مصل (أ / 1)
..
أكتب هذه الوحشة..
لأنني حزينٌ بالضرورة، لأنني ولدت في الشتاء، في وقتٍ متأخرٍ من الليل. أبي كان قلقاً، وإخوتي كانوا خائفين، والفانوس كان مشدوهاً، ووالدتي التي تتألم، كانت قد توحّمت بعويل رياح، وعندما كانت تغفو أمي تلك الليلة قليلاً، كانت ترى أن جسدها يتحول إلى شُبّاك خشبي، وأن الليل صار هتافاً مطلاً على شفير الوادي، وأنه تطيح من أحشائها أغنية..
أجل.. وأمي على شكل شباك كانت ترى أنها قُمع، وأنها تسيل من نفسها أغنيةٌ، ويطيح من بطنها حزام رجلٍ شديد الغرابة، ويتطاير من بين ألواحها ورقٌ ملوّنٌ وكثير!
أنا حزينٌ بالضرورة لأنني لم أولد،
لقد طحت من بطن أمي!
مصل (ش / 300)
و..
حياتي حرب، وعلى خوذتي رسمٌ لمحاربٍ فظّ، ورئتاي مثل درعي لا تعرف غير هواء المعركة، وحين أغادرها أختنق،
وجسمي.. جسمي خرائط لغاراتٍ وغزو، ورسمات لخنادق وحصون..
أعدو بين جنودي الظمآى؛
عن يميني جحفلٌ من ذقون فلاحين، يغمضون أعينهم، وقبل أن يرفعوا خناجرهم في السماء، يضعون ألسنتهم على شفراتها، ويقولون "يا ألله، أنت أكبر من جبالنا.. فنصرك يا خالق السمن والعجين"
وعن يساري أحصنةٌ تمتطي صهواتها الجان،
وأرواح قنّاصة من الجبال، لا ينامون ولا يطمرون نيرانهم!
ألله.. يا ألله،
إن من أمامي الغيب والحياة، ومن خلفي شهداء، قاتلوا بأسىً وشجاعة.. وشحذوا رماحهم بالشوق، بقدر ما شحذوا قلوبهم بوجوه صغارهم، وأقسموا أن ينهشوا كل شيء، وأن يعودوا!
مصل (ل / 30)
و..
أكتب كما لو أن في يدي مجرفةً ومعولاً، عاصباً رأسي بلفافة سوداء، وأحفر سبيلي نحو طينتي الأولى..
أكتب لأنني أريد أن أرجع إلى حيث ولدت!
آه..
بيتنا في الجبل.. وحده يؤلمني،
وأكتب كي أعود إليه!
مصل (ذ / 700)
إنني أكتب لأنني ابنٌ شارد، وأخٌ منزوٍ، وأبٌ ضعيف، وصديقٌ مختفٍ وهجور..
أكتب لأنني أمجد صياح الحقول.. لأنني من الوريد إلى الوريد حلمٌ ودويّ!
فلا يجلسَنْ شيءٌ بطريقي..
لأنني نصل!
1
الله اللّااااـه..
كنت صغيراً،
حينها كانت السماء كراسةً كبيرة،
وكنت كالصغار..
أرسم عليها كوخاً وشجرتين وشمساً،
وجبلين في الزاوية،
وماعزاً وسبع زهرات..
وحين أنام كنت أصعد للكوخ،
أعقد أرجوحةً بين الشجرتين..
كنت أنام في اللون،
وآخذ أحلاماً بحجم الكف
وأخبئها أعلى الجبلين،
لكنني كنت أنسى العلامات..
فيضحك الحلم،
وأضحك حتى يسيل لعابي على الشمس
وكانت تغمض عينيها.. وتكبر الكراسة!
2
إياكم أن يلمسني أحد.. إياكم!
فلم يعرف هذا القلب الذي يتخبط في صدري سوى الشجر والسباع،
لم تعرفه غير الدواب والأمطار،
غير التراب والجرفان،
غير الليالي في سرداب بيتنا الكهل،
ولم يعرفني سوى جبلين في "أبها"،
إياكم أن تلمسوني..
فنفسي تينةٌ شوكية!
3
حين تنام بجواري امرأة..
أبدو مثل كلمة قديمة
جاءت من لغات محفورةٍ على الجدران
مثل كلمة.. أنظر إليها، وأصلي "ليت أنها تقرأني"
"لو أنها تفهم روحي"
"ليتها تكشطني من الجدار، وترميني في الجوّ.. كطير"
"لو أنها تجعلني دخاناً..
وتلاحقني بأنفها"
حين تنام بجواري امرأة..
أصير لغة!
4
تعتريني صيحة..
تطير بي مثل شظيةٍ عمياء
تعلو وتعلو حتى تخرق الغيمة،
حتى تلطم وجه الشمس
وحين تهوي
من سيأبه لارتطامها.. من!
5
مسكينة تلك الشجرة..
كل صباح كانت تتشبث بغصنها امرأةٌ حزينة
طاحت من بيتها،
تتشبث بغصنها كخفاشةٍ مقلوبة،
وفي ليلة ملعونة
-عندما خلع الفلاح مئزره، ومرّغ رأسه في الدهن،
تاركاً البلدة والكحل والضفائر-
نسيت الشجرة المسكينة طولَها
وصارت ترى في منامها الفأس
وما عاد يختبئ الهاربون خلفها.. ولا الأرنبة،
وأوراقها تيبست من الوحدة،
ووحدها الريح..
صارت تعوي على جذعها!
6
أتذكر المسمار الذي دهسته، وصحت..
والجاكيت الأسود وكمّه المخروق،
العجلات التالفة، والخردة التي يدخن فوقها المكانيكي!
الدود المندسّ في أكياس القمح، وصمغ الفئران..
واللبان العالق في رأس أختي،
شطوب الموس في تجليد النافذة
وتلفزيون الرحلات البرية الصغير،
هدف الدقيقة الثانية والسبعين
والرسمات المقطوعة الرأس في كتاب العلوم،
والسيقان المطليّة باالسواد..
البناجر، والطنجرة، والماصورة الملفوفة بالمنشفة
والثوب الذي كرمشته المكواة صبيحة العيد،
دفتر الإملاء.. والخيزرانة النحيلة،
والتأنيب بكلمات: "الإهمال" و "أين التسطير"،
و "حسن خطّك"..
و.. "أين الورقة المقطوعة"!
7
كل يوم..
تزدرد عيناي هذه الظلمات
ويكبر في حلقي صوتٌ أسْود
كأن مصارعاً ضخم الرأس والكتفين يقفز في قلبي
ويفضخ برجليه المقوستين أوهامي!
8
مصدومٌ أنا..
ولا أعرف كيف أقول عن الزجاج الذي أراه في جسم الزجاج
ولا الشجيرات الصغار التي تحدق بي في جذع الشجرة
ولا الصوت الجالس مثل لصٍ خلف الصوت
أريد أن أخبر أحداً عن الماء الكامن في كل قطرة
وكيف تنثال الأشياء المجهولة على جبيني مثل حممٍ بركانية
أريد أن أقول عن المطر الذي يأخذ بيديّ.. وينهمر بي،
ينهمر بي من مخّ السحابة
حتى أوهن الأغصان!
أريد أن أحكي عن حشرجات النمور والنمل،
لكنني أشعر بالإعياء والشهيق..
فأفرك عينيّ المحمرّتين بقسوة،
وأخبط على جبهتي..
وأصدق أنها تركبني جنية فارّة من أهلها!
9
لواحدةٍ تطلع من بين القصب
على كتفيها طحينٌ من السكّر،
تعالي..
أخبرْكِ عن الأشياء؛
يوماً.. كانت يد الليل عارية،
وعيناك كانتا قفازيين
وقلبي الذي يشبه رأس حربة..
كان يستحي مما يجول في بال الظلام!
لواحدة..
لا ترمي نعاسك في خيام البدو،
لن تجدي مكاناً للأحلام في الرمل،
لكن..
لكن هاتي هذا النمش على زنديك
وقومي معي..
لقد قشّرت صدري من جانبيه،
سترينه عندما يتخثّر السواد كيف يستحيل إلى قطنة،
وأغانيه كيف تصبح مدخنة!
تعالي..
سأحكي عن الدخان الذي يخرج ناحية الجبل
عن مطر الأربعاء
وثيابنا المرقطة بالوحل،
يومها..
يومها آآآآه.. البنات ركضن بلا خجل
والحلوات اشتهين لو كنّ عرايا،
ورجال القرية الشاحبة جلسوا على الصخرة
عالقين برائحة الوادي،
كانوا ساكتين ويشبهون الخناجر!
مختارات من مجموعة ألـ.. هتك
دار طوى/الجمل، بيروت، 2004
1
قلقي المحترق ..
امرأةٌ موجعةٌ بطعم عناقٍ قديم
واقفةً ..كالشتاء في الشرفة العالية !
قلقي نوبةٌ تراود أحداق رجل السبعين
يحملق في السقف وسط بنيّاته الأربع
وترجف أصابعه الشاحبة بأقراص الدم !
قلقي عقد صغير بيدي مراهق
يضمه - مغمض العينين - فجراً على المرفأ
ليأتيه الله بصديقته التي سافرت خلف الضباب !
قلقي صداع في رأس نبي
يغشى عليه وحيداً
يرفضّ جبينه بالعرق
يُغط بالوحي ويصعد خارج الـ فوق ..
يصحو.. فيتلو كلام الله !
قلقي ..
كـ( لا أمّ لي ..
أنام على ذراعيها ..صبياً ، شقياً
هارباً من حلقة الدين في المسجد عصرا
مرعباً من والدي، وخيزران الشيخ ! )
قلقي ..
كـ(لا أمّ لي أسألها تعطيني حلوى
تفتح لي نافذةً آخر الدار، حيث لا ترانا التقاليد ..
أجري نحو صبية الحي
تتابعني .. وتدعو الله !)
قلقي..
كـ( لا أمّ لي .. تكذب عني !
كـ( لا أمّ لي قرويةً..كرائحة النعناع
مثل منديلها الأصفر)
قلقي.. أنا !
2
هباء
عرفت أخيراً بأن التيه يبتلعني .. يغشاني !
تعلمت ذات سؤال :
الأغاني هباء، والقصيدة سحت
الضياع أنا !
غيلة
أشكرك يا ألله على الحزن ..
أهديته لنا، ووقت منحتنا البكاء.. ألهمتنا التدخين
ومثل الجذوع ، وكالظمأ ..نراقب الغدران والمطر
نناغي البلابل ..
فلماذا تأخذنا !
مزاجية
أيتها الرياح - وأنا في الشرفة –
قبل أن تحركي قميصي
قبل أن ترحلي عنه .. فتشيه
فربما التقطت نبوءة قدري المؤجل
حداء الترقوة المنتصبة
ربما قرأت عروقي المبعثرة على ظهر كفي ..
بمزاجية رسّام، ثم خذيها ..
وخذيني لها !
أمتعة
أرخ الشراع
قبّلها .. وغنّ مواويل كالصيادين
واصرخ كالأذان : سيدتي ..
مجدافان، زورقٌ، أنا، أنت.. والقمر
أما بوسعنا اقتراف الرحلة !
ارتكاب
تركتني للهزيع الأخير من الليل
أشرب قهوة الندم ..ملتحفاً عطرك،
محتبياً على فراشنا المسكين كقطعة قماش مهملة
وانتظرتك كصلاة
حاولت صفع الوقت بالخربشات
بصبّ الألوان الداكنة
بسكب هذا النزيف.في كوبين
أحتسي كأسي.. وحين لا تجيئين كل ليلة
أحتسي كأسك !
جفاف
للأولياء مزامير كقرون الفيلة
ترتب إيقاع أقدامنا حين الرقص
كانت فكرة المالك عنا :
أن نكون طيبين، خاشعين، ساذجين كالملائك
أن نسمع مقطوعة الخلق الأنيقة بأعماقنا
مجردين من الخوف، صادقين ..كقبلةٍ عفوية !
لكنها غلبتنا المساحات الغبراء
وها نحن قاحلين، متعفنين كإبط !
وكزة
كمدٌ هذا المجيء
فالسفر الأبعد يلتف بردته كنصف دائرة
يجلس بيننا مثل سمسار، وساعة نأتي عراةً.. يمسح جبهته
يدقّ صدورنا "من أنتَمو !"
ويمسخنا كعلامة حيرة !
نسف
عصا الفيزياء .. نحركها فتلقف ما يأفكون من الوهم
حين أوقدَ الشك شعلتنا سرنا كالتائبين .. إلى الطفولة
لثدي السماء، للسريرة الأولى !
سطر
الطقوس صبيحة الخميس أحلى
اعتدنا التبخّر : " أنا نحب ، نريد ، نقرر ، نعانق لليوم الأخير ! "
اعتدنا رسم العاريات والقلوب المشروخة نصفين وحمالات الصدر
اعتدنا التداخل وبربرية اللعق
اعتدنا .. واعتدنا
حتى تحين ساعةٌ تشهقنا، وتقذفنا نحو الصمت !
جمجمة
الملائك الآن تضحك وترمي القطن
تنثره للجباه المتوضئة
وتنفث من روعها فيه عطراً ناعماً كملكة الليل
وسحابة اليوجا .. تلمّنا
ومثل نبتات الربيع نميل ببعضنا
وكالبجع نطير حيث تحجّ الشمس ..وقت الغروب !
مشجب
اليوم جريت حافياً
خلعت سنيني العجاف، بؤس التجاعيد الجبلية
مسحت عن وجهي الزمن
وثيابي العربية ألقيتها رأس المنحدر
رميت نعلي باتجاه الشمس
وركضت بين جدران الطين .. صارخاً : أنا فرح !
آكل الحلوى المكشوفة ..
أمص أكياس التوت المثلجة
اليوم .. أعود طفلا !
وشم
اسمك تعويذة كتبت بعناية الورد والشوك
وشمت بها صدري، وعلقتها على وريدي !
وعندما أخفيت كفك حدّقت في الأعلى
توسلت لله ليخنق الكبرياء!
صمم
آمنت أن لا ملاذ غير زمة شفتين
فهمت أنها الوحدة / المصير
رأيت السراب يرفضني وأرفضه
والهدهد العرّاف يبتني عشه بي
فلا يسمع الفارهون نبوءته !
خرق
أيمكن للبوح ركوب قافلة الريح ..
أن يكون حكاية النار والآلهة !
هل للبحيرات غسل الليل
فيعود مع الفجر أرجوحةً من الغناء!
مختارات من مجموعة (النوبات تالفٌ يمضغ عصبه)
المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 2005
1
كما كانت النساء ترغبني كنت ، وكما يفعل الرجال النبلاء كنت ، وكما يشتهي المراهقون شوارعَ كنت ، وكما يمدّ طفلٌ يده بريال إلى بائع حلوى ، فينشغل عنه بأكمام الكبار كنت .. لكنني الآن شيء آخر!
2
على فروة رأسي : افترس حياتك ، واكتب عفاريتك النارية .. فمن هنا سيعبر الدود !
3
ليلةٌ عاجزةٌ عن نطق آخرها ، ساعتها الرملية غصّت ببعض الفتات فتحجّر الوقت .
ليلةٌ للوجود بها سخريةٌ تبذر في الأشياء طعم الصمغ..
ليلةٌ مشلولةٌ ، والراكضون ، الذين خلعوا سُتَرهم ، محاطون بمناخٍ لا يرحم ، محدودون بهذا المضمار الرديء .. سيتعثرون ببعضهم في العتمة !
أما أنا فأجزم حينها أن العمر برقٌ خاطفٌ .. والحب نبتةٌ برّية!
4
في كل بيتٍ حكايةٌ غريبةٌ ، وخاتمٌ مخلوع!
وفي أعلى كل شارعٍ مزدحمٍ وقف غريب لحظةً ..
ومضى!
5
أنا ، والأرامل الحزينات ، والورق ، والتبغ .. حطب الليل ،
نفرّ من الحياة إلى هوس الحياة!
6
لا أدري ما الذي في فمي .. هل قلت أنا!
لا أدري ما سأفعله بأقلام الفحم .. هل سأكتب عن النار!
8
إشاراتٌ طائشة ، نعلان مهتوكان ، شقٌّ بثوب طفل قروي ، بخور ، حكاية ، بوذية مالحة ، حلوى المشبك ، مجانين في منتصف العمر ، مراهقون ، مدرسون جلفون ، أقارب باهتون ، ملتحون وحليقون ، روائيون كذابون ، شعراء بدينون ، فلاسفة مكسورون ، عوانس، وأبكار مراهقات ، وأصدقاء إنترنتيون ، ذكريات ، ومجالس بمشروباتٍ وأعشاب ، وكربون ، وقطران ، وفلوسٌ وحلم صغير ، وبلدان بعيدة..
ألن ينتهي هذا البلغم!
9
لست موسيقاراً ، ولا حانوتياً ، ولا جندياً على باب جمهورية أو مملكة ، ولست شيوعياً ، ولا قومياً ، ولا إقطاعياً ، ولا قدسيّاً ، ولا أبيض ، أو ملوناً ، أو زنجياً ، ولا بوهيمياً ، أو قيمياً ، ولا زيراً للنساء أو لوطياً ، ولست السيستاني ، أو حتى صموائيل وصدام الحضارات ، كما أنني لست روتينياً أو قصةً شعبية، أو كيس براز لمريض كلى ، أو "حلوى غزل البنات".. لست أي شيء ،
إنني مجرد التواء في رقبة الوقت!
مختارات من كتاب حرام c.v
المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2007 بيروت
1
لو أني أقتلع ذاكرتي اللبنية.. وأعلقها في غرفة أمي،
لو أنها تنبت لي ذاكرةٌ من الأسيد والفحم..
لأنام والوجوه مغسولةٌ بالنار،
مسلوخةً من جبيني ..
وتقطر كالنايلون في الهواء!
لو أني بدلاً لأصابعي.. أعجن جلدي المحكوك بالخل،
لو أني بدلاً للرسائل الخاصّات..
أعير أطرافي لغواصٍ فقير،
ولو أني بدلاً للمقاعد والأسرّة العارية..
أصبح أعين النهمين،
ولو أن مجاديفي ..
- أينها مجاديفي المرهقات!-
لو أنها تكسر القارب،
لو يقتتل بها اثنان،
لو يرميانها على الساحل ..
وعليها حروفي الضالّة!
2
نعم مشيت ..
لكن ماذا تركت لي الطريق غير هذا القلب المحطم!
ولا، لا أنام..
حتى يتخثّر هذا العويل الذي في صوتي،
أو ينبت في فمي مخلب!
3
لا أعرف لماذا أنا هنا..
في هذه الحفلة مع كل هؤلاء الشعراء الشرهين،
وبين هؤلاء الحاضرين، الذين تسيل قطرات الدم من جنبات شفاههم!
والكلام الذي في كمّي..
لماذا عليّ أن أغمغمه كالهرّ النّهم!
يا ربي، وأنا واقفٌ في هذا الصف الباهت،
وأنت ترى أحلامهم المالحة، وقلوبهم المخرومة،
وتعرف – بالتأكيد -..
كل الساعات التي قضوها على أبواب المطابع، ودور النشر،
يريدون أن يكونوا عالميين وتعساء، مثل رامبو على الأقل،
وأن يتعلموا اللغات الغريبة كي يترجموا إليها قصائدهم،
رباه، لماذا أنا هنا بالرغم من كوني أكره الكتب والفنانين،
وحلمي أن أفقد شهوة الطريق.. فقط!
4
لا أخجل من كوني فجّاً،
ولا أني جافٌ ومجدب،
ولا أني أخطئ في اللياقات العامة،
وأني أطلق كلماتٍ شنيعة في وصف الأشياء،
وآكل وأشرب بيدي،
وأختار ملابس غير متناسقة الألوان،
وأني أعتقد في وساوسي أكثر من اعتقادات الانتحاريين،
أني فشلت في التصرف برشد،
وتصرفت كمروّج ممنوعات،
وأنْ لم أملك وقتاً للأعراس والعزاءات،
ولم أحفظ كلماتها المنتقاة،
ووهبت وقتي للأفكار المريضة،
وأنْ لم يحدث أن توددت للجميلات،
وحدث كثيراً أني رمقتهن سريعاً باحتقار،
وأن لم يحدث أن قمت بواجب الاحترام للمشهورين والمثقفين،
وحدث أن كنت أخرج دون استئذان،
ولا يؤثر بي ما يقال عن حدتي،
ولا أعرف ما يقصدونه بكلامهم عن نوباتي،
طبعاً لا يخصني هذا الفراغ!
لا أخجل..
فأنا لست غيمةً سمينة،
ولست سماءً خدّاعة.. ولست شاعراً كما يظنون،
ولا آبه للطاولات وطريقة الجلوس،
لكن ما يخجلني فعلاً هو الرذاذ المسكين..
والقبور الساكتة!
5
لم يخطر ببالي وأنا أقطع الأرياف والمدن..
أني سأعلق بالأغاني المطمورة في البيوت المهدّمة،
وخلف الجدران المتروكة للأحزان والوحدة،
وخلف حيطان المواعيد السريعة،
ولم أدرِ أني في كل منعطف وجبلٍ وساحل..
سأحمل معي فجائع الأحناك!
وما خمّنت وأنا أعبر الصباح والظهيرات،
وأواخر الليالي، والقوارير، والبكاء
أنْ سينبت في كل عظمٍ مني صوت وكلام،
أنْ سيكون على ظهري وشم أغنية..
بين أصابعي فتات أغنية..
في عينيّ لمعة أغنية،
أن سأكون مخبأً للمرجومين والذكريات،
والساهرات قرب الشبابيك،
أني سأصير اللحن الذي تنام عليه القبور،
وتغنيه كل ليلةٍ أمي وأبي..
وامرأة!
6
أنا القارب الذي تهشّم.. وأنت الغريقة!
أنا الليلة التي هوى السقف فيها.. وأنت الدفينة!
السور الذي انتحرت على عتبته القرية،
وأنت صلاة الفجر!
السكتة الدماغية،
وأنت الوصيّة المسروقة!
الحربة المغروسة في سنام الثور،
وأنت الخرقة الحمراء!
أنا الحرام الشهيّ.. وأنت المرجومة!
الحزن الكهل على وجوه الجبال،
وأنت الأرملة!
أنا الهاوية.. وأنت آخر الشاهقين!
أنا الوفاة المفاجئة.. وأنت بحّة فيروز!
.. أنا جبهة والدي،
وأنت سنينه السبعون!
الأبابيل،
وأنت الطريق إلى الحرمين!
الفجاجة العمياء،
وأنت صوت الباب!
الشتائم،
وأنت ينبوع الله!
الخيانة،
وأنت الهدية الملفوفة بالشيفون!
أنا الهذيان المخزي،
وأنت سنوات الكحول!
أنا حريق البيت،
وأنت منديل الغريب!
يا رب، إذا أعدت الحياة كرّة أخرى، فلا تخلقني خاتماً مفسوخاً!
يا ربّ، إذا أعدت الحياة كرّة أخرى فاخلقني فوّهة!
7
برأسي الفضية..
ومشياً على كتلٍ فاسدة التأريخ،
أخرجت لفافتي السحرية،
أمليتها حرفاً حرفاً من هويتي المرهونة لدى فندق ريفي..
يقدم البيرة وألبوماً لاختيار شكل الليل،
في لفافتي قرعتان لاسم رضيعتين،
وقطرانٌ يفوح من زوايا روايات مهملة،
محاولة الالتحاق بـ سوق الأسهم،
أو حتى سوبر ستار،
ولعن الخط المشغول!
آه يا كلمات الكتب المهلهلة..
أما كنا في الجهة المقابلة نقترح الأرداف،
وحتى الذميمين وعدناهم بتغيير ألوانهم،
وتحريرهم من طفح الرغبة!
لفافتي..
آه يا للإغراء، ففي بقعة من هذا العالم،
تحت غطاءٍ بذرة كائنٍ جديد،
ورفاقي يمنحونني حلوى الخرافات في لحظة،
ثم يشحون بها سنين طويلة ..
وأضطر دوماً للقول "سحقاً للأساطير"!
لفافتي..
بها فريسة تهرب للحياة،
خيرٌ من نمرٍ عحوز!
وفي لفافتي ..
الكمد، ورغبة الهدم، وأن لن أمشي خلف امرأة ،
أن أترك الباب نصف مفتوح،
وسيكون على طاولتي بعض النشوات والنيكوتين..
وأوراق، وقصائد، وأغنيات من هنا وهناك،
بفمها توقظ ضِلع الليل،
وتستدير عليه!
عفواً أيتها "الحداسة"،
أليس بوسعك أن تضعي في طريقي أنامل،
لا تستخدم الحاسوب، ولا تجيد المفردات المدنيّة ،
أليس بوسعك أن تدسيها تحت وسادة غيبي،
أن تخبئي لي حياةً مجنونةٌ،
حياةً برازيلية، تعلمني السامبا وقصة بيلييه ،
وأحكي لها عن مقصف المدرسة!
أغني لها :
في قلبي قصص على مدار الساعة،
فيه فزعٌ كبير..
فيه ورقة محروقة الأطراف،
ورنّتان لعودين قديمين،
فيه موشحاتٌ وتراتيل، وخيامٌ وفجرٌ.. ودماء،
فيه الشيطان يرتب مواعيدنا،
ويصطحبنا في رحلةٍ صوفيّة،
ويبتسم لحلمنا العابر..
وتغني لي :
مدينة لك بشهقات وحدتي،
كررتها هنا على فراشي المعزول،
فمذ ولدت وأنا أتحسس سخونة بكائي،
كنت أعرف أنك تجول في مكانٍ ما،
في قَدَرِ ما ..
وما عرفت أنك ستأتي دفعةً واحدة،
ومعك الأحجية،
وفي جيبك السراج الذي تقول على ضوئه الشعر،
وبعينيك السفر الذي تمنيته،
وأنك ستدربني على الهواء البطيء!
لفافتي..
الفراغ الممتلئ بلا شيء،
الطافح بلا شيء، والمكتظّ بلا شيء
فيا أيها الفراغ العظيم..
عبئني بك، واقذفني في طريق المارّة، واجعلهم غير مكترثين بي،
واتركني ندباً في جبين العالم..
فقد جهزت كلماتٍ للحزن وللفقد، وأكثر للسخرية،
ودربت فمي على الاستدارة،
ليصفر مرةً ، ويبصق أخرى!
لفافتي..
نومٌ قليل، ونفسٌ مشرعةٌ على الوقت،
بداخلها قبوٌ تعوي به الأشباح،
ووجوه سيداتٍ مهووساتٍ بالعضّ،
ورجالٍ منافقين، يجيدون صفّ أفواههم،
ويكتبون صرخات نصرهم باستعجال،
لكن رائحة الدم في عطورهم!
لفافتي..
بقايا من رهاب الأطفال، وامرأة قلبها أعرج،
وأحافير ونقوشاتٌ غير مفهومةٌ،
ويافطات قدرٍ غريب..
و، و..، وابتهاجٌ غير مفهوم بطائرات خاصة،
ومهرجانات، وجوائز ضخمة، ومال طائل، وغرف فندقية،
وكؤوس، وصراخ أوربا، و .. هههه، وتمثالٌ رخامي،
وفرويد، وفورست جمب، ونيتشه، وهيجل، وآنيشتاين،
وصديقي عبدالوهاب، الذي دعاني للحياة البسيطة،
وقال: قم، إنها السابعة..
لكنّه مات بطريقةٍ غامضة قبل أن تمرّ تلك السابعة!
وفي لفافتي أن لم أنس مخاوفي، واللعنات التي حاقت بي،
والأعين التي كانت تباغتني.. وكيف ظللتها،
وأني بمكرٍ كبير دونت مكاشفات المشلولين، وهواة الإبطين،
وحنجرة العاصمة الواسعة!
لفافتي..
وصية أبي "لا تطرق الباب الذي لا يفتح، ولا تخرج ليلاً بقلبك..
اخرج ببندقية!"
وفي لفافتي وصية أمي "يا ولدي، لا تخلط حليبي في دمك..
ولو بكذبة واحدة، فحليبي تفسده الأكاذيب!"
دار الآداب،
بيروت 2008