عبدالقادر الجموسي

مقدمة: سيرة الشاعر
الفصل الأول: أبواب الطفولة (كتاب البصرة
  - ابن الرافدين/الشعر و الذاكرة
- النقر على أبواب الطفولة
- البصرة..عبق الأمكنة
الفصل الثاني: الطريق الى عدن
  - ولادة ثانية
- وردة البيكاجي
- الوردة الحجرية
- آرثر رامبو: البركان العدني
الفصل الثالث: حوار الشعر و الفكر
  - فلسفة الشعر
- صور الشاعر
- منازل الشعراء
الفصل الرابع: مساحات الشعر اللامتناهية
  - حوارية امرئ القيس
- الشاعر ناقدا
- تداوليات قصيدة النثر و سؤال الحداثة
الفصل الخامس: عن الحب و شياطين أخرى
 

- تأملات في الوطن و المنفى (في محاورة ادوارد سعيد)
- لندن: نهاية الرحلات
- عن المسرح و الشعر و العالمية

عشر قصائد مختارة:
 

* كتاب البصرة
* البركان العدني (الى رامبو في عدن
* دقات لا يبلغها الضوء
* هجاء الحجر
* قفا نبك
* خريف موشك على الرحيل..
* عزاء (الى مغني فرقة "ناس الغيوان المغربية: العربي باطما
* الشبيه (مرثية الشاعر مصطفى عبد الله، دفين القنيطرة
* غناء
* خاتمة

إضاءة:

"كن شاعرا في كل ما تفعله، مهما يكن بسيطا و قليل الشأن. كن شاعرا خارج النص قبل أن تكون شاعرا فيه. كن شاعرا في مأكلك و مشربك و سلوكك و حبك و ذهابك و إيابك و نومك. كن شاعرا على الدوام". فرناندو بيسوا

"أنا لست الشخص ذاته في كل تجربة..كل تجربة خلق لي و اكتشاف لم أفكر به من قبل. و الا ما فائدة عمل لا يبعث المتعة و الفرح... كل قصيدة هي فرح غامر..تجل لواقع جديد..لروح جديدة. الشعر فرح مطلق حتى لو كان حدادا..". عبد الكريم كاصد


مقدمة

سيرة الشاعر عبد الكريم كاصد:

ابتدأ الشاعر العربي عبد الكريم كاصد نشر قصائده الأولى منذ أواخر ستينيات القرن العشرين المنصرم. و صدرت أولى مجموعاته الشعرية الحقائب سنة 1975، لتليها النقر على أبواب الطفولة (1978)، الشاهدة (1981)، وردة البيكاجي (1983)، نزهة الآلام (1991)، سراباد (1997)، دقات لا يبلغها الضوء (1998)، قفا نبك (2002)، و زهيريات (2005).

ولد عبد الكريم كاصد في مدينة البصرة (العراق) سنة 1946. و حصل على ليسانس في الفلسفة من جامعة دمشق عام 1967، و ماجستير في الترجمة من جامعة وستمنستر بلندن1993، ثم بكالوريوس في الأدب الانجليزي من جامعة نورث لندن سنة 1995.

زاول التعليم كمدرس للغة العربية و علم النفس. كما اشتغل في الصحافة كمحرر ثقافي في مجلة "الثقافة اليمنية". غادر العراق هربا من ملاحقة السلطة له و للعديد من المثقفين العراقيين. عاش حياة ترحال و منفى أخذته عبر العديد من البلدان العربية و الأوروبية كاليمن و الجزائر وسوريا و لبنان و فرنسا و روسيا لتحط به الرحال بالمملكة المتحدة منذ أواخر التسعينات. يقيم حاليا بمدينة لندن مع طفليه زياد و سارة بعد رحيل زوجته حذام عام 2002.

ترجم الشاعر العديد من الدواوين الشعرية: كلمات لجاك بريفير (1981)، أناباز لسان جون بيرس(1987)، قصاصات ليانيس ريتسوس(1987)، ثم نكهة الجبل للشاعر الياباني سانتيوكا تانيدا (2006).

ألف عبد الكريم كاصد في القصة كما في المسرح حيث صدرت له المجموعة القصصية المجانين لا يتعبون (2004)، و عرضت له مسرحية شعرية بعنوان حكاية جندي في مسرح أولد فيك (Old Vic) الشهير بلندن خلال عام 2006. كما أنجز عملا تحقيقيا للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي مصطفى عبد الله الذي عاش بمدينة القنيطرة بالمغرب.

ترجمت قصائده إلى اللغات الفرنسية و الإنجليزية و الدانماركية، كما وردت سيرته في معظم أنتولوجيات الشعر العربي خصوصا في "معجم الكتاب المعاصرين" و "معجم البابطين" و"أنتولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر" للدكتور لطفي حداد و من قبلها "أنتولوجيا الشعر العربي" لسلمى خضراء الجيوسي.

شارك في منتديات شعرية دولية بألمانيا و السويد و الدانمارك وبريطانيا. كما نشرت أعماله و ما تزال تنشر في أهم الدوريات و المجلات الأدبية والشعرية، أبرزها عربيا مجلة "الكرمل" التي يشرف عليها الشاعر العربي الكبير محمود درويش.

و اعترافا بعطائه الشعري المتواصل أقيمت دورة مهرجان المربد بالعراق باسمه سنة 2006. له قيد الطبع عمل سردي رحلي موسوم باتجاه الجنوب...شمالا، و مجموعة شعرية جديدة تحت عنوان "هجاء الحجر".

هـذا الحــوار:

في هذا الحوار الشامل و العميق، يفتح عبد الكريم كاصد بوابات محفله الشعري على مصراعيها ليلج بقارئه عوالم الذاكرة و الحلم و تناقضات الواقع و موقف المثقف منه. و بأريحية الشعراء المعهودة، و المفتقدة في آن، يكشف لنا عبد الكريم صنعة الشعر الخفية حتى ليجد فيه القارئ، و هو المحاور الافتراضي بامتياز، أسلوب الشاعر وطرائق اشتغاله على اللغة و المخيلة و كيفيات استلهامه للتراث الشعري الإنساني. كما يعرج الشاعر بنا إلى مختبره الفني حيث يقدم كشوفات وإفاضات مركزة لمعمارية قصائده ودواوينه وبلاغة عناوينها و رهافة صورها واستعاراتها وبلاغتها.

لقد أبدى الشاعر عبد الكريم كاصد وعيا حقيقيا بحرفته و بصنعة قصيدته مؤكدا مرة أخرى على أن الشعر ليس رطانة لغوية مجوفة، و إنما هو إبداع معزز بفكر منفتح و أسلوب حياة حامل لموقف من الشعر و من العالم معا.

العالم الشعري لدى عبد الكريم كاصد ليس نصا مغلقا، و إنما هو بناء مشرع على الحياة، وليس بنية مسيجة بمسوح اللغز العصي على الافتضاض، و إنما هو نص مفتوح على الحياة واللغة و الجمال و الفكر والإنسان في شرطه الوجودي الشامل.

في هذا الحوار يصر الشاعر على مساءلة تجربته قبل كل شيء و محاورة غيره من الشعراء و النقاد و المثقفين حتى لا يكون خطابه مونولوغا منفردا. لذلك تراه يفتح مساحات للتأمل الذاتي و التواصل مع تجارب شعرية كبيرة في مشهدنا العربي و العالمي، كتجربة محمود درويش و أدونيس و السياب و إليوت و ممدوح عدوان و سان جون بيرس و رامبو و ريتسوس و سعدي يوسف و كاظم جهاد و إدوارد سعيد و محمد الجواهري و ناظم حكمت و مصطفى عبد الله وسوزان برنار و محمد الماغوط و عبد الوهاب البياتي والبريكان وغارسيا لوركا.

طبيعة الحوار:

الحوار الذي أقدمه مع الشاعر عبد الكريم كاصد ليس حوارا صحفيا يقتنص الحدث ويبتهل اللحظة السانحة. وإنما أريد له أن يكون حوار عمق عن الشعر و الفكر و الحياة.

و من خصائص هذا النوع من الحوار المعمق (The Depth Interview)* انخراط المتحاورين في سيرورة مكثفة من الأخذ و العطاء و النقاش المتبادل من أجل استكناه آراء ومواقف و وجهات نظر الشاعر أو المفكر عموما. كما تكون العلاقة بين الطرفين على درجة عالية من الثقة المتبادلة بنحو يجعل فضول المحاور المتطلع يتجاوز عتبة الأسئلة الجاهزة و يشتبك مع عوالم محاوره في مسعى للنفاذ إلى عالمه الأكثر خصوصية أو مختبره الشعري، إذا جاز التعبير، لاكتشاف الشاعر داخل الإنسان و الإنسان داخل الشاعر.

و من الجهة الأخرى، فإن درجة التلقي، من موقع الشاعر/المفكر، تكون على مستوى عال من التجاوب بحيث يساهم المستجوب (بفتح الواو) في دينامية العملية الحوارية بطرح أسئلة على السائل نفسه بحثا عن تدقيقات و إفاضات متسعة كنوع من المشاركة في إدارة دفة الحوار و بناء جسور التفاهم و صياغة المعنى المشترك.
و الحقيقة أنني وجدت لدى الشاعر عبد الكريم كاصد من نبل إنساني و انفتاح على الوجود ما شجعني على أن أتجاسر على اقتراح إنجاز هذا الحوار رقم قصر مدة تعارفنا في مدينة المفارقات المستعصية لندن. هذا التعارف الذي ابتدأ بسيطا ليتطور و ينفتح على عوالم صداقة خصبة، إنسانية و فكرية، على قدر كبير من الرحابة و الود والعطاء.

لماذا الشاعر عبد الكريم كاصد؟

لعبد الكريم كاصد شخصية عابرة للزمن. لقد واكب هذا الشاعر العراقي تجربة الشعر العربي، إبداعا و متابعة، ما ينيف على أربعة عقود من الزمن، لربما كانت هي الزمن الموضوعي لولادة أسئلة الحداثة الشعرية العربية، مما يمنحه موقعا مميزا لتقديم قراءة شاملة و عاشقة لتجربة الشعر العربي المعاصر.

هذا ناهيك عن ما يتمتع به الشاعر عبد الكريم كاصد من شغف كبير بالمعرفة و حب للغات وقراءة صاغية ومتأملة للفلسفة و الأدب و علم النفس و فن الترجمة. أضف إلى ذلك رصيد الشاعر من العلاقات الإنسانية والأدبية الممتدة عبر أجيال متعاقبة و متسعة، و استعداداً تلقائياً وعنيداً للمحاورة و الإصغاء إلى الآخر و إن كان مختلفا.

ما كنت أتوخاه من هذا الحوار هو الدخول إلى المختبر الشعري للشاعر و استجلاء رؤيته للعالم، ومن ثمة فتح مساحة تأمل للذات الشاعرة و مساءلة علاقاتها الجمالية مع الأمكنة و اللغة والذاكرة و الحلم و النماذج الأولى. ومن خلال كل ذلك وضع الشاعر في موقع المتأمل و الناقد لتجربته الشعرية و الحياتية على ضوء تطور أساليبه التعبيرية ومسعاه المتواصل لتجاوز الذات والبحث عن لغة أخرى، و هو ما يصطلح عليه عبد الكريم كاصد ب"نفي الشعر للشعر".

إن تحقيق كل هذه الرهانات لإنجاز حوار فكري اقتضى توفير مساحة من الزمن متسعة وقادرة على احتضان زخم الرهانات المطروحة، الأمر الذي أدى إلى عقد لقاءات متعددة مواكبة لسيرورة الحوار الرئيسي، حملتني إلى قراءة جل أعمال الشاعر و تفحص حواراته القديمة والجديدة، و كذا الاطلاع على الدراسات العديدة التي تناولت أعماله الشعرية والسردية على حد سواء.

و الحقيقة أنني لم أكن أعلم أنه لكي تحاور شاعرا كبيرا من عيار عبد الكريم كاصد يجب عليك أن تقرأ لا كتبا و إنما مكتبة بكاملها.

عبد القادر الجموسي

* بخصوص هذا النوع من الحوارات، انظر:

- Fred Massarik, The Interviewing process re-examined, pages201 - 206, in Human Inquiry, A Source Book of New Paradigm Research, Edited by Peter Reason, John Rowan, John Wiley & Sons,1991.

- Sarah Anne Johnson, The Art of the Author Interview, University Press of New England, Hanover and London, 2005.

الفصل الأول:

أبواب الطفولة

ابن الرافدين/ الشعر و الذاكرة:

* الشاعر عبد الكريم كاصد، أود أن نبتدئ من البداية. و بداية كل شيء طفولته. و ما الشعر في جوهره سوى طفولة مستعادة. ماذا لو حاولنا معا استجلاء طبيعة العلاقة بين عبد الكريم الطفل والشاعر؟ كيف عاش طفولته و ما هي أهم الروافد التي صاغت ذاته المرهفة و أثرت في حساسيته الشعرية؟

** قبل فترة كتبت قصيدة ذات فكرة تبدو غريبة نوعاً ما عن حياة هي ليست غير حلم أو ذكرى رجلٍ ميت تتداخل فيها الأزمنة فلا ماضٍ هناك ولا حاضر ولا مستقبل، بل أزمنة تتداخل. غير أن القصيدة لا تتعامل مع هذه الفكرة في تجردها بل في تجسدها الواقعي الملموس وفي التفاصيل التي تقربها من الواقع لا الحلم الذي تتحدث عنه، من الإنسان الحيّ لا الميت الذي يتذكّر. القصيدة هي:

فكرة بغيضة

أحياناً
تراودني فكرة
كم أحاول أخفاءها
فكرة بغيضة
ماكرة
هي أنني رجلٌ ميْت
يتذكر أيامه الغابرة
دون أن يعرف إن كانت هذه
ماضيةً
أم حاضرةً
أم آتيةً
وقد تداخلت الأيام
فهو الطفل في كهولته
والكهل في طفولته
والشيخ في حاضره
ولايدري
إن كان الناس يظنونهُ
طفلاً
أم شيخاً
أم كهلاً
يسأل مرآته أحياناً :
كيف يرتّب أيامَهُ
بل كيف يرتّب وجهَهُ
في فوضى هذي الأيام
ذات الأبواب الألف

المشرعة على أبوابٍ ألف
المشرعة على ..
أبوابٍ
أدخلها
أولها أم آخرها
هذا البابُ المخلوعُ المائل؟

أبوابٌ
يدخلها رجلٌ ميْت

هل في هذه القصيدة إجابة ما؟ لا أدري ولكنني أستطيع أن أقول أن ما يتراءى لي طفولة هناك لم يزل حاضراً هنا، وما أراه شيخوخة الآن لم تكن طفولتي بمنأىً عنه. لم تكن الطفولة وهماً أو سعادةً محضاً بل كثيراً ما أطلت بملامح أخرى.. ملامح لم يدركها الطفل آنذاك.

حقّاً إنني ما زلت حتى الآن لا أعرف كيف أرتب أيامي أو كيف أرتب وجهي، مثلما لا أعرف كيف يظنني الناس: طفلاً أم شيخاً أم كهلاً؟ و لعلّ الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني أمام أبوابٍ شتّى وأنني ما أزال مشروعاً للمغامرة خلف الأبواب.. وأنني ما زلت الطفل الذي يطلّ بين فترة وأخرى، وأن الكهولة ليست مؤجلة، أو تالية، وأن الشعر حاضر في هذه التحولات يقبس منها ناره أبداً، ولعلّ في هذه النار ما يقيني برد العالم الذي يحوطني، والزمن الذي يخترقني . لذا أعتقد أنني ما زلت بعيداً عن أية صياغةٍ ناجزة، وأن روافدي لم تنضب أو تنقطع بعد، وأن بعضها لم يزل يحفر عميقاً في شعري. هل يمكن أن أقول أن ألف ليلة وليلة التي رواها لي خالي موزان كاملة أكملت فعلها فيّ أو في شعري؟ هل أستطيع أن أغادر طفولتي وكأنها مدينة مررت بها في قطار عابر؟ هل انتهى رافد الشعراء الذين أثّروا فيّ: طاغور، المتنبي، لوركا، نيرودا، ناظم حكمت، إليوت، عزرا باوند، فروست، السياب.. وغيرهم؟ أم أنني ما زلت أرى في هؤلاء رافدي الذي لا ينضب؟

نعم .. ثمة بشر عاشرتهم وأحداث أثّرت فيّ وكتبتُ عنها وما زلت أستعيد بعضها وأكتب عنها وكأن الشعر والطفولة توأم يلتقيان مهما ابتعدا. سيظل الشعر مهما نأيتُ به طائفاً يراوح عند حدود الطفولة ليدخلها في لحظة ما.. لحظة سعيدة قد تختلط بالحزن ولكنها لحظة فرحٍ بلا شكّ.

*الطفل أب الإنسان، يقول الشاعر وودزوورث. على ضوء هذه المقولة، إلى أي حد تمثل الطفولة خزينا لتجارب و أحاسيس ملهمة للإبداع الشعري عموما؟

**نعم قد يكون الطفل أب الإنسان وقد يكون الرجل أو الإنسان ابناً للطفل. أقول في قصيدة لي بعنوان الشاهدة مخاطباً أبي:

وكنتَ لي الصغير تعاشر الجيران

كما أقول في قصيدة أخرى:

قلت لأبي وقد جاءني زاحفاً من قبره
"آه .. يا طفلي العزيز !".

وفي الحالتين يحضر الشعر. الطفولة كما قلت ليست مرحلة حسب، بل هي علامة الإنسان وجوهر الشعر في أية مرحلة كانت. وحين تغادر الطفولة الإنسان يغادره الشعر أيضاً. وحين نتحدّث عن الطفولة بصفتها مرحلة ما، فهي بالفعل خزين من التجارب والأحاسيس والدليل على ذلك هو استمرارها نسغاً لا في الشعر وحده وإنما في الحياة أيضاً حتى يمكنني أن أقول: إنني طفولتي .

أشعر أحياناً أن طفولتي كالوجود لدى هيغل الذي يحتوي على تفتحه القادم الكامن فيه. ألم تنطو طفولتنا على الكثير من قسماتنا القادمة؟ ألا تحتوي قسماتنا الحالية طفولة ما.. حتّى لو كانت مندثرة لدى البعض؟ هل الشعر وسيلة لإحياء ما اندثر لدى الشاعر أو القارئ.. أو في طريقه إلى الاندثار؟ هل الكتابة، والشعر خصوصاً، وجود ينطوي على حياته القادمة كما لدى هيغل الذي اكتشف في الخلو (مقولة الوجود الفارغ) كامل الامتلاء؟

* قلت في مقام آخر: "ما زال في داخلي ذلك الطفل يرافقني و يقودني إلى ممالك أبعد". ماذا منحتك طفولتك من صور شعرية و رؤية بدائية للعالم من خلال صلاتك بشخوص المرحلة وأمكنتها والنماذج الأولى واللغة الأم؟

** في طفولتنا كنا ما إن نغادر البيت حتى نجد أنفسنا منزلقين على خشبة مسرح مهيئين لجميع الأدوار. لم يكن أحدنا ينتظر دوره. كانت الأدوار حاضرة تنتظرنا فرساناً و مغامرين. كلّ الشوارع يمكن أن تكون مسرحاً.. الصغيرة منها والكبيرة، الظاهرة والخفية، وفي الخفية كنا نقوم بأدوار الحرّاس لتحذير أخوةٍ لنا كبار، يلعبون الورق، عند مداهمة الآباء.

ذات يومٍ - أذكر- اجتمع اللاعبون في مكان يعلوه وكر زنابير. لا أدري كيف اهتاج هذا الوكر لتخرج منه الزنابير جيوشاً تتعقبنا وقد تطايرت أوراق اللعب ومعها بعض أوراق نقدية لاتستحق كلّ هذه المغامرة التي أورثتنا انتفاخات مضحكة في وجوهنا في اليوم التالي. لم يك ثمة إطار للطفولة، أو قواعد صارمة أو مراتب بل حياة مسفوحة.. مفتوحة الأبواب على خارج أليف وغرائبي في آن واحد. لم تكن طفولتي تبحث عن مغامراتها وإنما تجدها في ما هو مألوف في الواقع. كان شعري فيما بعد وجهاً آخر لطفولتي. هل الطفولة والشعر صنوان؟

أتساءل أحياناً لماذا الطفل هناك حتى في الأحداث الضخمة كالحرب .. لماذا الطفل ، مثلاً، في ملحمة الماهابهاراتا التي اطلعتُ على ترجمتك الجميلة لها؟ ماذا يفعل الطفل هناك وسط كلّ هذه الأحداث التي وجد نفسه في خضمها فجأةً؟ كيف يصبح الواقع مخيلة عند الطفل والمخيلة واقعاً عند الشاعر فيما بعد؟

وحين أتذكر طفل الملحمة أتذكر أيضاً طفل الحياة الآخر الجميل الباسم التي تروي عنه الملحمة إنه كان واقفاً تحت شجرة حين قدم إليه الشيخ الناجي الوحيد بعد أن استحال العالم مستنقعاً هائلاً، فناداه وطلب منه أن يدخل جسده ليستريح ، فهاله أن يرى العالم من جديد حيّاً بأنهاره ومدنه وناسه وسمائه التي لا تنتهي.

لعل أغرب ما اكتشفه الطفل فيما بعد هو أن الشرّ لم يكن بعيداً عنه، ولم يكن بتلك القسمات الشريرة التي كان يظنها؛ فهو يبتسم له أحياناً. كان يعرف شريرين وادعين وطيبين أشراراً، وكان يرى الرقة في من يتوهمهم الآخرون أفظاظاً. كانت عيناه تتسعان على المشهد بل إنه كان، ويا للغرابة!، يرى الفضيلة حتّى في ما هو رذيلة. أتذكر العاهرات وهنّ يهبطن في جولةٍ (تذكرني بمواكب المومسات التي تحدث عنهنّ أندريه جيد في كتابه "حين تموت البذرة") أيام الأعياد في مدينة بسكرة الجزائرية الشبيهة بالبصرة بنخيلها وبيوتها ووداعتها.

كنت أتطلع إليهنّ فأراهن أليفات يشبهن نساءنا إلاّ بضعة أصباغ أفتقدها في وجوه بعضهنّ أحياناً، وحتّى عندما يتشاجرن مع الباعة وتعلو أصواتهن، أسمعهنّ يتحدّثن عن شرفهنّ الباقي أو المفقود... لا أدري فتصيبني الدهشة، بل أن لبعضهنّ أطفالاً يجلبنهم معهنّ إلى السوق ولاتنتهي جولتهنّ إلاّ عند حدود سوق البزّازين الذي انتقل إليه محلّ والدي بعد أن كان في بداية السوق فيصلن إليه كغزالات نافرات من سربٍ عائد. لن أنسى دموعهنّ بعد إغلاق المبغى، وهنّ يودّعن الآتين ويعرضن أثاثهنّ للبيع، ويرحلن بلا أثرٍ سوى البصمات التي خلّفتها أيدي السكارى والمتعبين على أجسادهنّ.

كانت هذه الأضداد تتزاحم كلّما تقدّم الطفل خطوةً لتصبح أضداداً جديّة لم يكن يتوهم يوماً أنه سيجد تركيبها ، في مادّة أو مثال، ولكنه كان يجد إنسانيته حين يلتقي بالبشر ولا يرى اجتماعهم شرّاً، وهذا لا يعني أن تجمعهم خير بالضرورة فما أكثر الشرور التي ارتكبتها الجماعات. لم يكن الشرّ هناك بل هنا أيضاً متألقاً مثيراً في ابطالٍ يبعثون على المتعة في مغامراتهم التي لا يُنقص منها حتى الشرّ.

مرّةً فوجئ الطفل بواحدٍ من "الأشرار" تتعقبه الشرطة بتهمة قتل مفوّضٍ شرير فاضطر إلى الالتجاء إلى بيتنا وقد أثخنته الطعنات ، فآويناه أياماً خرج بعدها وقد شفي من جراحه الفاغرة. كلّما تذكرت هذا الرجل المذبوح استغرب كيف عاد إلى الحياة بقماشات نظيفة فقط وماء حار ومراهم عاديّة. و يا للغرابة حين التقيت هذا الرجل فيما بعد وكأنني لم أعرفه من قبل أو لم نعش حدثاً ما.. رجل قاتل وعائلة طيبة هكذا يلتقي الشر بالخير ويختلطان في لعبة شريرة أو طيبة.. لا أدري.

حتّى الموت كان لدينا لعبة نحن الأطفال. نتطلع إليه من شقوق الحيطان القصب المعدّة لغسل الموتى ونصحبه حتى الجادّة العالية حيث ترتفع البيارق وتنطلق أصوات البنادق ويتقدم الميت في تابوته غامضاً في رحلته الأبدية إلى البعيد، على سقف سيّارة بينما يردح البعض بالهوسات التي يردّدها الآخرون. احتفالات وطقوسٌ تتكرر وسط دهشتنا الدائمة وحركتنا الدؤوبة حين تشب المواقد وتعلّق الخرفان وتُهدى لنا بعض أجزائها اللذيذة، نحملها إلى أمهاتنا ليشوينها على الجمر وقد أقعينا جوارهن.

عالم طفوليّ.. يمتزج فيه كلّ شئ.. البشر والآلهة، السماء و الأرض، الأموات والأحياء، الحجر والماء، وتهبط النجوم في سلةٍ إلى الطفل:

النقوش الجميلة في الخصر،
(ترفع أثوابهنّ الصبيّات)
إغماضة الشمس فوق الحظيرة،
(تعبق رائحةٌ)
صيحة الغاق،
(ترحل بعض الحضائن في النهر)
إطلالة الليل فوق السطوح الخفيضة،
(تهبط في سلّةٍ نجمة)
وتنام.

(صيف) من ديوان (النقر على أبواب الطفولة)

النقر على أبواب الطفولة:

* يمتح ديوانك الموسوم "النقر على أبواب الطفولة" مادته الشعرية من تجارب الطفولة. و هو يضم قصائد يتراوح تاريخ كتابتها بين سنة 1968 و 1976، وهي بذلك تتقاطع مع القصائد المنشورة في المجموعة الأولى "الحقائب" الموقعة بتاريخ 1975. يفهم من هذا أن قصائد "النقر" كتبت على مدى ثماني سنوات، و هي فترة تخللتها، بلا شك، أحداث و أسفار و رهانات و اختيارات فكرية و جمالية متعددة. ما البواعث الذاتية و الموضوعية التي حفزت على نشر ديوان عن الطفولة بشكل خاص؟ و ما هي اللحظة التي بدا فيها "نداء الطفولة" ضاغطا و ملحا مما حدا بك إلى انتقاء و تصور نصوص هذه المرحلة وفق منظور موحد، أي في شكل ديوان متكامل؟

** أغلب قصائد المجموعة كتبت في سنتي 75-76 باستثناء قصيدتين هما (حكاية متعبة للأطفال) و(مرثية) اللتين كتبتا سنة 1968، لذا فهي لاحقة لمجموعة (الحقائب)، كتبتها بعد عودتي من غربةٍ دامت ثلاث سنوات متواصلة في الجزائر. باعثها هو ما استشهدتَ به من إضاءة كانت إذا صحّ التعبير تطهيراً، ونجاةً، وابتعاداً عن واقع، لأعود إليه وقد انفتح على ماضٍ أردته مستقبلاً أيضاً لطفولة أراها أمامي تختنق بشعارات ودعاوى كأنّ الحياة ليس لها سوى بعدٍ واحد هو البعد السياسيّ في أدنى أشكاله: ضجيج إعلامٍ، ومسيرات كبرى، وتظاهر بتحالفات كاذبة، وتعداد مآثر لسلطة بعيدةٍ عن الناس حتى في توفير أبسط احتياجاتهم. يقابل ذلك دعوات نقاد وكتاب وصحف لتكريس أدبٍ لا همّ له سوى مديح هذا الواقع الفظ وانجازاته الباعثة على السخرية في صغرها المضخم في الإعلام.

كان ديوان "النقر" إنقاذا لي .. تطهيراً وملاذاً لجأت إليه لأصغي إلى أعمق ما في داخلي من حنين لأمكنة وأناس غابرين عادوا ظلالاً، فأردتهم أحياء، كأنّني أريد أن أقيم عالمي الذي هو نقيض العالم القائم/ حيوات وأمكنة وأصداء و بشر قادمون بملامح غائمة تتضح شيئاً فشيئاً: كامل الطفل الذي اخضرت لحيته، أفعى البيت الخارجة من ظلام الحائط المشقوق لتهزّ الطفل، الحمال الذي يتقدّم ملكاً خشبيّ الجنحين وقد كنسنا نحن الأطفال، أمامه الطريق، لئلاّ تنغرس قدماه بالحصى، لشدّة ما يحمله من ثقل، حمزية الراقصة الغجرية بثوبها الموسلين.. النيران المشبوبة لرقص العميان، المرأة الهاربة التي يتأبطها ذئب، النساء اللواتي يجمعن الملح فتلاحقهن الشرطة، لأن هناك من يحتكر الملح، البغايا الباكيات وقد أغلق المبغى، وسط سباب القوّادين وضحكات العابرين، عمال الجراديغ (مكابس التمور) وهم يقلبون الصناديق طبولاً للسهر في الليل، النوتيّ الذي بلغ السبعين ولم ير المدينة..عالم ينفتح على ظلمة في السراديب أو ضياء شمس، وبين الظلمة والضوء يتراءون بشراً وأشباحاً في آنٍ واحد، أشراراً وطيبين بشرورٍ صغيرة، هامشيين وأبطالاً، وبين الهامش والبطولة ينتقلون مثلما ينتقل البشر بين الظلمة والضوء...

كان هذا الحشد يجتاز كلّ صباح الطريق إلى المدينة موكباً تخترقه العربات التي تجرها الخيول وروثها الذي يملأ الطريق. كنا أطفالاً نندسّ بينهم في طريقنا إلى المدرسة.. حمالين وعمالا وبائعات ملح يفضلون السير على الأقدام على ركوب العربات.. سمّهِ كرنفالاً صباحياً تتخلله المسيرات الصامتة والضاجة لأناس يعرفون بعضهم بعضاً، وحين يصلون إلى المدينة نراهم يتخذون أماكنهم هناك وكأنهم نبتوا فيها أو كأنهم شخوص في مسرح واسع، ولعلّ أطرف ما في هذا المشهد هو جلوسهم الواثق في المقهى الرئيسيّ الذي يطلّ على قلب المدينة الضاج بالناس وحركة سير السيارات، وهم يدخنون النارجيلات باطمئنان الكائن الأبديّ الذي لا تشغله دنياه وهو الخائض فيها حتى الرقبة.

حين نراهم نحن الأطفال يتملكنا شعور واحد: المدينة بيت. تدهشنا رقتهم في المدينة وحنوهم وسخاؤهم وحين كنت أقرأ لأبي "ألف ليلة وليلة" جالسين أمام محله الكائن في سوق البزّازين ، يترك هؤلاء محلاتهم ليتحلقوا حولي مبهورين متثاقلين حين يلمحون قدوم الزبائن.

لقد أسرّني بعض القراء وبعض الأصدقاء من الشعراء إنهم حين هربوا من العراق لم يحملوا معهم غير هذا الديوان وكتابين عزيزين أو ثلاثة من بينها أيضا كتاب "المملكة السوداء" لصديقي العزيز وابن مدينتي محمد خضير. وحين ذهبت إلى العراق هذه السنة والسنة الماضية لحضور مهرجان المربد فاجأني الكثيرون بحبهم الكبير لهذا الديوان الصغير البسيط في أشكاله التي تكاد تكون مفتوحة حتى أمام عيون الأطفال.

* في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" اشتغال على صور الذاكرة بطريقة تستحضر الأحداث كما لو أنها ما زالت تحتفظ بطراوتها و عنفوانها و حسيتها الأولى، كيف استطعت الحفاظ على هذه المسافة الجمالية الحميمة رغم توالي السنين و اطراد الوعي.

** القصائد في هذه المجموعة هي وقائع حياتية حدثت بالفعل لطفل، ولكن ما يثير تساؤلي وتساؤلك ربّما هو كيف فاضت هذه الوقائع بالخيال حتى غدت وكأنها أحداث من صنع الشعر.

في الطفولة كان الخارج يمتد إلى بيت الطفل، وحين كبر الطفل ألفى بيته وهو يمتد إلى الخارج ، ثم فقد الاثنين معا فيما بعد ليستعيدهما بين فترة وأخرى في لقاء عابر أو حادثة أو وهم أو حب أو حنان أبٍ صار أمّاً أيضاً.. أو صداقة ممجّداً الحياة مدركاً أن بهجتها هي التي تغري الوحوش بالافتراس أيّاً كانت هذه الوحوش سلطةً أو احتلالاً أو منفىً. لا يزال الخارج بالنسبة إليّ متعة وحين أبتهج لا أغلق أبوابي أبداً على الطفل بل أفتحها واسعةً رحبةً.. بلا انتهاء . أليس في هذا الفعل جوهر الشعر وحضوره الدائم وقدرته على استحضار ما يبدو أنه اختفى إلى الأبد. لا أحبّ النفس راكدة حزينة في الشعر، وأحبها مفتوحة على العالم حتى وهي في أوج مأساتها. لانّ في حضور العالم والتماع أشيائه يصبح حتى الحزن فرحاً مضيئاً بالشعر.

أتذكر أنني في طفولتي كنت أضيق بالوحدة وأكره وقت القيلولة في الظهيرة حين ينام الأهل، وما زلت أشعر أن الوحدة، إن لم يحضر الآخر في كتابٍ أو ذاكرةٍ، ليست أقلّ وحشة من وحدة الطفل في الظهيرة.

*في رثائك للأب، رسمت صورة شجية حيث قلت: "رأيت فيه طفولتي التي مضت و التي فقدت أعز شهودها". هلا حدثتنا عن علاقتك بالأب علنا نقتبس منها ملامح الشاعر المبكرة من جهة، وفضائل الإنسان العراقي البسيط من جهة ثانية؟

** كتبت عن أبي قصائد عديدة: الشاهدة، حكايات عن أبي، وقصائد أخرى، وإشارات في قصائد هنا وهناك، احتوت على الكثير من المشاهد واللقطات والتفاصيل عن سيرته الحافلة بالأحداث، والتي تتسم بغرائبية هي غرائبية الرجل البسيط في عالم لم يعد بسيطا. قلت عنه مرّة إنه أرحب من ثقافتي، وأكثر صدقاً من حماستي، وأعمق دراية ومعرفة بالناس وأهمّ من ذلك أكثر تسامحاً وإحساساً بالعدل. في طفولتي رأني مرّة وأنا أرقب الميزان بحرص فهمس في أذني أن أتساهل مع الناس، ولا أكون شديداً حتى في الميزان.

كان بيتنا مكاناً للوافدين: أرامل، ويتامى، وفلاحون فقراء يأتون بسلال الرطب في أوقات معينة من السنة ليقيموا عندنا ليلة أو ليلتين فيهبهم والدي أضعافاً مضاعفة، لا لأنهم فلاحون فقراء يأتون من القرى النائية القريبة من البحر وإنما لأنهم أصدقاؤه يأنس لهم ويأنسون إليه، من طوائف شتّى ولعلّ آثر أصدقائه ليس من طائفته، ولعمق هذه الآصرة توارثنا هذه الصداقة القديمة النادرة، مثلما نتوارث شيئاً عزيزاً.

أتذكر مرّة أنه أنزل قارئاً من على المنبر أمام الناس لأنه أشار إلى بعض الصحابة بما يسئ إليهم، وبنبرة طائفية مقيتة. ومرّةً ذهب ليجلب رفات خالي موزان من مدينته البحرية في أقصى البصرة: الفاو، وحين عاد بجنازته وكنّا في انتظاره وقد أقمنا السرادق لمجلس العزاء فوجئنا بسيّارة قادمة وهي تحمل جنازتين، فظننا الجنازة الأخرى أبي، غير أننا حين رأيناه يتقدم منّا سألناه عن الجنازة الأخرى، فقال إنه صادفها في الطريق ولم يكن في وسع عائلة الميت الفقيرة إيصال الجنازة إلى النجف فتعهد والدي بإيصالها مع جنازة خالي.

ولعلّ الغرابة رافقته منذ نشأته إذ يروي لي أحد أفراد عائلتي.. من؟ هل هو أبي نفسه؟ أن جدّي حين اكتشف عروسه شديدة السمرة عافتها نفسه وطلب منها ومن أمها التي رافقتها إليه أن يغادرا في الفجر إلى أهلهما، وحين التقاها بعد فترة طويلة هي وأمها أيضاً في سوقٍ للأغنام ولم تزل في ذمته استعادها من أمها و بنى بها، مثلما يُقال، فكان أبي.. كم يبدو هؤلاء البسطاء غريبين أحياناً!

ولعل مجلس العزاء الذي أقمناه له إثر وفاته هو الخاتمة التي كانت المشهد الأخير لما مرّّ من مشاهد غائبة اجتمعت عبر شهود حضروا: رجال يقفون وسط المعزين ينتحبون ، سجناء سياسيون كفلهم أبي وقد تبرأت منهم حتى عوائلهم.. وجوه لم نرها من قبل وهي تجيء صامتة وتذهب صامتة وقد علاها الحزن.

من أين لمثل هذا الرجل البسيط كلّ هذا التأثير؟ ومن أين له كلّ هذه المعرفة بالحياة والناس؟ لا أزال أتذكر ذلك القارب الصغير المزيّن بالوسائد المنقوشة وهو يحملنا، أنا وأبي، من دكّة على نهر أبي الخصيب إلى فضاء شطّ العرب الشاسع حيث يلوح عند التقائهما مخفرٌ و بضعة خيول ترعى، وماء يمتدّ حتى السماء. لم أكن أعرف ونحن نسير باتجاه الجزيرة، جزيرة البلجانية، أننا كنّا نسير بمحاذاة جيكور إلا بعد ما يقرب من نصف قرن حين زرتها وتبين لي أنها تبعد بضع خطى عن الشطّ.

وحين وصلنا الجزيرة استقبلنا الصيّادون، كانوا حشداً، وهم يخوضون في الطين، ويقيمون أسيجة القصب العالية التي سيغمرها الماء حين يعلو المدّ، وآن ينحسر ستتكوم فيها أطنان من السمك اللامع الذي يتقافز في الهواء. في الليل كانت النيران تُشبّ، والمواقد مهيأة لإطعام أضعاف العدد الحاشد من الصيّادين. قلتُ قبل العشاء لأحدهم : لِمَ كلّ هذا الطعام؟ فأجابني ضاحكاً: سترى.. سيجهزون عليه ولن يخلّفوا منه شيئاً، وهذا ما تحقّق بالفعل.

كان طقساً رهيباً حقّاً: صيّادون، ومواقد تشب، ونخل يستحيل أشباحاً في الليل، وهسيس أرواحٍ غامضةٍ في جزيرة نائيةٍ، وفضاء شاسع كالنهر، وثمة قارب صغير مربوط هناك إلى الأبد، وطفل يقلّب عينيه بين أرضٍ وسماء لا نهاية لهما، وجزيرة يحملها النهر على ظهره وينأى بها بعيداً حتى آخر العالم.

الوليمة

هبطتْ سلالُ الطلع
من يأتي الوليمة ؟
قاربٌ في النهر يدفعه الهواء
سفينةٌ في النهر عند المفرق المائيّ حيث المخفرُ المهجورُ ، والخيلُ التي ترعى ، وذاك الشطّ تعبرهُ البنادق . طلقةٌ ويسيلُ خيطُ دمٍ وتهتزّ السماء كأنها طيرٌ
ويمضي الماء
يمضي الليل ..
صندلهُ الخفيفُ يضئ
تلتمع المواقدُ والفوانيسُ البعيدةُ
صيحةٌ ..
ويهبّ صيّادون
تقترب المشاعلُ
ظلّها يمتدّ حتى الجرف
حتّى لمعة الأسماك
بين حواجز القصبِ الخبيئةِ تحت ماء الشطّ
جزرٌ والسماء نديّةٌ
والمدُّ لا يأتي
ويأتي الساهرون من القرى
أ أظلّ منتظراً هناك ؟
كأنني شبحُ المراكب
هل أصيحُ : " أبي لماذا عفتني في قاربي المسحور؟ "
لو ألقيتني حجراً وضعتُ
لو انني
لو كفّك البيضاءُ لم تهتزّ فوق النار!
في تلك الوليمةِ
لو أنام
لعلّني ألقاكَ
لو

* وماذا عن الأم. لا يرد ذكرها إلا في ثلاثة مقاطع محدودة في قصائد "ليدي ستيك" و "طفل جائع في عاشوراء" و"الملح". يبدو حضورها ضامرا حتى لا نكاد نشكل عنها صورة أوضح. هل هو اختيار مقصود؟ أم ماذا؟

** قد يبدو حضور الأم ضامراً في هذه المجموعة الصغيرة و لكنها، مع ذلك، تحضر بشكل مباشر في قصائد أخرى كقصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وقصيدة (العمياء):

أيتها العمياء
لقد كنت رضيعك
عندما كان ثديك قبضة الباب للطفل
ويداك أرجوحتي

مثلما هي تحضر بشكل غير مباشر في هذا المقطع الذي يتحدث عن حمّام فارسيّ قادتني إليه أمي في خراسان (كان عمري آنذاك ست سنوات)، وحين دخلناه فزعت النساء المستحمات فزع الجنيات العاريات ، في ألف ليلة وليلة ، في حكاية الحسن البصريّ ، وطالبن بمغادرتنا الحمام. لا يزال المشهد ماثلاً أمام عينيّ حتّى الآن:

كيف ألقت بنا الريح صوبك ..؟
كيف استفقتُ على صخرةٍ ،
بابها البحر ..؟
والنسوة العاريات بحمّامك الفارسيّ
كيف فرقتهنّ على الصحن كالطير ،
مختفياً تحت جنح العباءة ..؟
كيف تشابكتُ كالنور فوق زجاجك ..؟
أيهٍ خراسان!
مالت بنا الريح عن ضفتيك
وغاب على صخرة بابك الحجريّ

مثلما هي حاضرة، بشكل غير مباشر، في المقطع الآخر في القصيدة ذاتها:

أطبقت زهرة جفن طفل
أيقظته الأحاديث بين النساء
في خراسان
في الخان
خمسُ نساء

ولكن حضورها، مع ذلك، يبقى، مثلما قلتَ، أقرب إلى الضمور ، ولعل في قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) ما يفسر جانباً من العلاقة مع الأمّ.

* على عكس ذلك، نلاحظ في الديوان حضورا قويا و كاشفا للنساء، بصيغة الجمع، في شكل نماذج إنسانية متنوعة من قبيل :الراقصة الغجرية"، العمياء"، سكينة الأهوازية"، و"صبرية". لكأن الديوان برمته هو عبارة عن احتفاء بهن. من تكون هؤلاء النسوة؟ و أي أثر تركنه في تشكيل وجدان و خيال الشاعر؟

** قد يكون الديوان احتفاءً بهذه النماذج. ولكنني حين تعاملت معها لم يكن في ذهني غير استعادة ماضٍ لم يزل حاضراً بهذه الصورة أو تلك . لم يوجه اختياري لهذه النماذج وعي ما ، بل تجربة ومحبة تتجاوز ما يدركه الطفل إلى واقعٍ لم تكن علاقتي به علاقة المشاهد الواقف عند حافته ، بل علاقة الطفل الذي يتحرك بين الأشياء فاعلاً ومشاهداً. ولم يأت الوعي فيما بعد إلاّ ليؤكد هذه الاختبارات التي أسهمت فيها دوافع شعورية ولا شعورية ، لا للتعبير عن طفولةٍ مفترضة أو مفقودة بل عن عالمها الحقيقيّ الذي لم يكن براءة فحسب بل براءة وتجربة على حدّ تعبير الشاعر الإنجليزي وليم بليك ، أي أن وعي الشاعر لم يكن نقيض إحساس الطفل وتجربته بل امتداداً لهما.

تربطني بهؤلاء النسوة أواصر لم يزدها الوعي و السنوات إلاّ عمقاً: الخالة العمياء التي هي أمي الثانية، إن لم تكن الأولى، صبرية المومس التي رأيتها تبكي وهي تغادر المبغى، إثر اغلاقه، إلى جهة مجهولة، حمزية الغجرية التي كنا نتدافع إليها أطفالاً وكباراً مسحورين بغنائها ورقتها وجمالها وثوبها الموسلين.. كم كانت دهشتي كبيرة حين رأيتها مرة وهي تسكن خيمة بائسة في بقعة معزولة، شبيهة بالصحراء، في أطراف محلتنا. سمّهم ما شئت ضحايا، هامشيين، سَقَط مجتمعٍ ولكنهم كانوا بالنسبة إليّ، طفلاً وشاعراً فيما بعد، بشراً قادرين أن يهبوا الفرح للناس وأن يجمّلوا الحياة رغم مأساتهم وأحزان من حولهم.

أتذكر أن أمي قادتني يوماً إلى سكينة الأهوازية الخياطة الجميلة البيضاء الجالسة خلف مكينتها اليدوية وهي تحدّث أمي.. لم أر مثل أناقتها وجمالها قط . لم ألتق بها فيما بعد، غير أنني كنت ألتقي زوجها صدفةً في الباص حيث يعمل قاطع تذاكر.

تدهشني رقة الناس البسطاء. شاركت مرة في الإحصاء حين كنت مدرساً فالتقيت، في القطاع الذي كنت مكلفاً بإحصاء سكانه، بعوائل تسكن أكواخاً ما إن تدخلها حتى تفاجؤك نضارة وجوّ من الإلفة لا نظير لهما: زوجان في غاية الرهافة واللطف، يدخلانك عشهما فتشعر كأنك تدخل كوخــاً قصبيــاً فـي طـرف الجنـة، ربّ عائلـة وأبنـاؤه الثلاثـة (ولدان وبنت)، يستقبلونك بـودّ غامـر كأنك تعرفهم منذ زمنٍ طويل، أنيقين.. هادئين. الثلاثة جميعهم طلاب في كلية الطب.. إنه شعبنا البسيط الطموح المحب للحياة، ولكن المعرض دوماً للقتل.. لقد سرقوا حتى فضائله ليهبوه رذائلهم.. هؤلاء الأوغاد.. أعداء الحياة. لم أر شعباً كشعبي متسامحاً إزاء أبطاله الهامشيين. لقد سمعتُ في الغربة أن بعضهم أغتيل لأنه يرقص في الأعراس ، وآخر لأنه غجريّ، وثالث لأنه.. مثلما حدث مؤخراً حين اجتاحت إحدى المليشيات بيوت الغجر في أحدى محافظات العراق.

* هل تشكل النماذج النسائية المذكورة حالات متفرقة تؤثث فضاء المدينة، أم هن مؤشرات على وضع اجتماعي يعكس رؤية و بنية نفسية ذكورية مهيمنة؟

** نعم إنها حالات تؤثث فضاء المدينة رغم عدم ارتياحي للفظة ( حالات ) هنا، ومؤشرات على وضع اجتماعي معين، ولكنهنّ كما قلت، بالنسبة إليّ، حضوراً حياتيّاً وواقعاً عشته، لا كما حدث فعلاً، بل كما تصورته طفلاً وشاعراً في آن واحد. لكنني أرى أن الجذر الواقعيّ ذو أهمية لا تقل عن دور المخيلة لأنه يقي القصيدة من ترهلٍ وإنشاء يسودان شعرنا الآن مبرّرين بحداثة لا علاقة لها بالحداثة والشعر كما نعرفهما من خلال ما نقرأه لشعراء الحداثة في العالم. و هذا، ربّما، سرّ ولعي في التفاصيل التي تمنح القصيدة أرضيتها مهما ابتعدت.

* في موضوع ذي صلة بمسألة الحضور الأنثوي في ديوان "النقر"، هناك كلمة لها وقع خاص هي كلمة "عباءة". فهي تتكرر في إحدى عشرة قصيدة الى حد صارت معه بمثابة استعارة مهيمنة تسبغ لونها السحري على مشاهد الطفولة. ما هي الدلالة أو الدلالات التي تحملها هذه الكلمة في ضوء سياقاتها المتعددة داخل المجموعة؟

** إذا صارت كلمة (عباءة) بمثابة استعارة مهمة تسبغ لونها السحريّ على مشاهد الطفولة، فهذا قد يرضيني وبالتالي يغنيني عن التفسير. لكن لا بأس من إضافةٍ ما، توضيحاً لذلك، مشيراً لا مفسّراً. خذ ما تقوله مثلاً قصيدة (عباءة):

من بين كلّ العباءات المنحنية على الصناديق
تنهض عباءة في الليل
بعيداً عن النيران الموشكة على النباح
والقناطر المهتزة تحت الأقدام
يتبعها جسدٌ
تنطبق عليه في الظلمة..
ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس
بين الحلفاء

ما يشغلني في هذه القصيدة هو ما تضمنه سؤالك أنت من استعارة ولون سحريّ. أما دلالاتها الأخرى فليست هي شاغل الشاعر المعنيّ بتجربته وليس بالموقف منها. فإذا كان البعض يرى فيها دلالة اجتماعية، فهذا صحيح غير أنها دلالة من بين دلالات أخرى. في القصيدة ثمة عباءة تمثل امرأة حقّا ولكنها ليست هي العباءة ذاتها في الواقع . إنها عباءة أخرى لها واقعها الآخر المتحرك الفاعل الذي ينطبق على الجسد ويتوحد فيه ممتزجاً مع الطبيعـة الأرحـب المتمثلـة في الحلفـاء وقـاع النهر وسط كرنفال صامت هو النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام. إنني في القصيدة لا أتعامل مع الرمز وحده.. أو المفهوم وحده، أو الدلالة وحدها، وإنما مع عالم القصيدة الذي يتجاوز كل ذلك. حين أقول عباءة فإنما أعني عباءة فعلاً. للتشكيل أهميته في القصيدة وهذا ما يعنيني بالدرجة الأولى باعتبار التشكيل تنظيماً لتجربة حية هي أقرب إلى المخيلة منها إلى الواقع رغم واقعيتها الشديدة.

*هل تشبه هذه العباءة العباءات الأخرى في الديوان؟

** لا أظن ذلك. قد تلتقي مع غيرها في الدلالة العامة جدّاً ولكن لكل عباءة خصوصيتها في القصيدة الواحدة. أن هذه العباءة لن تشبه العباءة التي أقول عنها في قصيدة أخرى: "وتنزوي عباءة في الظلّ".


* ألا يزعجك أن يتم اختزال معاني هذه الاستعارة في بعد واحد كما هو الشأن في الدراسة القيمة التي أنجزها الناقد الجاد محمد الأسعد، و المضمومة في كتابه "مقالة في اللغة الشعرية" (1980)، حيث اعتبر أن توظيف "العباءة" يعكس حالة تشيؤ اجتماعي للمرأة التي هي على حد قوله: "لا تصبح مجرد عباءة إلا في وضع أفقدها وجودها كإنسانة، فأصبح أكثر ظواهر وجودها بروزا هذه العباءة"؟

** ليس ثمة بعد واحد، كما أشرت من قبل. وما يراه الناقد تشيؤاً اجتماعياً أراه تشيؤاً فنيّاً أو جمالياً أيضاً دون أن ينقض أحدنا الآخر. و تفسيره هذا لا يلغي أبداً المتعة التي أشعر بها شاعراً وقارئاً في تعاملي مع العباءة لا كرمزٍ بل كواقع يتحرك ويفعل ويدخل في علاقةٍ ما، مثلما تجسّد ذلك في قصيدة (عباءة) التي ذكرتها. ليس هناك معنىً محدّد وإنما هناك دلالات وقراءات شتى لا يمكن حصرها في دلالة واحدة أو قراءة واحدة مهما اغتنت هذه الدلالة أو هذه القراءة بالتفاصيل.


*في الديوان هناك احتفاء متوهج بشخصية موزان-الراوي، الذي تحدثت عنه في فصل "انخطافات ألف ليلة و ليلة". لقد ارتبط موزان لديك بالحكي و الخيال الواسع لدرجة أنك وصفته ب"ذلك الإنسان الذي أشعل الحرائق في ذاكرتي". من هو موزان هذا؟ و كيف أثر فيك إلى هذا الحد؟

** كتبت عنه مرّةً: "موزان الذي لم يحمل يوماً هديّة لطفل كنّا نحبه نحن الأطفال.. ننتظره ملهوفين.. ننتظر هداياه التي لا تكلّف شيئاً.. فتح فمه فحسب، لينفتح بحر، وتعلو صارية، وتخفق ريح، وتدنو جزر.. وموزان لا يأتي إلاّ مريضاً لرعاية أخت هي أمي، أو عابراً قادماً من مدينته النائية المطلة على البحر إلى الأحياء الضيقة المكتظة بالنساء العاريات، أو إلى دار المسرّات.

رآه أحدهم في ماخور، ورأيته أنا مراراً أمام احدى دور السينما بعقاله المهيب وعباءته السوداء .. نلتقي قريبين ونفترق غريبين. لم يدعني يوماً، ولم أنتظر دعوته، فأنا لا أنتظر من خالي الشحيح المحبوب (موزان والي) سوى هداياه التي لا تكلّف شيئاً سوى فتح فمه الذهبيّ.

كان مرضه صحّتنا .. نتحلّق حوله مشدوهين.. نتطلع في فمه وكأننا نتطلع في بابٍ سحريّ مفتوح على عالمٍ خفيّ .. نتأمل ملامحه التي لا تتغيّر أبداً رغم الأحداث الجسام التي اهتزّت لها أبداننا أو تسمّرت. لا نلمح فيها غير ابتسامة خفيّة تلوح ولا تبدو ، وقد تختفي عند مشهد لتطلّ ثانية على مشهد آخر، وهي بين اختفائها وظهورها لا تبين أبداً.

كنّا نحبه ولا نكره فيه سوى نهوضه المفاجئ من سريره إلى بيت الراحة .. آنذاك نهبّ معه وإليه ، نتسابق أنا وأخوتي على حمل إبريقه إلى أعلى السلّم، حيث بيت الراحة الذي لا يصله الماء، مصغين، بانتباه، في أسفل السلّم، إلى ضراطه المتواصل وقد خنقنا ضحكاتنا الطفولية، متظاهرين بالجدّ وعدم سماع أيّ صوت من أصواته السريّة المعلنة، حافين به، وقد تقدّمنا كالملاك ثانيةً إلى سريره الطائر بين العصور والبلدان كبساط الريح.

لم نكن ندري أنه سيلازم سريره هذا طويلاً ، ولكن ليس في البيت بل في مستشفى قريب تؤمه أمّي يوميّاً للإطمئنان على صحة الخال الذي أخفوا عنّا مرضه .. كنا نتندّر ونقول لأمّي: " لن تنفعك كلّ زياراتك هذه فلن يورثك شيئاً " ، فتردّ الأمّ باستياء وكأنها تحدس الحقيقة في قولنا: "إنه أخي". وبالفعل فإن خالي حين مات أورث أبناءه الكثير من ماله العريض وأملاكه من العقارات والدكاكين ولم يوص بشئ لأمّي التي تقبّلت هذه الواقعة على مضض ، مردّدة بلا مبالاة: "إنهم أولاده، وهم أحقّ". لم ينس خالي حتى وهو على فراش الموت تقريع أخته (أمّي) له على زيجاته العديدة وزوجاته الممتعات.

كان خالي لا يكتفي بدور الراوي بل يعتبر نفسه بطلاً أو شبيهاً بالبطل. فهو حامل العلم أو الراية عند ظهور المهديّ المنتظر ليملأ الأرض عدلاً وسلاماً . كيف لا ؟ وهو الذي زاره المهديّ مرّات عديدة في بيته ، ليبحثا في فساد العالم. ولا يجد خالي أي تناقض بين دوره البطوليّ هذا وحمله صورة الفنّانة سميرة توفيق في جيبه ، فكلّ بطلٍ ، بطبيعة الحال ، بحاجةٍ إلى بطلة، ولا بأس إذا ما كانت البطلة فنّانة مشهورة كسميرة توفيق السمراء. ولعلّ في اختياره سميرة توفيق بطلةً تعبيراً عن مللٍ من بياض محظياته الأعجميّات اللواتي كان يتزوجهنّ بالمتعة ليزوجهنّ فيما بعد بالحلال. كما أنه لا يجد أيّ تناقض بين دوره هذا وبحثه ، كشارلي شابلن، عن الذهب. لذلك تراه مهووساً بالحديث عن الكنوز المخفية تحت الحيطان. وقد كانت ليلة مثيرة حقّاً عندما أشار على أبي أن يحفر أحد أركان بيتنا القديم الذي هدمناه لنبنيه من جديد. لقد حفرا، على ضوء الفوانيس، حفرةً عميقة فلم يبدُ لهما الكنز المخبوء وما بدا لهما لم يكن سوى طين وماء لم يعكسا حتّى وجهيهما اللذين ارتسمت عليهما الخيبة واضحة.

مرّةً جاء مسرعاً إلى أبي يعرض عليه الذهاب إلى الإثل خارج البصرة للبحث عن كنزٍ مخبوء هناك. لم يكذبه أبي بل استدعيا جارنا الذي حملهما في سيّارته إلى مكان ناءٍ ومعهم عدّة الحفر. بعد ساعات رجعوا بالكنز المخبوء . كان عبارة عن صندوق حديديّ قديم مغلق علاه الصدأ. لم يفتحوه إلاّ بشقّ الأنفس بعد أن كسرا قفله بمعول . لم يجدوا في الصندوق سوى ملابس جنديّ بريطانيّ وأغراضه الشخصيّة، عندئذٍ طلب والدي من خالي موزان أن يقول الحقيقة. كانت الحقيقة المرّة هي أن خالي موزان بعد أن قتل الجنديّ البريطاني أخفى صندوقه بين أشجار الإثل منتظراً كنزه كلّ هذه السنوات انتظاره المهديّ الذي لم يأت.

في قصيدتي (انخطافات ألف ليلة وليلة) لم يعد موزان راوية حسب وإنما موزان البطل بين أبطال عديدين في ألف ليلة وليلة.

* ما مدى حضور القصص الشعبي في مرحلة طفولتك؟ هل كانت هناك فضاءات خاصة في المدينة للاستماع للحكايا؟

** لم تكن ثمة فضاءات للحكايا في مدينتي، وحتى لو كان هناك فضاءات فإنني لم أذهب إليها .. وما حدث لي هو أن الفضاءات هي التي قدمت إليّ ممثلة بشخصين لا يشبه أحدهما الآخر. الأول هو: خالي موزان الخرافيّ الذي حدّثتك عنه، والآخر نقيضه الواقعيّ المتحدث لا عن أحداثٍ غابرةٍ بل عن أحداث راهنة: يوميات الحرب العالمية الثانية..هذا الشخص هو (عبدالرزاق الديوان) صديق أبي الذي لم أره يضحك مرة بل يكتفي بابتسامة ودود تشتعل فجأة لتضئ وجهه الناحل المستطيل. كنت أنتظر هذين الراويين الحبيبين مثلما أنتظر كتابين مغلقين ليبتدئا الحديث، كأنهما في تناقضهما الواقع والحلم وقد افترقا ليلتقيا هناك في نقطة بعيدة التمعت فيما بعد هي: الشعر.


* و ماذا عن "ألف ليلة و ليلة" بشكل خاص؟ ما سر هذا السحر الذي ألهب ذاكرتك؟ و ما هو في تقديرك، العنصر التخييلي و الحكائي الذي يتفرد به هذا النص الذي ألهب خيال شعراء وكتاب عالميين أمثال بورخيس وغارثيا ماركيز، وجعلوا منه كتابا أساسيا في المكتبة الكونية؟ و ما تجليات تأثرك بألف ليلة و ليلة في أشعارك؟

** لن أبالغ إذا قلت لك أن "ألف ليلة وليلة" حاضر في أغلب قصائدي بشكل مباشر أو غير مباشر وهذا ما لم ينتبه له إلا القليلون …

لعلّ من المفيد الحديث عن تجليات تأثير ألف ليلة وليلة لا عن سرّه الذي ينفتح على أسرارٍ أخرى قد لا تنتهي أبداً . ولعل أهمّ تجليات هذا التأثير،على الأقلّ في الأسماء التي أوردتها: بورخيس وماركيز، هو في هذا الالتقاء الحميم بين المعرفة والحلم اللذين افترقا لدى راويي طفولتي (الديوان وخالي موزان) . لم يكن ألف ليلة وليلة سرداُ ماضياً بل نبوءة أيضاً واستشرافاً .. واقعاً وحلماً في آن واحد ، وهذا ما يفتقده الكثير من الشعر وما يعوزه الكثير من الكتاب ولعلّ واحداً من أسباب شعبية هذين الكاتبين هو جمعهما هذين النقيضين لا باعتبارهما حدّين منفصلين بل لأن كلا منهما يتضمن الآخر، في أحداث قاسية تبعث المتعة حتى في أحلك أحداثها مثلما تبعث التفكير حتى في أخف أحداثها وأبهجها.

أليس التأثير نفسه سرّاً؟ في علم النفس التحليلي يتحدث المريض ليشفى من مرضه، وفي الاعترافات المسيحية يتحدث المذنب ليتخلص من خطيئته، أما في ألف ليلة وليلة فإن المحلل النفسي (شهرزاد) هو المتحدث ليشفي المريض الذي هو شهريار.. عبر الحكمة المبثوثة، في مرح، في وقائع وسرد نادرين رغم اعتياديتهما وميلهما إلى الجانب المحكيّ .

إن لحكايات "ألف ليلة وليلة" وهجها الخاص وتحولاتها المبهجة التي لا تعرف قتامة العالم الآخر ..عالم الحروب. كانت هي الأقرب إلى طفولتي ونداءاتها البعيدة وقدرتها على اختراق مراحل حياتي الأخرى ومن يدري لعلّي أجدها منبثقة مرةً أخرى في أثرٍ ما: قصيدة، خاطرة، كتاباً…ولا يزال لحكاياتها عموماً تأثير في شعري تجده حاضراً في الكثير من القصائد والمقاطع حتى أشدّها تعقيداً.

* في صلة بموضوع الحكي، في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" ثمة قصيدة بعنوان "حكاية متعبة للأطفال" تستثمر فيها النفس الحكائي السردي. ألا يقدم الشاعر أي تنازل عن خصوصية الشعر حين تتخذ قصائده لبوس حكايات سردية؟

** للطفل دهاليزه التي اكتشفها علم النفس ومسالكه الوعرة وغرائبه وحكاياته التي لا تقل غرابة عن حكايات الكبار.

سألتني ولك الحق في ذلك عن قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وأبديت خشيتك من تنازل الشاعر عن خصوصية الشعر حين تتخذ لبوس حكاية سردية. هذه القصيدة بالذات لم يتناولها أحد من الدارسين حتى الذين كتبوا عن المجموعة بحبّ. تتحدث القصيدة عمّا يسميه فرويد عقدة الفطام، وما وجد تطبيقاته في إشارات لمّاحة إلى التراث الفرعوني بما فيه من صور تظهر الفرعون، وهو يمص إصبعه طفلاً .

كنت مدرساً لعلم النفس وكنت أدرس فرويد ومدرسة علم النفس التحليلي، وكنت مغموراً بهذا العالم ، لكن لا يعني هذا أن القصيدة هي وليدة هذا العالم التعليميّ المجرّد وإنما هي كقصائدي الأخرى لا رافد لها غير الواقع الحسيّ الملموس.

لم ترضعني أمّي وأنما عهدت بي إلى امرأة أخرى لترضعني، ولا بدّ لهذا انعكاساته على شخصي فيما بعد، غير أني لا أود الخوض في تفصيلات ما انعكس فيّ وفي شعري لأن هذا يقودنا إلى أدب الاعترافات ، فما يشغلني هنا هو ملاحظتك أي الحديث عن الفن وليس دوافعه.

* هلا قدمت لي مزيد إضاءة لهذه القصيدة بالذات؟

**تقول القصيدة:

معذرةً يا أطفال
أجفاني مثقلة
أروي لكم الليلة
عن طفلٍ أثقله الترحال
لكن لم يتجاوز موطئ قدميهْ
لم يعرف حتى موضع شفتيه
كان جميلاً أيّ جمال
حضنته الأمّ وهبّت نسَمَهْ
مدّ فمهْ
صار الصدرْ
صخرْ
هربتْ (لم تتلفّت)
كان الصدر العاري يتفتّت
في الصحراء
فبكى يا أطفال
ثمّ أفاق على حضنٍ حجريّ ذات مساء
مفزوعاً موجع
ملفوفاً بالأسمال
لكنْ حين تأمّل قدميهْ
معذرةً يا أطفال
أبصرمدهوشاً ..
إصبع

الحكاية في القصيدة ليست عادية أو سردية ولا توجد في واقع وإنما هي خيال محض. أمّ تحضن طفلها وقد هبّت نسمة لتهرب به عبر الصحراء غير أن صدرها أصبح صخراً يتفتت. ثمة في القصيدة إشارة إلى امرأة لوط التي تحجرت حين التفتت، غير أن الأم لم يتفتت صدرها الذي استحال صخراً جرّاء خطيئة بل لعنة ربما. القصيدة لم تشر إلى ذلك وليست معنية بهذه الإشارة. عندئذٍ يبكي الطفل وقد أفاق مذعوراً وهو ملفوف بالأسمال، لكن سرعان ما ينسى ذعره وهو يتأمل قدميه حين يرى إصبعه. هل سيكون الإصبع بديلاً لصدر الأمّ . هذا ما تقوله القصيدة وما لم تقلهُ أيضاً ؟ إنها مفتوحة على الاحتمالات والدلالات لا المعنى الواحد.

*إلى جانب المحكي و الشفاهي، ما هي الكتب الأساسية التي وصمت طفولتك؟

** الكتب الأساسية هي شفاهية في جوهرها: قصص المغامرات، القصص البوليسية، ولاسيما قصص ملتون توب وهي سلسلة كتب بوليسية طويلة كنت أستعيرها من صديق يهوديّ كنت أتبادل وإياه الكتب. ما زلت أذكر اسمه: فيكتور منشي. كانت له أخت لا تخرج من دارهم إلا نادراً.. كانت في غاية الجمال.. أتذكرها الآن وكأنها وجه تخيلته في الأساطير. غير أن الدهشة الكبرى هي "ألف ليلة وليلة" التي قرأتها فيما بعد لوالدي، هي و "سيرة عنترة" الصادرة آنذاك عن دار الهلال بمصر.


* و ماذا عن الشعر؟ كيف كان حضوره في تلك المرحلة؟ و أي من الشعراء كان لهم تأثير أكثر في بدايتك. ثم كيف ابتليت بانخطافات الشعر؟

** لا أدري كيف استيقظ الشاعر في الطفل ، وكلّ ما أتذكره هو أنني كنت مشغوفاً بالشعر في طفولتي، أردّده مسحوراً :

بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا

أما حين أصل إلى : " دون نيل منىً " فإنني أشعر كأن هناك تعويذة في هذه الكلمات أو بالأحرى في هذه الكلمة الواحدة. ففي تكرار النون سحر ما بعده سحر(وهذا ما يسمّى بالجناس اللفظيّ في البلاغة). ولأن هذه القصيدة أو غيرها كانت تجري على لساني كما تجري التعاويذ كان يُنادى على اسمي في الساحة (كنت في الصف الثالث على ما أظن) لأنشدها طرباً، لكنني لا أتذكر أنني كنت أقرأها بخشونة الأطفال المدربين لنيل الإعجاب، وإنما لشغف في نفسي، بترنيم وحب وبساطة ربما كان يعيشها الطفل ولا يعقلها. هل كان هذا الشغف المبكر بالشعر هو طريقى إلى القراءة.. القراءة لا كمعرفة بل حياة في سير وملاحم تتزاحم فيها الأضداد وتفترق بحكمة أو بدون حكمة فلا موضع لتقييم هنا وقد تركته للكبار. لهذا كانت صلتي بالشعر مفتوحة على كل التجارب والشعراء صغارهم وكبارهم ولم تكن لذتي أقل في ما ترجم من شعر كان يسحرني فيـه مـا أجـده مـن أجواء أفتقدها في شعرنا العربيّ وانسانية نادرة.

أتذكر انفعالي الشديد حين قرأت قصيدة ناظم حكمت عن منصور صباغ الأحذية الذي يشبه نواة البلح وهو يردد في القصيدة، حاملاً صندوقه الخشبيّ الملوّن: "يا عيني .. يا حبيبي".. منصور الطفل يموت في نهاية القصيدة تحت القصف، فتنشر جريدة صورته. هذا الشاعر يسخر منه بعض الكتاب العرب ويعتبرونه شاعراً ملتزماً صعدته حركة سياسية، متجاهلين أنه المجدد الأكبر في الشعر التركي، وأنه الأكثر إثارة الآن في بلدان عديدة ومنها الولايات المتحدة. ما أكثر الأوهام والتقييمات الغبية في ثقافتنا!

* عودا إلى فكرة الانخطافات. يبدو أن توظيفك لهذه العبارة لم يكن عفويا، و إنما توجد من ورائه خلفية تؤطر تعريفا ضمنيا للحظة الشعرية بوصفها تلك "اللحظة الخاطفة" التي تضيء القصيدة. هلا قدمت لنا إضافة حول معنى "الانخطاف" و فعاليته في انبثاق الشعر؟

** الانخطاف هو تلك اللحظة الصوفية إذا صحّ التعبير ..اللحظة المنفصلة عن اللحظات الأخرى أو بالأحرى اللحظة المضيئة التي تضئ ما قبلها من لحظات وما بعدها . كلّ شئ يبدو مظلماً وفجأةً ينبثق شيء .. شيء مضيء ..شيء يتوهج شبيه بذلك الاندفاع الذي يهتف بك: "وجدتها".

في قصيدة (الغرف) في مجموعتي (الحقائب) لم أعرف من أين أبدأ. ولأن هناك مداخل عديدة إلى القصيدة ولا مدخل واحد فقد أهملتها زمناً ثمّ فجأة تصطفّ الغرف فإذا هي قصيدة ناجزة، كيف؟..ثمة لحظة تضئ فجأةً فيحضرالمكان بأحداثه وزمنه وحيواته، غير أن الانخطاف وإن كان لحظةً فهو ليس بالضرورة زمناً قصيراً. قد يمتدّ إلى لحظات أخرى سابقة أوتالية في قصيدة تقصر أو تطول. إنه تلك اللحظة التي يتكلم عنها ييتس في أحدى قصائده حين يخطفه فجأة ضوء الشمس المنعكس في كأس البيرة المتوهج في المقهى فكأنه يراه لأول مرة. كما يذكر ذلك كولن ولسن في كتابه عن (الشعر والصوفية) الذي قرأته منذ زمن بعيد. قد يكون الانخطاف شبيهاً بتلك الإشراقة التي تضمنها هذان البيتان:

فجأة .. فإذا الأرض كوكب
وأنا في الفضاء الأمير الصغير.

وقد يكون الانخطاف أرضيّا .. إشراقةً ممجّدةً للحياة في لحظتها الراهنة وهي تختزن الفرح فلا تبرح مكانها في الذاكرة أبداً.

* هل يستطيع الشعر بكثافة لغته و استعاراته و تشذر صوره التي تستعصي أحيانا على الإدراك العادي أن يلملم صور الطفولة الهاربة و المتشظية ثم يسكبها كتجربة شاملة في نظيمة أو متوالية شعرية تكون قادرة على نقلها بنفس الواقعية المحتملة التي تعبر بها جماليات الرواية مثلا أو السينما ؟

** لمَ لا؟ مادام الواقع ذاته ينطوي على جانب كبير من الخيال في أحيان كثيرة، وما دامت الأجناس الأدبية لم تعد بذلك التحديد الذي يجعلها قارات منفصلة .

*على ذكر السينما، يبدو لي ديوان "النقر على أبواب الطفولة" كأنه قصيدة طويلة مكتوبة ومصممة بلغة السينما. لعل في قراءتي هاته بعضا من مجازفة تأويلية. لكن لم لا نقوم سويا بامتحان مدى نجاعة هذه القراءة. فالقصائد تستثمر لغة حسية بصرية مركزة تنسجم مع رهان الشاعر في إعادة الحياة لصور الطفولة، على طريقة الفلاش باك. ثم ان الديوان مقسم الى فصول، كل فصل عبارة عن متوالية (Sequence) من المشاهد البسيطة و المركبة التي تتكون بدورها من لقطات. هذا علما أنك وظفت تقنية "اللقطة" في قصيدة تحمل نفس العنوان: "لقطات" و هي تقنية ستعود إليها لاحقا في ديوان "وردة البيكاجي" (1983). هذا ناهيك عن توظيف ذكي و شاعري لتوزيع الحركة و السكون، الصوت و الصمت و الضوء و الظلمة، و كذا المشاهد الفردية والجماعية و المواقف الساخرة و المأساوية، كعناصر بنائية لشريط الطفولة هذا.

** يسرني سماع ذلك منك وهذه أجمل مكافأة لي على مجموعتي الصغيرة هذه.

* لنمر إلى مكون أساسي من مكونات الشعر ألا و هو الإيقاع. ما هي الإيقاعات التي رسختها مرحلة الطفولة في وجدان الشاعر عبد الكريم كاصد: أناشيد الطفولة و الأغاني الشعبية وأهازيج الأعراس؟ هل أفدت في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" من ذخيرة الصبا الإيقاعية؟ و هل ما تزال تلك الإيقاعات التي حركت روحك و وصمت طفولتك تغذي و تلهم شعرك الحديث، علما بأن كلمة "النقر" في حد ذاتها تثير جرس إيقاع ما؟

** نعم الإيقاع مكوّن أساسيّ في الشعر، وقد يكون طاغياً لدى شعراء كبار حتى يبدو وكأنه العلامة الفارقة لشعرهم : هوبكنز، ما ياكوفسكي، تنسون، البحتريّ، وآخرون كثيرون، حتّى أن إيقاعهم يلازمك أحياناً زمناً طويلاً تردّده وتتعشقه ولا تعرف سرّه إطلاقاً، غير معنيّ حتى بما يحتويه من معانٍ ودلالات هي الأخرى ذات قيمة كبيرة في شعرهم، وليست مجانية من أجل الإيقاع ذاته، وهذا ما يوضحه ما ياكوفسكي في دراسته الطويلة القيمة المترجمة إلى الإنجليزية في كتاب صغير عن قصيدته في رثاء الشاعر الروسي يسنين. ولأن الإيقاع ليس تجريباً أو مهارة مجردين وإنما هو مرتبط بمادته الحياتية ، لذا كان للإيقاع أشكاله العديدة وتجلياته المختلفة، وتأثيره الطاغي على القارئ حين تتردّد اصداؤه أياماً في النفس. لنأخذ هذه الأبيات للبحتريّ:

ولمّا غرّبت أعراف ليلى لهنّ وشرّقت قنن القنان
وخلّفنـا الأياسرَ وارداتٍ جنوحاً والأيامن من إبان
وخفّض عن تناولها سهيلٌ فقصّر واستقلّ الفرقدان
تصوّبت البلاد بنا إليكم وغنّى بالإياب الحاديان

إنه إيقاع له من السحر ما يجعل المسافة بينه وبين بحر الكامل المجرد بعيدة تماماً. إنه شيء يضفو على الوزن بحروفه وامتداداته وأصدائه التي تتردّد في الروح وتتسع كدوائر في الماء. في النقر حاولت أن أعكس إيقاع الواقع نفسه كما اختبرته شخصياً: أصوات الباعة، حديث الناس، أو أخفف منه في قصائدي النثرية التي أصف فيها مشاهد منشغلاً بالسرد كقصيدتي "ليدي ستيك" و"مقهى".

البصرة عبق الأمكنة:

* في إحدى لقاءاتنا هنا بلندن قلت لي بنوع من الحنين: " إن قلبي هناك، في البصرة". بعد أن تناولنا بعضا من شخوص مرحلة الطفولة، أو قل النماذج الإنسانية الأولى التي أثرت في تجربتك الشعورية و تكوينك الأولي، يبدو لي أن مقاربتنا ستبقى ناقصة لو أغفلنا الحديث عن مسرح الطفولة و المكان الأول الذي حضن التجربة منذ البداية، ألا و هو مدينة البصرة.

** كتبتُ مرّةً عن البصرة نصّاً، من بين نصوصٍ عديدة عنها، بعنوان (البصرة مدينة لا مرئية). لقد عدت إليها غير أنني لم أتعرّف عليها إلاّ كما يتعرف الشاعر الجاهليّ على طلله، ولكنني مع ذلك أحسني مشدوداً إلى هذا الطلل بأكثر من سببٍ لا أدري لم اضطربت روحي عندما رأيت تمثال السياب ولم تهدأ إلاّ بزيارة جيكور. ما الذي يشدّني إلى ذلك وجيكور ليست جزءاً من طفولتي إلاّ عبر أصداء الكلمات ونوافذها البعيدة ...

ما زال ثمة آثار.. ما زال ثمة ماضٍ لم يندثر بعد، مطلّ في قسمات أناسٍ أحبهم وحيطان أحبها، وعتبات أعرف ما وراءها وإن لم أجتزها.. وشوارع أستعيد أشكالها.. وأطفالٌ يطلّون بوجوه آبائهم، واصدقاء هرموا غير أن فرحهم البعيد لا يزال مضيئاً في ملامح لم تهرم بعد. إنها مدينتي اللامرئية التي سأبحث عنها طويلاً، حتّى لو أرقني البحث عنها، ولعلّها في اختفائها يكمن عذابي في هوسي الدائم لا ستحضارها أو حضوري إليها. أشعر أنني لم أغادرها مثلما شعرت من قبل إنها لم تغادرني.

في تكريمي في المربد الفائت تحمل أناس مشقة الحضور لا لشئ إلاّ لسماع صوت ابنهم الذي غادرهم منذ ثلاثين عاماً .. هم الذين لا علاقة لهم بالشعر. لقد غمرتني المدينة بمحبةٍ حتّى أنني لم أعد أدري أي وجه حبيب سألتقيه أو يلتقيني في المنعطف القادم في هذا الشارع الذي أسير فيه.

كيف تستحيل المدينة إلى بيت؟ هل يكون الجواب : في الطفولة والشعر.. ولكن أين الطفولة؟ وأين الشعر؟ في أي مكان أعثر عليهما وفي أيّ مكان سأبحث عنهما وهما الحاضران أبداً..الدليلان.. والغائبان أبداً . ولكنني سأجدّ إليهما مثلما سأجدّ الآن في طريقي إلى البصرة باحثاً عن الثلاثة معاً.. هل امتزج الثلاثة حتّى أصبحا شيئاً واحداً:

الطفولة – الشعـر- البصرة
الشعــر -البصرة - الطفولة
البصرة - الطفولة- الشعـــر

* متى اضطررت إلى الخروج من المكان، هذا الخروج الذي سميته في أكثر من مناسبة بالهروب؟ ما هي دواعي هذه المغادرة الاضطرارية؟

** غادرت العراق سنة 1978، بعد أن أصبحت حياتي مثل حياة الكثير من المواطنين مهددة بالاعتقال والتعذيب إن لم أنتمِ إلى حزب السلطة، وبعد ساعات فقط من مغادرتي البيت، قدم رجال الأمن ليسألوا أمي عني أجابتهم أنها لا تعرف أيّ شيء، غير أنهم لم يصدّقوها وظنوا ذلك تضليلاً لهم .انتظروا حلول الليل ليتسلقوا سقف البيت بانتظار عودتي وظلوا ينتظرونني أياماً حتى يئسوا.

اختفيت شهرين ببغداد ثم اتصلت بواحدٍ من المهربين وكان قد وعد بإنقاذي ذات يوم إذا ما ساء الظرف ولم أجد وسيلة للهرب. وبالفعل فقد قدم المهرب بشخصه لأصحبه إلى بيته استعداداً للرحلة القادمة عبر الصحراء.

كان هذا المهرب قد فقد جمله في يوم ما فالتجأ إلى أخي الذي كان طبيباً في سفوان البلدة الحدودية المحاذية للصحراء، فطمأنه أخي بإعادة جمله إليه، لما لأخي من حظوة ومنزلة بين الناس، حتى المهربين منهم، وطلب منه أن يذهب إلى البصرة ويقضي ليلته في بيتنا لاستعادته صباحاً، فاستقبلته مرحباً واستمعتُ، بشغف، إلى حكاياته عن الصحراء، ولم أهمل الجلوس معه حين قدمت والدتي من الحج صدفةً في تلك الليلة جالبة معها الكثير من الهدايا التي اجتمع حولها الأقارب والأطفال وهم في أوج حماسهم وصخبهم . ولكي يردّ لي ما حسبه جميلاً أسرني أن السلطة ستشن حملة شرسة ضدّ الكثيرين فإذا ما احتجته فإنّ بإمكاني الاتصال به لمساعدتي على الهرب. قلت له وكيف عرفت ذلك قال لي : " لأنني بعثيّ " ثمّ أضاف: "وهل تعرف كيف أصبحت بعثيّاً؟". قلت له: "كيف ؟" قال : "استدعاني مسؤول بعثيّ وطلب مني أن أكون بعثيّاً، فقلت له: "أنا رجل مهرب ولا أعرف معنى كلمة بعثيّ". قال: "أ تريد أن تعرف معنى كلمة بعثيّ ؟ اذهب إذن خارج المكتب ثمّ ادخل واضرب الباب بقوّة. "امتثلت لأمره وخرجت ثمّ رجعت ضارباً الباب ولكن بتردّد. حينئذٍ صرخ بي قائلاً: " اخرج واضرب الباب بقوة كما قلت لك! " وهذا ما فعلته في المرة الثانية. حينئذٍ سألني: " أتعرف الآن معنى بعثيّ ؟ هو أن تضرب الباب بقوّة و تدخل."

طلبت من المهرب أن يرافقنا صديق لي هو الشاعر مهدي محمد علي فلم يمتنع. اصطحبناه إلى مدينته البعيدة حيث أمضينا يومين ثمّ إلى قرية حدودية ، استقبلنا أهلها، وهم أخوته وأقاربه، استقبالاً حافلاً، إذ احتفوا بنا وأعدّوا لنا وليمة عامرة حضرها العشرات من أهل القرية مما أثار خشية الصديق مهدي الذي همس في أذني مبدياً استغرابه فما كان من أهل الدار إلاّ ان انتبهوا لإشارته هامسين بدورهم في أذني: " ليطمئن صاحبك!".

بعد الوليمة خرجت القرية بأكملها لتوديعنا. كنا ثمانية وستة جمال: أنا و مهدي، وهاربان من الخدمة العسكرية، وأربعة مهربين. سبقتنا الجمال فمشينا على أقدامنا خلفها مسافة طويلة بعد أن صافحنا أهل القرية واحداً واحداً وكأننا في مشهدٍ سينمائيّ.

قبل أن يرتدي الليل شملته
سبقتنا الجمال
وعبرنا القرى
كان نجم القرى نائياً
فعزمنا الرحيل
وانحدرنا مع النجم
قلتُ: إذن هكذا
صرةٌ ومتاع قليل

من قصيدة (الرحيل عبر بادية السماوة)

* لو عدنا إلى ديوان "النقر" لوجدنا نصوصا مشبعة بعبق أمكنة مدينة البصرة و صورها الأثيرة لديك. بي شغف أن تصور لي ملامح، و لو خاطفة، لجغرافيا هذا المكان و خصوصا فضاءاته العاشقة: "السوق" و "الجسر" و " المسرح"؟

** السوق: عن أيّ سوق أتحدّث؟ ثمة أسواقٌ عديدة هي كرنفالات حقّاً .. كرنفالات دائمة.. سوق الجمعة الذي يمتدّ شارعاً طويلاً ينتهي بساحة واسعة تقام فيها المراجيح في الأعياد. فيه تجد كلّ شيء.. الكتب والسلع النادرة. أحزن حين أتذكره وأتذكر كتبي العزيزة وهي تعرض فيه لتباع بأرخص الأسعار.. مجنون إلزا لأراغون بالفرنسية، ديوان المتنبي وغيرها من الكتب العزيزة التي تركتها ورائي حين غادرت العراق وخلفت بيتي لرجل أسكنته أمي هو وعائلته دون أن تطالبه بأي إيجار. تسلل هذا الرجل إلى مكتبتي المخزونة في غرفة يسهل فتحها. ولولا أن يلمحه أخي سلمان في السوق، صدفةً، لما تبقى من مكتبتي الكبيرة أي كتاب. كم كنت سعيداً وأنا أتحسسها عند عودتي إلى البصرة متذكراً فرحي باقتنائها وسعادتي بتقليب صفحاتها وما ارتبطت به من أخيلة وذكريات وأمكنة، وناس.

في تلك السوق أتذكر أيضا فرحي حين كنت طفلاً وأنا أرى التماع الكتب على الأرصفة وطبعاتها الجميلة: كتب نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وآرسين لوبين والدواوين المطبوعة طبعة شعبية، ما أجملها... وكم كانت دهشتي حين التقيت مرةً بكتب جونسون وملتون توب الساحرة والأكثر عمقاً في أحداثها من كتب أرسين لوبين. كنت أظنها لا توجد إلا عند صديقي اليهوديّ فكتور منشي. أمّا السوق الرئيسية، أو الكرنفال الحقيقيّ اليوميّ فهو سوق البصرة التي تبدأ من مركزها مروراً بسوق العبايجية وهي سوق لبيع الأقمشة وانتهاءً بسوق البزازين حيث محل والدي الذي كان في بداية سوق البصرة ثمّ انتقل إلى سوق البزّازين المظلّل المرشوش في الظهيرة بالماء حيث تحلو القيلولة ويندر الزبائن. كانت السوق أشبه بالحوش والناس أشبه بالعائلة، وكم كان سروري كبيراً حين أراهم مجتمعين كلهم في عرس أشهده أنا ووالدي: هاني النداف الأحدب ذو الوجه الجميل والمحبوب من النساء خاصةً، أبو عبدالله بلهجته النجدية المحببة وشخصه المسالم الهادئ . أتساءل أحياناً: من أين يأتي بكل هذه الأقمشة الجميلة التي تعوزنا ؟ جايد الكنطار الوجه الذي تضيئه ابتسامة دوماً لم تكدرها مرابطة أخيه الأحول حاج محمد في محله. كان يتندر أحياناً ويقول أن الحاج محمد ما إن يدخل بيته حتى يصرخ بزوجته أم أحمد: "أمّ أحمد هل أحضرت الغداء؟"، حتى قبل أن يخلع حذاءه، شمخي البصر صديق والدي الطريف الذكي الساخر من كلّ شئ ذو الزيجات السرية والعلنية.

رأيت مرة احدى زوجاته السريات فهالني ما تضعه فوق رأسها من لفائف قماش شبيهة بالعمامة وحين سألت لماذا قالوا إنها : علوية ، الخياط محمد علي الصموت وذلك البزاز الهادئ المنطوي الذي لا أتذكر اسمه الآن. نماذج طيبة حقا لم أرها يوماً تتشاجر أو ترفع أصواتها على بعضها بعضاً ، فمن أين جاء هذا العنف لدى العراقيّ فيما بعد؟

الجسر: من بين ما تشتهر به البصرة جسورها : جسر سوق الهنود ويسمى أيضا بجسر المغايز، جسر الغربان، الجسر الصغير الذي أجتازه كل يوم. جسور عند كلّ بضعة أمتار ، وبعضها لا ينتهي بطريق أو زقاق بل ببيت.. بعتبة بيت أو ممر على النهر. منظر ساحر حقا حين تعلو الجسور الشناشيلُ المزينة شبابيكها بالورد. هناك كان يقيم أحبّ مدرس لدينا الأستاذ ناظم مدرس التاريخ الأعزب الأبديّ والوسيم دوماً ، الساخرالذي لا يسلم أحد من سخريته المحببة ،المنحوت في نافذته كل مساء وهو يطل محدّقاً في الناس دون أن يراهم بجلسته الملكية المسورة بالأغصان. إنها الجنة الصغيرة التي لم ندركها إلا بعد أن هبطنا على الأرض. على بعد خطوات من هذا المشهد سكنت فيما بعد، وسكن صديقي الشاعر مهدي محمد علي.

أكبر هذه الجسور جسر الغربان الذي اجتزته، بدراجتي، مرّة في طفولتي. فكدت أن أصطدم بسيّارة قادمة لولا انحرافي ووقوعي في حافة قاع النهر أنا ودراجتي وكتبي التي التقطتها من بين أكوام نفايات الطرشي (المخلل) الحادة الرائحة ، والتي ظل عبقها ملازماً كتبي ودفاتري زمناً طويلاً. عند نهاية هذا الجسر تسكن (ديزي) أجمل فتاة في البصرة بملابسها القصيرة وخفتها الطائرة في الهواء وشرفتها التي نمرّ تحتها حذرين مرتبكين ..من أين جاء هذا الأمان إلى هذه المدينة وفتياتها المرحات ؟

أما الجسر الساحر فهو جسر المغايز أو سوق الهنود الذي استحضرته حين كتبت قصيدتي "الجسر" من ديوان "النقر على أبواب الطفولة". يمرّ على هذا الجسر يوميّاً آلاف الناس بطيئين هادئين تعلو وجوههم الراحة والرغبة في التنزه وسط ضجيج الباعة وإعلانات السينما الكبيرة التي يحملها عادة تومان الساحر بنايه الذي يعزف فيه من أنفه وحركاته المثيرة التي تضحك حتى الحزانى. وهو يأخذ سوق الهنود طولاً وعرضاً وسط الحشد وكأنه ملك يتقدم لا يعترضه أحد أجمل ما في الجسر مقهاه المطلّ على النهر وكأنه في المنخفض باخرة ترسو بركابها..بيضاء (لماذا أتصورها بيضاء ؟). لقد اختفى هذا المقهى منذ زمن بعيد واختفى معه الجسر الذي كتبت عنه في رحلتي الأخيرة. "ولعلً أغرب ما يطالعك وأنت تدخل السوق التي تكدّست فيها الظلال كما تتكدّس البضائع هو الجسر الذي يؤدي إليها وقد تغطّى بأسماله التي تصلّبت في الشمس، فعاد هو والخرق التي تعلوه كتلة واحدة وكأنه لا يقف على نهر، بل على أرضٍ مهجورةٍ اقتطعت من المدينة . لا شاراتٌ لماضٍ، ولا أثرٌ لمن مرّوا عليه. جسر لم يعد شاهداً حتى لو حدثت جريمة أمام عينيه. سيظل راتعاً في أسماله وكأنه لم ير شيئاً. تمرّ جواره وتمضي دون أن تلتفت إليه باتجاه الشط وتمثال السياب، وقد تسير باتجاهه متطلعاً إليه لكي تتعرف عليه، ولكن عبثاً سيظل مطرقاً وكأنه شحاذ يعرفك ويشيح بوجهه عنك.. شحاذ مهموم".

المسرح : ثمة مسرحان في ذاكرتي هما من أبرز مسارح البصرة : مسرح مديرية تربية البصرة الذي مازال قائماً، تعرض فيه، في فترات متباعدة، بعض الفعاليات الفنية الشحيحة. في هذا المسرح شهدتُ عروضاً مسرحية عديدة من بينها مسرحية ثورة الزنج من إخراج سامي عبد الحميد، ووقفتُ على خشبته لألقي أشعاري. ومسرح آخر، في الطريق بين العشار والمعقل، وقد شهدت فيه عروضا مسرحية أيضاً وأخرى للرقص . هذا المبنى الحديث اللامع هو الآن كامد يثقب حيطانه الرصاص، ويسكنه أحد الأحزاب الحاكمة في البصرة.

لقد أصبح المسرح الآن ذاكرة مثقوبة وكأن المدينة لم تشهد نشاطاً من قبل، غير أنني فوجئت عندما كنت في المربد هذا العام بطلبة الفنون الجميلة الذين يبلغ عددهم أكثر من عشرين وهم يؤدون قصائدي (الزهيريات) بأعذب الألحان مؤكدين أن لا شئ يوقف الحياة، وأن التقاليد الفنية الرائعة لن يمحوها ظرف عابر مهما استطال هذا الظرف.

* ماذا عن فضاء المكتبة أو الخزانة؟ هل كان لها موقع مخصوص في هذه الجغرافيا؟

** نعم، المكتبة لها مكانها المخصوص في هذه الجغرافيا . لقد بدأت قراءاتي الأولى هناك. فيها قرأت كل مسرحيات شكسبير المترجمة المتوفرة آنذاك ، وأحب الكتب إليّ. وفيما بعد نشأت علاقة حميمة بيني وبين مدير المكتبة وموظفها الوحيد صالح الذي فاجأني موته شابّاً.

هناك التقيت بمحمود عبدالوهاب القاص المبدع الدقيق في حرفته والمقلّ في نتاجه والذي أعدّه من بين أفضل كتابنا في القصة القصيرة، رغم أنه غير معروف على نطاق واسع. كان فرحي كبيراً حين التقيته ثانية في زيارتيّ إلى العراق. كنا لا نعتبر محيي مديراً للمكتبة بل مالكها الكاره للملكية إذ تبرع بمكتبته الخاصة ليضيفها إلى مكتبته العامة، مفتخراً بغنى هذه المكتبة وترتيبها ونظامها واحتوائها على بعض الكتب النادرة. ولعلّ من حسن حظّه أنه توفي قبل أن يرى مكتبته العزيزة وهي تنتهب وتستحيل طللاً موحشاً لا يستوقف أحداً.

كانت المكتبة تطل على نهر العشار..النهر ذاته الذي يمتدّ مارّاً بالجسر الخشبيّ الذي اجتازه كلّ صباح متوجّهاً إلى مدرستي، وهو النهر ذاته الذي يمرّ بجسر الغربان وجسر سوق الهنود. وفي الضفة الأخرى مقابل المكتبة يلوح الحيّ المظلل بالأشجار، الذي يسكنه الأرمن، والذي لم يعد له وجود مثلما لم يعد وجود لحيّ الأرمن الآخر، القريب من المستشفى، الذي ينتهي عنده نهر العشار.

* عندما قرأت فصل "البصرة مدينة لا مرئية" من كتابك الذي قيد الطبع، و الموسوم "باتجاه الجنوب...شمالا"، شعرت بنوع من هشاشة الكائن، إذا جاز التعبير، ينتاب نبرة الشاعر عن مدينته. و بدا لي كقارئ و كأنني أدخل رفقة الشاعر فصلا من فصول الجحيم، التي تذكرنا بمشاهد كوميديا دانتي القيامية. هل كان الخراب شاملا إلى هذا الحد؟ و هل لك أن تصف لنا انفعالاتك بصور المكان، بعد فراق طويل؟

** قد يكون ما ذكرته فصلاً من فصول الجحيم ، مشهداً قياميّاً في كوميديا دانتي..نعم ..ثمة خراب شامل، وترهّل للمدينة، كأنّ يداً خفيّة بعثرتها في صحراء، فلا فسحة هناك لشجرة أو محطة يستعيد فيها المسافر هدوءه، محدّقاً في الأشياء..لا ليس ثمة شئ من هذا..خلاء يمتلئ بالبيـوت، وبشرٌ كأنهـم تسمّروا إلى حاضرهم فلا ماضٍ مرّ، ولا مستقبلٌ سيأتي.. مع ذلك ثمة بهجة ما..بهجة تطلّ برأسها هنا أو هناك في مشاهد صغيرة: في سوق شعبيّ، في قوارب تنتظر، في مقهىً يطلّ على النهر، في سمر أصدقاء، في نساء عابرات، في رائحة أفاويه، في هدوء مارّةٍ. كنت كالمصاب بالدوار في قدومي الأول، أتطلع ولا أرى المدينة وحين اقترب الباص الذي يقلني من الفندق الذي سأنزل فيه، والذي سألتقي فيه بأصدقائي، ومن بينهم قادمون من بغداد والمحافظات الأخرى لحضور مهرجان المربد، استعدتُ طمأنينتي بتعرفي على المكان، غير أن الأمكنة بدت وكأنها أمكنة أخرى..حائلةً، شاحبة كالبشر..وجوه أم أقنعة؟ لا أدري لِم كان يراودني إحساس إنها أمكنة عارضة.. أمكنة ستزول وترحل ..أين؟..أمكنة خارج الزمن.. غير قادرةٍ حتى على التثاؤب، تطبق فمها وتصمت محدّقة في الأرض لا في السماء..أمكنة مطأطئة الرؤوس، باكية..يمرّ بها البشر ولا يلتفتون. يالمدينتي الحزينة! بشراً و أمكنةً، سماءً و أرضاً نهراً ويابسةً. منذ لحظة مغادرتي خلت أنني سأقطع المسافة إلى حدود مدينتي لأغادرها إلى الأبد، غير أنني ألفيت نفسي أنني ما زلت أقطع الطريق دون أن أصل الحدود أبداً، وما زلت أقطعها. هل استحالتْ المدينة مدينتين؟ أيهما الواقعية منهما؟ أيّ المدينتين؟ وحتّى متى سأسافر بينهما؟
أيهما مدينتي؟

* لكن مع ذلك وجدت هناك، حسب ما علمت من بعض كتاباتك، عناصر بقاء قد تعد بانبعاث أمل ما. فأنت تتحدث في نفس الفصل من رحلاتك عن"أثر ضائع لي أراه هناك في زاوية لا يراها أحد". ما هو هذا الأثر الضائع الذي لا يدركه سواك؟

** لكلّ منّا أثره الضائع. وأثري الذي لمحته هناك لم يوصلني بعد إلى أي مكان، وقد لا يوصلني، وإن أوصلني فهل أكون ذلك المقيم الذي ظل عابراً ثلاثين سنة ، في مدينة تراكمت فيها الآثار؟ لم أعد آمل برؤية مدينتي بعد أن حلّ بها الخراب. أعرف أنها لن تعود أبداً ، ولكنني سأظلّ أبحث عن أثرٍ ضائع لي فيها..لا يراه أحد. وإن رأيته أنا فهل تراه سيوصلني إلى المدينة..؟ لا أدري، ولعلني توهمت هذا الأثر أيضاً.


* ثمة كذلك تمثال الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي قلت عنه: " لم ينج من هذا الخراب إلا تمثال السياب الذي ما زال منتصبا في زاوية من شط العرب رغم كل الحروب، التي شهدها، في حين لم ينج صاحبه من أبسط شرور الدنيا في حياته". هل هذا التمثال هو أيقونة ملازمة لروح الشعر و المكان؟ أم هو دلالة إصرار الشاعر على البقاء كعلامة هادية لإعادة بناء المدينة المشتهاة؟

** لعلّه الأيقونة التي ذكرتها والعلامة الهادية معاً. لم يعد حجراً بل روحاً تحفها ارواح الماء من جهة النهر وتمثال أسد بابل من الجهة الأخرى، وبين الجهتين يقف التمثال في هذا الامتداد من الحجر والماء مانحاً المدينة فسحة لتتأمل ذاتها وتلتقي بسمائها، وتستعيد أجمل أيامها حين كانت القوارب تحمل الناس في نزهة أبدية لايمكن أن يمحوها حاضر وسط هذا الامتداد المفضي إلى اللانهاية.. اللانهاية الساخرة بالخراب وهو يقف ذليلاً أمام النهر وتمثال السياب وأسد بابل وكأنه فاتح مقهور سيرتد عن المدينة يوماً ما.. يوماً قد يكون بعيداً ولكنه قادم بلا شك.

* ثمة كلمة لافتة ترددت في ثنايا حوارنا هذا، هي الكرنفال. ماذا تعني أو توحي لك هذه الكلمة؟ وبالتالي هل يمكن اعتبار الشعر، كتابة و إحساسا، كطقس احتفالي، تتجاور فيه المأساة بالملهاة؟

** أعني بالكرنفال المعنى الذي عناه باختين تقريباً: المشهد المسرحي الذي يشترك فيه الجميع ممثلين لا مشاهدين بلا محظورات ولا ألقاب أو مراتب. إنه "هذا الاتصال الحرّ البعيد عن الكلفة الذي يقوم بين الناس"، و "هذا الكشف عن الجوانب الخفيّة للطبيعة البشرية من خلال ما هو ملموس ومحسوس"، مكانه الساحة وما فيها من أشخاص بصفتها رمزاً لكلّ ما هو شعبيّ، وقد يمتدّ الكرنفال إلى البيوت لأن الكرنفال يعني كلّ الناس. والشعر في تعامله مع الواقع ليس بعيداً عن الطابع الكرنفالي في الحياة حيث تتجاور المأساة والملهاة، المقدّس والعادي، السامي والوضيع، العظيم والتافه، وتتسع أمكنة الشعر لتشمل حتى محافل الآلهة.

* عبد الكريم كاصد، بدأنا حوارنا بتساؤل عن عطاء الطفولة كرافد أساسي من روافد الشعر وكخزين ثر لتجارب الشاعر الأولى. ماذا عن عطاء الشاعر للطفل؟ هل كان عبورك من الكتابة عن الطفولة إلى الكتابة لأجل الطفولة، من خلال الشعر و القصة* معا، هو بمثابة رد لمديونية هذا الكائن الجميل و إعطائه فسحة للأمل في حياة أفضل؟

** كتبت عن طفولتي أو سيرتي كما يحلو للصديق الأديب صلاح حزين أن يسميها في دراسته المهمة عن مجموعتي (زهيريات)، وها أنا أعدّ للطبع مجموعة أخرى عن الطفولة (طفولة سارة وزياد) ولا أدري هل كتبت من أجلها حين كتبت عنها في الديوانين؟ سأورد مقاطع من قصيدة كتبتها لولدي زياد آمل أن تكون هي إجابتي:

انشغالات زياد

مرّت غابةٌ
فناداها زياد:
" إلى أين أنتِ ذاهبةٌ أيّتها الغابة ؟ "
قالت الغابة :
" لأنزّهَ وحوشي "

***

قال زياد لظلّه :
" هل نلعبُ ؟ "
فأجابه الظلّ :
" لا أكلمك اليوم "

***

حمل زياد بيته
ورماه بعيداً
ثمّ ركض صائحاً :
" اتبعني "

***

وقف زياد
على آخر غصن
متطلّعاً إلى السنجاب أسفل الشجرهْ
هاتفاً :
" أيّها السنجاب
سأسقط بندقةً ولن تمسكني "

***

رأى زياد ظلّه في الليل
فدعاه إلى النوم
قال الظلّ هازئاً :
" أيّها المغفّل أنا لا أنام "

***

قال الطائر :
" سأضع البحر مكان السماء
والسماء مكان البحر
وأتطلّع إلى الموج "
قال زياد :
" وأنا أيضاً "

***

من شجرة الليل
إلى شجرة النهار
ومن شجرة النهار
إلى شجرة الليل
سأطلع كالقمر
وأختفي كالشمس

***

قالت الغابة :
" أنا من يخفي الشجرة "
قالت الشجرة :
" أنا من يخفي الغابة "
ثمّ وقفتا في الطريق
بانتظار شهادة الليل

***

ذهب الظلّ حديقةً
ورجع شجرةً
قالت الشجرة : " أنا الظلّ "
قالت الحديقة : " أنا الظلّ "
قال زياد " أنا لا أحد "

***

نشر زيادٌ جنحيه وطار
مناديا أخته التي وقفت هناك
مشدوهة
في الحلم

***

وضع زياد قدماً في الغيم
وأخرى في الأرض
وقال :
" ساصعد إلى السماء "

***

أراد زياد أن ينام
فرأى خرافاً تهبط من السقف
عدّها حتّى تعب من العدّ
ثمّ تركها وحيدةً تثغو
في النوم

قصيدة كتبها زياد:

الجنود يصطفّون كالأشجار
الأشجار تصطفّ كالجنود
الجنود يذهبون إلى الحرب
الأشجار تعود من الحرب
الحرب لا تذهب
ولا تعود
الحرب تقف إلى الأبد
بانتظار الجنود

الفصل الثاني:

الطريق إلى عدن

 

تأليف: عبدالقادر الجموسي

ولادة ثانية:

* الشاعر عبد الكريم كاصد، أود أن نفتتح هذا المحور بالحديث عن تلك الرحلة المخاطرة التي اجتزتها عبر الصحراء من العراق إلى عدن، على أمل إعادة قراءتها بمنظور جديد.

يبدو من خلال النص الذي كتبته عن هذه الرحلة أنها، رغم ضراوتها، كانت عامرة بعناصر الدهشة اللازمة لجوهر الشعر: "ليلة يكاد صحوها أن يمطر"، "آثار حيوانات غامضة في الرمل"، "ثلاثة جراء/وحيدة في القفر"، و "بدوي يقبل من الخلاء ليذهب إلى الخلاء كأنه سهم يخترق الأبدية". كيف استطعت وسط ذلك الهول و الذهول الذي وصفته أن تحافظ على يقظة حس الشاعر فيك وتستجيب لبواعث الدهشة بهذا الشكل المرهف؟

** ما إن ابتعدنا عن القرية واحتوتنا الصحراء حتى ألفيتني إزاء كون شاسعٍ مضيء ينحني كالقوس فيزداد إضاءةً. ولا أدري كيف نبدو وسط هذا الكون لمن يرانا على الأرض أو في السماء: مخلوقات تدبّّ على الأرض كالنمل، ولكن يا لظلالنا الهائلة وهي تمتدّ لتغمر الكون وتهبه وهو الساكن حركة وإيقاعاً بطيئاً وألفةً في اتساعٍ مدهشٍ ملئ بالأصداء. ولم يكن النهار بأشد غرابة إذ امتلأت الصحراء فجأةً بالآثار...آثار تحوطنا من كلّ جهةٍ، حتّى حسبنا، لكثرتها، أن نجوم السماء آثارٌ هي أيضاً يطبعها الليل فوق سماء الصحراء:

آثارٌ
آثارٌ لجمالٍ ترعى
آثارٌ لجمالٍ آتيةٍ من جهة الشرق
آثارٌ تتعقبنا حتّى الماء وأقدامْ
أصغر من راحة كفّ
( أين تُرى غادر ذاك الطفل
وغابت أظلاف الأغنامْ ؟ )
آثارٌ لذئابٍ عطشى وحوافر خيل
آثارٌ للنمل
يخطّ كتابته البيضاء
أثارٌ
أثارٌ سوداء
آثارٌ يطبعها الليل
فوق سماء الصحراء

في هذا العالم الخلاء إلاّ من ظلالنا والآثار لم يعد للهول مكان في قافلتنا الصغيرة. لقد أصبحنا جزءاً من هذا الكون الصحراويّ المضيء بعيداً عن عالم الأحياء و الأموات وعن هوله، ومخاوفه، ورغائبه ولم يُفاجئنا العالم ثانية إلاّ بعد ليال حين باغتنا ضوء سيارة بعيد حسبناه قريباً وقد كنّا في ارضٍ منخفضة...حادثة أو حادثتان ويرجع الكون إلى صفائه وسكونه العجيبين، وإصغائه المرهف إلى هذا السكون الذي نعبره صامتين غير أنّا حين يحلّّ المساء ننيخ الجمال ونسرع، رغم أجسادنا المنهكة من ركوبها، إلى جمع الحطب لنشعل النار:

عندما عضّت الشمسُ (عين النخيلة)،
نادوا: أنيخوا
ثمّ سارت على مهل للمياه الجمال

عندئذٍ نبدأ تسليتنا الوحيدة في ليل الصحراء: القص. نتحول أطفالاً نصغي لحكايات تمتلئ بكل ما هو متخيّل، على حدّ تعبير جمال الدين بن الشيخ، من جن وعفاريت وجمال طائرة وغيلان، ويبدو الكون سلساً عذباً مصغياً لا لنفسه بل لنا، بينما تدور كؤوس الشاي وعيدان الأشجار، وكأننا لسنا على الأرض، بل في كوكب آخر. وحين ينتهي طقسنا الليليّ وينهض الراوي (مطشر) والساهرون إلى أسرتهم الرمل يبقى الشاعر ساهراً وحيداً لتبدأ الحكاية ثانية و قد أمسى الشاعر أحد شخوصها وحيداً في هذا القفر:

" مطشّر" رحل الأعرابْ
وبقيتُ وحيداً في القفر أدقّ بلا أبوابْ

في هذه الأيام السبعة التي أمضيناها في السير في الصحراء لم تعد تشغلنا سلطة أو بشرٌ حتّى ولا ماضٍ، بل حاضر حسب..حاضرٌ يتكرّر و يتكرّر صحراءَ تمرّ بآثارها وحيواتها وفضائها: أرنب بريّ بأذنين حمراوين يمرق وكأنه يحمل ناراً في أرض بيضاء ملحية تزلق فيها الجمال، خيمة وحيدة اشترينا منها وجبتنا الوحيدة..خروفاً التهمناه في جلسة واحدة. بركة صغيرة تلوح بين مسافة وأخرى وقد احتشدت حولها آثار حيوانات شتّى. نخلة وحيدة بفسائلها المكتظة أغادرها وأنا أتلفّت إلى خضرتها المتوهجة في شمس الصحراء.. صحراء تنبسط وتنبسط و معها نحن ننبسط فنألفها وتألفنا.. فلا خوف هناك ولا قتل ولا مباغتة بل امتداد مكشوف لانهائي ّ حتى إنني تساءلت: في الصحراء/ أين ترى يختبئ الموت؟

كانت روحي مفتوحة على هذا العالم الجديد تستقبله كما يستقبل الطفل العالم مدهوشاً .


* لقد طالت الدهشة حتى اللغة نفسها حيث وجدتم جملا و عبارات تتخللها، حسب تعبيرك، ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنة واندثرت و لكنها لم تندثر في الصحراء. قلت: "لم أصدق أن مفردات امرئ القيس و عنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشاق الذين لم يشعروني أبدا بمعرفتهم بهويتي". كل شيء يعود بنا إلى البدايات، بداية العالم و رحم الكلام، لكأنها رحلة إلى البدايات الأسطورية للشعر.

** نعم كأنها رحم ضَمّني .. كأنها طفل الحياة في ملحمة الماهابهاراتا وقد احتوتني بجسدها لأرى الكون في بكوريته وبراءته الأولى بعيداً عمّا يحدث لي. صحراء لا تمتدّ في حاضرْ فحسب وإنما تنبسط في ماضٍ هو حاضر أيضاً..ماضٍ سحيق يعود حين تجمعنا النار حولها بألفاظه وعاداته وبساطته.

كان صديقي المهرّب الحريص على نظافته يأخذ دوماً على عاتقه تهيئة العجين ليطعمنا خبزه اللذيذ . يسمونه خبز الملة الذي ورد في قصيدة الحطيئة الشهيرة التي يصف فيها ضيفاً حلّ عليهم ولم يكن لديهم ما يقدمونه للضيف :

عراة حفاة ما اغتذوا خبر ملّة ولا عرفوا للبُرّ مذ خلقوا طعما

أمّا الرشأ، أي الحبل، وغيره من الألفاظ فإنها تمرّعلى ألسنتهم وكأننا سنلتقي بعد قليل بامرئ القيس أو عنترة العبسيّ وهو يترجل قادماً بفرسه .

كانت لنا لذائذنا وأفراحنا الصغيرة التي تشبّ في الليل مع النار، وكانت لنا دهشتنا بهذا العالم البكر. ذات مرّةٍ نزلنا قرب شجيرات خفيضةٍ فاقتربت منّا أفعىً كبيرة. تخيلتُ أن المهربين سيقتلونها في الحال ، لكني فوجئت باقتراب أحدهم من الأفعى ليحملها بعصاه هادئاً إلى ناحية بعيدة دون أن يخطر في باله أن الأفعى قد تقترب منّا ثانيةً.

حين يجئ الليل بقوسه المضيء ثم يعقبه النهار ولا ترى حولك غير كون صامت وحيوانات تمر بآثارها فكيف لا تشعر كأنّك في عَوْدٍ أبديّ ترى الوجود وقد شفّ بعد أن ضاق حتى أن يكون غرفة تأويك في غابة الموت التي اسمها المدينة.


* ما دمنا نتحدث عن رحلة في قلب الصحراء، لا بد لنا، في هذا المقام، من أن نقف احتراما، ولو لوهلة، أمام ذلك الكائن الميثولوجي الذي عبر بك الصحراء، و أقصد به الجمل؟ هلا حدثتنا عن جمالك الميثولوجية هاته؟

** حين صدر ديواني الشاهدة في بيروت عن دار الفارابي، تناوله العديد من الشعراء والنقاد، وبين هؤلاء الشاعر بسّام حجّار الذي نعت جمالي أنها جمال ميثولوجية. وهي قد تكون ذلك بالنسبة إليّ الآن، غير أنها كانت آنذاك جمالاً من لحمٍ ودم لها لحظات فرحها الغامر أيضاً حين تستروح الماء من بعيد فتهتزّ طرباً وينبت لها أجنحة فتكاد تطير (آنذاك عرفت لماذا تُنعت في الحكايات بالطائرة)، وحين تنيخ جوارنا تجتر طعامها على مهل. تبدو وكأنها تصغي لحكاياتنا، مستسلمة لاسترخاء عذب بعد مسير طويل:

الجمال الخفيفة كالهواء
الجمال الحبيبة المسحورة
توسّدت ذراعي
ورحلت ..
تبحث عن مقيل

كنّا نفضل السير أحياناً على ركوبها ولاسيّما في يومنا الأخير إذ يسبب ركوبها المتواصل آلاماً شديدةً في الخاصرة حتى تستحيل إلى حصىً يقدح ، غير أنّا ، أنا ومهدي ، كنّا نتحملها فلا نشكوها لأحد أو نطلب استراحة قصيرة لتهدئتها ، فيضطرّون ، هم ، للتعبير عنها طالبين استراحة قصيرة تمنوا لو كنّا نحن الذين طلبناها مثلما عبّروا لنا عن ذلك فيما بعد مازحين.

لقد أبدت الجمال صبراً عجيباً وهي تحملنا فنلوح على ظهورها في الليل كأننا شواهد سوداء، غير أن خوفها كان عجيباً أيضاً، في مرّتين: مرّةً حين اجتزنا بقعة ماء واسعة تخللها شجر وطئته الخنازير فكانت تنزلق مذعورة وتمتنع عن السير فنضطر إلى جرّها عنوة وهي تجأر. ومرّةً أخرى حين باغتنا ضوء سيّارة بعيد حسبناه قريباً لأننا كنا في منخفضٍ فارتعبت ولكننا استطعنا تهدئتها إلاّ جملاً فرّ مذعوراً براكبه فلحقته وأوقفته. قالوا لي أن الجمل يمكنه في مثل هذه الحالة، أن يقتلني، وحسبوا منّي ذلك شجاعة لا جهلاً بعادات الجمل:

ما لهذا القطا لا ينام ..؟ اقتربنا نحاذر في الليل .. يلمع ضوء
سحبنا الأزمّة ( تصمتُ رجرجةُ الماءِ في الرحل ) يقترب الضوء
نهبط منحدراً منحنين شواهدَ سوداء فوق الجمال المنيخة ..
تجأر .. ننهرها، ثم يبتعد الضوء...
ترفع أعناقَها للرحيل.

ما رأيت الجمل في أيّ مكان، فيما بعد، إلا وأحسست أنني ألتقي مخلوقاً عزيزاً لديّ. بعد وصولي إلى عدن فاجأني الجمل وهو يسحب عربةً وأثقالاً و يسير على الأسفلت ذليلاً يائساً هزيلاً فيحضرني جملي الذي كاد أن يطير بي يوماً حين استروح الماء . وكانت المفاجأة الأخرى في صنعاء حين دعيت إلى حضور احتفالاتها بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية. كنتُ في طريقي إلى بيت إبرهة الحبشيّ وفجأة يستوقفني جمل يلوح في معصرة زيت وهو يحدقّ بي. كان جملاً أسطورياً حقّاً بحجمه الهائل وعينيه الكبيرتين. حتى أنني دُهشت كيف لمثل هذا المكان الضيق أن يتسع لهذا الجمل الضخم. كان يحدّق بي وكأنه يسألني: هل تتذكرني؟

وكثيراً ما كنت ألتقيه في الكتب حين أفتقده في الواقع ولعل أطرف ما قرأته عنه هو ما كتبه فرانسوا دو شاتوبريان في رحلته إلى القدس: "تنتقل القبائل في قوافل، وتسير الجمال في خط واحد فيربط الجمل الذي يترأس الجمال بحبل مصنوع من حشوة النخيل برقبة حمار يكون هو المرشد للقطيع ، ويعفى هذا الحمار من حمل الأثقال نظراً لكونه الرئيس، ويتمتع بامتيازات عديدة".


* ثمة محطة مهيبة في طقس العبور هذا، تتمثل في هروبك في "خزان ماء" صحبة رفقاء لك لتلافي عيون الدوريات. قلت في هذا الصدد: " و حين قدم (خزان الماء) الذي سيحملنا جميعا تقدمنا منه كما تتقدم الضحايا في الطقوس إلى الموت. تكدسنا عشرين شخصا، بعضنا فوق بعض، في رحلة رهيبة استغرقت خمس ساعات توقفنا خلالها مرة واحدة حين أوشك اثنان منا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزان و تمديدهما ليستنشقا الهواء". إنها تجربة وجودية بامتياز أن يقف الإنسان على عتبة الموت وجها لوجه. هل من موقف فلسفي يمكن استخلاصه من التجربة؟

** كانت الصحراء لي رحماً لولادة أخرى.. لحياة أخرى.. لأمل آخر. لم يكن الموت حاضراً وقد انبسطت الصحراء فلم يعد هناك مخبأ للموت. لقد خلفت الموت ورائي وعليه أن يقطع المسافة التي قطعتها فلم يفعل. وحتى حين هبطنا في اليوم السابع في منخفض في الصحراء نحن وقافلة أخرى معرضين للدوريات لم يكن الموت هاجساً وقد تخليت عن لحية البدويّ في وجهي، بقطعة مرآة وجدتها.. (لا أدري كيف ؟) وآلة حلاقة حادة، بعد أن رافقتني هذه اللحية زمناً طويلاً..هل هي تهيئة لموت أم حياة؟ كم يبدو الفارق ضئيلاً أحياناً، لكنني أحسست به حين طُلب منا على عجلٍ أن نتفرق خلف الشجيرات، وقد قدم تنكر الماء، لئلا نكون عرضة للرصد. أرجفني تناثر الهاربين وارتباكهم ودخولهم المفاجئ السريع إلى التنكر فتذكرت غسان كنفاني وروايته "رجال في الشمس" (1963) وندمت. كانت لحظة عسيرة حقّا يمثل فيها الموت بوجهه الغائم الذي لم أتبينه بعد.

لكن ما إن دخلنا باطن الخزان متكدسين بعضنا فوق بعض وصررنا الفقيرة في أيدينا حتى شعرت ثانية، ويا للغرابة، لا برحم الصحراء هذه المرة، وإنما برحم آخر هو رحم الخزان وألفة الآخر. لاحظت أن الرجل الجالس فوقي (أو بالأحرى المحشور فوقي) يتململ فسألته: كيف أنت؟ أجابني: وردة (وهذه هي الإجابة الشائعة لدى ناسنا البسطاء في العراق) ثمّ سألني: وأنت؟ فقلت له: مزهرية. عندئذ ضحك كل من في التنكر وكان عددهم عشرين هارباً. أما صديقي المهرّب فكان يجلس جوار السائق هو ومهرب آخر. وكم كانت اللحظة مشبعة بالأخوة حين تخليا عن مكانيهما لاثنين منا اختنقا. كانا في قعر الخزّان فسحبناهما إلى سقفه ليتنفسا الهواء. كان ذلك قريباً من أحد المخافر. حتّى في أشدّ اللحظات حلكة ثمة خيط من الضوء.

اللحظة الأخرى التي فقدت فيها اطمئناني هي لحظة الوصول حين قذفنا التنكر وسط بيوت لم يكتمل بناؤها بعد. كان انتشارنا انتشاراً أخرق في اتجاهات شتى لائذين بحفرٍ أو حائط. نرتدي ملابسنا المحمولة في الصرة على عجلٍ وكأننا نتحرك في فيلم صامت . لنقف هناك في الجادة العامة بانتظار ما يقلنا إلى المدينة.

الموت الذي خلّفته ورائي كان يسبقني أحياناً لكن لا أدري لِمَ كان يعبرني. مرة عند جسرٍ في أبي الخصيب كنت راكباً دراجتي وقت حلول الليل . لم أكن أعلم أن أمامي سيارة وقد أطفأت أحد مصباحيها الأماميين فحسبتها دراجة بخارية ولولا انحرافي الغريزيّ الذي سلخ جلدي لكنت في عداد الموتى الآن. ومرّة في طريقي إلى باريس قادماً من ليون بصحبة صديق كادت سيارته تصطدم بسيارة مسرعة أخرى قادمة من شارع فرعيّ .. كان الفارق ثانية أو ثانيتين ربما.

ومرة في بغداد في طريقنا من فندق بابل إلى المسرح الوطني قبل عامين إذ حدث انفجار بعد أن غادرنا موضع الانفجار بثوان. ليس الموت بالخصم السهل ، فهو له أيضاً مباغتاته وفعله المحكم الخبيث الذي يفاجئك لا في مغامرة أو حدث بارز بل في استراحة أو استرخاء تراوغه ويراوغك وفجأة يفجعك بأحب إنسان لديك. أتراني أعيش فائض وقتي؟

* لقد كان بصحبتك الشاعر مهدي محمد علي، كيف عاش شاعران تجربة من هذا النوع؟ هل قمتما بتأملها سويا فيما بعد؟ و ما كانت خلاصتكما للتجربة؟

** لم نتأملها معاً. ولم تكن لنا خلاصة هناك، رغم أننا عشنا قريبين في منافٍ شتّى: اليمن، سوريا، الكويت، لأسباب يطول شرحها أهمها ربما انشغالاتنا في تفاصيل حياة المنفى اليومية المعذّبة في هذه البلدان، بالإضافة إلى انشغالاتنا الخاصة التي لم تترك لنا تفكيراً في مثل هذه التجربة. وفي الحقيقة لم يطرأ في ذهننا لا أنا ولا مهدي أن نكتب عملاً مشتركاً. سؤالك نبّهني إلى ذلك. ولعلّ غفلتنا هي جزء من ظاهرة عامة هي ندرة هذا التقليد في ثقافتنا.

* أعلم أنك كتبت عن التجربة في أكثر من عمل أدبي: ديوان "الشاهدة" و"وردة البيكاجي" والنص الرحلي "باتجاه الجنوب...شمالا". ماذا عن الشاعر مهدي محمد علي، كيف كانت معالجته للموقف شعريا؟ ما أوجه الاختلاف و الائتلاف في رؤيتكما الشعرية للتجربة؟ ألم تفكرا حينها في إصدار عمل مشترك يعرض للرحلة ويستكنه أبعادها الوجودية و الرمزية خصوصا بالنسبة لشاعرين مسكونين بلعنة الاستعارة و الرمز وحرقة الأسئلة؟

** مثلما قلت لك لم نفكر في ذلك. كان غفلة منا نحن الاثنين. لعلّ الشيء الوحيد الذي عملناه معاً هو كتابته عن قصيدتي (الرحيل عبر بادية السماوة)، وكتابتي عن مجموعته التي لم يكتب عنها أحد (رحيل عام 78). وحين كنّا في سوريا نعيش متجاورين كان هو مشغولاً بمشروعه الرائع (البصرة جنة البستان) وهذا الكتاب من أجمل الكتب التي صدرت في المنفى . قرأه الكثيرون: مهندسون أطباء، عمال، طلاب وتمّ تهريبه إلى العراق آنذاك ولكنه للأسف لم يجد أي صدىً في الجو الثقافي العراقي والعربي الصدئ.

* يقول غابريال غارثيا ماركيز، في رواية الحب في زمن الكوليرا، إذا لم تخني الذاكرة: "لا يولد البشر مرة واحدة و إلى الأبد يوم تلدهم أمهاتهم، إنما تجبرهم الحياة على أن يلدوا أنفسهم بأنفسهم".ألا ترى معي، الشاعر عبد الكريم كاصد، أن هذه التجربة تحمل معها كل عناصر الولادة الجديدة: "مخاض الرحلة" و "رحم الخزان" و " نسغ اللغة الأول"؟ هل يمكن الحديث عن ولادة ثانية فعلا؟

** حين غادرت رحم الخزّان كنت حقّاً كالطفل الذي يتعثر في مشيه ويتلعثم في كلامه ويتطلع حوله مشدوهاً وهو يرى العالم أول مرّة. لم تعنني التفاصيل قطّ. كان المنفيّون في عدن يتخاصمون ويتقاتلون وكنت أنظر إليهم مستغرباً حماستهم وصراعاتهم ، غير أنني سرعان ما وجدت نفسي مغموراً في التفاصيل ثانيةً دون أن تغادرني الدهشة وأنا أتطلع من حولي إلى الحياة وهي تنبض في البشر والأشياء دون أن يعيرها الآخرون اهتماماً، غافلين عنها.. عن بساطتها وجمالها. كان مجيء زوجتي إليّ في عدن بهجة أخرى.. هدية أخرى في هذا المنأى الذي اسمه عدن. لقد أصبحت الصحراء تاريخاً سحيقاً عاشه شخص آخر سواي يروي لي حكاياته فأتمثلها وأعيشها وأظنني أنا ذلك الآخر.. الذي لا يصدقني أبداً . أرى جمالي الآن وهي تمر دون أن تعرفني وقد تحملني يوماً في صورة ذلك الآخر.. فالولادة إن كانت خلقاً لدى من انبعث من رماده، فهي قد تكون مخلوقاً مشوّهاً بشعاً يتناسل في سلطة أخرى تشبهها ولا تشبهها، وقد تكرر فعلتها في نفي شاعرٍ آخر.. سلطات تتناسل.

وردة البيكاجي

* يتفق العديد من النقاد الذين تناولوا منجزك الشعري، على أن ديوان "وردة البيكاجي" (دمشق 1983) الذي يعتبر ثمرة التجربة العدنية، هو ولادتك الشعرية الثانية بحيث يمثل انعطافة أساسية في مسارك الشعري و الاختيارات الجمالية و طرح الأسئلة على الذات و على الشعر، كما يبدو أنه جاء محكوما بقلق أسئلة مغايرة و بحث عن لغة تعبير قادرة على احتضان هواء التجربة الجديدة. ما نوع هذه الأسئلة التي طرحها عليك وضعك الجديد كشاعر عراقي لاجئ؟

** لا أدري هل يمثّل البيكاجي انعطافةً أساسية أم لا سيما إنه كان مسبوقاً بديوان (الشاهدة) الذي لا تقلّ قصائده أهمية بالنسبة إليّ وإلى بعض من تناولوه من النقاد والشعراء ، لكنني أتفق معك أنّ في (وردة البيكاجي) لغة تعبير أخرى وهواء تجربة جديدة: الحرب والمنفى. والعجيب أن الطفل حاضر في الاثنين ففي قصائد الحرب ثمة مفتتح يحضر فيه الطفل :

في مقهىً يتوقف فيه الأعراب
وسيارات الأجرة
يعبر طفل محشورٌ في باصٍ خشبيّ بين الأغنام
يمدّ إلى المارّة عُنُقاً
ويغادر
كانوا كوفيّات حمراء
أسمالاً بقّعها الزيتُ ورائحة البنزين المحروق
جنوداً يستمعون إلى المذياع
ولا يحتفلون
حدوداً كانوا
وحدوداً سيموتون كماشيةٍ
وحدوداً سيعودون
إلى مقهىً طينيّ يتوقف فيه الأعراب
وسيّارات الجند الآتين من الجبهة محمولين إلى الأهل

ويظلّ هذا الطفل يخترق المجموعة كالظلّ ، يطلّ ويختفي لكنه لا يغيب أبداً وقد يتمهل في بعض القصائد معلناً عن حضوره الشفاف كما في قصيدة طفولة :

ونهضتُ أيّ طفولةٍ دهمتني بالأحجار! ألقتني كرخّ السندباد بساحة الأطفال، أيّ طفولةٍ نهضتْ فنمتُ ! أعشرةٌ في بيت (زينب) يكنسون البيت، وامرأةٌ تدبّ وراءهم سوداء تهوي بالسلاسل.. عشرةٌ سودٌ من العبدان يلمع فوقهم صيفٌ تأرجح كالغبار على السطوح وبيت (زينب). مسّني القمرُ الجميلُ فصحت بالخفاش: جاء الليل، تعبر ساحة الأطفال أجنحةٌ تضئ. نهمّ بالأحجار.. يصعقنا الضياء. أفيق مرتجفاً. ألمّ خيوطي انقطعتْ، وكأس الماء، أشربُ، والصباح كأنّه وجهي تلبّث برهةً ومضى يدحرجه الهواء...

مثلما هو حاضر في قصائد المنفى ، فحين يعثر البيكاجي يكون الطفل هناك وكأنّ حضوره إشارة إلى حياة لن تتوقف . ليس الطفل هنا شاهداً بل جزءاً فاعلاً في مشهد إنسانيّ وليس وحده بل صار جميع الأطفال .

ثمة تشابك في هذه المجموعة وتناص ولغة وعوالم لم تكن مألوفة من قبل: الموقف وغرائبيته، رامبو وعالم عدن الخرافيّ مما جعل الأسئلة أكثر تشابكاً لا تشير بقدر ما توقظ.. وحين كنت مقيما في دمشق دعيت إلى واحدة من الفعاليات الثقافية في عدن فتوجه إليّ بعض اليمنيين عاتبين لأن الواقع الذي كتبته بمخيلتي لا يرغبون في رؤيته. بعد أعوام فاجأني الشاعر الجميل علي المقري حين كنت في صنعاء برأيٍ آخر هو أن قصائدي كانت نبوءة بما حلّ فيما بعد مشيراً إلى قصيدة بالذات هي قصيدة "ليل عدنيّ".

* هل كان هاجس تطوير الأدوات التعبيرية و تجاوز الذات و امتحان اللغة حاضرين بشكل واع أثناء تأليف الديوان؟ و ما هي التجارب الشعرية المعاصرة آنذاك التي وجدت فيها عناصر رؤية جديدة سواء على المستوى العربي أو العالمي؟

** ليس لديّ هاجس بتطوير أدواتي التعبيرية، فأنا لا يهمني أن أكتب بأيّ أداة تعبير بسيطة أو معقدة. مثلما أنا لا أسبق قصيدتي.. على الرغم من تعدد الأشكال في مجموعاتي الشعرية المختلفة التي لا يشبه بعضها بعضاً. لم يكن شاغلي الشكل يوماً رغم اعتنائي الشديد به وحساسيتي إزاءه فأنا أنفر من أيّ قصيدة مائعةٍ بلا شكل. القصيدة لديّ هي التي تقترح أدواتها. لذلك تفاجئني قصائدي بأشكالها، وقد تجترح هي مضمونها أحياناً. لأنني لستُ بصائغ أفكار حسب وإنما أنا معنيّ بالدرجة الأولى بالقصيدة ذاتها.. بعالمها وما يحتويه من صور و أفكار شعورية ولا شعورية، ومن أشياء لها صلابتها تماماً كأشياء العالم الواقعيّ، مثلما لها مدلولاتها المختلفة التي مهما اختلفت وتعدّدتْ لا تلغي أشياء القصيدة إذ يظل لهذه الأشياء بروزها وثباتها.. من هنا يأتي وضوح القصيدة وغموضها في آن واحد.

لم أكتب قصيدة يوماً وفي ذهني شكل قصيدة أخرى لشاعر آخر. قد يكون للأشكال البسيطة عمقها، وللأشكال المعقدة بساطتها الساذجة. إنّ حداثة الشاعر لا تتأتي من اجتراحه الدائم للأشكال الجديدة. ثمة أشكال قديمة قد تحضر بين فترة وأخرى هي أكثر امتحاناً للشاعر الحديث من الأشكال الجديدة في الشعر، لأنها اختبار لقدرة الشاعر على تمثلها.. اختيار لا يقل صعوبة عن اجتراح أي تجديد إن لم يكن هو التجديد بعينه. ماذا يعني التجديد؟ أليس هو كسر المألوف. فحين يأتي مثلاً شاعر ويكسر هذا التكرار الممل لما يسمى بالأشكال الجديدة التي هي بلا شكل أصلا، ويبث روحاً جديدة في شكل قديم مهمل. أليس هذا هو التجديد؟

ألم يكتب رامبو قصيدته الرائدة في الشعر (المركب السكران) بأكثر الأوزان شيوعاً؟ هل انتهى الهايكو ، وكتابة السونيتات والرباعيات في شعر العالم ؟ في قصيدة لي كتبتها عن البصرة ترددت في وضعها بين قصائدي الأخرى عن المدينة لبساطتها الشديدة فهي التقاطة يومية سريعة لأطفال رأيتهم يستحمون في شط العرب وهم يتصايحون وقد انعكست الشمس بحدة على أجسادهم العارية:

في البصرة
أبصرتْ:
أحمد
و زياد
وغسان
"أحمد .. !"
صاح زياد
فاندفعوا في المدّ
"يا هو.. و .. و"
واشتعلت نارٌ في الماء
ورددّ ت الأصداء
في الضفّة:
"أحمدُ ..
أحمدُ ..
أحمدْ"

ترددت ولكن عندما تذكرت تجارب الشعراء الكبار تخليت عن ترددي لِمَ أضع في ذهني أكداس القصائد والكتابات الضاجة بادعاءاتها ولا أضع في ذهني هؤلاء الكبار؟ تذكرت بالذات والاس ستيفنس وقصائده القصيرة الجميلة ومن بينها هذه القصيدة المذهلة ببساطتها وتوجهها الشعبيّ وهو الشاعر الأكثر تعقيدا في الشعر الأمريكي:

في أوكلاهوما
بوني وجوزي
يرقصان حول جذع
مرتدين الكاليكو
ويصرخان
"أوهوياهو
أوهو " ...
محتفلين بعرس
الدم والهواء
(الكاليكو : نوع من القماش)

* خلال مقامك بعدن اشتغلت في مجلة ثقافية، هل كان من السهولة العثور على عمل هناك؟ ما هي العوامل التي ساعدت على ذلك؟

** منذ اليوم الأول لي في عدن طُرح عليّ العمل في مجلة "الثقافة الجديدة" اليمنية وهي تكاد تكون المجلة الثقافية الرئيسية الصادرة في عدن. كان يعمل فيها الشاعر سعيد البطاطي والصحفية رضية شمشير. صادف يوم وصولي أن زار الراحل الدكتور حسين مروّة الفندق الذي أقمت فيه رغبة منه في اللقاء بالعراقيين وحنيناً لماضيه في العراق الحاضر في وجوه هؤلاء المنفيين وإحساسه العميق بالرفقة والهم الإنسانيّ. ولحسن الحظ إنني كنت قد قرأت كتابه الصادر حديثاً (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية) حين كنت مختفياً في الكويت، لذلك لم يكن ثمة إشكال أو صعوبة حين اقترح عليّ أن أحاوره بعد يومين أو ثلاثة من إقامتي في عدن، أو أدير ندوة يشارك فيها العديد من الوجوه الثقافية في عدن: الدكتور محمد الزعبي من سوريا، الشاعر جيلي عبدالرحمن من السودان، وعلي عقيل من اليمن. حضر أيضاً فيما بعد دون أن يشارك في الندوة الشهيد الدكتور توفيق رشدي.

أجريت الحوار مع الدكتور حسين مروه في الصباح، وأجريتُ الندوة في المساء واحتل الحوار والندوة سبعين صفحة في المجلة. كان من بين الملاحظات التي طرحتها في الحوار والتي تقبلها الدكتور مروه برحابة صدر وتواضع العالم الجليل عدم دقة الكثير من المصطلحات في الكتاب مثل إطلاق (المثالية الذاتية) على فلسفتي أفلاطون وابن عربي نظراً لأنّ المثالية الذاتية إذ تعترف بأولوية الوعي الإنساني تنفي الوجود الموضوعي وتعتبر الأشياء نتاجاً للإحساسات والأفكار بينما للمثل عند أفلاطون وجودها المستقل لذلك كان الأولى نعتها بالمثالية الموضوعية. أقرني في ذلك، بينما اعتبر المثالية الذاتية أكثر انطباقاً على فلسفة ابن عربي. وفي الحوار استفاض الدكتور مروّه بالحديث عن سؤالي الأول له المتعلق بجوهر الكتاب: هل مهمة الباحث هو الكشف عن الأساس المادي للتراث الفلسفي أو الفكري بوجه عام أم البحث عن مدى فعالية هذا التراث في واقعه الاجتماعي الذي أنتجه ومدى تأثيره في الوقت الحاضر وهذا كان أيضاً موضوع الندوة الأساسي في المساء.

بعد الندوة تمت دعوتنا إلى العشاء في مطعم فاخر في أحد الفنادق الحكومية. قُدّم لنا فيه نوع من السمك غير المتوفر في الأسواق لأنه يصدّر إلى الخارج للحصول على العملة الصعبة، فكان موضع تندرنا جميعاً.

لم ألتق بالراحل توفيق رشدي من قبل لذلك حين تمّ تعارفنا اندهش الشاعر جيلي عبد الرحمن وعلّق ساخراً: هل هذا جزء من عملكم السريّ أيها الرفاق العراقيون؟ كان توفيق رشدي متوترا طوال الليلة صامتاً وكأنه يحدس أن اغتياله واقع لا محالة، جراء التهديد العلني الذي وصله من السفارة العراقية الموجودة في عدن آنذاك. وبالفعل تمّ اغتياله بعد يومين فقط من لقائنا العابر في الفندق. اغتيال معلن .. لم يكن خافياً على أحد..فكيف حدث ذلك؟

* كيف كان المشهد الثقافي في عدن آنذاك؟ و ما هي العلاقات التي نسجت مع شعراء المرحلة الذين تبادلت معهم التأثير و التأثر؟

** لم يكن المشهد الثقافي بتلك الحيوية التي اعتدنا عليها في بلدان أخرى حللنا بها، ولكن ثمة أصوات شابة مبدعة في الشعر والقصة كان من بينهم محمد حسين هيثم الذي أحمل له مودّة كبيرة وهو شاعر مبدع حقا لم ينقطع عن الإبداع والنشر. كان هناك أيضاً أصدقائي الشعراء: شوقي شفيق، عبد الرحمن ابراهيم ، سعيد البطاطي، فريد بركات، والراحل زكي بركات الذي أحزنني اغتياله، ومن القصاصين ميفع عبد الرحمن. بالإضافة إلى الشعراء العرب المقيمين في عدن: جيلي عبد الرحمن الذي تربطني به صداقة قديمة منذ لقاءاتنا الأولى في موسكو، الشاعر المصري الشعبي المبدع زكي عمر الذي مات غرقاً حين حاول إنقاذ ابنته القادمة في الصيف من دراستها في موسكو.

وعلى قصر الفترة التي أمضيتها في عدن.. سنة تقريباً التقيت أيضاً بشعراء قادمين إلى عدن. أتذكر منهم أدونيس، أحمد دحبور، ثم من المغرب الباحث عبد الكبير الخطيبي. وعند مجيء أدونيس ومعه عبد الكبير الخطيبي جمعتنا جلسة في بيت مسؤول منظمة التحرير الفلسطينية في عدن. كنا مدعوين إليها أنا وجيلي أيضاً عقب الأمسية الجميلة التي أحياها أدونيس والتي قرأ فيها "ملوك الطوائف" وقصيدة عن طفولته كما أتذكر.

قال لي أدونيس، حين غاب جيلي لدقائق:
هل مازال جيلي يكتب الشعر؟
قلت له : نعم
قال : وكيف ترى شعره؟
قلت : لطيف
قال ضاحكاً هذا يعني بالعراقي ليس لطيفاً.
قلت له ضاحكاً بدوري : لماذا؟
قال : لأنكم العراقيون حين تقولون لطيف فهذا يعني العكس.

لا أزال أعتقد أن ثمة نماذج في شعر جيلي عبد الرحمن ستبقى حية حقاً. و لعل الدراسة التي كتبها عفيف دمشقية عن قصيدته (حارة عابدين ) في أحد أعداد مجلة "الطريق" اللبنانية هي من الدراسات النادرة التي تحمل وفاءً ودقة وكشفاً لشعر يبدو بسيطاً ولكنه يحتوي على غنىً فنيّ نادر في الشعر. أسرّني جيلي مرّة أنه حين دخل السجن فوجئ بحائط الزنزانة وهو يتحرك فاندهش ولم يصدّق عينيه، وعرف فيما بعد أن حركة الحائط لم تكن غير حركة القمل الحاشد الذي يتحرك عليه:

في السجن
رأى جيلي عبد الرحمن
الحائطَ يتحرّك
فأبى إلاّ إن يوقفهُ
لكنّ الحائطَ لم يتوقّفْ
كانت تدفعهُ بين طوابير السجناء ..
طوابيرُ القملْ


قصيدة "الحائط"

مما أتذكره عن جيلي وزكي أننا دعينا مرة، من قبل صديقنا الدكتور محمد أبو مندور الكاتب الاقتصادي المعروف في عدن بكتاباته الاقتصادية المتواصلة في الصحف، دعوة مرتجلة مستغلاّ غياب زوجته وسفرها إلى مصر، ولم يكن في بيته غير البصل المخلل الذي كان مزتنا الوحيدة تلك الليلة النادرة التي ضحكنا فيها كثيراً. كان موضوعنا الأثير في الجلسة هو نقد قيادات الأحزاب الشيوعية العربية فلم يقصر زكي عمر ولا محمد مندور في نقدهما اللاذع لقيادة حزبهما، وهذا ما فعلته أنا أيضاً. وبقي جيلي صامتاً إذ كان عنصراً قيادياً في الحزب الشيوعي السوداني ومسؤول منظمة الحزب الشيوعي السوداني في عدن. آنذاك التفت إليه زكي عمر بروحه المشاكسة: وأنت إيه رأيك يا عم جيلي؟
عندئذٍ استرسل جيلي في بث همومه وشكواه من قاعدة الحزب وما يسببه له رفاقه من آلام أين منها آلام فرتر. فكان هذا موضع تندرنا وضحكنا المتواصل تتخلله ابتسامة جيلي الوقورة الحبيبة وهو يتقبل تعليقات زكي الجارحة بروح رفاقية عالية وكأنه في جلسة حزبية يمارس فيها النقد والنقد الذاتيّ ، موافقاً على كلّ ما قلناه.

لم تكن إقامتي في عدن خالية من الطرائف والبهجة أحياناً. مرّة تلقينا أنا ومهدي، أول وصولنا إلى عدن، دعوة من قبل عمال أحد المؤسسات الحكومية. وبعد انتهاء الأمسية أهدونا قفصين ممتلئين بفواكه شتى فتقبلناهما مسرورين وسط التعليقات والضحك. كانت الهدية الأولى التي تسلمتها في حياتي عن شعري.

كان من بين أصدقائي الأعزاء آنذاك أيضاً الدكتور عبدالقادر باجمال رئيس وزراء اليمن الحالي وكان دائم الحضور إلى المجلة جالباً معه مقالاته ومحبته وتساؤلاته وكنا نتحدث طويلاً. حين علم بوجودي صدفة بين الحاضرين في افتتاح معرض تشكيليّ في صنعاء عند زيارتي لها السنة الماضية، أسرّ للشاعر الصديق علي المقري رغبته في رؤيتي فكان لقاء مؤثراً حقّاً. كان عبد القادر باجمال نفسه هو ذلك الصديق العزيز بشخصه الحبيب وكلماته المعبرة عن أخوتنا أمام الحضور من الوزراء المستغربين من هذا اللقاء الحميم الخالي من التكلف المليء بالألفة الصادقة وسط هذا الجوّ الرسمي الثقيل.

حاولنا في عدن ألاّ نثقل على أحدٍ، أو أن نُدخل اتحادهم في أيّ إشكال قد يؤثر عليهم في علاقتهم ببغداد ولاسيما أنهم قالوا لنا صراحة أن اتحادهم فقير ويعتمد كلّيا على معونة العراق، بل كنا أحياناً وقد اتفقنا معهم على لقاء مهنيّ نغفل عن الموضوع القادمين من أجله لنشاركهم تحليقاتهم ببعض أوراق من القات التي لا تسعف في اللحاق بهم إلى مقاماتهم العليا مكتفين بالأحاديث اللطيفة والمودة المتبادلة. وأظن أنهم كانوا مسرورين بهذا التغافل.

* الشاعر العربي الوحيد الذي أهديته قصيدة تحمل اسمه في هذا الديوان هو صديقك الشاعر اليمني الراحل سعيد البطاطي. هلا حدثتنا عن عطائه الشعري و عن طبيعة العلاقة التي ربطت بينكما؟ وما جوهر تجربته التي جعلت منه بطلا لإحدى قصائدك؟ ثم ما هي الصورة التي يمثلها البطاطي للشاعر في ثمانينيات القرن العشرين؟

** كما قلت لك كان البطاطي يعمل محرّرا معي في مجلة "الثقافة الجديدة" اليمنية. كان له وجه طفل وعينان صغيرتان ذاهلتان دوماً ولاسيما حين يتناول قاته فيبدو وكأنه في عالم آخر. وكعادة الشعراء لم يكن راضياً بوضعه ، رغم ألفته ووداعته والرضى الظاهر الذي يشيع في وجهه الدائريّ. حلمه أن يغادر عدن إلى صنعاء ، وما من طريق سوى طريق الهرب عبر الحدود بأية وسيلة كانت.
حدث هذا بعد أن غادرت عدن غير أنه لم يكن موفقاً بخطته إذ قبض عليه وأرجع عنوة إلى عدن إلى موقعه الوظيفيّ نفسه في الثقافة الجديدة. علمت بعد ذلك أنه تزوج وسكن في الغرفة ذاتها التي كنت أسكنها أنا وزوجتي في البيكاجي، بعد رحيلي.

لم نتراسل ويا للأسف، ولكن وصلني عندما كنت في دمشق أو بيروت لا أتذكر بالضبط أحد أعداد الثقافة الجديدة وفيها مقالة له طويلة عن مجموعتي الأولى الحقائب مكتوبة بحب نادر مؤثر لم أحتفظ بها إذ ضاعت وسط تنقلي الدائم وهجرتي الدائمة . قيل لي أنه قبل موته كان يذرع البيكاجي كالمجنون ذاهباً آيباً. لم تمهله طويلاً كما يبدو صدمة العودة إلى عدن.

كتبت عنه قصيدتي قبل وصول نبأ موته إليّ، مستحضراً ذهوله حين يتناول القات وبراءته وحبي له وحلمه الدائم بالحوريات وهدايا التمر التي يجلبها من مدينة طفولته حضرموت.. لا أعرف ما مصير أشعاره؟ أو مصير زوجته وأطفاله إن كان له أطفال؟ لقد انقطعت أخباره عني تماماً، وذكرني جنونه الهادئ الخفيف فيما بعد بجنون مريم جارتنا في الطفولة حين خرجت ذات يوم من عزلتها الطويلة التي دامت سنوات، مزينة بإكليل العرس وهي الطاعنة في السن ذاهبة آيبة في الباحة التي تتوسط البيوت المجاورة لبيتها وهي تردّد بصوت منغّم عذب مخاطبةً رفيق عمرها الذي رحل قبل ثلاثين أو أربعين سنة:

معن! .. معن!.. ها أنا قادمة إليك..


* إن قصيدة "تشيلي في القلب" (1973) المنشورة في ديوان "الحقائب" (1975) تحيل على ديوان للشاعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا "اسبانيا في القلب". هل كان بابلو نيرودا، بالنسبة إليك في تلك المرحلة، حاضرا هو أيضا كنموذج للشاعر و كاختيار شعري و موقف من العالم؟

** نيرودا واحد من شعراء عديدين أحببتهم ولم يفارقني حبهم طوال كلّ هذه السنوات، وإذا كنت أحببت نشيده الشامل وقصائده الغاضبة الصارخة بالمأساة في (اسبانيا في القلب) فانني أحببته أيضاً في أشعاره التي تردّدت فيها أصداء وحشته في البقاع النائية ولا سيما أشعاره التي قرأتها بالفرنسية في مجموعته الرائعة (الإقامة على الأرض). كان لخبر موته وما حلّ بتشيلي أفجع الأثر في نفسي . وقتها نشرت قصيدتي (تشيلي في القلب) سنة 1973 في مجلة "الآداب" وكان ناقدها في العدد اللاحق الشاعر الرقيق (فاروق شوشة) ومما قاله عنها (أخذتني قصيدة تشيلي في القلب). وحين قرأتها على خشبة مسرح مديرية تربية البصرة الذي حدثتك عنه في المحور الأول ، قال لي أحد الأدباء الحاضرين وكان بعثياً، بخبث لا يخلو من تقدير: تخيلتك قادماً بحقيبتك للتو من تشيلي.

* عودا إلى "وردة البيكاجي". تقول في إحدى تصريحاتك: "ما أكثر الشعراء الذين يزورون مدنا وبلدانا و لا يرونها، و يلتقون بشرا و لا يرونهم". تجربة مدينة عدن فيها إحساس بفقدان الوطن، كما فيها تهيؤ لعناق مكان جديد؟ كيف رأى عبد الكريم كاصد مدينة عدن؟ و ما هي الشواغل الشعرية الأساسية التي حكمت التجربة؟

** نعم ، ثمة فقدان وعثور على مكان جديد لم أصل إليه إلا بمشقة ومعاناة، فبعد حصولي على وثيقة سفر من السفارة اليمنية في الكويت، سلّمت نفسي إلى الشرطة، ومعي مهدي طبعاً، بصفتي يمنياً مقيماً في الكويت بشكل غير شرعيّ، غير أن الشرطة لم تستلمنا، و يا للمفارقة! بحجة انشغالهم وضيق وقتهم، ذلك اليوم، فاضطررنا إلى المجيء ثانية في اليوم التالي ومعنا تذاكر سفرنا، لنمضي في التوقيف عدة أيام، بعدها نقلنا إلى موقف المطار حيث أمضينا ليلة هناك قبل أن نغادر إلى عدن. كانت عدن بالنسبة إلينا خلاصاً و منفىً جديداً يحتشد فيه المنفيون متقاربين. كلّ في عزلته.. وحين تقترب العزلات من بعضها بعضاً يصبح الاقتراب خطراً وتهديداًً للعزلة وخلاصاً أيضاً لما تكتظّ به من وحشةٍ وأحزان وأخبار أهل، لا طاقة للمنفيّ على تحملها. وحين وصلت لم يكن هناك منفيون ينتظرون بعزلاتهم الموحشة وحدودهم المتصلبة والهشة في آن واحد بل كان هنالك أيضاً بشرٌ يجتازون غابة ولكن.. إلى أين؟

كلّ نأمة هي شارة لوحش رابض ، وكلّ أثرٍ هو أثر لوحشٍ مرّ وكانت الغابة تكتظّ وتكتظّ حتّى لم يعد للحيوان من موضع فيها وقد شغل الغابة البشر الذين ما تزال خيالاتهم مسكونة بالوحوش. التحقتْ بي زوجتي فيما بعد وصادف مجيئها حلول رمضان فكنّا نقضي لياليه متجولين في الأسواق حتى ساعة متأخرة من الليل بين محلات الأقمشة الخفيفة الهفهافة القادمة من الهند بألوانها الزاهية المبهجة، و أضواء عربات الباعة ، وزحام الناس ، ولطف معشرهم واسترخائهم النادر الذي لم تره في مكان آخر.

لم يتكرّر هذا الطقس الاحتفالي الرائع قطّ . سنة واحدة وانقضى.. إذ لم نشهده في السنة التالية التي غادرنا بعدها عدن إلى منافٍ أخرى. وحين أتساءل الآن لماذا ؟ لا أجد جواباً. كيف تتغير مثل هذه الطقوس المعروفة بثباتها ودوراتها و تكرارها بهذه السهولة التي لم يكن وراءها سبب.. لا انقلاب ولا حركة تصحيحية ولا غير ذلك من مصطلحات الثورات وإعلام العرب.

لم يدم فرحي بالنجاة ولا بمجيء الحبيبة فالأحداث تتسارع وقد اكتظت الغابة بالبشر.. صراعات .. اجتهادات في العزلة والتمرد.. محاكمات لا يحضرها خصومها، ومعارك صامتة بلا دم ، ولكنها صراعات يمكن أن تؤدي إلى ما هو أنأى من الدم .. استدعاء شرطة على رفاق الأمس وتهجير إلى منفىً آخر لا يقبل المنفيين. ولعلّ ما هو أقسى من ذلك حين يُهجّر المنفيّّ وهو بلا وثيقةٍ.

إنه الجحيم ثانيةً، جحيم المدينة والآخرين.. جحيم يتغلغل فيك أيضاً فلا تجد ملاذاً إلاّ بالهروب ثانية إلى أرضٍ أخرى.. إلى سماءٍ أخرى.. إلى بشرٍ آخرين وغاباتٍ أخرى.. ربّما.

الوردة الحجرية

* في قصيدة "وردة البيكاجي" هناك تصوير لأدق تفاصيل المكان من مختلف الزوايا و الأبعاد. لماذ هذا الهوس بالتفاصيل؟

** ما ذكرته في إجابتي السابقة، وإن جاءت تعميماً ، أليس هو الضياع عينه لحياةٍ استغرقتها التفاصيل؟ غير أن تفاصيل القصيدة شيء آخر، شيء يشير إلى مكان وقد يشير إلى زمن محدّد أيضاً، وبشر، وأحداثٍ وكلّ ما يرسّخ القصيدة ويحيلها واقعاً لا إنشاءً في قصائد تتكدس كبضائع في خان. ما القصيدة دون تفصيلاتها.. ما الأرض الخراب دونها؟ وقصائد ريتسوس و رامبو وتفصيلاته المذهلة سواء في قصائده الأولى أو الأخيرة الموزونة والنثرية؟

" في التفاصيل يقيم الإله الطيب " يقول فلوبير. حتى لو كان الشعر بحثاً عن الكليات فإنه لن يكون شعراً إلا عبر تفصيلاته، وخصوصيته مهما اقترب أو امتزج بالأجناس الأدبية الأخرى أو احتوى أفكاراً ورؤىً شاملة. ما تسميه هوساً أسميه شغفاً وضرورة فنية نابعين، ربما، من هذه الرغبة المحمومة في جعل القصيدة حاضرة في كلماتها.. في جعل الكلمات أشياء والأشياء كلماتٍ، يمرّ بها القارئ مثلما يمرّ في مدينةٍ عابراً أو مقيماً. غير أن ما يقوّم القصيدة ليس تفصيلاتها وحدها وإنما هو ما تتضمنه من رؤية وزاوية نظر وتشكيل وتعامل مع الواقع وتفصيلاته واختياراته وسوى ذلك من مميزات أخرى لا تقلّ أهميةً في كتابة القصيدة.


* تتشكل هذه القصيدة من عدة مقاطع، كل مقطع يحكي قصة المكان و شخوصه من زاوية مختلفة: الاستهلال/"الهنود ابتنوا في سقوفك أعشاشهم"، أغنية المهجرين:"خرجنا من باب واحدة"، نزهة المهجرين: "في المساء نتقاطع في الباحة...نهبط سلمنا المتآكل"، أغنية البيكاجي: "أنا البيكاجي"، غرف البيكاجي: "غرفة بابها أصلع"، خاتمة:" ركض البيكاجي/ رنت أجراس الخلخال/ عثر البيكاجي/ و التم جميع الأطفال". كأننا أمام لوحة تشكيلية تكعيبية تحتاج إلى جمالية تلقي مغايرة للمألوف.

** أشعر بالامتنان حقّاً لهذا التعبير الفاتن " لوحة تشكيلية تكعيبية " .

* في مقطع "غرف البيكاجي"، هناك توظيف لطيف للتشكيل البصري من خلال تكرار و توازي كلمة "غرفة" في القصيدة بنحو يعكس تمثلا بصريا لمبنى البيكاجي و غرفه المرصوصة.

** لا أشعر أنّ هذا توصيف فقط وإنما هو تقييم أيضاً . أشكرك عليه .

* في تعاملك مع البيكاجي كفضاء، تنحو إلى أسطرة المكان من جراء إسباغ هالة من السحر عليه عبر التشخيص و الأنسنة بحيث يقوم الشاعر بتسميته من جديد و كأنه يولد في التو "غرف تتقابل كالعربات، و حين تنفتح الأبواب تصير شارعا/ سميته البيكاجي". بل أكثر من ذلك، يتحول البيكاجي إلى كائن خرافي هائل يتحدث ككل الشخوص: "أنا البيكاجي/ لا أدري أأنا حجر أم حوت أم إنسان؟".

** أشعر أيضاً أن توصيفك يحمل فهماً عميقاً للقصيدة وتقييماً لها وإشارتك إلى الولادة ذات دلالة تشير إلى ما هو أوسع من التوصيف .

* قصيدة "مجنون" تطرح تحديا آخر على مفهوم الشعر. فهي تتألف من بيتين فقط تقول فيهما:
كان ضابطا بحريا
و انحسر عنه البحر.

هل هو انخطاف الشعر مرة أخرى؟ ما هي قصتك مع هذا الضابط البحري الذي انحسر عنه البحر؟ أين تكمن الشاعرية في مثل هذا الاقتضاب و الاقتصاد في العبارة؟ هل صورة مقترة بكل هذه الحدة الجارحة، على طريقة الهايكو اليابانية، قادرة على حمل الشحنة الشعورية اللازمة لتذوق الشعر؟ هل يكون بمستطاع قصيدة بهذا الحجم القصير الاستجابة لأفق انتظار القارئ وتحقيق الإشباع المطلوب؟ أم هي إحدى فضائل جماليات الحد الأدنى، حيث كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا؟

** حين حللت في عدن وأقمت في الفندق أكثر من شهر كان هذا المجنون الضابط البحريّ سابقاً يطالعني كلّ يوم ببذلته القديمة المهترئة بذلة الضابط البحريّ، وأحياناً متخففا منها ... يسير باستقامة وتصلب غريبين ، لا يكلم أحداً . شغلني زمناً طويلاً : كيف أأسر هذا المجنون في قصيدتي؟ كانت البداية تقريرية ، عادية جدّاً : كان ضابطاً بحريّاً . وحين كتبت : وانحسر عنه البحر ، شعرت أن القصيدة اكتملت وأن ما جاء بعدها ليس سوى حشو . لقد انحسر البحر عن الضابط ، كما ينحسر بساط من تحت القدمين، وانحسر معه كلّ شيء.. عقله أيضاً . لم يكن في ذهني الفكرة بل الرؤيا: وقوف الضابط المنعزل الوحيد في هذا القفر الواسع الذي كان بحراً. في ذهني حركة البحر وهو ينحسر عن الضابط وحيداً. أما الدلالات فهي لا حقة وما كانت شاغلي أبداً.

تحدّث عن ضيق العبارة واتساع الرؤيا الكثير من الشعراء والمتصوفة. فقد وردت لدى النفري بهذه الصيغة كما وردت لدي رامبو بصيغة أخرى يمكن ترجمتها بالكلمات التالية: "رؤاك الكبيرة خنقت كلماتك ، واللانهاية المفزعة أرعبت عينك الزرقاء" .

*في قلب الديوان هناك استعارة مركزية تتمثل في صورة "الوردة الحجرية"؟ ماذا أردت أن تشير إليه من خلال هذه الاستعارة؟

** لا أدري كيف اجتمعت الوردة بالحجر. لعلّ ثمة تكثيف أو استبدال في القصيدة كما يحدث في الحلم، لدى فرويد، حين يكثف عناصره أو يستبدلها بعناصر أخرى ، فتتخذ الوردة شكل الحجر والحجر شكل الوردة، مثلما لا أدري أية صدفةٍ رمتنا حتّى آخر الأرض في مبنىً حجريّ هائل سكنه الإنجليزومن قبلهم سكنه الهنود، ثمّ جئناه بأطفالنا وعذاباتنا وموتانا مثقلين بالهواجس والأحلام، لنلمس حيطاناً غابرة تهرم وتموت في مكانها كأنها في انتظارنا: باحة واسعة وقبة أوسع تُسمى سقفاً وشبكة حديدية تتوسط شرفة فوق الطابق الأسفل وسلّم حجري يهبط ويرتفع بنا يوميّاً، وهناك ثمة جدار تحط عليه الغربان، وقد لا تطير محدّقة بالمنفيين وكأنها تسألنا: من أين؟ عبر هذا الجدار رأيت مرة حبل غسيل وقد تعلق فيه غراب كالمشنوق وقد بان عنقه الأحمر..هل يمكن أن أتحدث عن الوردة في هذا المبنى الحجريّ دون أن تقترن بالحجارة مجازاً أو استعارةً؟

* في أكثر من مناسبة كنت تحاول تقديم عناصر تأويلية تصلح مفتاحا لقراءة نصوصك و لو على شكل سؤال؟ ألا يضيرك أن تخوض في عملية تفسير لقصائدك و كشف بعض لطائف الصنعة الخفية فيها. ألا يقتل التفسير حياة المعنى في القصيدة، أم أن القصيدة تمتلك نسغها الحيوي الخاص وعناصر حياتها الداخلية؟

** أعتقد أن القصيدة، مثلما قلت في سؤالك ، تمتلك نسغها الحيوي الخاص وعناصر حياتها الداخلية بعيداً عن تفسيرات الشاعر والقارئ. لم أقدّم تفسيراً بل ملاحظات تبقى خارج القصيدة مهما بلغت من القيمة والعمق. لقد فعل إليوت أكثر من ذلك إذ قدّم تفسيرات لقصيدة "الأرض الخراب" لم تضر القصيدة بل ساعدت النقد الأكاديمي خاصة على الاقتراب من شعره. كانت تفسيراته مفاتيح لقصائده لكنها لم تشرع أبوابها تماما لتفسير الآخر. أ ليس حوارنا هو محاولة لمثل هذا الاقتراب؟ ليس ثمة تفسير مطلق.. في كل ما هو مطلق شيء من النسبيّ يخترقه مثلما يخترق النسبيّ كل شيء في العالم حياةً أو شعراً.

* يقول الكاتب مصطفى عراقي حسن في مقال له عن عملك الشعري: " ديوان وردة البيكاجي جسد ذروة المشهد الشعري" مشيرا إلى أن المشهد هو الوسيلة الأثيرة لديك لبناء القصيدة. في تقديري أن التعبير المشهدي صيغة حداثية مميزة في البلاغة الشعرية لعبد الكريم كاصد، و هي تقابل "غموض العبارة" الذي اختاره بعض الشعراء ميسما لحداثتهم.

** يرى بودلير إن عمق الحياة يتبدى في المشهد . في بناء المشهد في القصيدة ما يقي الشاعر من اندياحٍ لا مركز فيه.. المشهد الشعريّ يمنح القصيدة وجوداً واستقلالاً حتّى عن الشاعر نفسه لتصبح القصيدة آنذاك هي التي تحدّ الشاعر لا العكس . من هنا يأتي اكتشاف الشاعر لقصيدته ودهشته أمامها كالقارئ تماماً..

أمّا غموض العبارة فلأراغون رأي في ذلك إذ يرى إن الوضوح في القصيدة هو بالتحديد ما هو غامض في الشعر.. والغريب أنه بحث عن الوضوح وأشكاله البسيطة في شعر رائد الحداثة في الشعر الفرنسي الذي هو أبولينير إضافة إلى الشعر الشعبي والأغاني القديمة، لا من أجل أن يكرر الفولكلور، بل من أجل أن يستخدمه استخداماً مجازياً. وليس مصادفة أن يقترن شعر أبولينير ووضوحه بالمشهد الواضح الغامض ذي الدلالات العميقة التي لا تنفد أبداً .

أما بالنسبة إلى دراسة الدكتور مصطفى عراقي فهي نموذج للنقد التطبيقي البارع البعيد عن ترديد مقولات تبتعد كلما اقتربت من تطبيقاتها.

* بالمقارنة مع شعراء ينتسبون لمسمى الحداثة الشعرية، ألاحظ أن الوضوح سمة من سمات قصائدك. هل هو دليل رغبة الشاعر و رهانه على التواصل مع جمهور قراء الشعر؟ ألا تحتاج القصيدة في نظرك إلى حد من الغموض الملازم، أو قل السريالية المحببة، كما يسميها محمود درويش؟ من أين إذن تستمد القصيدة لغزها السري؟

** الوضوح ليس سمة شعري وحده. إنه سمة كل شعر جيّد. القصيدة ليست وجبة نضيف لها ملح الغموض لكي نتقبلها. إنها أعقد من ذلك بكثير، ومن أجل الوصول إلى بداهة الشعر ووضوحه في القصيدة فإنّ ذلك يتطلب مراناً ودربة ومعرفة بالشعر. هل هناك أوضح من قصيدة "أنشودة المطر" و"بويب" وقصائد برشت ونيرودا وإيليوار ووالت ويتمان الذي يبدو واضحاً وضوحاً ساطعاً ولكن كم من الظلال تختفي خلف ضوء وضوحه.

هل شعري واضح حقا؟ حين أقول في وردة البيكاجي هذه الأبيات هل أنا واضح حقا رغم وضوحها الشديد؟

ركض البيكاجي
رنّت أجراسُ الخلخال
عثر البيكاجي
و التمّ جميعُ الأطفال

سأسرك بشيء أرجو ألاّ أكون مغالياً فيه هو أنني كتبت هذه الأبيات في الحلم ونهضت فجأة لأدونها. وأكاد أنا نفسي لا أصدّق ولم يحدث لي ذلك إلا نادراً.

لقد حلم إليوت و رامبو و لوتريامون و شعراء كبار آخرون بكتابة شعر واضح بسيط يفهمه جميع الناس. يقول رامبو في قصيدة "المستحيل": "أوضح نفسي ". وفي مقالات إليوت عن دانتي وعن غيره من الشعراء يتضح معنى أن يكون الشاعر واضحاً، بل أن إليوت يغلو في ذلك ويعتبر إن أهمية شعراء كدانتي تكمن في وضوحهم وبساطتهم وصورهم المرئية الواضحة وهذا ما سعى إليه في مراحل متأخرة من شعره الذي أخذ يقترب من الكلام اليومي وأغاني الأطفال كما في قصيدته "الرجال الجوف" و رباعياته التي سرني أن أطلع عليها بترجمتك مؤخرا. لكنني أقول إن الغموض والوضوح أمران نسبيان تماماً، وإن للشعر روافده العديدة و منها اللاوعي. وهذا لا يعني فقدان النظام في القصيدة واختفاء الوعي تماماً فحتى اللاوعي له قوانينه، عند فرويد، وآلياته التي تجعل من ادعاء السرياليين بالكتابة الميكانيكية خرافة وجهلاً بفرويد الذي يوضح هذه الحقيقة بجلاء في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي.

وإذا كان لنا أن ندرك ماذا يعني النظام في القصيدة فليس أدلّ على هذا من ذلك النظام الباهر في قصيدة "إشراقات" لرامبو رغم عوالمها المتداخلة بإيحاءاتها الثرية المتوهجة التي جعلت من مقلديها مهرجين حقيقيين لافتقادهم تلك الروح التي أشاعها رامبو في قصيدته وذلك النظام الذي استطاع أن يتحكم في تجربة نادرة هي تجربة رامبو الخارج من أكبر تجربة تاريخية هي تجربة كومونة باريس.

ليس الوضوح واضحاً، وإذا كان ثمة وضوح حقاً فهو وضوح غموض القصيدة - إذا صحّ التعبير- لدى الشاعر المتمكن.

* يقول الكاتب و الناقد الإنجليزي بيتر أكرويد (Peter Ackroyd)في كتابه "سيرة لندن": "إن رؤية الشاعر ت.س.إليوت إلى الزمن تبلورت من خلال علاقته بمدينة لندن". بنوع من التأمل الذاتي، في نظرك ما هي الرؤية الخاصة التي تبلورت لديك من خلال مقامك بمدينة عدن".

** أعتقد أن علاقة إليوت بلندن على جانب كبير من التعقيد ، يتجاذبها طرفان : الكراهية والحب تبعاً للظروف النفسية و الاجتماعية التي مر بها الشاعر. وحين كتب قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب" ضمنها قصائد أخرى لم ينشرها من قبل احتوت على مقته لمدن أخرى كبوسطن. وهذا ما تحدث عنه بإسهاب بيتر أكرويد نفسه في كتابٍ آخر عن سيرة إليوت، ولعل رغبته في التواصل مع الماضي كتراث في مرحلة الحرب ما يفسر رعبه من حاضر لندن، بينما نجده في المرحلة التي أعقبت حصوله على جائزة نوبل واستقراره العاطفي يعود إلى ماضيه لا كتراث بل كطفولة وشعر درامي يتسم بوضوح كبير. لذلك اكتسبت رؤيته للزمن تلك الوشيجة المرتبطة بمدينة لندن أما بالنسبة لعلاقتي بعدن فهي ليست بتلك العلاقة ذات التعقيد الكبير الذي شهد مراحل وأزمات ولكنها لم تكن بعيدة عن تشكيل رؤيتي للزمن الذي استرعى انتباهي منذ دخولي مطار عدن وكأنني في عالم آخر يتوقف فيه الزمن ليصبح حاضراً أبديّاً له شكل المكان المتحجر . ويصبح الفعل ضرباً من التكرار، ولولا الأحداث المتسارعة للمنفيين من شجارات و تنقل دائم و أخبار موتى ومشاهد حزن وأفراح غائبة لقلت أنني عدت إلى الصحراء ثانية.

لم يكن الزمن في عدن بالنسبة إليّ زمناً متعاقباً. كان زمناً مليئاً بالإشارات إلى ماضٍ يحضر بقوة ، يشبه الحاضر ولا يشبهه: غزوات، أقوام، حروب، تجار أسلحة، مهربون، وشاعر عاش مثلي هنا هو رامبو يشبهني ولا يشبهني.. ليس هذا ما يعنيني. ما يعنيني هو جوهر هذا الحضور.. حضور الماضي في حاضر رامبو وحاضري، في لحظته ولحظتي، وجوهر هذين الاثنين معاً في القصيدة.

كان للّحظة في عدن ثقل الأبدية. لحظة تمتدّ حتى تغمر كلّ شيء بضجرها، في فوهة هذا البركان التي اسمها عدن حيث سواد قبائل الغربان تلطّخ خضرة الأشجار في الساحات والطرق كأنّنا في عالم خرافيّ هو عالم رامبو وعالمي الموجود وغير الموجود لغرائبيته.

لم يكن زمني في عدن زمن إليوت لأنني لا أعود إلى ماضٍ منظم بذاكرة إرادية ولكنني أعود إلى ماضٍ من الفوضى اللانهائية للتاريخ على المستويين الشخصي وتاريخ الآخر. زمان يتقدّم ويرتدّ في أي لحظةٍ في حاضره وماضيه معاً..لا شيء منجز أبداً.

كيف ترتّب الذاكرة تاريخاً مبعثراً؟ و كيف يرتب الوعي حاضراً معرّضاً للعبث؟ ما يبدو راسخاً في الواقع معرض للتفجير في أية لحظةٍ. العالم يحضر في داخلك.. و للواقع هيمنته وحضوره غير أن ذاكرة الشاعر ترحل وتعود بلا إرادة.. في عالم ليس هو الواقع ولا الفن.. و إنما هو الاثنان معاً. هل حين اكتشف رامبو أنّ الواقع هو الفنّ، و الفنّ هو الواقع في عدن كفّ عن كتابة الشعر؟

آرثر رامبو: البركان العدني

* منظورا إليه من زاوية أخرى، يبدو ديوان "وردة البيكاجي" و كأنه محاولة لبلورة صورة إنسانية لبطل جماعي يتمثل في المهجرين و المنفيين. هل يتحول صوت الشاعر إلى صوت من لا صوت لهم، في محاولة لإعطاء معنى لتجربتهم الجماعية الهامشية حتى لا تبتلعها فوهة النسيان؟

** نعم ثمة بطل جماعي هناك في القصيدة غير أن صوت الشاعر حين يتحول إلى صوت من لا صوت لهم لا يعني أنه هابط من السماء نبوءةً أو عرافة أو أنه صوت إراديّ.. صوت بطلٍ قادم للتعبير عن أصوات أخرى مثلما هو ليس ذلك الصوت الذي يتسع حتى يفقد طابعه الخاص وإيقاعه الذي لا يشاركه فيه إيقاع آخر، وإنما لأن ّالشاعر واحد من هؤلاء يعيش تجربتهم ويعاني معاناتهم، وقد ينتظره المصير نفسه الذي ينتظرهم. لم يأت الصوت محاولة لإعطاء معنى لتجربة جماعية هامشية وإنما جاء تعبيراً عن تجربة ليس الشاعر إلا جزءاً منها. حين تجد الجماعة، أفراداً لا كتلةً، صوتها في صوت الشاعر فهذا شيء مختلف تماماً عمّا هو عليه صوت الشاعر حين يتوجه إلى الآخر في صيغة إعلام. أي أن انتشار الصوت ليس باتساعه و إنما بقدرته على الحفاظ على خصوصيته لدى كل فرد في الجماعة فهو خاص وسط ما هو عام. يجد فيه المنفيّ ذاته المبعثرة التي أحالها المنفى كسراً يرى عبرها في القصيدة ذلك الخيط الواهي ولكن الحميم الذي يشده إلى الشاعر ومن ثمّ إلى الآخرين الذي يعيشون تجربته ولكنهم يختلفون عنه في هذه التجربة نفسها. الجماعة أفراداً تهب الشعر معناه أيضاً.

ليس ثمة إنسان معزول تماماً عن الآخر؟ الإنسان المعزول ما هو إلاّ إنسان مجرّد، فما بالك بالشاعر الذي يفترض فيه أن يكون في القلب من أحداث عصره حتى لو كان رافضاً لحضارة هذا العصر ومتوجهاً بعينيه صوب ماضيه؟

* في قلب الصوت الجماعي الذي يتبلور في هذا الديوان، هناك صوت الشاعر المفرد. لكن هذا الصوت، في تقديري الشخصي، جاء بشكل موارب في شكل تقمص شعري لصوت شاعر آخر، هو الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي أهديته قصيدتك الرائعة "البركان العدني". هل يحتاج الشاعر أحيانا إلى أقنعة كي يعبر عن ذاته؟ لماذا توظيف رامبو كقناع و كمحاور رمزي للذات؟ ما هي الغاية الفنية من ذلك؟ هذا علما أن فكرة الوجه و القناع ليس غريبة عن مناخ الديوان إذ نجدك توظفها في قصيدة طوطم حيث تقول: "أحضروا المائدة/ أوقدوا الشمعة الباردة/ إن وجهي جميل/ و قناعي ارتداه القتيل".

** لم أفكر في اتخاذ رامبو قناعاً. لقد كان في قصيدتي موضوعاً شعريّاً تلتقي فيه تفصيلات حاضري بتفصيلات ماضيه. كنت أسكن على مقربة من بيت رامبو لذلك كنت أحسه قريباً منّي أحاوره ويحاورني لا في واقع أو وهم وإنما في مصير نجهله ونواجهه نحن الاثنين. كنت أحاوره لا كماضٍ حسب ، وإنما كحاضرٍ يخاطبني في شعره. وهناك إحالات في القصيدة إلى أبياته وعالمه الشعريّ. أما القناع في قصيدة "طوطم" فهو شيء آخر.. مكوّن من مكونات القصيدة.. جزء منها لا شارة لها أو علامة للاستدلال عليها.

* لم يكن رامبو فقط تجربة حياتية استثنائية بمعنى الكلمة، و إنما كان و ما يزال أيقونة التجديد والتحديث في الكتابة الشعرية الفرنسية و العالمية على حد سواء. ما هي في نظرك سمات الحداثة الأساسية في شعر رامبو؟

** أريد أن أبسط السؤال و أتحدث عن أهمية رامبو بالنسبة إليّ قبل نعته بأيّ من النعوت التي وردت في سؤالك أو ترد دوماً حين يتم الحديث عن رامبو. لعلّ أول ما استرعى انتباهي في شعر رامبو منذ قراءتي الأولى هو موضوعاته لا أشكاله.. موضوعاته غير المألوفة في الشعر والمألوفة في الحياة: أختان تبحثان عن القمل في شعر أخيهما الطفل، أطفال جائعون أمام مخبز، فقراء في كنيسة، طفل في السابعة من عمره يحبس نفسه في مرحاض، ابنة جيران عمال تأتي وتقفز فوق ظهره مؤرجحة فوقه ظفائرها، شيوخ يغفون في مكتبة، وعشرات الموضوعات المفعمة بالشعر والحياة، مثلما استرعى انتباهي قدرته على جعل المباشرة شعراً أيضاً فلم تضر قصائده هتافاته ولا حنقه و لا شتائمه ولاسيما في (فصل في الجحيم)، وبعض قصائده الهجائية الأولى، بل أعطتها نكهةً، ومنحتها قوة الشعر الذي ظلّ خالداً لا بأشكاله وحدها وإنما بجدّة مضامينه ومباركته الحياة حتى وهي في أوج مأساتها . لقد غنّى الفرح في انتصار الكومونة وغنّاه بعد سقوطها ولعلّه فرّ من أوربا التي لا يتذكرها إلا باشمئزاز، فزعاً من بربريتها التي ذهب ضحيتها في أحداث الكومونة 30 ألف قتيل. وبسبب مباشرته هذه و وضوحه ربما اعتبر بعض النقاد أنّ (فصل في الجحيم) مجرد اعترافات وليس عملاً فنيّاً ناضجاً.

من بين الأشياء التي استرعت انتباهي أيضاً، منذ قراءتي الأولى لرامبو هو هذا السطوع، لأتجنبْ تسميته بالوضوح، حتى في شعره الغامض كما في (إشراقات). في هذه القصائد ثمة صفاء مدهش وسطوع أبيات تضيء ظلمة القصيدة وتملؤها بالصمت. ثمة مفاتيح صغيرة أحياناً ما إن نملكها حتى ينفتح الباب مشرعاً على ضوء المعنى الذي يضئ ما حوله من ظلمة في القصيدة: استدعاءات طفولة لا تستنفد، وحنق وسخرية ورؤى هي إشراقات حقّاً، لذا لا أرى في ترجمة القصائد بإشراقات خطأ، مثلما لا أرى في ترجمتها (منمنمات) خطأ أيضاً، فهو أي رامبو المصور البارع صاحب المنمنمات الدقيقة وهو صاحب الرؤى الكبيرة كما في قصيدته "تصوف" و "آثار عجلات" وغيرها.

لم تقد الأشكال رامبو إلى مضامينه بل العكس، ولم تكن مضامينه وليدة الطفرة العبقرية وحدها أو المصادفة بل وليدة الجهد الذي جعله يلتهم لا كتباً بل مكتبات بأكملها حتى صار يشكو من فقدان الكتب الجديدة، مثلما هي وليدة التراث المتمثل بقصائد فيكتور هيجو العظيم، وراسين، وإدغار آلن بو، ووالت ويتمان الذي كان مُترجماً آنذاك إلى الفرنسية، وبودلير، وفرلين نفسه الذي كان رامبو على معرفة بشعره، قبل اللقاء به. ولعلّ الترجمات الغامضة المبنية على عدم الدقة في فهم عالم رامبو هي التي ساعدت أيضاً، بالإضافة إلى عوامل أخرى ، على تقديم عالم رامبو بشكل خاطئ.

إنّ غموض رامبو ليس آتياً من فراغ المعنى أو تشوشه بل من اكتظاظه وتداعياته وإيجازه المذهل وتجربته الحياتية الغنية التي تختصر عصراً بمآسيه ومجازره وتحولاته وأحداثه. لم يكن رامبو شاعراً منعزلاً عن أحداث عصره بل كان في القلب منها، وفي شعره الأمثلة العديدة على ذلك، دون أن يفارقه التغني بالحياة وتمجيدها في أجمل قصائده ولا سيما قصيدتيه اللتين أنهى بهما (فصل في الجحيم) و (إشراقات).

ثمة درس آخر يقدّمه لنا هذا العبقريّ/الطفل؛ ألا هو قدرته على تفجير الشعر، بكل ما تحمله كلمة تفجير من حداثة واجتراح أشكال رغم عدم حبي لهذه اللفظة، ليس من خلال ما هو جديد بحت في الأشكال وإنما من خلال قديمها أيضا. لقد كتب رامبو قصيدته-الحدث "المركب السكران" بالبحر الاسكندري الشائع، دون أن يعيق هذا الشكل رؤاه وفرادة مضامينه الجديدة على الشعر. مثلما فعل ذلك فيما بعد لوركا حين كتب أغاني غجرية بالأوزان التقليدية، ومثلما فعل نيرودا في أجمل دواوينه (السونيتات)، ومثلما استعار إليوت الأغاني الشعبية والفولكلور في قصائده المتأخرة، ومثلما فعل قبلهم بودلير في ديوانه الرائع (أزهار الشرّ) .

* في سنة 1981، و هي سنة كتابة قصيدة "البركان العدني"، صدرت لك ترجمة لديوان "كلمات" للشاعر جاك بريفير. ألم تعمد إلى ترجمة نصوص لرامبو آنذاك؟ ما الذي دفعك بالتحديد إلى تمثل عالمه؟ هل كان لتشابه تجربتكما في عدن دخل في ذلك، أم هو مجرد ذريعة لبحث حثيث عن بلاغة جديدة؟

** لم أترجم أي نص لرامبو ولم ترضني معظم الترجمات التي اطلعت عليها لا لقصور في الترجمة، وإنما لصعوبة شعر رامبو وصفائه الغامض وامتلائه بالصمت وإحالته لوقائع في غاية الخفاء طمستها ثقافة مؤدلجة ونقاد متحذلقون وتجار أدب وسرياليون مهرجون شطروا رامبو شطرين ليمحوهما معاً: متمرداً وليس ثائراً. تاجر رقيق وأسلحة و ليس شاعراً لايزال هناك ما يربطه بماضيه عبر رسائله وقراءاته وتصرفاته وتعامله مع السكان الأصليين وتعلمه لغاتهم هو المشغوف باللغات التي أجاد بعضها حين كان طفلاً كاللاتينية.

لقد محوا نصفه الأول بممحاة التجريد ليصبح شعره وكأنه شعر محض بلا أثر من واقع فلا كومونة باريس هناك ولا يدا ماري ، ولا قصيدته الشهيرة عن عبدالقادر الجزائري. لا أدري كيف يستطيع مترجم أن يترجم ، على سبيل المثال ، قصيدته "ديمقراطية" في إشراقاته بدون إدراك العلاقة التي تربط أبياتها بموقف رامبو السياسي من الأحداث ؟ كم تبدو غبية ترجمة هذه القصيدة حتى في الترجمات الإنجليزية الحرفية البليدة . لم أقرأ قصيدة مترجمة بهذا السوء في العربية أو الإنجليزية كترجمة هذه القصيدة رغم الشروحات والإشارات التي تحدثت عنها كشروحات والاس فاولي في كتابه (رامبو).

قد يحدث أن لا تترجم لشاعر تفضله وتترجم لشاعر ليس هو شاعرك المفضل ولا قصائده هي المفضلة بالضرورة، ولكنني كنت دائم الرجوع إلى رامبو كغيره من الشعراء الذين أحبهم لتأمل تجربته ، وقراءة أشعاره التي لم يتم تمثلها بشكل صحيح في نقدنا أو شعرنا العربيّ، ولا سيما إشراقاته أو منمنماته كما تفضل ترجمتها وكما يفضل ترجمتها صديقي الشاعر المغربي رشيد وحتي الذي ترجم "البركان العدنيّ" إلى الفرنسية معبّراً عن حبه الكبير لها.

* و ماذا عن تشابه التجربتين؟

** نعم كان لتشابه التجربتين دخلٌ كبير في ذلك. كان رامبو يسكن، كما قلت، على مقربة من سكني في عدن . يرى ربما الأشياء ذاتها، ويعلن عن ضجره الشبيه بضجري ، ويعيش مشاعر متداخلة من المحبة والكره في آن واحد، تاركاً للمحبة من الظلّ ما يحجب جحيم شمس عدن التي يسميها (الصخرة البشعة) و (حمم الرمل)، مسكوناً بالمجازر التي خلفها وراءه.. مجازر الكومونة مثلما كنت مسكوناً بها حين قدمت إلى عدن .

* لقد أهديتني من قبل نسخة من كتاب يحمل ترجمات الشاعر بدر شاكر السياب للعديد من الشعراء العالميين كانت من بينهم قصيدتان لرامبو. هل كان للسياب تأثير في هذا المنحى؟ هل كان له سهم في التعريف بتجربة رامبو و إثارة أسئلتها في الشعر العربي؟

** لا أعتقد أنّ كتاب السياب يخلو من هذا التأثير في التعريف بتجربة رامبو والشعراء الآخرين الذين احتواهم الكتاب لا سيما أن الكتاب لاقى انتشاراً واسعاً وقت صدوره وحتى الآن ، لكن ينبغي عدم المبالغة في هذا التأثير الذي أسهم فيه بشكل أوسع، كما أعتقد، كتّاب آخرون كالأديب السوري صدقي إسماعيل الذي كان لكتابه الصغير عن رامبو أثر بالغ رغم بساطته ونواقصه .

* تصف إديث سيتويل رامبو بأنه "مدشن إيقاعات النثر الحديث". إلى أي حد أفدت من صنعة الكتابة التي تميزت بها بلاغة رامبو الحديثة؟

** لم يكن رامبو حاضراً في قصيدة "البركان العدنيّ" وحدها، وإنما كان حاضراً بشكل خفيّ أو غير مباشر في قصائد عديدة أخرى لا كمثال أستلهمه في هذا التعبير أو ذاك، في هذا الشكل أو ذاك، في هذه الاستعارة أو تلك، وإنما في روحه المبثوثة في شعره حيث يقترن الضوء بالظلّ، الصوت بالصمت، التجريد بالملموس وتختلط الأحاسيس لا بفوضى كما يتصور البعض بل بنظام مدهش يعبر عنه هذا البناء المحكم في القصيدة.

كان رامبو حاضراً بصمته في قصيدتي "هجس".. صمت أحسسته يشيع في إشراقاته وقصائده الأخيرة في (فصل في الجحيم) كقصيدة "وداع" التي أشعر وكأن مكانها في إشراقات وليس في (فصل في الجحيم) .

أنتَ مائدتي
وابتهاج المريض بعافية الزائرين
أنتَ وقع الخطى في النهار ..
وأفراح عائلتي
أنتَ صمتي أحاوره ..
وانتظاريَ في الصمت
والصرخات الخبيئة في رئتي
أنتَ فوق طريقي رنين خطى العابرين

إذا كان لي أن أختار أبياتاً أفضلها من شعري فإنني سأختار هذا البيت من بينها:

أنتَ مائدتي
وابتهاج المريض بعافية الزائرين

في هذه القصيدة، التي لا تشبه قصائد رامبو أبداً في ظاهرها، هناك مسعىً للتخفيف من وطأة ثقل.. وطأة مادةٍ قد تعلق بالواقع والكلمات. ثمة صرخات خبيئة ولكن ثمة خلفية لهذه الصرخات هو الصمت. ثمة رنين، ولكن ثمة خلفية لهذا الرنين هناك هو الصمت. حتى الخطاب الموجه إلى ذلك المجهول إنما هو خطاب أقرب إلى الصمت.. خطاب شخص واحد.. خطاب صامت. كان رامبو حاضراً أيضاً في مجموعتي (النقر على أبواب الطفولة) بشكل خفيّ بعيد في قصائد هنا وهناك وفي قصيدة "قوارب"، دون أن يكون له أثر ما.. هذا العابر الهائل بنعالٍ من ريح..

* إنني أكاد أن ألمس في قصيدة "البركان العدني" مسحة من الاحتفاء بشعر رامبو و في نفس الوقت هناك نوع من اللعب و المناورة مع عبارات وردت في قصائد "فصل في الجحيم" و"منمنمات" (Illuminations)، و كأنك تحاول أن تتمثل عناصر الحداثة دون السقوط في شرك التقليد الساذج للشاعر الفرنسي. هلا كشفت للقارئ بعضا من أسرار الصنعة الخفية في هذه القصيدة بالذات؟

** لقد حذّرتني في سؤال سابق من الوقوع في شراك التفسير وكشف الأسرار وها أنت الآن تدعوني إلى كشف بعضٍ منها.

* أرجو أن تشفع لي شغف القارئ و شغب فضوله...

** حقّاً ثمة عبارات لرامبو وردت في قصيدتي البركان العدنيّ مثل "الصبر المتوهج" في قصيدة "وداع" و "غناء الملائكة المتصاعد من السفينة في "دم فاسد" و "عش النار" في "ليل الجحيم" وغيرها من التعابير الأخرى وأغلبها في (فصل في الجحيم)، فالتعبير الأول يرد في قصيدتي: منطفئ صبرك المتوهج، والثاني يرد في هذه الأبيات: أي جحيم رأيت؟/ المراكب تهوي إلى القاع/ تفتح بركانك العدنيّ /وتصعد محترقاً في الغناء.

ولكن القصيدة أرحب من هذه التعابير وغيرها في تمثلها لروح رامبو في نصوصه عامة. وبعض هذه التعابير فاجأتني في ما بعد لورودها في قصيدتي، إذ لم أفطن لورودها أصلاً في قصائد رامبو.

* إلى جانب الاقتراض من تجارب الشعر المختلفة، هل بمقدور الشعر أن يكتفي بذاته و تراثه دون أن ينفتح على عناصر جديدة من أشكال التعبير المستجدة و المحدثة؟

** لا أعتقد أنّ الشعر يكتفي بذاته يوماً ما فهو في حركة مستمرة بين ذاته وخارجها حتى يمكن القول أن الخارج نفسه لم يعد خارجاً وقد تمثله الشعر ليصبح جزءاً من نسيجه الحيّ. هل يمكن، مثلاً، أن أفصل الشعر في العصر العباسي عن التيارات الفكرية والفلسفية آنذاك؟ هل يمكن أن أفصل شعر إليوت عن تجارب الآخرين كتجربة جيمس جويس في الشكل والتيارات الفكرية في عصره كفلسفة برادلي مثلاً. وهذا ينطبق على شعراء آخرين. اكتفاء الشعر بذاته يعني موته وعزلته عن أشكال الحياة الأخرى . لا يغتني الشعر بفراغه بل بامتلائه بالآخر وهذا ما لا يدركه الذين يحملون ازدراء ومقتاً للفظة الآخر، حضارةً وأساليب وآخرين. الوجه الآخر لهؤلاء المنغلقين ضيقي الأفق أولئك الذين لا يرون الأشياء إلاّ في تجريدها، والحداثة إلاّ في أنماط أشكالها، وما امتدادهم إلى مناطق العزلة الأخرى في الثقافات الأخرى، في حقيقته، إلاّ عزلة معكوسة لا ترى غنى الواقع في تنوعه الذي يمتدّ ابتداءً من الأساليب العصرية المعقدة وانتهاءً بالأساليب الشعبية الموروثة التي تحفل بها الثقافة المحلية والثقافات الأخرى.


* في "وردة البيكاجي" استثمار لتقنيات المسرح من "مشاهد" و "حوار" و "مونولوغ" (وهي عناوين لقصائد معينة في الديوان) إلى حد أن أحد النقاد اعتبر أن "قصيدة عبد الكريم تنبع لديه من حس مسرحي متمكن من أدواته". ما مدى حضور هذه القصدية في بناء القصيدة لديك؟ أليس هذا النزع من التفاعل بين أشكال التعبير المختلفة هو جزء من تحديث الشعر؟

** ليس ثمة قصدية وإنما للواقع في القصيدة أشكاله العديدة المفتوحة على كلّ الأجناس الأدبية بلا استثناء. يسرّني أن يعتبر أحد النقاد أن قصيدتي " تنبع من حسّ مسرحيّ متمكن من أدواته "، أتمنى ذلك أن يكون حقيقيّاً. هل هذا التشخيص هو الذي يفسر نجاح مسرحيتي الشعرية (حكاية جنديّ)؟، وتفضيل مخرجها البريطاني، أندرو ستاغل (Andrew Steggal) النص العربي على النص الإنجليزي المترجم عن الفرنسية و المكتوب شعراً أيضاً بطريقة الدوبيت كما عبّر لي عن ذلك المخرج نفسه، رغم التقليد الراسخ في المسرح الشعري الإنجليزيّ وتجاربه العديدة التي لم تكن مسرّة دوماً.

المشاهد والحوار والمونولوغ ليست تقنيات مسرح فقط وإنما هي واقع له أشكاله الغائرة أيضاً في الروح. لا أدري لماذا تقترن هذه الأشكال حين يرد ذكرها بالإيقاع، بما هو لصيق بروح الإنسان وروح الشاعر بالذات. ألا يتجلى إيقاعنا الداخلي في هذه الأشكال أكثر من غيرها: حين نحدث أنفسنا أو نحدث الآخر أو نحدثه ونحن نصغي لأنفسنا أو حين نتفرج ونحمل مشاهد الحياة معنا وقد لا تفارقنا هذه المشاهد أبداً وقد تغيّر إيقاع حياتنا بأكملها. المشاهد واقع القصيدة الصلب حتى وإن أحالت المخيلة والذاكرة هذا الواقع إلى زمن دائم الجريان.

* تصدر قصيدة "طوطم" بإضاءة مقتبسة من مسرحية "هاملت" لوليام شكسبير يقول فيها: "إن خبز الجنازة قدم باردا على موائد العرس". ما قصة هذه القصيدة الملغزة التي لها وقع خاص في الديوان برمته و كأنها كتبت لزمن آخر؟ و ما المغزى من استحضار صوت هاملت المعروف بقلق أسئلته الوجودية؟

** ثمة ألغاز في شعري إذن . هل تعتقد أيها العزيز عبدالقادر أنني قادر على حل جميع ألغازي؟ لعلّ الشيء الواضح في هذه القصيدة التي تبدو غامضة هو وضوح مفارقاتها: طوطم تقايضه القبائل وهو ليس سوى حجرٍ، بوق ينفخ في القفر، خبز جنازةٍ يقدّم في العرس ولكن بحضرة ميتين، شمعة باردة توقد ودعوة غامضة إلى ماذا؟ أ إلى مصافحة القاتل أم إدانته؟.. مفارقات واقع أملتها مخيلة، وحيرة كحيرة هاملت في اختلاط عجيب نشهده الآن على مسرح واقعنا العراقيّ بأقصى تجليات المخيلة. نعم كأنها كتبت لزمن آخر هو الزمن الذي نشهده الآن.. زمننا الحاضر.

* تؤطر ديوان "وردة البيكاجي" قصيدتان. الأولى بعنوان "ذلك البيت" و قصيدة "خاتمة" فيها نداء للوطن: أيها الوطن الغريب.. افتح/لقد أزهر قبري كالبيت/ فطليته بالحناء". تغريني هاته المقدمة و الخاتمة بمناوشة موضوعة البيت/الطريق، المنفى/الوطن التي سنفرد لها حيزا كافيا في مقام آخر. ماذا تعني لك، و لو باقتضاب، هاته الكلمات بعد هذه الرحلة الطويلة المتعرجة؟

** قد يكون البيت قبراً والطريق نزهة ولكنها لن تكون سوى (نزهة آلام)، مثلما لن يكون المنفى حتى وإن كان هبة وطناً على الإطلاق حتى لو كان الوطن الأصلي منفىً حقيقيّاً، وبين هذين الواقعين ثمة أوهام وعذابات ومراجعات شتى لن تستقر يوماً حتى لو بدت علامات رضىً تلوح هنا وهناك.

*يبدو أن رحلة الألف ميل ابتدأت بخطوة واحدة إلى عدن. هل تنظر خلفك بغضب أم بطمأنينة ورضا.

** الغضب والطمأنينة ليسا بمنفصلين ويا للأسف في تجربتي. كيف يرضى من يعيش منفيّاً ويترك خلفه أحباء وقبوراً لكن الحياة ليست غضباً صرفاً و إلاّ استحالت إلى ضجيج وصراخٍ مملّ لمعتوه، مثلما الحياة ليست رضىً في عالم يفجؤك في كلّ يوم بما يجعلك فاقداً لهذا الرضى.

الفصل الثالث

حوار الشعر و الفكر

فلسفة الشعر

*عبد الكريم كاصد، أريد أن أحاور فيك الشاعر و المفكر معا. ألا ترى، و أنت الشاعر و دارس الفلسفة،أنه من الضروري تعريف "ماهية الشعر" و استجلاء طبيعة الحاجة الإنسانية المتأصلة إلى الشعر خصوصا والتعبير الجمالي بصفة عامة؟

** لا يمكن لأيّ تعريف مهما كان عميقاً أن يستغرق الشعر. هذا العالم الشاسع التي تتجاور فيه أشكال مختلفة، وتحدث فيه ارتدادات وقفزات غير متوقعة أبداً.ً فما هو قديم قد يبدو جديداً وما هو جديد قد يبدو قديماً وما هو شفويّ قد يعاود الظهور ثانية. وفي قلب هذه الحركة حركة الأشكال التي لا تنتهي ثمة أشكال لا تبرح مكانها أبداً فهي حاضرة على الدوام كالهايكو والسونيتات والرباعيات التي يكتبها أشهر روّاد الحداثة في الشعر.

مرّة سأل مدرس الشعر في جامعة نورث لندن ما الذي يجمع قصيدة مكتوبة للأطفال بقصيدة يكتبها شعراء كإليوت و جون دن. وكان ردّ الطلاب السخرية من سؤاله. لكن سؤاله لم يكن بلا معنى على الإطلاق.. ثمة ما يجمع هذه الأشكال في وحدة مستعصية على التفسير مثلما يبدو مستعصياً سؤالك أحياناً: ما الذي يجعل هذا النص قصيدةً وذلك النص ليس قصيدة وإن احتوى كلّ صفات النص الآخر.

ثمة تعريفات لا حدّ لها للشعر حتى أصبح الشعر يشبه ذلك الفيل الذي يتحسسه العميان. وهي بقدر ما تسعى أن تكون عامة تبدو شديدة الخصوصية فيها من الواقع والوهم الشيء الكثير تماماً كالشعر نفسه. وهي في مجموعها لن تبلغ شأو الشعر الذي يسبق تعاريفه وأشكاله وشعراءه ويتقدمهم دوماً.

أسأل بدوري: هل قربنا تعريف الإنسان بحيوان ناطق من فهم الإنسان. ما يحبب لي تعاريف الشعر هو طرافتها وخصوصيتها التي تنبع من تجربة الشاعر ذاتها، وكلما كانت مصطبغة بهذه التجربة بدت لي أكثر ألفة وأقرب متناولاً ممّا لو جرّدت من هذه التجربة لتصبح كلاماً عاماً مملاّ تملؤه الافتراضات والوهم . كتبت مرة في مجموعتي الشعرية قيد الطبع: (هجاء الحجر):

لا أريد أن أعرّف الشعر
أريده أن يعرّفني

كل قصيدة هي فرح غامر.. تجلٍّ لواقعٍ جديد.. لروحٍ جديدة. الشعر فرح مطلق حتى لو كان حداداً.

* لك تعريف خاص للشعر تصفه فيه بأنه "اختراق الزمن العادي و العودة إلى طفولة الإنسان". لو نعود إلى ذاتية الإنسان الطفولية/البدائية، سنجد أن لهذا الكائن ميلاً فطريّاً لتذوق الجمال والتعبير عن الدهشة بواسطة الأسطورة و الشعر و الفكر. يبدو من خلال هذا الطرح، أن الحاجة إلى الشعر ليست ترفا مرتبطا بمواضعات اجتماعية معطاة و إنما هي حاجة أنطولوجية متأصلة في الكائن بحيث يصبح وجوده فارغا من المعنى بدون شاعرية.

** لا تعليق لديّ بعد تعليقك الجميل هذا سوى أن أقول إنّ للمواصفات الاجتماعية تأثيرها، بلا شكّ، في تشكيل هذه الحاجة الأنطولوجية فنيّا.

*لقد تأمل الفيلسوف مارتن هيدغر علاقة الجوار بين الشاعر و المفكر، و اعتبر أن الفكر والشعر ينبعان من "التفكير الأصلي للإنسان" و أن الشاعر و المفكر يشتركان في مهمة "إحضار الوجود عن طريق اللغة". على ضوء هذه الأطروحة، ما هو دور الشاعر في انفتاح الكائن على الوجود؟ و أي من القيم الإنسانية يسعى الشاعر، بتواطؤ مع المفكر طبعا، إلى صيانتها باعتبارها ميسم إنسانية الإنسان؟

** الشعر بالنسبة إلى هيدغر تجلّ للوجود بكل موجوداته، صغيرة أم كبيرة: السماء و الأرض، الآلهة والبشر ، العابر والمقيم.. تجلّ يمنح الموجودات حضورها الذي يكاد أن يغيب في الواقع. إذا أضفنا إلى هذا تأكيده (أي هيدغر) أن القصيدة هي قول الحقيقة كما جاء في كتابه (الشعر، اللغة، الفكر)، عندئذٍ تتبدى مهمة الشاعر الصعبة في الحياة في صيانة القيم الإنسانية والجمالية معاً. لذا لا تتجسد هذه المهمة إلاّ نادراً في هذا الشاعر أو ذاك مثلما لا تتجلى الموجودات إلاّ نادراً في القصيدة المبدعة حين يحضر العالم الغائب كاشفاً عن جوهره الخفيّ الذي يراه الشاعر والمفكر معاً وقد تبادلا المواقع، وأيقظ كلّ واحدٍ منهما ما افتقده في الآخر، فالشعر يقول الحقيقة، والحقيقة تقول الشعر.

علاقة الجوار بين الشاعر والمفكر تفترض من جهة أخرى أنّ للشعر مساحته الغامضة التي تنأى بالشاعر عما هو فكر محض كلما توغل فيها دون أن يعني هذا غياب الوعي الذي يظلّ حاضراً حتى في أشدّ حالات الشاعر ذهولاً وغوصاً في أعماق النفس أو الواقع بما يحتويه من أخيلة وأوهام وأساطير ورغبات تقبع خفية وراء النماذج التي تحكمه بما فيها نماذج الشعر نفسه وقد أصبحت تقاليد هي أيضاً. هذا الغوص أو الحفر الذي يقوم به الشاعر قد يقترب منه المفكر على حدّ تعبير هيدغر نفسه حين يمتلك فكره صفاء الشعر وصلابته في كتابه ذاته الذي أشرنا إليه.

إنّ اقتران الفكر بالشعر أو اقتران الشعر بالفكر لم يكن غائباً في شعر الشعراء الكبار: شكسبير، دانتي، الشعراء الميتافيزيقيون ولا سيما جون دن، إليوت، المعري، و آخرون مثلما لم يكن غائباً في كتابات فلاسفة كنيتشه والقديس أوغسطين وأفلاطون وبرغسون، وباشلار، ولعلّ ملاحظة الشاعر الفرنسي بول فاليري تلخص ما أعنيه إذ يرى في كتابات نيتشه " ذلك الجمع الحميم بين الغنائيّ والتحليليّ". ولعلّ في ما كتبه برغسون ما يقرب من هذا الجمع إذ يرى في مقالة له أن في كلّ فلسفة عظيمة تصوراً مرئيّاً للوجود .. قريباً من الخيال الشعريّ ويورد مثلاً على ذلك فلسفة باركلي وبعض الفلسفات الأخرى التي لا تحضرني الآن. وقد قرأت المقالة قبل أكثر من ثلاثين عاماً. غير أننا ينبغي ألاّ يغيب عن بالنا أن التصورات المرئية والاستعارات قد تكون وسيلة لطمس المعنى مثلما تكون وسيلة لإجلائه في كتابات الكثير من الفلاسفة ومن بينهم برغسون نفسه.

ومن الصور والاستعارات التي تحضرني الآن هو مثال الجسر الشهير الذي أورده هيدغر في كتابه (الكينونة والزمان) والذي كان موضوعاً لإحدى قصائدي التي هي بعنوان (الجسر) أيضاً:

جسرٌ تحملهُ الأرضُ
(وقد يحملها)
ويكادُ يمسّ سماءَ الله
يراه
الطفلُ جناحاً
والشيخُ طريقاً
والنسوةُ حبلاً لغسيلٍ
ينشرن عليه ملاءات الليل
فلا يبصرن الهوّة
تلمعُ تحت الجسرْ
تُرى
من يبصرُ تلك الهوّةَ
تحت الجسرْ ؟

هذه الصورة البصرية يراها كالفينو منبعاً لقصصه أيضاً في كتابه (ست وصايا للإلفية القادمة) الذي ترجمه الصديق الناقد والشاعر محمد الأسعد: صورة الإنسان المشطور نصفين في قصته (الكونت المشطور نصفين)، الصبيّ الذي يتسلق الأشجار متنقلاّ بينها دون أن يهبط الأرض، الدرع الذي يتكلم، في روايتين أخريين، مثلما يرى أن في "أكثر كتب العلم تقنيةً أو أكثر كتب الفلسفة تجريداً يمكن أن يصادف المرء تعبيراً يحفّز المخيلة البصرية على غير توقع" ولم يغفل كالفينو عن علاقة الصورة البصرية بالشعر والفكر إذ يقول: " يعمل فكر الشاعر وفي بضع لحظات حاسمة فكر العالم، وفقاً لسيرورة ترابط الصور، وهي الوسيلة الأسرع لإيجاد صلةٍ بين أشكال الممكن والمحال اللامتناهية والاختيار بينها."

قد تكون الفلسفة نفسها موضوعاً للشاعر.

في بداياتي الشعرية، حين كنت طالباً في جامعة دمشق في الستينات، كتبت قصيدة استوحيتها من خلال قراءتي لفكر كامو وانعكاس هذا الفكر على تجربتي الحياتية وبالتالي على شعري في ظرف كان يتسم بتعقيده ومأساويته ما اضطرني إلى الاختفاء زمناً، ثم مغادرة العراق الذي شهد في سنة 1963 مجزرة دموية رهيبة قام بها البعثيون إثر مجيئهم إلى السلطة آنذاك، وهذه القصيدة لم تحوها أيّة مجموعة من مجموعاتي الشعرية ولكنني سأوردها في كتابي المعدّ للطبع (أحوال ومقامات) وهي:

قابع في ظلمة الليل وفي عينيك ساحات النهار
فوقها القاتل في عكازه يمشي قتيلا
أنت لم تعرف سوى الموتى يسيرون طويلا
ثم ينهدّون في ظلّ جدار
أنت لم تعرف سوى الموت جدار
وصدى العكاز يأتيك مع الصمت ثقيلا
عبر ساحات النهار

أنت في ظلّك لا تملك غير البرد والليل دثار
تأكل الفئران رجليك ..
و نصل الساحة الأبيض -
يُرديك قتيلا
لو تهزهزت قليلا
نحو ساحات النهار

أنت حتى لو مددتَ الكفّ
حتى لو تمزقت على الصمت عويلا
سوف لا يخفيك ظلّ القاتل الأسود

لا يخفيك
والنصل سيرديك قتيلا
شاحباً
أصفر
في ضوء النهار

من جهة أخرى قد تكون القصيدة نقيضاً لموضوعها "الفلسفيّ"، تماماً، مثلما كان زرادشت نيتشه نقيضاً لزرادشت النبيّ، فأنا كتبت مثلاً قصيدة بعنوان (العود الأبديّ) لا لكي أكرّر فكرة نيتشه عن عودة ما هو إيجابي بل نقيضها حيث الليل هو زمن القصيدة، والطين، لا إنسانه الأسمى، هو ما يطالعنا الآن وقد عاد الخلق إلى أوله:

سبحانَ اللهْ !
عاد الخلقُ إلى طينهِ
وانتشرتْ أجنحةُ الليل
و(أنكيدو) غطّاهُ الشعر
وبان الذيل
وخيّرني ( إنليلْ )
بين الطين ونارهِ
سبحانَ الله ! ..
رماداً صرتُ
وآنيتي من طينٍ مفخورٍ
سبحانَ الله
سبحانَ الله

وقد لا تكون القصيدة نقيضاً لموضوعها الفلسفي بل اختزالاً و تحويراً، ففي قصيدة قصيرة جدّاً لي بعنوان (تساؤل) من مجموعة قصائد بعنوان "حكايات عن أبي" المنشورة في مجموعتي (الشاهدة):

أحقّاً كان أبي سلعةً
بيديه الشاحبتين
وبدلته الزرقاء ؟

أتحدّث عن أبي بصفته سلعةً لأشير من بعيد إلى مفهوم فائض القيمة الذي هو قوّة عمل العامل، في الفكر الماركسيّ. أي سلعته. غير أن الأب في هذه القصيدة يصبح نفسه هو السلعة لا قوة عمله.

الشعر والفكر كلاهما يتضمن الآخر فلا ثنائية هناك إلا في أذهان من اعتادوا التجريد، كما أنه ليس من الضروري أن يكون الشعر الذي يقترب من الفلسفة في فكره العميق وشموليته معقداً فالشعراء الميتافيزيقيون يتميز شعرهم ببساطة نادرة كما يشير إليوت في مقاله الشهير عنهم .

*يبدو الشعر طريقة راقية و مغايرة من طرق التعبير الإنساني، فيها الحزن الأصيل و الوعي المأساوي و مغامرة العقل الأولى و الإحساس بالمصير المشترك و ضراعة اليأس و هشاشة الكائن و طفرة الخيال الرحب و صلابة الإرادة. لكأن الإنسان يروم من خلال ابتداع الشعر احتضان الوجود برمته.

** كلام جميل ليس بعيداً عمّا تحدثت عنه في الجواب السابق في إشارتي إلى ما يراه هيدغر من علاقة بين المفكر والشاعر. إنّ مثل هذا التقدير للشعر يجعل مهمة الشعر اشدّ وطأة بالنسبة إلى الشاعر الحقيقيّ، في بعديها الجمالي والأخلاقي معاً.

* يقول هنري ميشونيك في مقابلة معه عن "شاعرية الشعر و الفلسفة"* (نشرت في مجلة الكرمل): "مما لا شك فيه أن ثمة معان مختلفة لكلمة شعر: فهناك معنى مؤصل ينبثق من أصل الكلمة باللغة اليونانية و الذي يعني خلق، و هذا ما يستتبع شيئا من التقديس، من الاحتفالية بالعالم تقود إلى احتفالية الشعر بذاته". ما رأيك بهذا التعريف الذي يجعل من الشعر رديفا لعملية الخلق؟

** ليس هنري ميشونيك وحده من يقول بقداسة الشعر. يشاطره في هذا القول مدارس شعرية عديدة وشعراء عديدون وعصور أدبية بأكملها.

يرى نوفاليس أنّ الشاعر والقدّيس كانا شخصاً واحداً ثمّ افترقا في العصور المتأخرة وقد يعودان شخصاً واحداً في المستقبل. غير أن صورة القديس كثيراً ما تقابلها صورة الشاعر الأخرى.. صورة الملعون وكثيراً ما تلتقي هاتان الصورتان في الشخص الواحد. كم من شاعر قديس أخفى لعنته في داخله، وكم من شاعر ملعون أخفى قداسته في داخله. بين القداسة واللعنة خيط واهٍ لا نلحظه أحياناً، وإذا لا حظناه لا نعيره انتباهاً وقد أصبح النقد إعلاماً والقصيدة احتفاء لا بالعالم ولا بذاتها بل بالشاعر وهو يستخدمها أداة أيضاً مثلها مثل أي أداة إعلامية أخرى.

ليس لديّ توهم، أنا المسكون بالأوهام كغيري من الشعراء، أن الشاعر نبيّ أو قديس، ولكنني ما زلت أرى أن للشاعر دوراً إن لم يتجسد تأثيره في الواقع، فعلى الأقل في لغته. وقد يكون لهذا الدور، فيما بعد ، تأثير في الواقع نفسه ( كما يطرح ذلك إليوت في مقالة له عن وظيفة الشعر الاجتماعية )، وحتى هذا الدور الذي يوعزه إليوت للشاعر لا يخلو من مبالغة في تقدير دور الشاعر، مهما كان عظيماً، فقد تكون لغة الشاعر العظيم عائقاً في تطور اللغة نفسها وفي تطور الشعر أيضاً (كما يذكر ذلك إليوت في مقالة له عن ملتون) لذلك أجد صعوبة في تعريف الشاعر من خلال دوره في التأثير في اللغة .

ما يقلق ليس الحديث عن الشعر باعتباره خلقاً وإنما علاقته بغيره من وسائل العصر التي نشهدها وهي تتطور بشكل هائل: هل الشعر ضروري في هذا العصر؟ هل ثمة متسع للغناء؟ الجواب سيكون بالإيجاب حتماً، ولكنه إيجاب مفعم بالشك. هل سيعود الشاعر ثانية نبيّا صارخاً في البرية؟ أم أنه سيكون أكثر دهاءً، مثلما نرى الآن، في محاولته التلاؤم مع ما يحيط به من مؤسسات وإعلام يقول من خلالها كلّ شئ إلا الحقيقة.

ألا يبدو الحديث عن القداسة كفناً لتغطية واقع مريرٍ يعيشه الشعراء الملعونون أو المنسيون وسماءً لنجوم شعراء. إنها لعبة التعريفات: هل الشعر يعرّف الشاعر أم الشاعر يعرّف الشعر. لو كان الشعر قداسة حقاً واللغة المقدسة مدركة لما مرّ شعراء عظام لم تر النور أشعارهم: أميلي ديكنسون، جون دن. روبرت هربرت، والشاعر العظيم هوبكنز الذي لم يستطع أن ينشر حتى قصيدة واحدة بلا عذاب.

أليس الشعر انتهاكاً للمقدس أيضاً؟ و اقتراباً من الأرض لا من السماء في شعر الكثير من الشعراء.

إنّ الحديث عن قداسة اللغة والشعر هو وليد اتجاه متطرف في ثقافة تعتني بكلّ ما هو مجرّد ميتافيزيقيّ وتحتقر كلّ ما هو حسيّ حتّى لو كان تجربة، نجد امتداداتها في موت الإنسان أو موت المؤلف . . ثقافة يبدو لها استيعاب ما هو حسي أصعب إدراكاً مما هو مجرّد ، فلا غرابة أن يقول فيلسوف وكاتب كبير كسارتر إنه لم يفهم كتاب رأس المال لماركس الذي يعتبره فريديريك إنجلز كتاباً واضحاً وبسيطاً كما جاء في كتابه (موجز رأس المال).

إنّ ميشونيك المسحور باللغة، يغفل ما احتوته اللغة المقدسة مما هو أرضي غير مقدّس، لكنني يمكن أن أفهم الوجه الآخر لهذا الطرح الذي قد يتضمن القيمة المعطاة للشاعر ودوره في الحياة إذا تجنبنا الحديث عن المجتمع أو دوره في اللغة نفسها إذا ما صرفنا النظر عن مهمات الشاعر الأخرى، غير أن المغالاة في تقييم اللغة وتقديسها كما أشار ميشونيك نفسه في المقابلة التي أشرتَ إليها قد تفضي إلى ما هو نقيض القداسة من أحكام .

* تعتبر الأشعار و الأناشيد التي أبدعها "الإنسان العراقي" من أقدم النصوص الاحتفالية والدينية والشعرية التي عرفتها الإنسانية، و أولها ملحمة جلجامش التي تعتبر أقدم نص شعري مكتوب حتى الآن. و هو نص، في تقديري الشخصي، يصور بطريقة خلاقة علاقة الإنسان بالوجود ومحاولته الأولى لتأمل المصير و تحويل التجربة إلى تعبير. كيف يحمل الشاعر العراقي الحديث عبء ومسؤولية تراث شعري بهذا العمق و الزخم الضارب في مجاهل التاريخ على مدى آلاف السنين؟

** لا يحمل الشاعر عبء مسؤولية تراثه وحده، وإنما هو يحمل عبء وتراث الإنسانية أجمعها.. لذلك ترى شعراء كإليوت وعزرا باوند وأكتافيو باث ورامبو وغيرهم كثيرون مشغولين بمعرفة اللغات والتجارب الأخرى، والاستفادة منها في التعبير عن تجاربهم . وهذا ما فعله الشعراء العرب المجدّدون : السياب والصبّور والبياتي و أدونيس في تطوير تجربتهم وتجربة الشعر العربي المعاصر. ولم يكن الشعراء الذين لم يتسنّ لهم الاطلاع على اللغات الأخرى بأقلّ منهم شغفاً في معرفة التجارب الشعرية المختلفة في لغتهم أو في اللغات الأخرى، لوركا مثلاً وشغفه بالشعر العربي عن طريق المستشرقين من أصدقائه ممن لهم معرفة بشعرنا العربيّ، ورغبته في النفاذ إلى روحه التي انعكست صافية في ديوانه (تماريت). وقد يكون في محاولته هذه أكثر وعياً من شعراء عرب كثيرين في إدراك ماهية تراثهم وأهميته. ولا يخفى تأثير إدغار آلن بو في الشعر الفرنسيّ في الوقت الذي لم يكن تأثيره في لغته بمثل هذا العمق والاتساع، إذ لا يرى إليوت في نثره أو شعره ما يراه الشعراء الفرنسيّون بسبب معرفتهم المحدودة باللغة الإنجليزية وأساليبها وهو يقصد بذلك مالارميه و فاليري بالذات.. وما تخلل ترجماتهم من ضعف وأخطاء وهذا ما أشارت إليه سوزان برنار أيضاً في كتابها المعروف عن قصيدة النثر. وهذا ليس نقضاً لما قلتَ بل تأكيداً على مسؤولية الشاعر تجاه تراثه لاسيما إذا كان هذا التراث من العمق والشمول ما يجعل مسؤوليته أكبر وامتداده أبعد يتعدّى زمنه إلى أزمنة أخرى ، حين يقترب الواقع من أسطورته، والإنسان من طبيعته ، وتصبح اللغة نشيداً كونيّاً.

أما إشارتك إلى ملحمة جلجامش وهي تلخص بالفعل الكثير من النصوص الاحتفالية والدينية والشعرية الأخرى ، مثلما تلخص ثقافة وموروثاً شعبيّا سابقين فهي ذات أهمية خاصة تستدعي التوقف لما تحمله الملحمة من خبرة شعرية، امتزج فيها الشفويّ والمكتوب، العام والخاص، الفرد والجماعة، الزائل والخالد، وانصهرت كلّ هذه التناقضات في أتونها الشعريّ الذي أتى عليها جميعاً، لذلك كان مسرح الملحمة الأرض والسماء معاً.. الحضيض والعلاء وما بينهما من مسافات موحشة يطرقها البشر متشبهين بالآلهة ليعودوا بشراً ينتظرهم الموت وعالمه السفليّ حيث يخلّف الميت جسده هناك ليعانق القادم من أرض البشر روحاً بلا جسد ليخبره أنّه خلّف جسده وراءه نهباً للدود كما جاء في أحد النصوص التي ورثتها الملحمة.

ولعلّ أغرب ما في الملحمة هو أن العاديّ لا يقيم بعيداً عن الخالد فأتونابشتم، حين يلتقيه جلجامش لا يبدو إلهاً بل إنساناً بالغ البساطة. شعرٌ أرضيّ محوره الإنسان في عذابه وهو يجوب السماء والأرض ولا يقف عند تخوم معينة كأنما كتب عليه الترحال الدائم .

ولعلّ من الغرابة أيضاً ، وما أكثر الغرائب في أرض جلجامش والرافدين، هو وقوف الشعراء عند أطلال مدنهم، أسلافاً وأبناء وكأنّ لعنة أبدية تلاحقهم، وقد تلاحق من يأتي بعدهم من شعراء أحفاد.

ولم تكن النصوص الأخرى بمنأى عمّا ذكرته من سمات طبعت الملحمة، كالنص الذي يتحدث عن دوموزي (تموز) وإنانا (عشتار) مثلاً، لما فيها من ألفة وعادية مشحونة بالغناء ما يجعل سماءها أرضاً وآلهتها بشراً ومقدسها عادياً ومركزها هامشاً ، وطقوسها أحداثاً لبشرٍ عاديين لا آلهة خارقين يحبون ويبتهجون ويخشون ما ينتظرهم من أحداثٍ، ويمارسون الحب، كما يفعل البشر ليغدو الكون شيئاً آخر.. حلماً أو أسطورة.

لم يصلنا هذا التراث عبر وراثةٍ ، ليؤثر فينا ، وإنما من خلال ما خبرناه من تجربة لم تزل تلاحقنا حتى وقتنا الحاضر، لذلك يبدو الشعر العراقي تياراً حقّا، كما تفضلت، يمتدّ من النصوص الأولى مروراً بشعرائنا العظام في العصور المختلفة الماضية وانتهاء بالسياب وما تلاه من أجيال لاحقةٍ.. تيار أرضيّ يتطلع إلى السماء دون أن يفارق واقعه وتفصيلاته الغنية التي لن تنتهي أبداً مهما ارتاد الشعراء من مجاهيل في هذا الواقع. أما هؤلاء القادمون بهلوسات كاذبة فهم ليسوا بغريبين عن هذا التيار وإنما هم غريبون عن الشعر عموماً.. وليس لهم من موقع في هذا الشعر إلا كموقع من يُورد اسمه للإحصاء مهما علا ضجيجهم.

وفي هذه المناسبة أحيّي فيك جرأتك في التعامل مع هذه الملحمة العظيمة، ملحمة جلجامش التي ألهمت شعراء عالميين كثيرين ولا تزال، عبر عملك (عودة جلجامش)، إذ ليس من السهل التعامل مع ملحمة احتوت على مواقف وتحوّلات عصية على التناول، وإن بدت بسيطةً في ظاهرها.

* انطلاقا من هذه الزاوية، كيف أفاد عبد الكريم كاصد من التراث الشعري الرافديني؟ و كيف يسجل انتماءه لمجرى تياره العظيم؟ ثم هل يحتاج الشعر دائما إلى فكر كبير كي يكون؟

** ثمة مجرى تيار خفيّ في داخلنا ينبثق فجأةً بين فترةٍ وأخرى، متخذاً شكلاً ما: قصيدةً مسرحيةً، نصّاً. أول النصوص التي انبثقت لديّ كانت قصائد قصيرة كتبتها عن عشتار وجولا، الفتاة الرهينة التي ورد اسمها في بعض الألواح الطينية، وأخرى، لا أذكر منها في بداياتي الشعرية غير هاتين البيتين التي أخاطب فيها عشتار:

علقيني ..
علّقيني فوق كتفيك رداء
ذكرٌ في الصبح أنثى في المساء

وظلّ هذا التيّار خفيّاً ينبثق بين فترةٍ وأخرى ، رغم ابتعادي عنه ، إذ أنني أذكر أن قصائدي الأولى المستوحاة من تراثه كتبتها بعد اطلاعي عليه وقراءاتي المتواصلة له، لكن ما يحيّرني أنني كتبت قصائدي اللاحقة المستوحاة منه وأنا بعيد عنه أي أنه لم يكن شاغلي الأساسي. و فجأة وجدتني أكتب قصيدتي (ألواح)، التي منها هذا المقطع الموسوم (أوتنابشتم) في مجموعتي (قفا نبك):

لم يشأ أن يتطلع من بابٍ
أو نافذةٍ
أو حتّى من ثقب
وقد اربدّت السماء
وارتجّت الأرض
واهتزّت السفينة التي ظنّها بيته يوماً
تاركاً الريح تقذفها في مهاوٍ
لم يرجع منها بشرٌ
و جبالٍ
لم يشهدْ كذؤاباتها ليلٌ
منصتاً لصفير الأبديّة
في خلاءٍ معتم
وهو لا يكلّم أحداً
ولكن ما يحزنه الآن
هو هذا السكون المطبق
سكون السفينة
راسيةً في الأوحال

بعدها كتبت قصائد عمّا يجري في العراق الآن فانبثق (الثور السماويّ):

ثور سماويّ
أغار على حقولك
فالتجأت إلى المعابد
ضارعاً
حتّى إذا طال الخوار
خرجتَ من تلك الضراعة
ساحباً
ناساً وأطفالاً وراءك
إنّه الثور السماويّ
احترس
أظلافهُ حجرٌ
قرونه غابةٌ
وخطاه رعدٌ
ما الذي أبقى
وماذا أنت قد أبقيتَ
ثور هائجٌ
يمشي على قتلاك
ثمّ يطير
صوب سمائه
ثورٌ
سألتك أنتَ
أيّةُ حكمةٍ أبقى
وأيّةُ حكمةٍ أبقيتْ
ثورٌ هل ذبحتَهُ ؟

ولعل من الغرابة بمكان إنّ من بين أواخر قصائدي قصيدة تستوحي هذا التراث أيضاً وتتحدّث عن إنليل و أنكيدو وقد أعود مستقبلاً لهذا التراث منقّباً لا عن آثاره بل عن روحي الضائعة فيه من يدري ؟

أما عن الفكر وحاجة الشعر إليه فإن هذا أيضاً لا يمكن تناوله بمعزل عن تعييناته أو تطبيقاته في القصيدة: هل الفكر بمعزل عن الأحاسيس والتجربة في القصيدة؟ كيف يتمّ التعبير عن هذا الفكر؟ ماذا يعني الفكر الكبير؟ هل الشعر ذو الإحساس المرهف العميق الذي يبدو بعيداً عن الفكر يخلو تماماً من الفكر؟ من الذي يحدّد أن هذا فكر وهذا ليس بفكر؟ وحين يبتدع شاعر شكلاً غنائيّاً عذباً بسيطاً.. أ يخلو هذا الشكل من عناء الشاعر الفكري في البحث عنه والعثور عليه؟ أليس الفكر الزائد مضرّاً بالقصيدة كالملح الزائد في الطعام؟ كيف لنا أن نفصل الأفكار عن الأحاسيس في القصيدة الواحدة؟ أين يبتدئ الفكر و أين تنتهي الأحاسيس؟ وأسئلة أخرى؟.. لذلك أفضل البحث في هذه المسائل ذات الأهمية الكبيرة من خلال القصيدة ذاتها أو منجز الشاعر ذاته، وليس عبر الإطلاق الذي قد لا يوصلنا إلى الدقة التي يتطلبها البحث في الشعر؟

صور الشاعر

* في منجزك الشعري ككل، هناك انشغال واضح بصورة الشاعر و وضعه و أسئلته. و قد وجدت في ديوانك "دقات لا يبلغها الضوء" (بيروت 1998) ذريعة ملائمة لمساءلة موضوع "صورة الشاعر" من منطلق قراءة تدعي أنه ديوان مكرس للشعراء بامتياز. هل كان هاجس محاورة الشعراء حاضرا بوعي لديك؟

** قد يشبه طريق الشاعر طريق المتصوف. كلاهما مدفوع بالمحبة أكثر مما هو مدفوع بالمعرفة . على الرغم مما تولده المحبة من معرفة والمعرفة من محبة. وأنا حين تناولت هؤلاء الشعراء لم يكن في ذهني تقديم صورةٍ للشاعر بقدر ما كان في ذهني علاقتي المباشرة بهؤلاء الشعراء، التي هي علاقة مبعثها المحبة إلا في قصيدتين قصيرتين هما: (هزيمة) و (مربد). من هذه العلاقة لا من أية فكرة مسبقة عن الشاعر تتكون صورة الشاعر التي هي ليست واحدة بل تتعدّد بتعدّد الشعراء في عالم بدأ يفقد وحدته التي طالما تغنى بها فلاسفة القرن التاسع عشر خاصة ، يقابله فن بدأ يفقد حدوده أو خاصيته ، وإن ظلّ الشعر حاضراً ببداهته رغم تعدّد الأجناس الأدبية و اختلاط الأشكال والرؤى التي قد يلخصها تعبيرك (غموض العبارة).

* يتكون هذا الديوان تحديدا من فصول. ما دلالة هذا التقسيم؟ هل الفصل يمثل وحدة موضوعية، أم هو شكل جمالي مقترض من أجناس تعبير أخرى كالرواية و المسرح على سبيل بناء جسور مع تلك الأجناس؟

** أتصور أنه يمثل وحدة ولكنني لا أدري إن كانت موضوعية أم لا، بالإضافة إلى احتوائه شكلاً جمالياً أسميه أنا ترتيباً إلى حّد ما.

* في القصيدة الأولى من "فصل الشعراء" هناك نداء لشاعر المعرة في صيغة "يا أبا العلاء". يستدعي هذا النداء صورة الشاعر الأعمى، و نفس الثيمة تعرضت لها بشكل صريح في القصيدة المحورية "دقات لا يبلغها الضوء" التي تستثمر فيها استعارة الشاعر/ الرائي. هلا حدثتنا عن ثنائية البصر و البصيرة، المرئي و اللامرئي. و لم ارتبط الشعراء الكبار بهذه "الفضيلة". وكيف أن الرؤيا تستدعي العمى؟ تحضرني الآن أسماء كل من هومر و بورخيس و دانتي و وليام بليك و أبو العلاء المعري و أبو تمام؟

** هذه انتباهة جميلة حقّاً. لِمَ ترتبط الرؤيا بالعمى لدى هوميروس، ملتون، المعري، بورخيس. هل لأن الشاعر حين يفقد عينيه يعوضهما ببصيرة القلب.. بوصلة الشاعر في هذا العالم؟ هل التحديق الطويل في الظلام أقدر على كشف الأسرار، واختراق الحجب عمّا هو جوهري عبر أعراض نافلة يتوقف عندها المبصرون؟ هل لأن العمى خلاص من هذه الأعراض وبريقها الزائف التي يواجهها الأعمى ببريق آخر هو بريق الجوهر المتجسد في حكمة راسخة أو عابرة يظنها الآخر حكمة المفكر مثلما ظن طه حسين في كتابه (مع أبي العلاء المعري) أن حكمة أبي العلاء ليست من الشعر وهي المستلة من الوجود ذاته، من الروح ذاتها في تجربتها المعذبة ومن عذاب الجسد نفسه في مواجهة العماء. لا أدري كيف صدر ذلك الحكم من طه حسين المحب لأبي العلاء ولشعره، والبصير مثله؟ غير أن الرؤى قد تفارق تجربتها فتضحي أفكاراً ليس موضعها قلب الرائي بل ذهنه المتوقد الذي قد ينطفئ في طريقه إلى فكر الآخر القارئ لا إلى قلبه وهذا ما حدث للشاعر الإنجليزي العظيم بليك حين اختلق أساطيره بذهن تجريديّ.

ما نسمّيه رؤيا قد يسميه الآخرون عمىً، لذا ترتبط الرؤيا دائماً بالجنون والعمى. و هي أساساً ما يردنا في نومنا من أحلام حين نكون مغمضي الأعين أي حين نكون مغلفين بالعمى، وكأنّ العمى مرحلة أولى للإبصار:

قلت لأبي العلاء:
" أراغبٌ أنت في الإبصار يا أبتِ؟ "
قال: كرغبتك أنت في العمى

كيف تتجلى أشياء لم تزل في رحمها للشاعر وكيف يصدّقها الآخر الذي لا يرى الأشياء حتى في تجليها؟ البصيرة هي بصر الشاعر الحقيقيّ وليس المهرج "الأنانيّ الذي يدعي أنه خلاّق"، على حدّ تعبير رامبو.

* قصيدة "دقات لا يبلغها الضوء" هي الوحيدة التي وضعت عليها تاريخ كتابتها في هذا الديوان فيما درجت في دواوينك السابقة على تأريخ جل القصائد تقريبا. هل ترتبط هذه القصيدة بحادثة ذاتية معينة خصوصا و أنك تضعها في "فصل المرض"؟ "من يعيرني عينين/لأبصر دموعي" ما كل هذا الألم الضاري؟

** لم أنتبه لذلك، وحين عدت إلى الديوان وجدت أن جميع القصائد غيرمؤرخة باستثناء هذه القصيدة. وهذا محض صدفة ولكنها قد تكون ذات دلالة تفسّرها الدراسة الذكية التي تناول فيها الديوان الشاعر والناقد السوداني محمد جميل أحمد معتبراً إياه شعراً محضاً غير مرهون بما هو نسبيّ أبداً وقد تخففت الأشياء من ثقلها وغدت إشارات تضئ . أما قصيدة (دقات لا يبلغها الضوء) فهي شيء آخر.. شيء لن يفارق مادته حتى لو تجرّد منها. إنها القصيدة التي تشير إلى مادتها بقدر ابتعادها عنها. كتبتُ القصيدة بعد أن فقدت عيني اليمنى وأجريت لي عمليات عديدة ولم أستعد عيني بضوئها الشحيح إلاّ في عملية ثالثة أو رابعة.. رافقتها عذابات وأسفار. بعض مقاطعها تدوين لما رأيته في لحظة ما إثر عملية أو فقدان ولكن يا للغرابة أيضاً.. يا لغرابة الشعر أنّ من قرأها بعثت فيهم البهجة كيف؟ لا أدري: أ هي رؤاها التي اختلطت بالحلم ؟

لقد رأيت دوائر من ضوء
وقوس قزح بارد
في بركةٍ
وحلمتُ وأنا أحدّق في الحلم

أم هي لعبتها لعبة الضوء والظل ، الرؤيا والعمى على حّد قولك:

سأفتح أوراقي وردةً وردةً
وأغلقها
سألهو مع الماء والظلّ
واضحك كالأميرة
سأغلق أوراقي وردةً وردةً
وأفتحها
سألهو مع الشمس والليل
مع الليل والشمس
وأبكي
من يعيرني عينين
لأبصر دموعي

لماذا يقول الأعمى في القصيدة :

أنا الأعمى
لا أحبّ الأشياء الساكنة إلى الأبد
ويغيظني الضوء
والضجيج العابر
لعينيّ مئات الأبراج
ولا برج لي
أرى سفينةً ولا أرى مسافرين
أمواجاً ولا أرى بحراً
وأنازل الظلام
بذراعين عاريتين
أنا الأعمى
أنهمر كالفرح
وأبكي

كيف تفارق القصيدة موضوعها إلى جوهره الإنسانيّ؟ كيف تفارق القصيدة ألمها إلى الفرح الكامن هناك في الأعماق . هنا ربّما تتجلى قدرة الفن في الارتفاع بالفنان لا إلى رمزه بل إلى جوهره الإنسانيّ الذي كثيراً ما يغفل عنه حتى من هو أشدّ حرصاً على هذا الجوهر والتصاقاً به ، مثلما تتجلى قدرته في اختراق مادة موضوعه لإضاءته بضوء لم يوجد فيه من قبل ليصبح الفرح والحزن الإنسانيان جزءاً من وجود أشمل تنتفي فيه الأضداد ويصبح الفنان وموضوعه شيئا واحداً.

* هناك أيضا صورة أخرى جديرة بالانتباه، ألا و هي صورة الشاعر/البديل. في قصيدة "الشبيه"، تخاطب الشاعر مصطفى عبد الله، في شكل رثاء، جاعلا منه محاورا رمزيا يتبادل معك الأدوار، بنحو يختلط فيه الأنا بالآخر. تقول: "كالمهد/ أهز قبرك اليتيم/ منتظرا في الظل/ خلف شمعتي الأخيرة/ أينا الميت؟/ أينا عافه الرب/ في هذه البرية المقفرة/برية الشعر؟".

** ثمة تبادل للأدوار يتجسّد حتى في الألفاظ ، فالبيتان الأولان يترددان في نهاية القصيدة بصغية المخاطب بعد أن كانا في البداية بصيغة المتكلم . كتبت هذه القصيدة أيضاً في تلك المرحلة التي فقدتُ فيها بصري .

* في قصيدتيك "الملك لير" و "ماكبث" تتقمص ذات الشاعر إهاب شخصيتين رمزيتين هما الملك لير و ماكبث حيث تختمهما بالعبارتين التاليتين: " أيها الملك/شبيهك في القفر..أنا"، "وجهامة ماكبث/الذي هو أنا". لم التماهي مع هاتين الشخصيتين بالتحديد من العالم الشكسبيري الرحب؟ هل هو شعور بالمأساة؟ أم محاولة للارتقاء بالذات المفردة إلى مستوى الرمز الإنساني؟

** لم تطرأ في ذهني ولن تطرأ أبداً أية محاولة للارتقاء بذاتي إلى مستوى رمزٍ.. أيّ رمز فهذا ليس شاغلي على الإطلاق. سمّه شعوراً بالمأساة! ثمة غفلة وبراءة كبيرتان في شخصية الملك لير انعكست ظلالهما في هذه القصيدة لديّ أو تلك. و بعد أن فقدت بصري لا أدري لم كان الملك لير يتمثل لي بعماه وعذابه وبراءته. في قصيدتي (دقات لا يبلغها الضوء) يحضر الملك لير في هذه الأبيات في خاتمتها:

عيني التي أضعتها كملكٍ أضاع عرشه،
في ليلةٍ حالكةٍ
آه لو أجدها ثانيةً لأضعها في القلب

أما في قصيدة (الملك لير) فيحضر بقفره وصواعقه و بروقه وهو يتعثر بأشباحه وحيداً، ومن قبل حضر الملك لير خارج القصيدة في الحياة ذاتها حين رجعت من دفن أبي في النجف فأخذت أتطلع في البشر والكائنات مذهولاً كذهول لير بعد موت كارديليا أرى الحياة التي فقدها أبي إلى الأبد وهي تنبض حتى في الكلاب.. يا للمعجزة.. و يا للحيرة ..!

لكنني حقّاً لا أجد تفسيراً لِمَ حضر مكبث أيضاً . كان ثمة صوت يتردّد في داخلي لأكتب هذه القصيدة.. صوت حسب.. ما هو؟ لا أعرف ولو تبيّنته الآن لأصبح وعياً متأخراً.

أعمى (أ تقول القصيدة ذلك ؟) ينازل منفاه ولا يدري من سيكون شهود النزال.. ولمَ ؟ ولو تردّد لأقبلت الغابة وهنا يحضر ما كبث... حقّاً إنها قصيدة ملتبسة أتعرف فيها على نفسي وهذا شيء غريب لا من خلال المعنى الواضح والدلالة الواضحة بل من خلال الصوت الطالع من القصيدة وحده، والذي أعرفه وهو يختصر عذاباً وتردّداً وحاضراً متردّداً أيضاً لا يقين فيه.

لعلّها و هي القصيدة القصيرة العابرة في الديوان، والتي قد لا يلتفت إليها أحد سواك هي الأكثر تعبيراً عن العمى الذي لا تتحدث عنه على الإطلاق.

* الشاعر الطريد. تلك صورة أخرى من صور الشاعر في هذا الديوان قد تعكسها بامتياز قصيدة "المدينة الفاضلة" التي فيها شعور بالخذلان و الخديعة و سخرية الأقدار. ألا يستطيع الشاعر أن يكون إلا طريدا؟ ألا تزال تلاحقه لعنة أفلاطون منذ طرد الشعراء من مدينته الفاضلة؟

** الشاعر في هذه القصيدة طريد من المدينة الفاضلة لا لأنه شاعر بل لأنه واحد من هؤلاء البشر الذين أضاعوا حتى الحلم بإقامة المدينة الفاضلة. لقد فقدوا وهماً كان جزءاً من واقعٍ يتحرك وفجأةً ألفوا أنفسهم واقفين لا يقوون حتى على الالتفات إلى ماضي تجربتهم. صورة الطريد هي صورتي وصورة المنفيين مثلي وليس بالضرورة صورة الشعراء جميعا.

ثمة شعراء ماهرون بمعرفة طرق الحاضر لا طرق المستقبل. ومنهم مهرجون تستدلّ عليهم بأصواتهم العالية.

* هناك خذلان آخر واقعي جدا يتعرض له الشعراء ألا وهو الإجحاف و نكران الجميل من طرف آلة المدينة. و هو ما أشار إليه الشاعر المغربي، محمود عبد الغني، في إحدى مقالاته المرهفة، عن قصائدك حيث يقول: " قرأت مؤخرا جزء من أشعار الشاعر عبد الكريم كاصد: "دقات لا يبلغها الضوء" و "قفا نبك". و هي أشعار مضت كغيرها، بلا سميع و لا سامع. فالإعلام لعب لعبته الخبيثة مع هذا الشاعر الذكي، الموهوب و القادر. حفر قبرا لقصائده أهال عليها التراب. وبقي يقضم أعشاب الشعر اليابسة. و هو الآن (هذا الإعلام) في طريقه إلى السفح، و لن تحميه الأدعية من الانهيار". ألا ترى مع الشاعر عبد الغني أن آلة النقد الإعلامي العربي تهمش الشعر و الفكر الجيد وتحتفي بالزبد الجفاء؟

** محمود عبد الغني شاعر مبدع أتابع قراءة قصائده ومقالاته الذكية التي تحتوي دوماً على وجهة نظرٍ ذات خصوصية متميزة. سرّني أن أطلع على مجموعته الجميلة (عازف الكمان) منذ وقت قريب. مقالة عبد الغني هي مقالة احتفائية تضمنت نظرات في غاية الدقّة والرهافة رغم احتفائيتها، وهي تثير مشكلة حقيقية هي مشكلة الإعلام وتهميشه لما هو جيد في الشعر والفكر. هذه المشكلة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المشاكل الأخرى التي يشهدها واقعنا. إنها جزء من هذه السوق الكبيرة الذي يتحول فيها الشعر ذاته إلى سلعة والنقد إلى رطانة لا تضئ بقدر ما تعمي وقد ساعدت صعوبة فهم المدارس الحديثة، وغموض مصطلحاتها، وخصوصية تطبيقاتها إلى مزيد من ظلامية هذا النقد .

لا أفهم كيف يرطن ناقد بالمصطلحات الحديثة ويتحدث عن العصر الراشدي الذي قتل فيه ثلاثة من خلفائه الأربعة باعتباره مثالاً. لا أفهم كيف يكتب شاعر يعتبر رائداً للحداثة عن محمد عبد الوهاب باعتباره نموذجاً للفكر المجردّ الباهر.لا أفهم كيف يكتب مفكر عربي كبير كتابين عن سلمان رشدي مستعيناً بزوجته خريجة الأدب الإنجليزي كما يذكر في المقدمة ، متهماً كل ناقديه بعدم قراءة آيات شيطانية وعدم معرفتهم بالإنجليزية.لا أفهم أن يكتب مفكر كبير عن الروائي ف.س. نايبول باعتباره نموذجاً للمثقف في العالم الثالث ثم يطرده من مدينته الفاضلة، أو يهجو لغةً ليمدحها في ما بعد.

لا يقلقني وضعي الخاص، فأنا لا أنتظر من إعلام كاذب أن يقدّم حقيقتي وهو إعلام السلطات التي نفتني ولم تتسع حتى لمنفاي، لكنني من جهة أخرى كسبت محبة الناس لي ومحبة مبدعين شعراء وكتاباً في أرجاء الوطن العربي لم أعرفهم من قبل، ولم تربطني بهم أية آصرة غير آصرة أخوة الأدب.. أنت واحد منهم، ولم يكن احتفاء المربد الأخير إلاّ تعبيراً عن هذه المحبة التي حملها إليّ أدباء العراق ممثلين باتحادهم وليس بسلطة قائمة.

* هناك من يتقن التعامل مع الإعلام و توظيف العلاقات الشخصية للتعريف بأعماله و منجزاته مهما كانت قيمتها. هل من سبب في نظرك لهذا الإهمال الإعلامي إزاء منجزك الشعري، أم هو اختيار شخصي في التعامل مع الإعلام بحذر و بدون مجازفة؟

** إتقان التعامل مع الإعلام وتوظيف العلاقات الشخصية .. هذه كلّها جزء من سمات السوق التي أشرت إليها والتي يربأ الشاعر الحقيقيّ بنفسه من دخولها . ليس فرح الشاعر الحقيقيّ في دخوله السوق بل بإبداعه . أما ما يترتب على هذا الإبداع من امتدادات أخرى فما هو إلا فروع وليس أصولاً ، هامشاً وليس متناً.

* و من قبل أثار الشاعر ممدوح عدوان، الذي تهديه قصيدتك "لعبة"، هذا الموضوع معتبرا أن غياب النقد الثقافي الجاد هو جزء من أزمة ثقافية عامة، و عرف من ثمة "النقد الإعلامي" بوصفه"المراجعة الصحفية السطحية و المستعجلة و غير المسؤولة" (حوار:الشعر، الطفولة والطفل الأبدي" الكرمل العد68 ص2001). حبذا لو نغتنم هذه الفرصة لنتذكر الشاعر ممدوح عدوان و نبسط بعضا من رؤاه في الشعر و النقد. و من ثمة نطرح بعض المؤاخذات على النقد، أو بالأحرى غياب النقد المطلوب.

** يشكّل ممدوح ظاهرة نادرة في قدراته العديدة وعطائه الغزير الذي لم يقتصر على الشعر بل شمل الرواية والنقد والمقالة الصحفية وترجمة العشرات من الكتب ذات الأهمية الكبيرة في الثقافة الإنسانية . ذكر لي أثناء زيارته لي في بيتي في لندن بصحبة زوجته وابنه الفنان والشاعر زياد قبل رحيله بأشهر أنه ترجم ما يقرب من سبعين كتاباً ، دون أن يقابل جهده هذا بما يستحقه من تكريم أو مكافأة، وما ذكره من غياب النقد باعتباره جزءاً من أزمة ثقافية عامة ليس بعيداً عن الصواب، في واقع لم يشهد استقراراً ولا تقاليد أدبية ، وقد تبلغ الأمية في بعض أماكنه 90% أو أكثر .. واقع هو مثال للبعثرة التي تتصارع فيها ثقافات عديدة: أصولية مغرقة في تخلفها المشحون بالعنف ، وثقافة سلطة مهيمنة في بلدان كثيرة لا تخرج عن هيمنتها إلاّ أصوات قليلة تجد نفسها أحياناً في وضع لا يمكنها من الاستمرار طرفاً واضحاً في الصراع بسبب تداخل المواقف وتعقيد الظرف، فتجد اليساري والأصوليّ المتطرف يقفان الموقف ذاته من هذه القضية أو تلك ، ولعلّ من مفارقات هذا الواقع هو أن الصراع الذي يكتسب طابعاً عاماً يلتقي عنده الجميع (كالموقف من الإمبريالية مثلاً) يتخذ ، من جهة أخرى ، طابعاً شديد الخصوصية هو الطابع الطائفيّ ، وفي تداخل العام والخاص ثمة فسحة لتداخل المواقف والتواطؤات والتقاطع مع السلطات وتصبح عبارة دستوييفسكي (كلّ شئ مباح) هو شعار هذه المرحلة العصية على الفهم والذي يعيش فيها المنفيّ منفاه مرتين : الغربة عن الوطن ، والغربة عن الثقافة ، ولعلّ من أشدّ الظواهر غرابة هو انفصال هذه الثقافة عن الواقع الذي تتناوله انفصالاً يصل حدّ القطيعة، فلا علاقة مثلاً بين النقد والنص الذي يتناوله ولا علاقة هناك بين فكر مفكر عقلاني ومديحه لسلطة كسلطة صدّام مثلاً ، أو بين ثروات البلد الهائلة وفقر ناسها المدقع .. بين إعلام السلطة والواقع ، وكأن ديالكتيك الواقع الذي يتحدث عنه الفلاسفة ، منذ هراقليطس، وتركيبه غائبان لا علاقة لهما بهذه الأرض التي لم تعد تتسع حتى لساكنيها، ولعلّ اللغة في هذا الواقع هي من بين القيم الأشدّ تضررا وتعرضاً للتشويه لما أصابها من عطب الاستخدام وقد لا تنفع بعض المحاولات المبدعة في تقويم هذه اللغة إذا ما استمر هذا الوضع في سديمه القائم الآن .

إذا كان ممدوح الذي يملك بيتاً بسيطاً ووظيفة متواضعة في بلده يتكلم بهذا السخط فما بالك بالمثقف المنفيّ الذي زاحمه جلادوه في منفاه، ومع ذلك لم يسلم من الاتهام والنبذ. إنها القسوة.. قسوة مضاعفة. تراها هي التي تختفي وراء هذا الألم المتراكم في قصائدنا؟

كتبت عن ممدوح قصيدتين إحداهما إثناء حياته ، وهي التي أشرت إليها في سؤالك، والأخرى بعد موته ولكنها ليست مرثية بقدر ما هي قصيدة تتحدث عن حياته هو في علاقته معي حين كنا نسكن قبواً في دمشق أوائل الستينات أيام كنا طلابا في جامعة دمشق وهي بعنوان (القبو)، كما كتبت عنه مقالة طويلة بعنوان (خفة الشاعر التي تحتمل) ومما كتبته فيها:

"كان ممدوح في السنة الثالثة أو الرابعة في جامعة دمشق وكنت أنا في السنة الأولى في قسم الفلسفة. كنا غير متشابهين حتى في مصادر ثقافتنا. كان يتنقل خفيفاً كالفراشة بين كتبه الإنجليزية التي كنا نحتار في نقلها حين نبدل سكننا – وما أكثر المساكن التي انتقلنا إليها – بينما كنت أقف متجهما كغراب إدغار آلن بو على كتب الفلسفة الثقيلة التي كان يمرّ بها ممدوح متأففا..وحين كنت أعتمد عليه أحيانا في ترجمة بعض النصوص الفلسفية التي ينبغي أن أقدم فحصاً بها كان يشترط علي مبتسماً ابتسامته الودود ألا ّ أسأله عن معنى النص بل أكتفي بالترجمة الحرفيـة. وكنـت أرضى بشرطـه علـى مضض وأكتفـي بترجمته الحرفية الخاليـة مـن المعنـى غالبا و الشبيهة بالكلمات المتقاطعة. وبالفعل كانت نصوصا تعافها النفس لهيوم ولوك وباركلي.

ولم تفارقه (خفة الكائن) هذه حتّى في كتابته في ما بعد. كانت أوّل قصيدة له تنشر في مجلة "الآداب" اللبنانية تتحدث عن المدينة.. الموضوع المفضل لدى كثير من الشعراء العرب القادمين من الريف.. من بين أحداثها، كما أتذكر امرأة تلقي بسطل ماء على الشاعر أثناء مروره تحت شرفتها، ولم يكن النقد الذي كتبه محيي الدين صبحي في عدد آخر عن القصيدة ايجابياً، ولكن ذلك لا يستوقف ممدوح بل قد يكون مفتتحا لصداقة مع الناقد... هذه الروح المرنة حقّاً كانت تعوز الكثيرين منا نحن أبناء المدن حيث يفترض العكس... كانت المدينة طموحا لدى ممدوح بينما كانت تمثل لي صراعاً. وفي الوقت الذي كنت أعمق معرفتي بالمدينة عبر قراءتي لتفاصيلها كان ممدوح يكتشفها في واقعها ذاته... يقتحمه جريئاً لا بتصميم مسبق بل بعفوية ابن الريف الذكيّ الساخر."

* ديوان "دقات لا يبلغها الضوء" مليء بأسماء الشعراء و المبدعين حتى لكأنه يبدو لي كمحفل للشعراء، أقصد بانثيون على الطريقة الإغريقية.

** أغلب هؤلاء أحببتهم غير أنني لم أعرف كيف أعبر عن هذا الحبّ.. لعلّ في هذه القصائد التي احتوت كلمات قليلة ما يعوض ما فاتني من قبل.. لعلّها تعويض متأخر لا للشعراء أصدقائي فهم في غنى عن كلماتي ولا تنقصهم الفطنة في معرفة محبتي لهم، وإنما هي تعويض عما عجزت أن أعبر عنه بطريقة مألوفة لدى الناس.

* يقول محمود عبد الغني في نفس المقال: "الهامش مكان الشاعر المفضل لمراقبة العالم". ماذا قدم لك موقعك هذا الهامش الشعري الذي تتربع فيه؟ هل أنت فعلا مرتاح في هامشك؟

** ليس ثمة مركز لأكون في الهامش. وما يُعدّ مركزاً هو الهامش بعينه . ثمة مركز واحد حقيقيّ هو تصدّرنا إعلانات العالم وإعلامه، أما ما عدا ذلك فنحن جميعاً بحجمنا الهائل في هامش صغير في العالم ، وكأننا أصبحنا لاوعي العالم بوحوشه وكوابيسه أوكأننا نواصل كابوساً لم نستيقظ منه بعد. أين المركز؟ في السلطات العابرة؟ أم في قنوات الإعلام التي يديرها الأميون؟ بل أين هو المركز حتى في ثقافتنا وقد تبعثرت في بلدان عديدة ومنافٍ شتّى وأصبح كلّ هامش مركزاً وكلّ مركزٍ هامشاً؟ ألا يعيدنا سعي الشاعر أو المثقف أن يكون في المركز إلى صورة الشاعر القديم في سعيه أن يكون شاعر القبيلة أو الخليفة؟

* حدثنا عن حكمة الخاتمة التي تقول فيها:

لم أكن أدري
أن ما قطعته ذاهبا
كان طريق الإياب
و أن أحلامي ورائي
و أنني لم أكن غير ظل يمشي
لرجل واقف

ما كل هذه المفارقات المستعصية؟ أي شعور هذا الذي يثوي وراءها؟

** هذه الخاتمة أحبها كثيرون، وهي تعكس ظرفاً خاصّاً مرّ بي كدتُ أفقد فيه بصري نهائياً. كتبت هذه القصيدة وقصائد أخرى، كما لو أنني أتحدث مع صديق عزيز بلا أيّة كلفةٍ وكأن اللغة تفيض بعد أن حبست طويلاً. إنها همس مريض لزائريه، لم يعد يعنيه مداورة اللغة وخبثها أو زخرفتها. إنها وجوده الحقيقي وصلته الوحيدة بالآخر.

منازل الشعراء

* لقد كتبت مقالات عن شعراء أحببت شعرهم و حاولت إبراز قيمة أعمالهم الإبداعية أمثال البريكان، و مصطفى عبد الله و السياب و البياتي و الجواهري. هل يمثل هؤلاء الشعراء نماذج للشاعر الحقيقي في نظرك؟

** لا نموذج لديّ للشاعر، ولكن ثمة جوهر هنالك، جوهر واحد مهما اختلفت نماذج الشعراء هو الإنسان. فقده يعني فقد الإنسانية والشعر معاً . قد تختار شاعراً وتكتب عنه وأنت لا تحمل له محبة كبيرة، وقد يجوز العكس فأنت قد لا تكتب عن شاعرٍ لصيق بك. ترجمت للكثير من الشعراء الفرنسيين ولكنني لم أترجم لرامبو. ثمة تعقيدات حقّاً من الصعب تفسيرها تماماً كما هي عليه العلاقات الإنسانية من بساطة وتعقيد في آن واحد. كتبت عن البريكان وأنا لا أحبّ عزلته، وعن البياتي و أنا لا أحبّ انغماره في لعبة الإعلام. وعن الجواهري وأنا لا أحب قصور معرفته ببعض موضوعاته (كأبي العلاء المعري مثلاً)، وعن مصطفى أخي وحبيبي وأنا لا أحب جوانب كثيرة في شخصه. لديّ الآن كتاب لم أخطط له ولكنني اكتشفت أن كل الشعراء الذي كتبت عنهم نقداً كتبتُ عنهم قصائد أيضا. لذلك فكرت أن أنشر كتاباً يحوي الدراسات النقدية والقصائد معاً وهم: أبو العلاء المعري، الجواهري، السياب، البريكان،عبد الصبور، البياتي، ممدوح عدوان، مصطفى عبد الله ، عزيز السماوي .

* إذا توقفنا عند الشاعر محمود البريكان الذي ترجع علاقتك به إلى بداية الستينات، و أعتقد أنها كانت، بالنسبة إليك، فترة التكوين و التحصيل العلمي في معهد اللغات ثم في قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية. حبذا لو تعطينا فكرة عن هذه العلاقة و من خلالها الصورة التي كان يجسدها البريكان آنذاك من خلال موقفه الشعري من العالم و إسهامه في المشهد الثقافي؟

** تعرفت على البريكان عندما كنتُ طالباً في معهد اللغات ببغداد. كنا نلتقي كثيراً في مقهىً يقابل سينما الخيام وكان يلفت نظرنا دوماً صاحب المقهى الطريف وهو يحدّث ببغاءه طول الوقت بغمغمات مكرورة وحركة أصابعَ رقيقة تنقر الهواء أو جدار القفص ، ولعلّ هذه الببغاء هي وراء قصيدة البريكان الجميلة ( جلسة الأشباح ) .

لا أدري لماذا يذكرني البريكان بالشاعر كفافي أو الشاعر البرتغالي بيسوا ، في حياته المحدودة والتزامه الوظيفيّ وعالمه الداخليّ العميق الذي لا يبارحه أبداً حتى وهو يتحدّث إلى الآخر. كان قارئاً نهماً دقيقاً حتى الوسوسة. أتذكر مرّةً أنه أراد أن يشتري كتاباً لنيرودا أو طاغور – لا أتذكر بالضبط – فأمضى وقتاً طويلاً يقلبّ عدداً من نسخ الكتاب ليختار واحدةً منها متلمساً حافاتها مهمهماً حتى اضطرني إلى الضحك الذي شاركني إياه ممتزجاً بخجله الدائم خجل المراهق الشاب لا الشاعر الشيخ. في تلك الفترة كان البريكان مدرساً في إحدى ثانويات بغداد ويعيش حياة منعزلة إلاّ من بضعة أصدقاء من بينهم محمود البياتي وهو قاص وروائي أحب كتاباته وأعتبره من أفضل القصاصين في كتابة القصة القصيرة ، كما أحبّ روايته الأخيرة ( رقص على الماء ) التي أهملها النقد . كان من أصدقائه أيضاً الشاعر عبد الأمير الحصيري .

بعد مجيء البعثيين إلى السلطة ومجازرهم واختفائي في مدينتي البصرة لم ألتق بالبريكان إلا بعد زمن طويل. كان البريكان في أوج وساوسه وتساؤلاته المؤرقة وكان كما يبدو لي أن لكتابات ألبير كامو ولا سيما كتابه المتمرد الذي ترجمه آنذاك نهاد رضا عن الفرنسية، تأثيراً واضحاً في هذه الهواجس وتقليب الأمور إلى حدّ التوقف عن الحكم . ثمّ جمعتنا الظروف ثانيةً في معهد المعلمين. كان هو يدرس االلغة العربية وأنا أدرّس علم النفس و كنت أحسده على تدريس مادته الحيادية التي قد لا تسبب له متاعب كالمادة التي أدرسها. كنا أحياناً نتخلى عن فكرة الذهاب إلى البيت ونمضي وقتنا في المدينة متناولين غداءنا في أحد المطاعم وشاينا في واحد من مقاهي البصرة الكثيرة. في ذلك الوقت عهدت له مديرية تربية البصرة مسؤولية تحرير مجلة أسماها (الفكر الحيّ) صدر منها عددان فقط احتويا على قصائد له. من بين هذه القصائد قصيدته الطويلة (هواجس عيسى بن الأزرق) وهي من قصائده القديمة تتحدث عن سجين سياسيّ يودع في القطار مقيّداً بصحبة شرطيين. وهي ليست من أفضل قصائده غير أن البريكان يعتقد أن قصائده يمكن أن تنشر في أيّ وقت ولا علاقة لنشرها بتاريخ كتابتها. ورغم صحة هذه الفكرة بشكل عام إلاّ أنها تبدو متطرفة في جوهرها، وتتعامل مع المطلق في الأشياء دون رؤية الوجه الآخر لهذا المطلق في نسبيته التي تخترق حتى الشعر. وإلا لما شهدنا الحركات التجديدية المتواصلة والبحث عن الأشكال والرؤى الجديدة ، حقيقة أكانت أم زائفة، لأن ثمة أشكالاً جديدة تبدو قديمة وأخرى قديمة تبدو جديدة. وهذا ما أعاق النظرة الموضوعية إلى شعر البريكان وامتداداته عربيّاً. لذا جاءت التقييمات متطرفة أيضاً في مديحها أو التقليل من قيمتها، وأصبحت مقارنته بالسياب موضوع إعلام عابر وكتابة عابرة، دون أن يهمها التمييز بين تجربتين مختلفتين تماماً.. بين شعر يُخفى في الأدراج وحين ينشر يفارقه المطلق إلى ما هو نسبيّ في ملامح جمالية تبدو في هذه الكلمة أو تلك، في هذه الاستعارة أو هذا الرمز.. في هذه الواقعة أو ذلك الخيال، وبين شعر أصبح تأثيره طاغياً ونماذجه مطلقاً، إن صحّ التعبير، ولا سيّما في قصيدتيه (بويب، وأنشودة المطر)، رغم شراسة النقد الذي ووجه به هذا الشعر ولا أخلاقيته من قبل بعض نقاد ادعوا الحداثة ونعتوا شعر بدر بشعر الانحطاط والتصحر والبداوة كإيليا حاوي في مجلة الآداب.

ويبدو أن البريكان أدرك ذلك فنشر بعد ذلك ، دفعة واحدة، عدداً كبيراً من قصائده الجديدة التي لا يخفى تأثيرها وأهميتها، رغم الدعوات الهابطة والهجوم المتكرر الذي يطالعنا في كتابات غير مسؤولة في بعض مواقع الإنترنيت.

* مقالك "ثمن الشعر"، الذي صدرت به عملك التحقيقي للأعمال الكاملة للشاعر مصطفى عبد الله، أثار ردود فعل جد إيجابية. هلا حدثت قارئ هذا الحوار عن محتوى هذا المقال، و عن هذه المهمة التي اضطلعت بها لصيانة تراث الشاعر وتداعياتها في الأوساط الثقافية؟

** حاولت في مقالي هذا أن أبرز احتفاء الشاعر مصطفى عبد الله باليوميّ وتخطيه له إلى نقيضه من حلم وطفولة وأساطير حتى ليبدو أحياناً وكأنه الواقع يقف مقلوباً على رأسه، أو كأنّ الشاعر يهشم المرآة ليخترقها إلى الواقع نفسه. و قد يتجاوز مصطفى اليوميّ إلى ما هو أكبر من أسئلة وجودية عصيّة على الإجابة، كما في مرثيته عن أبيه، دون أن يفارق شعره الغناء وكأنّ اليوميّ والغناء رمزان للاحتفاء بالواقع والشعر.

قد يستحيل الواقع نفسه في شعره إلى ما هو أسطوريّ كما في قصيدة (الدهليز)، يجسّده جوّ القصيدة واستعاراتها الغريبة. ثم تحدّثت عن قصيدته الرائعة (الأجنبيّ الجميل) التي أعتبرها من بين أجمل قصائدنا المكتوبة في المنفى، يمتزج فيها الخارق بالمألوف، والحلم باليقظة، والواقع بالمخيلة ، وكما ذكرت في مقدمة الكتاب الذي جمع شعر مصطفى أنني وجدت صعوبة بالغة في جمع قصائد مصطفى لاسيّما أن نتاجه الشعريّ موزّع بين العديد من المجلات والصحف بالإضافة إلى صعوبة قراءة بعض المطبوع منه، وقد أُرسلتْ إليّ نسخه المصورة فاضطررت إلى الذهاب إلى براغ والاطلاع على النسخ الأصلية التي بحوزة أخيه خالد.

لمصطفى موقع مهم في شعرنا العراقيّ لم يُدرك بعد. و لكنني على يقين أن هذا الموقع سيكون له أثره البالغ في شعرنا القادم.

* لديك حساسية خاصة مع تراث الشاعر الكبير بدر شاكر السياب. و مقالك "مصالحات الشاعر" فيه تقدير استثنائي لهذا المبدع الاستثنائي، كما فيه إحساس بالمرارة لمأساوية مآله شاعرا وإنسانا على حد سواء. هلا حدثتنا عن علاقتك بالسياب و بميراثه الشعري و مصالحاته؟

** علاقتي بالسياب وميراثه الشعريّ ومصالحاته يضمها مقالي (مصالحات الشاعر) الذي قلت فيه "إذا كان البعض انطلق أو ينطلق ، في دراسته للسياب ، من اعتراضات الشاعر ، فإنني أنطلق في كلمتي هذه من مصالحات الشاعر في علاقته بالواقع .. هذه المصالحات التي لم تجلب للشاعر غير الخراب، فهي كاعتراضاته لم تنقذه أبداً. وحين لا يعارض الشاعر العالم ولا يتصالح معه أو بعبارة أخرى حين لا يقيم على تعارضاته أو مصالحاته آنذاك تتجلى المأساة بعريها الكامل بلا أقنعةٍ، ولا مسرح في فضاء مطلق، وهذا ما كان عليه السياب".

وبعد أن تحدّثتُ عن مصالحاته الوظيفية توقفت عند المصالحة الأوسع في حياته ألا وهي علاقته بمجلة (شعر) نقيضه الشعريّ وقلت إنّ هذه المصالحة كلفته كثيراً، إذ زادت من عداواته المعلنة فشحذت مجلاتٌ كالآداب أسلحة نقدها، عبر نقاد مشهورين - انطفأوا الآن - كإيليا حاوي للتقليل من أهمية السياب ونعته بالتخلف والبداوة حتّى في أشدّ نماذجه تألّقاً.

لم يمارس السياب هذه المصالحات بقناعةٍ أبداً بل بمأساوية البطل الخاسر الذي تساوى لديه كلّ شيء، وقد أوصلته إلى بخس نفسه فنيّا فكان يكيل المديح المجاني لشعراء مجلة شعر الذين سكروا وقصفوا بالمبلغ الذي أمدّه به عبد الكريم قاسم للعلاج في بيروت كما يذكر ذلك عيسى بلاطة في كتابه عن السياب الذي قدّم له يوسف الخال نفسه، ويداهنهم بل ويعتذر لهم عن تجديد قاصر كما يبدو ذلك في واحدة من رسائله إلى يوسف الخال. أما مصالحاته السياسية فكانت ذات آثار فجائعية حقّاً فهو قد فصل من الوظيفة بعد مجيء البعثيين رغم مديحه لهم وهجائه عبد الكريم قاسم الذي أعانه في مرضه، أما الحدث الفاجع الأخير الذي لم يره السياب فهو تهجير عائلته من البيت في يوم تشييعه.. هذا البيت الذي هو واحد من بيوت عديدة كان يسكنها الشرطة وصغار الموظفين.

و ما أستغرب له أن كثيراً من متتبعي الوقائع والنقاد لا يشيرون إلى ذلك فلا تستوقفهم غير علاقته الغابرة بالشيوعيين كما أنهم لا يشيرون إلى قصائده التي هجا فيها البعثيين كقصيدته (أسير القراصنة) المنشورة في ديوانه (المعبد الغريق) والتي بسببها وبسبب غيرها من القصائد منع الديوان من دخول العراق .

ولعلّ من بين المصادفات الغريبة في حياتي أنّ السياب لم يكن يسكن بعيداً عن مكان إقامتي الدائم . كانت تفصلنا جادّة للسيارات شبيهة بالسدّ. كما إنه لم يكن بعيداً عن مكان إقامتي المؤقت في باب سليمان القريبة من جيكور.

* ما دمنا نتحدث عن الشعراء، لا بد من لي من الوقوف عند شاعر إنساني كبير، أقصد به شاعر الهند رابندرانات طاغور (1861-1941) و خصوصا أنك كتبت عنه قصيدة "العزف على أوتار طاغور" سنة 1969، و هي مضمومة في مجموعة "الحقائب"، بل أكثر من ذلك، عدت مجددا إلى نفس الشاعر في قصيدة تحمل عنوان "في تقريض طاغور" الواردة في كتابك "أحوال ومقامات" الذي تزاوج فيه بين الشعر و النثر، بين الومضات الحكمية و الصوفية و السرد القصصي. كيف اكتشفت طاغور في هذه المرحلة المبكرة؟ و لم ظل يلازمك طيلة هذه المدة؟

** لم يكن طاغور مجهولاً لأكتشفه، فهو شاعر إنسانيّ كبير أحببته، مثلما أحببتُ شعراء كثيرين مازالوا أثيرين لديّ حتّى الآن. سحرتني نبرته الخافتة وكلامه الخفيض، وعالمه الأرضيّ، رغم كلّ تحليقاته الروحية التي تذهب به بعيداً في إنسانيته، وطريقته في الترديد والتكرار والقص الذي لم يفارقه في قصائد كثيرة، وكان من بين مجموعاته الأكثر تأثيراً مجموعتاه: جتنجالي والهلال. والأول كتب مقدمته ييتس لطبعته الإنجليزية، وهو الذي كان وراء منحه جائزة نوبل.

لم تكن قصيدتي (العزف على أوتار طاغور) تكراراً لعالمه الروحيّ المشبع بتفصيلات الأرض بل طباقاً إذا استخدمنا مصطلح إدوارد سعيد . ثمة حوار في قصيدتي وطباق وأسئلة:

نام على راحتهِ طفل
وارتفع شجارٌ في السوق
ودنا كلبٌ من طاسة شحّاذ
وانتظر الناسُ على الضفّة ..
كان الحلم يسيل
ويشيل قرىً نائمة
طاغور .. ! تُرى كيف تقيل
الأغنية من وهج الحشد ؟

اطلعت على شعر طاغور عبر ترجمات عديدة متفرقة أفضلها ترجمة بديع حقّي آنذاك، إذ صدرت له عدّة مجموعات أتذكر منها الهلال وجتنجالي والبستاني وجني الثمار و بعض المسرحيات ، ومن بين هذه المسرحيات مسرحية شيترا وهي مستوحاة من (الماهابهاراتا).

أمّا لماذا لازمني طوال هذه المدّة فلأنه شعر عظيم أعود إليه بين فترة وأخرى مستعيداً من خلاله انطباعاتي الأولى ومشاعري آنذاك، وحبي للشعر الذي يظل متوهّجاً حتى في خفوته، بل أنه يزداد توهّجاً كلّما غمرته ظلمة طارئة بسبب حماسات عابرة أو أشكال شعرية مصطنعة ليس لها من الشعر غير ظاهرها.

لقد شغف طاغور ملايين القراء مثلما شغف شعراء وأدباء كبارا: ييتس، عزرا باوند، أندريه جيد، رومان رولان وآخرين. وحين التقيت بالبريكان اكتشفت أن البريكان يحمل تقديراً كبيراً لهذا الشاعر، ويسخر من هؤلاء الذين لا يرون غير بساطته الظاهرة.

ولو سألتني لماذا كتبت قصيدتك (في تقريض طاغور) لما عرفت السبب على الإطلاق وقد نسيت الدافع إلى كتابتها، ولكنني أرى فيها مرحاً لا أتبين أسبابه:

نحن شهود اللعبة يا طاغور
على ظهرك نلهو حين تصلّي
ونصلّي
حين نراك كطفلٍ تلهو
ونقول :
" أيا زمن الشعر
أ جئناك على هرمٍ
بلحىً
أطول من لحية بابا نوئيل "

* في "أحوال و مقامات" أعدت إدراج قصيدة "العزف على أوتار طاغور" من جديد مشفوعة بإضاءة موازية تقول فيها أن هذه القصيدة التي لم ينتبه إليها أحد كانت "نبوءة" لما حل بالبلاد في ما بعد. أي البلاد تقصد تحديدا؟ و ما الذي تعنيه بالنبوءة في هذا المقام؟ ثم هل يمكن أن يصل الشعر حد العرافة؟

** لا ليست نبوءة تماماً. يمكن تسميتها حدساً بما سيأتي من أيّام قادمةٍ سوداء. كان هذا مجرد توجس منّي وأنا أرى ما يدور حولي من صراعات وتخلف في بلدي ونزعات شريرة تقودها تنظيمات وأحزاب وما يحوط هذه الصراعات من صراعات أخرى أبعد تحديداً.. إقليمية وعالمية.
هذا التوجس ربّما تجده في هذا المقطع:

قابلني بوذا
في الطرف الغربيّ من الليل
محفوفاً بالريح وبالهول
يتبعه قمرٌ
قال :
يأتيك زمانٌ تزحف فيه الأمطار
ويغيب الظلّ
ويسير الناس على الأنهار

أو في هذه الخاتمة المستوحاة من روح الأوبانيشاد:

قرار من الأوبانيشاد:

الشمس لا تنيرهُ
والقمر الساطع لا ينيرهُ
والليل لا ينيرهُ
والنار لا تنيرهُ
بيتي الذي أسكن فيهْ

* إن إدراجك لنص من نصوصك القديمة ضمن مؤلف جديد يفضي بنا إلى سؤال آخر طرحه من قبل د. مجيد الراضي، في تعقيب له على مقالك "ثمن الشعر"، و كان قد صاغه على الشكل التالي: "ما مدى حرية الفنان في الإفادة من أعماله السابقة في تكوين أو خلق أعمال فنية جديدة". أقتنص بدوري هذا السؤال لأولد منه سؤالا مضاعفا: ما شرعية إعادة توظيف نص في عملين مختلفين شكلا و مضمونا؟

** الدكتور مجيد الراضي صديق عزيز اختلفنا مرّة حول نصوص العزيز الشاعر الراحل مصطفى عبد الله وكان في بعض ملاحظاته مصيباً ولا يعني اختلافنا تخطئة الآخر، وسؤاله مازال قائماً ويستحق التوقف عنده طويلاً، مثلما يستحق سؤالك التوقف عنده أيضاً ، لكنْ ثمة فرق كبير بين السؤالين فالأول يتعلق بالنص المكتوب ثانيةً ونشره إلى جانب النص الآخر في شكله الأول، أما سؤالك فهو يتعلق بالنص الواحد في عملين مختلفين دون أيّ تغيير فيه. وإذا كان الأول يثير إشكالات عديدة فعلاً فإن الثاني لا أراه على هذه الدرجة من التعقيد ولا سيّما أنه موظّفٌ في العمل الآخر لإنارته وإنارة العمل نفسه، فإذا كان في الإضاءتين عدم شرعية فأنا بدوري أتساءل: لمَ؟

* عبد الكريم كاصد، خلال اشتغالنا المشترك على ترجمة مسرحية "الماهابهاراتا" للكاتب الفرنسي جان كلود كاريير، و المخرج البريطاني بيتر بروك، كنت دائما تثير تفاصيل دقيقة في هذا النص الرائع، و كنت تركز بشكل خاص على ما تتضمنه المسرحية من مفهوم للشعر في التراث الهندي. ما خصوصية هذا المفهوم؟

** هذا تواضع منك. لم نشتغل معاً ولم أكن سوى قارئ أبدى ملاحظات بسيطة لصديق عزيز عن نص رائع حقّاً.

ألا يدهش أي قارئ مثل هذا التعريف للقصيدة الوارد قبل آلاف السنين: "صافية كالزجاج، لا شيء يحذف منها، تمحو الأخطاء، تشحذ الدماغ، وتهب العمر الطويل". أو هذا التعبير الجميل: "لا أريد أن يُفسد أحدٌ هذه القصيدة بارتكاب جريمة ".

لعلّ التعريف الأول من التعريفات النادرة للقصيدة: صفاؤها، وحدتها، حكمتها، فعلها، وأيضاً جدوى القصيدة.. وكأنّ في التوصيف الأخير إشارة لما يسبق الأبدية. أما التعبير الآخر فهو تمجيد للشعر والحياة معاً .

* خلال زيارتك الأخيرة للبصرة في إطار فعاليات مهرجان "المربد" بالبصرة (15-17 نيسان/أبريل 2006)الذي خصص دورته الأخيرة احتفاء بشعرك، قمت بزيارة لبيت الشاعر بدر شاكر السياب. ما دوافع تلك الزيارة؟ و كيف وجدت منزل الشاعر؟

** طوال إقامتي في البصرة كنت ألتقي بصديقة عند تمثال السياب لنجلس فيما بعد في (كازينو السياب) القريبة من التمثال والمحاذية للشطّ ، وكأني على موعد مع السياب أيضاً.. موعد ليس في موضعه الحقيقيّ.. موعد خارج المكان الذي لم أعد أتذكره جيّداً.. وقد زرته قبل أكثر من ثلاثين عاماً. كان ثمة حيطان عارية وطلل سُمي بـ (منزل الأقنان)، وكان ثمة نسوة ظهورهن إلى الحائط القديم بعباءاتهن السود يتقدمن من الوفد الذي كان يضم الجواهري أيضاً: "نحن قريبات السياب".

لا أتذكّر شيئاً غير هذا المشهد أما البيت فلم تبق منه ملامح في ذهني. ما دفعني أكثر لاستعادة ما فقدت من تفاصيل هو أن بيت السياب لم يكن بعيداً عن الأماكن التي ألفتها في طفولتي التي كتبت عنها قصيدة (قوارب) و (ورحيل عمال الجراديغ) أي مكابس التمور، وقصائد أخرى في مجموعتي (النقر على أبواب الطفولة)، ومن بين هذه الأماكن مدرسة (باب سليمان) الابتدائية التي كنت أدرس فيها ثلاثة أشهر كل عام (وهي الفترة التي نرحل فيها للإقامة هناك لنعود بعدها إلى أماكننا السابقة). هذه المدرسة كان يدرس فيها السياب في طفولته أيضا.

ثمة دوافع عديدة : أصدقاء يسكنون قريباً من الطريق العام الذي سنسلكه إلى جيكور، قرية حمدان التي يسكنها أعمام زوجتي الراحلة وأقاربها، والتي كانت تزورها دوما ولها ذكريات عديدة عنها. .. و أماكن أخرى أريد أن أراها وكأنني أحمل توق إنسان عائد من العالم السفليّ إلى عالم الناس. كيف تبدو الأماكن التي لم أرها منذ أربعين سنة والتي شهدت أحداثاً صغيرة هي الآن أكبر حتى من دوافعي؟ وكيف أرى الناس الآن أو يرونني؟ ثمة ظمأ في الروح؟ أيرتوي حقّاً في زيارة عابرة؟

كان لابدّ من هذه الزيارة وإلاّ فإني سأرجع وقد استحالت روحي صحراء لن يبلها أيّ شئ حتى ولا مطر الذكريات.

وحين زرت هذه الأماكن ومن بينها بيت السياب القريب منها أحسستُ كأنّ روحي هدأت ولعلّ من غرائب المصادفات إنني حين وصلت جيكور ومعي أصدقائي الشاعر عبد الباقي فرج، الشاعر قاسم محمد علي، أنس أخ الشاعر مصطفى عبد الله، وابن عمي الذي قادنا بسيارته إلى هذه الأماكن، قابلنا واحد من أبناء عمومة السياب وأبنائه وكان أحدهم شبيهاً بالسياب تماماً.

قال لي عبد الباقي: "انظر ألا يشبه السياب؟" . قابله الشاب بابتسامة خجول. وهذا ما حدث لي أيضاً حين زرت بيت لوركا في طريقي إلى قريته حيث صادفنا في مدخلها شخصٌ شبيهٌ بلوركا وإن كان أشدّ سمرة.

لقد رأيت البيت وما يحيط به من آثار وكأنني لم أرها من قبل. يا للذاكرة كم تتغير كما يتغير الواقع. قد لا تتعرف الذاكرة على الواقع مثلما لا يتعرف الواقع على الذاكرة. ما أغرب الاثنين!

* في الحقيقة، عبد الكريم كاصد، لفت انتباهي اهتمامك الخاص بمنازل الشعراء. فقد كتبت بتفصيل جميل عن زيارتك لبيت الشاعر الاسباني غارسيا لوركا، في كتابك الموسوم "باتجاه الجنوب..شمالاً ". ما سر هذا الافتتان و الاحتفاء بمنازل الشعراء؟

** بيت الشاعر ليس مكاناً، إنّه زمن أيضاً.. زمن مكتمل أتطفل عليه وألتحم به وأعود جزءاً منه راغباً مثله في الاكتمال، ولأنه لم يعد مكاناً فهو ليس بواقعٍ بل حلم أريد أن أستعيده.. حلم متحقق له شكل الواقع.

قد يتواصل الآخرون عبر طوائفهم، أو تجمعاتهم، أو أحزابهم، غير أن التواصل عبر الشعر شئ آخر، مكانه قد يكون بيت الشاعر.

ألا يتجسد الشاعر في البيت واقعاً، والبيت في الشاعر حلماً؟ حين أكون في بيت الشاعر أستحضر الشاعر الغائب، مثلما استحضر بيته في قصيدته. حنيني إلى بيت الشاعر هو حنين إليه ونفي لغيابه الذي قد يكون غيابي.

كان بودلير يخشى الطبيعة.. يخشى امتدادها لأنّ امتدادها يكشف عريه الذي يتطلب أسواراً تحدّه لا امتداداً. و في حالتي ربما ثمة خوف لا يستكنّ إلاّ في البيت الذي يمثل لي ألفة وسياجاً إزاء امتداد مجهول لا ألفة فيه.

البيت هو الماضي الذي اكتمل، الخالي من مفاجآت ما هو قادم. إنه الماضي الذي أتوجه إليه لأنغلق فيه كمحارة لا تريد ضوءاً غير ضوئها.

بيت السياب زرته في الصيف، وبيت لوركا في الخريف. في الأول تمتزج العزلة بامتداد لانهائي للوحشة، وفي الثاني تقف وحشة العالم عند عتبة البيت وقد استحالت حلماً لم تغادره البهجة قط.. البهجة القديمة الحاضرة أبداً. لا سور هنا ولا جدار قديم بل لعبة مرحة لا تنتهي لطفل أبديّ هو لوركا.

بيت لوركا مثل بيت يتجدّد دوماً.. يتأثث، ويستعيد ماضيه متوجهاً نحو المستقبل. ثمة مستقبل في ماضيه، إذا صحّ التعبير، أما بيت بدر فهو خرائب مدموغة بالماضي وحده. لا مستقبل ينفذ إليه.. تحس وكأن المكان قهره الزمن ، بينما ينتصر المكان لدى لوركا على الزمن. ولولا (بويب) ونهر (العذارى) وخضرة تتشابك هنا وهناك لا ستحال البيت إلى منزل أشباح.

ما من بيتٍ لا تصبغه الأحلام، فكيف إذا كان هذا بيت الشاعر؟ قد يمثل البيت، عموماً، رسوخاً و بقاء. يقابله مرورنا العابر. أتساءل أحياناً: هل كنت هناك حقّاً ؟ ليس ثمة سوى خطوةٍ، ربما ، بين الحلم الذي يجسّده البيت والواقع الصلب الذي تشعر أن قدميك تقفان عليه بتوازن وإلاّ ستصطدم بأشياء عديدة.. بشرٍ و أحداثٍ.

مرة سُئلت : ما أجمل بيت بالنسبة إليك؟ فأجبت: بيتي . وبيتي هو نفسه لم يعد بيتاً . في قصيدتي (مملكة الأنهار) أتساءل: أكان بيتاً؟ وهو يزول ثم يعود أشجاراً ونهراً نهبط إليه أو نرتقيه:

بيتٌ على نهرٍ يُطلّ
أكان بيتاً؟
هل رأيتكِ فيهِ؟
بيتٌ أبتنيهِ
إذا اختفيتِ
أصيح من جزعي " افتحي!"
فيزول
ثمّ يعود أشجاراً
ونهراً
تهبطين إليهِ
بيتٌ أرتقيهِ
إليك
بابُه سدرةٌ
وظلاله ممشىً
وخطوكِ في الظلال
يرنّ
يرنّ
يرنّ
حتّى تخفت الأصوات
حتّى تختفي
كلّ البيوت

وقد يكون قبواً نلمحه عالياً فنصعد الدرجات إليه، كما في قصيدة (القبو) الذي سكنّاه، أنا وممدوح، في منتصف الستينات:

فجأةً
نهجرُ القبو
نلمحهُ عالياً
نصعدُ الدرجاتِ إليه
ونلهثُ

- ممدوحُ أين ترى نحن؟

محضُ سماءٍ
ونافذةٌ
وغسيلٌ يلوح بعيداً
ووجهُ ملاكٍ يُطلّ
ونحن الفقيران
أين المدينة؟
زرقاء
تلك السماء
وأزرق بحرُك في ذلك القبو
أين هو الآن بحرك؟
بل أين قبوك؟
أينْ؟

* لنلتقط فكرة الاحتفاء بالشعر و الشعراء. أذكر، في لقائنا قبل سفرك إلى البصرة، أنك كنت مصرا على حضورها كأنها طقس لازم، رغم أوضاع العراق المأساوية. كيف تلقيت هذه المبادرة الرمزية أو قل هذا الاعتراف؟ و ما هي دلالاتها العميقة في هذا الوضع الاستثنائي الفاصل؟

** حضرت لأنني لا أستطيع أن أتخيل نفسي غائباً في احتفاء يحضره الآخرون من أصدقائي وأحبائي الذين منحوني ثقتهم بذريعة وضع مأساويّ يعيشه الجميع، ولاسيما أنّ هذا الاحتفاء لم تقمه سلطة لكي اقلّب موقفي من احتفائها بي، وإنما أقامه زملاء لي أدباء وكتاباً في اتحاد الأدباء العراقيين ، بعيداً عن أي مداخلات أخرى.

و مثلما يشكّل حضوري حضوراً للشعر الذي لم يكن بعيداً عن الناس فإنه حضور للثقافة التقدمية أيضاً وسط صراع الطوائف والأحزاب.. أي لم يكن موقفي من حضورها أو عدم حضورها موقفاً ذاتيّاً بل موقفاً له أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية بل والإنسانية: مشاركة الناس مصائرهم. كما إنه الاحتفاء الأول الذي أشهده في حياتي ، بعد منفاي الطويل الذي استغرق أكثر من ثلاثين عاماً والذي لم يكن ملتبساً أبداً كما هو الآن بالنسبة للكثيرين من المنفيين من جلادين ومداحي سلطة ورجال أمن وشعراء قدموا إلى المنفى بهراواتهم فلم يشجوا غير رؤوسهم وماضيهم الملوّث بمديحٍ رخيص للقائد ما كنّا لنعرفه لولا هراواتهم هذه.

لم يفارقني التوجس أبداً حتى في الاحتفاء بي. تساءلت في مقطع صغير كتبته ( أ لعرس أم لعزاء؟) في هذا الربيع المتواري المتردد خلف الأبواب حيث لا زهرة لأحملها إلى سرادق الاحتفاء المنصوب لي، ولكنه كان عرساً للآخرين من أحبائي وتلامذتي وقراء شعري ومواطنيّ.. أناس شتّى يعبرون عن حبهم ودعواتهم التي قد لا تنتهي حتى في ظرف عام كامل، ولكن أنّى لي أن أهنأ بدعوةٍ أو احتفاء وأنا أرى القتل اليوميّ والتهجير العشوائي للناس البسطاء باسم طائفة أو دين أو.. لذلك لم أمكث سوى ثلاثة أسابيع مرّت كأنها يوم واحد شهد لقائي وتوديعي معاً.

احتفاء لم يكن مصحوباً بمالٍ ولا جائزة حتى ولا طبع كتاب لي أقامه فقراء لشاعرٍ احتفى بهم أيضاً ولكن في قصائده وحياته تاركاً الادعاء الفخم بعزلة الشعر عما سواه لغيري ممن لا يقرأ أشعارهم سوى قرائهم الوهميين.. جاهلين حتى بمفهوم العزلة ذاتها لأن تعاملهم لم يكن يوماً مع الحياة وإنما مع الألفاظ الفارغة لا الحية التي تعبّر عن واقعٍ أو حياة ما.

لقد عاش شعراء كثيرون عزلة حقيقة: سجن، منفى، وحتى الجنون.. لكنهم لم يتخلوا عن الناس ومفهوم الأخوة الذي لم يكن لفظاً لديهم بل لحماً ودماً: ريتسوس، وتمان، نيرودا، ناظم حكمت، رامبو، وحتّى كفافي بمشاعره الإنسانية المرهفة في عزلته، محتفظين بجنونهم الشخصيّ في شعرهم وليس كما هؤلاء الذي ليس لهم من الجنون غير ظاهره في لعبة يائسة لتقديم أنفسهم باعتبارهم شعراء ليس لهم من الشعر غير رماده الخامد.

هؤلاء مدعو الحداثة والشعر يجهلون أن واحداً من أعلام الحداثة الذي هو دريدا يرى أن الكتابة حفر ٌ في اتجاه الآخر أيضاً.

كان المربد، رغم ظواهره السلبية، تظاهرة رائعة لشعراء جريئين أعلنوا رفضهم وازدراءهم لكلّ ما هو مقيت في الواقع من طائفية وتحزب ضيّق ونهب ولم يكن المربد كما أشاع الإعلام الكاذب قاعة للعمائم السوداء والبيضاء إذ لم تكن هناك غير عمامة أو عمامتين أحداهما لنجل الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين وهو شاعر أيضاً، في غاية التواضع والألفة. شارك في المهرجان أيضاً فنانات وشاعرات منهن: شذى سالم، رسمية محيبس، نجاة عبد الله، والأخيرتان شاركتا في المهرجان بإلقاء قصائدهما مثلما شاركت أخريات في توزيع الجوائز والجلسات التي أقيمت على هامش المهرجان.

لعلّ المربد هو المهرجان الوحيد الذي شهد تظاهرة لم يشهدها مهرجان عربي آخر في أية بقعة من بقاع هذا العالم العربي الممتد، هو احتجاج الأدباء في القاعة على كلمة مسؤول لما جاء فيها من تخليط وحمق، وخروجهم من القاعة فيما بعد.. ولم يعودوا إليها ثانية إلاّ بعد اعتذارٍ من هذا المسؤول وتراجع عن موقفه.. كل ذلك حدث أمام كاميرات التلفزيون. كنت واحداً من هؤلاء الذين خرجوا احتجاجاً وقبل خروجي كنت جالساً في الصفوف الخلفية وبجانبي يجلس مسؤول في السلطة وهو شاعر أيضاً فاقتربت منه هامساً: بماذا يهرف هذا الرجل؟ فكان جوابه، جواب الشاعر لا المسؤول، ازدراء ما سمع من تخريف.

* حكيت لي بعد عودتك من هناك أنك قضيت بضعة أيام في الريف العراقي وسط أناس بسطاء ورائعين. كيف كان تأثير تلك اللحظات الحميمية المعدودة في حضرة المكان و الناس؟ هل كان الزمن يمر كعادته هناك؟ و كيف وجدت تلك القلوب البسيطة وسط دوامة العنف العمياء؟

** في العام الماضي قدم لزيارتي في البصرة أقرباء لي يسكنون الناصرية التي نزح منها جدّي في بدايات القرن الماضي ليسكن البصرة، ولئلاّ يتحملوا مشقة السفر جماعةً وعدت بزيارتهم في السنة المقبلة، و هذا ما تمّ بالفعل إذ توجهت إليهم بصحبة أقارب وأصدقاء لي في البصرة.

لم أزرهم من قبل ولم تضطرني الظروف إلى أن ألجأ إليهم مختفياً عن أعين السلطة كما حدث لأخي سلمان ومن قبله لأخي عبد الحليم اللذين أمضيا أيّاماً مختفيين لديهم في منطقتهم النائية عن المدينة، والتي كنت أظنها تقع على نهر الغراف غير أن تصوري كان خاطئاً إذ لم يكن هناك سوى بيوتٍ من الطين يتصدّرها، لدى البعض، منهم حجرات مستطيلة واسعة مفروشة للراحة والاسترخاء والسمر في ليالي الشتاء الطويلة .

ولكننا حين قدمنا إليهم كان الوقت صيفاً ففرشوا لنا متكأ في الباحة التي تتصدر بيوتهم والتي تنتهي بساقية وواحة صغيرة من النخل والأشجار ذكرتني بتلك النخلة المليئة بالفسائل التي صادفتني في رحلتي عبر الصحراء، بعد مسيرة دامت أياماً في صحراء قفر. امتدّت الجلسة إلى ما بعد منتصف الليل . كانوا من القدرة والذكاء ما يجعلهم قادرين على مواصلة المرح والحديث حتى الفجر.

لقد ابتكروا ألعاباً ومباريات وأبدوا معرفة نادرة بأسماء المباريات الرياضية ونجوم كرة القدم في العالم لا تضاهيها معرفة أبناء المدينة. وكأنهم يؤدون أدواراً على المسرح لمتفرجيهم القادمين، وكأننا في حضور قبائل بدائية لم تعرف المقدس والعاديّ بعد. ضحكنا كثيراً وكنّا حقّاً بعيدين عن كلّ ما يذكرنا بالقتل والترويع، وما يتخللهما من قداسة شاخصةٍ في صور هائلة منصوبة وسط الشوارع لرجالٍ معممين وكأنها إنذار لكلّ ما هو مقدس وعاديّ في الحياة.

لكن الخارج يحضر أحياناً بعلاماتٍ لا تخفى على أحدٍ تشي بماض غابرعبر أسماء أبناء وألفاظ عابرة : صدام ، عدي ابنا مضيفي الذي سجنه صدام وعديّ عشر سنين.. أسماء أبناء لا تستوقف سامعها وقد فقدت مضمونها إلى الأبد.

وفي النهار حين تجولنا بين بيوت الطين وجوار ساقية الأشجار الصغيرة كانوا يحدسون بما نفكر فيه فيفصحون عن كرههم للمدينة واغترابهم عنها وحنينهم إلى مكانهم حين يغادرونه.

لا تعني المدينة لهم غير سوقٍ يؤمونها لشراء العجول التي يربونها لتصبح أبقاراً ضخمة بعد شهرين أو ثلاثة فيبيعونها بأسعار مرتفعة، بعد أن هجروا الزراعة كلياً، لذلك تجدهم الآن، وقد تحسنت معيشتهم، أقلّ اضطراباً في حديثهم وتصرفاتهم وتعاملهم مع بعضهم بعضاً وأخفت حديثاً وأكثر مرحاً وكأن العراق يعيش عصره الذهبيّ، غير أننا ما أن أفقنا صباحاً حتى تناهى إلى أسماعنا أن ثلاثة من أهل القرية احتجزوا في مخفر شرطة المدينة بسبب حيازتهم بنادق غير مرخصة، فلم يلق النبأ ردّ الفعل المتوقع ، وكأنّ ما يجري حدثٌ عاديّ مألوفٌ يمكن تأجيل التفكير فيه في ما بعد، بل أنهم استقبلوا النبأ بالضحك والتعليقات التي لا تخلو من السخرية بمن اعتقلوا.

لم أتذكر منهم أحداً ممن قابلته في طفولتي سوى اثنين: امرأة فقدت ملامحها الجميلة التي تبدو الآن ظلالاً بعيدة لا يراها غيري في وجهها الذي كسته التجاعيد، و (عبهول) الذي ما زال صغيراً بحجمه الشبيه بحجم طفل، والذي كان يدهشنا نحن الصغار بجلسته، وهو الصغير أيضاً، وسط الكبار يلفّ السجائر ليدخنها ملتذّاً نافخاً بوق دخانه في الهواء. كنّا نشعر نحوه باحترام خاص باعتباره فاتحاً اجتاز محيط العلاقة الذي يفصلنا عن الكبار، وهو رغم تجاعيد وجهه مازال ذلك الطفل الذي لم يهرم.. عبهول هو الوحيد الذي لا يبتسم لمزاح الجماعة، وحين رآني مرّة جنب الساقية واقفاً وحدي تقدم مني هامساً في أذني: "لا تصدّقهم كلهم كذّابين"، فقلت له: يا عبهول على ماذا يكذبون؟ فأبدى لي حزنه لأنهم لم يفكروا فيه بعد وفاة زوجته، ويزوجوه ثانية، وقد كان لفقده عينه في حادثة ما أفجع الأثر في حزنه الدائم وهو ينظر بشكل مائل متشكك.

عند الفجر غادرنا القرية التي اختفت ربما إلى الأبد في صحراء هل تنجو من الضباع القادمة من فضاء مجهول.. فضاء يحيط بك من كلّ جهات الأرض؟

* كيف كان التواصل هناك مع شعراء و مثقفي الداخل، إذا جازت العبارة؟

** أغلب من التقيتهم كانوا ودودين متواضعين ، وبينهم مبدعون حقّاً، شعراء وكتّاباً اضطرّوا إلى طبع كتبهم على حسابهم الخاص، ربّما ليأسهم من المؤسسات الرسمية التي ما عادت تلفت انتباه أحد .

كنتُ أشعر بمتعةٍ في مشاركتهم جلساتهم الأليفة في اتحادهم الصغير المكتظ، بمكتبته الصغيرة في البصرة ، أما أدباء بغداد والمحافظات الأخرى فقد أمضيت معهم أيضا ليالي لا تنسى بعد انتهاء فعاليات المربد حيث كان نقلنا وبقلنا، كما يقال، الكلمات والأشعار التي أفنوا حياتهم في ترويضها وما زالوا. لم أشعر بأيّ إشارة تشي باستياء من تكريمٍ لشاعرٍ قضى أعواماً في المنفى، وقابلوا الاحتفاء باحتفاء أكبر من خلال تقديم قصائدي (الزهيريات) بأصوات ما يقرب من عشرين أو ثلاثين فنّاناً من معهد الفنون الجميلة وهم يعانقونني واحداً واحداً بعد الانتهاء من أداء فعالياتهم. وإذا كان ثمة شكوى فهي من ضيق الوقت وعدم فسح المجال للبعض منهم لتقديم دراسته عن شعري في الحفل.

ولا أخفي عليك حرجي من هذا الحبّ والمشاركة الكبيرة من الدراسات والكتابات التي أسهم فيها مبدعون لم يبخلوا في الإفضاء بعبارات محبتهم وتقييماتهم، كما لم يبخلوا في تكريس وقتهم لقراءة ما تيسر لهم من كتبي، وبعضهم لم تنقطع صلتي به حتّى الآن وإذا كان لديّ من حرج آخر فهو حرجي في توزيع وقتي بين أحبّاء لا أعرف كيف أتصرف معهم وأنا في طريقي إلى لقاء عابر لجريدة أو لقاء تلفزيوني لا تدري إن كان سيدوم ساعة أم بضع دقائق، وما يتخلل ذلك من تهيئة لم أعتدْ عليها ومرونة ما أعوزني لها!

* في الحالة العراقية، هل يمكن الحديث عن "شعراء المهجر"؟ و ما الدور الذي يمكن أن يقوم به المثقفون لصيانة إرث العراق الثقافي، في وجه كل محاولات نهب و طمس حضارته، و في ظل عصر عولمة أصبحت فيها الثقافة حط الدفاع الأول بينما كانت في الماضي تعتبر خط الدفاع الأخير؟ هل من جدوى للشعر في مثل هذه الظروف؟

** لست مع هذه التسمية فنحن لسنا بشعراء مهجر اخترناه بإرادتنا ولم نبق فيه باختيارنا أيضا ونحن نشهد الآن وطناً يتمزّق ويهجره أبناؤه آلافاً يوميّا.ً أما الدور الذي يمكن أن يقوم به المثقفون لصيانة إرث العراق فهذا مرهون بمنظماتهم الثقافية التي تمثلهم كاتحاد الأدباء العراقيين مثلاً وبجهودهم الفردية والجماعية عبر هذه المنظمات أو خارجها غير أن ما هو مهم هو جهدهم الجماعي الذي يحتويهم أصواتاً لها فرادتها وتوجهها الخاص. أما الحديث عن جدوى الشعر فإن في سؤالك ما يبعث على الشك في هذه الجدوى ، ولكن لو كان الشعر بلا جدوى لما كان حوارنا الطويل هذا ، ولما ظل لكلمات الماهابهاراتا عن الشعر ذلك الألق الذي ما زال يخطفنا .

* في بريطانيا التي تقيم بها حاليا، هناك احتفاء بالشعراء و بمنازلهم كجزء لا يتجزأ من الحضارة البريطانية و من المشهد الثقافي و حتى السياحي بلندن على سبيل المثال. ما رأيك في الوضع الاعتباري للشعر و الشاعر في هذا البلد؟ و أي من الشعراء الإنجليز قمت بزيارة بيوتها؟

** في بريطانيا لم أرغير منزلين هما منزل شكسبير، ومنزل كيتس، والمنزل الثاني كان مغلقاً حين جئته فلم أعاود الزيارة واكتفيت بإطلالتي عليه من الخارج.

سكنت مناطق عديدة في لندن كانت سكناً للكثير من الشعراء، ولا سيّما منطقة كامدن التي أقام بها رامبو وبول فرلين زمناً أثناء إقامتهما في لندن، مثلما كانت سكناً لييتس وسيلفيا بلاث وشعراء آخرين. قد لا تجد في لندن غير إشارات تعلن أنّ شاعراً أو كاتباً أو مفكّراً سكن هنا، ففي مدينة عريقة كلندن تجد هذه الإشارات في كلّ مكان تقريباً.

تصوّر أنني حين انتقلت إلى بيتي الجديد الذي أسكنه حالياً، قبل ما يقرب من ست سنوات قيل لي، باعتزاز، إنني سأسكن في بنايةٍ كانت إسطبلاً زمن الروائي العظيم ديكنز و إن هذا الإسطبل ورد ذكره في روايته الشهيرة (أوليفر تويست). ولا غرابة في ذلك فالإشارات تحوطك في كلّ مكان: السوق التي تحاذي بيتي يمتدّ تاريخها إلى أكثر من مئة سنة ، والشارع الرئيسيّ في الجهة الأخرى من البيت، شارع المحامين الشهير (كريزن رود) هو الشارع الذي كان يعمل فيه ديكنز في مكتب أحد المحامين، وهكذا...

بيتي
إسطبلاً كان ..
قديماً
أورده السيّد (ديكنز)
في (أوليفر تويست)
وبعثره بعصاه
كسراً تتطاير
كالساحر
كلماتٍ

كلماتٍ
كلمات
هذا اليوم
صباحاً
لا أدري كيف خرجتُ من الإسطبل
حصاناً
يصهل
أبصره (السيّد ديكنز)
فارتاب قليلا
ثمّ مضى
يكتم ضحكتَهُ
ويطوّح بعصاهْ

أما وضع الشعر والشعراء في هذا البلد فهو شئ مختلف تماماً عمّا ألفناه: شعراء يزورون المدارس ويلتقون طلابها ويتناقشون معهم وتصرف المكافآت المجزية لهم، وقد يقوم بعضهم بتعليم الطلاب أو غيرهم كيفية كتابة الشعر. وما يلفت الانتباه هنا هو شيوع الشعر المكتوب للأطفال. وهذا ما نفتقده في ثقافتنا حيث يندر شعر الأطفال المكتوب لهم أو عنهم أو الذي يكتبونه هم بأنفسهم. وهذا ما يسهم فيه حتى شعراؤهم الكبار. هناك عشرات المجموعات الشعرية والقصصية المكتوبة للأطفال لتيد هيوز.

أما الكتب النقدية فهي سيل لا ينقطع ولا يقتصر على شعر الشعراء الكبار وحدهم، وما يلفت الانتباه أيضاً هو دراساتهم المستفيضة عن شعرائهم الماضين. إنّ لكلّ واحد منهم مكتبة هائلة. ولعلّ المكتبات العامة الخاصة بالشعر وحده هي من الظواهر المثيرة للاهتمام فلا يكتفون بإعارة الكتب وإنما بنشر الشعر عبر الوسائط الحديثة من كاسيتات وفيديوات وغيرها..

* من خلال رحلتي الشيقة في عوالم نصوصك و أشعارك، و من خلال حواراتنا المسترسلة، وجدت فيك شعلة روح مرحة منفتحة على الوجود، رغم صنوف العذاب و ضراوة التجربة وحالات الفقدان والفقدان المضاعف: البيت و الوطن و الحبيبة و الأصدقاء. وجدت صوتا يحتفي بالحياة بكل عنفوانها، و بالشعر كمصدر إشراق و أمل. وجدت كائنا يرهن جدوى كتابة الشعر بإشاعة "الغبطة" و "بهجة الاكتشاف". وجدت إنسانا يشهر شعره سلاحا لنصرة الإنسان وبلسما لآلامه.

قلما نقرأ لشاعر عربي يتكلم عن الفرح و الغبطة و المسرة، و هو يتحدث عن الشعر، و كأن الشعر أضحى مستودعا للأحزان المستديمة فقط. أما أنت، فتجعل من اللحظة الشعرية مبعثا لدهشة الإنسان و غبطته و تفاؤل إرادته. ألست القائل: "حتى في أحزان الشعر ثمة فرح مقيم". ما سر هذا الابتهاج بالحياة؟ هل هو فعلا ذلك "الموقف الفلسفي" الذي أشرت ذات مرة إلى أنه "يختفي غائرا في أبسط مشاهد الشعر و التقاطاته"؟

** لقد تلقيت في الحياة من المحبة والأخوة ما يجعل أحزانها صغيرة وكوارثها عابرة، ولعلّ في وهج الأخوة والمحبة ما يقيني بردها المقيم، وما يعمق حزني بفقدان من أحببت، مثلما يعمّق فرحي بحضور من أحببت. أليس في كلماتك هذه من الأخوة والمحبة ما يجعلني ممتنّاً، ولا رابطة بيننا سوى رابطة الأخوة والشعر؟

الفصل الرابع:

مساحات الشعر اللامتناهية

حوارية امرئ القيس

* عبد الكريم كاصد، أتوسم أن ينقلنا ديوانك "قفا نبك" إلى معارج أخرى. لمقاربة هذا الديوان، أحبذ أن أبتدئ سؤالي من بلاغة العنوان بوصفه العتبة الأولى التي يحتضن بها القارئ كل نص جديد. قلت في إحدى حواراتك أن العنوان لا يضيء النص وحده، و إنما يضيء النص و كاتبه. كيف تختار عناوين قصائدك و دواوينك عموما؟ ثم كيف تضيء عبارة "قفا نبك" عوالم هذا النص بالتحديد و كيف تكشف نوايا صاحبه؟

**للعنوان، بسيطاً كان أم مركّباً، أهمية في إضاءة النص عبر ما يضفي عليه من معنىً أو إشارة أو إحالة إلى نص آخر، وقد يشمل بإضاءته المجموعة بأكملها كعنوان (سراباد) مثلاً لما احتوته كلمة سراباد من تيه و ترحال دائم غلب على معظم قصائد المجموعة، أو (الحقائب) حيث كان السفر هو الموضوعة الأساسية، وقل ذلك بالنسبة إلى (النقر على أبواب الطفولة) حيث الموضوعة الرئيسية أو ما يسمى بالمهيمنة هي الطفولة، ولم يكن (قفا نبك) بمنأى عن هذا المنحى في الاختيار عبر ماضٍ نستعيده قصيدة وحاضرٍ نستنطقه طللاً.

عندما أنهيت كتابة معلقة امرئ القيس كان العنوان حاضراً حضور القصيدة ذاتها يرافقني في كل سطر و مقطع، وحين أعددت المجموعة للطبع كان هذا العنوان أبرز ما فيها وقد أضاءته النصوص الأخرى مثلما هو أضاءها ماضياً وحاضراً فلم يعد ذلك الماضي الذي يتجسد طللا، بل امتدّ ليشمل تاريخاً وصحراء لا تمتد في الواقع وحده، وإنما في أعماقنا أيضاً نحن الضاربين في التيه منذ ثلاثين عاما ولم نصل بعد وقد أضعنا مكاننا الأول. أفكر أحيانا هل (قفا نبك) هو التسمية الأخرى لـ (سراباد)؟ أهو وقوفنا الطارئ في هذه المسيرة الطويلة أم هو وقوفنا الطويل في مسيرتنا التي أصبحت طارئة وقد تشابهت الأمكنة؟ في هذا العنوان الكاشف تلتقي الذات وموضوعها، الحاضر وماضيه ، القصيدة وأحلامها وما يبدو ضوءاً في إشارته هو اللعنة ذاتها: قفا نبك وهي تطل من النصوص مؤذنة بما يأتي ولعل في هذا المشهد الذي يبدو أنه لانهائي، يمارس العبث لعبته، والسخرية أصولها، ويتحول الطلل إلى إشارة أيضا إلى صاحب العنوان ونواياه.

* ما هي دواعي اختيارك للشاعر امرئ القيس؟ هل لتجربته الحياتية الاستثنائية أم لرمزيته الشعرية التي بوأته وضعا تأسيسيا في تاريخ الشعر العربي؟ أم لغنائية قصيدته؟

** اختياري عائد إلى القصيدة ذاتها وقد أصبحت لا شعوراً في ثقافتنا العامة والخاصة معاً.. لا شعوراً يحضر بدلالاته الخاصة في أحلامنا وتأملاتنا وكتاباتنا، مثلما يحضر صورةً شبيهة بتلك الصورة التي تحدّث عنها كالفينو ، أو إذا شئت شبيهة بما يتحدث عنه ( الجشتالت) في تمثل الشكل بكليته لا بأجزائه، وليس أدلّ على ذلك من أنني عندما حضرتِ الصورة أو الفكرة (كما اعتدنا أن نقول) حضرت القصيدة بأجمعها مثل بناء اكتمل فجأة ولم يبق لك سوى أن تؤثثه من الداخل وتعيد ترتيب أشيائه.

ما من استعادة في القصيدة وإنما هنالك تركيب ، واستدعاء لأزمنة وأمكنة قلّ أن تتضمنها قصيدة أخرى بهذا الاتساع والتعدد، وما تخلل ذلك من سردٍ يقطعه بوح لا للحبيبة وحدها وإنما للموجودات الأخرى فكأنّ الشاعر يقف لا إزاء أغراض محدودة كما يزعم النقد، وإنما إزاء الكون بتجلياته العديدة ابتداءً بالحبيبة وانتهاءً بطقوس الطبيعة من مطرٍ و وحش.

* في توصيفك لقصيدة "قفا نبك" اعتبرتها "محاولة لإعادة كتابة معلقة امرئ القيس بأسلوب آخر". كيف استطعت أن تتحرر من سلطة النص الأول و جمالياته المؤسسة على خصائص الشعر الجاهلي؟

** ليس ثمة سلطة هنا.. ثمة شيء أقرب إلى الحوار.. ثمة غياب للنصين وحضورلهما. يغيب نصّي ليحضر الآخر ويغيب الآخر ليحضر نصّي، وبين الاثنين ثمة لعبة خفيّة في الظهور والاختفاء. ثمة أساليب لا أسلوب واحد وثمة نصّان لا نصّ واحد، غير أن هذين النصين متشابكان أحياناً حتى لتجد أن من الصعب الفصل بينهما. حين أقول مثلاً:
وتصدّين عن عارضٍ واضحٍ
وتردّين عن ناظرٍ من نواظرَ وحشٍ بوجرةََ
جيدك ، جيدُ المهاة ، هو الحَلْيُ دون حُلُيّ
إذا ما برزتِ

هذا المقطع هو صدىً لهذين البيتين:

تصدّ وتُبدي عن أسيلٍ وتتقي بناظرةٍ من وحش وجرةَ مطفلِ
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ إذا هي نصّته وليس بمعطلِ

ثمة مسافة بين النصين تحيل النص الأول، الذي كان صدىَ، إلى صوتٍ آخر يحتوي الصوت الأول وينأى به بعيداً حيث تتردّد الأصداء من خلال قوافي النص الداخلية وجناسه (تصدّين، تردّين).. من خلال التقابل بين (عارض ، ناظر) ومن خلال ما يسمى بالجناس اللفظي أي تكرار حرف واحد في كلمات عديدة في نصي كتكرار الضاد والظاء (عارض، واضح، ناظر، نواظر) والحاء في (وحش، حلي، حلي) والجيم في (وجرة، جيد، جيد المهاة). والتحول الذي يطرأ في شطر البيت الثاني باختصاره في: (إذا ما برزت).
وقل ذلك في ما سبقه من مقطع:

إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء، ضامرة الخصر
هفهافةً
( يصمتُ الحجلُ حين تميلين )
مصقولة أنت عند الترائب

الذي هو صدىً للبيتين :

إذا قلتُ هاتي نوّليني تمايلت عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل

ما الذي يجمع بينهما و ما الذي يفرقهما؟ هل الأسلوب وحده؟ هل حقّاً أن نصي في هذا المقطع هو صدىً للبيتين أم أن ثمة شيئاً يضفو على هذا الصدى فيحيله صوتاً ؟ ثمة ثبات وحركة.. ثبات النص الأصلي بسياقه الذي اكتسب سياقاً آخر مترابطاً، وحركةً تخرق الثابت وتحاول تجسيد المشهد لا بالكلمات القادمة من النص، بل بكلماتي وهي تحدّق في مرآتها لترى في البعيد ظلالها وهي تحضر وتختفي. إنها أقرب إلى اللعبة أو المخيّلة إذا شئت وليست مجرّد أسلوب:

بات والسرج حتّى الصباح
وبات لجامُهُ في فمهِ
وهو ذاك الكريمُ بعينيّ
لا مهمَلٌ أو ذليلٌ

هنا يترك السياق مجاله للدلالة التي هي ليست الدلالة الأولى في قصيدة امرئ القيس وإن كانت هي أيضاً .. هنا يشتبك القديم والجديد ليؤلفا شيئاً واحداً هو أبعد من الحديث عن الأسلوب.
هذه الأبيات كانت بيتاً واحداً لامرئ القيس هو:

وبات عليه سرجه ولجامه وبات بعيني قائماً غير مرسل

ما العلاقة بين الاثنين، بين حضور أحدهما وغياب الآخر، وتبادلهما الأدوار في الحضور والغياب؟

أو خذ هذا المقطع مثلاً :

أنتِ يا للفتيت من المسك فوق فراشك
أنتِ النؤوم .. نؤوم الضحى
لم تشدّ نطاقاً
إذا ما استطالتْ ودارتْ بثوبين في الدار
أنتِ العمايةُ لي والصبا حين يسلو الرجالُ الصبا
والعمايةَ
كم من نصيحٍ رددتُ وكم عاذلٍ لجّ

أصل هذا المقطع هذه الأبيات :

وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق بتفضل
إلى مثلهـا يرنـو الحليم صبابـة إذا ما اسبكرّت بين درع ومجول
تسلّت عمايات الرجال عن الصبا وليس صباي عن هواها بمنسلِ
ألا ربّ خصم منك ألوى رددته نصيحٍ على تعذاله غير مؤتل

ما الذي فعلته في هذا النص؟ لقد تحوّل من سياقٍ إلى نصّ دلاليّ، من الغائب إلى المخاطب ومن الخبر إلى الإنشاء، وعبر هذه المخاطبة حاولتُ أن يكون للمشهد حركته وإيقاعه وزمنه الحاضر الذي يمتص ماضيه ليشيع فيه ظلالاً نائية يبصرها الآخر دون أن يغادر المشهد الحاضر.
رافق هذا التغيير التخلص من علائق خارجة عن النص:

إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
أو
وليس صباي عن هواها بمنسل

ولا يخفى التغيير في الأبيات الأخرى، الذي يتجاوز الأسلوب إلى ما هو أبعد منه. هناك إذن حضور وغياب.. حضور غائب، إذا صحّ التعبير، وغياب حاضر، وظلال تتقدّم أحياناً، دون أن تطمس المشهد الذي يظلّ بارزاً.. معلناً معاصرته في استدعاء ماضيه. ولا يخفى على القارئ أيضاً ضعف البيت الرابع وسكونه الذي تحول إلى بيت آخر:

كم من نصيحٍ رددتُ وكم عاذلٍ لجّ

متخلّصاً من الزوائد (غير مؤتل) أي غير مقصّر. اعتقد أنها زوائد وليدة الصنعة والانتحال.
من جهة أخرى أوردت بعض أبيات المعلقة في نصّي كما هي بلا أي تغيير:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبحٍ وما الأصباح منك بأمثل
فيالك من ليلٍ كأن نجومه بكلّ مغار الفتل شدت بيذبل

أو :
مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخرٍ حطّه السيل من عل

أو:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

ذلك لأنّ في البيتين الأولين من الدلالات ما يجعل أية إضافة دلالة أخرى صدى باهتاً لتلك الدلالات التي أصبحت مثلما قلت لاشعوراً جمعياً، ولأن في البيت الثالث من الحركة والامتلاء ما يجعل أية محاولة للاختصار أو الإضافة أو التحوير تشويهاً للنص، ولأن في البيت الرابع من الحسّية ما يجعلني عاجزاً عن النفاذ إلى ما فيه من معنى غائر جديد. هذا بالإضافة إلى ما في هذه المحاولة من تغريب يوقظ لدى المتلقي إحساسه باختلاف النصين ، قبل أن يستغرق في النص الجديد كما أشار إلى ذلك الصديق الفنان المبدع فيصل لعيبي في دراسة له عن الديوان. ولا أخفيك أني أعتبر مطلع قفا نبك في نصّي هو من أنجح المطالع في قصائدي:

قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ
عفتهُ الرياح
وطافتْ بأرجائه الموحشات الظباء
كأنّيَ يومَ الرحيل لدى شجر الحيّ ناقفُ حنظلْ
يقول صحابي تجملْ
وأنى :
ودمعي شفائي
وهذي الديار أنيسي

* دعنا نتوقف عند عبارة "الأسلوب الآخر" الواردة في إضاءتك للقصيدة. و هنا لا أجد غضاضة في أن أتوسل بمقطع بالغ الدلالة من كتاب "الشعرية العربية" للناقد جمال الدين بن الشيخ حيث يعرف فيه مصطلح الأسلوب بكونه: "مختلف الطرق للتمكن الشعري من واقعة ما، و الطرق الشعرية لإدراكها. إنه يتحكم في علاقة الشاعر بالعالم، و يفرض عليه موقفا إزاء هذا الشيء أو ذاك مما يراد إدراجه في القصيدة". على ضوء هذا القول، ما هي خصائص هذا "الأسلوب الآخر" الذي قمت بتوظيفها في إعادة كتابة المعلقة الشهيرة؟

** أتفق مع هذا التعريف وأرى في إجابتي عن السؤال السابق تطبيقاً له. تتبدّى مهمة الشاعر الصعبة حين يتعامل لا مع واقعة ما، وإنما مع أسلوب آخر مترسخ في ثقافة شهدت من الثبات ما لم تشهده، ربّما، أيّة ثقافة أخرى في العالم. غير أن موقفي ليس إزاحة النص الآخر ولا المباراة معه بل تمثّله ليكون الحاضر الغائب معاً في نصّي. وهذه علاقة خاصة بتراثي والشعر وبموقف من العالم أيضاً وباستنان طريقة ليست أسلوبية محضة في فهم ما يحيط بي من تراث لم يزل حاضراً وحاضرٍ غائب.

ليس ثمة أسلوب محض وحتى الأسلوب المحض هو مضمون أيضاً في احتوائه موقفاً ما من الشعر أو العالم. حين يبدأ ما لارميه أحد دواوينه بـ (لا شيء) ،فهو يعني شيئاً، بأسلوبه الخاص موقفاً أنطولوجياً واجتماعيّاً من العالم.. عالمه الشخصيّ والعام آنذاك الذي شهد من المساخر والمجازر ما يجعله شبيهاً بالعدم.

* في تعاملك مع المعلقة هناك نوع من اللعب أو التجريب بقدر ما هنالك احتفاء بجماليات النص الجاهلي. إذا وافقتني هذا الرأي، ما هي شرعية و حدود التجريب خصوصا في حالة تناول نموذج سابق من عيار قصيدة امرؤ القيس؟

** مثلما أوضحت في أجوبتي السابقة إنّ نصّي رغم معاصرته هو احتفاء أيضاً بجماليات النص الجاهلي التي قد تحضر جليّةً في مقاطع عديدة من القصيدة. إنّ نصّي ليس طمساً للنص الجاهليّ ولا إجلاء له، بل هو حركة بين الاثنين. ليس نصّا ثابتاً.. إنه يتحرّك بين نصّين وأسلوبين، فيظهر الاختفاء والتجلّي وكأنما ثمة لعبة، ومرآة، وصورة، شبيهة بالأصل وليست هي الأصل، ومفارقة أيضاً.. ومن هنا يشهد النص حركته ودوامه:

وأضحى السحاب يسحّ ويهدأ
ثمّ يسحّ ويهدأ
حتّى انحنى الدوحُ وهو يكبُّ على وجههِِ
ثمّ لم يتّرك أيّ جذعٍ ودارٍ بـ " تيماء "
يا لـ " طميّةَ " من جبلٍ
مغزلاً صار وسط السيول
ويا لـ " أباناً " وقد صار شيخاً تزمّل بالعشب
أيّ سباعٍ طفتْ
و أيّ سحابٍ يغطّي السماء
ويلقي بـ " بسيان " صدرهُ
يُنزلُ كلَّ الوعول من العصم
من هضبات الجبال

وكأني بامرئ القيس أراه حاضراً يردّ على مقطعي هذا بأبياته منشداً بصوته البدويّ المدوّي وهو واقف لا على طلله الآن، بل على قمة جبل وهو يرى السيل وقد طفت فيه السباع وغمر كلّ شيء:

وأضحى يسحّ الماء عن كلّ فيقةٍ يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ولا أطماً إلاّ مشيداً بجنـدل
كــأن طميـة المجيمـر غـدوةً من السيل والغثاء فلكة مغزل
كأنّ أباناً في أفانين ودقه كبير أناسٍ في بجادٍ مزمّل
و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه نزول اليماني ذي العياب المخول
كأن سباعاً فيه غرقى غديّة بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
على قطن بالسيم أيمن صوبه وأيسـره على الستـار فيذبـل
و ألقى ببسيانٍ مع الليل بركه فأنزل منه العصم من كلّ منزل

وهكذا أردّده ويرددني ونغني معاً.

* حدثتني من قبل عن تجربة الشاعر الإنجليزي تيد هيوز و محاولته لإعادة كتابة قصائد الشاعر الروماني أوفيد. لقد تعامل هيوز مع نص لاتيني فقام بتحويله إلى اللغة الإنجليزية، وهو ما أتاح له هامشا واسعا من حرية التصرف و الابتكار و الترجمة الإبداعية. ألم تجد نفسك أمام ضرورة الانضباط لثقل قوانين الشعر العربي القديم؟ أو بمعنى آخر، هل منحتك هذه التجربة كل الحرية التي تتيحها لك كتابة نص شعري بكر طالع من صميم الذات؟

** أقول لك بصدق إنني كتبت النص بمتعة نادرة. كنت أغنّي خلاله مستمتعاً بغنائي الذي ما طربت له يوماً . لم أفكر بابتكار أو محاكاة إطلاقاً. كانت علاقتي أقرب إلى محبة الصوفيّ الساعي بقلبه ووارده منها إلى المعرفة. كان انتباهي إلى تجربة تيد هيوز هي الشرارة الأولى لانطلاق محاولتي التي اتخذت من النص أرضا لها صوب فضاء آخر، غير أن النص لم يفارق هذه الأرض قطّ صوتاً أو صدىً أو نجمة هادية. كان امرؤ القيس حاضراً في فضائه أيضا.. فضائه الشاسع الصحرواي الذي لم يكن أقل اتساعاً من فضاء قصيدتي فلا أدري أيّ الفضاءين هو فضائي.
في تجربة تيد هيوز يحضر أوفيد عبر وسيط ثالث هو الترجمة وليس من خلال صوته الخاص الذي يتلمسه القارئ في هذا اللفظة أو تلك، في هذا التعبير أو التضمين أو ذاك وهذه معضلة بحد ذاتها كما لو أنك تتعامل مع شاعر ثالث، هو مترجم أوفيد إلى الإنجليزية. لا يعني العمل على نص آخر أن ما تكتبه ليس طالعاً من صميم الذات. قد تجد الذات تعبيرها من خلال ما يحدّها وليس من خلال الحريّة وحدها.

* أليس في محاولة إعادة نص قديم مجازفة ما؟ أليس في المسألة، رغم ما تدعيه أنت من تواضع و بساطة، جرأة و خرقا لهيبة نص شعري مكرس في الوجدان العام يتخذ لدى البعض لبوس قداسة ما؟

** قد يكون ما تقوله صحيحاً ، لكن ما يشفع لتواضعي وبساطتي في تقربي إلى المقدّس هو تواضع المقدّس نفسه وبساطته في تقربه إلى ما هو غير مقدس ..

* ما الذي حدث في المحصلة النهائية: هل استدرجتك المعلقة إلى عبق مناخها القديم؟ أم استطعت فعلا أن تستدرجها إلى مجال متخيلنا الشعري الحديث؟

** الاثنان معاً. ولكنني إن كنتُ على يقين من أن المعلّقة استدرجتني إلى عبق مناخها القديم فإنني لا أدري هل استطعت حقّاً أن أستدرجها إلى مجال متخيّلنا الشعريّ الحديث؟ الإجابة عن ذلك أتركها للقارئ. أما إجابتي أنا فهي متعتي التي رافقتني عند كتابتها، والتي لا تزال ترافقني في إنشادي لها في بعض الأمسيات التي تقام لي، أي إنها لم تكن حالة سرعان ما تختفي وتزول. لا بد أن يكون لهذه المتعة أساس ما متجذر في النص ذاته يندفق كالنبع أحياناً وما الحالات إلا الطريق إلى هذا النبع.

* على ذكر الإنشاد. هل تقوم باستعداد معين قبل القراءة أمام الجمهور؟ و ما مدى تدخل الجمهور في هذا الاختيار؟ كيف تختار بين القصيدة الملائمة للإنشاد و القصيدة التي تحتاج إلى قراءة بصرية؟

** ما من استعدادٍ معيّن قبل القراءة غير اختيار القصائد و ما يرافقها من توجّس واحتمال بالتغيير في اللحظة الأخيرة، وقد لا يكون الاختيار و التغيير موفقين، لوجود مثل هذه الإشكالية التي طرحتَها.. إشكالية الاختيار بين القصيدة الملائمة للإنشاد والقصيدة التي تحتاج إلى قراءة بصرية، غير أن القصائد عموماً يمكن أن تقرأ رغم تباينها، وهذه الإمكانية تعتمد أساساً على مزاج الشاعر، ونوعية الجمهور، و ما يرافق ذلك من جوّ قد يقترب أو يبتعد عن الألفة التي يمكن أن تولّدها قراءة الشعر نفسها ، بصفتها إبداعاً أيضاً.

* على صعيد بيداغوجي، تطرح قصيدتك "قفا نبك" سؤالا مغيبا في مناهج الدرس التربوي العربي، ألا و هو: ما العمل بتراثنا الشعري الرائع في واقع عام تستفحل فيه الأمية اللغوية والثقافية على حد سواء؟ ألا ترى معي أن هذا السؤال ينبغي أن يوضع، بكل جدية ممكنة، في صميم حقل مناهج الدرس الأدبي، لإعادة تدبير العلاقة مع تراثنا الشعري وردم الهوة اللغوية والجمالية التي باتت تتسع معه؟

** حضور التراث الشعريّ مرهون بالحاضر الذي تستفحل فيه الأمية اللغوية والثقافية على حدّ سواء. إنه تراث بالقوّة ، إذا استعرنا تعبيرات الفلسفة ، وليس تراثاً بالفعل. ولن يكون بالفعل مادام الحاضر نفسه غائباً.
نحن لا نعيش الواقع بل ظلاله، وإن شئت، أشباحه. كيف ندرك تراثاً بهذه الضخامة ونحن غير قادرين على إدراك حاضرنا المريع الذي يرجع القهقرى ليصبح ماضياً.. ماضياً مسكوناً لا بالبشر الماضين وحدهم وإنما بالأشباح أيضاً.

ثمة نصوص في الشعر الجاهلي لا تزال تحتفظ بطراوتها وبساطتها وثمة شعر أمويّ رائع تحاول الدراسات أن تقلل من قيمته.. شعر ملئ بالشجن والمواقف الإنسانية واللغة الطرية والحب. ثمة شعر عباسي شهد امتزاج حضارات وحركة شعرية تنوعت روافدها وأصبحت من الغنى وكأنها طفرة نوعية في الشعر تجسّدت في تجارب عديدة: أبو نواس، ابن الرومي، أبو تمام، المتنبي. ولا تستغرب إذا قلت لك إنّ ثمة شعراً مدهشاً حتّى في ما يسمى بالفترة المظلمة وعبر هذا التاريخ تاريخ الشعر الطويل ثمة أساليب ومضامين استخدمت في الحقل الواحد لا يراها أصحاب النظرة الأحادية إلا أغراضاً شعرية محدودة و لا يرون ما فيها من مستويات واختلافات وحدود تفترق وتلتقي في العمق. وأحب أن أشير هنا إلى ما كتبه عبد الفتاح كيليطو في كتابه (المقامات)، مفنّداً الكثير من هذه المزاعم وإلى من جاء قبله من النقاد كالناقد المصري محمد مندور الذي رأى في بكاء الديار عند هؤلاء القوم الرحل من جمال وصدق ما يندر وجوده في شعرنا العربيّ. إن نماذج كشعر المرقش الأكبر والمثقب العبدي تبقى نصوصاً خالدة قل نظيرها في الآداب الأخرى كما أشار إلى ذلك طه حسين وباحثون آخرون .

* ننتقل من القصيدة المفردة إلى الديوان في شموليته. و هنا أود أن أستعير مقولة موحية للفنان المبدع فيصل لعيبي، في معرض قراءة نقدية مميزة قام بها لديوانك (قفا نبك)، يقول فيها: "كل نص مهما انغمر بذاتيته، فهو يحمل حواريته الخاصة التي ترتبط بالنصوص التي قبله والنصوص المعاصرة له". و بناء عليه، أرى أن هذا الديوان تحديدا يتكئ على شرعية جمالية جديدة تتأسس بها حواريته مع أصوات و نصوص تتحدر من أزمنة و مجالات معرفية متعددة تجعل منه نصا تشعبيا بامتياز.
في قصيدة "شواهد المعري"، مثلا، تفتح حوارا مع شاعر المعرة تصل حد التقمص أو التصادي المرآوي. هل تقبل بهذا الطرح الذي يجعل من صوتك مجرد صدى لصوت أبي العلاء؟ أم ذاك هو جزء من اللعبة؟

** القراءة النقدية التي كتبها أخي وصديق العمر الفنان الكبير فيصل لعيبي هي نصّ إبداعيّ أيضاً. إنها من الدراسات النادرة التي لا تحرّكها المعرفة العميقة وحدها وإنّما الذائقة التي لا تقلّ عنها عمقاً، لذلك تتملس روح فيصل نابضة وهي تتحدّث عن قصائدي. أمّا بصدد سؤالك عن (شواهد المعرّي) فأعتقد أنني وضحّت ذلك في مقالي (تناص: تجربة قصيدة) وقلت فيه: هذا التردد بيني وبين أبي العلاء أصبح من الاختلاط ما يصعب تحديده: من المتحدث أنا أم المعرّيّ؟ من منّا مرآة الآخر؟ أم كلانا أصبح مرآةً للآخر ؟
فإذا كان صوت أبي العلاء هو :

لا أميرَ ولا سوقةٌ
يا ثعالةُ
فاحذرْْ

فإن صداه هو صوتي الآخر :

إنّ لي أخوةً بين تلك الثعالبْ

وإذا كان المقطع التالي امتداداً لصوتي:

لا سميعَ ولا سامعٌ
يا ثعالةُ
فانظرْ

فإنّ صداه صوت أبي العلاء :

أقبل الصائدون من كلّ جانبْ

 

وهذا الاختلاط الذي يصبح فيه ثعالةُ إنساناً والإنسان ثعالةَ، وصوتي صدى صوت أبي العلاء،
وصوتُ أبي العلاء صدى صوتي نبتدئ كتابَ حيرتنا أنا والمعريّ.

الشاعر..ناقدا

* مقالك التحليلي الذي يحمل عنوان (تناص: تجربة قصيدة) ينم عن قراءة متمعنة وصاغية لنصوص المعري، قصائده و رسائله على حد سواء. ما الذي سحرك في عالم المعري؟

** منذ قصيدته (غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي) التي يقول عنها طه حسين إنها أعظم مرثية في الشعر العربي وأنا مأخوذ بشعر أبي العلاء، ولم تكن قصائده الأخرى أقل مرتبةً:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر

التي كنت أردّد فيها هذا البيت ذي المشهد الهائل:

إذا همى القطرُ شبّتها عبيدُهمُ تحت الغمائم للسارين بالقُطرِ (عود يتبخر به)

أو قصيدته:

علّلاني فإن بيض الأماني فنيت و الظلام ليس بفانِ

لا أدري لِمَ أقرأها دائماً:

فنيت والزمان ليس بفانِ

أو قصيدته المليئة بالشجى مودّعاً فيها أهل بغداد :

نبيّ من الغربان ليس على شرع يخبّرنا أنّ الشعوب إلى صدعِ

أما قصيدته التي قرأتها، أوّل مرّة ـ في كتاب مدرسيّ:

طربن لضوء البارق المتعالي ببغداد وهناً مالهنّ ومالي

فقد استوقفني هذا البيت الغريب:

إذا لاح إيماضٌ سترتُ وجوهها كأنّيَ عمرٌو والمطيّ سعالي

التي يشير فيها إلى أسطورة جاء فيها أن عمر بن يربوع تزوّج سعلاة هي خير امرأة ما لم ترَ برقاً فكان إذا لاح برق سترها .. إلى أن غفل عنها، مرّة، ففارقته. منذ ذلك الحين وأن أتتبع ما يرد من موروث شعبيّ في شعر أبي العلاء وفي كتاباته الأخرى كرسالة الغفران.

* قلت في نفس المقال: "وجدتني أردد أبياته مشغوفا و كأن أبا العلاء خصني بها وحدي". هل ما يزال الشعر العربي القديم في نظرك يمتلك الشحنة الضرورية لمواصلة حواره مع الحساسيات المعاصرة و مدها بوسائل التخييل و الرؤية، أم هو مجرد ذريعة شعرية محكومة ببحث الشاعر المعاصر عن روافد مغايرة للتحديث؟

** السؤال لا يتحدّد بامتلاك الشعر العربي القديم الشحنة الضرورية لمواصلة حواره مع الحساسيات المعاصرة، و إنما يتحدّد أيضاً بالشحنة الضروريّة التي يمتلكها القارئ الحديث ناقداً أو مؤلّفاً أو قارئاً.

إذا كان العمل الإبداعي نفسه لم يعد بنية بل ابتناء أي نصّا مفتوحاً على احتمالات ودلالات شتى فما بالك بتراث له مثل هذا الاتساع هو التراث العربي القديم الذي يمتلك من العمق ما يتطلب منّا لا الحساسية وحدها، بل والأدوات المعرفية للحفر باتجاه مستوياته الأعمق التي لم تستنفد بعد.

إنّ أهمّ الأعمال النقدية التي كتبت في أوربا هي تلك التي تناولت الآثار الكلاسيكية لتكتشف فيها ما هو أبعد من الحوار أو الحساسية المعاصرة ذاتها: أعمال بارت عن راسين وبلزاك، مثلاً، وقبلها كلنا يعرف ما فعل جويس الذي اتخذ الأوديسة أرضية لعمله الكبير (يوليسيس).

ليس في الشعر ذرائع إذا كان حقيقياً لا سيما أن مجاله ليس الحاضر وحده بل الأزمنة جميعاً مثلما ليس مجاله الأرض وحدها، بل السماء أيضاً منذ ملحمة جلجامش حتى الوقت الحاضر حيث تتحدث الأرض والسماء معاً في نصوص هيدغر و هيلدرلن.

هذا التعارض تناوله إدوارد سعيد في آخر ما كتبه (الإنسية والنقد الديمقراطي) ووجده تعارضاً زائفاً حين يتمّ إعلاء الماضي على حساب الجديد أو العكس، لأن كل قراءة أو تأويل هو تموضع للحديث بصفته "عملية لا أدرية قيد التكوين". وهو يورد مثالاً على نفي هذا التعارض: باخ الذي شكّل إنتاجه ذروة في الفن الألماني الاتباعي المتعدد الأنغام مثلما كان فاتحة لاستقبال كلّ ما هو جديد في أساليب الرقص الفرنسية والإيطالية.

* لقد شكل الشاعر أبو العلاء المعري لحظة فارقة في تاريخ الشعر العربي. فقد أبدع رؤية فلسفية للحياة و من خلالها قدم مقترحات جمالية مجددة في الكتابة شعرية بشكل عام، كما يتضح ذلك في "رسالة الغفران" التي تجاوز تأثيرها، حسب العديد من النقاد، الوسط العربي-الإسلامي إلى الوسط المسيحي للقرون الوسطى. هلا حدثتنا عن عطاءات المعري الفكرية والشعرية.

**تكمن أهمية المعري في رؤيته للأشياء وقدرته على النفاذ إلى جوهرها عبر التوليد العقلي للأفكار والمخيلة في آن واحد، خالقاً أساطيره الخاصة في التعرف على هذه الأشياء، مثيراً الشكوك بتساؤلاته المريرة الدائمة النابعة لا من تأمله وحده وإنما من تجربته. ولعلّ غنى مخيلة المعري ترجع إلى استخدامه الموروث الشفوي من قصص وأمثال وخرافة.

وقد يلخص هذان المنحيان (التوليد العقلي و المخيلة) قوله:

وليس على الحقائق كلّ قولي ولكن فيه أصناف المجاز

إنّ عالم الحيوان وحده في شعر المعري ونصوصه الأخرى يتطلب وقفة طويلة لما لها من دلالات عميقة نفسية وفلسفية في آن واحد، لم يشر إليه الباحثون إليه إلاّ إشارات عابرة كطه حسين في كتابه (تجديد ذكرى أبي العلاء) و العلايلي في كتابه (المعري ذلك المجهول) الذي يوضّح فيه: "إن الجاحظ ملك المعرّيّ إلى أبعد حذّ، ولاسيّما في الحيوان الذي يشرح كثيراً من مبهمات المعرّي وفي رسائله التي أدارها على السخرية الحادة اللاذعة". ولعلّ أهمية هذا الموقف من الحيوان الذي يشرح كثيراً من مبهمات المعرّي هي التي تكمن وراء كتابتي قصيدة (شواهد المعرّيّ).

لم يأنس أبو العلاء للبشر مثلما أنس للحيوان وحتّى الوحشيّ منه . يقول في واحدةٍ من لزومياته:

أذود عن الفرائس ضاريات وأعلم أنّ غايتها افتراسي
ما يستوقفني أيضاً في شعر المعرّيّ وكتاباته الأخرى استيعابه لثقافات عصره دون أن يبقى في حدودها إذ تجاوزها إلى آفاق أخرى أكثر استشرافاً من خلال تساؤلاته الجادّة والعابثة، ومن خلال جرأته النادرة في اجتراح الأفكار التي نمت عن شخصيّة لم تعد تربطها بالمقدس أو البداوة وشيجة ما، فهو لا يطرب لمديح ابن القارح في رسالته ويردّ عليه ساخراً متشكّكاً بإيمانه الذي يفترضه فيه ابن القارح: " ويقال إنني من أهل الدين، ولو ظهر ما وراء السدين (الستر) ما امتنع الواصف لي بسبّ، وودّ يسقيني جوزلاً (سمّاً) بشبّ". أما رفضه المديح: "يظن أنني من أهل العلم، وما أنا له بالصاحب ولا الخِلم ، وقد شهد الله أني أجذل بمن عابني، لأنه صدق فيما رابني" وهذا يندر أن نجده في ثقافة لا تزال تطرب للمديح. ولأبي العلاء مصطلح طريف يسمّي به من يظنون الخير بعلمه ودينه هو (الخائلون)، أما ديوانه (لزوم ما لا يلزم) فهو ديوان إشكاليّ حقّاً، باعث على الحيرة: كيف يمكن لشاعر أن يقيّد نفسه بمثل هذا الشكل من قوافٍ وأوزان ويظلّ حرّاً بل خالقاً لا يحدّه قيد ولا تستعصي عليه فكرة، وتظل أشعاره متوهجة بما فيها من مخيّلة وغرابة وأساطير عن حيوان ووقائع وبشرٍ؟
إنني لا أتفق مع من يقول إنّ أبا العلاء كان في (لزوم ما لا يلزم) مفكراً لا شاعراً. لقد استطاع في ديوانه هذا أن يحافظ على سلاسة الشعر ووضوحه رغم كلّ السلاسل التي قيّد بها شعره. وهذا بحدّ ذاته خرق للمألوف وإبداع في صميمه.

* تنم هذه الإفاضات الغنية، من طرفك، حول عوالم المعري و إسهامات منجزه الشعري عن دراية دقيقة بالموضوع، و لعل هذا هو الذي دفعك إلى كتابة مقالك المطول "البحث عن قاعدة للتمثال - المعري كما يراه الجواهري".
لقد دأبت في مقالك عن الجواهري على تشخيص ما اعتبرته تناقضات هذا الشاعر العربي الكبير في طريقة تعامله مع نص و رؤية المعري بالتحديد. و سجلت في ذات السياق أن ما يحضر في قصيدة "قف بالمعرة" مثلا هو ذات الجواهري و ليس رؤية المعري و عالمه. ما المانع، في نظرك، أن تحضر ذات الشاعر في شعره؟ أين يكمن التناقض في هذا الخيار إذن؟

** لم أسجّل في مقالي اعتراضاً على حضور ذات الشاعر في قصيدته ولا على فهمه الخاص للمعري وما سجلته هو خطأ هذا الفهم الذي يعادل غيابه، مما أدّى في مواضع كثيرة من القصيدة إلى غياب ذات الجواهري نفسها فلا تدري عمّ يتحدث الجواهري ؟ كيف يمكنني أن أتقبل هذا الفهم للمعري في هذه الأبيات مثلاً:
آمنت بالله والنور الذي رسمت به الشرائع غرّاً منهجاً لحبا
وصنتُ كلّ دعاة الحقّ عن زيغ والمصلحين الهداة العجم والعربا
وقد حمدت شفيعاً لي على رشدي أمّاً وجدت على الإسلام لي وأبا
من قبل ألفٍ لو أنا نبتغي عظةً وعظتنا أن نصون العلم والأدبا

أين نتلمس هذه الأم و هذا الأب في شعر المعري المليء بالقصائد والأبيات الهاجية للدين والإسلام والشرائع الأخرى؟ وهذا ما حدا بطه حسين إلى تتبع ضعف الأثر الديني واتخاذه لوناً ظاهريّا في مؤلفات المعري الأولى في شبيبته كسقط الزند و الدرعيات "حيث لا يكاد يوجد أو يحس " على حدّ تعبير طه حسين، بل أين نتلمسهما في شعر الجواهري نفسه. أما صيانة العلم والأدب فليست سوى نظم مناسبة لا دلالة لها في ما تشير إليه، إذ ليس هناك من سخر من أدباء عصره كأبي العلاء، مجسدين في شخص ابن القارح، بلغة مواربة فذة لها مستوياتها العديدة التي أفصحت عنها مجلدات عديدة، وربما ستستغرق آلاف الصفحات مستقبلاً كما فصلت ذلك في مقالي (البحث عن قاعدة للتمثال).

لم يكن ثمة حوار أو طباق، مثلما لم تكن لعبة هناك، أو كتابة أخرى للمعري بل ذات تتدفق للجواهري وقد تغيب مما يجعل قصيدته تجريداً لموضوعها و صوتاً واحداً يتلبسه صوت التقليد والمناسبة أحياناً.

ثمة غياب للموضوع الذي لا يحضر إلا عبر التماعات سرعان ما تنطفئ في ظلام رؤية الجواهري. كان المعري في قصيدة الجواهري موضوعاً شائعاً عاماً وبالتالي موضوعاً غائباً. وبعبارة أخرى لم يكن ثمة أثر لنصوص المعري في نص الجواهري ليغتني بها أو نتتبعه لنستدلّ لا على المعري وحده وإنما على الجواهري نفسه وليعيد آثاره التي سرعان ما تمحي . إنه شعر الصوت الواحد الذي لا ينقلني إلى تجربة وجودية عبر آثار ملموسة وإنما إلى تجربة واعية من التساؤلات حول النص وليس حول الوجود أي إلى تجربة هي عائق أكثر مما هي انفتاح على الشعر والوجود.

إنني بدلاً من أن أندمج بالتجربة وأعيد قراءتها لأصبح صوتاً ثالثاً في قراءتي لها أراني وكأنني أصطدم بحواجز لا حصر لها من التساؤلات الخارجية المعلقة : أهذا المعري حقّاً؟ أين أبو العلاء في هذا البيت؟ بل أين الجواهري فيه؟ وهكذا. أسئلة تعطل القراءة وتعاطفي مع القصيدة أكثر مما تدخلني في عالمها. أي أن تشابكات القصيدة ليس في عمقها الجوهريّ ، بل في سطحها؟ الذي لا يحيل إلى عمق بسبب غياب الموضوع وغياب الذات أحياناً.

إنها القصيدة التي تعيق نفسها وتربكها وبالتالي تعيق قارئها وتربكه لا بأسئلتها بل بأسئلته: لماذا؟ كيف؟ هل؟ إلى آخره.. لا أستطيع كشاعرٍ أن أحقّق ذاتي حقّاً إلاّ من خلال استيعابي لموضوعي وإلاّ سأصبح طافياً كموضوعي نفسه؟

 

هل الشاعر يحقق ذاته حين يكون مقياساً لكلّ شيء بغض النظر عن موضوعه؟ أ ليست هذه الذات المنتشرة المنفلتة التي لا يحدّها موضوع ما هي إلا ذات هلامية وجودها فارغ حّدّ العدم. خضوع الشاعر لموضوعه هو سيطرة عليه تماما مثلما يسيطر العالم على موضوعه في خضوعه له.

* قلت في نفس المقال عن أبيات الجواهري: "إن عدم استجابتي للأبيات التي ذكرتها لا ترجع لكونها ليست من جيد الشعر، و إنما لأنها لا تنتمي لأبي العلاء". على أساس هذا المعيار، ما الذي يجعلنا نقر بأن قصيدتك : "شواهد المعري" تنتمي إلى موضوعها؟ ثم ألا تعكس، بوجه من الوجوه، شواغل الشاعر عبد الكريم كاصد الذاتية و حيرته إزاء العالم؟

** أجل، لا أتحدّث هنا عن أحكام قيمة بل عن فهم أي أنني لست بصدد تقييم قصيدة الجواهري وقد أصبحت هي قيمة بحد ذاتها ومعلماً في مسيرة الجواهري الشعرية، وإنما حديثي يتعلق برؤية الشاعر لموضوعه، أمّا قصيدتي فهي بعيداً عن جودتها أو عدم جودتها تتعامل مع موضوع حاضر من خلال نصوصه. ثمة إشارة في المقطع الأول إلى بيت أبي العلاء:
ثعالة حاذر من أمير وســـــــوقةٍ
فمن لفظ صيدٍ جاء لفظ الصيادنِ (الثعالب)

وإشارة أخرى إلى قصيدته عن الديك التي يقول فيها:

هتفتَ فقال الناس أوس بن معيرٍ
أو ابن رباح بالمحلة قائم
وتاجك معقودٌ ، كأنك هرمزٌ
يباهي بها أملاكه ويوائم
وعينك سقط ما خبا عند قرّةٍ
كلمعة برقٍ مالها الدهر شائم
وما افتقرت يوماً إلى موقدٍ لها
إذا قرّبت للموقدين الهشائم

هذه الأبيات اتخذت لها لبوساً آخر في قصيدتي ناقلاً إياها من مدار هجائيّ للإنسان إلى مدارٍ أسطوريّ، وإن شئتَ كونيّ، يغدو فيه الكون مسرحاً للنجمة تصعد فيه كالنعامة وبريقاً لعيني الديك يتلألأ في السماء، وهو (أي الديك) وسط هذا الجلال الكونيّ هرمز الملك بثيابه السود والحمر، بينما تُشحذ المُدى وتشبّ المواقد، على مقربة منه، لخنق صيحته المنبئة بالفجر، وانبعاث الميت.
أقول في قصيدتي "الديـك":
صعدتْ نجمةٌ كالنعامةِ
عيناكَ برقٌ
وهذي الثيابُ الجميلةُ
سودٌ وحمرٌ
كأنّكَ هُرْمُزُ
أيّ المواقدِ شُبّتْ
وايّ المُدى قُرّبتْ
أيّها الديكُ
يا ملكَ المحصنات
ويا أوسُ
يا ابن رُباحٍ
ويا صيحتي
حين ينبعثُ الميْتُ في صيحتي

أهي مفارقة أُخرى إن صيحتنا التي ذهبت أدراج الرياح تزعم أنها قادرة على بعث الميت؟ أم هي مفارقة أن يصبح ديك أبي العلاء وهو الضرير صيحتي؟ وأين أبو العلاء من وحشه الشاعر الذي لا يجد خلاصهُ في انبعاثٍ أو آخرةٍ؟
في المقطع الرابع إشارة إلى رسالة الغفران حيث الحطيئة يقيم في أقصى الجنة وفي المقطع الخامس تناص عبر حادثة جرت لابن القارح حين رأى زقّ الخمر من باب المسجد فوجأه أي طعنه وشقّه.. وهكذا إنني أتعامل مع نصوص ملموسة وليس مع نصوص متخيلة أو وهم ولكن هذا لا يعني أنني أتعامل مع النصوص بحسيتها فقط، فقد أحيلها إلى وهم أيضاً ولكن بعد حضورها واقعاً ملموساً.. أي أنها تحضر لتغيب وليس غائبة تماماً.. وهذا لا يعني أنني كنت موفّقاً في القصيدة أو غير موفق. التقييم هو مسالة أخرى. إن نصوص المعري الحاضرة الغائبة وليست الغائبة كما في قصيدة الجواهري هي كالمرايا في قصيدتي لا أرى فيها ذاتي وحدها وإنما المعري أيضاً وهو يطلّ عليّ ويحدّق فيّ مثلما أطل عليه وأحدّق فيه. وعبر هذه المرايا قد تغيب وجوهنا أو تحضر أو تمتزج في لعبة شائكة معقدة لن يكون فيها القارئ في منأى عن تشابكها وتعقيدها ودخوله في لعبتها.
ثمّة تناص وأصداء لأصوات سرعان ما تستحيل إلى أصداء بدورها وفي هذا التردّد من الأصوات وأصدائها قد أعثر على صوتي. أي أن صوتي ليس حاضراً منجزاً وإلا لكنت كتبت قصيدة غنائية بلا إحالات ولا دلالات غير إحالتها ودلالاتها المحدّدة بموضوعها الخاص المنكفئ على نفسه غير أنني هنا إزاء عالم لا ينتهي من الأصداء والدلالات كعالم المعري الذي لا أستطيع أن أعيد كتابته إلا حين أكون صدى له ويكون صوتاً لي في عملية ترتدّ على ذاتها وتنقلب عليها، معبرة لا عن حيرتي وحدها بل حيرة المعري ثانية في حضورها المعاصر.

* مع ذلك، ألمس في نبرة خطابك حبا و تقديرا خاصا للشاعر الجواهري، و أنت القائل: "إن الجواهري نسيج وحده غريب في حركة شعرية متسعة الحدود". ماذا تشكل "اللحظة الجواهرية" في تيار زمن الشعر العراقي خاصة و العربي المعاصر بصفة عامة؟

** منذ صغري وأنا أقرأ الجواهري ولا أزال أقرأه بالمتعة ذاتها. ولاسيما في قصائده الشهيرة (المقصورة)، (يا نديمي)، رثائه للرصافي، وغيرها من القصائد التي أسّس بها الجواهري، بين شعراء قلّة في تاريخنا الشعريّ، قيمته الشعرية، مستبقاً القراءة والنقد معاً. مشكّلاً ظاهرة تكاد تطغى على ما حولها من ظواهر أخرى سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، لأنها، أي الظاهرة الشعرية، هي نفسها تلك الظواهر وقد استحالت إلى قول فعليّ راسخ ليس له تقلّب الفعل السياسيّ والاجتماعيّ في الواقع.. ظاهرة تستمدّ قوتها ثانية من الناس أي أن سلطة الشاعر ليست مستمدة من اللغة وحدها، وإنما هي تستمد هذه القوة من الواقع أيضاً بعد أن استحالت اللغة إلى كائن حيّ هو الشاعر نفسه وقد تلبّس قرّاءه فأصبح لسانهم ينطقون به، مثلما تلبّسوه من قبل.
في مقالتي عن الجواهري قلت أيضاً إن شعراء كثيرين يتملقون الجمهور غير أن الجواهري ليس واحداً من هؤلاء .. فمفرداته ومعانيه خاصة به، غامضة ومفتوحة، تمليها مشيئة القول – الظاهرة، القول – الوحي الذي لا يلحقه نقد وإن لحقه فهو نقد طارئ، زائل، هامشيّ عرضيّ، إن لم نقل كافر بلغة الوحي، والذي يكفّره ليس السماء وإنما الأرض – سلطة الشاعر بين الناس.

من هنا نبعت أسطورة الجواهري والخرافات التي لم تنته بعد عن شخصه وشعره وثقافته بل وتناقضاته التي أصبحت بدورها ضرورة شعرية مثلما الضرورات الشعرية الأخرى إن لم نقل ضرورة تاريخية، لا تستدعي المغفرة وإنما الفهم ، وحتى هذا الفهم لا يعني شيئاً وقد أدركه الشاعر نفسه قبل ناقديه وكتب عنه أبياتاً وقصائد شتّى منذ مراحله الشعرية الأولى.

وإذا ما قارنا تناقضات الشاعر بتناقضات ما يحوطه من مؤسسات وأحزاب و أفراد لبدت تلك صغيرة ليست بذات شأن في مجتمع شهد من التناقضات ما يعجز أي فكر أو سلطة عن توحيدها ولم يوحّدها، ربّما، إلاّ الشعر، لا بتفّرده وتعاليه عنها، وإنما لاحتوائه إياها والنطق بها ومن ثمّ الانتساب إليها والتفرد عنها، وهذا ما لم يحققه أيّ شعر آخر.

إن من يريد أن يدرس الجواهري وهذا ما ينطبق على أحمد شوقي وبعض الشعراء ألاّ ييقى حبيس دائرة التقليد التي يضع فيها نفسه والشاعر معا ، بل يخرج منها ليتساءل كيف استطاع هؤلاء الشعراء أن يتجاوزوا هذه الدائرة الضيقة إلى لغة أكثر تعبيراً وواقعٍ أكثر حركة دون أن يفقدوا تأثيرهم حتى الآن؟

* الشاعر عبد الكريم كاصد، إن اطلاعي على مقالاتك النقدية المتعددة جعلتني أكتشف وجه الناقد الكامن وراء الشاعر. لو أستعير، بتصرف، عبارة كانت أثيرة لدى الروائي الفلسطيني إميل حبيبي، يتحدث فيها عن صعوبة الجمع بين الأدب و السياسة قائلا: "لا يمكن للمرء أن يحمل بطيختين في يد واحدة". و هي نفس المعادلة التي حاول تحقيقها في حياته. في سياقنا هذا هل يمكن للشخص أن يكون شاعرا و ناقدا في نفس الوقت؟

** قد يكون الأمر صحيحا في حالة الأدب و السياسة رغم وجود استثناءات قد يكون من بينها إميل حبيبي نفسه الذي مارس الأدب و السياسة معا. أما الجمع بين الأدب و خاصة الشعر و النقد، فهو أمر مختلف تماما. إن أعظم الشعراء الإنجليز هم أعظم النقاد أيضا: إليوت، درايدن، كوليرج، تيد هيوز كما يكشف ذلك كتابه الهام عن شكسبير. وفي أدبنا العربي لا نعدم مثل هذه النماذج كأدونيس وصلاح عبد الصبور وإن كان النقد عند صلاح يقرب أن يكون انطباعياً. أما بالنسبة إليّ فإنني لست بذلك الناقد المحترف وما كتبته ليس سوى مقالات معدودة عن ظواهر وشعراء أحببتهم ورأيت في شعرهم ما دفعني إلى الكتابة لتوضيح شيء غائم لم يتوقف عنده الآخرون.

* في قصيدة "شواهد" حوار مع التاريخ عبر تقنية استحضار كاشف لبعض وقائع التاريخ العربي و لشخصيات لعبت أدوارا رئيسية في الحياة السياسية و الفكرية و الأدبية في عصرها مثل أبا عبد الله الصغير، آخر ملوك الطوائف، و ابن خلدون و ابن هيثم و ابن حنبل و المعتمد بن عباد وغيرهم.
ما الذي تقدمه النماذج و الوقائع التاريخية للرؤية الشعرية للقصيدة؟ و أين تكمن الشاعرية في تجربتها سواء اتخذت شكل مأساة فردية (محنة ابن حنبل، خذلان ابن خلدون) أو لبوس سقوط جماعي (في حالة تجربة غرناطة و ضياع الأندلس)؟

** الشعر يكمن في كلّ شيء. ليس ثمة حدودٌ للشعر تاريخاً أم واقعاً حاضرا. وما نسميه تاريخاً ليس هو بالتاريخ المحض بقدر ما هو عالم من الأوهام والافتراضات ليس فيه الحقيقة إلا خيطاً في مكان ما غير مرئيّ ، لذا يجد الشاعر نفسه إزاء عالم رحب من الاختلاطات و التوهمات التي تختلط بتخيلاته وأوهامه هو لا من أجل أن يفرض حقيقته أو حقيقة التاريخ الغائبة في مكان ما، وإنما ليكشف روحه وحقيقته الأعمق لا في تجليها من خلال خطأ أو صواب وإنما من خلال عالمه الشعريّ الأكثر عمقاً وحقيقة من حقيقة التاريخ القابلة للشك. عندما أتحدث عن مغادرة ابن خلدون للأندلس فإنني لا أريد أن أثبت حقيقة ما: خيانة الأقربين لابن خلدون حسب، وإنما لأثير في القارئ أعمق ما فيه من شعور إزاء ما هو غائب مفتقد: قرى السقي التي توارثها الكثيرون أشراراً وطيبين، ملوكاً وسوقة و من بينهم ابن خلدون الراحل المكتهل وهو يودع منحنياً فوق أيامه الباقيات. ليس ثمة واقعة واقعية أو مفترضة في التاريخ وراء هذا النص، وإنما هو من ابتداع المخيلة مبعثه علاقة ابن خلدون الملتبسة بلسان الدين الخطيب ومغادرته الأندلس حرصاً على بقاء هذه العلاقة التي لم يقابلها ابن خلدون بالمثل، كما ذكر ذلك في كتابه (التعريف) الذي يسرد فيه سيرته ، حين حل الخطيب في المغرب. في تعدادي لمن ورثوا قرى السقي أردت ربما أن أبين هشاشة الأشياء وحضورها الزائل وعبورنا المؤسي الذي لا يترك خلفه غير الظلال ظلالنا نحن وقد تلاشت إلى الأبد.
الحكاية الثالثة:

على سفح غرناطةٍ
قريةٌ من قرى السقي
أورثها عاهلٌ لـ (ابن خلدون)
أورثها ليزيدَ بن مروان
أورثها للإمام الملقّب بالقرطبيّ
لمن جاء من بعده من ملوك الطوائف
أو من ملوك الفرنج
لمن مات مغترباً تحت أسوارها
للمرابين
والقادمين
يودّعهم بالدموع (ابن خلدون)
مكتهلاً،
ينحني فوق أيامه الباقيات
وقد خانه الأقربون

وقل مثل ذلك في الحكايات الأخرى التي هي وليدة مخيلتي وليس لها من التاريخ إلا خيط واه يصلنا بماضيه. مادام هذا التاريخ محض توهم وخيال لماذا لا يكون للشاعر توهمه وخياله أيضاً في ملء فراغات التاريخ وأحداثه، لا سيما إذا كان ذلك مبنياً لا على استقراء التاريخ وحده وإنما على موقف أعمق: هو عاطفة الشاعر وعالمه الذي يحتوي هذه العاطفة دون أن تحتويه؟

* الحديث عن علاقة الشعر بالتاريخ يفضي بنا إلى مساءلة ثنائية النظم و السرد. فقد أثارت الناقدة الفرنسية، سوزان برنار، في كتابها المرجعي المثير للجدل، (قصيدة النثر)، مسألة القصيدة/الحكاية و ذلك في مقطع جدير بالذكر تقول فيه: " فمهما بلغت القصيدة من درجة التعقيد، و رغم حريتها الظاهرية، إلا أنها لا بد أن تشكل كلا وعالما مغلقا خشية فقدان صفتها كقصيدة. و إذا ما أضفت أن القصيدة هي تنظيم جمالي متميز، و أنها ليست بقصة قصيرة و لا رواية، و لا بدراسة (رغم ما قد يتمتع به هؤلاء من "شاعرية"، فسأبدو كأنني أقول شيئا بديهيا، وأقتحم بابا مفتوحا. و الواقع أن من الصعب تماما- هنا – رسم حدود. فقد يحدث- على سبيل المثال – أن تحمل قصيدة عنوان "حكاية" أو العكس. و مع ذلك، فعلينا أن نقبل بأن القصيدة لا تفترض لنفسها أية غاية خارج نفسها، و لا سردية و لا برهانية. وإذا ما أمكنها استخدام عناصر روائية و وصفية، فذلك بشرط أن تتسامى بها، و توظفها في كل واحد، لأهداف شعرية خالصة". (ص36)
كيف تعامل الشاعر عبد الكريم كاصد مع مسألة النص و المرجع؛ الشعر و السرد، خصوصا وأنك استثمرت البنية الحكائية في قصائد "حكايات من الحمراء" التي تستهل بها ديوان (قفا نبك)؟

** أتفق مع هذا الرأي القائل بإمكانية استخدام العناصر روائية ووصفية شرط توظيفها في القصيدة لأهداف شعرية خالصة .
في سؤالي الموجّه إلى أبي عبد الله في الحكاية الأولى من (حكايات من الحمراء): "ما الذي قادني إليك؟ "ما يشير إلى تيهي الخاص وسط عالم لا أدري أين؟ أفي السماء أم في الأرض؟ أفي الحلم أم في الواقع ؟ عبر سرد أم إنشاء ؟ عبر حكاية أم توهّم؟ سماء تجلس باكية وقمران حولها يسهران، وفي آخر الحكاية ثمة ملكان؟ (أهما القمران؟) وبينهما طفل متشح بالسواد (أهو أبو عبد الله نفسه؟) وامرأتان أطرقتا في البعيد (من هما؟ أهما أمه وزوجته؟)، أهما من عالم آخر بينما أتقدم أنا من هذا المشهد ببرنسي المغربيّ وكأني صورة أبي عبد الله. ما الذي حدث لي وليس لأبي عبد الله لكي أكون هناك ؟ مقطع يمتزج فيه النثر بالشعر والسرد بالمجاز والاستعارة في أقصى تجلياتهما:

استهلال:

يا أبا عبد الله
الطريق الذي قادني إليك
قادك إلى السفح
حيثُ السماءُ تجلس باكيةً
والقمران
حولها يسهران
يا أبا عبد الله
أيها الصغيرُ الذي لم تحمْهِ الأدعيهْ
ما الذي قادني إليك ؟
فتقدمتُ في برنسي المغربيّ
وقد هالني ما أرى :
السماء جالسةٌ
الملكان
بينهما الطفلُ متشحاً بالسواد
وامرأتان
(أطرقتا في البعيد ...)

أين نمضي بهذه التركة يا أبا عبد الله؟

مجرّد استهلال هو الخاتمة ربّما.. وربّما هو شيء آخر.. لا أدري.أين السرد وأين الشعر؟ أين النص وأين المرجع؟ أين العناصر وأين الأهداف؟ الحكاية الثانية وقد اقتربت أبراج الحمراء من الميت الذي توجهت إليه براحلتي وقرأت عليه صلاة الميت، وأشعلت الشمعة التي كانت مخبوءة في صندوق وصيته ؟ لم رجعت حين أضاء لي الكنز وأنا أفقر خلق الله؟

أثمة سرد هنا أم شعر أم الاثنان معا؟

الحكاية الثالثة أهي واقعة أم سخرية من واقع؟ أهي لحظة أم أبد؟ سأتجاوز الحكاية الثالثة لأنني سبق أن تحدثت عنها في جواب سابق. أما الحكايتان الأخيرتان فهما وقد نقلتا السرد والشعر إلى منطقة الأحلام استحالتا إلى حلم أيضاً.. حلم عصيّ على التفسير لدلالاته العديدة التي لا تستنفد. ما من واقعة خلف هذه الحكايات أو تاريخ مشخص بل إيهام بتاريخ وإشارات لا تقول الطريق بل احتمالاته التي تجعل من بنية الحكاية ابتناء يسهم فيه الشاعر والقارئ معاً

* في تقديري أن اقتران السرد بالشعر ليس أمرا طارئا و إنما هو جزء من الفعالية الشعرية في حد ذاتها، و لا أدل على ذلك من القصائد الملحمية الطويلة (مثال ملحمة جلجامش والاليادة والأوديسة و الماهابهاراتا) التي خرجت من رحمها الرواية كشكل سردي/نثري أكثر مرونة وطواعية لاحتضان التجربة التاريخية و الإنسانية بأرحب معانيها و تعقيدها كما حدث مع والتر سكوت وبلزاك و نجيب محفوظ و تولستوي و عبد الرحمان منيف في (مدن الملح) و في رائعته (أرض السواد).

** صحيح. إنّ اقتران السرد بالشعر هو جزء من العملية الشعرية في القصائد الملحمية الطويلة، مثلما هو جزء أيضاً في كثير من الأعمال الروائية التي ذكرتها، إذا ما أدركنا أنه ليس هناك سرد محض خالٍ من الدلالة والتخيل إلاّ في الأعمال الهابطة.
يرى تودوروف في إحدى مقالاته أن السرد هو حركة بين توازنين . في هذه الحركة بالذات يكمن الشعر بكلّ ما فيه من عجائبية وخيال وخرق للمألوف، أي أن الشعر يكمن في السرد ذاته إذا ما طورنا فكرة تودوروف إلى أقصى دلالاتها. في أشدّ الأعمال واقعية كأعمال بلزاك، تعقيباً على إشارتك إليه ، ثمة خيال خارق. أتذكر مشهداً في رواية الأب غوريو لم يغادر مخيلتي رغم قراءتي لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً هو مشهد العربة وهي تحمل جثمان الأب غوريو وقد استحالت هي والمقبرة خيالاً محضاً ومشهداً عجائبياً.

ليس السرد بعيداً عن الشعر العربي منذ نشأته السرد بمفهوم تودوروف. ألا يمتلئ شعرنا الجاهليّ بالأقاصيص الموضوعة الكثيرة: مقتل حجر بن الحارث والد امرئ القيس مثلاً وما نسجت حوله من أساطير وقصص وأشعار.

* في حديث لك عن الفارق بين الشعر و النثر في مجموعتك القصصية "المجانين لا يتعبون"(2004 ) قلت: " لم يعد هذا الفارق بالنسبة إلي مهما. فأنا أرى أن قصة "مقهى" مثلا في المجموعة هي قصيدة كتبتها و أنا في حالة شبيهة بتلك الحالات التي أكتب فيها قصائدي. وقل مثل ذلك عن قصص مثل "الأشباح" و "الأم" و غيرها". هلا عرجت بنا، نحن القراء، إلى أتون تلك"الحالة الشعرية" التي أشرت إليها، بوصفها اللحظة الأكثر صفاء و حميمية في العملية الإبداعية.

** كتبت معظم مجموعتي القصصية في بداية الثمانينات في دمشق ولم أعد إليها إلاّ منذ سنوات قريبة لأضيف إليها بضع قصصٍ كتبتها في أوائل التسعينات من بينها (مقهىً) وهو بالفعل مقهى في كامدن كنت أقضي فيه بعض الوقت، بين فترة وأخرى ، يُسمى مقهى بياف. والقصة تتحدث عن أغنية تتردّد في المقهى كلماتها هي:
تقول الأغنية : أنا المرأة والحلم
تقول المرأة : أنا الأغنية والحلم
يقول الحلم : أنا الريح
تقول الريح : أنا المرأة والأغنية والحلم

وحين ينفتح باب المقهى تخفت الأغنية وتدخل امرأة الأغنية خفيفة تحملها الريح كأنها طائر، وتجلس إلى طاولة الرجل. وإذ يقفر المقهى لا يبقى سوى الرجل والمرأة وأغنية خافتة كأنها من عالم آخر ، وحوار ملتبس. يحاول الرجل أن يتحسس يدي المرأة فلا يلمس شيئاً كأن يده تمرّ في فراغ. ثمّ يميل كرسيّه حتّى يوشك على الوقوع فتلامس كفه أعشاباً طرية ويمتدّ أمام ناظريه حقل من القمح يتوسطه قبر. تسأله المرأة: "هل ترى ذلك القبر؟" وتجيبه: "إنه قبري" ثمّ يُستأنف الحوار الملتبس ويستعيدان مشهداً يمثلانه. تلامس كفه العشب ثانية حين يميل كرسيّه ويدفع عنه أعواد القمح التي تهتزّ في الريح. بعدها تنهض المرأة خفيفة وترحل وتعود الأغنية من جديد.

شيء يشبه الشعر تجتمع فيه أجناس شتّى من شعر وقصة ومشهد مسرحيّ حيث الاستعادات غامضة والأجواء مغلقة ومفتوحة على الفراغ، غير أن هذا ليس هو الجوّ السائد في جميع القصص. ثمة قصص أقرب إلى الواقع والسرد الاعتياديّ، وغرابتها تكمن، ربّما ، في شئ آخر.. غرابة الحادثة ، واللقطة المفاجأة ، والأجواء المألوفة التي تفقد ألفتها بغتة وقد اكتست بالغموض.

تجربة لم أعد إليها ثانية وقد أعود إليها مستقبلاً.. لا أدري..


تداوليات قصيدة النثر و سؤال الحداثة

* أخي عبد الكريم، لربما كنت محظوظا أن أطالع كتاب "سوزان برنار" (قصيدة النثر: من بودلير حتى الوقت الراهن) في نفس النسخة التي بحوزتك. و كنت للحقيقة أقرأ بتمعن لا نص برنار وحده و إنما أيضا نصك الموازي له في شكل ملاحظة أو تعليق أو تعقيب بقلمك الرصاص. و كنت في مواقع عدة تسجل اعتراضات تكون أحيانا قوية النبرة، على تحليلات و تأويلات الكاتبة بخصوص شعراء أمثال بودلير و رامبو و مالارمي على وجه التحديد.حبذا لو نشرك القارئ معنا في هذا النقاش ونتعرف منك على أهم الاعتراضات التي تسجلها على بعض استنتاجات سوزان برنار سواء في المضمون أو المنهج.

** ثمة مآخذ عديدة على الكتاب ففيه فراغات متعبة ونقص في المعرفة وترديد لكلمة ميتافيزيقيا بمناسبة وبلا مناسبة، فمن إطلاقاتها أنّ لوتريامون ورامبو شأنهما شأن الآخرين اعتمدا فكرة الغموض في الشعر أو أنهما أرادا إعادة الشعر إلى قيمته الميتافيزيقية..إلخ وهي تبدو غير دقيقة حين تستشهد بـ (ج. ميشو) الذي يطرح منطق هيغل طرحاً مبتسراً وإن كان صحيحاً ، ولكنها تستنتج منه استنتاجاً خاطئاً بأنّ (عالم الوجود/ المادة، وعالم المطلق/ العدم) دون أن تدرك أن الوجود الخالي من التعيين لدى هيغل هو لا وجود أيضاً وحين يصبح لا وجوداً يستحيل صيرورة أي حركة عندئذٍ تدخله التعيينات الأخرى، أي إنها لا تدرك أن الوجود نفسه هو العدم حين يكون خالياً من التعيين في صورته المجردة. أما بالنسبة لمالارميه ففي رأيها أنه يحقق (الانتقالة الإلهية) التي تتجه من الواقع إلى المثال وهذا بالضبط عكس ما يتضمنه منطق هيغل.. ثمة تخبيص حقيقيّ وإدخال الشعر في مطب لا تدركه هي موغلة في استنتاجاتها الأشدّ تجريداً ومستشهدة بأقوال أشدّ من أقوالها تناقضاً وتهافتاً كهذا القول لـ ( ج .أوستين): "شاعر أكثر من هيغل، وفيلسوفاً أكثر من الشعراء السابقين استخلص مالارميه نتيجة شعرية من المقدمات المجردة للمثالية الهيجيلية" كلام لا معنى له. ما أبعد هؤلاء الفرنسيين المتحذلقين عن ما كتبه برشت العظيم بمرحه المعهود عن منطق هيغل في كتابه (حوارات المنفييين) بترجمة الصديق يحيى علوان عن الألمانية: "قرأت كتابه (المنطق الكبير) عندما أصبت بالروماتيزم فلم يعد بإمكاني الحركة. إنه من أكثر الأعمال فكاهية في العالم. إذ يعالج فيه حياة المفاهيم وعالمها. في وجودها المتحرك، غير المستقر والمتقلب، تماما مثلما يتشاجر اثنان و يهدّد احدهما الآخر بالسكين. بعدها يجلسان سوية ويتناولان العشاء سوية، وكأنّ شيئاً لم يكن. إنها (أي المفاهيم) تظهر بصورة ثنائية، وكأن الشيء متزوج نقيضه، يقيمان الصفقات سوية، ويوقعان العقود بشكل ثنائيّ، ويقيمان المحاكمات ثنائياً، وينظمان عمليات السطو والغارات سوية، يكتبان الكتب ثنائياً، ويدليان بالتصريحات بنفس الطريقة أيضاً، وكأنهما كلّ ممزّق ، وفي كلّ قضيّة تراهما زوجاً غير موحّد! فكل ما يقوله النظام تنفيه وتناقضه الفوضى في نفس اللحظة، باعتبارها شريكته التي لا فكاك منها. إذن تراهما لا يستطيعان العيش بدون الآخر ولا مع الآخر).
إنّ برنار تتناول مالارميه بمعزل عما يحيط به من حياةٍ و تأثيرات وكأنه كائن مجرد يقف وحيداً أمام الكون وليس ذلك الإنسان الذي خلف ديواناً كاملاً ربما لم تطلع عليه برنار في رثاء ابنه الذي فقده وهو في السن الثامنة من عمره، والذي كتب المراثي العديدة لمن أحبهم من الشعراء، والذي فقد أمّا عندما كان في السن الخامسة وأختاً وافتها المنية في السن الخامسة عشرة وعانى طفولة معذبة حين هجره والده مع زوجة أخرى، أما الفترة التي أحاطت بمالارميه والتي هي من أشدّ فترات تاريخ فرنسا احتداماً فلا موضع لها في قاموس برنار، وكأنّ العدم والغياب والصمت الذي يملأ مراثيه وأشعاره محض لغة وليس عدماً حقيقياً، وحتى حين تتحدث عن لغة مالارميه فإنها تؤكد جانباً واحداً هو ما تسميه "إحداث التفكيك في اللغة الشعرية "دون أن تأخذ بعين الاعتبار سونيتاته وقصائده العظيمة (قديسة)، (نخب جنائزي)، (هبة القصيدة)، المصنوعة بمهارة شاعر يملك كل مهارات الشاعر الكلاسيكي الذي يتقن صنعته، أو حين تقول: "لكن نظرياته الأدبية- شأنها شأن الطريقة الطبيعية لذهنه – كانت ستقوده أكثر فأكثر، إلى رفض أيّ تنازل للغة الدارجة".. وغيرها من التعميمات في فصل واحد هو الفصل الخاص بمالارميه.

يضاف إلى هذا الإرباك، إرباك الترجمة في كثير من المواضع، مع تقديرنا للجهد الكبير المبذول، إذ تصبح لفظة مجد في الصفحة 336 بمعنى انتظار، والبحيرة التي تأسر البجعة ص357 في سوناتته الشهيرة (سوناتة البجعة) التي مطلعها (هذا اليوم البكر القويّ الجميل) مرآة عندئذ تصبح القصيدة بلا معنى حقّاً وهي القصيدة التي يعتبرها النقد الفرنسيّ التقليدي نموذجاً للشعر الرمزيّ بقوافيها المصوّتة الصّارة النادرة حتى في الشعر الفرنسيّ. بل أن هناك أخطاء مبعثها ربما الطباعة أو السهو في ما هو أبسط إذ يرد في العبارة التالية: "لا يبعد عن نظره المثال الذي اقترحه لنفسه منذ كان عمره خمسة وعشرين عاماً، والذي سيظل يجتذب أبحاثه الشعرية وهو في سن الخامسة والستين" والأصح هو "وهو في سن السادسة والخمسين.

* يقول رفعت سلام في مقدمة ترجمة راوية صادق للكتاب أنه كاد يكون المرجع الوحيد الذي اعتمدته جماعة مجلة (شعر) في اقتراحها و تنظيرها لمصطلح "قصيدة النثر" و تمييزها عن "النثر الشعري"، و ذلك منذ ربيع 1960، تاريخ صدور العدد 14 من المجلة البيروتية حيث دشن الشاعر أدونيس هذا النقاش الذي طال أكثر من أربعة عقود دون أن يستقر على حال. هل ما يزال هذا النقاش يمتلك شرعية خصوصا في ظل كل التطور الذي عرفه الإنتاج الشعري العربي منذئذ و انفتاح القصيدة على مدارات مختلفة؟

** حقّاً إن القصيدة العربية انفتحت على مدارات مختلفة وشهدت تطوراً ملحوظا في تعدد اتجاهاتها ولا يضير القصيدة العربية بكلّ أشكالها هذه التحديدات المتعسفة التي تطالعنا بين فترة وأخرى وسيبقى المصطلح، أيّ مصطلح، موضوع نقاش ما بقي الشعر ولعل الشيء الوحيد الذي سيتغير ربما هو ما رافق هذا النقاش من احتدام وحماس زائدين.
لا أرى في استخدام مصطلح (قصيدة النثر) ضيراً حتى لو كان خاطئاً في التعبير عن تلك القصائد التي لا تعتمد التفعيلة والقافية وقد تستخدم القافية أحياناً دون أن يجعلها ذلك قصائد تنتسب إلى الشعر الحر، مثلما لن تصبح القصيدة الحرّة قصيدة نثر باستخدامها النثر كما هو حاصل في الكثير من القصائد التي نقرأها لرواد وغير رواد، أقول ذلك لأنني لم أجد مصطلحاً كمصطلح (النثر الشعري) شائعاً في الصحافة أو الدراسات النقدية إلى جانب مصطلح (قصيدة النثر) كما هو في اللغات الأخرى كالانجليزية والفرنسية مثلاً. أي أن ما يتنازع جوّنا الأدبي هما مصطلحان: الشعر الحر، وقصيدة النثر والمصطلح الأول في رأيي هو أدق من المصطلح الإنجليزي رغم أنه ترجمة له لأن المصطلح الإنجليزي غائم و لا يعني شيئاً و لأنه يحتوي الشعر الموزون وغير الموزون المقفى وغير المقفى كما بين ذلك إليوت في مقالته الشهيرة (الشعر الحر). في هذه المقالة نفسها يرى إليوت أن المصطلح الإنجليزي للشعر الحر يختلف اختلافاً كليا عن المصطلح الفرنسي، فلماذا لا نختلف نحن عن الاثنين حتى لو كانت الترجمة خطأ وقد يكون الخطأ في النقل أكثر فائدة من الصواب أحياناً وهذا ما بينه إليوت أيضاً في مقالة له أخرى بصدد الحديث عن ترجمة إدغار آلن بو إلى الفرنسية، ويبدو أن ابن جني أكثر تحرراً وانفتاحاً من هؤلاء المحدثين القادمين باستعلاء زائف لأن نازك الملائكة أو غيرها ترجم المصطلح بشكل خاطئ فهو يفضل ما هو متعارف عليه على خطئه على ما هو صحيح وليس مستعملاً كما جاء ذلك في كتاب الخصائص. ليس ثمة حماقة كترجمة قصيدة النثر بـ (قصيدة في النثر) أو (قصيدة بالنثر) التي تذكرني بتسميات بعض الأكلات البغدادية . ولماذا الخطأ والترجمة العربية شبيهة بما هو وارد في الترجمة الإنجليزية؟

عكس ذلك ستكون ثمة فوضى في المصطلحات. ماذا يعني أنّ شعر الماغوط من الشعر الحر وقصيدة السياب ليست من الشعر الحر بل من شعر التفعيلة وقصائد سليم بركات من النثر الشعريّ والقصيدة المدورة قصيدة كتلة وبالتالي فهي قصيدة نثر.. إلخ ولعل منظمي مهرجان قصيدة النثر كانوا أقرب إلى الحس السليم عندما وضعوا صورة الماغوط شعاراً للمؤتمر على العكس من المشاركين بمداخلاتهم الشغوفين بالمصطلحات والفرق بين الشعر الحر وشعر التفعيلة وهلمّ جرّا، رغم أن ظاهرة المهرجان لشكل من أشكال الشعر تبدو غريبة ولا مبرر لها فالمهرجان الحقيقي ليس لشكل ما بل ينبغي أن يكون للشعر. وأن تحديد أي شكل شعريّ بمقاييس تقييمية إنما هو تعسف وغريب، فالشعر الحر مثلاً – وهنا أتكلم عن المصطلح كما هو معروف في لغتنا– لا يتحدد بمعايير قيمة بل بشكل معين يستخدم التفعيلة مع خروج على النظام الخليليّ المتعارف عليه، مثلما هو خروج على القافية وقد يستخدم النثر في تضاعيفه دون أن يصبح قصيدة نثر وهذا ما نراه حتى في شعر الرواد، أما قصيدة النثر فهي التي لا تلتزم هذه المقاييس، دون الدخول في تقييمات مثل الكثافة والمجانية والوحدة العضوية.. إلخ لأن هذه شروط ينبغي أن تتوفر في القصيدة الجيدة بكل أشكالها وليست حكرا على شكل معين وفي التطبيق العملي نرى أن ما هو سائد في قصيدة النثر في نماذجها الجيدة كقصائد الماغوط ما هو نقيض ذلك. وقديماً تكلم نقاد عرب عن الوحدة العضوية كابن طباطبا، وعن الوزن الذي لا يراه الجرجاني "من الفصاحة والبلاغة بشيء"، لذا أعود إلى ما طرحه إليوت أن المقياس الوحيد هو : هل ما نقرأه قصيدة جيدة أم لا ومعرفة هذا ليست لغزاً بل قد تكون بداهة مثلما طرح ذلك شعراء عديدون منذ إليوت، وحتى الشاعر الإنجليزي ديفيد كونستانتن في آخر مقالة قرأتها له عن الشعر. أما الرغبة لدى من يريدون أن يحيلوا العملية الشعرية إلى لغز وسر فلن تكون بالادعاء واجتراح المصطلحات واتخاذ هذا الشكل أو ذاك بل بشيء آخر .. بالقصيدة ذاتها "التي ينبغي عليها ألاّ تضع نصب عينها شيئاً سوى ذاتها" على حد تعبير بودلير الذي يطالبنا بعض من دبجوا الدراسات للمؤتمر أن نكتب القصيدة كما كتبها بودلير وهو الذي أنكر عليه النقاد الفرنسيون أن تكون قصائده في سآمة باريس قصائد نثر ماعدا قصيدة أو بضع قصائد. وهذا ما تذكره سوزان برنار نفسها في كتابها عن قصيدة النثر. ليس لدى الثقافات الأخرى مشكلة اسمها قصيدة النثر لكي يقام لها المهرجانات وليس لقصيدة النثر شكل محدد كما يُقترح . إنها النمط المفتوح على كل التجارب وما القول بالمواصفات التي سبق أن ذكرناها إلا تقليد أعمى و إحساسٌ بنقص مريع في داخلنا لا يذكر إلا ببرامج الأحزاب السياسية المستعارة من الخارج لتطبيقها في واقعنا. ان الحديث بالمواصفات والتشطير والتقطيع و الكتلة ليس بحديث الشاعر الحقيقي المعني بالشعر وليس بأشكاله أيّاً كانت هذه الأشكال. هؤلاء المقلدون العميان (خواجات الثقافة) لا يدركون أن في الثقافات الأخرى كل شيء خاضع للتقييم من جديد، وإن "المبدع ليس من يبتكر شكلاً، ولكنه ذلك الذي يعرف كيف يحييه وكيف يستخلص منه دلالة" على تعبير جان روسي الذي يستشهد به جمال الدين بن الشيخ في كتابه (الشعرية العربية).

سأورد مقطعاً للشاعر غييفك مستلاً من كتاب ترجمته عن الفرنسية، أنا والصديق المغربي محمد مختار، منذ سنوات، بعنوان (العيش شعراً) يبدو لا علاقة له بالموضوع ولكنه ذو علاقة أيضاً، لكي أبين كم نحمل من أوهام هي ليست بالمسلمات في الثقافات التي استعرنا منها هذه الأوهام: "في البداية، رّبما عن صواب أو خطأ ، لكن بلا ريب ليس عن خطأ تماماً كنت دائماً أرى أن السريالية ظاهرة باريسية أو بشكل أدق ظاهرة مدنية إذ امتدت السوريالية إلى مدن أخرى غير باريس .أنا لم أحب أبدا كتابات بريتون النثرية ولا إرهابه، لكن على مستوى أكثر جدية فإنني لا أؤمن أبداً بالكتابة الآلية ولا بالأهمية التي تعطى للأحلام. كانت أحلامي عدوّاً لي فقد عذّبتني دائماً . إن نصيبي من الكوابيس أكبر بكثير من الأحلام الجميلة عندما قرأت في ما بعد ناديا، الأوعية المتصلة.. إلخ لم أقتنع. لا أعتقد، وأكرّر هذا الرأي، إن علينا أن ندع أنفسنا نستسلم إلى آلية لا أعرف ما هي. يجب أن نستفيد من كلّ مواهبنا، من ثقافتنا - إذا كانت لدينا ثقافة ومواهب – من روحنا النقدية حتى نستطيع أن نقوم بشيء يحرّر الكاتب ويثير اهتمام القارئ ... لكن بعد سنتين أو ثلاث من التجربة تخلى سوبول وبريتون عن الكتابة الآلية. في كلّ الحالات فإن القصائد المسماة "سوريالية" بقيت بالنسبة إليّ طافية على السطح. أظنّ بعمق أن الحركة الهامة في الربع الأول من هذا القرن هي الدادائية. إن الدادائية حركة- أعود إلى استعمال الكلمة التي استخدمتها في حديثي عن "بيان السوريالية" عندما كنت طالباً- غير مدرسية على الإطلاق، بل هي حالة عقلية نجدها في بلدان مختلفة، أما السوريالية فهي النبتة التي تجذّرت في فرنسا ونمت في بلدان أخرى. ولدت الدادائية من الحرب، من تمرد عميق ضدّ الحرب، ضدّ سوء استعمال اللغة، ضدّ الأكاذيب. لقد بقي أراغون دادائياً.. بيير–ألبير بيرو، وميشو، وبريفير دادائيين. كانت السوريالية حدثاً عارضاً. ما احترمته لدى السورياليين ليست تقاليدهم الأدبية ولا تقييماتهم الجمالية، بل أخلاقيتهم في التمرد وفي الحب.. هذا التمرد هو الذي قاد بعضهم إلى الثورة فكان لمعان إيليوار.

ويضيف غييفك: يمكن أن نلاحظ إنه في جيل الشعراء الذي تلا السوريالية لا يوجد شعراء كثيرون قد تأثروا بها لا بونغ ولا فولان ولا فرينو ولا أوديبرتي ولا تارديو ولا سيغرز و لا أرمين لوبان.. كان شار استثناءً، أما مانديارغ فكان سورياليا بعد الحرب. خلال موجة السوريالية لكن بعيداً عنها كان هناك شعراء مهمون أخص بالذكر منهم كلوديل وليون بول فارغ وسوبرفييل، و ريفيردي، وفاليري طبعاً. في الخارج كان هناك ريلكة وأنغرتي مثلاً. كذلك يجب أن أشير إلى ميلوز الذي أحببته كثيراً وجان بوشير وماكس جاكوب. إنهم ريفيردي، سوبرفييل، ميلوز الذين كان لهم الأثر الأكبر عليّ. أحببت كذلك القليل مما كنت أعرفه عن سان جون بيرس. أحببت من شعره (مدائح) خاصةً. كان هؤلاء الشعراء قريبين إلى قلبي أكثر من السورياليين."

أود أن أنهي إجابتي عن سؤالك هذا بالإشارة إلى كتاب صدر في أواخر التسعينات هو عبارة عن مختارات من قصائد نثر معاصرة جمعها روبرت لويدل وديفيد ميلر وفي ما كتباه عن المجموعة يعبران عن عدم اتفاقهما حول تسمية بعض القصائد بقصائد نثر ، مثلما لم يتقيدا بكون القصيدة كتلة أو مكتوبة بالسطر أو ما شابه ذلك من مصطلحات تسود اليوم في صحافتنا.

* في تقديرك كشاعر واكب مسار القصيدة العربية زهاء أربعة عقود، ما هي مسوغات نقل جدل قصيدة النثر من مجاله الفرنسي إلى مجالنا التداولي العربي؟ ثم هل طرح سؤال قصيدة النثر بالطريقة الصحيحة منذ منطلقه؟ هذا علما أن تحديث القصيدة الفرنسية جاء نتيجة دأب نقدي متواصل للبحث عن لغة جديدة. كما توافرت شروط متعددة ضمن سيرورة تطور عامة في المجتمع المديني و العقلية الحديثة و ضعف الشعر العروضي و تأثيرات الترجمة و غيرها مما ساهم في التمهيد لقدوم هذا النوع الأدبي التي تصفه سوزان برنار بأنه "الأكثر حرية و الأكثر مرونة و الأكثر حداثة".

** الغريب في الثقافة الفرنسية أن قصيدة النثر وجدت قبل الشعر الحر ، وهذا ما تذكره سوزان برنار في كتابها ، ولعل الأغرب أيضاً إننا لو تأملنا تاريخنا الشعري الحديث بواقعية أكثر وبدون هذا الصراع المحموم الذي يخوضه بعض الذين يكتبون قصيدة النثر لاكتشفنا أن كثيراً من المحاولات الشعرية التي كتبت نثراً هي سابقة للشعر الحر الذي شهدت ولادته أواخر الأربعينات. ما نغفله في أحاديثنا عن قصيدة النثر والشعر الحر هو أن المصطلح ليس وليد الرغبات الشخصية وحدها ولا التأمل الفردي في دقة المصطلح، وإنما هو يتكون عبر مخاض عسير وحركة أعمّ من توجه فلان أو فلان . إن للمصطلح تاريخه الذي لا يمكن إلغاؤه على الإطلاق برغبة ذاتية حتى لو كان هذا المصطلح خطأ أو وليد مصادفة. المصطلح مجرد وعاء نملأه بما نريد من معانٍ، وأحياناً تتكون المعاني خارج رغباتنا وبالرغم من إرادتنا الواعية في التغيير. لا يزال النقاد يتناقشون حتى الآن حول قصائد بودلير و رامبو و مالارميه هل هي قصائد نثر أم لا وشمل هذا النقاش حتى الشعر الحر كما ذكرت عبر الاستشهاد بمقالة إليوت (الشعر الحر) الذي قاد إليوت إلى إنكار المصطلح لغموضه والتباسه والوصول إلى ما هو أبسط وأكثر بداهة: شعر جيد أم غير جيد. أما قول سوزان برنار أن هذا النوع الأدبي هو "الأكثر حرية والأكثر مرونة والأكثر حداثة" فهو قول ليس له معنى ولا يدل على معرفة عميقة بالشعر.

* على ذكر الترجمة، تعتبر نفس الناقدة أن المترجمين هم أول من ألح على ضرورة تحرير اللغة الشعرية و مدها بمزيد من التنوع و التصوير. أعلم أنك بدورك دارس للغتين الفرنسية والإنجليزية و حائز على ماجستير في علم الترجمة من جامعة ويستمنستر بلندن سنة 1997. لكن يبدو أن اهتمامك بالترجمة كان سابقا على ذلك حيث قمت بتعريب العديد من الدواوين الشعرية: (كلمات) جاك بريفير 1981، و(قصاصات) يانيس ريتسوس 1987 و (أناباز) سان جون بيرس 1987 ثم أخيرا قصائد الهايكو للشاعر الياباني سانتيوكا تانيدا(2005). ما الذي دفعك إلى مجال الترجمة الشعرية؟ و إلى أي حد يمكن لتجربة الشاعر أن تغتني بتجارب شعرية تنتمي لثقافات مغايرة لثقافته؟

** ثمة دوافع عديدة لترجمة الشعر أهمها، بالنسبة إليّ، تصوري أن ما أترجمه من شعر قادر على تحقيق ما تسميه سوزان برنار "التنوع والتصوير". لقد ترجمت عدداً كبيراً من القصائد لجورج شحادة، وإيليوار، وأراغون، وغيليفك، آر.اس.توماس، وجلال الدين الرومي، وهولوب، وزبغنييف وأخرين كثيرين من بولونيا ويوغسلافا واليابان وبلدان أخرى. ولديّ مجموعات عديدة مهيأة للطبع .
أول كتاب شعريّ مترجم صدر لي هو (كلمات) لجاك بريفير لأهميته في الشعر الفرنسي وفي شعرنا العربي أيضاً، ثم أعقبته بكتاب (أناباز) لسان جون بيرس لما رأيته من قصور في الترجمات الأخرى، وبعداً عن روح الأصل وعدم فهمه أحياناً، ثمّ (قصاصات) ليانيس ريتسوس الذي ترجم عنوانه إلى الفرنسية عن اليونانية بعنوان (أوراق)، وحين التقى الصديق سمير سعد آنذاك بريتسوس وكان الكتاب مهيئاً للطبع عن دار الفارابي سنة 1981 قال له ريتسوس أن ترجمة العنوان بأوراق خطأ والصحيح (قصاصات). لقد أدركت خطأ المترجم الفرنسي من خلال فهمي لروح الديوان لا كلماته. أما (نكهة الجبل)، فهو لأهم شاعر ياباني لم تؤثر شهرته على نمط حياته الاعتيادية ومهنته التي هي التسوّل وقراءة السوترا أمام الأبواب للحصول على كفاف يومه الذي يقتسمه مع أصدقائه لتغطية نفقات عيشهم.

أود أن أضيف أن الترجمة ليست تنوعاً وتصويراً حسب بل حركة كامنة في النص قد تخفى على قرائه الأصليين وتجد تعبيرها في الترجمة، لأنها تتقدم صوب قارئ أشدّ وعياً، وقد يحدث العكس حين تكون مهمة المترجم إضفاء حركة على نص ساكن وهذا ما يشيع مع الأسف في حركة ترجمتنا إلى اللغات الأخرى ولاسيما الأوربية بسبب الشلل والاخوانيات وتبادل المصالح التي يشترك فيها أوربيون أيضاً ومؤسسات لها منافعها الخاصة من وراء هذه الحركة.

* يمثل سان جون بيرس حالة متفردة في سياق هذا النقاش حول قصيدة النثر. هناك من النقاد من اعتبر قصيدته قصيدة نثر، فيما أنكر عليه البعض الآخر ذلك. يقول الشاعر و المترجم كاظم جهاد في مقال له بعنوان "فلسفة قصيدة النثر": "تبقى الحالة الشديدة الخصوصية، حالة سان جون بيرس. لقد توهم من عرفوه عبر ترجمته العربية أنه شاعر قصيدة نثر. و الحق أنه بعيد عن هذا الجنس الأدبي. هو نفسه كان يسمي قصيدته قصيدة غير موزونة أو قصيدة اللانظم أو اللابيت (Poeme non versifié). فقصائده أناشيد طويلة يسودها نبر احتفالي و إعداد غنائي لعناصر العالم و أحداثه، فلا تجد فيها السمات الفنية الغالبة على قصيدة النثر".
بوصفك أحد مترجمي سان جون بيرس إلى العربية، ما رأيك في هذا الطرح؟ و على أساس أي معيار نقدي يمكن إدراج منجزه الشعري داخل مسمى قصيدة النثر أم خارجها؟

** يعجبني في الصديق الشاعر كاظم جهاد دقته التي تلمستها في كتاباته العديدة ولاسيما في كتابه (الكتابة والاختلاف). أما رأيه الذي ورد في سؤالك فهو صحيح إلى حدّ ما، ولعلّ هذا النبر الاحتفالي في شعر سان جون بيرس هو الذي أدى بالشاعرة كاتلين رين في كتابها (دفاعاً عن الينابيع القديمة) إلى اعتباره أبعد ما يكون عن شعر المحدثين من الشعراء كإليوت وعزرا باوند وإلى القول إن جيلها لم يستطع أن يفهم قصيدة ( أناباز) إلاّ فيما بعد ، فموضوعها الذي يصور حملة يقودها أمير بدويّ عبر الصحراء لا يقربها من أيّ تجربة حديثة لشاعر حديث لكن كاتلين رين أدركت فيما بعد أن القصيدة التي بدت غريبة عن الحدث المعاصر هي صورة لأوربا الضاربة في التيه وما الرحلة وأميرها إلا مواطنوها، غزاة أو منفيين. إنه كالشاعر والت ويتمان في استخدامه للجمل ذات الطابع التوراتي وهذا ما يفسر الإعجاب الذي لقيه في أمريكا من تلامذة ويتمان.
يرى نقاد آخرون أنه أقرب إلى جماليات القرن التاسع عشر وألصق بشعر كلوديل الذي ينسج على منواله ، بينما يرى جيفري بريرتن في كتابه (الشعر الفرنسي) أن شعره يمكن أن يطلق عليه (نثر شعريّ)، وهذا الرأي ليس دقيقاً مثله مثل إطلاق ( قصيدة نثر) على شعره، إذ يحتوي شعره بالإضافة إلى النثر على أوزان عديدة يوردها الشاعر الفرنسي ألان بوسكيه في كتابه عن سان جون بيرس الذي اعتمدت عليه في كتابة المقدمة التي وضعتها لأناباز، ومن بين هذه الأوزان التي يعتمدها البحر الأسكندري ويورد الان بوسكه المقاطع العديدة تطبيقا لرأيه هذا. ولعل الرأي الذي اعتبره أقرب إلى الصواب هو رأي إليوت في مقدمته للطبعة الأولى لقصيدة أناباز والتي يرى فيها أن الشعر ليس بالضرورة أن يكتب نظما إذ بين النظم والنثر ثمة مسافة واسعة يمكن أن يتحرك فيها الشعر وهذه المسافة هي التي يكتب فيها سان جون بيرس قصيدته.

لا تستوقف النقد الأوروبي التصنيفات التي تستوقفنا نحن وما يهمهم هو عالم سان جون بيرس: كيفية التعامل معه ، طرائقه في التناول، ترجمته أما الأوزان فلا تشغلهم كثيراً . أضرب مثلا على ذلك هو مناقشة كاتلين رين ترجمة إيليوت فهي على الرغم من إعجابها بالترجمة تأخذ على إليوت عدم إدراكه لبساطة صور سان جون بيرس الواضحة، واستخدامه الألفاظ المشحونة بمعانٍ إضافية لاستدعاء الماضي في كل لفظة وصورة في قصيدة تنتسب صورها إلى طبيعة بلا ماض ولا تاريخ حيث المتحجر والعابر شيء واحد في حضوره الآن.

* و ماذا عن قصائد الهايكو؟ ما الذي جذبك إلى هذا الشكل الشعري التقليدي؟ و كيف تفاعلت مع الشاعر الياباني الذي كانت له تجربة في الحياة فريدة من نوعها؟

** نعم تقليدية ولكنها أشكال خالدة تتجدّد باستمرار حتّى أن لفظة تقليدي لا يمكن الانطباق عليها. إنها الأشكال القديمة الجديدة التي تتسع لأرهف الأحاسيس وأعقدها ، ورغم كثرة من يكتبون بهذا الشكل من شعراء العالم مشاهير وعاديين، فلا يبرز من بينهم إلاّ القليلون، لأنّ الهايكو بمعزل عن شروطه العروضية التي لا يتقيد بها البعض، يحتاج إلى زاوية حادة – إذا صح التعبير – في النظر إلى الأشياء. ولعلّ آخر ما طالعته وجذبني من كتابات ناجحة في الهايكو هو مجموعة (كتاب الهايكو) للشاعر جاك كيرواك صاحب رواية (على الطريق) المعروفة.
أما بالنسبة للشاعر الياباني سانتيوكا فإنّ أهميته تكمن في تناول ما هو عاديّ جدّاً في الحياة مع تغيير بسيط في وضع الأشياء ومجاورة بعضها بعضاً، ويكاد الديوان أن يكون سيرة حياة.. سيرة لرحلاته اليومية عبر العالم والطبيعة.. سيرة لا غرابة فيها، وغرابتها الوحيدة هي في زاوية نظرها إلى الأشياء ومنحها بعداً جديداً آخر إن لم يكن روحياً فهو العلامة التي تشير إلى ما هو روح. ليس ثمة تصوير باذخ، ولا تنوع شديد غير أنهما حاضران في قصائد سانتيوكا وكأن الشاعر يروي سيرة لا شعراً ولكن أية سيرة وأيّ شعر! إنها البساطة المذهلة في أقصى تجلياتها! وهذا ما يفتقر له شعرنا العربيّ المولع بالتراكيب المعقدة التي لن تجدها و يا للغرابة لا في شعر العالم المعروف، ولا في شعرنا العربي المعروف بصفائه و دقته.

* من الواضح أن سؤال قصيدة النثر في مجالنا التداولي جاء ضمن منظور شامل للحداثة. ما مفهومك للحداثة بشكل عام، و التحديث في مجال التعبير اللغوي و الشعري؟

** يتم تناول الحداثة إما كحقبة تاريخية أو كموقف مما هو راهن وقبض على ما هو جوهريّ فيه وليس على ما هو زائل حدثيّ ولهاث وراء ما هو شكليّ تستهلكه التقليعات العابرة. وهذا ما طرحه ميشيل فوكو في مقاله الشهير (ما هي الأنوار؟).
أما في الشعر، فالحداثة هي ما يتحقق من تحول نوعي في الشعر ضمن مرحلة معينة وتجلياتها المختلفة عند هذا الشاعر أو ذاك، وهذا ما تحقق بالفعل على يد شعراء الحداثة الرواد: السياب، البياتي، صلاح عبد الصبور، عبد المعطي حجازي، أدونيس و ما تلاهم من شعراء الأجيال الأخرى كسعدي يوسف و أمل دنقل و فاضل العزاوي و سركون بولص و مبدعين آخرين. ولم يزل هذا التيار هو السائد، أمّا الحديث عن ما بعد الحداثة فهو حديث أقرب إلى المزحة في مجتمع يعيش ما قبل الحداثة. وفي رأيي أن تجليات هذا التحول النوعي لم تستنفد بعد إذ لا تزال هناك أشكال عديدة في الشعر العربي لم تترسخ حتى الآن كالتيار الذي يمثله شعراء عديدون ولاسيما في الشعر العراقي وهو تيار يتعامل مع الواقع اليومي بتفصيلاته موظفاً هذه التفصيلات من أجل التعبير عمّا هو أعمق في هذا الواقع، وما يختفي في هذه التفصيلات من حركة مجتمع يبدو راكداً لا يلمحها غير الشاعر في نفاذه إلى جوهر الأشياء، وهو في نفاذه هذا يحقق حريته إزاء الواقع وبالتالي خلق ذاته على حدّ تعبير بودلير.

ما زال شعرنا لم يرسخ هذا الاتجاه ويستعيض عنه بحركته هو وبصخبه ولغته المفارقة التي يتصورها انعكاساً لحركة واقع أو تمثيلاً لأهم اتجاهات شعر الحداثة أو انزياحاً ، بينما هو في حقيقته ليس إلاّ نظماً خارج الشعرية الحالية التي يشكو الكثيرون مفارقتها لواقعها وعدم قدرتها على تمثله إلاّ في أصوات شعرية قليلة وقصائد نادرة حتى أصبح العثور على الشعر كالعثور على مدن الخيال المستحيلة بينما يفترض في الشعر أن يكون خبز الجميع كما حلم به رامبو ولوتريامون.

و لأنّ حركة شعرنا لم تعد تعبيراً عن حركة الواقع، نرى تلك الهوة التي تفصل بين الاثنين والتي نستعيض عنها بالألفاظ وليس باللغة ، حين تستحيل الألفاظ مجرد أصوات لا دلالة لها ولا تشير إلا إلى نفسها، ولعلّ هذا ما يفسّر فقدان شعرنا القدرة على اقتناص وهج اللحظة الحاضرة واكتشاف ما فيها من تأثير على ما سيأتي.

* لديك رأي معروف عن القصيدة العربية تقول فيه: "أرى أن ما أضر بقصيدتنا العربية هو شعريتها، أي بلاغتها في الاندياح و تراكم الصور و الأفكار دون مركز ثابت". ماذا تعني بالمركز الثابت الذي تجعله معيارا لجودة القصيدة الحديثة؟ و هل هناك من نماذج معينة يمكن أن ينطبق عليها قولك هذا؟

**الاندياح وتراكم الصور والتداعيات التي لا يضبطها مركزٌ ما هي من أبرز مساوئ شعرنا. البعض من الجهلة يتصورون الحداثة وتقليد شعرائها هو بتراكم الصور وضجيجها وألوانها الفاقعة وتداعيات أفكارها التي هي ليست في حقيقتها أفكاراً وإنما انفعالات شائهة. وقد بلغ الهوس ببعضهم إلى ممارسة النقد بعصبية منفلتة لا تتوفر حتى في أحط عضو في ميليشيات الأحزاب السياسية التي تتوالد بسرعة في واقعنا، دون أن يدرك هؤلاء أن ثمة بناء محكما في شعر الشعراء ذوي التجربة الكبيرة ابتداء ببودلير ورامبو ومالارميه وانتهاء بشعرائنا المميزين، مروراً بالشعر الإنجليزي المصمم بإحكام كما لدى إليوت وهوبكنز وأودن. ومبعث هوس هولاء هو جهلهم بالشعر وباللغات الأخرى. إن الاندياح وتداعيات الأفكار لا تخلق شعراً على الإطلاق والتحرر من الأوزان لا يعوضه غير تنظيم الشعر الجمالي المتميز على حد تعبير سوزان برنار. أما نماذجه فهي متوفرة لدى العديد من الشعراء: كفافي، ريتسوس، ميوش، زبغنييف، جاك بريفير. أما في شعرنا العربي فهي تتوفر في قصائد وليست منحىً لدى هذا الشاعر أو ذاك.

* هناك من اعتبر أن استثمارك لأشكال تعبير الفولكلور الشعبي العراقي في ديوان (زهيريات) كان محكوما، أو لنقل على الأقل، حقق خروجا على عروض الخليل أحمد الفراهيدي. كيف أفدت من إيقاعات الشعر الشعبي العراقي؟ و أنا شخصيا لا أعرف منه سوى ديوان وحيد للشاعر عزيز سماوي. ثم هل يمكن قياس حداثة قصيدة ما بمدى ابتعادها عن الإطار المرجعي الذي أسسه الفراهيدي؟

**ليست أهمية الزهيريات في خروجي على عروض الخليل كما أشارت إلى ذلك بعض الدراسات التي تناولته حسب وإنما في ما منحت هذا الشكل التقليديّ العزيز على قلوب العراقيين من محتوىً جديد وطرقاً مستحدثة في التناول:
أطلقتُ في الحلم يوماً كلّ أفراسـي
تعدو وتعدو وتعدو وسط أعراسي
حتّى انتـــــهيتُ إلى بابٍ وحراسِ
صحتُ الطـــريق فردّوا : ما وراء البابْ
غيرُ الظلام وغيرُ الريح ، صحتُ : البابْ
يرتجُّ في الريح، صــــاحوا ثمّ غاب البابْ
في ظلمةٍ لم تزل ترتجّ في راسي

هل كان الحلم موضوعاً في الزهيريّ القديم الدائم الشكوى من جور الدهر؟ لا.. لكنني استخدمته دون أن أتعسف لا بقافية ولا بعروض ولا بأخيلةٍ. وقل ذلك في الزهيريات الأخرى التي أخفت وراء شكلها التقليديّ أشكالاً خفية أخرى ووراء قيدها عالماً من الاتساع ما يصعب تحديده، وخلف صوتها الواحد أصواتاً وأصداءً أخرى تجعل الانتساب إلى شكل الزهيريّ القديم أو الحديث عن العروض وحده ابتعاداً عن النص.

* يحدوني فضول للتعرف على رأيك في ما يعرف بالقصيدة الطويلة التي تتطلب نفسا و رؤية شعرية شاسعة. تحضرني الآن تجربة محمود درويش في (مديح الظل العالي) و(الجدارية).

**ليس بالضرورة أن تحتوي القصيدة الطويلة نفساً ورؤية شعرية شاسعة. قد تكون نظماً صرفاً ومهارات ليس لها من الرؤية غير شكلها. ولعلّ في عبارة النفري الشهيرة ما ينجدنا في مثل هذه المواقف. لقد اشتهر شعراء كثيرون بقصائدهم القصيرة ذات الرؤية الشعرية الشاسعة: بليك، مثلاً، في قصائده العظيمة (النمر)، ( لندن)، (قصائد التجربة وقصائد البراءة)، بينما نرى أنه افتقد هذه الرؤية الشاسعة في قصائده الطويلة التي كتبها فيما بعد.
يحضرني هنا أيضاً أميلي ديكنسون التي كتبت أجمل الشعر في قصائد قصيرة ضمنتها رؤيتها الشعرية النادرة لذلك لا أظن أن قيمة القصيدة تأتي من كونها طويلة أو قصيرة، وإنما لما فيها من صفات من بينها النفس الذي تحدثت عنه والرؤية الشاسعة.

أمّا الإشارة إلى محمود درويش فإن أهميتها تأتي من كونها إشارة إلى تجربتين مختلفتين: عامة وخاصة. ولعل براعة محمود هي في قدرته تحويل ما هو ذات إلى موضوع كما في قصيدته (جدارية)، وما هو موضوع إلى ذات كما في قصيدته (مديح الظل العالي) عبر التفصيلات الحميمة: بيروت في أوقاتها الواقفة الساعات.. بيروت نهاراً/بيروت ليلاً.. إلخ، أو عبر حضور الآخرين في ذات الشاعر واقعاً أو أحلاماً أو تخيّلاً.. الأب العائد من الحج، الأطفال المغاربة، أبو العلاء المعري (جدارية). ولعلّ حديث محمود عن سماء المطلق البيضاء و اللاعدم ما يذكرنا بذلك المطلق الذي تحدّثنا عنه مراراً لدى هيغل الذي يحتوي الوجود و اللاوجود معاً، مكرّرا إياه في أبيات عديدة (أستل من عدمي وجودي) بالغاً حدّه الأقصى في نهاية القصيدة (أنا لست لي. أنا لست لي).

إنهما تجربتان تستحقان الوقوف عندهما طويلاً و عند ما يتعلق بهما من خاص وعام لدى الشاعر بعيداً عن التصورات المسبقة المليئة بأوهام الناقد وأيديولوجيته لا أوهام الشاعر وأيديولوجيته.

* ذكرت في معرض جوابك عن سؤال سابق الشاعر العربي أدونيس. أود لو نسائل عمله الملحمي الأخير(الكتاب) الذي يعتبره بمثابة "سفر في التاريخ العربي، عبر المتنبي- حياة وذاكرة" سعى من خلاله تجديد الشعر العربي عن طريق "خلق فضاء آخر للتصور و الفهم والمتعة الجمالية" على حد تعبيره. كيف كان تلقيكم لهذا العمل الشعري الإشكالي الطموح؟

** أدونيس ظاهرة شعرية وفكرية كبيرة، اختلفنا أو اتفقنا معه، أثارت وتثير أسئلة عديدة قد نختلف على أجوبتها، ولكنها ستظل قائمة ما دام هناك سجال في الشعر والفكر. يؤسفني أن أقول إنني لم أقرأ المجلد الأول من الكتاب إلاّ بصعوبة وحين أعدت قراءته واجهتني الصعوبة ذاتها.. وقائع لا رابط لها، لا تضيء متنا ولا تستضيء بهامش، ويثقلها تعليق نثريّ يستحيل شعراً أحياناً دون أن يفقد طابع النثر العاديّ.
ليس في هذا الشكل أيّ جدوى. إنه شبيه بعمل النحاة والمصنفين وجهد بلا طائل لشاعرٍ كبير أحبه. و لعلّ الغائب الوحيد في هذا النص هو المتنبي الذي يبدو -إن حضر- معجزة منذ ولادته (بعضهم قال: هذا ملاك) بل أن بيته نفسه بيان (كل أحجاره بيان). لم يكشف لي النص جانباً خفيّا في شخصية المتنبي أو يجسّد لي جانباً معروفاً فيه، في مشهدٍ شعريّ يستعيده حيّا. و بدا لي الكتاب الثاني أكثر طراوة وتنوعاً ولعل استخدامه النثر في فصوله التي عنون كلّ واحد منها بـ(الذكرى) ما خفّف من رتابة الوزن والإيقاع المملين وما منح المخيلة أفقاً أوسع. أما الثالث فلم أطلع عليه.

* نص أدونيس متطلب و يستدعي ذائقة خاصة و نفس طويل في القراءة لاستيعاب نص بهذا التشعب و الرحابة. ألا ترى أنه يقصي شريحة هامة من قراء الشعر الذين هم قلة تتضاءل يوما عن يوم؟ أعتقد أن سؤال المقروئية يطرح نفسه بإلحاح في واقعنا العربي.

** ربّما.. ولكن الأهم في رأيي هو تقييم النص ذاته بعيداً عن أية علائق خارجية أخرى.. الإقصاء تسهم فيه عوامل شتّى، وليس صعوبة النص وحدها. ما يبدو صعباً لقارئ قد لا يبدو صعباً لقارئ آخر، أو في زمن آخر. قد تكون الصعوبة في النص الواضح ذاته، حين يكون الوضوح مضلّلا في الشعر.
سؤالك هذا يقود إلى موقف آخر هو الموقف من القصيدة ذاتها.. من علائقها الداخلية والخارجية: هل خلفية القصيدة أو هوامشها هي علائق داخلية أم لا؟ هل هي إثقال للقصيدة أم أجنحة لها في فضاء القراءة، إن صحّ التعبير؟ إنه يطرح ما هو أبعد من علاقة القصيدة بقارئها.. إنه يطرح علاقة القصيدة بذاتها.

* يعكس كتابك الشعري (أحوال و مقامات) نفسا شعريا طويلا و أسلوبا مميزا في إنشاء معمارية مركبة لكنه يظل نصا خلاسيا يزاوج الشعر بالنثر، و السرد بالرؤيا، لكنه لا يدخل تحت مسمى القصيدة الطويلة. متى سنقرأ قصيدة عبد الكريم كاصد الطويلة؟

** لا تشغلني التسمية كثيراً. أما القصيدة الطويلة فهي ليست بالضرورة ذات شكل واحد محدّد. قد تكون فصولاً تحتوي قصائد ومشاهد عديدة وقد يتخللها السرد والتعليق والإشارات الأخرى، وقد تكون لهذه القصائد التي تحتويها القصيدة الطويلة أشكالها المختلفة ما يهب العمل حركته وقدرته على التحول لاستيعاب واقعه الغني المتعدّد، والأمثلة على ذلك كثيرة: حالة حصار لدرويش، الكتاب لأدونيس. لذلك يمكن اعتبار ديواني القادم عن زوجتي الراحلة قصيدة طويلة مكونة من قصائد عديدة تختلف في أشكالها اختلافاً كبيراً.

* عودا إلى ديوان (قفا بنك)، نلاحظ في قصائد "حذاء الملك"، و "في بلاد العجائب"، و"أحلام"، و "شيء من السحر"، أنك تحاور و تستثمر فيها عوالم الحلم و السحر و الأدب العجائبي. ما سر هذه الغواية؟

** في هذا العصر الذي يتخذ فيه الدين والعلم مسارين منفصلين والأيديولوجيات مساراً ثالثاً يتحول فيه الدين إلى علم والعلم إلى دين ويصبح الخلاص أمراً صعباً، أيجد الشاعر تُرى عزاء في الاقتراب من السحر لما له من علاقة وثيقة بالشعر في كلّ عهوده؟

في السحر قد يستعيد الشعر دور الدين في تفسير الأشياء ولا أقول الوجود لئلا يبدو في قولي تجريداً محضاً وإضفاء شيء من السر على عاديتها لتصبح ذات امتدادات لم تملكها من قبل أو تملكها ولكن بشكل آخر.. نقيضٍ ربما. خذ مثلاً الشجرة. إنها ذات مدلولات رمزية شتى في الدين والشعر: شجرة الحياة ، شجرة الخلود، شجرة آدم، شجرة الحكمة.. إلى آخره.

في قصيدتي (روح) تستحيل شيئاً آخر حاضراً وغائباً في آن واحد، واقعياً ومتخيلاً، شجرةً وكوناً، صوتاً صائحاً:

هبطت غابة
كانت خضراء
حاملاً تعاويذ لتحرسني
وطلاسم لأعلقها فوق الأشجار
لكن لم أرَ أثراً
لشجرة أو طائر
لحيوان أو عشب
لقمر أو شمس
غير روح تتبعني
وتصيح :
" اخرج !
اخرج !
من مملكتي أيها الضال "

أليس في هذه القصيدة والقصائد الأخرى التي أشرت إليها في سؤالك ثمة تذكير بما أجبت عنه سابقاً من أن ألف ليلة وليلة تثوي في شجرة قصائدي مثلما تثوي الأفعى في شجرة إنانا التي يعلوها طائر الزو الأسطوريّ. أهي جنة أخرى يطرد منها الشاعر؟

في دراسة لفانون في (معذبو الأرض) يتكلم عن السحر وتأثيره البالغ في الإنسان لما يثيره من خوف وما يمنحه من قوة ومركز وهوية في آن واحد وما يتخلله من علاقة متشابكة بالموروث والتاريخ ، فإن كان للسحر مثل هذا التأثير فلم لا يستخدمه الشاعر المشغول بحاضره والمسكون بماضيه لا سيما وأن كليهما، السحر والشعر، لصيق بالآخر.

* عبد الكريم كاصد، أرى من خلال تنوع أشكال الكتابة لديك أنك تمعن في الإصرار على توسيع مفهومك للنص الشعري المفتوح الذي يتغذى من مصادر متعددة دون أن يفقد المركز الثابت في العملية الإبداعية. فمرة تكتب نصا قصصيا بنكهة الشعر و مرة أخرى تشتغل على المتخيل الرحلي. تارة تميل إلى نصوص بنفس صوفي كما في (أحوال و مقامات)، و تارة أخرى تمتح من مناخ الشعر الشعبي. بل طرقت حتى المسرح الشعري في (حكاية جندي)، و كأن في دأبك هذا بحث عن "لغة أخرى".

** ربّما.. و أقول لك صادقاً إنني لم أتعمد ذلك، ولم يكن دافعي البحث عن لغة أخرى وكثيراً ما يفاجئني الشكل الذي تتخذه قصيدتي. فأنا مثلاً عندما قمت بترجمة (حكاية جنديّ) لم يكن في ذهني الشكل الذي تتخذه المسرحية المكتوبة شعراً في الأصل الفرنسيّ، وحين ترجمتها وجدت النص العربي يتشكل ويتخذ أبعاداً لم أفكر بها من قبل: مقطوعات غنائية وحوارات تقترب من اللغة العادية، دون أن تغادر ألفتها حتّى وهي تتسم بالغرابة أو تفارق إيقاعها، لذا لم أتقيد بشكل واحد في الكتابة بل استخدمت كلّ الأشكال الشعرية الممكنة والنثر أيضاً. و لعلّ ما ساعدني أكثر في تنوع تجربتي هذه الحرية المطلقة التي منحني إيّاها المخرج في التغيير والإضافة والتأليف في داخل المسرحية. وهذا ما فعلته محافظاً على جوهر المسرحية ومسارها المألوف، بينما تقيدت المترجمة الإنجليزية بالدوبيت طوال المسرحية، وهذا ما جلب لها النقد من المخرج ذاته ولم يمنح الممثلين الإنجليز تلك الطواعية التي تميز بها الممثلون العراقيون.

إنني لست الشخص ذاته في كلّ تجربة. كل تجربة خلق لي واكتشاف لم أفكّر به من قبل، وإلاّ ما فائدة عمل لا يبعث المتعة والفرح بالولادة الجديدة.

المحور الخامس:
عن الحب و شياطين أخرى

تأملات في الوطن و المنفى/ (في محاورة ادوارد سعيد)

* عبد الكريم، من يتأمل سيرتك الذاتية و الإبداعية، على النحو الذي دأبنا عليه في هذا الحوار، سيجد أنها ظلت محكومة بثنائية ملازمة، أقصد بها ثنائية البيت/الطريق، والوطن/المنفى. ما الوطن في تجربة الشاعر عبد الكريم كاصد؟

** لم أكن أتصور أن علاقتي بالوطن ستكون بمثل هذا التعقيد. حين غادرته استحال فجأةً ذكرى بعيدة، مثلما استحال مستقبلاً بعيداً أستحضرهما كأنهما مظهران لشيء واحد. فماذا أفعل بمستقبلٍ لا أدري متى يأتي؟ وماذا أفعل بماضٍ لا أدري متى ينتهي؟ لم أكن أريد من المستقبل غير أن يكون ماضياً، فإن لم يكن فليكن إذن مستقبلاً لا يريده المنفيّ غير مسرح يدخله متفرّجاً لا ممثلاً وقد أتعبته الأدوار وضاق بالتمثيل، وأصوات ممثليه العالية بعد أن اعتاد صمت المنافي وضجيجها الذي لم يكن مهلكاً، كما في وطنه الذي عاد إليه ليشهد أن المتفرج هو الضحية والممثل هو الجلاد و أنّ للفرحة شعائرها السوداء.
كان الماضي بعيداً والمستقبل بعيداً، غير أن ما يحدث الآن لا يمكن تصديقه: كيف يكون الحاضر بعيداً؟
مرّتين عدت إلى الوطن وفي كلّ مرّةٍ يزداد الحاضر ابتعاداً، وقد يبتعد أكثر. ما الذي يتبقّى لي عندئذٍ وقد فقدتُ ماضياً ومستقبلاً وها أنا أفقد حاضراً؟

* في كتابك "أحوال و مقامات" أفردت فصلا خاصا للتأمل في الوطن و المنفى. أود لو تضيء لي، وللقارئ طبعا، بعضا من العبارات الواردة في الكتاب و التي تحتاج إلى إفاضات منك وخصوصا أن هذا النص بالتحديد يشتغل على اللغة الاشارية الصوفية.
"سعادة المنفي النسيان، لكن أنى لذاكرته أن تنسى".
"حين يكون الشعر وجودا، فكل مظهر للنسيان عدم".
"ليس الطريق إلى المنفى معبدا بالوطن".
"ما أكثر المرايا في منفاي".
"الشعر دفاعي الوحيد في المنفى".
"أيكون العراق القادم منفى آخر؟"

** كتبت هذه العبارات منذ أكثر من عقدٍ تقريباً. ولولا لغتها الإشارية لما بقيتْ حتى هذه اللحظة. هل لأنها تشير إلى نفسها وليس إلى شئ آخر؟ أم إنّ هذا الشئ الآخر كان غائباً أو صار غائباً أو سيكون غائباً؟ لا أريد أن أعود إليها وقد أصبحت حرّة تشير إلى الاتجاه الذي تريده. لندع إذن هذه العبارات تبتهج بنفسها بعيدةً عن فضولنا وقد ابتعدت بالفعل عنّا كثيراً.

* تحضرني في هذا السياق صورة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي استطاع أن يجعل من وضعه كمنفي حالة للتأمل العالي، كما استطاع أن يحول تجربة المنفى إلى تعبير و معنى. كيف تقرأ تجربة هذا المفكر العربي على ضوء تنظيراته الرفيعة و المتعددة لمفهوم الشتات وانتصاره للمهمشين و للجماعات المضطهدة في العالم بنحو نصب هذا الموضوع في قلب الجدل العالمي، سواء الأكاديمي أو السياسي؟

** بين مقاله الأول المنشور في مجلة "مواقف" في الستينات والخاص بإشكالات الثقافة العربية، وكتابه الأخير (الإنسية والنقد الديمقراطي) مسيرة فكرية طويلة وصراع مرير لم تزل تأثيراته قائمة حتى الآن، ولعل من أكبر إنجازات هذا الفكر هو حضوره في قلب الجدل العالمي الأكاديميّ والسياسيّ معاً، لا بصفته فكراً تأمّلياً حسب وإنما بصفته فكراً مغيّرا أيضاً. وتبقى طروحاته المتعلقة بالاستشراق، مهما اختلفنا حول تفصيلاتها، صحيحة إلى حدّ ما، حتى إننا نستطيع أن نطلق عليها ما عبّر عنه إدوارد سعيد نفسه يوماً بمفهوم: البداية، في مقالة له بعنوان: (تأملات حول البداية) التي تتلمس تأثيراتها لا في الحضور في الأجواء الأكاديمية والدراسات الاستشراقية الحاضرة وإنما في بعض الكتابات التي تشكل علامات بارزة في الثقافة المعاصرة ككتابات تودوروف وآخرين .
هذا المنحى قد يمتدّ إلى مجالات أخرى.. إلى حفرٍ آخر في البنيات المستقرّة التي تبدو مكتملة غير أنها تحمل عناصر تفكيكها بانتظار من يقوم باكتشاف هذه العناصر. وإذا كان سعيد لم ينقطع عن ممارسة النقد في المجال السياسيّ الذي ظلّ مواظباً في تناوله من خلال مقالاته الجريئة المتواصلة عن الوضع العربيّ الراهن إلاّ أننا لم نتلمّس مثل هذه الممارسة في الجانب الثقافيّ، إذ لم نجد، في كتاباته اللاحقة عن الثقافة العربية، ما يشعرنا بذلك الامتداد الفاعل لمقاله الأول المنشور باللغة العربية في "مواقف" في الستينات والذي يتناول فيه بنية الثقافة العربية وإشكالاتها.
قد يرجع ذلك إلى انشغالاته الأخرى التي أخذت جانباً كبيراً من وقته: المثقف والسلطة، المثقف والمنفى، المثقف والقيم الإنسانية، الانشغالات السياسية، وغيرها من الموضوعات الأخرى بالإضافة إلى شاغله الأساسي: الاستشراق، مما جعل كتاباته عن الثقافة العربية تقتصر على مقالات تقريضية أشك في قيمتها الثقافية وهي لا تعدو أن تكون كتابات أقرب إلى المجاملات منها إلى المعرفة الدقيقة بالأعمال المتناولة وعلائقها بمحيطها الثقافيّ.

* محاورة إدوارد سعيد تفضي بنا إلى مساءلة وضع المثقف في عصر تبدلت منظومة قيمه ورهاناته و الوضع الاعتباري لمثقفيه و مبدعيه. كيف يمكن للمثقف اليوم أن يعيد ارتباطه برهانات مجتمعه في المرحلة الراهنة و أي نوع من الخطاب يمكنه أن يعتمده في نشر القيم الإنسانية بأنجع السبل الممكنة؟

** يواجه المثقف إشكالات عديدة: لعلّ أهمها الموقف من ثقافته والثقافات الأخرى، الموقف من السلطة، الموقف من المجتمع، الموقف من القيم الإنسانية، وهي مواقف متشابكة ولا يمكن الفصل بينها. فإذا أخذنا موقف المثقف من ثقافته والثقافات الأخرى نجد أننا إزاء إشكالية حقيقية تتعلق بالثقافة ومحاولة عزلها وكأنها ظاهرة مستثناة من بين الظواهر الأخرى، بمنأى عن أي تأثير قادم من خارجها: هل هي ظاهرة استثنائية حقا؟ هل ظاهرة الاستيراد التي شملت السلع لم تشمل الثقافة نفسها؟ هل نحن منتجون ثقافيون أم مجرد مستهلكين؟ هل استطعنا حقّاً أن نستوعب الأفكار التي استعرناها من الثقافات الأخرى لنتمثلها و بالتالي أن لا نعيد إنتاجها مشوهة بل أن نتجاوزها إلى ما هو أعمق في التعبير عن واقعنا وذواتنا معا؟
ما زلنا نردّد كالببغاوات ما يقوله الآخرون وكأنه كتاب سماويّ. كم لدينا من كتابٍ سماويّ؟ وفي استيعابنا، فرضاً، الثقافة الأوربية هل استوعبنا هذا المجهول في الإنسان واللامنطقي لإضاءته بالتفكير لا بإلغائه باسم العقل، مثلما طرح ما يشبه ذلك إدوارد سعيد نفسه في مقالته في مواقف التي أشرتُ إليها.
لعلّ سؤالك عن إعادة الارتباط برهانات المجتمع ليس بعيداً عمّا طرحناه، ففي الوقت الذي يتكلم فيه إدوارد سعيد، في أحد حواراته، عن امتزاج النص بما حوله من أشياء أخرى يطرح مثقفون آخرون عزلة النص عن أية علائق أخرى غير علاقاته الداخلية ونقاوته وهم الأكثر التصاقاً بالسلطة و تنظيراتها. ولعل في طرحهم هذا محاولة تصعيد وهمي لما يعانونه هم، لهذا نجد أن القيم الإنسانية تكاد تكون غائبة في خطاب الإعلام العربيّ الذي يديره أو يرتبط به عدد كبير من المثقفين العرب الذين تبدو أصواتهم صدى لما هو رسميّ ... صدى بعيد لصوت صارخ فظ يصطبغ الآن بأفقع تلاوينه البغيضة: الطائفية. لهذا أرى أن مهمة المثقفين الحقيقيين في نشر القيم الإنسانية ليست بالهينة على الإطلاق لا سيما إن هذه القيم ليست أفكاراً ولا روحاً حسب وإنما هي إبداع أيضاً.
في كتابه (الإنسية والنقد الديمقراطي)، بترجمة فواز طرابلسي، يورد إدوارد سعيد رأياً لأدورنو هو: " أنّ أحد المعالم المميزة للحداثة هو كيفية احتياج الحيّز الجمالي والحيّز الاجتماعي إلى البقاء – غالباً عن وعي وفي مستوى عميق جدّاً – في حالة من التوتّر المستدام " . هذا التوتر الدائم سيظل احتياجاً لا في النص الأدبي وحده وإنما في موقف المثقف نفسه في واقع هو نفسه في حالة توتر دائم .

* أريد معرفة وجهة نظرك في مقولة "نهاية المثقف"، التي تم نحتها على غرار مقولات أخرى، كنهاية المؤلف و موت المؤلف و موت النص و غيرها من النهايات الافتراضية المحمومة. ماذا نعني بهذه المقولات، في ظل شرط تاريخي كوني يضع الإنسان بكل منظوماته التقليدية أمام مساءلة جذرية لطبيعة وجوده و تأمل حاسم لمصيره الفردي و الجماعي؟

** الغريب أن هذه المصطلحات أفضت إلى نقيضها، فموت المؤلف أفضى إلى تألق نجم المؤلف في سماء الصحافة و الإعلام، وموت النص أفضى إلى اتساع مفهوم النص ليشمل حتى إعلانات الشارع ، ونهاية المثقف ليس سوى افتراض محموم أيضاً، نرى ما ينقضه في مؤسسات الدولة وما يحيطها من مؤسسات مدنية تابعة.
حين كنت طالباً في جامعة نورث لندن استأثر بانتباهي ترديد المدرسين أسماء دريدا، وميشيل فوكو، ورولان بارت في مواضع لا تستدعي هذا الترديد ناطقين مصطلحاتهم الفرنسية بلكنة إنجليزية ثقيلة، وحين سألت زميلة لي عن ضرورة ذلك أجابتني: That is business. و ما هو أخطر من كلّ ذلك هو الإعلان عن " موت الإنسان ".

* في محورنا السابق، وصفت ادوارد سعيد، تلميحا و دون ذكر اسمه، بالمفكر الكبير. و قلت بالتحديد: "لا أفهم أن يكتب مفكر كبير عن الروائي ف.س.نايبول باعتباره نموذجا للمثقف في العالم الثالث ثم يطرده من مدينته الفاضلة. أو يهجو لغة ليمدحها فيما بعد". هل تخشى التناقض إلى هذا الحد؟ ألا يمكن اعتبار هذا نوعا من التطور في فكر صاحبه ينم عن مراجعة ذاتية بدل أن نرى فيه تناقضا كما أوحت بذلك عبارتك؟

** لا.. أنا لا أتحدّث عن ذلك التناقض اللصيق بأيّ فكر حقيقيّ والمفضي إلى تركيب متطور، وإنما أقصد به هذا التناقض الذي لا تتوضح لي أسبابه ولا يؤدي إلى طباقه. وإنما يبقى في حدوده تناقضاً فاقعاً بين قطبين: خطأ أو صواب؟ لست أنا الذي يضع الحدود بين هذه القطبين وإنما النص نفسه. لا أخشى التناقض إذا كان تركيباً، وإنما أنا أخشى ذلك الفكر الذي يقودني لا إلى منطقه الجدلي، بل حتّى إلى منطقه الأرسطي دون أن يحقق شروط هذا المنطق، لأنه لا يفضي إلى نتيجة معينة في نقضه نفسه، أو يحاول الاغتناء بهذا النقض. إنني قد أفهم هذا التناقض وأفهم الظرف الذي أفرزه ولكنني لا يمكن أن أبرّره، مثلما لا أجد تبريره في ما كتبه نايبول، مثلاً، سواء في رحلاته إلى ما يسمى بالبلدان الإسلامية أو في تصريحاته، أي أنني بصفتي قارئاً سيكون مثلي كمثل الثالث المرفوع في المنطق، معلّقاً بين قوسين، وهذا ما لا يقبله أي قارئ مثلي. كلّنا نعرف المدائح التي كالها إدوارد سعيد لمن ترجموه، أحيانا بشكل سيء، ناعتاً إيّاهم بنماذج مثقفي العالم الثالث وهم لم يكونوا غير موظفي مؤسسات، أو متملقي مؤسسات، ولبعض الكتاب العرب بسبب علاقاته الخاصة بهم، وهذا يمكن تبريره بذرائع شتى، إنسانية ومهنية وعلائق خاصة، ويبدو صغيراً إزاء المشروع الضخم الذي أنجزه هذا المفكر الإنسانيّ الكبير.
يمكن أن أجادل إدوار سعيد في موقفه التقريضيّ من ماسينيون وأقول عنه إنه خاطئ لأن ماسينيون لم يكن مبرءاً من موقفه الاستشراقيّ مثلما أشار إلى ذلك نقاد إدوارد سعيد، مثلما أستطيع أن أناقشه في مواضع أخرى كثيرة سواء تعلقت بأفكار ما أو شخوص ما ولكنني لا أجادل في ذوقه الخاص وتفضيله هذا الكاتب أو ذاك حتى لو كان مضلّلا إلاّ عندما يكون هذا التفضيل أو التقييم مفضياً إلى ما ينقضه تماما من دون أي توضيح.

* في حالتك أنت، هل سبق لك أن أدليت برأي أو موقف في حوارات سابقة اتضح لك فيما بعد أنك كنت فيه مجانبا للصواب؟

** لا أعتقد أنني وصلت بأخطائي إلى ذلك الحد الذي يدفعني إلى الجلوس على كرسيّ الاعتراف، وإذا كان ثمة أخطاء فهي أخطاء انفعالات لا تناقضات مواقف وأفكار تستدعي الاعتراف. واقصد بتناقض الانفعالات أن ثمة حماساً زائداً في هذا التقييم أو ذاك ولعلني مارسته أيضاً في حوارنا هذا لا سيما إنني في حقل شديد النسبية هو حقل الأدب والشعر. و إذا كان ثمة أخطاء فعليّ أن أوضحها، فإن لم أفعل فليوضحها لي الآخر لأتعرف عليها أو ليسمع وجهة نظري. لأن غياب الوضوح هو خطأ آخر. إن طريق الأخطاء ليس طريق فروسية على الإطلاق، وليس دلالة دوماً على غنى الشخصية إن لم يكن مفضياً إلى تركيب ما، أو توضيح ما، كما أسلفت. أما أن يكون مجرد نقلة في الخطى فهو أمر لا يمكن التغاضي عنه، وقد كثرت النقلات في مواقفنا وأفكارنا وشاعت المواقف المذبذبة لكتاب ومثقفين لم يعودوا يعبأون بكلمة (خجل) التي ترد في قصيدة لأراغون بهذا المعنى، ولكن ما أبعد عزيزنا الراحل الكبير عما استطردنا فيه من أفكار.
من جهة أخرى، فإنني لست بذلك الباحث الذي يقدّم أفكاراً، وما أقدّمه ليس سوى رؤى وأحلام تتضمن أفكاراً هي ليست بذلك التحديد التي تتصف به أفكار الباحث. إنني لا أحمل، بصفتي شاعراً لا باحثاً، حقيقة كاملة أو تصوراً كاملاً عني أو عن العالم بل أكتشف هذه الحقيقة أو هذا التصور عبر تشابكات عديدة وبحث دائم، وعبر ما هو نسبيّ دوماً. لا تصورات قبليّة لديّ، وتقييماتي لا تتحدّد بي، بل بعلاقتي بالعالم.. حتى أفكاري لا أستخدمها دائماً لأنني لستُ معنيّاً باستخدامها وتقديم الحقيقة جاهزةً إلى الآخرين، بقدر ما أنا معنيّ بعلاقتي بالعالم والبحث عن الحقيقة عبر وسائلي الفنية العديدة، ولولا الحوار الذي تجريه معي لبقي، ربّما، الكثير مما أحمله من أفكار ومواقف وأحاسيس، غير واضحٍ ، أو معبّر عنه ، حتى بالنسبة إليّ .

* إدوارد سعيد مفكر عربي عالمي. كيف نصون، نحن أبناء جلدته، تراثه المحتفى به عالميا، في الوقت الذي يستفاد من ثمرات فكره في الجامعات الأوروبية كما في القارة الهندية والأمريكية والآسيوية ؟

** مرّة قرأت مقالة لإدوارد عن رحلته إلى كوريا بدعوة من اتحاد الكتاب الكوريين، كما أظنّ، فأدهشه ما رآه من ترجمات عديدة لأدبنا العربيّ، مثلما أدهشته معرفتهم بنا ، ومن بين الترجمات التي رآها هناك بعض أعمال غسان كنفاني. هذه المعرفة يقابلها جهل يكاد يكون مطبقاً بأدبهم وكأنهم أمة بلا أدب أو فكر، بينما يمكن لأيّ متابع لأدبهم، في اللغتين الفرنسية أو الأنجليزية، أن يلمس مدى غنى هذا الأدب المتعدد في رؤاه وأساليبه. ولعلّ من المصادفات الغريبة حقّاً أن أكتشف مرّة في أحدى الأنتولوجيات عن الشعر الكوري المعاصر المترجمة إلى الإنجليزية أن من بين شعرائهم شاعراً اسمه "كيم كريم"، (هل هو من أصلٍ عربيّ؟)، وفي إحدى قصائده يصف سلسلة جبال بهذا البيت: " جبال تغطت بأردية عربية ملونة".. بيت يذكرنا بامرئ القيس:

كأنّ أباناً في أفانين ودقه           كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مزمّلِ

الاحتفاء الحقيقي بإدوارد سعيد ينبغي أن يبدأ بإعادة ترجمة بعض كتبه الرئيسية كـ (الاستشراق) وترجمة ما تبقى من كتبه كـ (البدايات) واعتماد مؤلفاته مصدراً للدراسات في الجامعات لكي يصبح جزءاً لا من نظام التعليم لدينا بل جزءاً من ثقافتنا المستعادة وتاريخاً للفكر الإنساني الذي تميز به الراحل والذي اتخذ أبعاداً أكثر اتساعاً من نقده الاستشراق والبقاء في حدوده . تحضرني هنا كلمة لإدوارد سعيد وردت في كتابه (الإنسية والنقد الديمقراطيّ)، يقول فيها: " لو كنت مجبراً على أن أختار لنفسي دوراً، بما أنا مثقف إنسانيّ، بين أن أدلي بـ " شهادة توكيد " لصالح بلدي بعصبية وطنية، كما فعل ريتشارد رورتي مؤخّراً (وقد أستخدم عبارة" الإنجاز" لا "التوكيد" على أنها تؤدي المعنى ذاته، في نهاية المطاف) أو أن أضع بلدي موضع التساؤل على نافٍ لأية عصبيّة وطنية، لاخترت دور المسائل بلا أدنى تردّد."، لذا أخشى أن يُقدّم إدوارد سعيد مثلما قدّمه الفكر القومي المتعصّب بصفته " شهادة توكيد " وليس ذلك المفكر الإنسانيّ المعجب بعبارة فيكتور هوغو البليغة: " إنه لمصدر عظيم، إذاً، من مصادر الفضيلة لدى العقل المتمرّس أن يتعلّم في البداية، شيئاً فشيئاً، تغيير نظرته إلى الأشياء الظاهرية والعابرة، كيما يتمكّن بعدئذٍ من تركها وراءه إلى الأبد.. فمن يجد وطنه عزيزاً وأثيراً لا يزال غرّاً طريّاً، أمّا الذي يجد موطنه في كلّ أرض فقد بلغ القوّة، غير أنّ المرء لا يبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أجمع أرضاً غريبةً، فالنفس الغضّة تركّز حبّها على بقعةٍ واحدةٍ من العالم ، والرجل القويّ يشمل بحبّه كلّ الأماكن، أمّا الرجل الكامل فهو الذي يطفئ جذوة الحبّ لديه ".

* عودا إلى ضوء الشعر. في العديد من حواراتك مديح لصورة الشاعر الجوال المتجسدة بامتياز في الياباني سانتيوكا تانيدا، الذي ترجمت له ديوان شعر الهايكو بعنوان "نكهة الجبل" (2005)، وهولدرلين، الذي تكن حبا خاصا. هل في تقديرك لا يمكن للشاعر أن يكون إلا عابرا ومرتحلا؟ ثم ماذا يقدم له وضعه المتوتر، بوصفه شخصا عابرا للزمان والمكان، من عناصر وزوايا متعددة لمقاربة الواقع و استشراف آفاقه؟

** ليس بالضرورة أن لا يكون الشاعر إلاّ عابراً ومرتحلاً، رغم أنني أمضيت عمري عابراً مرتحلاً حتى هذه اللحظة.. موزّعاً بين أمكنةٍ شتّى و أزمنةٍ شتّى، بين وطنٍ غائب حاضر و منفى حاضر غائب . ألا يقيم الشعر في كلّ شيء.. في الإقامة و الترحال، في المدينة والصحراء، في السماء و الأرض؟ لا أعتقد أنّ وضع الشاعر المتوتّر مقتصرٌ على شخص الشاعر العابر، فهو قدر الشاعر مقيماً أو مرتحلاً.. الشاعر الحقيقيّ المأخوذ بجمال البشر والأشياء والذي يحزنه ما يتعرض له هذا الجمال من تهديدٍ و فناء.
يبقى الواقع ، بشخوصه وأشيائه ، نصب عينيّ أينما حللت أتعامل معه مثلما تعاملت معه في مكاني الأول، ففيه لا في الواقع المتخيّل تكون قصيدتي ، وحتّى لو تعاملت مع واقع متخيل فإنّ تعاملي لن يكون بمنأى عن تأثير واقعي الحقيقيّ الذي أعيشه منفىً أو وطنا. هل أجرؤ أن أعيد كلمة فيكتور هوغو الأثيرة لدى عزيزنا الراحل إدوارد سعيد؟

* يقول ستيفن هاو، أستاذ العلوم السياسية بأكسفورد، عن ادوارد: "كان سعيد مسافرا دائما، بالمعنيين الحرفي و المجازي: رجل، بكلمات شاعر آخر كبير هو آرثر رامبو، يبدل الأوطان كما يبدل الأحذية". و هو وضع مشابه للوضع الذي عشته أنت منذ خروجك من العراق، وانتعلت مدنا عديدة..دمشق..بيروت..عدن..باريس...موسكو..و لندن. كيف عشت حالة العبور المزمنة هاته؟ و كيف استطعت أن تحول مقامك الشعري الموسوم بالعبور و الممزوج بنوع من المرارة، إلى مادة للإفصاح و الإبداع الإنساني الجميل ؟

**نعم .. قرأت هذا الرأي عن سعيد من قبل في مقالة ستيفن هاو المنشورة في الكرمل وضحكت وقتها لأن عبارة " يبدّل الأوطان كما يبدّل الأحذية " هي لبريشت وليست لرامبو وأعطيته العذر، هذا الـ (ستيفان هاو) الجميل، لأنه أستاذ علوم سياسية وليس معنيّا بالدقة التي نتطلبها في الاستشهاد.
عندما أستحضر هذه المدن أشعر باتساع هائل تضيق عنه مخيلتي وتبدو هذه المدن كأنها مدن خيالية أو غابرة لم أعشها يوماً، ومن عاشها هو شخص آخر غيري. ولعلّ ما يخلّف فيّ المرارة أنني التقيت فيها أناساً أحببتهم وأحبوني هم الآن أحياء غائبون أو موتى يحضرون في ذاكرتي أشباحاً، وقد أحضرفي ذاكرتهم شبحاً أيضاً. وحين أستعيد تلك الأمكنة الحاضرة أبداً بأزمنتها الغابرة وارى فيها شبحي العابر أتساء ل: هل كان هذا الشبح هو أنا؟ وهل أنا الذي عشت هذا الحدث حقّاً ؟ وهل .. وهل ..؟ ، لذلك لا أخفي عليك أنني أتوجس من السفر أحياناً: كيف تراني سألتقي باريس ثانية بعد فراق دام أكثر من ثلاثين عاماً وهي القريبة منّي؟ لِمَ لمْ ألتقِ بها كلّ هذه السنوات؟ أ هي خشيتي من اللقاء لا بالمدينة وحدها بل بي أنا ذلك الفتى اليافع الذي هجرتُه منذ أكثر من ثلاثين عاماً في زاوية ما.. في شارعٍ ما.. في مقهىً ما.. يا لأعراس الشارع! ويا لبساطة الناس، ما أسهلهم! وما أصعبهم!: مرةً كنتُ في شارع سان ميشيل، بصحبة صديقين، وقد أتعبنا أحدهما بالحديث عن نشاطهم الطلاّبي في لندن، وفجأة مرّت فتاة جميلة تحمل وجوه تماثيل للبيع فاستوقفتنا لشراء بعضها. قلت لها مازحاً لماذا تبيعين وجوه الناس؟ فاستوقفتها عبارتي هذه ثم انشغلت بالحديث معي مما اضطرني أن أعتذر من صديقيّ اللذين بدا عليهما المرح أيضاً بعد حديثهما الجاد بالذهاب مع الصديقة الجديدة. كانت فتاة رائعة تدعى (روز) وقد ورد ذكرها في قصيدتي (الحقائب).
كم كان العالم صغيراً! وكم كان الناس قريبين وربّما لا يزال العالم صغيراً والناس قريبين في عيونٍ أخرى. أتساءل أحياناً: إذا كانت المحبة هي ما طالعتني في أسفاري وعبوري، فمن أين يأتي هذا الشرّ الذي يملأ العالم؟ من أين يطلع هؤلاء البشر الأشرار؟ تراني التقيتهم يوماً؟ ثمة شرور صغيرة تمرّ بها ولا تعيرها انتباهاً، ولكنني أتحدّث هنا عن هذا الشرّ الذي يهدّد الحياة .. هذا الذي يبدو بعيداً وفجأةً تراه وهو يقترب منك.. يتطلع فيك على بعد خطوتين..
كيف يكون الشعر بعيداً عن كلّ ما هو جميل في هذه الرحلة؟ وهل ثمة رحلة حقّاً بلا أشياء جميلة؟ وكيف لا تكون الأشياء الجميلة وما يهدّدها من شرّ موضوعاً للشعر؟ غير أن للرحلة أشكالها فكم من شاعرٍ مقيم راحلٍ أبداً في مخيلته المعذّبة إلى فراديس الجمال: بودلير، كفافي، بيسوا، البريكان.. أجل.. لقد قادت الرحلة أوليس إلى العالم السفليّ ، ولكن كم من مباهج صادفها في الطريق !

* أوحت لك مدينة موسكو بقصائد مضمومة في ديوانك (نزهة الآلام)،1991. أخص بالذكر قصائد "الصلب" و "المخلصة" و رحيل"، و هي قصائد مليئة بالإشفاق و الأمل و الألم الجميل. لم ارتبطت لديك موسكو بهذا الشعور تحديدا؟ و هل الألم ملازم لتجربة الشعر و مخاضاته العسيرة اللاذعة؟

**زرتُ موسكو مرّاتٍ عديدة. الزيارة الأولى كانت في السبعينات. كتبتُ إثرها قصائد بعنوان (حكايات موسكوفية): المشهد، فتاة الكورس، إلى تشيخوف ، الزوج الأبديّ، يمكن ذات ليلةٍ، حكاية عادية .
في قصيدة (فتاة الكورس) إشارة إلى قصة فتاة الكورس لتشيخوف ، وفي قصيدة ( إلى تشيخوف) ثمة إشارة إلى قصة تشيخوف: سيدة الكلب الصغير، وفي الزوج الأبديّ إشارة إلى قصة دستوييفسكي الشهيرة: الزوج الأبديّ. أما القصائد الثلاث الأخرى فهي، وإن كان باعثها أحداثاً واقعية ارتسمت ظلالها في القصائد، إلاّ أنها من جهة أخرى لم تكن بعيدة عن قراءة متأنية لعالم شاعرٍ أحببت صنعته هو باسترناك ولا سيما في تشكيل الصورة الحسية الشديدة التجسيم والإيحاء وهذا قد يكون واضحاً أو خفيّاً في هذا القصائد الثلاث خاصة وفي قصيدة لي في الشاهدة أيضاً بعنوان (إلى عام 1977).
فاجأني عالم موسكو ، منذ ذلك الوقت، بخرابه الروحيّ المعكوس على الجاليات العربية بشكل واضح، و مافياته، وأسواقه السوداء:

حكاية عادية

من كثرة الأنخاب
أخاف أن تنكسر الكؤوس
كانوا بضعة صيّادين
وكلبين
وعدّة صيد
رفع الكأسَ كبيرُ الكلبين
فأقعى الصيّادون
واصطفقتْ في الأيدي الأنخاب
كان الكلّ كلاب
أمّا زياراتي الأخرى التي كتبت إثرها قصائدي الأربع: الصلب، غناء، المخلصة، رحيل فكانت بعد زيارتي الأولى بعشر سنوات حيث الأشياء انكشفت عن خرابٍ شامل، وما كان ظاهراً، لإخفاء جوهرٍ ما، اختفى هو بدوره، وحلّ محله الجوهر نفسه عارياً يبعث على الإشفاق، وحلّ محلّ الأمل المقيم ألمٌ سيمكث طويلا. كانت الأشياء تتداعى حولي، وقد أوشكت عيناي على الانطفاء. إنها مرحلة من أحرج مراحل حياتي: كيف تراني سأواجه العالم بلا عينين؟ وكيف تراني سأبصر هذا العالم وقد اختلطت أزمنته ولم يعد المكان شارة له أبداً. وجدتني ذات يوم وأنا أسير في شارع أربات فتذكرت رواية (المعلم ومرغريتا) التي جرت أحداثها في هذا الشارع وتذكرت صلب المسيح الذي يشغل جزءاً كبيراً من الرواية فتخيلتني وكأنني أندفع مع الناس في طريق أربات الذي أصبح طريق الجلجة لرؤية الصلب.

الصلب

عند "أربات"
رأيتُ الله يدعوني فأقبلتُ عليه
ثمّ لم أبصرْهُ..
كان الورقُ اليابسُ يسّاقط
والريحُ تمرّ
وعلى الشارع بحرٌ هائجٌ من سَقَطِ الناس
ومحكومون يمضون إلى الصلب
وجندٌ خائفون
قلتُ لو كلّمني الله بـ "أربات"
لو انّ الشجرَ الصامتَ لم ينعقْ
وهذي الشمسَ لم تدنُ من الأرض
و"أربات" بأحجارهِ لم يهرعْ إلى الصلب
لو ان الربّ
أطرقتُ قليلا
ثمّ ناديتُ على السائر خلفَ الموكبِ اللاهثِ في القيظ على السفح :
" يهوذا ..
أيّها الخائن "
فارتجّ الصدى الغابرُ في الأفق
" يهوذا.. ا.. ا.. ا.. ا"
كان رأسي حاسراً
والناسُ يمضون بـ "أربات"
وكان الشجرُ اليابسُ يسّاقط
والريح تمرّ

شارع شهير في موسكو كان يسكنه كبار الفنانين والأدباء

موسكو 1989

* أهديت قصيدة "المخلصة" إلى سينيدو بسكايا، طبيبة العيون في معهد فييدوروف، و هي، على غرار قصيدة "الصلب"، تمتح مناخها العام و استعاراتها الشعرية من التراث الصوفي المسيحي. هلا حدثتنا عن هذه التجربة بالذات؟ و بصفة عامة، كيف أفدت شعريا من مقامك في بلد بوشكين و دويستويفسي و تولستوي و يسنين و ماياكوفسكي... لا أعتقد أن روحا شاعرة مرهفة تستطيع أن تمر من هناك دون أن تصاب بعدوى هذا التراث الإنساني الكبير.

** مثلما قلت لك استوحيت الكثير من قصائدي عن موسكو من أعمال تشيخوف (فتاة الكورس، سيدة الكلب الصغير)، ودستوييفسكي في (الزوج الأبديّ)، و بولغاكوف في (الصلب، غناء)، مثلما استفدت من صنعة باسترناك في تشكيل الصورة في (المشهد ، يمكن ذات ليلةٍ، رحيل)، ولم يغب عنّي المشهد اليوميّ للحياة الموسكوفية في بساطتها ومفارقتها وتداخلاتها: النائم الذي يباغت الراكب جواره في المترو بالغناء، السرير الذي ينفتح في غرفة الفندق عن زهرة كبيرة بيضاء، راكب الباص الذي يتعلق كطير مذبوح، القطة التي تدخل في الليل حذائي وتنام، الموائد الفارغة في المقهى والعصافير التي تنقر صحن فتاة نهضت ، الوردة المتفتحة في آنية الشارع، السائح الذي ينشر جواربه السوداء ويتعلق بحبل الأحلام، وغيرها من الصور و المشاهد، ثمّ هذا الرعب المفاجئ:
يمكن أن يتبعك الليلة كلبٌ
فتسارع في قفل الباب المفتوح
وتندسّ سريعاً تحت غطائك ،
أما قصيدتي المخلصة التي أهديتها إلى طبيبة العيون الشابة سينيدوبسكايا فهي وليدة تجربة مريرة حقّا إذ رفض الأطباء في معهد فييدوروف إجراء العملية لعيني اليمنى لأنها حالة مستعصية ولم يقبل بإجراء هذه العملية الصعبة سوى طبيبة العيون هذه التي أبدت كلّ جهدها وبراعتها لإنقاذي لاسيما عندما علمت أنني كاتب وأنّ أداتي الوحيدة في الصلة بالعالم هي عيناي. كان ذلك أشبه بالمعجزة ، بل هي المعجزة ذاتها التي استدعت أورشليم وقد ألقيت فيها عصاي، وأقبلت أجري بعينين مفتوحتين أشقّ القوافل تعبرني ...

المخلّصة

إلى سينيدوبسكايا طبيبة العيون في معهد فييدوروف

مخلّصتي أنتِ
باركني الله في أورشليم
فألقيتُ عنّي عصاي
وأقبلتُ أجري إليكِ يعينين مفتوحتين
أشقّ القوافل تعبرني
يومَ ناديتني
(دون كلّ الحجيج)
وأطلقتِ طيرين من راحتيك وباركتِني
ثمّ أدنيتني
لألاقي بكِ الربّ
أروي عن الطير ينقلُ مملكةً
ليؤمّ النبيّون
- فليدخلوا
( هو الضوء أخضرُ .. أبيضُ )
                                 وليُقبلِ التائهون
هو الظلّ
شمسُكِ برجٌ
وبرجُكِ شمسٌ
وعيناي ..
      عيناي ..
           مبصرتان

موسكو 1989

* تحدثنا في محور سابق عن علاقتك الشعرية بمدينة عدن، و قلت لي "بالنسبة لعلاقتي بعدن فهي ليست بتلك العلاقة ذات التعقيد الكبير الذي شهد مراحل وأزمات ولكنها لم تكن بعيدة عن تشكيل رؤيتي للزمن". ماذا عن علاقتك بلندن؟ يبدو أن مقامك فيها لأكثر من عشر سنوات كفيل بتشكيل رؤية ما عن هذه المدينة الكونية التي وصفتها بأنها "بابل الحديثة بلا برج" ؟

**لا أصدّق أنّ لهذه المدينة أطرافاً. قد تسير بك الحافلة أو القطار ساعاتٍ دون أن تصل إلى ما ينبئك أن ثمة حدّاً هناك. الحد الوحيد الذي ينبئني، ربّما ،هو المطار الذي لم أتجاوزه يوماً إلاّ طائراً في فضاء لا نهائيّ لمدينة لا نهائية .

مساحات تكاد تخلو من البشر وشوارع تكتظ بالبشر. و حين لا تجد بينهم للإنجليز أثراً تطالعك لندن أيضاً. إنها الحاضرة دوماً حتى وإن اختفى بشرها. ثمة علامات عديدة تشير إليها: البشر أنفسهم بلغطهم وضجيجهم و لغاتهم وهي تعلو معلنة هويات أصحابها. ما من مظهرٍ، حديقة أو شارعاً أو مقهىً، لايشير إليها حتى سماؤها الغائمة أبداً. ولعلّ الشيء الذي يبدو لا مظهر له في لندن هو السلطة لأنها جوهر صرف روح إن شئت لا يتخذ مظهراً أبداً ولكنه حاضر كالمدينة دون أن تراه وإن رأيته ففي أشدّ أشكاله عبوراً. هذا الجوهر يستطيع أن يرصد في لحظة واحدة المظاهر أجمعها.. هويات كلّ المقيمين فيها، مثلما تروي شفرة دافنشي، دون أن يدرك المقيمون ذلك أو يشعرون بحرج أو خوف.
هنا يجد الديالكتيك تطبيقه كاملاً، غير أنك حرّ في التطبيق: المبادئ بكلّ تجلياتها، والعنصرية بكلّ موارباتها.. العقل بكلّ بهائه، والغرائز بكلّ دركها دون أن تصطدم ببعضها بعضاً . وحين تضطر صدفة ما إلى الاتصال بمؤسساتها فلا أسطع من قوانينها ولا أعتم من دهاليزه ودهاليزها. ويا للمنفيّ المسكين الذي لا يعرف لغة سيتحول حيواناً أعجم وقد يتحول مترجمه أيضاً إذا كانت المقابلة ، كما تجري الآن، لا عبر اللقاء المباشر بل عبر الهاتف وكان محدّثك صوتاً قادماً من بعيد.. صوتاً محضاً بلا فم. هنا السلطة البعيدة اقرب من كل شيء إليك: رسائل لا تنقطع، أسئلة لا تنقطع ، تقارير لا تنقطع.. كابوس لا ينقطع.. لندن المضيئة القاتمة.. العظيمة الصغيرة بصيحات سكانها المفزعة أحياناً، وهدوئهم المفزع أيضاً
في الساحة ليلاً تأتي امرأة تتحدّث ساعات في كشك الهاتف دون أن تدير قرص التلفون وبعد أن تغضب تلقي بالسماعة وتعود إلى الساحة هائجة.. تجلس قليلاً وتعود إلى حديثها المرعب المرير.. كل ليلة...
قالت لي زوجتي وهي تشير إلى الساحة جوار النافذة: انظر! ماذا يمكنني أن أفعل للمرأة؟ وفي النهار يأتي أصحاب الياقات حين تجئ الشمس ليلتهموا سندويشاتهم على عجلٍ ليعودوا إلى أكشاشهم الأخرى ملتذين بالشمس وقد يلتذون بالغيم .
مدينة مفتوحة أبداً يصيبك الدوار أحياناً وأنت تتطلع إليها، بم تبدأ؟ بل أنك قد تستسلم لاتساعها متخلياً عن طموحك المعرفي الذي لا يقل اتساعاً مكتفياً بالقليل، فاقداً دهشتك بالمعرفة والأشخاص.
يروي لي ابني: إن طلاباً أحاطوا بطفل صيني جالس إلى الكومبيوتر وهم يسخرون منه والمعلمة تنظر بلا مبالاة مما اضطر ابني إلى تنبيهها ومن ثم الصراخ في وجهها وتهديدها إن لم تضع حدّا لمثل هذه المهزلة...
ومرة حين غادر الكنيسة لأنه غير معني بترتيل الأناشيد الكنسية صادف قساً في الخارج فتبادلا الحديث وحين اطمأنّ القس لابني بدأ اعترافه معلنا لابني الطفل أنه ملحد وأن ما يمارسه مجرد مهنة. ولولا الوظيفة لكان الآن بين أفراد عائلته. أين حدود الفضيلة والرذيلة في مثل هذا الاعتراف؟
مدينة ثقافات تعج بكل أشكال الجهل؟ نجوم سماء وزواحف أرض. وبربرية تطلع من عمق الحضارة فجأة. و حضارة كأنها لم تمر بطور البربرية أبداً. كيف نلخص لندن. في مكاني القديم في بيتي الذي يشكل ركناً في المبنى كان ثمة مراهقون يتقدمون يومياً ليقذفوا بابي بالأحجار وحين أمسكت واحداً من هؤلاء محذرا إياه من مغبة ما يفعل استدعى عائلته وكانت حشداً من السوقيين ذوي العضلات المفتولة ولولا شجاعة طفليّ باستخدام ألفاظهم ذاتها ولولا موقفي في مواجهة شراستهم لالتهمونا جميعا وسط ذهول زوجتي الراحلة التي لم تر مشهداً كهذا في حياتها من قبل، ولو عاشت لتشهد ما يحدث في العراق الآن لأعادت تقييمها بالذي حدث. وحين استدعيت البوليس وقف البوليس إلى جانبهم لأنني أمسكت بذراع مراهق منهم، فاضطررت إلى استخدام وسائلهم الخفية الماكرة ذاتها في المرة الأخرى وكان القادمون شرطيين في غاية اللطف استدعيتهما خفية ليمسكا المراهقين متلبسين بفعلتهم وإحضارهم أمام بيتي هم وعوائلهم مذلين مهانين ثم طلبا مني أن أقدمهم إلى المحكمة غير أنني تخليت عن حقي هذا حين رأيت رئيس هذه العصبة وهو يبكي وسط ضحك الأطفال والمراهقين وشتائم الشرطة وإطراق الآباء وقد فوجئوا بتسامحي الغريب. إثرها غادرت المنطقة تماما وقد عافت نفسي كلّ شيء، رغم كل ما طرأ من هدوء في حياة عائلتي في ما بعد.. إلى منطقة آمنة قريبة أيضاً من أكبر مركز حضاري في أوربا.
متى ترى ندخل مملكة التاريخ؟ متى يكون الإنسان إنساناً؟ وأين سنضع ما نحمله من عبء على الأرض ؟
أفكر أحيانا فأتخيل أنّ لمدينة لندن وراء كل طبقات العقل الكثيفة الصعبة الاقتحام لاشعوراً رهيباً .. لاشعوراً يحتدم بكل الغرائز الخفية والمعلنة والتي يمر بها العقل لا منكراً بل متفهماً متسامحاً ولعلّ ما كان تصوراً أصبح واقعاً.. لم أكن أتخيل أبداً أنّ الدكتور جيكل والمستر هايد يمكن أن أراهما في شخصٍ واحدٍ في الشارع. مرة التقيت في مكتبة شاباً لطيفاً وتحدثنا عن الأدب والشعر ثم التقيته مرات أخرى ولم يكن يبدو في مظهره ما هو غريب أبداً. فجأة في يوم ما مشمس رأيته يطوح بذراعيه وهو يصرخ مهتاجاً كأنه دون كيشوت وهو يصارع طواحين الهواء والناس تفرّ من أمامه والزبد يتطاير من فمه و يا لحزني وأنا أمرّ أمامه دون أن ينتبه لي. ومرة دعتني امرأة جميلة إلى شقتها لنشرب القهوة معاً وكانت مهووسة بالكتب والمعرفة ويا للغرابة في المرة الثانية حين رأيتها وهي تدقق بأشياء الصالة وتبدي تشككها المذعور بالترتيب مما ذكّرني بفيفيان زوجة إليوت وما عانى من ذهانها فارتعبتُ ولم أرها مرة أخرى.
لندن المفتوحة المغلقة.. لندن البشر الوادعين حدّ البكاء الشرسين حدّ الجريمة لندن البشر العاديين المقهورين المتسلطين.. البشر مثل كل البشر.

ساحـة

أشجارٌ لا تسكنها الطيرُ
وبضعُ مصاطبَ
والكشكُ المهجورُ هناك
ونافذةٌ
(هي عينُ الساحة)

يأتيها الناس فرادى
وفرادى يمضون
وتكتظّ سريعاً حين تطلّ الشمس
تُعِدّ لحافاً من ورقٍ أصفرَ في الليل
وتصغي:

تأتيها امرأة
تمرقُ كالطيف وتدخل كشكَ الهاتف
تابوتَ الهاتف
تخرج شبحاً
بغدائر بيضاء
وأصواتٍ لا تفهمها حتّى الأشباح

- أ تسمعني ؟
- هل تبصر ذاك الشبحَ العائدَ في الفجر؟
- ألا تبصر نافذتي؟
(تلك العينُ المسحورةُ)

يأتي رجلٌ
من جهة السوق
فتستيقظ من غفوتها الساحةُ وتحدّق:
معطفهُ ينتفخ الآن ولا ريحَ هناك
خطوتهُ تنتقل الآن ولا صوتَ هناك
يداهُ تمرّان على جسد الساحةِ
رجلٌ
يأتي من جهة السوق
بمعطفهِ الإسمنت
ويمضي
( قبّعة حائلة تخفي وجهَهُ )

نافذة تغلقُ ..
نافذة تفتحُ ..
نافذة
وتمرّ جنازتها ( مَنْ ... ؟ )
تحت ظلال الساحة

رجلٌ
يجهش خلف النافذة الآن
ويُصغي
لحفيف الأشجار

لندن: نهاية الرحلات

* أود أن أستحضر ها هنا مقولة لك عن رحلاتك السندبادية إلى لندن التي ولجت فيها "طرق الأبدية حيث الرحيل لا عودة منه و لا رحيل إليه...". هلا حدثتنا عن هذه الرحلة الأخيرة التي أودعتها، على حد تعبيرك، أعز ما عندك؟

** مرّة قال لي الطبيب إن زوجتي ستعيش عشرين سنةً قادمةً أو أكثر، وأنا الآن لا أريدها إلاّ لحظةً.. لحظةً واحدةً لا لتبكي عليّ، بل لأتحسّسها، لأشمّها، لأعرف أنّ الموت زائل كالحياة، وأنّ منْ عشتُ معها جلّ سنوات حياتي ليستْ ظلاّ بل من لحمٍ و دمٍٍ.. لأعرف أنّ نصفَ جسدي القابع هناك في حفرةٍ مظلمةٍ محضُ وهم، ولكن هيهات! هيهات! ما أبعدني! ما أبعدني! وقد تساوت اللحظة والسنوات في زمنٍ لا يمرّ.
ما الأبدية؟ ما الطريق إليها؟ وأين أنا؟ إذا كانت اللحظة والسنوات تساوتا في زمنٍ لا يمرّ. أحباء كثيرون ماتوا لي. بعضهم مات بين ذراعيّ، ولكنني لم أعشْ تجربة كهذه. كيف من قاسمتها وقاسمتني كلّ شيء، ربع قرن، تختفي فجأة، لتعود إليّ شبحاً يتجوّل في أروقة ماضيّ لأرافقه وقد غدوتُ شبحاً أيضاً؟.. و قد نزور معاً قبرها الوحيد بين قبورٍ تتجاور ولا تلتقي أبداً. كلما شارفته تساءلت: أمملكة الموت أعبر؟ مثلما أتساءل كلّما غادرته: أ مملكة الموت أغادر؟ وبين المملكتين .. مملكة الموت التي أدخلها كلما زرتُ المقبرة واجتزت بوابتها، ومملكة الأحياء التي أدخلها كلّما غادرت المقبرة واجتزت بوابتها سأظلّ أنا ذلك الغريب عن المملكتين، أتطلع فلا أجد نفسي: إقامة أم رحيل ؟ في طرقٍ للأبدية أم في الأبدية نفسها ؟ أين أنا؟

لم تفارقني الصدمة سنين ثلاثاً، وأنا أتردّد بين المقبرة وبيتي. وآنس مع الأحياء، مثلما آنس مع الأموات، أتحوّل شبحاً، وأتجول طيفاً لا يراني أحدٌ. هل يراني الموتى؟ لكنني لم أتخيل أنّ للشبح تلك القدرة على مشاركة الناس أفراحهم، وربما، الموتى؟ أ ليس للموتى أفراحٌ أيضاً؟

مملكة

كلّما اجتزتُ بوّابة المقبرة
وتخطيتُ تلك القبور
ولاح السياج بعيداً
يسدّ السماء
وشارفتُ قبرك
قلتُ: أ مملكة الموت أعبرُ؟
أم إنّني
- وقد وقف الموت بيني وبينك –
ذاك الغريب الذي اجتاز مملكة
وعاد إلى عالم الناس
وهو الغريب
يودّع بوّابةً
ويغادر
يفصله عنكِ ذاك السياج
يلوح بعيداً
بعيداً
ويصغرُ
     يصغرُ
          في الأفق
               حتّى
                    يغيبْ

مررنا أنا و حذام ببلدان عديدة ينقصها الدواء فلم يحدث لها ما يفزعني، على قلقي وتوجّسي الدائمين. كنت أتطلّع حولي وأقيس المسافة بين أقدارٍ محتملةٍ، ووطنٍ بعيد وأدفع الموت بيديّ.. ودفعته، فهل كانت نجاتها آنذاك خطأ؟ وحين وصلنا هذه البلاد خفّ هاجسي واطمأن ما كان يختلج في خاطري وخاطرها ، ونسيت أن الخطأ قد يكون معياراً، والمعيار خطأً وأسلمتُ أو أسلمتْ روحها وجسدها إلى مشارط الطبّ، ونجت ثانيةً، بعد أن توقّف قلبُها دقائق، وحين عادت إلى البيت ما كنتُ أحسب أبداً أنها ستفارقني، وفارقتني وما كان ذلك بسبب قلبٍ ضعيف عاد ينبض ثانيةً، بل بسبب خطأ بسيط .. خطأ في المعيار.. معيار دوائها الذي تتعاطاه بعد كلّ فحص دمٍ.
حين قرأت لها قصيدتي عن نجاتها بكتْ كثيراً:

ستأتيك أمي والنائحات
بالتعازيم و الأدعيهْ
سيأتين في الريح كالساحرات
ويُرجعن ما ضاع منّي ليَ
سأوقظ أمّيَ من قبرها
وأصيحُ بها راعفَ الصوت : " أمّي .. أطلّي عليّ ! "
ستهتزّ أمّي كثيرا
لتنفضَ عنها الغبار
ستهتزّ أمّي كثيرا
لتنفض عنّي الغبار
ستهتزّ أمي
ستأتي بأسمالها
ستأتي بصرّتها وعصاها
وتقرع ُ
تقرع ُحول سريرك
حتى تقومي على عجلٍ
وتعودي على قدمين إليّ

من قصيدة ( الوقوف عند بوابة الليل )

وعادت ثمّ رحلت ثمّ عادت ثم ... وها هي تقطع الطرق معي: أترانا نقطع طرق الأبدية ؟

* عبد الكريم، كتبت قصائد عديدة كانت فيها الحبيبة هي المحاور الأبدي سواء في قصائد "عن حذام و بصرتها" أو "مملكة الأنهار". و أكاد، بعد قراءة استرجاعية في دواوينك، أستشعر حضورها يتخلل مجمل أثرك الشعري إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. و قد لمست لديك ما يكفي من الرغبة في البوح و الإفضاء في هذا الموضوع لأتجاسر على طرح سؤالي عن زوجتك حذام. من تكون؟ و كيف ترسم لنا صورتها الواقعية بعدما جعلت منها محاورا رمزيا أو قل "نسيج العناصر في عين الشاعر" على حد تعبير محمد جميل أحمد.

** حين التقيتها كانت في أوائل عشريناتها وحين تزوجتها كانت في أواسطها جميلة مرحة وظل جمالها ومرحها هذان يلازمانها حتى رحيلها . كان لضحكتها رنّة بهيجة أميّزها من بين آلاف الضحكات .. كأنها مخلوقة للبهجة وإشاعة الفرح. لم أرها غاضبة قط، مثلما لم تفارقها وداعتها يوماً حتّى وهي تحتضرعلى فراش المرض. تتحسس راحتي باطمئان وتغيب ذاهلة. كنت أتمنى أن تقول شيئاً .. ولكن هيهات!
بعد رحيلي سنة 1978عبر الصحراء تبعتني وهي تجتاز رحلتها الشاقة أيضاً عبر سفارات تتوجس، وسفرٍ مربك، وأفق مجهول. وحين حضرتْ حضر معها كلّ شيء: أعراس عدن الغائبة، العراق الخائف حتى من الفرح، رائحة الأهل.. إنها نسيج العناصر حقّاً.. ما أجمل تعبير صديقي الشاعر السوداني المرهف محمد جميل أحمد وما أجمل اختيارك!
وفي دمشق كان بيتنا محطة للأصدقاء القادمين والذاهبين من و إلى شمال العراق .. جنوب لبنان.. البقاع.. أقاصي الأرض ، تستقبلهم بوداعتها المعهودة التي اجتازت حدوداً ومخافر وكأنها تجتازها في الأحلام خفيفة لم يروّعها حقولها التي امتلأت ألغاماً .
أتذكر حين استوقفونا في مطار بوخارست طويلا للتحقق من جوازاتنا المزورة ومعنا طفلتنا الصغيرة سارة لم تفزع ولم تتغير ملامح وجهها وظلت تداعب طفلتنا وتكلمها وكأننا في مقهىً أو شارع، رغم منظر العوائل العراقية المحتجزة التي صادفتنا في المطار وهي تفترش الأرض أمام أعين المسافرين في الفسحة المجاورة دوماً لرجال الجوازات.
في طريقي إلى جيكور السنة الماضية مررت بقريتها قرية حمدان التي يعيش فيها أعمامها والتي تقضي فيها دوماً عطلتها كلّما سنحت لها فرصة الذهاب هناك. وجدتها ليست تلك القرية الصغيرة التي حدّثتني عنها ولم أرها والتي كتبت عنها قصة تضمنتها مجموعتي القصصية (المجانين لا يتعبون) هي قصة (اختفاء عبد الرحمن) التي سردتها إليّ بتفاصيلها، وإنما قرية أخرى.. مدينة أخرى تضج بناسها ومشاغلها وصخبها اليوميّ فحذرت السؤال عن أقاربها لئلا أثير أشجاناً لم أكن متهيئاً لها وربما لم يكونوا هم أيضاً متهيّئين لها فاكتفيت بإطلالة سريعة موجعةٍ وغادرت.

* في قصائدك "عن حذام و بصرتها" تحدثت عن مقابر لندن التي هي أشبه ما تكون بحدائق حقيقية. كيف استثمر الشاعر هذه المفارقة المستعصية التي تجعل من فضاء الموت عتبة لاحتضان الحياة؟ أليست هي نفس الثيمة التي أوحت بها هذه المدينة للشاعر إليوت نفسه؟

** مفارقة مستعصية حقّا.. المدينة لدى إليوت جحيم وإنسانها عظمة على الشاطئ وإذا كان ثمة غبطة فهي غبطة لازمنية.. إشراقة هي كالومضة خارج الزمن كما في الرباعيات. تنتظم مواقفه هذه رؤية لاهوتية هي في صلب تفكيره ورؤاه، أما بالنسبة إليّ فليس ثمة رؤية لاهوتية ولا رغبة في الخلاص بل تجربة تتكشف شيئاً فشيئاً عن أحاسيس لم تكن موجودة من قبل، وأشياء تحضر لا بدلالاتها بل بحضورها الممتلئ المضئ الذي يطغى حتى على ما فيها من دلالةٍ. وإذا كان ثمة غبطة فهي غبطة زمنية.. وإذا كان ثمة إشراقة فهي إشراقة في الزمن ذاته.. وليست تلك الإشراقة العابرة التي سرعان ما تنطفئ مخلفة رماد خيبتها وراءها.
بعد أن ألفني الموت وألفته وأصبحت زيارتي المقبرة طقساً عاديّاً اكتسبت الأشياء ظلالاً أخرى وصار للموت ملامح جديدة، وللذاكرة عينان مختلفتان، وما كان غضباً أصبح استسلاماً.. ثمً صار الفقدان يكتفي بما يملأه من ظلال...

مثلما في الحدائق

مثلما في الحدائق
ينتشر الناس عند الظهيرة بين القبور:
مصاطبُ غارقة بالظلال
جناحٌ يمرّ وثرثرةٌ
أ مقبرةٌ هذه؟
أم ترانيَ أخطأتُ؟
ينقصها بضعةٌ من أراجيحَ
ينقصها صبيةٌ
وصياحٌ
لتصبح مثل الحدائق
وسط ابتهاج القبور

* على ذكر الحبيبة "حذام"، أرى أن قصائدك عنها فيها نوع من الميلانخوليا، ما يذكرني بقصائد الحب الحزينة التي كتبها إدغار آلان بو عن حبيبته الفقيدة.

** أجل ! لم أكن غافلا عن هذه المقاربة.. لقد حضرت في ذهني من قبل. في قصص بو: ليجيا وموريلا و أليونورا و في قصائده: الغراب و أنابيل لي و غيرهما من القصائد، ثمة حزن كثيف قاتل و رؤى و أحلام تتداخل مع واقع مسكون بالأبدية و الصمت. و لعل من المصادفات الغريبة التي يثيرها سؤالك هذا أن حذام كانت تحرص على اصطحاب كتب معينة عزيزة لديها في ترحالها الدائم مهما كان ظرفنا الذي نمر به و الذي يضطرنا أحيانا الى التخلص من مكتبات كاملة كما حدث لنا في اليمن أو في دمشق حيث تركنا وراءنا مئات الكتب العزيزة. من بين كتبها الأثيرة التي لا تفرط بها أبدا (مغامرات و أسرار) لادغار ألان بو الصادر عن دار النهار بترجمة الناقدة المعروفة خالدة سعيد.

* في قراءة جميلة لقصيدتك "مملكة الأنهار" يقول الناقد محمد جميل أحمد "و إذ يغادر الناس وتبقى حذام يبرز الرمز الذي يرتقي إلى مصاف صورة الوطن/الأنثى". ما رأيك في هذا التأويل؟ ثم هل فعلا تمثل قصائد "حذام وبصرتها" رغبة الشاعر في إعادة تمثل و صوغ للوطن المشتهى ولو على طريقة الشعر و انخطافاته؟

** القراءة التي كتبها الصديق الشاعر والناقد السوداني محمد جميل أحمد هي من أجمل ما قرأت من نصوص نقدية. إنها نص إبداعيّ بحقّ يمسك ما هو عصيّ على الإمساك. حديثه عن عالمي القصيدة المتجاورين واللذين ينقض أحدهما الآخر، والذاكرة التي لا تتذكر بل ترى، والمرآة التي هي ذات و موضوع، هو من الرصد البارع.
ما الوطن إن لم يكن الحبيبة والبيت والشرفة، وكلّ هذا النسيج من الأشياء غائبةً وحاضرةً؟ غير أن البيت لم يعد هو البيت وقد استحال أشجاراً ونهراً تهبط الحبيبة إليه، ومعراجاً أرتقيه، السدرة بابه والممشى ظلاله، والشرفة لم تعد شرفة (سدرةٌ أم شرفةٌ ؟)، والحبيبة لم تعد تلك التي تسبقها السلاحف في الطريق في مملكة الأنهار القادمة بحذائها الورديّ اللامع في الغبار. عالمٌ يتسع ويضيق وطناً، ووطن يضيق ويتسع عالماً.
أما قصائد (حذام وبصرتها) فهي نمط آخر من الشعر قد تقترب في بعضها من (مملكة الأنهار) لكنها لا تبلغ بدلالاتها ذلك الاحتشاد بالأشياء ودلالاتها التي تحيلها إلى رمزٍ يرتقي إلى مصاف صورة الوطن الأنثى حتى في القصائد التي تقترب من (مملكة الأنهار) لأنها، ربّما، ليس ذاكرة ترى، بل رؤيا لم تكن ولن تكون:

مملكة الأنهار

1- السدرة

هي سدرةٌ
مرّتْ بها الأفعى
ومرّ بها الطريق
وعلّقتْ إقبالُ في أغصانها حرْزاً
وجاء الطير من سبأٍ
وغادرت اليمامةُ
سدرةٌ
أم شرفةٌ
منها أطلّت في الصباح حذامِ
واتكأتْ على خشب السياج
وردّدتْ لحناً
ترى الأفعى تمرّ
ترى الطريق
الهدهدَ المسحور
أجنحةَ اليمامة غادرتْ
- إقبال
هل أعددتِ شاي العصر؟
- هل مازلتِ جالسةً إلى خشب السياج
تردّدين اللحن؟
جاء الليل
وانطفأتْ فوانيس المساء
ونشّرتْ تلك الظهيرةُ ثوبَها المغسول
واختبأتْ بجنّتها السلاحفُ
واستعاد الليل سدرتَهُ
وغاب الناس
إلاّ أنتِ
ساهرةً
وصابرةً
ترين الهدهدَ المسحور
والأفعى
وسدرتك الحبيبة
واليمامة
والطريق
يحدّقون
يحدّقون
- حذام ! هل ما زلتِ؟
هل ما زلتِ؟
ساهرةً
ألا تأتين؟

وابتعدوا
وأظلم...
آه .. أظلم تحت شرفتها الطريق

2- المرآة

عبرتْ بك المرآة.
جسرٌ
تعبرينهُ في المساء إليّ
ضوءُ قواربٍ (تأتي وتذهب)
موجةٌ...
وتكاد تغرقها المياه
وأنتِ
أنتِ مليكةُ الأنهار
تسبقك السلاحف في الطريق
حذاؤك الورديّ يلمع في الغبار
حذاؤك الورديّ عند الباب
تدنو شرفةٌ
وتلوح في المرآة سدرتك الحبيبة
يستطيل النخل
والأسماكُ تلمع
والصغارُ يجذّفون
- حذام.. هل تأتين؟
تبتعد القواربُ
صفحةً بيضاءَ
كان النهر
كانت ليلةٌ أخرى
وتعقبها ليالٍ
والصغار يجذّفون
يجذّفون
يجذّفون

3- البيت

بيتٌ على نهرٍ يُطلّ
أكان بيتاً؟
هل رأيتكِ فيهِ؟
بيتٌ أبتنيهِ
إذا اختفيتِ
أصيح من جزعي "افتحي!"
فيزول
ثمّ يعود أشجاراً
ونهراً
تهبطين إليهِ
بيتٌ أرتقيهِ
إليك
بابُه سدرةٌ
وظلالهُ ممشىً
وخطوكِ في الظلال
يرنّ
     يرنّ
          يرنّ
حتّى تخفت الأصوات
حتّى تختفي
كلّ البيوت

4- السدرة البيت المرآة

البيت قال:"سأكسر المرآة"
قالت سدرةُ البيت"احترسْ"
قالت:"سأرحلُ"
واختفتْ في صمتها المرآة
واتّشحت نوافذ بالحداد

ضحكة
(على هامش مملكة الأنهار)

لضحكتكِ الهواء
يرنّ
يهبط نورسٌ
ويطير
تلتمع المرايا
والبيوت تغادر الأبواب
ضحكتك الحديقةُ أقبلتْ
بطيورها
و تفرّقتْ
بطيورها
وتوقّفتْ
طيراً
يرفّ
يرفّ
ضحكتك السماء
نجومُها اشتعلتْ
وضحكتك انطفاء

* يظل الحب الموضوع الأكثر شاعرية لدى كل شعراء العالم، أراغون، لوركا، نيرودا و نزار القباني. ألا ترى أن العالم اليوم بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى قصائد الحب الكبير ضدا على حالة الحرب المفتوحة و مشاعر المأساة المثبطة التي باتت تجثم على روح البشر اليوم؟ هل هناك غير الشعراء من هم أقدر على إعطاء الإنسانية شحنات الفرح اللازمة و الأمل في حياة أجمل؟

** نعم.. ثمة حرب مفتوحة ومشاعر مأساة. كنتُ أرى الحرب صورةً وأحداثا بعيدةً اقتربت منها أحياناً في أماكن شتّى: بيروت، البصرة، بغداد، لكنني لم أكن أتخيلها بهذا القرب. ما يطالعنا من مشاهد لا تنتمي لتاريخ بشرٍ: طفل ميت في حافلة ملتف بكفن لا تخرج منه سوى قدميه الصغيرتين، أطفال مرميّون في الشارع وأمهات يقبلن من بعيد بصرخاتهن المفزعة، وشعورهنّ المحلولة في لقطة تعيد إلى بدء التاريخ. ماذا نسمّي ذلك؟ وفي أيّ عصرٍ نحن؟ هل حقّاً أن كوكبنا الصغير قادرٌ على تحمّل كلّ هذه الآلام؟
ثمّة أسئلة أخرى تطرحها إشارتك إلى الحبّ: هل حاجتنا تعبير عن مطمحٍ للشعر إلى مزيدٍ من الحبّ أم حاجتنا تعبيرعن افتقار شديد للحبّ؟ هل هي تشوّف إنساني أم حالة لصيقة بنا نتحرق إليها حين نفقدها؟
ما يثير حيرتي حقّاً هو فقدان شعرنا للحب لا كموضوع شعريّ يتجسد في شخص أو طبيعةٍ أو كون بل كرؤيةٍ إنسانية حادبة على الناس والطبيعة والكون، متواضعةٍ، ذاهبةٍ في العمق من موضوعها: طفلاً أم امرأة أم حجراً..بغض النظر عن قيمة هذا الشعر .
ما نجده بلاغة هي نقيض البلاغة، و ألفاظ جرداء ومهارات هي ليست بالمهارات إطلاقاً لأنّ الشعر ليس حلبة لمصارعة ثيران، ولا عرضاً لرياضيين مفتولي العضلات.
لماذا مثلاً لا أتذكّر من كلّ ركام الشعر المكتوب عن بورسعيد إلاّ قصيدة ناظم حكمت المترجمة إلى العربية، عن صباغ الأحذية منصور؟ أين نجد جواب ذلك؟
نحن لا نجيد حتى الحديث عن أنفسنا. خذ مثلاً الموقف من الموت: كم من القصائد كتبت عن الموت بتجريد لا ملمس فيه لتجربة بتفاصيلها وحرارتها وعذابها! وحين عاش الموت شاعر كالسياب واكتست قصائده لحماً ودماً حقيقيّين متقدّمة ببساطة مذهلة إلى القارئ، كبساطة الموت حين يفجؤنا ظن العديدون من الجهلة بالشعر إن السياب لم يعد يكتب الشعر الجيّد وفي ظنّهم إن الشعر كاتدرائيات ضخمة لم يدخلوها يوماً.
إذا كنّا لا نجيد حتّى الحديث عن أنفسنا فكيف ترى سنجيد الحديث عن الناس وحين أقول الناس فأنا أعني ضمناً ما تتضمنه هذه اللفظة من محبة وأخوّة ومشاركةٍ وتعاطف وكلّ ما يطرأ في الذهن من قيم إنسانية حبيبة إلى البشر، رغم كلّ اختلافاتهم واختلاف أجناسهم.

عن المسرح و الشعر و العالمية

* في موضوع الحرب، خضت تجربة الكتابة الشعرية المسرحية في عمل اعتبره بعض النقاد "أول تجربة في المسرح العالمي من هذا النوع" حيث تم الاشتغال، باللغتين العربية و الانجليزية في نفس الوقت، على نص الكاتب السويسري راموز(V.D. Ramuz) "حكاية جندي" (1918) المستوحى من حكاية شعبية روسية حول جندي يبيع روحه للشيطان مقابل وعد بتحقيق ثروة لا تنتهي.
كيف تفاعلت مع موضوع المسرحية و مع صيغة التأليف المزدوج على أساس فكرة فاوستية بامتياز شاء لها مخرج المسرحيةAndrew Steggal أن تكون بمثابة أليغوريا للتعليق، بطريقة فنية و جمالية، على ما يجري حاليا في العراق؟

** لم يكن موضوعها غريباً عنّي وإن اختلفت تفاصيل النص عن تفاصيل النصوص الأخرى مسرحياتٍ أو حكايات شعبية تناولت الموضوع ذاته، كذلك وجدت ألفة في الشعر الذي كتب به النص وسلاسة نادرة وكأنه مكتوب للإلقاء وليس للكتابة، وليس النص الإنجليزي المترجم بعيداً عمّا تلمسته في النص الأصلي ّ وهو ليس النص الأخير نص المترجمة الإنجليزية ربيكا .

حين طلب المخرج مني أن أترجمه إلى العربية لم يشترط شكلاً معينا، فآثرتُ ترجمته نثراً غير أنني وجدت نفسي إزاء أبيات شعرية خالصة وأخرى تقترب من الشعر وقد تأتي القافية دون أن أطلبها وبدون أن اشعر بها أبداً وكلما أعدت قراءة النص أراه يتشكل أكثر ويقترب من صيغته الأخيرة . لم أكن على عجلٍ ولم يكن المخرج على عجلٍ أيضاً. وكلما قرأت له النص مترجماً إلى العربية وأعدت ترجمته إلى الإنجليزية لكي يفهمه كلما رأيت النص وهو يأخذ أبعاده ليتأسس في اللغة الأخرى التي هي اللغة العربية نصّاً أصلياً لا سيما وأن المخرج أجاز لي أن أتصرف بالنص الفرنسيّ فأحذف ما أريد حذفه وأضيف ما أريد أن أضيفه، غير أنني لا أحبذ الذهاب في حريتي بعيداً عن النص كما فعلت ربيكا، وما إضافتي إلا امتدادٌ لبنيته الداخلية بالذات وليس شيئاً يبدو وكأنه طارئ من الخارج. فأبدلت العربة التي يحمل فيها الشيطان الجنديّ بالبساط الطائر وهذا ما فرضه المخرج أيضا على النص الأنجليزي، وقد أتاح لي البساط السحريّ أن أقترب من أجوائي المحلية لكي أصور بعض المشاهد ذات الصبغة المحلية الخاصة. ومثلما أتاحت لي المسرحية ممارسة الأشكال جميعاً وكتابة الشعر كأنه نثر والنثر كأنه شعر، أتاحت لي أيضاً اكتشاف الامكانات الكامنة في اللغة ومستوياتها العديدة فمثلما هناك مسافة بين الشعر والنثر للتحرك بسهولة فأن هناك مسافة أيضا في التعامل مع اللغة في مسافة تمتدّ من الألفاظ العامية والقريبة منها وحتّى أكثرها جزالة حين تنتقل المسرحية إلى مستوى آخر من الغناء والإنشاد ، وبقدر ما تُؤخذ وحدة العمل في مجموعها بعين الاعتبار أثناء الكتابة بقدر ما تبزغ أبيات لها بروزها الذي يتطلب إلقاءً وانتباهاً من الممثل الذي قد يمرّ بها دون أن يعيرها اهتماماً مثل هذين البيتين اللذين كانا يعجبان المخرج كثيراً ولم يكن ثانيهما موجوداً في النص الفرنسيّ:

يمضي يمضي أبداً أبدا
يهجر ماضيه ويدعوه غدا

*اعتبرت الناقدة الأدبية Sarah Bowie المسرحية "عملا تجريبيا بحمولة سياسية" رغم إصرار المخرج على أبعادها الإنسانية. كيف كان صدى هذه القراءة المباشرة لدى فريق العمل والإنتاج؟ و إلى أي حد يستطيع العمل الفني، في شكله النهائي، خلق التوازن بين الخيارات الجمالية الإنسانية من جهة، وبين ضغط الظرف السياسي الحاسم؟ كشاعر، هل من السهل تحقيق هذه المعادلة دون السقوط في رطانة البلاغة السياسية المباشرة؟

** ما من حمولة سياسية على الإطلاق وقد حرصنا أن نتحرك أنا والمترجمة الإنجليزية والمخرج في داخل النص نفسه ، وأن تكون إضافاتنا ليست جسماً غريباً عليه، ومن جانبي سعيت أن أجد الفراغات في النص، باحثاً عن ثغراته لأنفذ منها إليه لأرممه من الداخل أو أضيف إليه لا بدافع ما لديّ من هاجس سياسيّ ، وإنما طبقاً لما تفرضه عليّ بنية العمل نفسه .

سأورد لك بعض ما أضفته من مشهد البساط السحريّ الحامل الشيطان والجنديّ لأدلّل على ما أقول:
انظرْ!
هل تبصرْ ؟
ذاك النهرْ
دجلةُ ما أجملَهُ!
وذاك القصرْ !
كم يبدو سحريّاً !
لكنْ ما أبشعَ ذاك المنظرْ!

وحين يسأله الجنديّ :
ما هوَ؟

يجيبه الشيطان:
احذرْ !
أن تتردّد في ذهنك تلك الأصداء

حينئذٍ يسأله الجنديّ :
أية أصداء ؟!

لم يكتم المخرج فرحه الشديد بذكر الأصداء وما أضفتْ على الحدث من غموض، أي أن عملنا كان على النقيض مما يدعيه النقد من "حمولة سياسية". ثمة مشهد آخر يكاد أن يكون من وضعي بأكمله عندما ينادي الجنديّ، وقد أصبح تاجراً للأقمشة: يا حلوات ياحلوات، قماشات قماشات، الوصلة بدينار.. إلخ، بإلقاء شعبيّ. بعدها يتحول من تاجر أقمشة إلى تاجر أعلاف، فأصواف، ثمّ إلى تاجر أسلحة، فيغطي لون القماش الأحمر على كلّ الألوان ويسود مشهد جعلته يجري في سوق (القشلة) في البصرة، غير أنّ المحل في ما بعد لم يعد في القشلة وحدها، بل في كلّ مكان حتّى في جسد الطفل. هذا المشهد أعجب الممثلين الإنجليز وتمنوا هم الذين يمثّلونه.
في بعض المتابعات النقدية ثمة لغو ينمّ أحياناً عن عدم معرفة حتى بالأوليات: بعض المتابعات مثلاً ظنت النص العربي مترجماً عن الانجليزية، وبعضها ظنّ أن النص مكتوب باللغة العراقية، وبعضهم ظنّ أنه مكتوب باللغة العامية . وثمة خلط لا أول له ولا آخر يبدو أمامه خلط عزيزنا ستيفان هاو بسيطاً جدّا حين خلط بين برشت ورامبو.

* على صعيد اللغة، كيف تجاوب الجمهور البريطاني مع مسرحية تخاطبه بلغتين في آن واحد؟ ثم انه في بعض المقالات التي تناولت العمل أبدى النقاد و المتتبعين عدم رضا عن بعض جوانب العرض. هل خرجت بأية خلاصات حول ما يتطلبه الجمهور الانجليزي في عمل مسرحي، وخصوصا جمهور مسرح Old Vic الذي احتضن المسرحية، و هو من أعرق مسارح لندن الذي له جمهوره المميز ة المتمرس على الفرجة المسرحية؟

** في الليلة الأولى والثانية كاد يقتصر الحضور على الجمهور الإنجليزي الذي واجه العمل بالتصفيق المتواصل للممثلين العراقيين خاصة. ويا لدهشتي حين رأيت البعض منهم وهو يتبعني بعد خروجي من المسرح ليعبر لي عن امتنانه لما منحه النص من متعة لن ينساها أبداً، مثلما لا أنسى ما قالته لي المذيعة التي قابلتني في راديو 3 "لقد ارتفع النص الإنجليزي إلى الموسيقى أما النص العربي فهو الموسيقى ذاتها" ، أما أيام العرض الأخيرة وقد تمكن الممثلون من اللغة نوعاً ما وأصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم فقد كان الجمهورفيها يتقد حماساً للعمل. كان النصان العربيّ والإنجليزيّ مختلفين تماماً ولكنهما يلتقيان في مواضع شتّى، وكلما افترقا التقيا من جديد. لذلك لا يحتاج المشاهد عربياً كان أم انجليزياً إلى الترجمة لفهم النص.

* على مستوى التمثيل و الأداء، كيف كان تقدير المخرج ثم الجمهور لأداء المثلين العراقيين في هذا العمل ذي المواصفات العالمية؟ و كيف كان شعورك و أنت ترى نصك الشعري يأخذ أبعادا أخرى من خلال بلاغة الجسد و الحركة و حرارة التوهج الدرامي على خشبة المسرح؟

** لم يكن المخرج راضياً عن تمثيل الممثلين الأنجليز ولعل جزءاً من عدم عرضه العمل ثانية هو قراره استبدالهم بممثلين آخرين، بينما هو أبدى ارتياحاً كبيراً للممثلين العراقيين الذين أبدو صبراً كبيراً في التدريب المرهق المتواصل، لا أكتمك أنني كنت مشدوداً للعمل أحسبه نأمةً نأمةً وأتتبع ألفاظه لفظة لفظة وأحسّ كأنني أهبط هاوية أمام أيّ تلفظ خاطئ أو لحن غير مقصود في لغة مسرح تتطلب مستويات عديدة وقافية دقيقة تتطلب انتباهاَ شديداً وسخرية مبطنة تحتاج عمقاً وتحسسا نادراً للألفاظ. قد يكون الممثل جيدا ولكنه ليس بالضرورة أن يكون جيداً في نطقه اللغة بمداخلاتها والتواءاتها وأسرارها.. كانت تجربة احتوت من الفرح بقدر ما احتوت من توجس وانتظار وتصحيح حذرٍ لا يثبط الآخر الذي لا يخلو من تواضع، ولكن التواضع ليس كلّ شيء في العمل الفني ّ.. أيّ عملٍ فنيّ.

* ألا ترى أن مسرحة العمل الشعري تبرز التعدد الصوتي للشعر كما تستخرج طاقاته الكامنة في التعبير على الذات الجماعية فضلا عن ذات الشاعر المفردة؟

** عليك أن تتمثل كلّ شخصية لا بملامحها وحدها وإنما بلغتها ونطقها هذه اللغة، وقد تتعدد الأصوات في الشخصية الواحدة في مواقف مختلفة، دون أن تضرّ بصوتها الخاص الذي يظل خفيّاً كتيّار خفي ّ ولكنه حاضر دوماً، لذلك نرى نجاح الأعمال الشعرية نادراً وهذا ما يفسّر ربما فترة السبات الطويلة التي مرّ بها المسرح الإنجليزي الشعريّ، واستيقاظه مؤخّراً في القرن الماضي عبر تجارب شهد الكثير منها الإخفاق ولم تنجح منها إلا تجارب قليلة لم تشهد بالضرورة إجماعاً في التقييم.
في مشهد يحاول فيه الشيطان إغراء الجنديّ الجائع ثمة صوتان مختلفان وإن كانت اللغة واحدة لغة الجندي المنكسرة التي تنتهي بـ (طعامي، شرابي) والقريبة من العامية (حلو) وبين لغة الشيطان الفخمة التي تنتهي بالسكون الجازم، أو الياء المشدّدة ذات النبر القويّ:

الجنديّ

ما سيكون طعامي؟

الشيطان
لحمْ
عشرة أوقاتٍ في اليومْ
الجندي وهو يعيد إلى جرابه ما أخرجه من أشياء،
و ما سيكون شرابي؟
الشيطان
عرك
الجنديّ
وماذا سأدخّن؟
الشيطان
السيجارَ الكوبيَّ
الذهبيَّ
يدور لفائف في الجوّ
الجنديّ
حلوْ
حلوْ

* مسرحية "حكاية جندي" في أصلها عمل مسرحي موسيقي حيث كتب موسيقاها الأصلية المؤلف الروسي Igor Stravinsky. و قد حاول العمل الجديد أن يحافظ على هذا العنصر المحوري في العمل، خصوصا و أن المسالة تدور حول آلة الكمان التي تجسد، حسب جل النقاد، روح الجندي. وهكذا، يقول محمد ناجي، في قراءته للمسرحية، "لقد منح المخرج الموسيقى وقتا كبيرا و مساحة بارزة بدون أي حوار". كيف استطاع العمل خلق هارمونيا بين الصوت البشري ممثلا في الكلام الشعري و بين توزيع الصوت والصمت والموسيقى؟ ثم، من وجهة نظر الشاعر، ما البعد الذي منحته موسيقى المؤلف العراقي أحمد مختار للكلمة الشعرية لعبد الكريم كاصد ؟

** قد يتسع العرض المسرحيّ للموسيقى والتسلية والطرب والاستراحات الكرنفالية فيجد المؤلف الشاعر أنه في بيته يكتب المقطوعات الغنائية واللغة القريبة من النثر والنثر القريب من الشعر، ويستخدم المستويات والأساليب العديدة التي تجعل من نصّه عرضاً مسرحيّاً حقّاً. لقد اشار نقاد كثيرون ولا سيما الإنجليز منهم إلى أن المسرح لا تختصره المواقف (situations) ولا الأفعـال actions ، وإنّما هناك أيضاً ما يسمّى بالأجواء( atmospheres ) التي لها أهميّتها في المسرح. وهذا ما تحقق في مسرحية (حكاية جنديّ)، فكان لموسيقى سترافنسكي ومقطوعات أحمد مختار وما تخلل المسرحية من صمت أعمق الأثر في الجمهور. لقد واجه الفنان أحمد مختار تحدّياً استطاع التغلب عليه بمهارة وإبداع وحسّ نادر فبهر الحاضرين رغم عدّته الموسيقية الضئيلة وموسقييه الذين لم يتجاوزوا الثلاثة، واستطاع أن يطوّع أشدّ النصوص صعوبة مستخدماً الأطوار الغنائية التقليدية كطور ( المحمداوي ) في الغناء العراقيّ كهذا النص:

إن نحن ملكنا الأشياء
فستملكنا الأشياء
وسنصبح حجراً نتطلع في الكون
حجراً أعمى
مانملكه الآنْ
لن يوهبَ ثانيةً
فلتمسكْ نفسك عن جمع الأشياء
ولتتذكّرْ
أن سعادتنا واحدة لن تتكرّرْ
أو مبدعاً ألحاناً جديدة لهذا النص الصعب المعنون بـ (أغنية الشيطان)، بقوافيه المشددة القاطعة وبتوتّره الدرامي الشديد التكثيف والذي أدّاه الممثل العراقيّ ببراعة حقّاً على صعوبة أدائه:
فلْتلهُ ما شاء لك اللهوْ
ما تحسبُهُ مملكةً تمتدّ
ليس سوى قبوْ

هذا أمرْ
منْ ينتهكِ الحدّ
       فليعلمْ
أن هناك حدوداً للصبرْ
سأقودهُ صوب جهنمْ
وسيُشوى حيّاً بالجمرْ

* يقول الشاعر و الكاتب المسرحي البريطاني، هارولد بنتر، الحائز على جائزة نوبل للآداب، سنة 2006، "إن المسرح في جوهره هو فعل استكشاف". ما الذي اكتشفه عبد الكريم كاصد في ذاته بعد كتابة "حكاية جندي"؟

** ليست المسرحية التي بدأت هي المسرحية التي انتهت. لم تكن البداية هي النهاية إطلاقاً، أي أن المسرحية لم تكن مكتملة حين بدأ المخرج العمل بها والممثلون بتدريباتهم، وإنما أخذت تنمو وتنمو وتتكشف شيئاً فشيئاً معهم، مثلما بدأت بالانكشاف معي، أي أن تحولاتها التي بدأت معي فرديّاً سرعان ما اكتسبت طابعاً جماعيّاً لتتخذ أبعاداً أخرى لم تكن موجودة من قبل أو يمكن التكهن بها أبدا.
قد يأتيني قائد الأركسترا لتغيير هذه الكلمة أو تلك أو هذا السطر أو ذاك ، وقد نعود للقديم حين يدخل الفنان أحمد مختار بفكرة أخرى، وقد يطابق الشعر الموسيقى قبل أن يلتقيا لأنهما استلهما روحاً واحدةً. أمّا الممثلون فلم يكونوا غائبين أبداً عن التأليف أيضاً في ما يستحسنونه أو يقترحونه من تغيير في هذه اللفظة أو تلك ، في هذا المقطع أو ذاك، وإن كان ذلك قليلاً، حتّى أنني أستطيع القول أنهم لم يمثلوا مقطعاً واحداً دون أن يحبوه.
لقد كان في تجربة العمل المسرحيّ كثيرٌ من الفردية، وكثيرٌ من الجماعية، دون أن ينقض أحدهما الآخر. وعندما انتهى العمل المسرحيّ وتفرق الجميع ولم نُعد المحاولة ثانية، في عرض آخر، بسبب مواقف معيّنة تتعلق باختيار ممثلين إنجليز جدد وما يتطلب ذلك من أموال كثيرة، ومواقف أخرى تتعلق بالتمويل، شعرت أنني افتقدت شيئاً عزيزاً وأنني افترقت عن عائلتي ثانيةً. ولعلّها مصادفة غريبة أن يتصل بي المخرج اليوم وأنا أنتهي من كتابة الفصل الأخير من كتابنا هذا معيداً الحديث عن المسرحية و ما ينبغي أن نفعله مستقبلاً.

* إلى جانب ترجمتك الشعرية لنص عالمي مثل "حكاية جندي"، قمت بترجمة لدواوين كاملة من عيون الأدب الإنساني، "كلمات" جاك بريفير، و "أناباز" لسان جون بيرس، و"قصاصات" يانيس ريتسوس، ثم "نكهة الجبل" للياباني ساتيوكا تانيدا، و كذلك قصائد للمكسيكي أكتافيو باث، وغيره. بل و أكثر من ذلك، ترجم شعرك إلى لغات عديدة أخص بالذكر منها على وجه التحديد الفرنسية و الانجليزية و الدانماركية. كما وردت سيرتك و أعمالك في معظم أنثولوجيات الأدب العربي، خصوصا في "معجم الكتاب المعاصرين" و " معجم البابطين" و "أنطولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر" للدكتور لطفي حداد و من قبلها "أنطولوجيا الشعر العربي" لسلمى خضراء الجيوسي. أضف إلى ذلك أنك شاركت في منتديات شعرية دولية بألمانيا و السويد و الدانمارك وبريطانيا. كما نشرت و ما تزال تنشر أعمالك في أهم الدوريات و المجلات الأدبية والشعرية أبرزها عربيا مجلة "الكرمل" الرائدة التي يشرف عليها الشاعر العربي الكبير محمود درويش.
عبد الكريم،مع علمي بتواضعك الكبير، صراحة، ماذا تبقى لنا كي نتحدث، بكل جرأة وثقة، عن عبد الكريم كاصد كشاعر عربي عالمي؟

** تكفيني لفظة شاعر. لقد غمرتني أيها الصديق العزيز بمحبة وتقدير نادرين، وجعلتني أنطق بما أجهله، وأعجز عن التعبير عمّا أعرفه، وإذا كان لي من حديثٍ تبقّى فهو الحديث عن محبّةٍ أعرفها وأجهل التعبير عنها.
شكراً لك أيها العزيز ثانية! ومعذرة إذا لم تكن لأجوبتي وضوح أسئلتك وأرقها المعبّر عن روحك المرهف الصابر الدقيق.

ندن أكتوبر 2006- فبراير2007

عشر قصائد مختـارة

كتاب البصرة

أنظلّ منتظرين وجهَ الفجر؟ هل تأتين بين سلالك الخضراء؟ بين (الببّغاوات الجميلة) تنقر الأقفاص؟ في باص الجنوب وضجّة العربات؟ هل تأتين؟ أخضرُ ماؤك النهريّ نستبقيه أياماَ ونرحل.. (كم وددتُ لو انني استبقيتهُ في الحلم!) ماذا لو قلبتُ الليلَ و الساعات؟ ماذا لو شربتُ وصيّتي بالماء؟ ماذا لو جلبتُ الساحر الهنديّ واستوقفتكِ الليلة؟ ..
ماذا حلّ بالبصرةِ؟

جوّابون يضطربون في الساحات، جندٌ يرحلون إلى قراك وقد يرون إلى قراهم تختفي في الليل، فلاّحون في زِيّ المدينة .. حين تأتي الريح من جهة الصحارى، يخفضون رؤوسَهم في الرمل ينتظرون مثل لقالقٍ ملويّةِ الأعناق.. مرّ الرمل والأعناقُ مطرقةٌ، وجاء الصحو والأعناقُ مطرقةٌ.. ومرّ.. ومرّ..
أهل البصرةِ ارتدّوا تماثيلا..

وللبصرة ساعةٌ لا تدقّ، وجسورٌ من خشبٍ تصل الأعداء بالأعداء، وضريحٌ لا يعرفهُ غيري.

وللبصرة حدودٌ من الرماد، وجنودٌ من الرمل، ومساجد تُحزمُ كالقصب في الأوبئة أو الحرب.
البصرةُ
البصرةُ تحترق
بجسورها الخشب
وانهارها المحفورة بالدمع
بخيولها المربوطة في المساجد
وسفائنها المطليّة بالقار
هل مرّت النار بي؟
هل أصيح : من يدلّني عليك؟ (لن توقظ موتاكِ عصاي) هل أراكِ؟ أم تُرى ارتحلتِ بين لغط الأقوام في مدينة أخرى؟ تُراني ألمحُ الآثارَ بعد مئةٍ من السنين؟ أم تُرى يقودني الخطو إلى قبري؟
علامة البصرة أن تجئ
قافلةً
وناقةً تنسِلُ في الصحراء
ترفعُ المصاحف
حجرٌ
أبيضُ
أو أسودُ
لا تلمسه عباءة النبيّ
ولا يشيد كعبة
تسكنهُ البصرةُ
حينما قطعتُهُ استوقفني ظلّيَ
هل أقبلت البصرةُ؟
آتي صخرةً وأهزّها كالجذع. (قشّ صرختي في الريح) .. أسواري الحجارةُ، والسماءُ سفينةٌ تمضي، وبيتي النخلُ أهجرهُ وأنتظرُ الطريقَ إليكِ..
طفلاً كنتُ
أطلالاً عبرتُ تسفها السنواتُ.. كيف عبرتُ؟
كلّ متاعيَ التمراتُ يابسة .. وكلّ سمائيَ السعفُ الذي لم يؤوِ حتّى الطيرَ..
انطقْ!
تنطوي هذه السباخ ونحن زنجك أيّها التاريخ!
ندخلُ حاسرين، جباهنا ملحٌ، ونخرجُ حاسرين نقول للموتى: قفوا، ونقول: فلتمضِِ المدينةُ .. نخلها وحريقها، وكتابُها المفتوحُ، والموتى، ومن كذبوا، ومن تركوا السفائن في الغبار، ومن أحلّوا موتهم بسيوفهم، والضالعون بما يقول النجم (عن موتي)، ومن داروا على كأسٍ ولم يتدبّروا الأفلاك، من فتِنوا، ومن نصبوا السرادقَ للتلاوة يقرأون ويقرأون، ومن تنادوا صائحين بشعرهم في السوق، من جهروا برابعة النهار، وبايعوا في السرّ، من هادوا ومن نصروا، ومن يتوارثون القيل سقّائين مسقيّين، أحجارُ المدينة ربّهم وكتابُهم نعلُ الأمير، لُعنتِ من أرضٍ تورّثها القبائل.. كيف جئتِ إليّ؟ فاسودّت صحائف لم تكن بيضاء، كيف تناهت الأرحام بي وتقطّعتْ؟ في أيّ أرضٍ جاع أهلي؟ آهِ أيّ أعاجمٍ مرّوا عليك؟ عساكرٌ رفعتْ بيارقها، وبضعُ دساكرٍ مُحيتْ، وأهلي كيف قاموا من مجازرهم يسوّون الثياب (تلطّخت) ويغافلون الجند؟

أهلي كيف جاؤوا بي إلى نهرٍ تيبّسَ فانتهيتُ إلى خرابكِ؟ أوّلَ الآتين كنتُ وآخرَ الآتين، تنقطع السلالة فيّ، أبصرُ في غدي أمسي، فتجتمع القبائل فيك: هذي الرحبةُ الدهناءُ، تلك خريبة الأعراب، ذاك الجامعُ المفروشُ بالحصباء.. أين أنا؟
أ أحمل جثّتي وأطوف؟
ويحكِ يا بصرةُ.. ويلك من جيشٍ لا غبار لهْ
ولكنّني..
لا غبار لي
لي حوافرُ الخيول وأرسانها
ليَ أسوارُكِ الخبيئةُ تحت خطى الجند
وابواقكِ المكسورة
لي دواوينك المنذورة للنجم
ليَ ابوابُكِ لا يخرجُ منها غير السائق والناعق والقائد
يا بصرُ!
يا بصرُ!
يا بصرُ!
ليَ ديْنٌ عليكِ: تزورين قبري..

البركان العدني

(إلى رامبو في عدن)

أكان الرحيل إلى عدنٍ دورةَ البحر؟(كالأشنات تقاذفنا الموج ...) نهبط في غرفٍ ونغادر، توقفنا زرقةٌ في الشبابيك، أغربةٌ تتنزّه وسط المدينة، رائحةٌ في زقاقٍ قديم، حوانيتُ تقطر بالزيت، شمسٌ تدحرج أحجارها وهي تنزفُ حمراءَ، لمعةُ ثوبٍ، ونافذةٌ تتوهّج في الليل يحجبها جبلٌ مظلمُ الشرفات ...
ورامبو يدور ببركانه العدنيّ.. وقد ينطوي بين أشيائه دائراً في المساء.. وقد لا يرى بحرَهُ مثل ساريةٍ مائلاً للرحيل...
و رامبو النهارات ممزوجةٌ بالظلام، دمٌ فاترٌ، مطرٌ يتساقط أسودَ فوق المراكب.. رامبو ارتحالٌ وحيدٌ على جملٍ، خفقُ أشرعةٍ تتفتّح في زهرةٍ.. من رأى الأبديّة في الماء.. في حبّة الرمل...؟
رامبو النهايات برقٌ توهّج عبر الفصول...

و رامبو إلى عدنٍ ساط أحلامَهُ كالشياطين، أوقفها عند منحدرٍ لا تحرّك أعشابه الريح .. شمسٌ جحيميّةٌ لا تميلُ, وليلٌ كشمسكَ أسود يرشح فوق البيوت..
انحدرْ!
انحدرْ!
وارتميتَ بهاويةٍ
كنتَ فيها السماءَ الجميلةَ والنجمَ،
كنتَ المطلّ على صخرةٍ
والمعذّب في آخر الليل (منطفئٌ صبرك المتوهّج..)
كالضوء تنسلّ بين الأزقّة( أبوابها نصفُ مفتوحةٍ حين تغلق في الليل، تهبط كلٌ المنازل، يبلعها جبلٌ لا يُرى غيرُهُ في الظلام) تلوح الصهاريج، والسلّم المتدلّي إلى القاع كالبئر، تهبطه النسوة العدنيّات يفرشن أثوابهنّ على الرمل، يرفعن أصواتهنّ الخفيضة، والبحر يقذف أصدافه، من تُرى يوقفُ البحرَ؟ تشحب نظرتك القرويّة، تنأى المراكبُ مثقلةًٌ بالشياطين، أيّ جحيمٍ رأيتَ؟ المراكب تهوي إلى القاع.. تفتح بركانكَ العدنيّ، وتصعد محترقاً في الغناء

بركانك رامبو عرسٌ للرملْ
شمسٌ للرملْ
ظلٌ للبحر وعشٌّ للنارْ
بركانكَ رامبو ريحٌ أسرتها الأحجارْ
وهاويةٌ للقتلْ

و رامبو أفاق على حلمٍٍ، واستراح إلى زهرةٍ لا تُظلُّ المسافر، بيتٍ رآه وخاطب أشباحهُ فيه، قبرٍ توسّده (يرفع الآن رامبو شعائرهُ..)، يكسر الخطوة الحجريّة، ينأى بلا أثرٍ، بين أسلحةٍ وحروبٍ محمّلةٍ بالبغال...
صدىً لا يُردّدهُ الأفْقُ حربُك رامبو...

دقات لا يبلغها الضوء

ابتهاج الأعمى:

أنا الأعمى
لا أحبّ الأشياء الساكنة إلى الأبد
ويغيضني الضوء
والضجيج العابر
لعينيّ مئاتُ الأبراج
ولا برجَ لي
أرى سفينةً ولا أرى مسافرين
أمواجاً ولا أرى بحراً
وأنازل الظلام
بذراعين عاريتين
أنا الأعمى
أنهمر كالفرح
وأبكي

لعبة:

سأفتح أوراقي وردةً وردةً
وأغلقها
سألهو مع الماء والظلّ
وأضحك كالأميرة
سأغلق أوراقي وردةً وردةً
وأفتحها
سألهو مع الشمس والليل
مع الليل والشمس
وأبكي
من يُعيرني عينين
لأبصر دموعي

نحلة الضوء:

أنا نحلة الضوء
أجفاني رقيقة كالماء
وأهدابي كالظلّ
أعرف الصخرة الحانية على الأفق
والربيعَ القادمَ بحذاءٍ صغير
وعينين نائمتين
أنا نحلة الضوء

رثاء عين:

لقبري أجنحة أربعة
وشاهدة صغيرة
بحجم الكفّ
لدمعي ساقية وبحرٌ صغير
وفراشة واحدة
من سيحملني؟
من سيبكي عليّ؟

ساعة البياض:

أنا ساعة البياض
دقاتي لايحدّها ليل
ولا يبلغها ضوء
معصوبة كامرأةٍ تشدّ رأسها للثأر
وتتوعّد النهار
بعينين مظلمتين
أنا ساعة النهار البيضاء
لا يرهبني الليل
ولا حلبات الرقص
أتنصّتُ كالسرّ
ودقةٌ واحدةٌ
تنثرني كالضوء

قوس قزح:

لقد رأيت دوائر من ضوء
وقوس قزح بارد
في بركةٍ
وحلمتُ وأنا أحدّق في الحلم

خاتمة:

عيني التي أضعتها ، كملكٍ أضاع عرشَهُ،
في ليلةٍ حالكةٍ
آه لو أجدها ثانية لأضعها في القلب!

هجاء الحجر *

قال الحكيم:
"السعادةُ أن تدخلَ بحرَ الناس
وتصير سمكةً "
قال الآخر:
"صغيرةً أم كبيرةً؟"
قال الحكيم:
"تلك هي المسألة"

*

"دائماً يحدث العكس"
قال المهرّج
وقد رأى ظلّهُ على السقف

*

حين رأى الملك شعبَهُ عارياً
قال: "ما أجملَ الشعبَ في أثوابه الزاهيهْ!"

*

قال العابر:
"في الغابة المسكونة بالوحوش
نمنا بسلام"
قال المقيم:
" في مدننا الآهلةِ بالبشر
لم نأمن الوحوش"

*

قالت الأشجار
وقد سالت ظلالُها كالحبر:
" منْ يكتبنا على الطريق؟"

*

قال العاشق لمعشوقته:
"سأقودك إلى غابةٍ من فضّةٍ
وعشبٍ من الذهب
لنقيم هناك"
قالت المعشوقة:"وكيف نأمن الوحوش؟"
قال العاشق:
"بالذهب والفضّة يا حبيبتي"

*

كان أبي يقول:
" رصاصةٌ واحدةٌ لا تصنع غيرَ ميْتٍ واحد
وفكرةٌ واحدةٌ تصنع آلافاً من الناس "
وحين مات أبي متشبّثاً بفكرته الواحدة
التي أطلقها كالرصاص على الناس
لم يسر في جنازته أحد

*

يحبّ الجميع
ولا يحبّ أحداً

*

قال الصحفيّ
وقد رأى صورته في المرآة
"السكوت من فضّةً
والكلام من ذهب"

*

قال اللصُّ وقد أطربهُ المديح:
"مالُ الناس للصوص
وما للصوص للناس"
*

شيئان كدّرا حياتي
أصدقائي
والشعر

*

لماذا أشهر المغنين
أسوأهم جميعاً؟

*

الشعراء الكبار
يأكلون الصغار
ويتضوّرون جوعاً

*

لا أريد أن أعرّف الشعر
أريده أن يعرّفني

*

على النبع
انحنى فم الطريق
ليشرب

*

هل تقف الأشجار
حداداً على الطريق؟

*

صديقان يعشقان الكراسيّ
أحدهما يجلس على اليمين دائماً
والآخر على اليسار
الأوّل دعاني إلى بيته
والثاني إلى مكتبه
لم أذهب إلى هذا
ولم أذهب إلى ذاك
بل حضنت رأسي وأطرقت

*

في المنفى التقيتهُ،
قال لي:" منذ فارقتك وأنا أتقلّد المناصب
نائباً فوزيراً ووزيراً ثانيةً
ورئيساً كما ترى، وأنتَ؟ "
قلتُ له:"منذ فارقتك وأنا من أسوأ إلى أسوأ"

*

ربّما أعذر الصديق
حين يشرب نخب العدوّ
ولكنْ
كيف أعذرهُ
حين يشربُ دمَ الصديق

*

قال المتدارك:
"هل نمحو الخطأ الفادح
بصوابٍ أفدح؟ "

*

يريدون
الجريمةَ أن تقيمَ العدل
والعدلَ أن يقيمَ الجريمة

*

ما الشجاعةُ إن أسلمتنا إلى الضعف
والأمانةُ إن أسلمتنا إلى الوعود؟

*

فضائلنا
أ ننشرها فوق حبل الرذيلة
ثم نرزمها في صرر الخاطئين؟

*

البطولات
تقاسمناها جميعاً
أشراراً وطيّبين
ولم يبق منها
ما يزوّدنا في الطريق

*

لكلّ غابةٍ شريعةٌ
- قال -
ولم يخطر في بالهِ قطّ
أنّ لبعض الشرائع غابةً أيضاً

*

حاضرنا
كيف نجتازه
وقد اكتظّ بأيّامنا الماضية؟

*

بابليّون
أكديّون
سومريّون
ولا بأس أن تحفر بعد

*

لماذا الأشرار
يقصدون السماء؟
والأخيار
يريدون باطن الأرض؟**

*

بشفاهٍ من الحجر
ينشدون الطريق

*

سأضع كلّ شيء في مكانه - كما كان-
وأقول لنفسي: "كم تغيّرتِ"

*من مجموعة شعرية تحت الطبع بهذا العنوان
** عن ابن المقفع

قفـا نبـك

محاولة لاعادة كتابة معلقة امرئ القيس بأسلوب آخر

قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ
عفته الرياح
وطافت بأرجائه الموحشات الظباء
كأنّيَ يوم الرحيل ، لدى شجر الحيّ ، ناقف حنظلْ
يقول صحابي: "تجمّل"
وأنّى!
ودمعي شفائي
وهذي الديار أنيسي
ويا طالما فاض دمعي
وسال على النحر
سال على محمل السيف
إثر المهاتين: أمّ الرباب وأمّ الحويرث
مَنْ لي بملهايَ عندَ الغدير ضحىً؟
يومَ أولمتُ راحلتي للعذارى
فيا عجباً.. ! كيف أقبلن يحملن عنّي متاعي ورحلي!
ويوماً دخلتُ به الخدر
- خدر عنيزة -
قالتْ : " لك الويل!"
قلتُ وقد مال هودجها وادّنى الرحل :
سيري وأرخي الزمام ولا تُبعدينيَ عن مجتناك
فمثلك حبلى طرقتُ
ومثلك كم من مرضعٍ جئتُ
ريّانة الخصر
للطفل شقّ
إذا ما بكى خلفها أرضعتهُ
ولي شقّها المستحب
ويوماً حلفتِ ونحن على ظهر رملٍ
ولم ترجعي عن يمينك ،
( ما كان هذا صدودا) ً
أ فاطمُ مهلاً ! أقلّي التدلّلَ ..
إنْ شئت هجري فلا تعجلي
وإنْ ساء منّيَ طبعٌ
فهذي ثيابيَ مشفوعةً بثيابك لم تنسلِ
أغرّك منّيَ أنّي القتيل وأنّك مهما..

وبيضة خدرٍ أتيتُ ولم أكُ عجلان
جاوزتُ حرّاسها وأهوال معشرها
(كم يسرون قتلي!)
أتيت وقد عرضت لي الثريّا تريني وشاحاً تلألأ
في الليل
كانت لدى الستر تنضو الثياب وتُبقي على فضلةٍ
همست وهي مبهورةٌ : " مالنا حيلة من أنتَ الغويّ
متى تنجلي عنك هذي الغواية َ؟"
ثمّ انسللنا نجرّ على أثرينا إزاراً من الخزّ رقّ
فلمّا أجزنا الديار انتهينا إلى بطن رملٍ تعرّج
يا للصَّبا وهي تحمل ضوعك أنّى التفتِّ!
أضوعك أم هو ريّا القرنفل؟
إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء .. ضامرة الخصر
هفهافةً
(يصمتُ الحجل حين تميلين)
مصقولةٌ أنتِ عند الترائب
كالدرّ أبيضَ أصفرَ غذّاك ماءٌ نميرٌ بلا كدرٍ
وتصدّين عن عارضٍ واضحٍ
وتردّين عن ناظرٍ من نواظر وحشٍ بوجرةَ
جيدك، جيدُ المهاةِ، هو الحَلْيِ دون حُلِيٍّ
إذا ما برزتِ
وشعرك عذقٌ تدلّى
أثيثٌ
غدائرُهُ السود تتلعُ
مثنىً ومُرسلْ
وخصرك يا للطيف الجديل
وساقكِ يا للنخيل المذلّل
وتعطين رخصٌ بنانُكِ
مثل الأساريع
أبيض
أنتِ المنارةُ يوقدها راهبٌ في الظلام
تضيئين عن العشيّ
وعند الضحى
أنتِ
يا للفتيت من المسك فوق فراشك
أنت النؤومُ نؤومُ الضحى
لم تشدّ نطاقاً
إذا ما استطالتْ ودارتْ بثوبين في الدار
أنتِ العمايةُ لي والصِّبا حين يسلو الرجال الصِّبا
والعمايةَ
كم من نصيحٍ رددتُ وكم عاذلٍ لجّ
صحتُ وقد أطبق الليلُ كالموج من كلّ صوبٍ
وأرخى سدولَ الهموم عليّ
وناء:
"ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبحٍ وما الأصباح منك بأمثلِ
فيالك من ليلٍ كأن نجومه
بكلّ مغر الفتل شدّت بيذبلِ"
غير أنّيَ قد أغتدي والطيور بأعشاشها
بمنجردٍ هيكلِ
"مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من علِ"
كُمَيتٍ
يشلُّ الوحوش إذا ما استطيرَ
ويزلقُ عن ظهره السرج
كالجرف يزلق عن صخره النازلون
مسحٍّ إذا ما الخيول أثارتْ غباراً
ويغلي كقدْرٍ إذا جاش
جرياً فجرياً
يُطير الغلامَ الخفيف
ويلوي بأثواب كلّ عنيفٍ
سريعٍ كخذروف طفلٍ
"له أيطلا ظبْيٍ وساقا نعامةٍ
وإرخاء سرحانٍ وتقريبُ تتفلِ"
كأن على كتفيه اذا ما انحنى
حجرُ الطيب دقّتهُ كفّا عروسٍ
ولمعةُ حنظلةٍ
بات والسرج حتّى الصباح
وبات لجامُهُ في فمهِِ
وهو ذاك الكريمُ بعينيّ
لا مهملٌ أو ذليلٌ
فعنَّ لنا بقرٌ
كعذارى يطفن على صنمٍ بالملاءات يجررن من خلفهنّ الذيول
فأدبرن مثل القلادة يبرقن بيضاً
-سوادٌ يخالطهنّ-
فهنّ الآلئ والخرز السود بين اللآلئ
تسبقهُ الهاديات ويلحق منهنّ من تتخلّفُ
حتّى عدا بين صيدين
طعناً
فطعناً
ولم ينتضحْ عرقاً
فليجئْنا الطهاة بما لذّ من ناضجات الشواء
ومن طيّبات القدور
ورحنا وراح الجواد ينفّض رأسه صوب السماء
على نحره من دم الهاديات عصارة حنّاء
يا حارِ! ماذا؟
أ تبصر برقاً كلمع اليدين بذاك السحاب
يضئ سناه
قعدنا له من بعيدٍ
وأضحى السحاب يسحّ ويهدأ
ثمّ يسحّ ويهدأ
حتّى انحنى الدوح وهو يكبُّ على وجههِِ
ثمّ لم يتّرك أيّ جذعٍ ودارٍ بـ "تيماء"
يا لـ "طميّةَ" من جبلٍ
مغزلاً صار وسط السيول
ويا لـ "أبانا" وقد صار شيخاً تزمّل بالعشب
أيّ سباعٍ طفتْ
وأيّ سحابٍ يغطّي السماء
ويلقي بـ"بسيان" صدرهُ
يُنزلُ كلَّ الوعول من العصم
من هضبات الجبال..

خريف موشكٌ على الرحيل

الخريف الموشك على الرحيل
يصبغ بالأصفر..
أقدامَ الأشجار

*

ذلك المتقاعدالمزيّن بالنياشين
هو أنا
وقد علقتْ في صدري
أوراقُ خريفٍ صفراء

*

لماذا ترى تتسع المقبرة
كلّما أقبل الخريف؟

*

في خريف العمر
ما أقسى اليتم!

*

ورقة واحدة
دمعةٌ واحدة تتعلق بالغصن..
دمعةُ الخريف

*

تحت مطر الخريف
ترتعش الأوراق ..
صفراء
مبلّلةً بالدمع
مطرٌ أم دمع؟
مطرٌ أم دمع؟

*

الخريف
يطلّ من النافذة
ويرحل
أجنحةٌ في الهواء
تصطفق الآن

*

مصطبة
غطتها الأوراق
لا تزال تنتظر

*

في البرد
لا أحد يمرّ
غير حماماتٍ تتنقّل كالأحجار
فجأة ..
يدخل سنجابٌ
فتضطرب الساحة

*

الأشجار وحيدةٌ
تتطلع في الليل وتصغي ..
لمن تُرى ..
تصغي الأشجار؟

*

شتاءٌ مفاجئ
أوراق تلطّخها حمرةٌ
إنها دمُ الخريف

*

الأشجار
- وقد شُذبت الآن
وطالتْ -
كم تبدو عاليةً في الساحة !
تمتدّ ..
وتمتدّ ..
تهيئ أقداماً للركض
تلامس نافذتي
وتلوّحُ ..
ماذا ؟
أ أقوم وأصطفّ مع الأشجار
أشذب أغصاني ؟

*

خريفٌ يقاتل حتّى أخرِ ورقهْ

خاتمة للخريف الموشك على الرحيل:

الشتاء يُطلق قذائفَهُ:
القذيفة الأولى: أمطار
الثانية: رعد
الثالثة: بردٌ قارس
الرابعة: عواصف
الخامسةُ .........

وهو لا يكلّ أبداً

ياله من محاربٍ قديم

عـزاء
إلـى مغنّي فرقة " ناس الغيوان " المغربية : العربي باطما

الأفاعي التي وقفت في الطريق
والنساء المحجّبات
والقرى يحملها اللصوص
(على دوابهم)
والأسواق الخالية إلاّ من الناس
و المشاجرات
(بأجنحةٍ من سكاكين)
والقصب الذي يجرح الآنيهْ
(مغروزاً في ظهركَ)
والطائر المذبوح في الهواء
وأحزانك التي أشعلتها كالشموع
وفقرك "الذقيع"
"ما أكثر أخطاءك يا باطما
وما أقلّها"
كلّها.. كلّها تصحبك الآن إليّ
مسربلة بالحداد..

الشبيه
مرثية الشاعر مصطفى عبدالله دفين القنيطرة

كالمهد أهزّ قبرك اليتيم
منتظراً في الظلّ
خلف شمعتي الأخيره
أيّنا الميْت؟
أيّنا عافه ُ الربّ
في هذه البريّة المقفره
بريّة الشعر؟
أيّنا كان يكتم صرختَهُ
فتدوّي بها الروح؟
(تنشقّ عن صخرةٍ)
لتقلْ: "إنني الميْت"
لتقلْ: "إنني الهابط من صخرة الربّ
إلى الهاوية"
إنني قادم إليك
لا كما كنتُ آتيك ..
حين ينحسر الظلّ كالنهر
والنهر كالظلّ
والنخلُ محتفياً بملائكةٍ وشياطين
(كنتَ تُشير إليهم وتضحك)
لا
بل كطيفٍ غريبٍ تراءى بمقبرةٍ
وسيفجؤك عماي
ولربّما ستبكي
حينئذٍ سأواسيك أنا
ولكنْ
إذا ما هززتني في القبر
فلن أستيقظ أبدا..

غنـاء

- وداعاً
ومرّت خيولُ المساءِ الأخير
وأطفأت الريحُ قنديلها
إلى أيّ ركنٍ صغيرٍ أوتْ
إلى إيّ ركنٍ صغير

سأمسحُ عن شعركِ الثلجَ ..
أدخلُ قبواً وأغلقهُ،
"لستِ ميّتة
وأنا لستُ ميْتا"
وأنا
قرّبي الشمعتين
لنصبح بيتا..

خـاتمـة

سأدقّ على صفحة البحر وأدعو العابر إلى منفاي
سأدقّ على صفحة الليل وأضيء كنجمة الدليل
سأقف كغيمةٍ وأصرخُ: أيّها الوطن القريب.. افتحْ!
لقد أزهر قبري كالبيت
فطليتهُ بالحنّاء..

عبد القادر الجموسي: من مواليد القنيطرة

صدر له:

  • "عودة جلجامش" (حكاية ملحمية) 2003.
  • ترجمة كتاب "الأمير" (نيكولو ماكيافيلي) 2004.
  • ترجمة ديوان "رباعيات أربع" (ت.س.اليوت) 2005.
  • ديوان "ضفيرتان..و قصيدة واحدة" (2007).

للاتصال: abdelkaderjamoussi@yahoo.co.uk