه يائسة، خائفة، قلقة.. كيف تقدر أن تستحضر الرقص والعرس؟ كيف تقدر أن تشكم المسافات؟ يكمّمون الشوق بطحالب الوقت ويرثون لأرواح ليس لها مأوى. ينظرون إلى البعيد.. إلى تضاريس تغيّر ملابسها وأشكالها بين الالتفاتة والالتفاتة.
هضاب حاسرة، أشبه بكدمات على الجبين الأرضي، ترشح ملايين من الطيور الصغيرة الملوّنة التي تتصاعد في الجو كالفقاعات وسرعان ما تتبدد، في حين تزحف الأعشاب في طوابير تتحرّى مكامن تائهة.
الطبيعة تنساب بزغبها بين النهود الكثيرة التي صقلتها الرمال.
أجنحة الهواء تخفق ليغسل الريش الأحلام الهائمة في أعالي الهضاب. وبين التوقعات يتدفّق هدوء يشبه الذهول تبدو فيه النهود الكثيرة في حالات من النشوة كما لو أنها تحتك بحرير قميص بارد. تنظر الطيور من خلل الريش فتمتزج بالرغبة الكامنة في الارتقاء حيث الرياح أسرّة تتصاعد. والطبيعة ترقب ما يحدث.
سهول محتشمة تخترع لأطرافها حصوناً من قش لا تقدر أن تصونها، إذ تتوافد بنات آوى لتخرّب الحصون وتدنّس مراقدها وتسرق ريش طواويس كان يزيّن شراشف المنتجعات. السهول تعجز عن مقارعة خصومها لكنها لا تكف عن تشييد حصون هشة تتداعى أمام غزوات حيوانات مرحة.
مسفوحة الأطراف لطوارئ الوحش وهجومية الدواجن. ويطيب للفزاعات أن تشق الجيب وتغادر الحقل، فلم تعد الغرانق تخشى هفهفة الأسمال فوق عصاتين تفتعلان الخصام، ولم تعد الفراشات في حاجة لمحطات بين البهجة والبهجة.
رمال، سجادة عريضة، تتقافز فوقها الجآذر لاهية تداعب رصانة الهدوء. مباحة للنظر والمطاردة. تلمحها السباع فتنصب لها أحداقاً رهيفة. فيما ينهمر القش على مهرة تصلي.
وديان ترشّ السراب في الأرجاء لتغوي الجوّالين والأكباش الهاربة، ثم تتسلى بالتفرج على هذيانهم في أغوارها. يصل الجوّال الغريب إلى موقع مسيّج بالسراب، يحيد عنه إلى موقع آخر مسيّج أيضاً، ويعي آنذاك المأزق الذي وقع فيه، فيجلس على الأرض ويُخرج من صرّته رغيفاً وجبناً ويبدأ في تناول طعامه بينما يبعثر نظراته هنا وهناك. بعد دقائق ينهض ويضرب برأسه غشاء السراب حتى يفتّقه، وعندما يلج يلفحه هواء ساخن، يرفع بصره ويحدّق في رعب غامر.*
تلال متشابكة الأذرع حبلى بنفائس لم تُنهب بعد، يحرسها أطفال مجنحون، يحمل كل منهم شمعداناً، يجوبون المنحدرات ليلاً ونهاراً.* يتقرّون الصخور بأصابعهم الناعمة من غير أن يستدرجهم اليأس. فوق تلّة يستريح طاووس تجرّد من ريشه للتمويه (هكذا يزعم، رغم أن الجميع يعلمون بأن قاطع طريق سلبه كل ريشه وتركه عارياً في البراري).
هامش:
* الغريب الجوّال وجد نفسه في مكان معتم بعض الشيء، أشبه بنفق. من السقف ومن الجوانب تتدلى أنسجة شفّافة موصولة ببعضها على نحو دقيق ومنظم، والأرضية مبقّعة بسوائل حمراء وبيضاء.
تنتابه رجفة شديدة ويتقهقر محاولاً الخروج والعودة من حيث أتى، غير أن ظهره يرتطم بجدار جلدي، يستدير خائفاً ليكتشف عدم وجود أية ثغرة، وأن الغشاء الذي فتّقه قد اختفى. يجسّ، بعد تردّد، الجدار الجلدي فيشعر بسائل لزج يلتصق بأصابعه، يخطو ببطء إلى الأمام. إنه الآن يخوض ـ كالمأخوذ ـ في مستنقع هو مزيج من الماء والدم، ويتابع سيره في النفق الرجراج الذي يمتد أمامه بلا نهاية، محاذراً الاصطدام بالأغشية والأنسجة التي تملأ المكان. إنه يجهل مصيره ولا يعرف إلى أين سينتهي به المطاف. يمشي فحسب.. ذاهلاً ومسلوب الإرادة.
لقد اكتشف الغريب الجوّال أنه في رحم امرأة.
هامش:
* ليس بحثاً عن متطفل أو مستكشف يتسلل خلسة ليختلس موقعاً يحتله، بل بحثاً عن مزامير تحميهم من الفناء، فبدونها تذوب أجسامهم الصغيرة وتتحول إلى مركبات لا يجرؤ أحد على جرّها أو ركوبها بسبب الشمعدانات التي تصير أعمدة من نار تحيط بها.
المزامير، من جهة أخرى، غير موجودة، أي أنها وهمية. بمعنى آخر، إنها مجرد ذريعة للبحث عن شيء ما.. فالأطفال كانوا يعلمون بأنهم على وشك الذوبان، ولأنهم وجدوا أن انتظار الفناء أمر صعب ولا يُحتمل، فقد ابتكروا لأنفسهم وَهْمَ أن ثمة مزامير مخبأة في مكان ما سوف تقيهم من هذا المصير. والوهم صار حقيقة، والحقيقة صارت وهماً.. فالفناء بدوره قد صدّق أن هناك مزامير فعلاً، وبدلاً من أن يأتي في موعده، مكث في قلعته يراقب البحث ويترقب النتيجة، وبه شغف عظيم لرؤية تلك المزامير.
يتبع