الإهداء
في يومي المدرسي الأول
سألني المشرف الإداري: ما اسمك؟
فأجبته: عباس زينب يعقوب..
فإلى أمي زينب... لون الماء والنار
قال لي ما هو الحرف
كيف تنظر إلى الحرف
وهل الحرف ينطق ويتكلم؟ وما لغته؟
قلت: إذن الحرف مخلوق والمخلوقات مجموعة طبائع وصفات وأوضاع وحركات
قلت: الحرف جمال ، الحرف ليس جمادا كما يظن..
الحرف حياة ..
الحرف ماء ..
الحرف مداد..
الحرف حب..
ما كان بالإمكان الفكاك من الحرف أبدا ولا التخلص والهروب من أنواره أو التواري عنها ولو للحظة وإن تك للنسيان المؤقت فقط.. الحرف عين من ضوء بها نرسم العالم ونرى ما حولنا، به نحيله إلى أكثر من فضاء الآني والمؤقت وبه نبسط أكف أرواحنا على قرطاس معارفه، به ندرك ما خفي عنّا ونصل حيث جمال الشكل التمثل فيه وحيث المعني الكامن فيه ، به نضع حدا لكل ما لا يرى وما لا يعرف وما لا يدرك وما لا يرصد .. إنه كل شيء وفي كل شيء
الحرف أبجدية كل شيء، إنه في الخط وفي الحرف وفي الشكل وفي الصورة وفي البحر وفي الحبر وفي الحرب فمن ذا الذي يقدر الابتعاد منه وعنه، فمنه ننطلق إلى كل شيء.. إلى الكتابة والكلام .. إلى خلق صورنا وأشكالنا التي نرنو ونحب أن كيف تتكون وفي أي الأوضاع تصبح، وعنه نأخذ الحكمة، حكمة التكون والتشكل وحكمة القول أليست " الحروف إلاّ أمة من الأمم " كما قال مولانا الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. للحرف سطوة على القلب في الوعي واللا وعي ، يسرد حكاياه عليك ويبقيك فيه فتكون أسير سرده الظاهر والخفي، إنه نقطة بداية كل شيء ، شرارة أول الفكرة لتصور الشكل مرسوما على "خد الورق" كما يقول الديري ، للصورة تتباهى بترفها، للخط تتداخل حروفه وتتشابك محدثة جلجلة لافتة في إنسيابيتها، للكتابة التي بها نهفو إلى ما يود القلب البوح به أو النفس التستر عليه.
الحرف صورتنا البهية دائما منه نستقي هبابنا وإليه نقط يراعنا وبه نرسم صورنا ونزين أشكالنا، به نتخفى ونتوارى، به نحتمي من كل شيء – الأشياء جميعا- ومنه نذهب إلى كل شيء.. إلى اللوحة والقصيدة والكتابة والكلام.
ظني أن من الحرف وبالحرف وإلى الحرف باعتباره عالما مفتوحا على كل شيء وإلى كل شيء خرج "بلون ماء النار.. برذاذ حليب المعدن" حبرا وماء وقولا وبوحا، فالحبر والماء والحب إلى الأصدقاء أمين الله صالح وحسين المحروس وعلي الديري’ وحسين مرهون والقول لي وعني ولصبا للوحة الغلاف، وللحرف أيضا سطوته الكبرى علينا جميعا.
آثرت أن أقدم شهادتي بصوت سردي بعيداً عن المباشرة والتأطير بما يكبح جماح الإبداع القادم وبه سيكون السرد متنقلاً بين أمكنة عديدة..
من مكان الطفولة
إلى حضرة المرسم
إلى أجواء المعارض
إلي بهاء تجربتنا الفنية المشتركة التي ما انفكت ترنو إلى الانفلات
إلى مكان الصداقة حيث يبوح القلب ويرسم المناطق الجميلة ويعترف بالآخر وببهائه وحضوره فيما بيننا
هذه التنقلات لا يمكن أن تنفرج للمتلقي إلا من خلال بصيرة واعية بالسرد السينمائي الذي يتقافز في فسحات المكان
لربما أستطيع عدَّ نفسي واحداً من المحظوظين كون بعض من أنواع الكتب منذ الطفولة كانت تتخطرف أمام القلب منها القرآن الكريم.. جزء عمّ ملفوفة في قماش غالبا ما يكون أخضر اللون وأيضا بما له من دلالة تستمكن من الذات لحد اللحظة الراهنة والذي ما أزل أراه خيطاً أخضرَ يتبارك به الناس..
تتبارك به الحروف وقصبات الروح ( إنه لون السادة والعلويين ومريديهم ) عميقة يحملها الأطفال ويهمون بها إلى حلقات الدرس في منزلنا يتلقون من الوالدة درس تعلم القراءة _ قراءة القرآن الكريم _ هذا إلى جانب بعض من الكتب الدينية والكثير من كتب الأدب الحسيني، فما كان يلقيه الخطباء من مقاطع شعرية من على المنابر في مثل تلك المناسبات وما كنا نسمعه بصوت الوالدة ( وهي القارئة في مأتم النساء بحينا في القرية ) صارت هذه الكتب جزءا من تكويننا العاطفي أخواتي وأنا ( بالمناسبة الوالدة لا تجيد الكتابة للأسف ) ويبدو أن درسي الأول الذي تلقيته في تحسس اللغة العربية في هذه الحضرة البهية الغنية سيكون مدخلا فيما بعد لدراستي الجامعية في اللغة ذاتها وهذا الذي عزز تولعي وشغفي بالأدب شعرا وسردا، ولحسن الحظ أنني كنت من جيل ينتمي لفترة يمكن تسميتها إن جاز القول فترة التفتح والانفتاح قياسا بما نحن فيه الآن حيث الانغلاق والظلم والظلام
ما كان بوابة صار جدارا
ما كان معرفة أضحى ضلالا
تلقينا درسنا الثقافي محاطا ومسيجاً بالسياسي الثوري
تلقيناه بشغف المحب.. بقى نبراس الشغاف
ثمة انحياز لا يمكنني وصفه أو الحديث عن كنهه بصورة مفصلة ودقيقة ولم أجد تبريرا له في تلك الفترة إلى كتاباتنا المحلية متمثلة ( بالأخص ) فيما أنجزه قاسم حداد وأمين صالح وعلي الشرقاوي وعبد القادر عقيل، فوجدتني في اللاشعور وما زلت حتى هذه الساعة متمسكا بها، أحمل إصدارات أدبائنا كلما سافرت إلى بلد ما، أؤمن بهذا النوع من البريد ( أسميه البريد الإنساني ) حيث الكتاب مخلوق يتوجب علينا حبه والاعتناء به وإيصاله بخفة وحنان وسلام إلى أهله ( متلقيه )
منذ ثمانيات القرن الماضي بدأ ذهابي إلى كل ما هو تجريبي وحداثي في الأدب، فما كان أهم من قاسم حداد وأمين صالح محليا يشفيان الغليل في تلك الحقبة الزمنية الضاجة بالعنفوان والصخب على كل الصُّعد.
عرفت وأدركت فيما بعد أنها تجربة مستقبلية الحدث والفعل، تجربة بِنْتُ زمنِها تعملُ على الشكل بحثا عن المضمون أو تحفر في الشكل للإفصاح عن المضمون، فالشكل مضمون .. ولا شكل بلا مضمون .. المضمون شكل أيضا
مخاض التجربة
منذ أن التقينا الصديق الفنان عبد الجبار الغضبان وأنا وبعدما أسس هو في العام 1989 مشغلا لفن الجرافيك تابعا لجمعية البحرين للفنون التشكيلية – أسميناه فيما بعد مرسم عشتار جرافيك - والذي راح من خلاله ينثر فنه وخبراته الإبداعية والحياتية في هذا الحقل بالذات علينا وعلى كل من وطأت قدماه هذا المرسم من فنانين وأصدقاء تعرفوا فيما بعد المبادئ الأساسية لفنون الحفر، تأسست علاقة ( خرافية ) بيننا أقل ما يمكن القول أنها إنسانية بامتياز باذخة الجمال نتج عنها معرضنا المشترك الأول عام 1995 بصالة غدير في دولة الكويت أي باكورة نشاطاتنا الثنائية المشتركة الذي لاقى نجاحا جميلا على مستوى العرض والاحتفاء من قبل الفنانين والمتلقين والصحافة، والذي بعده توالت عروضنا الثنائية التي جابت الكثير من العواصم والمدن العربية والأوربية من عمّان – الأردن- إلي دمشق إلي حلب إلي مسقط العمانية إلي كوبنهاجن إلي لندن إلي القاهرة إلي المنامة التي أقيم فيها معرضنا ( أيقظتني الساحرة) بمعية الشاعر الصديق قاسم حداد.
نعم يمضي مشروعنا هذا ( اللعنة ) بصبر وتأن ومجازفة في ركوب البحر.. ركوب بحر لا نعرفه ولا نملك بوصلة تشير إلى أمواجه ولا إلى جهاته.. بإصرار وعناد على المواصلة والإقدام عليه والمضي إليه و فيه، رغبة في حب اكتشافه والتوغل داخل عوالمه من أجل ذهابه إلى هناك بنا نحن عبد الجبار وأنا
أخذت الأفكار تختمر، تتشابك مع الرؤى وتصارع التطلعات المطلة فضاءات نحسبها سحرا وبياضا.. نحسبها فردوسا.. متطلعة إلى الأفق
كلما مضت السنون تفاعلت بدواخلنا ووسوست المشاريع والفعاليات أفئدتنا وحجزت مكانا زمنيا كبيرا من كل لحظة لقاءاتنا التي أشك أنها انقطعت يوما واحدا.
إذن من مرسمنا ( نارنا المتوهجة الواهبة ) الضاج العاج كل يوم بالجميل من أصدقاء فتنة الجمال خرجت من رحمه سكينتنا وسفينتنا المنقذة.
تجربة ثنائية في العمل الفني المشترك والكتابة المشتركة والحب والاختلاف والخوف والتوجس والفرح والتذمر والاحتفاء بالحياة خرجت باعتبارها مشروع جمال لا يمكن تفاديه
خرجت من مساحة جغرافية تضيق بأصحابها كل يوم كلما اتسع أفق الأحلام
طلعت من مكان أظن أنه لا يسع أثناء الفعل والشغل إلا لشخص واحد ولربما لشخصين خفاف، مكان لا تطأ سطحه المرقع بالحبر.. الموشوم بالألوان المتناثرة هنا وهناك بترف العابث الوله إلا حكمةُ عالمٍ بصيرٍ بخفايا خارطته الفسيفسائية ومسارب الطاولة الوحيدة وعلب الألوان والملقى على الأرض من إطارات خالية ( وكأنها لقيا) خالية من فحوى وجودها وهي فرحة باستنشاق المتطاير من روائح الأحماض وزيت الكتان.
يخرج الوجد
تخرج القصيدة
تخرج المرأة
يخرج الحرف
تخرج اللوحة وكأنها ساحرة
يخرج الترف وهوى الضوء
مرة أخرى أقول لعل ما يثير الدهشة حقا ويؤخذ على الاستغراب بالنسبة لي في أقل تقدير هو الكلام عن نفسي، فما بالي إن وجدتني في وقع الاختبار.. في وضع لا أحسد عليه أبدا ..
في ورطة التحدث والكتابة عن تجربتي الفنية والصداقية ( الحياتية ) مع صديقي التائه والغائب حدّ الذوبان ( عبد الجبار الغضبان ) داخل لعبة الفن، الواقع في شرك غربة الجرافيك بعناد المصر على الذهاب إليه.
الماضي أبداً إلى صمته وحكمته والذي لا يختلف اثنان على أستاذيته في الرسم والحفر ونشره ( الذي يدين إليه كاتب هذه السطور في كل ما هو عليه ) الملتزم بقدسية فن الجرافيك.
يتوق الغضبان في بحثه الفني والجمالي إلى إخراج ما يؤرقه ويعتمل بخوالجه جنونا حد الإفراط الصموت اعتمادا على ( تعبيرية المرأة ) إبراز مفاتنها وولعها وغنجها وحالة الاسترخاء الساكنة حدّ ثمالة النهوض البهي بوصفها عنصرا متدفقا محرضا ساحرا حدّ الخرافة.
المرأة تمتلك الحظ الأوفر في رسومه باعتبارها عالم خصب وثورة وعطاء وتدمير وبناء وهدوء وعنفوان عبر خط سارح فيها وإليها وإيماءة ونظرة ساكنة أو ملتهبة متوهجة يترجم بها ربما وضعا مأزوما مريضا لا يقدر البوح به ولا يمكنه ( ربما ) تحقيق غاياته الدفينة " واقعا " إلا بالاحتماء به.. والشرود إليه.
ففي عمله الفني تتضح العلنية وتتكشفُ الصراحة بخبثِ ودرايةِ خبيرٍ بفعله.. بصيرٍ بشرطه القائم على تقشفٍ في الشكل واختزال في مضامينه المدوِّية والزهد العميق الغائر في ألوانه الجرافيكية المتحصلة من علائق الدمج بين تقنيات الجرافيك وصباغاته الهادئة المتشظية وكأنما الحالة السوداوية البارزة شكلا ومضمونا هي الفضاء المناوئ والمدافع بقوة وصبر الذي يبحث عنه ويحاول النطق به والكشف عنه.
متوارٍعن انحيازه لفعل الجمال الخالص الكامن في الرسم والتقنية مبادرا دوما على كسر القالب التقليدي الصرف المعتمد في إنتاج طبعته المحفورة والذي راح يزاوج فيها بين تقنية الرسم الزيتي بتقنيات الحفر، محاولا جهد الإمكان إنتاج لوحة معاصرة تمتلك شروطها الطباعية القائمة على مبدأ الشيوع و التعدد.
حديث النفس
ما لي كلما أردت التحدث عن نفسي يحضر الآخر فأنساها..
إنها منطقة حساسة جدا في تصوري ..غاية في الصعوبة ..موغلة في التعقيد لأنه دائما ما يمثلُ أمامَ الفؤاد حفنةٌ من الأسئلة ( الوجودية ) المقلقة والمحرجة أكثر وأكثر في ذات الوقت حول العلاقة الإنسانية والفكرية والفنية التي تربطنا.
حول تلك العلاقة والتجربة ومنجزي الفني قال جبار الغضبان ذات هيام وتأمل وشرود ونحن في حضرة المرسم حضرة العبث والجنون والهوس بالمكان والنسيان والتحضير والتفاعل والعمل وكأننا بالفعل نعيش خارج هذا الزمن " إنها تجربة تمثل في مسارها وتطورها خصوصيتها من حيث البحث والتجديد بغية الوصول إلى مستوى أكثر نضجا وصولا إلى طرح حديث معاصر ( يعاصر تجربتنا ) يقترب كثيرا وعميقا من العمل التجريدي المبني على اللون والمساحة والعنصر المجرد الذي تبرز أهميته في إعطاء الانطباع المقنع والمفاجئ في نفس الوقت.
لقد زرعت تجربة أعمال الحفر الفنية مفاهيم مهمة وفتحت أمامه مسارات جديدة للقفز باللوحة إلى عوالم ومستويات أرقى وأنجع وذلك بالمزاوجة بين الحفر واللون كمحرض تقني يوصل إلى فضاءات ومناخات تعيش تنفسا مختلفا يقلب جوانب البصر في التمتع بهذا البوح الجميل ( أعني العمل الفني ) "
أسئلة ربما هي مدفونة في دم الوريد … مكتوبة على جناح مدى لا يعرف مآله ومرفأه بالتحديد مؤقتا – في أقل تقدير إلاّ نحن الغضبان وأنا – أشعرها مدسوسة في ثنايا هذه الغرفة التي نطلق عليها جزافا تسمية مرسم عشتار التي لا تتعدى مساحتها ال 15 مترا مربعا.. أحسها تتطاير أمامي كشرار من زوايا الأدوات الموزعة بصورة فوضية وعبثية لدرجة رفضها الرتابة والترتيب، من يدري ربما أقلمناه أو تأقلمنا معها ضمن مفهموم ما يسمى بالفوضى المنظمة.
إنها تعيش حالة التنافر والصراع الحاد فيما بينها.. وبين الأسئلة ووجودنا.. الكراسي.. الطاولة الوحيدة.. الكتب الفنية والثقافية.. أوراق التخطيطات.. المعادن.. أدوات الحفر.. الألوان زيت الكتان والأعمال الفنية الجاثمة بصلابة على السطح والمكبس القديم ورسوم صبا وموفق ودريد وفرات وبعض قصاصات مما يكتب الأصدقاء من مقالات وتعليقات وصورهم الفوتوغرافية ولعنات الأحبة التي تهبط على أرواحنا كماء سلسبيل وأدعيتهم الصوفية وخطواتهم التي استحالت وشما على القلب والروح تاريخا على جدرانه وزفيرهم الممزوج بلون ماء النار وروائح الأحبار وضبابية دخان السيجار، جميعها تداخلت بالأسئلة الحائرة والمحيرة.. القلقة والمقلقة.. المنتهية والقادمة في آن واحد.
إنها عصية على التناول حقا، لا تقربها الأجوبة وقت الشروع ولا تتجرعها المشافهة ساعة القدوم.
أين سيودي بكما الحفر ؟
والتجربة ما مصيرها ؟
وبهاء اللون وحليب المعدن وكيمياء الذهاب المفعم بالقول وباللغز والأتعاب
وفداحة البوح
إلى متى سيبقى ركوب البحر مغامرة مبهمة الأزقة ؟
لا تقوم إلا بالتحدي ولا تسترخي إلا للعناد
تراودني الحيرة ويقتلني السؤال ويباغتني السلام
على الحفر والحرف والمرأة وقمر الرحيل وبوصلتنا العصية
على الترك والمغادرة لكونها قدرا وجعا محتوما مشقت أبجديته بشفيف أرواحنا
أسأل عن التجربة … عن جبار بن علي بن أحمد بن جاسم الغضبان …
عن الحفر والفن والإنسانية والغفران
عن العلاقة والصداقة والاختلاف الحميم حول الخلق والفن والحب
أسأل عن الكتلة والخط
عن غنى اللون الكامن في التقشف
عن سيمياء الروح التي تعتصر حبا
عن تراجيديا التجربة والصمت والسكون
عن الجموح والدينامية والاستعصاء الآخذ في الصعود
عن الفتنة المشعلة المشتعلة كذلك
من اشتغالنا اليومي في المكان الموسوم بالمرسم بعيدا عن عقم الدوام الرسمي ( آخ ما أوسخه وما أحقر جوه كل جوه ) وصفاقاته تتفجر الأفكار وتتضح الرؤى ويبني ويخطط للمشاريع.
من هذا الحيز الصغير الذي كلما تزاحمت معداته وزادت أغراضه وتقلصت مساحته وضاق ضيقه بالضيق والمضايقة اتسعت مكانته ووسع فضاؤه بالمنجز الفني والأدبي وبحب الأصدقاء وبتنا نؤمن ونصدق وهمنا به و بكذبته الكبرى كوننا نحيا ونعيش في كنف أفق مفتوح لا تؤثر فيه العواصف ولا توقف مشروعه عراقيل ومكائد.
هكذا نحن جميعا جبار وأنا غارقون في وهم هذه الجنة المستعرة الصاخبة بنار اللون والمعدن والأسئلة.
منه كانت جرأة الذهاب إلى الخارج واستيذاق رأي الآخر سواء العربي والأوروبي ومعرفة وجهة نظره حول منجزنا الفني الذي تحوم حوله الأسئلة، كل لحظة ويوم ضمن مراجعاتنا الذاتية وأحاديثنا الصريحة ونقاشاتنا الحادة والمحتدمة أحيانا كثيرة بشأنه.
هذا المنجز الفني الآتي من الشرق… القائم على حب البحر وعشق الفن والذوبان في جمال المرأة والصدق والحب والحبر والخير
أقمنا العديد من المعارض واكتسبنا الخبرات وتحاورنا مع الثقافات الأخرى وكوّنا صداقات حميمة ومددنا جسورا ورسخنا وشائج مع الكثير من الفنانين والمبدعين
ضحكنا كأطفال لنشوة الاكتشاف
تجاه البحر
صوب النوارس
صوب ريشها المتعلق بحليب الماء
بحبر الموج إذا علته الصَّبا
بانعكاس الضوء على الجواشن
إن الاستمرارية والمضي في هذا المشروع والإصرار عليه بمعرفة مسبقة وبقناعة ثابتة على خوض ( هذه المغامرة المجنونة ) التي جعلت منا كيانا واهما وموهوما وراكزا .. قائما يتنفس هواءه في محيط ضاربة أعماقه في غزارة فعله.
حقا أعطتنا هذه المغامرة الحب الكبير والاحترام الجليل البعيد وسحر الكشف
علمتنا طرائق العزف و التمادي في الجنون.. في جنوننا وغاياتنا بإيمان مطلق بأهمية وتاريخية شيوع وانتشار العمل الجرافيكي الذي أقيم لهذا الأجل والهدف
لا ننكر أبداً الصعوبات التي نحتمل ونعاني ونكابد التي استقبلناها ببرود عاطفة وهسيس روح وضحكات مدوِّية لأجل بقاء التجربة في ماعون نقائها وإبعادها عن كل منغصات الحياة فراحت:
تستأنسها المعادن
ترقص لها أوراق الطباعة والأحبار
تقف لها العاطفة إجلالا
ينحني القلب لها إكبارا
وانطلاقا من محض قناعة أنه لا مجال البتة للتعلل بواهية الأعذار، ولا الركون خلف حلم السراب، والتكور في زوايا التباكي والانغلاق في وقت تكون العروض الشخصية فيه شحيحة، والمشاريع الجماعية شبه معدومة فتمادينا في الفعل كي لا يفتك بنا التقاعس والخمول
زرقتنا متمادية في زرقتها
هكذا نحن أيضا
بالزرقة نحيا
بالزرقة نعيش
بالزرقة نواجه عالمنا
بالزرقة نواجه كل قادم
بالزرقة سنستمر
تحية إلى أمين صالح
البحر عندما يسهو
مشروع قديم يحوم في كبدي منذ تسعينات القرن الماضي لإيماني الشديد بأهمية الحب الصادق.... بالعلاقات الإنسانية الشفافة القائمة على حب فعل الخير والجمال( أي الجمال الخالص )
يحصل أن تعجب- ولربما تحب- أن تحب شخصاً ما لكاريزما شخصه مثلاً
شاعراً لشعره وإن كان تافهاً
روائياً وإن كان نزقاً
رساماً صادقاً مع فنه وإن يتمثل قمة الغرور والتعالي مثلا
فما بالي إذا كان هذا الشخص أمين صالح
هذا الأمين علينا جميعا
بتواريه الحاضر الساطع الجميل
بعالمه الإبداعي المخيف..الأنيق الباذخ
هذا المشروع الخرافي الترف دوماً هو فنار بحرنا
دليل فتنتنا
لذا أراه يسحر الكون بحكمة صمته- هذا الصمت الحكيم –
بعمق تأمله وتواريه وإخلاصه
بتماديه في مشروعه اللغوي والفكري والجمالي الدؤوب عبر نصوصه الفاتنة الفاتكة
أتمثله رساماً تشكيلياً محرضاً على سريالية الصورة واقعيتها وتجريديتها وحداثتها شرط فنيتها وجماليتها منفلتا وخارقا ومخترقا
هادماً كل التابوات والأعراف الفنية والتقنية
ذاهباً إلى الذي لم نألفه متذرعاً بالبحث وعشق الاكتشاف...
هذا المعرض وبعيداً عن مؤامرة (المفاجأة) التي ضمرناها لفترة ما قبل موعد الافتتاح قاسم حداد وجبار الفضيان وأنا عن أمين صالح كان مفاجأة أيضاً بالنسبة لي عندما أنجزت بعض الأعمال برفقة نصوص المدائح وهندسة أقل...خرائط أقل وأنا في أعيش أجواء ثلج أسلو وقت تدفق سواد الأحبار على صقيل الخشب ( خشب ورشة حوار الحضارات ).
عددته إنجازا باهرا على المستوى الشخصي كوني استطعت ولو بشكل متواضع أن أقدم تحية لإنسان شديد الرهافة أمين علينا – أعني على الكون - مثل أمين صالح الذي يستحق منا الكثير الكثير.. أشعر أنه مهما قدمنا له سنبقى مقصرين في حقه، فمنذ جنينه الأول- هنا الوردة.. هنا نرقص ونحن نغذي أرواحنا بعرفان قلبه المتدفق حبا وجمالا الذي ما انفك يرشق وجوهنا بحناء غسله اللازوردي
أقول يا رسول الاستغراق والكلم، حاولت التقرب إليك راغباً في جنتك
طامعا في قراءتك ومعرفتك وترجمتك
فمنعتني المرأة من البوح
واخترعت لك الصمت طريقة
تحية للصديق الكاتب أمين صالح أقيم هذا المعرض على صالة البارح للفنون عام 2002
دادائية الصورة والحدث
" كنا نسعى فى البحث عن شكل أوّلي للفن قادر، في تصورنا، على إنقاذ الإنسان من الجنون المستشري، في عصرنا. كنا نأمل أن نخلق نظاما جديدا فى استطاعته أن يعيد التوازن بين السماء والجحيم " هانز آرب أحد مؤسسي الحركة الدادائية.
خمس سنوات مضت على – المشهد .. الحدث - الصور الأكثر إبهارا ومتابعة ورصدا وحكيا وحكاية وسردا وتأويلا ومتابعة وسرعة وهدوءا وسلاما وفرحا عند البعض وحقدا وغليانا و( اغتيالا ونفيا للمشهد ) عند آخر.. للمتابعين والمراقبين من كلا الضفتين، ضفة العالم الأول بوصفه عالما حضاريا متقدما إنسانيا بامتياز وبالتالي هو مغبوط ومستهدف من عالم متخلف لا يرحم، عالم يعتمد ثقافة الإلغاء والفتك والتي تصل ربما حسب تفكير المُتَّهِم -بكسر الهاء- درجة الرغبة في الامحاء من الوجود، بالمقابل هناك الطرف الأضعف، الفقير الحاقد الأمي، حامل ثقافة الغاب-حسب وصف الأول- يقف متفرجا ينتظر قدره .. مصيره والحلول الجاهزة لرسم صورته بشكل سريالي أيضا – تحكمه فوضى عناصر الصورة الفنية غير المكتملة.
ربما هو السريالية بعينها دون أن تكون له يد في صياغة شكلها أو ابتكار عناصرها.
في مشهد ضرب البرجين عدة صور فنية، ثابتة ومتحركة، سياسية بالدرجة الأولى واجتماعية وثقافية واقتصادية أيضا.
ربما وجد البعض في الصورة المتحركة منفذا ومادة حية للانطلاق منها لتنفيذ مشاريع فنية.. رآها مادة خام جاهزة ليجهز من خلالها على أعدائه الحقيقيين والوهميين أيضا بصفة التعميم على الناس من غير جلدته، وربما استقاها البعض أيضا كموضوعة ينطلق منها وفيها لتعرية هذا الجبروت الهائل وهذه القوة الضاربة التي لا تقهر ولن تقهر إلاّ بفعل الدم..
الدّم لا يقبل إلاّ الدم ندا له.
ربما يجد البعض في الصورة الثابتة متعة وإبهارا أكثر مما هي متوفرة عليه في الصورة المتحركة لاعتبارات(نفسية) وذوقية وفنية جمالية وثقافية، فراح يمعن النظر ويحتضن ويقبل، ولربما دلف أيضا ليكولج اللقطة فوق اللقطة، بجانب اللقطة الأخرى، مخرجا صورته التي تخيل أو حلم بها ذات يوم على أن هذه الصورة رصيدا أو صورة مصغرة لفعل أكبر قادم – يشفى الغليل- ويهب مشاهد أكثر دموية.. أكثر فرحة.. أكثر انتصارا
ومنه سيتحصل على صورته البانورامية على حلمه
في الصورة تكوين وفي التكوين حركة باطنية غير مرئية تشكلها عناصرها كالخط واللون والفراغ.
ربما راح غير نفر يجمع اللقطات..الصور، يعيد خلقها من جديد، يضيف لها أبعادا فنية وجمالية بغرض الوصول إلى هدفه المتمثل في الفضح والشجب والاستنكار، بل تعداه إلى أن يكون دعوة صريحة لمحو وشطب أمم كاملة من خارطة البشرية.
للصورة أوجه متعددة.. صور الخير والجمال والخيال، وصور الشر والقبح والدمار، وفى كلا الحالتين ثمة عناصر فنية تتألف منها الصورة، ربما يتوفر القبح في الصور الأولى وتتوفر الثانية على عناصر فنية أكثر جمالا من الثانية.
قيل ذات تأمل.. ذات صفاقة.. ذات تبجح أيضا
أن تلك الصور برمتها، صور خراب.. صور من الشيطان.. صور فتح، والفتح فتحان تبدأ صورته من الجنوب باعتباره ( فتح من الله ونصر قريب ) وفتح لبناء صور جديدة للعالم بحلة أكثر زركشة ورونقا ولربما دماء.
يختلط رسم الصورة بالغوغاء، من تصوير إلى تصوّر إلى تنفيذ إلى سل حراب واحتراب. وفى جميع الحالات الخاسر هو الجمال.. الطمأنينة.. المحبة والسلام.
مازال الكثيرون يحلمون بصور العالم النقية الباهية التي ترسمنا .. تصوغ أحلامنا ، تلك التي يبتكرها المخلصون لنا.. لخلاصنا.
الدادائيون انقطعوا بحثا عن شكل فى الفن يقدر على إنقاذ الإنسان من – ذاك- الجنون المستشري حسب تعبيرهم
أي صور دادائية هذه التي نعيش؟
دادائية نشر صور الحرية والخروج (حسب الزعم) بالعالم من هذا الجحيم المحذق به ورسم صور له تكون أكثر جمالا وتأثيرا من الصورة الثابتة والمتحركة، تلك الصور الجهنمية الحدث التي حركت العالم من جنوبه إلى شماله ومن أقصاه إلى أقصاه أيضا.
فهل هي الصورة الكبرى المرسومة .. المتصورة بخفتها ووحشيتها، بأهدافها الملتقطة.. المعلنة والمضمرة كمتخيل بعيد الرؤى؟
أم أنها دادائية نشر صور العدالة ( والفتح المبين ) المدعوة والمدعومة من السماء ( زعماً ) لتطهير العالم من براثن الجهل والفسق والكفر وإنقاذ البشرية جمعاء مما هي عليه من سوء حال وضلال وضياع.
ظني إنها دادائيةُ نشر صورة الحق-حسب الزعم- في هذا العصر.. عصر قولبة المفاهيم وخلق مفاهيم جديدة لكل الصور البصرية والذهنية والإنسانية، وإن الإنسان لفي خسر.
أي صور فنية أشدّ بلاغة على ما نحن فيه من جنون؟
أي شكل جمالي أكثر حماسة وبشاعة من هذا المشهد الذي يعمل على هدم وتدمير وشطب ما نحن منه وعليه.
صورة الحرب .. بين الكذب و الزيف و الفعل المضاد
لقد اعتدنا على مخاطبة الصور لنا إلى الحد الذي لم نعد نقدر فيه وقعها الإجمالي علينا، قد يرى الإنسان صورة معينة أو جزءا من معلومة لكونها تتقاطع مع اهتمام خاص به، لكننا نتقبل النظام الشامل للصورة الإعلانية كما نتقبل عنصر الطقس، وحقيقة كون هذه الصور تخص اللحظة لكنها تتحدث عن المستقبل، ينتج تأثيرا غريباً، أصبح مألوفا و بالكاد نلتفت إليه . طرق في الرؤيا، المؤلف جون برغر.
يبدو أن هذا العالم في محاوله حثيثة لاختراع شيء ما لفنائه، إنه يسعى من دون خجل لصناعة طرائق تسير ببطء مغلف بهالة ( ربانية ) صورية لحرق كيانه ولمحوه من الوجود. إنه الإعلام.. هذا الصرح المخيف
الإعلام بوصفه أداة دعائية ترويجية تقوم أساسا على المخادعة والزيف والختل.
لتحول الكذب صدقاً
والحقيقة وهماً
والحرية دماراً
والاحتلال تحريراً
والجبن بطولةً
والعداوة صداقةً
والطفولة قتلاً
والتاريخ غياباً
نعم يأخذك أصحاب الحرب بكل أسلحتهم..أفكارهم.. أكاذيبهم وإنسانيتهم المتحيونة (من حيوان) إلى الدمار، المصاغ بحرفنة العالم العارف بكل شيء، مالك كل شيء أيضا، يجعلوك أسير أساطيلهم الإعلامية.
لحد أنك لا تقدر على مفارقة المتابعة والترقب و التوجس والخوف
لا تقدر على الابتعاد عن كل ما تصدره وتتصدره (الميديا) الإعلامية الهائلة، تنتظر موتك الذي تحياه كل لحظة ويوم دون علم ولربّما الآن، وربما في اللاّ وعي لكنه موجود حاضرهنا، الآن وغد وبعد غد أيضا .. واقف أمامك يرقب اللحظة التي ينقضّ فيها بسلاح صورته التي يصنع ويبث على صورتك .. خيالك ووعيك، وما عليك إلاّ رؤية ومتابعة مشهد حتفك..
ما عليك إلاّ الإيمان بقدرك الخافت..
متى بدأ ت الصورة ؟ بدأ حضورها؟ كصورة مرسومة وملتقطة، في الحياة اليومية وفي مجال الفن بالذات؟
نعرف ما الدور الكبير الذي حققته آلة التصوير الفوتوغرافية في الكثير من الميادين سيما الفنية – الرسم والسينما - منها والدعائية والتسجيلية والتوثيقية كشفا ورصدا وتأريخا ومراوغة وختلا.
هذا النوع من الكشف .. الحدث الذي بات اليوم جزءا فاعلا ومتفاعلا ومتداخلا مع كل منجزات التكنولوجيا التي ابتكرت أساسا لخلق الصورة بشتى أشكالها وأحجامها وأنواعها حيث صار هذا التفاعل والتداخل أبوابا مشرعة للتقاطع مع كل صنوف الفنون ومع الكثير من الأمور الحياتية اليومية حدّ التماهي مفتوحَ الفضاء على كل تكنولوجي قادم يعمل على انتاج أكثر من غرض فني ودعائي وإعلاني ( السينما والفيديو والفوتوغراف مثالا ) بحيث صار العالم يستقبل الصورة من عدة مصادر وبأشكال خرافية الحجوم المختلفة.
لقد أضحى إنتاج الصورة يمثل سلاحا فاتكا مفتوح الأفق، بل بات تمثل وجه الحرب إن لم تأخذ شكلها، لحد أنه يمكن تصورها في أحايين هي الحرب ذاتها، فنتاجها بهذا الشكل المتطور والمخيف صار تنافسا محتدما وخداعا وسجالا طويل الأمد لا نهاية لامتداد خيوطه ما دام المستقبل هو ( لرأس المال قبل العلم والأخلاق )
فأية فاعلية للصورة ستكون؟
وما ماهيتها؟
ما نوع قوتها؟
وما مدى تأثيرها على المتلقي؟
بالأمس القريب كانت الصورة الفوتوغرافية هي سيدة الموقف دون منازع – رغم سطوتها واستمرارية قوتها وعتادة زخمها – اليوم لم تعد وحدها المسيطرة في الساحة رغم مكانتها وأهميتها – حيث حلت الصورة التلفزيونية الحية المباشرة واحتلت موقعا متقدما في هذا العالم، لقد تغير المفهوم وانقلبت الموازين واختلفت الرؤى والقراءات وحتى طرق التلقي والاستقبال.
صارت الصورة خيرا وشرا
صارت بيانا ناطقا بنفسه معبرا عن حاله ولربما عن أحوال هي في الأساس غير موجودة لكنها بالصورة وحدها تتواجد وتكون وتحضر.
أبداً ما دامت الصورة متعلقة بالحرب فالغالب الأعم في دورها هو الكذب والزيف والفعل المضاد لتحقيق مصلحة ما.. هدف ما سياسيا كان أو جتماعيا أو اقتصاديا أو فنيا وجماليا لتضليل العين والقلب معا.
أبداً تروي الصورة عطشك .. توقظك من سكرتك وسباتك .. تكشف القبح والجمال، جمال المشهد وقوة الزاوية وثبات التكوين .. تولولك نفسياً .. تحطم ما تبقى من مفاصلك.. من حب وزهو وصبر وتماسك.
الصورة تجرك بالقوة لرؤية ومتابعة مشاهد بشاعة القبح في القتل والغزو والخراب ومغادرة الطير سماواتها.
أكثر ما تلعبه الصورة ( إن كانت صادقة ) فضح الزيف وتصوير الواقع كما هو عليه، وتقدم حقائق بصرية عن الفضح المسيج المشروط وعن الصدق أيضا كدعاية، باعتبار مَنْ يبث وينشر صاحب فعل نبيل وشريف وجليل لا تشوبه شائبة، أما أنه يدافع عن أرض له ربما ادعاءاً أو ليست له أو إنه يقاتل من أجل تحرير مزعوم وكاذب.
حاليا لا الرؤية .. لا النظر ينفع ولا الصورة تجدي ... أنها صورة الحرب .. صورة الدمار فقط.
هذه الصور التي نتحدث عنها هي تدمير وتخريب وإلغاء دون شك للصورة الأهم .. صورة الحلم والعيش والبقاء، رغم قوتها وبلاغتها في ذات الوقت وجمالها ورقتها وبشاعتها وخفتها وإنسانيتها أيضا، ستبقي حاضرا آنيا وستغدو ماضيا، ستبقي في الذاكرة – من يضمن أن الذاكرة في هذا الزمن غير ملوثة وممسوخة ومشوهة – أيضا
ستبقي الصورة الحدث الشاخص أبداً في ذاكرة الأجيال الغابرة والقادمة.
هي صورة الحرب.. صورة الحياة .
إنتاج الصورة والصورة المضادة ما هو إلا سجال مؤقت، في أقل تقدير حاليا.
ماذا بعد هذا المؤقت من الصور؟
ما الذي سيدوم ويبقي أيضا؟
إنها ملحمية الصورة في الحروب الدائرة منا وعلينا
إنها الصورة ... صورة تحطيم صورة من تحب
الصورة المقصود بها في هذا الحيز.. هذا الوقت بالذات .. هي ربما تكون كالإعلان التجاري والذي هو ثقافة المجتمع الاستهلاكي الذي يروج لما يريد عبر الصورة حسب تعبير ( جون برغر ) مفهوم السيطرة ومصطلح التضليل غير مقتصر على وضع وحلة ما وليس موجها لغاية معينة ولهدف آني بعلاقته القائمة على الصورة – الدعائية – فقط كأن يتبعها المرء ويستسلم لهذه السيطرة والقوة الصورية بحيث يستغني وهو الفقير، ويرتفع شأنه وهو المنحط وينتصر وهو المهزوم مثلا .
أبداً الصورة تحول الفجيعة إلى عرس والجحيم إلى فردوس.
الصورة في هذا الوقت بالذات هي الضلال عينه لفرط بلاغتها وقوة أدائها المباغت والمتواري وانتشارها وتأثيرها أيضا.
تنام أمم على الجثث ويسبح أبناؤها في بحور من دم الآخر فقط لمقدرة هذا الآخر على استعارة البلاغة وإعادة خلقها من جديد وتحويلها لصدق كاذب، وبالمقابل هذه البلاغة استنهضت أمما، لا مست كيانها .. جسدها .. مصيرها وجعلتها تستفسر عن كنهها، عن معنى وجودها ولو بصورة مؤقتة، انفعالية وعاطفية.
إنه فعل الصورة ماثلا أمامها .
الصورة الآن أقصى ما تهدف الوصول إليه هو الزيف .. تصوير الكذب حالة صادقة ووضعا قادرة على المسخ والتحيير والتحييد وتوريط المتلقي وهو يمسك ويحرك بخفة وثقة زائدة جهاز التحكم عن بعد بلا شعور.
ما الذي يجعل البعض وصف الحروب الحالية بأنها من أكثر الحروب في التاريخ استخداما للصورة والوسائط الأثيرية والتكنولوجيا ؟
أهو العراق .. عراق بابل وآشور وبغداد ودجلة والفرات وكربلاء أم النفط ؟
الصورة صارت حدثا وأضحت لسانا صامتا، وقلبا متدفقا بالحب مشحونا بالأسى الصورة صارت وجه انتصار الآخر.
الوعي الحقيقي ارتفع وتطور تجاه تقبل الصورة، فهم دورها، تلمس جمالياتها رغم حدوثها في الزمان والمكان الغير مناسبين البتة لدى البعض.
في هذه الحرب الصورة صارت قمرا لظلال ضوء شمعة ضئيل متثاقل ينتظر خفة نسمة تهف عليه لإنهائه وهو على صراط الحق.
الصورة تبين – صورة لئلا أقول وجه – الوجع، والصورة البشعة للأمل المصطنع والحرية الزائفة.
ربما تكون الصورة هي أبلغ بيان على فضح التضليل وكشف إعتامه. من يدري؟
اللوحة باعتبارها فضاء مفتوحا على عالم البحر والخشب
اللوحة: هذا الكائن الجنين الذي يولد من رحم التجربة .. من رحم الأنين .. يمتثل دوما كحارس أمين على القلب ، يرقبه خوفا عليه من مغبة الوقوع في شرك التحريض.. والابتعاد.. الابتعاد عن مكانه .. ( عن زهرة مشمشة ) التي يتلذذ بالإمعان فيها.
اللوحة:كائن لم يخرج إلى الوجود، يجيء على حين غرة .. يتخطرف كطيف حالم أمامك.. يسحبك عنوة من وجودك .. يهدّ حيلك.. يرصّ عليك ، يحاصرك من وفي كل الجهات رغبة في السيطرة .. طمعا في الحصار.. في حصار مشاعرك وأحاسيسك أعني حباً في بقائك دوما في رفيف الإغواء.
اللوحة: كائن عصي على الاصطياد منذ وهلته الأولى ، منذ جنينية فكرته منسلة خيوطها من تراكم تاريخك البازغ في اللاّ وعي، أو في محطات الوعي البهي الذي تدعى إسرافاً إدراكه .. هي على غير هذا السياق الذي تتوهم ..
هو الومضة المشعة التي تنفلت أو تنقدح أمام عينيك ولا تقدر على اصطيادها أو الإمساك بالقليل القليل من أطراف سرادق فتنتها..جمالها.
القلب وحده القادر بعد اعتمال الصمت على التنقيب في مسارب طقوسها .. مساراتها..
هو الوحيد المتمكن من بلورة وصياغة المتبقي من الفالت من أبجديات التأسيس الأولي.
اللوحة كائن: مؤسس في الجمر.. من لهيب ذاكرة تستعيد الهارب من التاريخ والمتبقي من حرمان وجيب القلب والفقد دون علمنا .. دون سؤالنا.. غصبا عنا
اللوحة كائن: يبث شرارته في ظلمة الوقت كي نستعيد به نهار الليل
اللوحة هذا الكائن الرمز الذي يسأل عنا ولا نشير إليه ونرتهن لرمزيته كلما فقدت أفئدتنا طفولتها إلاّ في حضرة الصمت، إنه المهب الوهم الذي نتشبث بنجاة خشبه خوفا من موجه وغلو مياهه، هذا الرمز الذي يستحيل زبداً أرعنا يرمي بأجسادنا المغطاة بالبياض والسواد وما تبقي من سرمدية كحليته صوب شواطيء رحمته.
هكذا وببطيء شديد علنا نستفيق من غفوتنا أو لعله استطاع إيقاظ بصائرنا الغافية.
اللوحة كائن .. شاطيء بعيد ووادع لم تألف أعيننا بعد لونه ولا اعتدنا علي هجس صوته ولا دنونا أو تحسسننا القليل من أنماط صوره المتقلبة
شاطيء.. رمز لا يقيم علاقاته إلاّ مع الهادر من البحار ولا يقرب إلا من نوارس تبني وشائج حبها وقيامتها وجنتها على أطراف زرقته البيضاء التي كلما تمادت بعدا وغورا في تشكيل حبها تجاهه على صقيل جواشنها ازددنا ولهاً إليه وعليه.
اللوحة كائن غرائبي الهوى.. صعب المراس لا يرضخ إلاّ للشرود ولا يذعن إلاّ إلي التمرد باعتباره عصاة نجاة تشق اليم.. يم الغبن الذي يعترينا ، إنه هبة التحريض على الذهاب إلى الفتك ببوادر الفكرة المتخشبة، يدفع على التمزيق والحذف من الذاكرة البالية بغية إعادة البناء والهيكلة المتوثبة، يدفع على الابتعاد عن الرتيب المتكلس الفاقد حريته لئلا نعبأ به أو نخاف عليه بقدر حذرنا منه.. حذر نجاتنا .. من تبعية الماضي .. أليس الماضي إلاّ تخريفا أحمقا..
اللوحة عالم لم يخلق بعد.. عالم موجود في الروح أو هو جزء أبعد من هذه الروح التعبة، الروح التي تبحث عن:
مأوى لتحط رحالها عليه..
عن ميناء طمأنينة يطرح ألحان رفيف الرياح الهابة على قوارع الطريق..
عن عالم يرفض المهب باعتباره نسيان وضياع
عن مهب يكون اصطفاء وبوح قناني النبيذ لبوتقة الفكرة الهاربة من عالم الهذيان.
اللوحة: ترف الومضة البارقة
اللوحة: فجر المجازفة الحارقة
اللوحة: قصب القصيدة الخارقة
اللوحة:عزف النوارس
اللوحة: هدب نهر... مدينة... ليلها شرفة للقمر
اللوحة: تقية المتصوفة
اللوحة: حضرة الحضرات
اللوحة: مسّ الروح
اللوحة بحر مياهه رمشة مدى
كلما تقربت أعطاك
كلما تعللت تفاداك
بحر نعمة للقلب
بحر نقمة للختل
وأما بنعمة بحرك فلوّن، وألق دواتك على خشب مناجاتك وارحل إلى الله
أصدقاء الفتنة
في المرسم .. حيث موسيقى اللون وعطر الأصدقاء
في المرسم حيث القرطاس المليء بمداد الأصدقاء
في المرسم حيث النور يشع من الجدران احتفاء بالحب ، حيث الطاولة الوحيدة تتهدج بالوجيب والونين وزنبقة الكلام
في المرسم حيث الصبغ يستحيل كلاما ونطقا وبلسما
حيث الجمل الجمالية لا تنحاز إلاّ للمجانين بالقول والكلم والقلم والكتاب
حيث الحبر ينساب
على الثلث شامخا والديواني متدليا متدلعا والنستعليق غنجا
واللون ينهمر كالدمع على الرمش
على النهدين المنتصبين
على الحلمتين الوارفتين.. الغضتين
على القلب ملتاعا
على العين تبرق عسلا وياسمين
علينا جميعا معشر الحب
أيها النِّدام بنا وإلينا تمهلوا علينا واسقونا
من حليب أرواحكم نبيذا زلالا
من جنباتكم زغفران البحر
من النهر ورد النور
ومن البحر ليل القمر
منا إليكم جناح الفراش
ووهج حبنا
والفتنة التي جمعتنا بكم وإليكم
كم نحبكم
كم نحيا فيكم وبكم
يا أصدقاء الحب والجمال والعفة والنخوة
كم يضيق المرسم لغيابكم لانقطاعكم عنا ومنا
نحتاج لكم وإليكم
أيها الأحبة فقط
هذه ذريعة حبنا.. حبكم الفادح
القطيعة نار
الغياب جحيم
لا المرسم يحتمل الهجران والبعد
ولا القدرة تسعفنا على النسيان
على نسيانكم
كونوا أكثر رقة ورفأة بنا
يا من نحن أنتم
هذا ما نظن ونؤمن ونعتقد ونرى
هذا ما ساقه الدهر
هذا ما صاغه القدر علينا
بكم نحيا
وبكم نموت
بمجنون ليلي.. بالقندة .. بالمنازل التي أبحرت.. بقل ولا أحد ..بالمجازات التي بها نرى..بطبائع الاستملاك.. بالاثني عشر ذئبا وبالغرفة الكونية التي أحب وبالهندسة والخرائط أيضا.
أيها الأحبة المعنيون بنا بحبنا لكم بدلاكم إلينا
بالربت على أنوار المرسم الطفيفة
يا ذخائر الإبداع التي بها نستجير
من القيض والسواد والهجير
مرة أخرى اسكبوا علينا القليل القليل من أفراح أحزانكم بها نشفى ونذهب إلى السديم ونجهش بأقوال أرواحنا معلنين على الملأ موتنا عربون حبنا لكم
فلكم حبنا فقط
أصدقاء الحب والصورة والجمال
أصدقاء الفتنة
هسيس اللون والمعدن
جريا على عادة ذاكرة لا تستفز.. يستفزك المكان، كل الأمكنة التي تعرفها.. تتآلف معها وتكون جزءا منك فيك، خلافا لمفهوم التعود وكثرة التردد وروتين التواجد فيها وتصير مكانا ساكنا ورتيبا ، وحتى حضورها اليومي يصبح غير الداخل بدواخلك
إنه مكان مألوف وحسب كل الأمكنة الغير ملفتة أو غير مهمة.. ربما نقطة مرور حسب الغير أيضا.
هذا المكان غير كل الأمكنة
قيل عنه واسع لضيقه
قيل عنه نهر متدفق لسيلان الحب منه وفيه
قيل عنه جنة الأصدقاء
قيل أنه مسكون ومصاب بمس روائح الأحماض
قيل أنه ما بعد اللوحة.. يتخطى حدودها فى الفن
قيل أنه محج الأصدقاء الكرماء
هذا مكان غير كل الأمكنة.. يقبل الضد بالضد، ويصهر الأسود بالأبيض ويبث الأضوية فى مسام الزمن.. هذا الزمن المتهالك.. التافه.. الرث
مكان محمول بهواجس الحبر والحمض والورق والدفتر
مكان حميم.. صغير كبير.. ضيق واسع وطيب الصيت ومتواضع
يكتبك بحبره ويهبك مداده على صحن زعفران
مكان يهاب الأصدقاء لفرط ولعهم به
مكان يعشقه مريديه لطقس الزهرة والخمرة والجمرة المتوردة وضجيج السكون
جريا على عادة تلك الذاكرة لا تستفز، فى الرذاذ المتساقط عليه من الومضات الخافتة يهبك المكان ( المرسم ) إقحوان الكلام منسلا إلى شغافك بخفة عاشق أضاع بوصلة الطريق فتعرّف الطريق.. طريق المجاز يا علي.
يستفزك المكان ( المرسم ) على وقع مليميتر القندة
يودي بك في جب الإضاءة وانكساراتها يا خالد
يرميك في معارف مداسات آية الله
يلقيك في المتن والعمق والهامش والداخل والخارج.. في الصاعد من كثيف الكلام.. يطل بك على السديم كي تستنشق البحر.. على المنازل التي أبحرت ومدائح الكون ويخفرك بأيقظتني الساحرة
يستفزك مكانك في أرضيته وجدرانه ونسائه وحواريه بمعادن وجوههن الصقيلة وحروفه وكراسيه وطاولته المكتنزة بماء التعميد.
يستفزك هسيسُ اللون والمعدن
جريا على عادة ذاكرة لا تستفز
وهم اللون والفرشاة
ما الفرشاة؟
سؤال سخيف جدا واستفزازي أيضا، يعقبه سؤال:
ما علاقة الفرشاة بالرسم وبالقرطاس وبالمرسم وبالوجوه التي لا تجيد الاختفاء أحياناً ؟
الفرشاة ملهاة الأصابع
الفرشاة تصنع كذبة الألوان
الفرشاة قلبك النابض.. المتحرك
الفرشاة مرسمك.. أيها التافه يا غضبان
الفرشاة نحن.. الفرشاة رسمك
الفرشاة فعل حبك وجمالك الملقى على القماشة
الفرشاة ذهابك إلى عميق سديمك
ومنجاة سفينتك
وحافظ لوحك
وكاتب قلمك
وكاشف سرّك
الفرشاة كاغدك الصقيل وأنت صانعه .. محبره
الفرشاة الذهب الذي صيغ منه جيد نسائك ..انسياب أعناق حسناواتك تدلى عقد زهوها متفحصا نهديها الغضين المنتصبين بلا عمد حسب المجنون العامري
الفرشاة كاساتك الذهبية الممشوقة بالحباب .. حباب اللون وقطر الندى وانسلال الضوء من بين خطوط الظفائر
الفرشاة حريتك وأنت مكبلها .. عفوا مطلق عنان تألقها ..
عنان الرحمة لنا وعلينا .. منا وفينا
جبار: مرسمك يناديك ألا انهض وفرشاتك لنسائك أو نساؤك
قاسم حداد: الألواح والحروف والألوان الباهية والدفاتر التي تعشقها دوما بانتظارك
أمين صالح: المرسم ضاق بنا كثيرا لانقطاعك
منير سيف: يا وغد ازدادت خنقته علينا لغيابك
محروس : سيّجه بقنداتك وبصورك الفتنة
ديري: انهضْ بذهنك وقلبك ومجازك إليه
أيها الأحبة لا تصدقوا الفرشاة الطرية أبداً أبداً لأن الطري منها فعله غبش
لا القرطاسة الندية
لا كيميائية اللون وفيزيائية الضوء وسطح الطاولة ومباضع الحفر والنرجس النائم على باب المرسم
لا قهوتنا الصباحية والساقط على أرض المرسم من أحبار
لا البدل الذي أكله الذئب وهو في الخامسة من العمر
لا تصدقوا وجودنا وخرافتنا
ما نحن إلاّ وهم الوهم .. وهم اللون والفرشاة والقرطاس والقلم
ما نحن إلاّ قلبان مفتوحان عليكم .. على حبكم
ما نحن إلاّ الوهم الحق
ما هذا المرسم إلاّ جنة وأنتم أنهارها
أما الحروف تركت لكم تهجسونها أو تهجسون بها.
صباح المرسم
السلام على المرسم وأصحابه وحواريه
السلام على الحبر
السلام على الحفر
السلام على اللون والمعدن
السلام على الظل والضياء
ظله وحده
وضياؤه المشع لنا وفينا
كل صباح وكل مساء
السلام عليه علينا
واهب السكينة والطمأنينة
صباحات الصيف ( أعني الإجازة )
نرقبها بفارغ الهم رغم قسوة الطقس
إلاّ أن المرسم يحوله برداً وسلاماً
ننتظر هذي الأيام ونعد كل يوم يمضي ويذهب ويجيء ويروح منها باعتباره خسارة فادحة، لأن صباح المرسم يختلف عن كل صباحات الكون مجتمعة
صباح ليس كمثله صباح
صباح رنّات الملعقة الصغيرة في كوب الشاي الأحمر يذيب القند والظل ( قال المحروس )
صباح يحرص على اللون
على انعدام الرغبة في النوم
على الشعور بحضور الذات الفعلي والحقيقي
على القلب ينبض مسترخيا
صباح المرسم ليس كمثله شيء
يغسل ما قد علق ربما في الذاكرة
من درن وإثم وعكر
صباح
بإذنه يفتح الباب
باب الدخول.. إنه باب الباب
الدخول الذي ليس كمثله شيء
دخول الجنة
الجنة التي تتوفر على الحبر واللون والمعدن والقليل من الأصدقاء فاكهة المرسم الذين لابد من مشاغابتهم البهية الندية ذات الطهر
الساكنة المحرضة على فعل الحياة
دخول ينسيك ذاك العالم السافل المنحط التافه الساقط الهابط الذي أُرغمت على التواجد فيه، ذاك العالم الذي سدت في وجهك جميع الحيل والأفكار والأوجاع للفكاك والخلاص والتخلص منه - ولا مناص -
دخول يبقيك فيك
دخول ينقدك ويعليك ويرفعك ويرفِّعك ويبليك بالحب
يهبك الماء والعسل والورد والزعفران
دخول يعرج بك حيث لا صباح إلاّ صباحك
صباح ليته يمتد ويبقى ويكون صباح اليوم وغد وما بعده..
ظهره ومساءه وفجره وليله وليكن اليوم أو الدهر كله
يقول علي الديري
صباح المرسم ورشةً تضج بالضحك واللّون والوجوه الطويلة
صباح المرسم وجوهَ كُتبنا وحكايات أعمدتنا..
صباح المرسم أفق المساءات التي ننتظرها
صباح المرسم حيث العالم مرسم كبير
أخضر صار أبيضَ
كل الأسئلة مفتوحة عليك إليك
إلى أين أنت ذاهب يا هذا في تلك الغفلة..
قبل الغفوة المؤقتة.. هل حضرك جن الرسم وتخطرفت أمامك عفاريت الكلمات بين الضوء والعتمة ، ما قبل العتمة
يأتيك صوت خفيف ( اقبل يا عباس ) حملقت فيما حولك.. أسرة بيضاء فارغة تتسرب منها أضوية شاردة من نافذة إلى أخرى ومن أخرى إلى أخرى تطل عليك بخفتها..
لم أنت هنا؟
ولم الآخرون استراحوا.. يغطون بأحلامهم ..
بعيداً بعيداً عنك
ما هي إلاّ لحظات ما بعد سماع كلم القبول..
أين ولىّ قلبك ياهذا المشفوع لك بالخيط الأخضر وبالقباب الذهبية
تختلط لرؤيتها دموع فرح وحزن النساء
أوّل خطوة الخلع.. خلع خيطك الأخضر واستبداله بخيط ( بلاستيكي ) سخيف المنظر بشع الموضع
بكلِّ هدوء وخفة ناولوك المقص وقالوا هيا.. تفضل. اقطعه وأنت متسمر محملق في الوجوه وفى قلبك أيضا
أطاوعك قلبك حقا وكيف ؟
أ إربا .. إربا
نعم ورضيت أيضا وقبلت ووافقت وشاهدت وراقبت وفعلت وقطعت أيضا
أو نتفت جزءا من ذاكرتك أيها المجنون؟
أسألك قلبك حينها لم وافقت؟
شدّوا الستارة واستلقيت على سطح سرير لم تألفه روحك من قبل
جاءك صوت من هناك يقول..
لا تخف ولا تحزن، لا الذئاب عوت ولا الكلاب نبحت ولا الحمير نهقت في وجهك
ثمة غربان رفرفت أجنحتها بالقرب من جفنيك.. جفناك وردّا ساعتها ورأيتهما وقد أطبقا على الهدب كجناح فراشة
يا هذا لقد طارت الغربان والأصوات كلها انقشعت لئلا يقال لك ولّت ولم يبق إلاّ صوت رحيم .. رخيم... رقيق
صوت فتاة اتشحت بالأبيض وبنظرات متوارية قالت - الحمد لله على سلامتك -
استعدت ذاكرتك .. بحثت عن خيطك الأخضر فلم تجده.. استبدلوه بخيط آخر بلاستيكي قبيح الشكل واللون والمنظر
لقد استبدلوه، كما استبدل التخدير جسدك ووهجك وأخذك إلى غفوة مؤقتة لا تعرف مصيرها.. عقباها.. لم تر فيها صور من تحب ولا حتى صورك
رحت وغفوت وجئت والأخضر شكله لم يتغير.. ولم تبتعد صورته عنك ومنك.
احتمالات مفتوحة
في الطريق إلى المبنى الجديد يلفحك اللاّهوب، ما أن تمسك يدك مقبض الباب حتى ينتابك شعور الدخول القاسي، تبدأ قدماك صعود الدرج فتنقلب خلقتك رأسا على عقب.. قلبك يزداد خفقانا، عضلات فخديك تأخذان في التيبس، ووجهك يشوى عليه آلاف الأطنان من سمك السردين، لا تعرف بالضبط أي قدرة تلك التي أسعفتك على الوصول إليه.
خارج من زمنك ومن وقتك ومن وجودك ومن علاقتك بنفسك، بالكون كله ومن إيمانك بكل الآلهات، تنسى وأنت في العدم إلقاء التحية.
الصف مكتنز بالطاولات..الكراسي المصفوفة في أرجائه بما يشبه الانتظام.. الطلبة نضرة أشكالهم.. البراءة تعلو سيماهم وتغزو محياهم.. وأنت في الصف تبصر فلا ترى.. أنت الرقيب الأوحد المراقب من أكثر من ثلاثين عين وقلب.
أنت خارج وجودك وزمانك.. عين ترقب ملابسك، أخرى تحملق في رأسك الخالية من الشعر، عين وبكل رأفة الطفولة تتأمل هذا التناقض القائم بين جمجمة أسوّد قحفها، قد أخلاها الله من الشعر وذقن وُهِبت الكثافة وبياضها قد غزا سواده.
في الصف أيضا من يتابع حركة عينيك المتواريتين خلف عدستي نظارتك، ثمة مَنْ يتفرس فيك، ينتظر لحظة الانقضاض عليك، على شخصك فريسةً ضعيفة مستسلمة لعبثية الطفولة لئلا أقول قانونها وحدسها الخارق، إنها تشم رائحة صوتك.. ترصد شكل قلبك.. حركاتك.. لفتاتك ذات اليمين وذات الشمال.
تهدأ عندما تثور، تثور بعنف منقطع النظير..عندما تتغاضى أو لنقل تتشفى السكون.. طلب السكينة هو التضرع عينه، لا سكون إلاّ بالقوة، القوة لا تذهب إلاّ "بالخزرة"، القوة عنف والعنف فعل تافه وأنت تبغضه.
الصف المدرسي احتمالات مفتوحة على الفعل وردة الفعل والأسئلة..
أن تكون مسخرة، دمية تتلقفك الأعين المتربصة بك. أن تهدأ وتذهب بعيدا بروحك فقط بغية الاستقرار الآني، يعنى يذهب شخصك ووجدك.. يذهب حلمك المستقبلي.
أن تكون وحشا سليل زئير ستغادر منطقة طفولة قلبك
ستكون ملكا وملاكا، حتى حومك ونظرك يفقد قيمته
فلا عاصم لك إلاّ الكتابة
وحدها الكتابة تكون حبرك وماؤك ونجاتك من فوضى الطفولة الرقيقة الحالمة
وأنت في الطريق إلى المبنى الجديد
كبغل تصقله الشمس
هل صحيح أنه كلما تقدم العمر بنا تزداد مساحة فقدان الأمل/ الألم أو أن الزمن يمضي بنا سريعا نحو صياغة مستقبلنا بحيث نبات نتلقى قواعد وطرائق حياتنا التي من المفترض أن نعيش، أي فرضية تلك وما مقدار سطوتها علينا لدرجة أن حضورها في تفكيرنا يمثِّل دوما أمامنا أو هو جزء من حياتنا حتى أنه صار نمطا فينا ومنا.
صباحا تستقبل زمنك الذي لا خيار لك في رفضه أو تغييره
مجالك الوحيد أو حريتك إن شئت التي بإمكانك ممارستها هو ذهابك الخفيف في مشروع انتحارك البطيء دون علمك بالطبع وإن حدث وعلمت فإنك وبكل بساطة تسترجع أجواء اللعنة التي رسمت لك.. عليك.
في المكان الذي لا زمن له أو أنه أفرغ منه يخال إليك أنه محض جهنم متقدة على مشروع لُقنت وتعلمت تعاليم سرمديته وإغوائه شفاهيا وحاز جزءا كبيرا من تفكيرك مستقبلي الحدوث.
تجد في هذا المكان المجبر عليه قسوة كي لا أقول عنوة على التواجد فيه بصورة فجة وقاسية أيضاً أنك غير موجود أو بالأحرى غير معني بهذا الوجود فما بالك بالتواجد وإن افتراضيا محضا هو من أوقعك فيه، يحصل أن المكان ينسحب بخفة من بين يديك .. تفقد السيطرة عليه، يتأول ويذوب ويتماهي ويُبعث من جديد وأنت قابع في مكانك – لا حول ولا قوة لك - فتكتشف أنه
أنت المكان الوهم والموهوم .
وهمٌ لأنك مكان غير معترف به
موهومٌ بحضور الغائب دوما المتمثل فيك غير قادر على صياغة سردك وقصيدك وحتفك وحرفك الذي لا يشي إلاّ لغيابك.
مقنوع بالوهم
صباح الأمس واليوم والقادم تحرضك عواطف ( ضرورات ) البقاء المزعوم وأنت القنوع كذبا وقسرا بأهمية وفحوى وضرورة البقاء أعني الذهاب إلى ذاك المكان لأن الضد هي خسارة وهزيمة نكراء واستنقاص من فحولتك التي ما انفككت تنافح عن شرقيتها .. عن غضاضتها
هل أوصلك وهمك إلي الحق المختوم على جبينك يشع نورانية يتعذر مضاهاتها
لقد مُيزت وفُضلت واصطفوت ووقع الخيار عليك من أعلى بحسابات لن تقدر على فك طلاسمها وفعلها عليك ( لربما راحت إحداهن تزغرد ذات فرحة وخيال) بداخلها لحظة وقوفك ودخولك وقبولك هذا المحنة لئلا أقول مهنة.
فَهمُ قدرك صار خرافةً
والخرافة أنت بهذا الوجود البهي الضارب في رمادية سطح لوحة مخروق عبثا يبعد أكثر مما يطل ويفسر أكثر مما يؤول.
كم يا هذا المقتول – حيا - تتباهي بحتفك وقتلك وبالحب ورؤية الأبيض الناصع استحال سماء ماطرة، وقد صودرت منذ دهر من قلبك الأماني والرؤى.. منذ أن أعطيت درسك الأول إليك، الغير معني به أبداً وبهذا الذي تقدمه.. الواقف لأجله
ها أنت أدمنت الوقوف بغيرعلم.. بغير ذنب وفي ذات المكان
كبغل تصقله الشمس.
غابةٌ تِطلُّ عَلَيْه
الخضرة تغطي السهول والمرتفعات كلها.. كل هذا الفضاء متضمخ بالأخضر
الخضرة فتنة قال عنها كما المرأة بالضبط قريبة من الغنج
أقرب إلي الخضرة
المشهد ساحر برمته والعاصفة التي هبت للتو رامية أمطارها من زرقة سمائها علينا وأوراقها على أرضها لم يسعها العبث بهذه الخضرة أبداً أبداً
قال الخضرة أقوى وأرحب وأوثق تأثيرا وتأويلا
هذه السماء المزهوة بأخضر الانطباعيين الذين لطخوها بألوانهم وألقوا عليها مهجات أرواحهم وحرقة العين في اللون ومنه
من هنا على يسار المرسم أشار عليهم وإليّ حيث مرتع سيسلي وبيسارو وكلود مونيه.. حيث انطباع الشمس على نهر السين بـ " أرجنتوي "
غابة سان جرمان هناك يسبقها بستان الكرز.. أشجار الكرز الآخذة في الزوال قالها وفي قلبه حرقة عليها.. إنها تقتطع باستمرار.
ظننا يوما أن مرسمنا صغير.. ضيق المساحة وهو ندرة وكذبة يتنفس الأصدقاء إلاّ أن مرسم الفنان بشار العيسى الذي يصغر مرسمنا مساحة ( افتراضية ) يكبر ويكبر به وبما به.
الغابة تكّبره وتصعده وتهبه النفس الأكبر، إنه سحر بشار ووجده وشطحه وبساطته وحنانه الطفولي على لوحاته.
مرسم أكبر منا .. مرسم يكبر بنا هذا ما قرأت في التعابيرالخفية في وجهه.
كل مرسم يحمل نكهته ورائحته وألوانه وأوراقه أيضا ، كلما زرت مرسما كلما لاح في البال التذكر أو ملامح مرسم آخر لأحد الأصدقاء .. أتفاجأ أن كل المراسم متشابهة وأقرب إلى المغايرة والاختلاف.
تتشابه المراسم في الذاكرة وربما في أشيائها وحدة التباين فيما ينجزه أصحابها .. في المنجز ذاته .. في القلب وفي الأخلاق وفي مراتب الحب وفي الرسم.
مثيرة مساحة مرسم بشار العيسى بهذا الكم الهائل من الأعمال المختلفة الحجوم والكتابات أيضا وبالمدينة التي يحلم بها التي كلما فتّتها استحالت مساحات تستقبل تلك الشظايا ( المدن الصغيرة ) الحالمة به .. بحبه الذي يشتهيها.
فكل التشظي المتورد وكل الهالات اللونية المفتوحة على الحب، المفتونة به هي منها وفيها.
المساحات النورانية التي تكتنز بها الأعمال تفوق الرقعة الافتراضية للمرسم بل تهبه نفحات من الكبر والسعة وكأنها مجهر لرؤية تفاصيل هذا السحر السرمدي الذي يتمثله بشار العيسى وهو يلقى بقلبه على قماش الرسم، يكبر المرسم بالوامض من الأبيض ومن زخات عناصره وشخوصه التي تتبوأ علو اللوحة وكأنها في مراتب وجد صوفية اصطفاها بشار لها لتلامس لذة التماهي بوصفها خلاصا جماليا.
ثمة ومضات من نور يزخر بها مرسمه تغسل ماء وجوهه
ثمة زهرة الزعفران التي تشي للقلب وللترحاب وللاتساع والانفتاح على كل ما هو خير وجمال.
ثمة ما يتسع به من نرجس وياسمين لحد أن الغابة بخضرتها والكثيف من أشجارها صارت بياضاً فراحت تطل عليه.
أن تكون ثوريا .. التزامك الجمالي
رحل الفنان التشكيلي السوري برهان الدين كركوتلي الجمعة الموافق 26 ديسمبر 2003 في بون عن هذا العالم بصمت جميل قريب جدا من ضجيج رسوماته المنذورة للجمال والإنسان بموازاة خفة صوته الأقرب إلى التواري منه إلى الهدوء المنثور على مسارح ألمانية الشعبية حيث كان حكواتيا يطش الحكايات والطرائف السياسية والاجتماعية القادمة من الشرق إلى الغرب، جاء الخبر وقعا قاسيا على سامعه من الدكتور أكرم اسكندر الصديق الحميم للفنان الراحل برهان الدين الذي كان يقيم بين الفترة والأخرى في بيته حيث كان البيت محطة استراحة بعد عناء الترحال في تلك المدن القصية والعصية على احتمال الإقامة فيها بعض الأحيان حسبما أسرّ لي ذات يوم.
في هذا البيت الذي عادة ما يؤمه الفنانون من كل حدب وصوب ضيوفا خفافا لما يمتاز به من خصوصية تعودت مساحته على استقبال الفنانين حيث حميمية أهله تزود الفنان بجرعة الذهاب إلى جنيته بالضبط كما يفعل الدكتور أكرم مع مرضاه، ففي هذا الحيز الجميل وكل ما حط المرحوم برهان الدين رحاله كان يزاول الرسم فقط والقليل من الكلام والانحياز التام إلى التقشف في الأكل والشرب حتى غدا سمة أساسية في حياته.
رحل الفنان حاملا وراءه أوزار وأثقال أمة أنهكته ظروفها القاسية المدمرة (المخزية حسب تعبيره ) نذر حياته فقط لمشروع اسمه الإبداع – رسما وسياسة – ومن يقل أن السياسة ليست إبداعا ؟
هكذا كان يفهم الأمور حسب قناعاته كما كان يقول
أتعبه الرحيل .. وأنهكه الترحال، حتى المدينة لم يعد يحتمل البقاء فيها واستيعاب رتمها الصاخب ولا الساكن منها لذلك فضل التنقل بين الأصدقاء حيث الأمان والراحة النفسية، وبين المؤسسات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي ينفذ ويقيم مشاريعه ويعرض أفكاره سواء ما يتعلق بالرسم أو بما آل إليه في السنوات الأخيرة من حياته مارس فيها مهنة الحكواتي على خشبات المسارح الألمانية التي عدها رديفا عضيدا بامتياز كمحطة تنفيس، كما يدعي وإضافة منقذة في الكثير الأحيان من حالات الانكسار والسأم والإحباط الذي يمر به.
اشتغل الفنان الراحل عميقا بالسياسة لصالح الثورة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية ونصيرا فاعلا حتى آخر لحظة من حياته لحركات التحرر العالمية منذ الستينات من القرن الماضي، كان مناضلا حقيقيا على أكثر من صعيد (الفني والإنساني).
أبداً لم تثنه الأحداث السياسية الجسام عن تغيير مواقفه أو تبديل نظرته إلي الحياة بمفهوم الحياة نفسها وفهمها وبطريقته في الاحتفاء بها.. إلى الجمال والإنسان والإبداع، قال لي في غير مرة أنه تخلى عن العمل المباشر مع الفلسطينيين بسبب اتفاق أوسلو الذي أبرم بين الفلسطينيين والإسرائيليين حيث كان يرى في هذا الاتفاق مهانة وتفريط في مكتسبات وحقوق وطنية بلا ثمن، لا تصل وترق وحجم التضحيات التي قدمها ويقدمها الشعب الفلسطيني..
سألته عن معنى الثورة وما علاقتها باللوحة؟
قال: الثورة هي حس طبيعي في الإنسان كرسام.. الإنسان بطبيعته يبحث عن الجمال، حلمه أن تمتلئ الحياة بالجمال الإنساني، الأرض مليئة بالبشاعات السياسية والاجتماعية وأنا كرسام مخلص لإحساس الجمال.. تجب علي محاربة هذه البشاعات وإلا فأنا لست رساما.
أن تكون ثوريا هو جزء من التزامك الجمالي.. الثورة هي إحساس جمالي قبل أن تكون موقفاً سياسياً.. الرسم يُخلق ثوريا.. ثوريا ضد التقاليد البالية.. الأكاديميات القديمة.. لأنه يخلق ليبحث عن عالم إنساني جديد.
كرّس الفنان الراحل معظم حياته الفنية مركزا على الرسوم الجرافيكية والطباعية منها والمباشرة أيضا ولربما كان مرجع ذهابه في هذا المشروع المجنون وهذا الأسلوب الذي عرف به وميزه عن أقرانه، قناعته الداخلية بأنه ثمة قيما جمالية وبصرية تتوافر في هذا النوع من الفنون يستطيع عبرها إيصال رسالته كونها تختلف عن غيرها من الفنون بسبب التعدد وشساعة الانتشار والحضور المكثف القوي القائم على التضاد الحاد بين الدكنة الحالكة والنور، وفي ذلك التناغم المتغلل بين تلك الخطوط والمساحات الموحية بموسيقية صوره.
لذا كتب نوتها وكأنها تعمل على قيام حوار عميق البوح بين عناصر العمل الفني المتماشية والأهداف التي ينشد والتطلعات الفنية التي يبتغي جراء تعزيزه هذا التواصل، منطلقا من توظيف تلك القنوات الجمالية في إيصال رؤاه وأفكاره السياسية والفنية والفكرية والاجتماعية.
إن القيم الفنية والجمالية التي حرص الفنان المرحوم على البقاء داخلها، تمثلها فعلا حقيقيا يوازن بها بين رغبة روحية هائجة تبتغي الاستقرار وتنشد السكينة وقناعة صلبة ثابتة حتى رمقه الأخير وازت بين الروحي والمادي عمادها البحث عن حالة السمو الإنساني الذي لا يشاكله شيء غير فعله الإبداعي وبين تلك الجمالية الغنية المستترة وراء سرمديته.. سرمدية بحثه.
لم يقتنع برهان الدين أبداً ذات يوم إلا بانتشار وبشيوع اللوحة ( سيما المطبوعة ) وتعدد نسخها كي تصبح مقتناة لدى أكثر من شخص ولئلا تكون حصرا على أحد دون غيره، مبدأ يرنو لكسر قدسية هذه الأحادية التي ما انفك غير نفر من الفنانين يتباهى باعتبار ذلك خسارة اقتصادية فادحة وتدمير وضع لسوق تجاري سر قيامه وشرط بقائه استمرارية ضخه ببضاعة ما يسمي " اللوحة الفريدة " فقط والتي لربما تغير قيم وعادات وتقاليد ( لعبة السوق ). مما دعاه لأن يسمى هذا النمط من الشيوع الطباعي " اشتراكية اللوحة " .
اشتراكية اللوحة هو النمط الذي يهدف به ترويج العمل الفني، وفلسفة كهذه لا يقدر على ممارستها إلا المؤمن بعدم حصرية الاقتناء وفتح فضائه إلي أكبر عدد من شرائح المجتمع سيّما الغير مقتدرة ماديا متستقوية بقدرتها على التذوق الجمالي والتقدير العالي للوحة والإيمان بأهمية الفن في الحياة.
في السنوات الأخيرة من حياته ابتعد قليلا عن العروض الفنية وإقامة المعارض الفردية وذلك بسبب شعور بالملل والقرف، نتيجة طريقة عرض الرسوم .. طقوس عرض اللوحة.. وأمور أخرى يصعب الإفصاح بها قال لأنها ربما تعد خارج تفكير هذا الزمن.
قال المرحوم الفنان برهان الدين : مرة سألني صحفي ألماني بم تحلم؟
فقلت له أني أحلم حاليا أن اشتري حمارا في بلدي وأضع اللوحات على ظهره يمينا وشمالا وأدور بها من قرية لقرية وأعرضها على الفلاحين والفقراء.
هذا النوع الجديد من الافتتاح أحلم به وأرجو ألا يفهم على أنه سخرية. هو نوع من حلم فقط.
ومضة ضوء مسترخية
ربما تواضعه قاده إلى تعفف فاق اللزوم عن إقامة معرض شخصي..
ربّما قلقه وحساسيته المفرطة قادته للتساؤل عن جدوى العرض الفردي، وهو ما أدى لهذا التأخير غير المبرر في اعتقاد الكثيرين ممن يعرفون المحروس عن كثب.. يعرفون جنونه.. ولعه وهيامه بفن التصوير الفوتوغرافي معرفة نظرية وعملية هي زاده وركيزة انطلاقه.
الصورة فضح.. فضح مستور اختبأ وراء مكشوف لا يراد له الظهور، وإن بزغ فهو مترنح يبحث عن شوارد الصعقة ويقتفي الساقط من الصراط، هذا الصراط اللعنة، كسماء لا تمطر في الشتاء وبرازخها تقتات حليب ألوانها من صحار مقفرة أضحت كجسد امرأة اهترأ فلم تعد تمعن إلا في المتبقي من ذاك القوام النضر..إلاّ في ذاك الزمن الذي ولىّ وتركها وحيدة والزمن.
الصورة بيان تبليغ للجمال.. لرحيق الحب.. للجسد في الماء.. للنار.. للنهار..
للظلام مُخترقٌ بومضة فجر مسترخية على جناح فراشة
لسهم يمرق رقيقا كبلورة ماء سقطت على حافة زجاجة فاستحالت فسحة ضوء.
الصورة بيان صورتنا، تحديد وجهتنا، تاريخ حضورنا، كتابة ماضينا.
فسحة للتأمل في الحاضر، للتقليب في الغائب.
إنها بلاغ صورتنا المتوارية، الواقفة خلفنا.
هكذا يخبرنا حسين المحروس في بيانه البصري ( صوره الفوتوغرافية )
هل الصورة مرآتنا.. مرآة الواقع.. الباطن والظاهر
أم الصورة مرآة الآخر، عبرها يمكننا دخول عوالمه المدفونة والظاهرة و تتبع خيوط أهوائه بمجمل ارتباطاتها، النفسية والاجتماعية و..و..الخ
أم الصورة هي ذاك الخط أو الواقع الهلامي الذي لا نراه ويستعصي علينا تتبع خطوه أو لمس خيوط بداياته ولو من باب الفضول البحت؟
أم أنه الواقع الغائب فينا والمغيب عنا، الذي نحياه خارج مساحة التجلي، داخل مفاصل غفلتنا التي نصدق دوما وجودها ونؤمن باستمراره دون علم ودراية منا – خارج منطقة الوعي والتبصر، وإن ورد الظن بتواجدها فإنه لا يتعدى كونه الوهم البهي الحاذق بتوافر أجسادنا فيزيائيا على رقعة أرض ما فتيء أصحابها غير قادرين على مغادرة مساكن الفتنة والوشي وتجاوز مسارات ممارسة ( دعارة الكذب ) بكل أشكالها وبأبشع حالاتها.
صندوق مسافر وزهوة طفل أو إعادة اعتبار
يبدو أن حسين المحروس من خلال هذه الصورة الفوتوغرافية مهووس بملاحقة القديم إن لم يكن يهوى ويعشق كلما ما له علاقة بالماضي ولو من باب التوثيق داخل الذاكرة التي حظيت برفيق رقيق ومسالم أبداً يحفظ لها ما تتمناه ( ذو صلة بالماضي) يذكرنا دوما بجداتنا وعلاقتهن بالصرة والزبيل، هذه الصورة التي أوحت بهذه الفكرة أيضا توحي بأمور على صلة بالماضي والطفولة والبراءة والحسرة والمصير، وتحرض أيضا على المضي قدما في الإمعان في عناصرها المادية المكونة لها، الإمعان والتدقيق في العناصر التي تسعف الذاكرة في الرجوع إلى الوراء رغم بساطتها، و-تفاهة عناصرها الملتقطة- إلا أنها تمتلك القدرة على البوح والإفصاح وتوضح مدى قدرة المحروس في التلاعب على الكتل وتوظيفها التوظيف الرائع الذي يحرك مجمل الجو الفني العام للصورة وصولا لتحقيق المبتغى الجمالي لتكوينه المعتمد على -صندوق مسافر- تعب من كثرة الاستخدام والترحال به واهترأ وفقد رونقه حتى لتخاله قطعة أثرية يشتاق المرء للاحتفاظ بها، ولو رغبت في ذلك لا يدع لك المحروس افتراضا تحقيق ذلك لأنه اشترط أخذ وسيلة المواصلات كتابع أيضاً، علاقة غرائبية جمعت عناصر هذا التكوين فصارت أقرب إلي الخيال منه إلى السؤال في هذا الزمن الذي يحاول المحروس إخراجنا منه والإلقاء بنا في جب ماض هو يحبه ويعشقه.
عبر هذا البيان – الصورة – يحتج على الكثير من الأمور التي لا تتمشي وطموحه كمبدع يمتلك بصيرة ترى وعين تخترق من خلال هذا المشهد. عجلتا الدراجة الهوائية وبقائهما داخل الصندوق، يعني لا سفر ولا مغادرة دون أمتعة ولا طفولة تحلو وتخلو أيامها دون دراجة هوائية، أبداً وكأنه ببساطة طفل راح يربط هذا العلاقة المتينة فنيا بين وضع العجلتين داخل الصندوق والإضاءة المتساقطة وحالة الصندوق اللونية المليئة بالصدأ والقدم وحالة الطفل مالكا دراجة هوائية يملأ قلبه الزهو والفرح، وبين هذا الترك والإهمال والانتهاء الذي آل إليه مصير الصندوق الذي تخلص منه صاحبه وأعاد المحروس إليه اعتباره بجمالية تفوق وظيفته المادية ووضعه الذي هو فيه حيث تعدى وضعه الذي كان عليه عندما كان يتحلى ببهيج صباغته الأولى التي صغرت وانتهت قيمتها الفنية أمام غنى التعتيق اللوني.
القوة في الحاضر والماضي
عندما يتحدث الفنانون والمتخصصون والعلماء والناس العاديون و... الخ عن الجنس البشري..عن الكتل الأكثر جمالا وبهاء وبروزا يشيرون إلى الوجه بخلاف العناصر الأخرى ( الجمالية التي يقوم عليها جسد الإنسان ) بوصفه أول العناصر إثارة للبصر والبصيرة . فكيف يمكن قراءة هذا العنصر الهام من جسد الإنسان حين يفقد جميع خصائصه الجمالية من شَعَرٍ وعينٍ وأنفٍ وأذنٍ؟
ما الذي سيبقي من هذه الرأس التي كانت في يوم ما شموخ والبهاء؟
إنها الدهشة التي ستصيبنا، دهشة التعبير والقيم الفنية التي تمتلكها هذه الرأس رغم فقدانها عناصرها الجمالية الأولى المادية والنفسية.
هل لنا استقبالها هذه الرأس التي تستحيل جمجمة واستقبال صورتها التي تبدو عليه بشكل مغاير ومختلف كاختلاف النهار عن الظلام عما كانت عليه وقت التألق والحضور؟
هذه الأسئلة وتلك تجرنا إلى الصورة – صورة الجمجمة – باعتبارها نصا بصريا يمكننا قراءته جماليا بأوجه متعددة كيفما أسعفتنا القدرة على الغوص فيه والدخول في عوالمه المتكونة من كتله العظمية وفراغاتها حيث تكون الأبعاد الثلاثية "باعتبارها منحوتة" حين تخللها الضوء الذي عرفت بصيرة المحروس التقاطه وتمكنت عيناه من اصطياده والسيطرة على مفرداته الفنية بحيث أظهر البارز والغائر كعلاقة خلاقة تبرز الضوء والظل وعلاقتهما الوطيدة في هذا العمل الفني – الجمجمة – بالكتلة والفراغ بحساسية الرسام الملون وإن أظهرها بوسيط آخر هو الكاميرا، أنه فعل إحضار الحاضر وإبرازه بقوة الماضي.
صلاة السيف
أوّل قراءات السيف هي علامة القوة والشجاعة والإقدام والدفاع عن النفس والوطن ولربما من أوائل التأويل أيضا هو العداوة والبشاعة والقتل أيضا، وهذا لا ينفي بالطبع صفة الجمال عنه سيما إذا ما صادفنا سيف قد تتفنن صانعه وأبدع في صياغته شكله وزخرفته، وعادة ما يحدد الفرسان ( الكبار والمحترفون وذو الشأن ) شكل السيف ووزنه وطريقة صنع غمده ونصله، وليس ببعيد عن هذه الأجواء النفسية الحميمة التي تربط الفارس بسيفه، فالمحروس في هذه الصورة يبرز تلك الحالة المشحونة بالبشاعة والخوف ولربما بالفاسد من الممارسات التي تخذل هذا أو ذاك من الفرسان البواسل وترمي بهذا السلاح الذي كان في يوم ما الأهم والأفضل إلى حضيض قيمته التاريخية والاجتماعية والنفسية. في هذا الاصطياد ( اللقطة ) الفذ يحاول المحروس إظهار الجانب النفسي متمثلا في طريقة مسك السيف المتصفة بالرقة، المشحونة بالحنان، أما الحد الفاصل ( فصل الحق عن الباطل.. فصل الأسود عن الأبيض .. الخيط الرفيع من الخيط الضعيف ) الذي قسم الثوب إلى شطرين، فإنه اجتهاد للوقوف من حدين، حد الماضي وقراءته ضمن زمانه ومكانه التاريخي وحد الحاضر الذي نعيش عبر تلك الوقفة الاستفهامية وطريقة المسك التي تجعل السيف حاضرا في غير مكانه فاقدا مكانته ومكانه ورونقه السابق الذي وجد من أجله، إنها الصورة الأبعد، صورة العمق الذي أراد المحروس إبرازه عبر هذه اللقطة الرمز متلبسة بثبات الوقفة وركازة التكوين.
البقاء للماء
آه من الماء ومن الورق ومن تلك العلاقة الجدلية التي بينهما، في هذه الصورة للماء قوة السيطرة والحضور وللورق فتنة الغور داخله والاستلقاء على سطحه الرقراق.
ثمة علاقة فنية صيغت ببراعة رسام أداته كاميرا قائمة على حالة من التقارب والتنافر القائم بين ثلاث الوريقات وما بينهما من علاقات لونية تنتمي لهارمونية الراحة والهدوء المتحصل من اصفرار الأخضر يحاكي البرتقالي والبني المشع بفعل غسل الماء، الماء الذي إبرز الكنه المتوهج والشفافية التي اعتقدنا القاع عبرها سطحا علويا غنيا بالضربات اللونية الرمادية، إنها العين القادرة على الصيد وعلى بناء التكوين وكتابة حوار عناصر الصورة.. اللوحة فنيا وجماليا.
حوارُ القدَمَيْنِ
هذه الصورة "إن جاز لنا القول" تنتمي للرمزية، فإنها بالمقابل أيضا تطرح مجموعة من الأسئلة والتي باتت أكثر إلحاحا في هذا الزمن بعد هذه الثورة الحاصلة في عالم تكنولوجيا الكاميرا.
عن كيفية التعامل مع الكاميرا ومن أية منطلقات؟ وما المراد من حملها والتعاطي معها فنيا فرضا؟
نرمي الكيفية التي تخلق شكلك.. تكوينك محتو العناصر الفنية المؤهلة لنجاح الصورة والذي لا يتأتى إلا من موهبة مدعومة ومعززة بثقافة بصرية يعوّل عليها في خلق وصياغة الموضوع كصورة القدمين والورقة للمحروس الذي اعتمد فيها البساطة مرتكزة على الترميز ( الحوارية القائمة بين أصابع قدمي الطفل والورقة التي ربما خيل إليه أنها دودة بحر أو حشرة ) تاركا الفراغ مساحة لونية قوامها الرمل الطري تهب الهدوء رغم حسها الجرافيكي الخشن ، إنها لعبة توزيع العناصر لا غير.
أقيم المعرض على صالة مركز الفنون فبراير 2005
مصورًا فوتوغرافيا
الصورة الفوتوغرافية باعتبارها لقطة لمكان.. لزاوية لم تتمكن الاحتفاظ بوجودها وعملت على تثبيتها في زمنها، أو لربما وهبتها صفة البقاء لزمن قادم , أو إنها صورة لتشكيل حيز زماكاني أو لإعادة صياغتها في حلة باهية علها تكون أحلي وأجمل مما هي عليه في الأصل والواقع , إنما فضولية اللقطة هي من ينساق وراء فتنة وصفها .. هي ذاتها المحرض على كشف مستورها .. لها القدرة على التغرير بالمصور الفوتوغرافي وأخذه على حين غرة إلى مصير لم يشأ الذهاب إليه الآن أو غدا افتراضا.
الصورة بوصفها إعادة خلق لصورة لم تكتشف بعد ماهيتها وأبعادها ولربما هيكلها الخارجي.
هي إعادة الاكتشاف لحدث مستور مغشية عيون الآخرين عنه وتجاهه
الصورة الفوتوغرافية ديمومة لا تعرف الثبات منذ القرار الأول … منذ تعيين الموقع وهي في سمتها لالتقاط الحدث .. المكان .. الزاوية .. إلى أن تتعرف استقرارها النهائي الذي يبدو هكذا بهذه البساطة للمتلقي.
هي من البحث الدائب في الزوايا وعنها أيضا, رغم عدم جاهزية صاحبها مثلا لطرحها كمشروع بصري يؤرخ الحدث والمكان بمعطياته الفنية والتقنية التي ترتكز عليها لقطته ... صورته.
يعرف كمسرحي وشاعر وصحفي محمد الحلواجي, لكن ماذا عما نحن بصدده, الحلواجي ذاته حيث الصورة بوصفها التجسيدي.. التخيلي أيضا, لم تفارقه أو هو لم يستطع التخلص منها وكأنها قدر يلاحقه بدراية وظن وعلم أو بغير قصد بتصورها عالما حالما تقع في فخاخه دونما ينتبه أو يستدرك فترة ولوجها أو يتعرف لحظات قدومها وإقبالها إليه عارية كامنة في فتنة هالاتها.. هالاتها فقط لتعددها ولاختلاف أشكالها ولتباين أزمانا قدامها عليه حتى لا نقول قدومها كون هذا القدوم يمكنه من صدها ويعطيه قدرا من الحرية في المناورة عليها, وتهبه مبررات حياكة حيل التخلص منها, أقصد نفيها من عوالمه وأجوائه الداخلية المضطربة دوما بسبب السؤال, ونظرا لقوة وقع الأولى عليه وتغلغلها فيه تلقى الترحاب وهو مرغما على احتضانها وتبنيها والتعامل معها باعتبارها توأم روح يدافع عنها بالمزيد من البحث والتجريب داخل مجساتها الفنية.
إذا كان العمل الفني النحتي يتسم بأبعاده الثلاثة فالصورة عند محمد الحلواجي تأسست أبعادها بصورة مغايرة لهذا المفهوم, أعني جانب التأسيس. الصورة كعمل فني ( بالشكل الأكاديمي ) البحت رغم ذهابها إلى تلك المرجعيات الفنية التي ترتكز على ثلاث حالات - مواقع - تبدو للوهلة الأولى متنافرة بعيدة عن بعضها لكنها أكثر قربا والتصاقا وعلاقة سيما لجهة تكوين الصورة.. صورة هذا المشهد الغريب ربما.
الأولي: مبعثها المسرح.. هذا العالم شاسع المدارات, مارسه الحلواجي ودخل لعبته دراسة وإخراجا وتمثيلا, هذه الصورة بالنسبة إليه مكتملة واضحة المعالم على أكثر من صعيد والذي وردت فيه الصورة بهذا الشكل حيث عوامل أخرى ساعدت على هذا الظهور المباغت إن جاز القول أشدها وأكثرها قوة قربه من فضاء التشكيل وهوسه بشكل لافت بالشكل واللون .. المسرح.. الصحافة .. الشعر.
التشكيل واقع متعدد المباحث والطرح أثرّ فيه وحرضه على الذهاب إلى الصورة الفوتوغرافية وإلى دخول فضاء السبر والتجريب والخلق بالأسلوب بالطريقة التي وجدها مرضية تماما لجهة بداية التكون في هذا المجال المؤسس على المرجعيات التي سبق وأشرنا.
إذن لم يجد الحلواجي وسيطا آخر لإبراز صورة مقروءة بموازاة الشعر والمسرح إلا آلة التصوير - الكاميرا - فراح يلتقط همه … صورته الشخصية … وجه هذا العالم المحيط بنا, العاج بالجمال, الضاج بفتنة الظلم, المشتعل بقنديل الضلال.
منه تكون الصورة أبلغ صمت لهسيس أنوارها وفصاحة تكوينها.
الثانية : القصيدة , لا قصيدة بلا صور أبداً.
أليست القصيدة الشعرية إلا صورة، صورة هذا الكون، هي لوحة فنية إن لاعتبار شكلها الخارجي أو لفعلها ومضامينها الداخلية, هي تجريدية الشكل عند القراءة البصرية كفعل جرافيكي، وتعبيرية المبتغي وإن اتسمت صورها بالتجريدية أو الرمزية وإن اتخذت الطابع السريالي مبحثا ومنطلقا، هذه الصورة الروحية والذهنية المتبلورة عنده كشاعر ساعدت على دخوله عالم المشاغبة، مشاغبة الذات مرة ثالثة من أبواب أخرى، أعني مشاغبة الصورة بصورة أخرى، يخرجها الخيال بصورة مغايرة تحتفظ بطقس قراءتها كنص بصري جرافيكي بخلاف الصورة الأولي المحتفظة بعناصرها الجمالية .
تبقي الصورة هي الفضاء الأرحب للبوح والكتمان والقراءة وتصور هذا العالم.. العالم الذي يعيشه المبدع ويحياه سواء صاغتها قريحة شاعر أم شكلتها يد فنان أم التقطها قلب مصور فوتوغرافي.
هنا الصورة الفوتوغرافية لم تلغ الصورة الأدبية المدسوسة في القصيدة عند الحلواجي بقدر ما تكون هي عامل محرض أيضا على اصطياد اللقطة والصورة الموازية في قوة فعلها وشدة حساسيتها وفرط شفافيتها التي يبحث عنها.
الكاميرا ليست كل شيء، الأمر لا يخلو إطلاقا من النقل وملامسة حد الترجمة، ترجمة الصورة المضادة لفعل وأجواء وطقوس الصورة الأولى.
يبدو أن الحلواجي منذ عزم الولوج عالم التصوير الفوتوغرافي بمتعة تسندها معرفة.
المتعة بجمال الزوايا وفتنة عناصرها الفنية
المتعة باللعب في التقاط الزوايا الأكثر غرائبية عليه وعلى المتلقي أيضا
المتعة بالبقاء هناك خلف ستار آلة تصويره التي تفوّق بها على ذاته المفتونة والمجنونة بها.
يشتغل الحلواجي على عدة مواضيع في تصويره الفوتوغرافي ابتداء من تسجيلية واقعية ترصد الحدث الذي شارف على الانتهاء زمنيا، و الوجوه، انتهاء بالوقوف عند التقاط الزاوية التي تمثل حالة ( رسم وتصوير ) تجريدية بحتة يعتمد الإضاءة منطلقا والتقشف في عناصر الصورة الفنية موئلا ومرتكزا بحيث تبدو الصورة الفوتوغرافية وكأنها لوحة مرسومة لجهة الجوانب التقنية المستخدمة كاللون وملامس السطوح مثلا.
كما يلعب أيضا في بعض فوتوغرافياته على حيوية الكتلة محاولا إيجاد أسلوب يتناغم فيه الفراغ بالكتلة والفاتح والغامق جاعلا من هذا التضاد الحاد لغة تفاهم وجو سكينة تتحصل من خلاله وحدة العناصر خارج إطار تراتبية ثبوت الشكل والذي منه تحقق سر ديمومة وبقاء تكوينه لما في الصورة المسماة FLACKS مثلا.
عموما تبقي الصورة الفوتوغرافية هي المحطة الجنونية الثالثة في عالم محمد الحلواجي الإبداعي المتعدد الجهات والفضاءات حيث عملت القصيدة والفن التشكيلي والمسرح وبشكل لافت على إبرازه وخلقه وتكوينه بموازاة الشعر والمسرح.
يستفز مدنه الحالمة
الفنان موسى عمر من الفنانين العمانيين الشباب الطالعين والبارزين على الساحة الفنية العمانية وممن حققوا حضورا جاد المكانة، لافت المستوى.
يحدثنا عن تلك المدينة ..عن تلك المفردة الممتدة إلى تخوم البصري الذي ربما بصر أو أستل من ذاكرة طفولية لم تشح مياه منابعها بعد.
يحدثنا عن عنصر حاد ومتأجج كمخزون بركاني هائل لا يهدأ، بعد العرامة والوهج إلاّ بمجس الخط واللون.. يروي لنا حكاياته.
مخططات ( مدينية صرفة ) صاغ في لحظات اللاوعي قوانينها فراح بها يهجس صمت ناسها ويتفاعل مع تعرجات أزقتها وحدود حاراتها . إنها مدنه مرسومة ومهندسة لمشاهد حية تتنقل داخل مفاصلها العين والقلب بين خط ومساحة ولون وإشارة.
مبهورا بطقس المدينة بكل تجلياتها ... جنباتها .. بالخارج منها والداخل, مهووسا بالغوص في كل ترميزاتها حد اللب والفحوى، بإشاراتها، بالكامن والظاهر من دلالات عمقها، تلك التي ولا ريب تفضي بالمتلقي إلى عوالم أصحابها – سخية العطاء – إلي هواجسهم وأفراحهم وإلى ما يوميء إلى براءتهم الدفينة المرسومة بلون السحن على جدرانها، فلا صراط للقراءة والمعرفة والرؤية إلاّ عبر مرصد فعله الإبداعي ( نصه البصري ) كوة الرؤية والنفاذ إلى الداخل.. إلى عوالمها.
يأخذنا موسي عمر بخفة طيور – مطرح – محلقة محملقة ترقب الأسواق العتيقة، تداري القلاع والمآذن وتشير إلى القرية والمدينة وإلى طرقات وأزقة الحلم الأولى التي ما انفكت تحضه وتمده بزاد ورونق الفعل البهي ( الرسم راصداً به توجسات الناس في حضورهم الغائب وملامحهم المتوارية وجدرانها المشكّلة بفعل الزمن والمتبقي من طلل تحفظه الذاكرة، والمزركش من أبواب، والجميل الفاقع مما يرتدين النسوة من ألبسة تزين هيئاتهن وتضفي جواً من الزهوة الغناءة والغنى عكسها على معماره ممثلة بموتيفات لونية وخطوط تمضى بحرية في تلك المساحات بين مخفي وطالع .. بين مرتفع ونازل تبث العتمة والنور في مفاصل الغائر والنافر بعمق، مستحوذة على روح الطفل الفنان موسي عمر الذي دلف يرصد حركتها وخططها وخطوطها ويشيد معالمها مازجا الحديث بالقديم، ومشيدا بناء آخر بمتخيل لا يشبه إلا ذاته، بتصورات الحالم أبداً بأسلوب طفولي باهر .. شفيف متروك إليه عنان المخيلة يسبح في تلك الفضاءات السرمدية لاعبا عابثا ( خاضع لقوانين براءته وعفويته ) يثبت خطوطه بثقة العارف، يخربش بأصابع تنطلق بخفة كما يحلو لها غير آبه أو مكترث لغير العيش في عوالم مملكته بحرية الطفل الغير مخترقة.
يرسم ما تمليه عليه المخيلة المنفلتة منذ الصبوات الأولى مستخدما مواد صلصالية – ذات صلة بالأصل – إن جاز لنا القول ( هي المعاجين ) يلعب بها لعبا، يعيد صياغتها بخفة متناهية العبث، فمرة يحضر الخط غائرا خافتا يشير إلى التواري وأخري نافر يؤكد الحضور بموازاة اللون بكل تجلياته وجدليته، الحركة .. السكون.. التواري.. الحضور .. قوة التعبير وإطلالة الإفصاح الذي عادة ما يكون عبارة عن مرآة تعكس ما شاهدته العين ونافذة يطل وينفذ منها إلى مخزون الذاكرة، ذاكرة المدينة ( المتخيلة للمستقبل ) التي تستفز روح الفنان الطفل فيستعيد تاريخ وحاضر وماضي ناسه وسمات وخصائص تلك الحواضر التي ما انفك العمران الإسمنتي يزحف إليها وعليها.
من ذلك نرى الفنان موسي عمر في رحلة هيامه المدينية – نسبة إلي المدينة - يحاول صياغة وإعادة مجد حواضره بجنون العاشق المفتون بهذا اللغز والسحر، برموز البيوت وبكل ما تحمله من مخزون، لذا دلف يشكلها ويفصلها كبديل آخر لا يتواءم إلا ورؤيته الخاصة بهذه الحبكة الفنية والتقنية التي أحدثت حالة الحوار القائم بين عناصر اللوحة الفنية ( المدينة ) متمثلة في تشابك الخطوط بالمساحات وتداخل طقوسية كتابة المحو بخربشة الأطفال على الجدران وسماقة المآذن التي ولّت تناغي أهلّة قبابها المشتعلة الألوان تضيء الممرات والطرق، وعليه أضحت اللوحة ساحة مفتوحة وعالما زاخرا بقيمه الجمالية الخاصة به.
صارت اللوحة عند موسي عمر عالما تحمل بين ثناياها شرط وجودها المعماري المهتم والمهموم بالمناحي الاجتماعية والنفسية والجمالية، هذا الذي تومئ إليه عناصر اللوحة الفنية مجتمعة .
مدينة ممتدة .. متفرعة .. متماسكة لا يكبح انطلاقها ولا يوقف ذهابها إلى هناك إلاّ نهاية القماش، هذا الحد ( الوهم ) إلا متناه.
أسوار من الصلصال
بقدر ما رأيت أعمال رسم الفنان موسى عمر ، بقدر مارأيت خزفياته بصورة ربما أكثر مغايرة.. أكثر اختلافا رغم تقاطعها البين معها، بمعنى أن شعورا ما خطفني إليها باتجاه التقارب بينها وبين تركيبة الفنان ذاته الشخصية أو بصورة أخرى الإفصاح التي تبوح به وتدل عليه ( أي على شخصيته ) هذا الفنان الطفولي ( الفطري والبسيط ) إن جاز القول في نظرته للحياة وفي تعامله معها حيث ينعكس هذا السلوك هكذا بسحرية باهجة على خزفياته وكأن نطقه وإشارته وبوحه وتأمله يصير تصرف بريء على الصلصال وكأن إيغال الأصابع واللعب في الطين وبه ومداعبته والتشكيل منه وعليه ضحكة والتلوين ( التزجيج ) نظرة حب ساحرة وصادقة تحتفي بالعالم.
في الخزف يداعب موسى الطين بفرح الطفل المكتشف ، يرسم بيته وأحلامه على رمال شاطيء ( مطرح ) قرب مغيب الشمس وقت مد البحر وكأن الغروب والمد بداية انتهاء حلم ليبدأ من جديد في يومه التالي، فموسى الطفل أبداً لا يتخلى عن طفولته وطقوسها لا في الرسم ولا في الخزف باستمرار يعمل على بعث الروح في إنشاءاته الفنية خطا ولونا، ولربما وجد في الصلصال انبعاثا لخفي مستور يبث فيه قدراته ( عبث طفولته ) بخطوط نافرة وأخرى غائرة وموتيفات زخرفية عمانية بامتياز وألوان تعبر وتفصح عن عرس الطفولة الحالمة.. الحالمة بمدنه التي يشيد ويبني معالمها في الرسم.
في الخزف ومنه وجد موسى عمر طرق حمايتها ودرء المخاطر عنها ابتداء من بحر الطفولة وانتهاء بما آلت إليه وعليه المدينة في هذا العصر، يحميها بصلصالها التي خلقت منه وهي في غفوتها وصحوتها.
كل هذا البناء الجميل مشيد بعبث .. بخربشة.. بفرح الطفولة الشاردة.. بأنامل ما زالت طرية ندية تلامس السطح والجدار برأفة وحنان طفل بريء ما زال ينتظر ذهاب البحر ليعود لرماله كي يبني مدنه الحالمة.
تكوينات معمارية متناغمة
" يحتفظ الكثيرون بأشياء جميلة تذكرهم بطفولتهم ، وأنا لم أجد شيئا أجمل من التصوير الفوتوغرافي لكي أحتفظ به " سيد علي.
جرت العادة أن الغالب الأعمّ من الناس يفضلون رؤية العمل الفنّي مشبعا بالألوان مرتكزا على البهرجة، ولربما ربما هذا القبول أو هذا الفهم ذي صلة بجوانب سيكولوجية بحتة تنعكس على رؤية الفرد وتقبله لشاكلة معينة من الألوان، بحيث لا تخلو من جانب إسقاطي، يعكس نوع النظرة والتقبل والتفضيل والانحياز لما يخالجه داخليا. لذا يهاب العمل الفنّي أحادي اللون الفريد والاقتراب من حدود خطوطه الجمالية المتشكلة من الومضات والإشارات والمساحات الفنية المنطلقة منه حتى يغدو جسما طارئا يؤثر بشكل وآخر على طريقة تذوقه وتقبله، وكأنه مشكل عويص يصعب التصالح معه أو الدنو منه ، أو حتى التفاعل مع معطياته .
معرض علي محمد علي ( أسود وأبيض ) مليء بالألوان .. كثيف التضادات .. متناغم المساحات، بدءا من أقصى درجة لونية بيضاء صعودا إلى دكنة اللون الأسود.
معرضه يلامس عدة مواضيع .. اجتماعية .. معمارية فنية وصورا شخصية لأفراد يعتقد بأهميتهم. وقد اعتمد في أسلوب طرحه ومعالجته التقنية لهذه الصور الكاميرا الرقمية " بورتريه الفنان منير سيف مثالا" إلا أنه والمقابل في المتبقي من أعمال حملت مستوى فنيا راقيا فرأينا فيها عتمة ينبعث وميض نور من بين جنباتها، وإضاءة ذاهبة بعيدا لتخلق توازنا جميلا بين الكتل السوداء وما يتولد من رماديات متدفقة في بعض المساحات. وهذا الانحياز لأحادي اللون في التصوير الفوتوغرافي كسر الشائع من مفهوم بأن الصورة الفوتوغرافية لا تنجح فنيا إلاّ باعتمادها الكثيف والمتنوع من الألوان.
في حين أن اللون الواحد يمتلك بذاته قيما فنية وجمالية غنية وهامة جدا إذا ما أحسن استغلالها والاشتغال بصورة موفقة كما الحال عند الفنان علي محمد علي ، الذي استطاع في هذا المعرض أن يدحض النظرة السطحية القائلة أن العمل الفني لا تكتمل عناصره الفنية والجمالية ولا يقربه النجاح إبداعيا إلا بتعدد ألوانه
يعيدنا الفنان علي محمد إلى مشاهد ومناطق من ذكريات وتاريخ لم يتبق إلاّ النزر اليسير منها وغير ملموس بصورة مباشرة ، كما كان سابقا . ربما تستيقظ الذاكرة وتعود مفعمة بالحب إلى تلك المقاهي الشعبية بحيوية مرتاديها .. بأحاديثهم .. بعفويتهم ، بتلك البراءة والصبر والجلد المرسوم على سيماهم ، بأوضاع وحالات جلساتهم على الكراسي القديمة حيث التفكر وتبادل أطراف الحديث في أمور الحياة .. فرحها وحزنها ومرحها وضنكها ..من وضع اجتماعي لا يمكن نسيانه يرحل بنا الفنان علي محمد عبر صوره الفوتوغرافية وأثيره إلى تلك النوارس الجميلة المتراصة مكونة حالة خاصة وفريدة تبرهن على الالتحام والتعاضد بأشكال غرائبية، الحركة والتحليق والتماهي ،حركات مختلفة.. حركات لا تشبه إلا نفسها ينبثق النور الوهاج منها يحاكي الأسود ودرجات الرمادي الشفيفة.
ثمة الكثير من اللقطات أظهرت وعيا وحساسية متقدمة في التعامل مع المساحات والكتل والفراغات كصورة السور الإسمنتي لإحدى الشواطئ والذي بدا وكأنه نصب تذكاري عملاق. هذا إلى جانب الكثير من اللقطات- المعمارية- الرائعة والتي يمكن أن تصير مقترحات ودراسات لمشاريع نصبية رائعة.
أقيم المعرض على صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية بتاريخ 1- 9 أبريل 2002
الرموز باعتبارها حالة بحث
في أعمال المعرض الذي أسماه الفنان بوسعد "على مائدة العشاء" لحظنا الهاجس المتوثب.. والقلق والمتّقد.. والثورة الداخلية العارمة، وامتلاك القدرة على تثوير الحروف الساكنة وتحريكها، وإيقادها من سباتها الشكلي .. وكأن لها توثب الوضوح وحضور الغموض.
فهل تُشعر هذه الأعمال بأجواء التشاؤم أم بحالات الأمل؟
وهل تعكس حالة الفنان النفسية وما يقع عليها من حزن وتفاؤل وتشاؤم وفرح وامتعاض؟ وهل تفضي إلى المشاغبة الجادة؟
تختلف هذه التجربة عمّا سبقتها من تجارب قدمها الفنان إبراهيم بوسعد كانتفاضة الحرف العربي وأضواء وظلال، إلاّ أنها تقترب من أعمال المعرض الذي أسماه " عاشق " ذات النفس والبعد الإنساني.
وهو خطوة جميلة وجريئة ومهمة لجهة المباغتة بطرح المغاير، والتألق الإبداعي، فعالم اللوحة فيه تعدد الحالات واختلاف الزوايا واختلاط الواقع بالأسطورة بالرمز، بالإنسان، بالحياة.. بالممات ، فالدخول يُحترز إليه بالتأمل المتأني لتفسير الحلم واستقراء واقع الإنسان عبر الصورة البصرية التي صاغها بوسعد بشراسة المتمكن في عالمه الغرائبي المسبق بعنوانه الموسوم ( على مائدة العشاء ) فهل لذلك الاختيار مقصد الإغراء والإغواء؟
مائدة شهية لكنها بعيدة عن شهوة التلذذ بالطعام، وجبة شهية محكمة الحبكة والبناء والتكوين محورها الإنسان، فالانحناءات والتحويرات في الجسم البشري تأخذ إلى جو الرهبة المتنامية .. وتظل مستمرة في بحثها عن أسطورة الخلود والبقاء .. وتلج تداعيات الفرح في الأسود .. فيستحيل بعمقه إلى غبطة وسرور بخلاف ما هو عليه ظاهريا، حتى أن اللون ( الأزرق والبرتقالي والبنفسجي ) صار النقيض تماما ضمن لعبة هارموني النقائض لمفهوم اللون وإحالاته في الاستدراج المتواصل لبقية مساحات العمل الفني ليهيم ويلعب بعوالم رموزه باعتبارها حالة بحث عن الكنه والمفهوم والديمومة والاستقرار، فتعددها وتناثرها ( التفاحة.. الشجرة.. الغصن ) هو بحث عن مأوى لجيل تائه ربما لا طريق له ولا درب عنده.. بحث عن موطئ مريح له، فالانتشار والصعود والهبوط مدوزنة بنغمتي - الدم والتك - بأوتار آلة العود الموسيقية، وهو تداخل موجع يحتاج إلى تفاعل روحي وانغماس عاطفي رقيق تمكنه من الإمساك بخيوط النغمة والدّوْزنة الموسيقية التي استحالت نسيجا خطيا ولونيا اختلط فيها الصوتي بالمرسوم، فغير طريقة الطرح عبر تفسيره استحقاقات اللون والنغمة فأبدعت تلك الأسطورة الأزلية، أسطورة الحب والخلق عبر خط يناغي مساحته اللونية باعتباره العنصر الذي يتحرك داخلها ويحركها.
فالربط بين الخطوط الأفقية والعمودية والمنحنية ومعالجة السطوح في البناء الإنشائي اعتمدت على المقامات الموسيقية وما يصدر عنها من حالات حزن وفرح وصعود وهبوط اعتمادا وتعويلا على جرافيكية الأسود ودرجاته، فأسميناه ( حلال المشاكل ) فإيقاعية اللون أفرزت حالة تشخيصية مختلفة الدلالات..
فلموسيقى اللون المقترحة وقع على القلب يهب السعادة.
ولليل البنفسج ( كما يحلو لأبي موفق تسميتها ) علاقته بنون الديواني والرمان وقت يحين موسم العشق والعنفوان؟
أقيم هذا المعرض على صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية 28-3-1998
عشر سنوات.. ثلاث مدن وراء لذائذه البصرية
عشر سنوات ،ثلاث أمكنة.. عنوان اختاره الفنان رافع الناصري ليوسم به معرضه الذيأقيم على متحف البحرين الوطني ،عشر سنوات زمنية انتجت خلالها أعمال هذا المعرض.
كان الزمن يمر بعجالة بحيث حتى المكان لم يستطع اللحاق به ،وكأنه كاسر عنيد يحاول حرمان الناصري متعة التأمل والانفعال والتفاعل والفعل ،لكن أنى له ذلك والمكان أضحى أوسع وأكبر من كل هذه الدورات الزمنية .المكان هو القلب والرؤية والبصر، هو دواخل الناصري واعتمالاته المتأججة..المتأهبة باستمرار لاجتياح المعدن والورق والقماش وغزوها.
جغرافية المكان امتداد شاسع المسافة ممتد الآفاق لا يقدر أن يقف أو يصعد في وجه .. قدر لا يدعو إلا الطير كي تمر سعدا للآخرين.فمن بغداد والأردن والبحرين فضاءات ساخنة العطاء .. ورحلة فنية مستمرة ومسيرة الإبداعية متواصلة، فلا الزمان عائق محبط ولا المكان حصن منيع يصعب اختراقه وتخطيه، هذا طائر يبذر ويزرع ويرحل بالسؤال فقط دون انتظار الجواب لأن قدرا يحتم على التاريخ كشف الغطاء ومعرفة الحصاد.
هذا الذي نتجول بين معروضاته التي انتجت في ثلاثة أمكنة .. لكل مكان خصوصياته وظروفه ومعطياته رئة تتنفس الفن والقلب دافق تتسع وتكبر عطاياها الإبداعية تنبسط بلا مواربة وملل .. جذوة قائمة الاشتعال دون توقف فالمعرض نتاج ذلك كله، فمن مكابدات الروح تطلع، ومن عشق الفنى تبزغ، ومن الهيام بالجرافيك تبقى لتنتشر في كل جغرافيا العالم، حتى تخوم العمل الفني المتنوع التقنيات حيث وحدة الأسلوب تحيل البصر إلى ذلك الهيام.
رافع الناصري مهووس بكسر الشكل وتحطيم القالب وبالتعدي على حرمته وقداسته كي يخرجه من صمته وهدوئه ويعطيه نفحة بصرية متمردة على الشكلية الخارجية للمشهد العام وكسره لتتماشى ومعطيات العصر وصولا إلى ما تنوء عنه اللوحة من آفاق وفضاءات تخيلية وتأويلية بخلاف ما تحتله- في الكثير من المواضع - النمطية السائدة والمتعارف عليها في التصوير التقليدي.
فإذا ما تحدثنا عن الزمان ومساحته وعنفه وسرعته نتخطى المكان كدال مقيت ، كعامل يسبب الإحباط ويختلق الانسحاب (لدى البعض ) إلا الناصري هذا الدائم التوهج في كل مكان فالدال ما هو إلاّ زمن محرض على تحريك الروح باتجاه التأجج والتحدي لأنه أساس يحتمي بمرجعية معرفية قادرة على اختراق المكان لنسخ خرائط فنية مبتغاة ومنشودة تعرف كيفية إثارة الأسئلة والشكوك حول جدوى الحداثة.
عالم الناصري التقاء وعي حضاري شرق آسيوي وأوروبي وعربي بالدرجة الأولى فكيف استطاع أن يستمر في بحثه وضمان نتاجه الإبداعي متالقا؟
إنه يستل علاماته وإشاراته من الموروث العربي كحرف بارز واضح أو ما يوحى بالحرف المرموز أو بحركة كالضمة الرّاكزة الرامزة أو علامة حسابية كالزائد (+) وما تدل عليه وكأنها عناصر إنسانية تعيش حالة السؤال، أو تسأل بحثا عن المصير في هذه المساحات اللونية وهي عبارة عن أرض مشحونة بتلك الإرهاصات والتفاعلات ،وحالة استفزاز هذه الأرض تشدو اللحاق بعالم السماء، عالم اليقين المطلق بشفافية اللون وتعبيريته وبخشونة الملمس ورعونة التضاريس وكأنها جبال شاهقة تتحدى وتخترق السحب اللونية الداكنة وتبزغ كشهب ليلية.
اللوحة عند رافع الناصري عالمان.. أفقان، سفلي كوني حضاري وآخر علوي متسام.
الأول يبحث عن الآخر ويحاول الوصول إليه كي يعيش تحت رحمته وبهائه ليظفر بحبه وجماله الافتراض المستوحى من الجو العام للوحة عند الناصري وفعل الحب والجمال المتحققان من خلال المنجز الإبداعي الفني. أما الثاني فبرغم علوه وسموه إلاّ أنه ما زال يبحث عن المجد والبقاء عبر البحث الدؤوب والمستمر الذي يعمل عليه الفنان.
في الأعمال ما هو مسيج بملامس صخرية خشنة تخرج الأنوار من بين ثناياها لتخالها أجواء جهنمية ظلامية تبعث على الأسى وأنها سطحية المرأى والمغزى لكنها فراديس سرمدية يستشفي منها الفنان والمتلقي من عواقب الزمان ونكد المكان وضيقه إن ضاق..
هذا الحلم والجنون والتمرد والصبر والهدوء هو عالم الفنان رافع الناصري الحالم فقط.
مسافرٌ في حالاتٍ مختلفةٍ
وردت أعمال المعرض على جدران الصالة بصورة جميلة ومتمشية والجو الجغرافي والطقوسي للمكان بدءا من الأعمال الصغيرة الأحجام مروراً بالأعمال الكبيرة، في حين اتخذت بعض اللوحات شكل الرقاع الطري وكانت هي محور الربط في طريقة العرض وتنسيق الإخراج العام.
يشير المعرض بعمومه ووحدة ثيمته الذي بدأ في شكله الظاهر أنه عمل واحد وقت الجمع والشمل، إلاّ أنه على غير ذلك كونه منفردا وكياناً قائماً بذاته منسلاً من سلسلة زمنية اشتغل في فضائها الفنان وكوّن لكل مفصل من هذا التلاحم خاصية وعالما لا يشبه إلا ذاته رغم اختلاف الحجوم والقياسات.
أعمال المعرض تنطوي على الحالة الإنسانية المفعمة بالرمز والتعبير وكأنه عبق رائحة آدميين تنبعث وتجر إليها القادم "المستقبل" المعني.. الممَثل الأول أبدا ًفي هذا الحدث بألوان مرتبطة بطقس الوجود و بصباغات صلصال الخلق الأولى - الضاربة في التاريخ - و الأتربة وأشكال الجدران العتيقة و البيوت و بقايا الكهوف أصل الرسم الأول.
في اللوحة رموز .. إشارة ومساحات – تعبير - وإنسان متعدد الأشكال مختلف الأوضاع، هذه الأوضاع متباينة في الغياب و الظهور و في الإضاءة و الظل والخبوت والبروز وكأن المساحة تكون ظلاً و ضربة اللون رمزاً دلالياً، حتى غدت وحدة للتناغي وعالماً حوارياً يناطق بعضه الآخر في ترابط حميم بين جميع أجزاء العمل الفني الواحد. ( أساس وحدة المعرض المتكاملة المتألقة الساطعة، المحيلة إلى مثل هذا التصور و الاعتقاد منذ ساعة دخول المعرض) إنه الواقع المرئي المعاش داخل جوه.
حضور الرمز.. الضربة اللونية..الإنسان بقوة في الأعمال وكأنه في وضع مواربة واغتراب - تشبه ضرب من حيل منبعه - أساسه ركازة الحياكة والسيطرة والتمكن من الأدوات الفنية – الاختزالية - منعّمة بالدلالة والبوح ، متقشفة الخط ، دالة التعبير، مشعة التواجد والحضور في انطلاقاتها بتلك الرزانة و الحيوية وفي تأكيدها على أهمية هذا الإنسان كمخلوق سام.
لا يكتفي القاسمي بهذا القدر من الترميز الهائل للجسد الإنساني وقت الرسم وساعة التدفق بل يذهب إلى متلازمات و حلول واستعاضات أخرى لها من الوشائج والإحالات ما يرمي و يشير إلى هذا الإنسان بتلك العلامات الكتابية - الحرف - الكلمة - الجملة - وهي تتماهى بتشكلها العلاماتي معه - الجسد - باعتبارها دلالات تمتلك خصائص رمزها و قوة تعبيرها وسمتها كما هي أصلاً في إيمائها على حضور الإنسان و تواجده. نجدها تتفاعل و هذا الهسيس و الحبكة التقنية – المواديّة التي كلما أمعنت النظر فيها وحاولت الدخول في عوالمها تحرضك على تلمسها وتحسسها. لأن الفنان القاسمي يشتغل على إبراز خصائصها الجمالية، وهي زاخرة الغنى في خطوطها ومساحاتها وتوازنها وثباتها الفاتن، على أن هذا الرمز قادر دوما على الحركة والانفلات أبداً انطلاقا من حب وشغف الفنان به وتوقه الدائم إلى التخلص من القيد والتقيد في مثل تلك - هذه الخارطة الفنية المرسومة لها - لفرط ترابط هذه العناصر البيّن العميق والخفي ببلاغة لا يمكن رؤية أحد عناصرها بعيداً عن محوره ووحدته أو شاردا من سياقه، وتصور إنه مفصولا عن بوتقة كيانه المحصن برؤية الفنان الفكرية والفنية والجمالية، الذي يدعو الفنان من خلاله إلى إقامة مملكة بصرية جمالية مدفوعة بشرطها الإبداعي.
إذنْ ثمة ذهاب عميق يجلجل الرؤية و يهز مشاعر المشاهد حال الولوج فيه أو الاختلاف إليه كقصد قراءة القمر و سبر غور الأرض و التعرف عليه باعتباره عالما جمالياً صرفاً.. حيوياً وناطقاً بألوانه و يقظة ذاكرته.
إنها القوة السحرية الكامنة التي يشتغل عليها القاسمين القادرة على تحريك المتلقي وجعله يتفاعل معها لجهة مستواها الفني الرفيع المتمثل في هذا النسيج اللوني المنسجم المتناغم كتناغم حركة رمال الفيافي بهدوئه المترابط، رغم الحرارة الكامنة فيه - المحركة والرامزة، الظاهرة والمتخفية داخل السطوح وفوق تلك المساحات المشغول عليها بحس جرافيكي رهيف، تومئ إلى انتمائها إلى سحيق الأمكنة وما أبقاه الزمن - الذاكرة - عليها من آثار تخاطب وتجادل مضامينها الفكرية القائمة عليها ولها أيضا . يقول محمد القاسمي ( أنه يشتغل على الزمن ، وأنه المسافر أبداً داخل هذه الأجواء رغم اختلاف الحالات ).
أقيم المعرض على صالة الرواق للفنون 21-12-2002
بساطة شكل تبحث في نقاء فعلها
لقد تعرّف المشاهدُ رؤية أعمالها منفذة على خامة الخشب القديم .. أو خُيل إليه أن العمل المرسوم على هذه الخامة من قبل لبنى لجهة التصاقها واشتغالها ردحا من الزمن عليه.
اللعبة الفنية هي ذاتها في رسم اللاّ واقع - باعتباره ترجمة للواقع – في محاولة اكتشاف اللامرئي عبر الاستناد إلى خصائصه وأسسه التي تدفعها وتقودها إلى استمرارية البحث والتنقيب في عوالمه الخفية العصية على التناول ظاهريا بشغف كفعل يحاول رسم أشكاله بخفة خط، كلما أمعن النظر فيها أي الأشكال وأفضت بأسرار عوالم سحرها وقوتها، تاركة أسئلتها تلاحق المستقبل.
لم تتخل الفنانة لبنى عن مشروعها الفني – لوحتها – والبحث فيه باعتباره قدر وخلاص، وبتؤدة تحاول مجاراة ظله السابق مستفيدة من كل ما اكتسبته من خبرات فنية وتقنية دون القفز عليه أو التنكر منه، لذا لا نرى في أعمال هذا المعرض ذاك الشطح والخروج غير المبرر بل نلمس الاستمرارية المتوازنة بين السابق والحالي القادرة على إيجاد صيغها التقنية المغايرة ومبررات وجودها بهذه التخريجة البصرية القائمة على الحب والمغامرة، حيث البحث عن نقاء وصفاء الفعل، ولعل الخامة وسحرها وما تمتلك قدرة على الجذب والأسر ساقتها إلى غمار الاشتغال على تقنيات متوافرة في الأصل بصورة أكثر خشونة وأصعب إيغالا في الحفر والخدش، تبتغي جرائها التوصل إلى حلول فنية وصياغة جمل أكثر ملاءمة وأعمالها التي صارت أكثر تلبسا بالتعقيد التقني وهذا لربما أفقدها بعضا من البساطة والاسترخاء أي السهل الواضح والسبب في ذلك هو السعي للمحافظة على كنه الخشب وما عليه من زخارف وما خلفه الزمن من تأثيرات.
هل فعل التجريد هو من قادها إلى ذاك العالم ؟ ومن بعده إلى المنجز الذي نحن بصدده ؟
غالبا ما تكون جواهر الأفعال هدف الفنان.. ومنطلقه لا الصورة الخارجية فقط، إنه النبع الصافي الذي تنهل منه والفعل النقي الذي تبحث عنه الفنانة لبني الأمين في الوقت الحاضر.. في هذا المعرض بالذات، كما في السابق عندما كانت تبحث عن جمال الفعل وصورته الداخلية ( كالحب في الرمان ) الذي كلما اشتدت وتيرة حرارته ارتفعت بمقابله حدة بساطته، وأضحى الفعل أكثر صدق وتعبير وإفصاح عن ذاته وأوسع نبوءة، في محاولة منها كالكثير من الفنانين التجريديين الذين يحاولون مسرحة العمل الفني والحياة أيضا .
وجدنا صورة الحب في الأعمال حاضرة .. متشظية بألوانها البهية الزاهية، وكأنها تصنع حكاياتها ( حكاياتنا ) عن المرأة والخصلة وباب الدخول والجنان المتوارية.. وعن صورنا المتعبة والتي غالبا ما نكون في أمس الحاجة إليها .. في احتياج لمن يبعد الغبش عنا وحالة السأم ويقترح علينا طرائق ويخط إلينا مسالك نقدر بواسطتها الولوج إلى مكامن الهدوء ومرافئ السكينة، والاحتماء خلف جدران تعبيرية الخطوط متوارية داخل مساحات لونية بوحها باهر.
وهي تبحث عن الفعل الذي يقود إلى أسئلة أكثر إلحاحا حول إعادة الصياغة من جديد بطرح تجريدي يكتسب مشروعيته من حالة القلق والتوتر الباحث عن الجديد المغاير وعن الجدة التي تبعث على الاسترخاء.
ظني أن هذا المشروع قائم على حساسية اصطياد اللقطة وصياغته وعجنه وإعطائه بعدا زمنيا لربّما اتصل بالماضي ومثّل الحاضر مكانيا، وهذا يبرز بجلاء في الأعمال -الأيقونية - الصغيرة التي اعتمدت العفوية الذي عمّق صدق الأداء عبر مغازلتها تجاربها السابقة.
تعاويذ محفورة
بعيدا عن المحاكاة الصريحة لحقيقية الواقع المعاش الملموس تنشىء لبنى الأمين الخط وتولده بحرية مطلقة، تكوّن وتركب المساحات اللونية وتنثرها على السطوح الخشبية المتآكلة بفعل الواثق المتجه صوب صياغة الطرح والرؤية بشكل أكثر مغايرة مما أدى إلى إحالة الأبواب وبقاياها إلى تعاويذ رمان مقدسة وُهبت الحياة من جديد بحلول ومعالجات رصينة تمثلت في التمرد على خام المواد وفي اللعب على المساحات وأنماط توزيع الألوان، إنها تعاويذ تضرع يستعاذ بها وقت الضيق والضياع.
شكل الرمان
ما العلاقة التي تربط خطوط وألوان لبنى بما أبدعه ( النجار) من زخارف وموتيفات وما ثبتّه من (أشكال حديدية) برسم ثمرة الرمان.. بزهرتها وهيام الفنانة وغرامها بهذه الفاكهة الأسطورية؟
ثمة علاقة فنية وشيجة تأسست عبر ما أحدثته من حلول فنية سهلة ممتنعة وحلوة ربطت حالتها الأولى بما أضافته الفنانة من حلول فنية زادها بهاء ورونقا.
لحظنا في هذا المعرض الحنين واضحا والشغف حاضرا بقوة إلى تلك الخدوش والنتوء المتوافرة في سطوح الخشب تستحضرها الفنانة في أكثر من عمل فني – وإن بأثر رجعي، ومرجع ذلك حالة ساكنة بداخلها لا تستطع التخلص منها ولا الإفلات عنها , لذا تحضر وتفرض سيطرتها وتواجدها بقوة وبخفة هائم بها بصورة تلقائية مفعمة بالبساطة.
تكمن أهمية تجربة الفنانة لبنى الأمين في كونها منجز بصري نسوي استطاع أن يلفت الانتباه إليه لجرأته وتقدم مستواه المطرد.
الذاهب إلى الرسم بوصفه خلاصاً
" منذ نشأتي كان التراث الشعبي بكل معطياته وأشكاله يتفاعل في كياني وتتوالى صوره التي تختزن في ذاكرتي، وعندما بدأت أعبر عن أفكاري من خلال الرسم كان التراث الشعبي هو النور الذي ينبعث في كل خط ولون أعبر بهما عما أريد إبرازه في لوحاتي ". ناصر اليوسف
إصرار ناصر اليوسف على بقاء الرسم يعني الإيمان باستمرارية الحياة.. بوجودها.. والرسم فردسة الدنيا وتوسيع تخومها بشفيف الروح والانطلاق في فضاء أفلاك الرسم هو احتفاء به .. احتفاء بالحياة.
اقترح علينا فعل حياة مفروشا بنعناع الجمال ودفعنا إلى منافذ وطرائق إنقاذنا مما نحن فيه من حيرة وظلال وضياع ، عمل على إزالة غشاوة بصائرنا المتيبسة، فاتحا فيها أضوية بالعفوية من الخطوط .. بالمرهف من الإيقاع، جاعلا المساحة والخط يتراقصان وأنغامها المتمايلة تناغي جماليا أحداث العمل الفني.
أعمال ترصد و تكتب تراثنا شعبيا وتوثق وتدوّن أوضاعا اجتماعية ما انفكت تعتمل بدواخل الفنان وتستقر في ذاكرته وتهز مشاعره، وتعيدنا إلى تاريخ أرواحنا.. إلى الماضي الذي لم يعد حاضرا إلاّ في فضاء أوهامنا الحالية التي نعيش ونحيا.
استعاد الفنان الراحل حالات إنسانية غارقة في كامن جمالها وتماهيها وتفانيها وعطائها السخي بأنامل مفرطة الحساسية، مغموسة في حركة الخط وبيانه وسيره صعودا ونزولا، وانعطافته يمينا وشمالا وخروجا وتمردا ـ عن ذاك ( الإطار المعهود ) بحب وبشغف صادق نحو حريته التي وحرضته على ( العبثية ) وأعطته بالبساطة والمواقف البريئة والجريئة التي أعادت صور الفرح إلى حيز الواقع ورسمت وسجلت مواقف وأوضاع مهمة من موروث إنسان هذه الجزيرة الوادعة.
في رصده عوّل على ذاكرة غائرة في كل المفاصل فترجمت هذا العشق والهيام رسما وتشخيصا (ببصيرة تعبيرية)، اعتمدت الخطوط والإيغال في المساحة أساسا ومرتكزا. بصيرة امتلكت شجاعة الطرح باعتباره متنفسا، وقدرة فائقة في السيطرة على ما ترسم والتحكم في صياغة ما تهوى، فجاءت موتيفته الشعبية خفيفة- كخفة هبوب النسيم في القيض على المضاعن، كبساطة من رسمهم وتعاطف معهم وحمل همومهم.
لقد سجلت ذاكرته ( الحاضرة ) المتأججة كل ما وقع عليه بصره واستلهمته بصيرته، فتمخض عن منجز فني مختلف لربما عن منجز مجايليه (في تلك الفترة) متسما بالعفوية والبساطة والغزارة والتنوع.
منجز يومئ ويدلل على روح معطاءة تختزن الكثير من المشاهد والذكريات الشعبية اليومية ترجمها وأماط اللثام عنها رسما قوامها الصبر والمعاناة مستحضرا بها معاناة الأولين من غواصة وفلاحين وذاهبا بها ومنها إلى آفاق أوسع وأرحب.
إن ما اكتسبه الفنان من خبرات فنية عالية وما جربه ومارسه من تقنيات متنوعة أسهمت بشكل كبير في إظهار منجزه بهذه الصورة الرائعة والمتميزة، وأسهمت كثيرا في مواصلة التحدي والإصرار على العمل والعطاء بهذه الصيغة اللافتة.
تألق البصيرة
الفنان ناصر اليوسف من الفنانين الأوائل الذين اشتغلوا ومارسوا فنون الجرافيك وغرقوا داخل حقولها و أكدوا حضور هذا الفن في الساحة التشكيلية البحرينية ( حتى رحيله ) بحب وتفان ووعي بأهمية ومكانة هذا النوع من الفنون الذي مارسه الكثير من عظماء الفنانين: رامبرانت، بيكاسو، موراندي، الخ.
أعماله الجرافيكية لا يمكن فصلها عما سبق من نتاج لأن العوالق والخيوط قوية وشاهدة على هذا الامتداد والتواشج بينهما مستندة إلى ذاكرة متوقدة قادرة على الخلق والابتكار وعلى بلورة الجميل من الأفكار والمواضيع تصويرا " كما في السابق " رغم وطأة الإعاقة التي لم تستطع وقف انفلات حسه وتأجج بصيرته في حاجتها للرسم بصورة متجددة، وكأنها تخاطب المشاهد طالبة التفاعل والتعاطف مع الموضوع المرسوم لا باعتبار الرسام معاقا بل باعتبار الرسم بصيرة وحاجة روحية وجمالية ملحة.
لقد اعتمد الفنان مواضيع تراثية وشعبية أبرزت مدى الحنكة الكبيرة التي يمتلكها في كيفية تعامله مع الموروث المحلي بمهارة عالية ومتقدمة عالج بها تكويناته وموضوعاته التي أظهرت مقدارا من المهارة الفائقة في المسك بأدواته حين أوجدت علاقة موسيقية متوازنة ومتصاعدة الحدة والارتفاع بين نغمة الخطوط ومساحات اللونين الأسود والأبيض وكأنها اختزالية صرفة تنشد التعبيرية وتتمثل الرمزية والتبسيط ،وكأن توازنه الروحي تمثل في حركة عناصر عمله الفني.
لقد مارس ناصر اليوسف لعبته الفنية وهو يعتلي قمة هرمه بتعبيرية فطرية محضة مستحضرا بجلاء حالته النفسية والروحية، فغدت تفاسير وأسفارا فنية فاتنة.
في فضاء لوحته الجرافيكية، وفي فضاء عوالمه الجمالية، وفي سماء حلمه الذاهب إلى الرسم بوصفه ملاذاً وخلاصا.
تمرد على الشكل المألوف
أعمال الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد التي عرضت على صالة الرواق للفنون تنضوي تحت مسمى (ما بعد التجريدية) حسب تنظيرات الفنان الفكرية. التي وردت بثلاث حالات: الأولى سماها اللوحة المزودجة والثانية التخريقية والثالثة التراكمية ذات الطبقات المرئية. بغض النظر عن هذه التسميات والمصطلحات فهذه الأعمال ما هي إلاّ استمرارية لبحثه الفكري والفني والتقني المنصب في الاشتغال على الحروف والأعداد واستلهام ما يصيب سطح الأرض من تغيرات جراء العوامل المناخية وما يحدث للجدران من تآكل أو ما يقع عليها من كتابات طولية أو عرضية تتراكب في الكثير من الأحيان فوق بعضها البعض وبمرور الزمن تتغير معالمها و تتضح صورتها، فتتخذ صبغة الأجواء الجرافيكية بارزة المعالم، جميلة المشهد، لا تلتقطها إلاّ عين بصارة نافذة كعين الفنان شاكر حسن أل سعيد.
هذي الطقوس والمناخات الفنية ومصادفة بروزها وتواريها وردت لتتعاضد وتوجه شاكر آل سعيد الفكري المنغمس في بحثه الفني ( الصوفية ).
وهذا التماهي الروحي داخل العمل الفني هو محاولة صادقة للتقرب من الذات العليا عبر انفتاحها واتساعها وشطحها وتمردها على شكلها الخارجي بحثا عن الداخلي ووضع تفسير لقراءته ومعرفته.
ألم يقل النفّري ذاته ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ) لفسحة الأمل.. لانفتاح الرؤية وقوة اتساع البصيرة.. لامتداد أفق الرؤى البصرية الجمالية الحاذقة المكتشفة في تلك الملذات الروحية والطاقات الكامنة في الحروف والأعداد وخربشات الحيطان وتشققات الجدران، فالضيق لا يعني الانكسار بقدر ما يعني البحث المستمر في فضاءاته الخاصة الآخذة في الاتساع.
في المعرض للمكان.. للأرض.. للجدار المتآكل.. للتشقق..سطوة وحضور وللّون والخربشة والحروف والأرقام حالتها الطقوسية.. لها القراءة والتأمل.. لها تقمص الحضور والتلقين.
أعمال المعرض ما هي إلاّ كوّات الانفتاح والعروج إلى العوالم الخارجية بحالاتها ودلالاتها ودواخلها وامتثال الإنسان لوجوده برموزه وإشاراته، عبر أجواء طقوسيتها حيث تكمن الهيمنة التي يقترحها آل سعيد على المتلقي.
يعتمد آل سعيد في حروفيته على الحالة اللاشعورية في التعامل مع الحرف أي أن الكتابة تأخذ الصورة البدائية أواليدوية لأنه لا يعتمد على رسم الحرف بصورته الأكاديمية ولا يحاول طرق هذا الباب من مبعث إعطاء الروح حرية الشطح والهيام وترك اللجام لها مهدولا لتصل حال العفوية و البساطة التي يبحث عنها.
في سياق بحثه التجريبي يعول على الدينامية في توزيع الأساليب وتوسعها واختلافها وخلقها لأنه يرفض السكونية و الركود.. وما السكونية في وجهة نظره إلا اجترار وتوقف وجمود، فمن تماهي الحروف في سطوح الجدران وتشققاتها إلى ازدواجية اللوحات (أي اللوحات المزدوجة كما سماها) تراه يعتمد على إخراجها و تنفيذها على صفحتين مكبوستين بين زجاجتين تتوحدان بالضوء المسلط عليها حيث استقبال العمل مغايرة لما هو عليه للوحة الحامل ( ذات البعدين ) وهو مبعث تساؤل عن مدى أهمية التمرد الواعي و المقامرة الجادة التي تولد رؤى وقراءات بصرية جديدة مختلفة تجعل العين والقلب يدخلان عالما جديدا من التلقي.
وفي اللوحات " التخريقية " يتجاوز البحث فيها الاعتيادي بالتعويل على الخامات والألوان المحروقة للتماشى وزمنها و وتحمل جغرافية الإنسان الذي أُبدعت من أجله وتعبر عن نََفَسَه باعتبار النفس حياة، فاللون و خامة الخشب وما وقع عليه من تلصيق وما أصابه من أثر وتهشيم وتهشير ما هي إلا وسائط منظمة صيغت بشكل بديع تبتغي تحقيق شرطها الفني عبر إحداث التخريق والتركيب واللعب على أبعاد اللوحة المختلفة والخروج على الشكل المألوف يرمي من ورائه إعطاء المتلقي فرصا أوفر للتحاور واكتشاف عوالم وطقوس ربما صارت شفيعا له ودليلا إليه فيما فقده ويبحث عنه وإن الإضاءات والظلال والأبعاد المختلفة فنارا.
مسألة التعبير عن الرؤية العميقة عند الفنان شاكر حسن آل سعيد تكمن في بساطتها عناصر مما يحيط بنا من جدار ورمز منسي ولقيا وزادها ثقافة وفكر ثاقب تميز بها صاحبها.
انعتاق للروح... اتساع للرؤية
احتضنت صالة مركز الفنون التابع لقطاع الثقافة والتراث الوطني معرضا للفنان العراقي علي طالب ضم 38 عملا هي نتاج السنوات الثلاث الأخيرة مثلت امتدادا منطقيا وزمنيا لأسلوب الفنان الذي ينهجه ويمارسه منذ عقد الستينات بأسلوبية التعبيري والرمزي.
في مجمل أعمال المعرض يتجلى الإنسان كعنصر أساسي فهو محور ومرتكز بناء العمل الفني بما يحمله من هَمٍ وَغَمٍ وما بجسده من حالات تراجيدية ومأساوية و بكل ما تحيطه من رموز وطقوس تتقصده ومتحوم عليه من الجهات.
علي طالب يسدل الستار ويميط اللثام من وراء الحجب ويترجم بصورة جلية فاتنة ولافتة عبر الرمزية والتعبيرية الغارق فيهما منذ زمان وكأنهما الأكسجين الذي يتنفسه بتلقائية محضة (كتعامله مع السطح واللون والملمس تماما) هما أكسيرة الذي يعول عليه في بحثه الفني كمحطات الحزن والأسى والجوع والتشرد والموت والبقاء التي تحل بالإنسان الباحث عن كرامة الحياة. المساحات اللونية في أعماله التي تتقصد ذاك البحث الرامي إليه رائعة جدا بتأثيرها وإيقاعاتها وتراكماتها وانتشارها واتساعها بعنفوانها الهاديء.. هي نبراس التجلي وسمو الدخول أيضا في عالمه القديم المتجدد، فنجده يصل إليه ويلامسه بهدوء العارف بأسراره عبر ابتعاده عن كل ما هو تسجيلي ومباشر بمخيلة رحبة تفضى إلى عوالم تسع الكون بتأويلات بنائية ومضمونية ثابتة تتبدى في البناء والتشييد الأسلوبي في العمل الفني. فضاءات علي طالب هي اتساع بصري هائل الإمكانات تقترح علينا الاستكشاف وتدعونا للبحث والتساؤل عن المضامين الفكرية والفلسفية.. المستورة والظاهرة في عمله، فهي قوة مسيطرة من جهة ومحرضة من جانب آخر على الدخول في عالمه الخاص المبني بخصوصية تعبيرية ورمزية شديدة الحساسية.. تحمل أبعادا تراجيدية المقصد، فالأعمال زاخرة بالمساحات والخلفيات المختزلة الألوان البعيدة عن الزخرف والتمنيق والمبالغة فهي تعيش وتتعايش مع المضامين الفكرية والحلول الفنية التي يبحث عنها وفيها علي طالب لذا وردت مشحونة الحزن والأسى وتملك قدرة النفاذ إلى القلوب عبر ما تحويه من طقوس قد تراكمت عبر الزمن والحضارات، فترد قوية وهادئة تقذف شحنات الغضب والأسى لتنسج عالما من التجلي والتداعي متمثلا في أوضاع وحالات مختلفة كم ورد في لوحات الحب والعناق والعلاقات الإنسانية الواشجة بين الرجل والمرأة.
في أعمال علي طالب المنفذة على الورق وبخامات مختلفة.. تحمل فضاءات وحساسيات جرافيكية شفيفة ذات حضور بهي وارتباط حميم بمدلولاتها وواقعها.. فإشاراته تمثل الإنسان في كل حالاته..
رسمه لا يهدف إطلاقا تمثل الموضوع.. بل إبعاث الفكرة و إيقاظها بإيحاءات روحية، فنتاجه للرمز بصريا يمثل تجربة انتقائية صائبة باختياره للون والشكل والمعالجات الرصينة للسطوح والملامس.. ثمة خبرات مرئية ولا مرئية في هذه الأعمال لحد الإيقاع بالمتلقي في أجواء الحواس كالشم والسمع واللمس.. فأشكاله تعمل بصورة مفرطة على مضاعفة المعنى والمضمون وتنويعه وإحالاته بعدئذ إلى عدة تعبيرات موحدة شاملة. علي طالب برموزه يتجاوز الزمن خياليا و فنيا.. ناشدا رؤاه وأحلامه، فحيزاته في التلوين و الإنشاء تتخطى مسألة الرسم بوسائط شائعة كألوان الأكرليك و الزيت.. الخ، فمن اختزاله المشهد الفني تبرز معالمه التشخيصية.
الجواشن.. بوصفه نصاً بصرياً
مثلما ترتفع وتصعد، تنزل وتخبو حدة التعاطي مع الفن ( كل صنوف الإبداع ) رسما ومسرحا وتصويرا وسينما وأدبا والأسئلة ما فتئت مستمرة بصورة وأخرى، وفي الفن التشكيلي تنهمر سيولها باطراد حول الأسبقية تكون لمن؟ للشكل أم المضمون مثلا؟
أشرنا في غير سياق وموقع أن من يعي لعبة دخول معمعة الفن (شرط الموهبة) ويتمكن من أدواته يكون قادرا على استحضار المضمون عبر الشكل، ذلك كون الشكل في هذا الحيز وضمن هذا الفهم والطرح الذي نحن بصدده يحضر ويتحقق المضمون ويتشكل بصورة خلاقة - شريطة أن نقتنع ونؤمن أن الشكل يمكنه أن يحقق أكثر من مضمون - وظني أنه يكون في أغلب الأحيان مضمر.. متماهٍ.. متفاعل مع كل عنصر يشكل ويكون هذا الشكل، أو أن الشكل متشكل منه لأنه تأسس منه وخلق إليه.
بهذا المعني نفهم الشكل - مكونا من أكثر من عنصر - هذا العنصر الباهي والفاعل الذي يتأسس عليه العمل الفني ويصير شكلا بصريا، يحتوي أفقه الخارجي ويضم كيانه الداخلي جميع عناصر التكوين - الشكل - والتي باتحادها وتجاوراتها وابتعاداتها تكوّن هذا النص.
من خلال الإيمان بالذهاب إلي الحرية والجمال، هل نستطيع القول أو نعتبر من وجهة النظر الشكلية - إبداعيا - أن نص الجواشن لقاسم حداد وأمين صالح نصا بصريا؟
نقتفي أثر بعض الصفحات من هذا النص الكثيف بهاء أنموذجا ذهابا به إلي أغوار زعمنا هذا لجهة اعتباره نصا بصريا ( عملا فنيا ) غير مكتوب للقراءة والتلقي بالوجه الاعتيادي للقراءة البصرية؟ أي بمعنى تجريده من هذا الجانب بعيدا عن سياقه الأدبي.. الشعري.. الذي يقوم فيه على اللغة وتشظياتها وتأويلاتها والحفر المستميت لصاحبيها بفراهة وشراهة فيها.. نص يغوي المتأمل في الشعر والأدب على الدخول إليه والغوص في عوالمه بحثا عن دواخله.
نص يذهب المسحور بحداثة النص إلى المتقد من اللغة
نص يشاغب نص الشكل بخفة العارف لجهة انحيازه للشكل بصريا منذ لحظة التدفق والرقم والحياكة
نص بصري قوامه الخط ( المقصود به هنا نوع الخط المكتوب به النص ) لا الخط المتعارف عليه في مجال الرسم لكنه يمثله ويتمثله هنا باعتباره عنصرا حيويا مهماً وفاعلا في عملية الصياغة والتكوين بموازاة المساحة تماما - في العمل المرسوم- والتي هي أيضا عنصر لا يمكن للخط أن يستوي ويقوم ويؤدي غرضه الفني دونه، كذلك أيضا الذي تعامل معه قاسم وأمين بشغف المهووس بالصورة والشكل، المتحسس من مبتغاه فكان الأسود - سيد اللعبة - بتدرجاته اللونية وأحجام خطوطه المتناغمة سطراً سطراً، أسود تزداد حدة سواده نتيجة تكثيف السطور على الصفحات البيضاء وتتابعها حيث تندس الإضاءة بين المكتظ من الحروف والكلمات أو تلك التي اعتمد فيها حجم الخط - أعني الكتابة – أكبر حجما لذا نلحظ اللعبة الفنية التي يؤديها هذا العنصر في تحريك المساحة البيضاء (الفراغ) بخفة الحاذق العارف بكيفية الإمساك بسكان تمرير وتحريك كل هذه العناصر الفنية موسيقيا وهي تتنطط وتتمايل بين أبيض ورمادي وأسود تكون الغلبة فيه إليه، يميل للثاني للاقتراب إليه ويتخطاه إيغالا في السواد. في هذا الوضع دخل قاسم وأمين لعبة الاشتغال على اللون الأسود وتدرجاته جرافيكياً.
كما هو حاصل الصفحة رقم 9 من النص- طبعة دار توبقال
نلحظ في هذه الصفحة خطا أسودا يفصل الثلث الأول من الصفحة - أعلى - يبقيه فضاء مفتوحا للأسئلة ومساحة سوداء داكنة كونتها تراص السطور وكأنها ضربة فرشاة غليظة قوية في اليسار محققة الجانب النفسي في هذا التكوين من خلال موقعها يسارا يقابلها كلمة - أرض - فقط تعلو المساحة البيضاء وكأنها ميزان الفتح والسيطرة، فتح جدلية العلاقة الفنية القائمة بين كتلة سوداء قاتمة وبياض ساكن يطمح في الانفلات نحو ذاك الفضاء، إلاّ أنه محاصر بين أسطر رمادية اتخذت من الأرضية موقعا هادئا أصبحت به ركيزة التكوين.
هوس اللعب الحر على الكتلة والفراغ يستحضر وكأنه اللعب على الخط واللون والكتلة والمساحة.
في الصفحة رقم 33
هذه الصفحة مثالا للفضاء المفتوح للحرية، حرية المكتشف للتكوين في انبعاثه من قرميزية الكتلة السوداء وحكمتها في كسر وتحطيم المألوف من رسم الصفحة وتخطيطها المسبق وتصميمها تشكيليا. وأغلب صفحات هذا النص قائمة على مبدأ تحطيم الشكل لإعادة صياغته من جديد ليس حبا في التحطيم والمغايرة بل حب وغاية جمالية تبتغي الخروج بالنص من حالته التقليدية إلى شكل النص البصري المرسوم.
إنها رغبة في إعادة البناء وعشق الكشف والبحث عن أشكال فنية أخرى تخدم النص الأدبي فنيا وتهب المتلقي فرصة الإفادة من الذهني والبصري.
في الصفحة رقم 62
هنا وكأني بهما – قاسم وأمين- وضعا رسما كروكيا لشكل خيمة تحتضن هذا النص وجعلاه رسما مبعثرا لتوضيح وإيصال المعنى الداخلي للمقطع ( الأدبي ) عبر النص البصري المرسوم باعتباره عضيدا ونافذة فتح لدخول المعنى.
في صفحة رقم 70
نلحظ حدة التناغي الحاصلة بين عناصر هذه الصفحة الكتابية – الجرافيكية - حيث التكثيف يتبعه استرخاء، يليه تدفق في السطور، تدفق يشعل الضوء من بين الأسود والأبيض حتى بدى وكأنه عنق اشرأبت ياسمين صنعت قلائدها تشكيلا مرسوما بالكلمات.
هل الهدم والكسر للشكل رغبة في الفعل نفسه أم لأجل المغايرة فقط؟
أم إنه اشتغال عليه الشكل وحفر فيه بحثا عن المضمون.. بحثا عن الحرية، وهذا ما ظني راح يشتغل عليه أمين وقاسم في هذا النص
ليس ثمة شكلا فنيا تتحقق فيه كل الشروط والقيم الفنية والجمالية يكون بلا مضمون فما بالنا إذا كان هذا الشكل هو المضمون ذاته. أوليس أقل رغبة من هذا الاستحضار والاشتغال على تحطيم النسق وإعادة صياغته وبنائه بشكل يعيد للروح حريتها ويدع باب البحث والاجتهاد عن الجديد المغاير الجاد مشرع ابتكار وإبداعا؟
ألم يقل هيجل: إن أسمى مضمون يقدر الذاتي على تصوره هو مضمون الحرية التي هي أرفع تعيين للروح من وجهة نظر الشكلية.
فيما قال قاسم حداد ذات تأمل:
سيد شكل الذي لا ينحني للشكل
وجوه يفصحن عشقا وبهاء
عندما يحضر أو يمر ذكر فنون الجرافيك بالبحرين يسبقه اسم عبد الجبار الغضبان هكذا تقول الحكاية المحلية لئلا نقول تاريخ الحركة التشكيلية في البحرين
ما أن يجرى الحديث عن التعبيرية كرسم.. كفعل جمالي.. كبصري صارخ إلاّ ويخترق هذا الحديث تعبيرية الغضبان الصارخة بالحب.. بالفتنة بالإغواء أيضا.
لا يمكن حرف البصر.. أو الذاكرة.. والتذكر عن المرأة .. عن جمالها .. ترفها وغنجها.. قوتها.. حضورها البهي.. ودورها الإنساني والحضاري الذي تلعبه وتضطلع بهن لأن البوصلة في هذا المقام تشير إلى نساء الغضبان وإلى عوالمهن المحتفى به دوما بطقس خاص ومتميز وغاير وبعيد عن المألوف، يصيغه بصراخه الخفي الشارد بهن ولهن..لأجلهن ويسيجه أبدا بحبهن وبحبه بلمسات سحرية تظهر في بساطة الخط وإنسيابية وقوته وفي زهوة اللون.
فى جو مشحون بواقعيته الغائرة في ترف خصوصيتها وفرادتها ( حيث تحمل ملامح تعبيريته ) تبدو النساء وكأنهن مترفات مترفعات بنظراتهن على هذا العالم الذي ينتمين إليه وإن تباهين برقة المتناهيات فيه حيث هذا ( المشمر ) باختلاف حالات وضعه مصدر إغراء وإغواء وكأنها معادلة كسر قلب ملتاع بجمال أو جمال تلاحقه الروح أينما ولىّ.. الجمال لا جغرافيا له ولا أسوار تحده وتمنعه من الظهور.
ما علاقة ( المشمر ) بوجه المرأة؟
ذاك الوجه الذي كان فى يوم ما يحمل قبة الجمال والرونق ولربما البراءة أكثر فى حالات كثيرة ومختلفة.. لذا ربما التوشح ( بالمشمر ) كان أحد مفاتيح السحر والفتنة الخفية في هذه الملامح المتجلية في الروح حيث تتجه الأنظار إليها من كل حدب وصوب باعتبارها مذهب فتنة، تذهب إليها من كل زوايا العين والجادات الضيقات وكأن العيون في حال تربص بها تنشد كشف المكتنز من الفتنة.. كل الفتنة والتعرف عليها ...
ها هو الكشف يأتي إلينا أو أن جبار الغضبان يهبنا إياه على ورق وقماش من لازورد الروح والقلب والعين.
يعيدنا الغضبان عبر هذه الوجوه إلى مواضٍٍ وذكريات وتواريخ وثقافة بصرية مغايرة ومختلفة كلياً، لقد طواها الزمن ومحتها ربما محنة الأيام واختفت من الذاكرة الجمعية ( لم يبق منها إلا طلل الذكريات ) وكأن الهوة الفاصلة بين زمن وزمن.. بين جيل وجيل .. بين ثقافة وأخرى .. بين استقبال وتلق .. بين علم ومعرفة أسباب اجتمعت لفعل المحو ذاك آتيا ( بسحرية ) بماء زعفرانه وروائح ألوانه والناطق من خطوطه بخفة طيران الفراشة وشفافية ألوان جناحيها يعيد ذاك الرونق المفقود.. ذاك الجمال ( الذي أضحى نسيا منسيا ) عبر وجوه متشحة بزهوها لئلا أقول ( بمشمرها ) كون هذا الأخير المشمر الذي يغطى شعر- المرأة أو الفتاة - يصير كاشفا وفاضحا ومحرضا إذ كانت النظرة السائدة السابقة منه ( وإليه ) أي التقليدية الصرفة منها إيروتيكية محضة ، فإنها لدى الغضبان فضائحية جمالية فاتنة صرفة بامتياز كون الهدف الذي يطمح إليه الفنان ويسعى إلى تحقيقه كشف المستور .. كل المستور المحظور رغم بساطته وطهارته بتبني طريق الفضح، فضح الكشف، العفيف إن جاز القول الفاتن.. الرقيق.. المتورد.. الخلاق . الجميل ، زائحا ومبعدا كل قبيح لأن الاحتفاء بالجمال.. بالمرأة.. بالفتنة القاتلة الخاتلة هو الاحتفاء بروعة الكون ونضارته وبهائه وبجوده.
طريق المرأة .. طريق الحياة.. طريق البهاء
من أي منطلق تبدعون وتنظرون.. تتربصون وتمطرون سماء
من أي الأبواب تدخلون ؟
من أي النوافذ تلجون؟
من أي كوة تبصرون وترمقون الفتنة؟
بعدما اختطفه طويلا هسيس اللون والمعدن وبعدما أغوته الأحماض ( ومباضع الحفار) وأوراقه لفترة ليست بالسهلة ولا القصيرة من الزمن كرسها مؤسسا ومخلصا إلى عالم الجرافيك تعليما وممارسة.. عالم المرأة جرافيكيا أيضا يلعب ويتلاعب وبخفة متناهية بكل مفاصل جسدها - باعتباره ترف- وإغوائها وبالرشق كل الرشق الخفيف، ينحر الوقت لأجلها أمينا عليها.. مخلصا لها وبإفراط مجنون رائع أعياه العشق وحرضه الهيام، بوصفها جمالا خالصا وحبا شاسعا وأماً رحُومًا ووطنا ثمينا لا يمكن التفريط فيه .. وباعتباره فنا جديدا مغايرا ( فن الجرافيك ).. غريبا يستدعى الإخلاص والتفاني من أجله كفن ما زالت ثقافة تلقيه من قبل الفنانين والجمهور متحفظة وسلبية لئلا أقول متخلفة، هذا الإخلاص يقابله إخلاص وتفان للبحث في التقنية بغية التوصل إلى حلول تخدم موضوعته أعني سحره وإغوائه الذي ما انفكت (لازمة ) حاضرة يستثمر تلك التقنيات الهائلة في تأكيد حضورها –المرأة- عبر قوة تعبيرية الخط والملمح وعبر تناغم المساحات اللونية رغم تقشفها اللوني التي تنضح تألقا وثباتا في علاقاتها الفنية والجمالية مع الخطوط... خطوطه المرسومة بخفة وحركة الواثق المتقصد مراميه، كل هذا عبر الرسم المباشر على الورق والقماش.
تبدو خطوطه ( الجرافيكية إن صح القول ) رغم ليونتها .. رشاقتها وطراوتها خشنة صلبة حيث كمون حدتها التعبيرية وهى على عكس ما قد تومئ إليه أو ترمي إليه، لأنها تقع في منطقة الغائر المحفور وهذا الذي يوحى بتلك الآثار والرؤى المترتبة على مثل تلك الخطوط.
ما مدى إمكانية تتبع ورؤية هذه الخطوط وملامسة حساسيتها وتعبيرها في العمل الجرافيكي المرسوم المحفور على معدني الزنك والنحاس؟ مطبوعا على الورق، في أعمال هذا المعرض الزيتية؟ وهل مثل هذا- الادعاء- متحقق بالفعل ؟
لا أظن أنه وبهذه البساطة يمكن ملاحظة هذا التقارب التقني ( في أعمال هذا المعرض ) القريب جدا والبعيد فى آن واحد أيضا كون المقارنة بين تقنيتين متباعدتين كليا يبقى غير ناجع النتائج إنما يمكن التعرف على الملامح العامة للموضوع ذاته كون جبار الغضبان مغرم بنسائه .. محتف دائما وأبداً بها.. بعالمه الجمالي الخاص القائم عليهن ومنهن وإليهن.
هذا التقارب والمشابهة تكمن وتتحقق في الأصالة ذاتها لفعل الرسم والإخلاص للفكرة ذاتها فالوجه النسائي هذه المرة محتفى به كعالم أساسي يرتكز عليه العمل الفني ومختلف تماما بعدما كان العمل الفني الجرافيكي عنده مكتظا بالموتيفات والزخارف والمرأة محملة أو ( حاملة هموم ) هذا الكون.. هذا الوطن أيضا بصرختها وانتفاضتها وعنفوان جسدها البهي وبنظراتها الحادة المتوثبة، يصبح فى هذا المعرض مفضيا إلى عالم السعادة والبهجة.. إلى الاحتفاء باللون ورونقه وحلاوة تعبيره وقوته وإلى الوجه بوصفه إشراقا لا يمكن تأويله إلاّ بالذهاب إليه والتعرف عليه، إشراقة اللون هذه يترتب عليها كل حب ويذهب إليها كل عشقن، وكأن اللون هنا يناغى الخط، والخط ممشوق بخفة يتداخل ( وإن ظاهريا ) بفضاء مساحات الخلفية التى أرادها صافية تنطلق منها كل الوجوه وتصرخ عشقا وجمالا باهيا . نعم تأخر أو أبطأ كثيرا – وتمادى فى كبح جماح الروح باتجاه إخراج ما بها .. ما تحن إليه إلاّ أنها جاءت ( في هذا المعرض ) بوجوه تنضح حلاوة وتألقا.. وجوه يألفها القلب وتحن الذاكرة لرؤيتها وللاستمتاع بنضارتها، تأخذنا للماضي وتبقينا في الحاضر برؤية فنية معاصرة.
أقيم المعرض على صالة الرواق للفنون \ ديسمبر 2007
حجر بعرس اليد ... حجر يكتب تاريخاً
عالم القارة السمراء – أفريقيا - عالم مليء بالفتنة والجنون، عالم سحر الطبيعة والناس والطقوس الاجتماعية والميثولوجيا والتاريخ الباهر الذي نهل منه الكثير من فناني القرن الماضي حيث ما زال مثار فتنة وإعجاب.
وزمبابوي إحدى دول هذه القارة الغنية بخيراتها وبإرثها وموروثها الفاتن. زيمبابوي (تعني البيت الحجري الكبير بلد النحت على الحجر).
استقبلت صالة البارح للفنون معرضا للنحت من زمبابوي وهو الثالث الذي تنظمه هذه الصالة بالتعاون مع صالة Zimsculptللفنون بزمبابوي لصاحبتها البريطانية الحسناء فيفيان برنس الذي تعيش هناك وتعمل منذ فترة على نشر منحوتة هذا البلد.
في هذا المعرض قطعا جديدة تختلف عما تمّ عرضه في المعارض السابقة حيث كانت الكثير منها تعتمد التمنيق والتمليس الزائد وتلعب إخراجيا على التلميع، وقد تراوح عددها مابين 30 إلى 50 منحوتة مختلفة الحجم بعضها للعرض الداخلي" وأخرى للعرض الخارجي عمل الفنانون إلى إبراز الحجر القيمة الجمالية كمادة طبيعية خام.
تعرفنا الحجر وجمالياته.. أذهلنا بهائه وحاولنا تحسس تقنيات الاشتغال بالأسلوب التقليدي الصرف (حيث لا مجال لدخول الآلة الحديثة) والتي بدت ضربات الأزميل ووقع أصابع النحات الطرية على الحجر شاخصة وقادرة على تحريك مشاعرنا وجرنا صوب كل خط وسطح أملس وأجرش.. جهة كل كتلة بارزة وغائرة بلا تكلف ولا ابتزاز بهرجي وقد اتسمت بالجدية وخفة التنفيذ والسيطرة على الشكل العام في ارتباطها بالقيم الجمالية والفنية التي تنتمي وترجع فيه إلى جذرها الثقافي والحضاري بخلاف ما يملأ الأسواق والبيوت من منحوتات إفريقية " التجارية"
إن منحوتات هذا المعرض يمثل المستوى المتقدم في التقنية واختيار الموضوع المعبر بصدق عن الشعور بالانتماء والندرة والاتصاف بالتفرد - وهو دليل رهافة الحس وصفاء الرؤية والقدرة العالية التي يتمتع بها النحات في زمبابوي في السيطرة على الحجر.
وقد أظهرت قدرة على الوقوف بهذا الشموخ والتباهي وعلى التعبير الحر والعفوي منبعه الروح الخلاقة وطرائق التفكيره والرؤية الطرية للعمل النحتي والحرفية العالية في كيفية التعامل مع الحجر، فيبدو وكأنه بيان يؤكد مدى تعلق هذا النحات ببيئته وتوغله في عولمه الداخلية، فكل التكوينات مستقاة من واقعه وإن بدا التأثر يظهر على البعض بأسالوب المدرسة التجريدية مثلا، إلاّ أن هذا لا ينفي البتة حضوره خصوصية هذا النحات في عمله الفني وأسلوبه، وليس ثمة رؤية أبعد وأقرب مما صاغه نحات زمبابوي القديم منذ فعله الأول الذي استقاه من أسلافه، مكملا به طريق انبعاث الروح التي آمن بها بوصفها عاملاً محركاً لكل قطعة ينحتها قلبه، تاركا عواطفه الجياشة تسرح وتمرح وترسم عوالمه كنبض غض لم يزل ينهل منه من أعقبه من أجيال كلما لامست وتحسست أصابعه حجرا،ً فأحالته قطعة فنية راقية تهجس بالحب والجمال والخيال..
خيال أجداده الأفارقة الأوّلين الذين اتصفوا بالمرح، والانشراح والحيوية والاحتفاء بالحياة بوصفها جنة.
في الكثير من الأعمال يرد التعبير وقور وحنون ، كما كان في عصور سبقت وقد انبعث في مكان ما.. ولد في زمان ما ، ثمّ تبلور وكون خصوصيته المميزة، متضمنا سحرا هائل الأصل ، فهو بالإمكان التقرب من الحقيقة الروحية لحدث على هذه الدرجة من القدم " كما قال
Leo Frobenius 1873-1973
An Anthology Edited by :
Eike Haberiand 1973 Internatios Bonn-Bad Godesberg
ها هي فيفيان برنس، الفتاة الجميلة التي تنتمي إلى عالم حضاري يختلف عن قارتي أفريقيا وآسيا ثقافيا وحضاريا تأخذ على عاتقها نقل جزء من منتج فني وثقافي من أفريقيا مختلف. وقد عرّفت بهذا الفعل الجمهور في البحرين بفن نحت حقيقي عبر نماذج جميلة وساحرة لمجموعة من خيرة نحاتي زمبابوي الذين حملت أعمالهم الغبطة .. غبطة الحجر وعلاقته بالتراب والإنسان والاحتفاء بالحياة، ونشدانه الترف، ترف الجمال الذي يرنو إلى الجنة، جنة حضور المنحوتة بنوع من الخيلاء والزهو وكبرياء القارة السمراء.
مفتونة فيفيان بجمال المنحوتة الحجرية.. تعشقها.. تهيم وتذهب بها إلى هناك .. إلى أصقاع العالم الذي ربما لم يزل بعد في غفلة عن منبع أصل الإنسان.. أظن أنها رسول جمال بامتياز.
أقيم هذا المعرض على صالة البارح للفنون\ مارس 2007
بريق لون وشفيف روح
لمناسبة معرضنا في لندن على صالة الكوفة في العام 1998 زرنا مرسم الفنان الصديق ضياء العزاوي، من هذا المكان وعنه.. أجدني مدفوعا لكتابة انطباع خاص حول الطقوس و المناخات غير المألوفة في هذا المرسم . لدى خطوات المرء الأولى في أرضية المحترف العزاوي حيث يدهمك وقوف تمثال الرجل والديك الذي يدعوك لصعود سلم خشبي ترقاه و أنت مشحون و متوجس من مفاجأة ربما ستقع عليه عيناك أولا وتاليا.
في محترف هذا الإنسان الذي ألفناه في أكثر من تجربة فنية في غير عاصمة عربية وأجنبية وعانقناه في عقر دارنا مرتين عندما جاء عابقاً بألوانه.. حالا علينا كأحد منا أصحاب البيت بإنسانيته و ضحكه و شطه و جديته الكامنة خلف روحه المرحه متلونة بخفة بما لا يخطر على بال أو يتوقعه حدس.
لكن مهلا..
يقال أن ضباب لندن وغيومها عوامل محبطه و سئمه لدرجه أن البعض هجر الفن واستكان تحت مظلة هذا القول.. لكن محترف ضياء العزاوي يبقى خارج جغرافيته الافتراضية وزمنه وظلمة الضباب إن من جوانبه الطقسية أم من نواحيه الطقوسية فهو الشرق بنواصيه.. بأضوائه المندسة .. ألوانه ذات البريق و الانتشار الأخاذ.. المحترف هو وجه العزاوي.
وضيائه هو المحترف الغارق في الشرق (الروح) بكل تجلياته و تداعياته
ما إن تطأ قدماك (المحترف) حتى يغويك و يغرر بك للذهاب والانعطاف نحو تلك الشموس المحرقة.. صوب تلك الأرواح المتهالكة الصاعدة بحنينها حدّ الجنوب.
مكان يفتحك على السؤال
مكان يبسط لك المكان
مكان يهبك رائحة اللون وزعفران الشرق
مكان ينزف ترفا ووردا وياسمين
منذ الباب يستقبلك تمثال المرحوم إسماعيل فتاح الترك "الرجل والديك" ويحن عليك بشموخ وعلو يحمل في ثناياه هموم هذه الأمة المتهالكة.. يحمل البسالة والعنفوان تعبيرا عن قوتها.. بقائها..
هل فتح سؤال لما ستستقبله بعد ارتقاء بعض الدرجات؟ أم استرجاع لما ستشاهده بعد حين وامتداد.. أم هو التصاق واحتراق وتداخل واكتمال (رغم الاختلاف) بين الاثنين.
يحتمل المحترف العزاوي التآلف والتضاد.. التقارب والابتعاد بسبب التعدد والاختلاف في الرؤى و الطرح (ليس عن إسماعيل فقط بل عن كل الناس).
فجائية الولوج تكمن في صواعق التغير و التجدد المستمر عند ضياء العزاوي وهو يعبر العباب بروحية الواثق الذاهب بمشروعه مفتوحا على كل الأسئلة.
تمثال الرجل والديك هو فاتحة الدخول على كل الاحتمالات والافتجاءات المشرعة للتعرف على الحيوية والجنون عند ضياء..
المرسم إضاءات لطقوسه
ورؤي فنية متجددة
وحالات مغايرة ومتواترة
خروج وتمرد على المألوف
وتجريب في اللاّ معروف
في المحترف العزاوي تأسرك الإضاءات المنبثة من كل جهات و يسيطر عليك بريق الألوان المندسة على سطح القماش والخشب والأوراق.. تصدمك تلك العربدات الجريئة الرائعة الواقعة ضمن مساحة ما يعرف بالخروج عن مفهوم تقليدية العمل الفني المؤطر، باعتبار التجريب والشطح في فضاءات التشكيل لا حد له، وإنه أفق مفتوح على اللا نهاية.
أجواء الرهبة مشحوذة بطقس اللوحة وتألق الدفاتر والمجسمات الحرة
لا اللوحة والدفتر مادة جامدة ولا المجسم جثة هامدة فالمجسم واللوحة والدفتر كل يكمل بعضه، كل تستشفه الروح فتجعل العين قريرة والنفس مطمئنة والقلب منطلقا للرؤية الفاحصة والقراءة العارفة. المحترف اجتراح مشاعر وهسيس روح.. تعبير لها ونطق بها..
في محترف ضياء العزاوي فعل الحياة وديموميتها الجانحة صوب انعتاق الروح المتأججة.. المنطلقة.. الباحثة عن القلق..السعادة.. الخوف.. الحذر والسكينة.
في المحترف الفعل ومعناه (أضاء) فالضوء المادة التي تخترق المرسم وضياء الروح يندغمان.. يلجان ويحترقان في الفعل الفني ببريق اللون و سحره صراحته..
في المرسم روح إنسانية شفيفة متواضعة ترنو إلى بسط المحبة و الجمال.
الحديث عن التجربة الإبداعية عند العزاوي بحاجة إلى أكثر من وقفة.. أزيد من نظرة تأمل.. تتطلب الحدس و الرؤيا لأن منعطفاتها جد خطيرة ورائعة ( سيما إذا قيست بفضاء الساحة العربية ) على أكثر من صعيد أن من حيث السؤال والتساؤل أو من حيث التعدد والتشعب وأن من منطلق كونها تجربة جادة ومتجددة وشمولية لا تركن إلى نمط فني واحد أو استهلاكي و ترفض التوقف عند حد ما.
المرسم عالم من التصوير.. عالم من المنحوتات الخشبية.. عالم الحروفية.. عوالم الدفاتر الفنية.
المرسم عالم مسكون باللون والسؤال.
كمن يعشق المرافىء ... مشدوها بالغموض
بدون الظلام تنتفي أهمية الليل
تفقد المرافئ جمال فضائها بدون النوارس
السفان لن يرتضي هدوء البحر موئلا أبديا بعيدا من الزرقة والموج والهدير والنفحات المبللة بصلابة القلاع الموسومة بشموخ وسماحة الرجال وبهاء النساء.
علاقة تنهض من ذهابها للبحر، متمسكة بالمكان ، فيما الأفق يناغي السطح فتخرج الأشكال أكثر دينامية وحيوية رغم صلابتها.
جسد يعمل عليه الفنان حسين عبيد كثيمة ارتبطت به جذريا وروحيا، فلم يعد بمقدوره التخلي عنه والفكاك منه.
جسد متهالك.. متشظ .. مضطرب.. يحن ويثب ويراقب، ما تحدثه علاقته والفنان من تكوينات تهيم، تصعد وتهبط، تظهر وتتماهى بخفة إشارات وسحر لوني أخاذ، تنبئ وتشير إلى انكسار روحي، يرنو الفنان حسين لإعادة بنائه من جديد، يذهب للبحر ليعيد علاقاته وتوازناته بينما هو هادر وهائج، وكأنه يمتثل لشطح مخيلته التي هي الأخرى لا تعرف الهدوء، ولا ترتضي الاستقرار، عند نقطة أو نهاية حد خط (أرضية العمل) في حالة الثبات، وجمال هذا الثبات والاسترخاء يشير بصورة وأخرى إلى وضع الفنان السيكولوجي الذي لا يتمثله إلاّ في الروحي الذي يحرض المتلقي على اقتحامه وجره لسبر أغواره بسبب هذا الغموض المتخفي خلف القائم من التكوينات المتسمة بصرامة خطها وحدة لونها (رغم تقشفه في الكثير من الحالات) التي لا تشبه إلاّ البحر في غموضه الصريح الخطير وفي هدوء موجه الغير مؤتمن.
هكذا يبني حسين عبيد تجلياته المعتمدة على النزيف الداخلي الذي يستحيل عنده الفضاء إلى مشهدية تراجيدية الحدث جراء ما يحدثه الجسد (الأرض) الصلبة من فيوض شكلية نازفة، تعانق أفقا أكثر غموضا مما هذا العالم فيه وعليه.
ربما تكون أعمال الفنان بيانا يتحدث عن الحالة الروحية الانكسارية التي نعيشها، لذا رأيناها يذهب في بحثه الفني والجمالي هذا إلى وضع حلول .. إلى إعادة صياغة .. إلى بناء وتركيب من خلال ما يحدثه من توازنات وخلق وشائج تصالحية بين ما هو علوي روحي وجسدي (أرضي) لا يستطيع الرقي والتقدم إلاّ بالنظرة إلى أفق الروح.. هكذا يبني حيواته الآبدة المنقوشة بشغف وحب وقوة في إيحاءاتها ومراميها.
ثمة لغة اختزالية ( كما التقشف اللوني الذي يتعاطاه في الكثير من الأحيان كلما انفلت وتمرد على روحه ومنجزه ) فراح يطرق ويقتحم به مسارات غامضة، ومناطق أكثر وعورة وخطورة ، مكونا عناصره الفنية الخاصة بمنجزة الإبداعي عبر حوارية جمالية متمثلة في حلول بصرية ترتبط رموزها وإشاراتها بما يوحي به البحر أو تفضي به الصحراء إلى ذاته من أسرار.
بهذا الارتباط المسحور تبان وتظهر العلائق الوطيدة الشديدة الوطء على الفنان حدّ عدم قدرته على مفارقة محيطه.. بره.. بحره.. عمارته وناسه.. وهمه الخاص والعام فتظهر إرهاصات تكويناته تعززها مفردات بصرية مصدرها لطخات لونية هادرة ترفض الهدوء والثبات وحالة نفسية عصية على الفهم إلاّ من خلال البحر.
يومئ منجز حسين عبيد الفني إلى خصوصية الإنسان العماني.. الساكن الملتهب.
أنه حب غامض .. غموض الفتنة .. فتنة الشكل .. الأشكال المحطمة والمكسرة التي تعيد بناء تضاريسها وطقوسها روحيا وجماليا تنشد الوصول إلى صيغة تصالحية فنية وفكرية بين منجز ذاهب عميقا في البحث والتجريب إلى البحر بصورته الافتراضية حاضرا عبر اللوحة وبين وضع نفسي تصاعدي وروح هائمة به تبتغي السمو والعلو.
بهذا الجنون يرتجي الفنان حسين عبيد الوصول إلى مرافئ هناك.. مشدوها بالغموض حيث لا يعرف جغرافيتها إلاّ العمانيون الأوّلون.
كتب هذا النص لمناسبة صدور كتاب مملكة الحلم – حسين عبيد- 2002
البحث عن عنوان
تكتسب تجربة الفنان الإبداعية مكانتها وأهميتها من صدقه وإيمانه ووعيه بها وقدرته على التجديد وتقديم المغاير الجاد القادر على تحقيق القيم الجمالية في منجزه الفني وهذا ما يمتاز به الفنان عبد الرحيم شريف المهووس بكل يمت للفعل الإبداعي بصلة، قد تكون قريبا منه لكنه بعيدا عنك، وتدعي الإلمام بالقليل من الأسرار التي قد تفضي بدرب يدل على مدخل ما لفراديسه ولا تصل، إنه عالم مسيج بقناعات فنية وفكرية ثابتة ولفرط تألقها فهي دائمة الكشف والعلن. إنه عالم مليء بالافتجاءات والمغامرات التقنية والأسلوبية التي ما تكاد تخرج عمّا يعتمل بدواخل شريف من فهم واستيعاب حتى تصدم بمآربها.
إن تجريبه المتعاظم، يؤجج الذهن ويحفز العاطفة، ويثير تساؤلات في قلب الفنان عن دور القيم الفنية الموروثة والخبرات و(المعلومة الثابتة) والثقافات المتجددة منذ انطلاقته ، فالجرأة عنده حاجة ملحة والخروج من بيت الطاعة والتمرد عليه عامل تحريض لخلق فضاءات إبداعية خلاقة، ولطرح رؤى وأفكار تنويرية فنيا وجماليا تعمل على تحريك الآسن من مياه والتي أضحت من المقدسات التي لا يجوز مساسها أو السؤال عن ماهيتها ومغزى التشبث بها.
في المرسم
العتبات المؤدية إلى المرسم تحرض على رؤية ما هو مترجم من سلوك وعواطف ووجدان على القماش، تحرض على التعرف على طقسه وعلى تعامله مع الفرشاة واللون والقماشة والمساحة وعلى معرفة لعبة الضوء.
كل صباح يذهب لطفلته (لوحته) التي تظل تؤرقه طوال الليل.. باحثا عن طرائق للهدهدة عليها أو للسيطرة على ما يجيش في قلبه من عواطف هي أقوى فتكا به منه ومن ليله ومن ذهابه إليها، حاملا أكواما من الأسئلة ورزما من الريبة والشك ترسم شكل العلاقة بينه وبين لوحته، وتنسج عالمه الطقوسي الخاص به، المليء بانفعالات لا تعرف الهدوء ولا تعترف بالاستقرار في تحديد علامات ورموز العلاقة التي تربطه والعمل الفني.
ثمة مواضع بحث وتجريب وأفكار يحاول الفنان شريف عبرها إتمام فعله الجمالي حيث خلاصه الروحي، فمن أجواء المساحات اللونية العارمة السابقة في تجربة سابقة وعوالم الشطح المتمادي يبحث في هذه الأعمال – الوجوه- عن فتنة السكينة والاستقرار بحسابات العارف في كل حين بعنفوان صارخ وبوح مشحون العاطفة لا يأبه بالوراء أو ينظر إليه إلاّ بالتأمل والترقب.
تأتى هذه الوجوه لتفصح عن ناموس نبيل الفعل .. قوي الوقع والأثر، لتعتق هذه الروح الهائجة التي لا تعترف بالكبوات ولا تنشد إلاّ الطمأنينة، وهذي الدلائل والإشارات غير كافية لوقف حالات الهيام والبحث عن الفعل الفني المغاير والجاد، التي لن تخضع عبد الرحيم لأي مطلب آخر غير لمسائله المختبرية التي كشف عن بعض نقاطها أو أماطة اللثام عن النزر من بواطنها، وفتح بضع من منافذ هذه التجربة من خلال ما تفصح به تلك الوجوه من دلالات ورموز.
وجوه عبد الرحيم تصرخ بصمت معلنة عن ميلادها بحرية العارف المنفلت... المتمرد على مفاهيم وقيم الذاكرة القديمة، واهب الوجه كل قيمه الإنسانية، مبرزا ملامحه، ومفصحا عن ثناياه بخفة وقوة وشفافية الماهر، معيدا الاعتبار إليه بحيوية لونه الخلاق وتعبيرية خطوطه الصارمة ورحابة وعمق تكويناته القوية المتماسكة التي أنشئت من أجله بوصفه أهم عناصر خلق الله، بظهوره وتواريه .. بفتوره وتألقه.. بإشاراته الجمالية والفنية – أي الوجه- الأكثر فتكا بنا والأعظم وقعا علينا في هذه التجربة التي سيطر فيها عبد الرحيم بأدواته الفنية لونا وخطا ومساحة على حكمة البداية والنهاية، وكأنه صرح المتصوف الذي يحاول بتماهيه وهيامه الاتحاد عشقا مع المطلق.
أعمال المعرض تفسح المجال لأكثر من سؤال عن معنى الفن وعن دور الإنسان في هذا الكون وعن طرق الحياة.
أقيم المعرض عام 2001 على صالة جمعية البحرين للفنون التشكيلية.
هوس بحساسية المكان
استقبلت جدران صالة الرواق للفنون التشكيلية إحدى وخمسين لوحة فنية مثلت آخر نتاج الفنانة هلا الخليفة حيث حضور الإنسان رمزا محاصرا وتعبيرا و حال استفزاز.
الدخول إلى عوالم هلا الخليفة يحيلنا إلى التالي من السؤال..
هل للصحراء علاقة بهذا المنتج الفني؟
ما صلة ذلك بالإنسان وقضاياه؟
أسئلة ربما قادت إلى ملامسة الأعمال " السيادية في المعرض" وهي الأكثر تألقا وتعمقا وقد تفتح آفاقا جديدة لاكتشاف عوالم وفضاءات أخرى تصب في النهج الذي تعمل عليه وتنهل منه انطلاقا من إصرار على مواصلة البحث والتجريب بغية الوصول أمكنة آمنة من الحلول كبحار لا يرتضي الرسو على مرافئ إلاّ باعتبارها محطات توقف مؤقتة.
حالة من التوهج حاضرة في أغلب أعمال المعرض، مواد عدة وألوان متباينة تعيش حالة المخاض التقني تستنطق الورق والخشب بتفاعلها المتألق وبالتحكم في المساحات وبعفوية الخطوط وما تحدثه من توازن وترابط قوي بين عناصر العمل الفني. كتل ثابتة غالبا ما تتموقع في الجانب الأيمن من اللوحة في حالة سيرورة وتحاور وكأن خيالا ما يجعلها تصنع لنفسها حكايات وتخيط قصصا وأساطير تعيش وضع الأنفة والشموخ والقناعة بأهمية مكانها ومكانتها في هذه الزوايا التي تطل بها على العالم أو ترقب بتوجس وحذر ما يدور فيه و ما يطرأ عليه.
هي رموز مغوية ومحرضة.. وشحن من الدواخل وعواطف متأججة تجتاح عوالم الفنانة وطقوسها النفسية التي ما برحت محاطة بالأسئلة التي تتناوب عليها من كل حدب وصوب وكأنها صدى أصوات (آتية من أزمان غابرة أو حاضرة في أماكن لم توجد بعد) تتماهى و تغيب في مساحات اللوحة بمحاذير ما في امتدادها العمودي أو في تدفقها الأفقي الحيوي وداخل الموتيفات اللونية المتحاورة مع المربعات.. المستطيلات.. الخربشات.. الخطوط العفوية.. والحروف العربية في تعايش شفاف وحر مع طقسها التي بُنيت وتأسست عليه، حيث لا سبيل إلى الارتقاء إليها إلا بوسيط، بسلالم حب تتحرك بخفة ضمن سياق الجو العمل الفني حيث بدت وكأنها ضرب من نظرات فلسفية تصعد بذات الفنانة إلى الانعتاق الروحي بغية تحقق الاستقرار النفسي والذهني المشيد والمرتكز على الموروث الشرقي.
لقد استطاعت الفنانة هلا آل خليفة التي تلقت درسها الفني في أمريكا أن تبرز في رسمها حساسية المكان وتتعامل معه بخفة الولع باعتباره رفة تنتمي لهذا المكان بطقس وجداني محلي شديد الحساسية.
العرض مستفز.. مشحون بالأسئلة.. متحرك العناصر من زمان إلى مكان وبالعكس.. إشارات ورموز متجلية ومنكسرة بعض الأحيان، فالإنسان.. الرمز.. الكيان والحضور ما انفك يشكل حضورا بارزا بحالة تعبيرية رمزية وهو في أمّر وأحلك وأصعب أوضاعه، فاختزالية الخطوط في رسمه وطراوتها تشي بجلال الترقب وعظمة الخوف واتساع رقعة الحذر، ووضع الانكسار يزيد من تدفق الأسئلة ويرفع من حدة التفكير بحزن شديد في المصير.. مصير هذا الإنسان.
فهل للسلالم ووهميتها علاقة بهذا المصير؟
هل هي المنقذ..؟
وهل هي الجواب الواهم لتلك الأسئلة؟
إنسان هلا آل خليفة يعيش طرح سؤاله الدائم .. فهل استطاعت توظيفه في عملها الفني ضمن هذا السياق التجريبي والجو الاختزالي المتقشف للموتيفة واللون والخط؟
تلجأ الفنانة إلى توظيف الكولاج بغرام وشغف ضمن نسيج العمل باعتباره عنصرا فاعلا تحقق بصورة رائعة وجميلة (رغم غرابته بعض الأحيان كجسم مغاير) إلاّ أنه ورد خفيفا بتفاعله والعناصر الفنية الأخرى، وقد حقق مرامي الفنانة الفنية والتقنية.
معرض هلا الخليفة يعد إضاءة شبابية فنية قادمة نظن أنه سيحقق حضورا متميزا وفاعلا في الحركة التشكيلية البحرينية إذا ما استمرت هلا على نفس الوتيرة من البحث والوعي والجد والحب.
أقيم المعرض عام 1999 على صالة الرواق للفنون
من خشب وحجر ومعدن … استحضار الذاكرة
قال لي ذات يوم الفنان والناقد محمد العامري: ‘’ثمة مستقبل للجرافيك، قلت أي جرافيك تعني؟
قال الجرافيك في الوطن العربي لئلا أقول الجرافيك العربي. ظني أن هناك فعلا جرافيك في الوطن العربي يأخذ مساحته في الانتشار. انتشار أرجو أن يكون منسحبا على مساحة من فضة البوح الفني.
هذا البوح هو ما يدلنا أو يغوينا إلى الذهاب إلى عالم جهاد العامري، عالم الجرافيك، عالمه، عالم مراياه في أعماله الأخيرة.
وقبل ذلك أود القول إن ذاكرتي تشير إلى أنه كان شابا مهووسا ومجنون فن، قبل رحلته الجامعية التي اختارها بعناية موفقة عندما شد الرحال لتلقي درس الفن في بغداد.
هذا الهوس قاده إلى عالم أقل ما يمكن قوله عصي، عصي لعدة اعتبارات لربما لا يعرفها أو يهضم صعوبتها إلاّ الغارق والمنهمك فيها، الذاهب إليها بحب.
عالم بالفعل بحاجة إلى تحد، فجهاد العامري هذا الفتى القادم من الغور حيث حياة الفلاحين،ضوء الشمس والماء والخضرة ولون التربة، القادم من بغداد حيث اختلاط كل شيء بكل شيء في كل شيء، الشعر بالقصة بالرواية بالتشكيل بالهم الثقافي اليومي لأبناء العراق وبحضارته العريقة.
ولأن عالم المرايا والذي أظن أن العامري جهاد مدرك لفعلته هذه أقرب الحلول وأنجعها لترجمته هو عالم الجرافيك، لأنه عالم مرايا بامتياز،عالم بريق المعدن، أليس المعدن إلاّ لمعان، وإن الفنان الجرافيكي قبل كل شيء يصقل معدنه ويحيله إلى مرآة، مرآة يرى ذاته بدءا فيها ويرى العالم لاحقا داخلها ومنها وعليه، يشرع في وضع تصوراته وحلوله ويلقي على قلب معادنه’’مراياه’’ كل تشظياته وشطحاته.
جهاد العامري راح يبحث عن حلول تقنية تهب بهاء المعدن وفعله المنعكس على الورق قوة طلوع وبروز وطقس اللمعان، وكأن الحفر على الخشب عنده فعل ترف رقيق، شفيف، فالنافر والغائر من خطوط سجال بين أبيض وأسود تتولد منها ومضات لونية هي ما ألقته بعض المرايا من انعكاسات قريبة من عالم وجودنا، وهذا الانعكاس المنقول من القالب المحفور هو الفعل الذي تحدث عنه حيث أسماه الدكتور محمود رجب في ‘’فلسفة المرآة ‘’ الفعل المزدوج لمفهوم الانعكاس الذي هو أصل مفهوم الهوية والاختلاف.
أعمال العامري هي مرايا لعالمه النفسي ولمشاعره وانفعالاته واستذكاراته، وهي انعكاس أيضا لصورة أفعاله منقولة بصدق وأمانة وكأنه بها يذهب إلى التعمق في ذاتيته بوعي ودراية عبر معرفة الفرق بين المرآة كمرآة’’ المرآة الزجاجية مثالا’’ وبين مراياه التي راح يبحث فيها جمال الانعكاس وعن مفهومه الفني المنبثق من القالب الجرافيكي- خشب ومعدن وحجر- حيث ينطق فعله ألوانا وخطوطا ومساحات وكتل تتحاور فيما بينها وتنسج هذا العالم الخرافي الذي يبحث عنه سواء عبر لمع لوني يمثل شلالا مائيا رقراقا وكأنه يستحضر الشاعر إيليا أبي ماضي في قصائده التي يتكلم فيها عن الماء وأغصان الشجر، حيث هذا التكاثف اللوني الغزير هو ترجمة لذاكرة صبي ترعرع بين أحضان الخضرة والشجر والماء المنساب بين الجداول وكأنه المرايا الصقيلة التي تتباهى بانعكاس صور الشجر بجذوعها وأوراقها عليها وهذا ما سعى العامري إلى ترجمته بهيئات جرافيكية أحال عناصره- ورموزه- الفنية المتقشفة قصائد شعرية ترصد فعل التذكر وتستحضر الإنسان وتبحث في عوالمه الباطنية مدركا أهمية الاختزال في الفعل الجرافيكي وما يزخر به من زخم تعبيري.
أخيرا يمكننا القول إن تلك الأعمال تنعكس منها وفيها أفعال وعوالم الجمال والخير وتنشد آمال الإنسان حيث المرايا انعكاس لكل ما يخالجه ولكل دواخله، أعمال تدعونا لأن نتفاءل أكثر بأن العالم ما زال بخير مادام ثمة فنانين بمقدرة جهاد وبالصادق من فعله ينتجون بإخلاص وبحب ويحملون ويحلمون برسالة الحب والفن والجمال.
عباس يوسف أحمد
1960 مواليد البحرين - بكالريوس لغة عربية - جامعة قطر 1982.
المعارض الفردية:
2008 صالة الرواق للفنون التشكيلية- البحرين2006 المجمع الثقافي بأبوظبي،الإمارات العربية 2005 المجمع الثقافي بأبو ظبي، الإمارات العربية 2002 البارح للفنون التشكيلية،البحرين1994جمعية البحرين للفنون التشكيلية البحرين.
المعارض المشتركة مع جبار الغضبان:
2004 مع الشاعر قاسم حداد، مركز الفنون، البحرين2000 صالة الرواق، البحرين 1999صالة المشرق، عمان، الأردن1998 جاليري الكوفة، لندن، الجمعية العمانية للفنون التشكيلية، مسقط، صالة عشتار، دمشق،صالة الخانجي، حلب 1997صالة ميدبروس، كوبنهاجن، الدنمارك1996 صالة شيلداني، كوبنهاجن الدنمارك 1995 جاليري الفينيق، عمان، الأردن1994 جاليري غدير، الكويت.
المعارض الجماعية:
2008 الكلمة في الفن- معرض المتحف البريطاني المتجول/ دبي، 2007 لبنى، جبار، عباس- يوربيا جاليري/باريس، 2005 لبنى، جبار، عباس – مركز الجزيرة للفنون/ القاهرة،2005 عباس، عبد الرؤوف شمعون، طلال معلا – الأردن،2004 ملتقى أصيلة – المغرب،2003 المعرض الدولي الثالث للمطبوعات الصغيرة – سيرموني – إيطاليا، 2001-2003 ترينيالي 100 مدينة. كراوكاو – بولندا. 2002. ترينيالي طوكيو الدّولي للمطبوعات الصغيرة – اليابان. جبار - لبنى – فائقة – عباس. دار الأندى – الأردن. جبار - لبنى – عباس. جاليري أمبرغ - ألمانيا. بينالي الفن الآسيوي العاشر- بنجلاديش. بينالي الخط للعالم الإسلامي. طهران – إيران. 2001 المهرجان الثالث للجرافيك ايفورار - البرتغال. ورشة الحفر على الخشب "حوار الحضارات" أوسلو، المعرض الدولي الثالث (EX-LIBRIS) كرواتيا، ترينالي الجمعية الدولية للمطبوعات- كراوكاو - بولندا. البينالي الأول للفنون بالعالم الإسلامي – طهران، الترينالي الدولي الثالث للجرافيك – مقدونيا، الترينالي الدولي الخامس. فرنسا. 1999 المعرض الدولي للمطبوعات الصغيرة طوكيو، 1997 بينالي المطبوعات الصغيرة- الفستروم، السويد، ترينالي (4th Block) للجرافيك – أوكرانيا، المعرض الدولي للمطبوعات – بورتلاند – أمريكا، المعرض الدولي (EX-LIBRIS) كرواتيا، المهرجان الأول للخط في العالم الإسلامي- طهران، 1994الترينالي الدولي الأول للجرافيك، مقدونيا ، الترينالي الدولي الثالث للمطبوعات الصغيرة، فرنسا،المعرض الدولي لمطبوعات الصغيرة – بلجراد، 1993البينالي الدولي الأول للجرافيك -ماستريخت- هولندا.
المقتنيات الخاصة:
البحرين،الكويت، الدنمارك، السويد، زمبابوي،النرويج، سورية، الأردن، جنوب أفريقيا، السعودية، ألمانيا، بريطانيا، تركيا، إيطاليا، الإمارات، فرنسا، اليابان.
مقتنيات المتاحف:
متحف البحرين الوطني، الجمعية الملكية للفنون (الأردن)، المتحف الوطني (سورية)، متحف الفن العربي المعاصر (قطر)، الكوفة جاليري (لندن)، متحف الفن الحديث (برشلونة)، متحف جاليري (4th BLOCK) أوكرانيا، المتحف الوطني للفن الحديث (الأردن).
الجوائز:
2006 جائزة الفنون التي تستلهم الخط العربي، ملتقي الشارقة الثاني للخط والزخرفة 2002 الجائزة الأولى، بينالي العالم الإسلامي الأول للفنون. طهران، إيران 2000 جائزة تقديرية في بينالي العالم الإسلامي الأول للفنون. طهران، إيران الإصدارات: 2006 إلى البحر بجناح فراشة" محادثات في الفن التشكيلي" 2008 بلون ماء النار.. برذاذ حليب المعدن.
العنوان:
ص ب 54577 البحرين
تلفون: 0097339651955
الصفحة الشخصية: www.abbasyousif.com
البريد الالكتروني: abbas.yousif@hotmail.com