أحمد عارف

مقدّمة

" كثمرة حبّ للحياة الأجمل،
سطحُ الأرض يُصاغُ من قبل موهبة أيدينا"

بيوغرافيا أحمد عارف

كارين شتاينله
( مترجمة ديوان " أحمد عارف" إلى الألمانيّة)


عن الألمانيّة:
عبدالرحمن عفيف

أحمد عارف، بالاسم الحقيقي أحمد أونل، ولد في دياربكر في 21 من أبريل 1927. أمضى طفولته في كوردستان. هناك كبر أحمد عارف تحت تأثيرات ثقافات متنوّعة، الأمرالذي أدّى إلى أنْ يتعلّم حين لم يزل بعد ولدا، إلى جانب التركيّة، اللغة الرّسميّة للدولة، الزازيّة في سيفيريك، وهي لهجة كوردية يتمّ التكلّم بها في مناطق سيفيريك- ديرسم – إلازيغ – بينغول، كذلك في كاراكجي تعلّم الكورمانجيّة، اللّهجة الكورديّة الرئيسيّة في القسم التركي من كوردستان، وتعلّم في حرّان اللّغة العربيّة.
لم يتعرّف أحمد عارف فقط اللّغات في محيطه، بل أيضا طرق الحياة ومشاكل النّاس، وتعلّم أيضا أن يحبّ هؤلاء النّاس، حيثُ يبرز ذلك جليّا في شعره، حين يقف إلى جانب المقموعين والمضطّهدين. بطريقة غير مباشرة يدافع أيضا عن الشّعب الكورديّ ضدّ العنصريّة الكماليّة، ولو أنّه لايسمّي هذا الشيء جهارا ولا يأتي في شعره باسم " كوردستان" أو" الشّعب الكوردي". هكذا ردّ على النّقدِ الذي اتّهمه، أنّه يمجدّ في قصائده " التقاليد الأناضوليّة والإقطاعيّة":
" في طفولتي، منذ الرابعة وحتّى سنّ الخامسة عشرة، عدّني العرب وكذلك الكورد وكورد- الزّازا من ملّتهم. واليوم أيضا لاأنظرُ بتعال وغطرسة إليهم، إنّّني أحبّهم جميعا.
من السّفوح الشّماليّة إلى الجنوبيّة لجبل كارجا، وصولا إلى ويرانشهر، أو على الجانبِ الآخر حتّى الجنوب، حتّى الغربِ، حتّى ضِيعِ سهل حرّان، في القرى وفي خيم الرحّل، هناك شيئان مقدّسان: الأطفال والفتياتُ... هناك، الطّفل لايكون فقط طفل والديه، بل طفل كامل العشيرةِ، الجميعُ يحسّون بأنفسهم مسؤولين عن هذا الطّفل، أيضا عن الفتياتِ... في هذا المجتمع، في داخل العشيرةِ، تطوّر حسّ صلدٌ من الانتماء والتّضامن...
في مواجهة هؤلاء الذين يتّهمون هذه العادات بالإقطاعيّة، لسوف أدافع عن هذا النّوع من التقاليد والعاداتِ في وجه الرأسماليّة اللاأخلاقيّة و خداع البرجوازيّة. لأنّ هؤلاء الناس- سواء نساء أو رجالا – نزهاء، لايكذبون، يساعدون، في أحلك الظّروف، أولئك الذين يحتاجون إلى مساعدتهم، وفوق ذلك، فهم مستعدّون أن يضحّوا بأنفسهم للذود عن الآخرين. إن لم يكن الأمر كذلك، فإنّهم ما كان بمقدورهم أنْ يحموا أنفسهم، أو يبقوا على أقدامهم راسخين في الحياةِ."
عن طفولته- في سنة 1935، حين كان في سنّ الثّامنة- يقصّ أحمد عارف الحكاية التالية:
" في سيفيريك- كانليكويو. مقهى كبير، فيه أمكنة ل 500 إلى 600 شخص. يتمّ تدخين الأرغيلة، يُشرب الشّاي، يُلعب النّرد... فقط على مبعدة 50 مترا من المقهى ثمّة دوريّة شرطة.
ألقت الدوريّة أمامها برجل على الأرض. الرّجل يرتدي بنطالا فضفاضا أبيض، دثارا أبيض وأيضا غطاء للرأسِ من الحرير بنطاق فيه. أقدامه عارية. طرحته الشرطة أرضا للفلقة. يضغطون على أقدامه في موضع الكاحل بالبنادق أرضا وينهالون عليها ضربا بالهراوات. الرّجل يصيح " أواه، محمّد " وهذا كلّ ما يتفوّه به. عليه، فإنّ هذا الرّجل ينبغي أن يكون عربيّا، فإنّه إن كان كورديّا، لكان استغاث وصاح بأشياء أخرى، وإن كان زازيّا، أيضا كان لاستغاث بشيءٍ مختلف. إذن الرّجل عربيّ. من المحتمل أنّه أتى لحاجة له لدى السلطات القضائيّة أو لدى سلطة حكوميّة أو كان في السّوق، ليبيع الزّيت، أو اللّبن، أو شيئا شبيها بهذا، بالضبط لا أعرف.
كما سلف القول، أربعة أو خمسة من الشرطة يعذّبون الرّجل. نحن الأطفال على بعد 70 إلى 80 متراً ونتأمّل في المشهد. كلّ واحد منّا يمتلك مقلاعا. استعمال المقلاع مهارة صعبة ينبغي تعلّمها، لكن الأطفال يتعلمّون ذلك بسهولة في مدّة شهرين. " الذّئب لايخاف من البندقيّة، لك من المقلاع" يقولُ الفلاّحون والرّعاةٌُ في تلك القرى. تصوّر: حجر في حجم بيضة، حين يقذف، فإنّه يمزّق على الفور ما يصادفه- سواء الصّدر أو الرأس. إنّه مميت...
كنّا آنذك صغاراً، لكنّنا كنّا نستطيع أن نستعمل المقلاع بحذاقة. نتّخذُ قرارنا بسرعة. قائدنا فتى اسمه مصطفى تاتار. إنّه أكبر منّي بسنة أو اثنتين وأطول بقليل وأكثر ترتيبا. أبوه صديق لوالدي، عائلتانا لهما علاقات حميمة مع بعضهما البعض. نقرّر " نشتّت الشّرطة ونجعلها تفرّ". نبحثُ لنا عن مكان يبعد 70 إلى 80 مترا عن الشرطة. مصطفى يقول" انتبهوا، علينا ألاّ نصيب الرّجل" وأنا أحذّر" لاتصوّبوا على الرؤوسِ".
الشرطة تتحرّك باستمرار. نرمي بثلاثة، أو أربعة أحجار. يصاب شرطيّان ويقعان أرضا، الآخرون يفرّون. نلوذ نحن أيضا بالفرار فورا، نختبىء في كروم عنب والد مصطفى، التي تقع خارج المدينة مسافة 45 دقيقة. هناك نتوارى عن الأنظار حتّى حلول المساء. ولدينا في البيت نسمعُ بعد ذاك " هؤلاء الشّجعان، هذه الأسود المجهولة، لقد أعطوا الشرطة حقّها وانقذوا ذلك العربي المسكين"
يتمّ قصّ هذه الحكاية عند الأُسَر، وأيضا والدي يتكلّم كذلكَ، كأنّما لاعلاقة لي بالأمر، لاأجرؤ أن أجاهر بالحقيقة. في اليوم التالي يذهب والدي إلى المقهى. يحكي أصدقاؤه هناك- يا رجل! يا لها من أسود شجاعة! لقد كانوا فقط أولادا، على الأكثر ذوي عشر سنواتٍ. لكن كانوا رماة جيّدين!-
الغريب أنّه لم يحكم أحد بسوء على عمليّتنا. ذاك الرّجل المسكين كان حتّى لايعرف التركيّة، كان عربيّا مسكينا"
وصف أحمد عارف والديه وعائلته هكذا:
" لم يكن أبي كورديّا. جدي كان خِدَيويا – حاكما -، بعد ذلك تخلّى عن التوظيف الحكومي وانشغل بالتّجارةِ... يوجد أيضا بين أسلافي باشوات... لكنّني لا أتكلّم بسرور عن ذلك، لآنّني أفكّر أنّه على المرءِ ألاّ يتفاخر بأسلافه وعشيرته، لكن فقط بالشّعب. والأحبّاء بالطّبع... في كلّ حالٍ بالأحبّاء...
كان أبي كجنديّ في الجبهة. أمّي التي أنا منها كورديّة. تنتمي إلى عائلة من السادة، وهي كانت ابنة هذه العائلة الوحيدة. والدها، أقصد جدّي، كان رجل دين كبيرا... رسميّا كانت أمّي تدعى سارا، ولكن كانت تنادى أيضا بسيروهان، زهراهان أو زوهريهان. كان لديها سبعة أخوة، كلّهم قُتلوا من قبل القتلة المرتزقين للجاسوس الإنكليزيّ المشهور لورنس. آنذاك كنتُ لاأزالُ جدّ صغير. ماتت أمّي، حين كنت صغيرا جدّا، حين ولادتها لأخي. الأمّ التي ربّتني، اعتنت بي وجعلتني راشدا، كانت أمّنا آريفه...
جدّاتي الحموات، الخالات والعمّات الحموات، كنّ كالملائكةِ. أحببنني جدّا، عاملنني كمثل أطفالهم بالذات...
الزوجة الأولى لأبي كانت زينت هانيم. صار لهما ابن، محمد نجاتي. أخي الشقيق نجاتي كان أستاذا، لقد توفي منذ زمن. أمّنا زينت طلّقت نفسها من والدنا أثناء الحرب وتزوّجت " بِروت آغا" المشهور، الذي طال به العمر إلى 130 سنة."
مع بداية المدرسة المتوسّطة كان ينبغي على أحمد عارف أن ينتقل إلى البلدة الكورديّة الإقليميّة أورفا، حيث لم تكن توجد في بلدة سيفيريك مدرسة متوسّطة. هنا بدأ أحمد عارف في كتابة أولى قصائده وارسالها إلى الجريدة الأدبية ( الوحدة الجديدة) في استنبول. فيما إذا كانت قد نُشرت هناك، لم يعرف أحمد عارف هذا قطّ. لكنه تلقّى من الجريدة رسالة تشجيعيّة. في هذا الوقت قرأ أحمد عارف كتّابا أتراكا وعالميين مهمّين، مثل ناظم حكمت وأندره جيد، معجبا بهم ومتأثّرا بكتاباتهم. عن الأثر الذي تركته قراءته لهؤلاء الكتّاب يقول أحمد عارف:
" هناك كتبٌ أحبّها جدّا، جعلتني أسكر. خاصّة أندريه مارلو" هكذا يعيش الإنسان". هذا الكتاب انتزعني من الطّفولةِ، من البراءةِ حرّرني، علّمني، ما الذي يحدث في الحقيقة في العالم، وطوّر شخصيّتي. لقد اقشعّر جلدي معه، قرأته كما لو كان مجموعة شعريّة. أيضا إميل زولا، غوستاف فلوبير وبالأخصّ دستويفسكي وتولستوي، إنّهما كاتبان لم أستطع أن أشبع من قراءتهما."
وصل أحمد عارف إلى هذه الكتب عن طريق " بيت الشّعب". في الأربعينات نشأت في إطار حملات تعليم وتثقيف جماهيري في الريف التركي وفي كوردستان إلى جانب " المعاهد القرويّة" المدرسيّة " البيوت الشعبية" (هالكفي)، المكتبات التي تضمّ الآداب الأجنبيّة وتصدر بشكل جزئي المجلاّت الأدبيّة. ولو أنّ تذويب وصهر الشعب الكورديّ عن طريق العمل التعليمي المسكوك من قبل الدولة الكماليّة كان هو الهدف والدافع لإنشاء " المعاهد القرويّة" و" البيوت الشّعبية"، فإنّ الدولة خافت من هذه المنشآتِ سريعا وألغتها في بداية الخمسينات، مدعية أنّها " متسرَّبة من قبل الشيوعيّة" .
بعد انهاء السنوات الثلاث في المدرسة المتوسّطةِ، كان ينبغي على أحمد عارف أن يذهب إلى الثانوية في المدينة التركية الواقعة غربا " أفيون". من جهته كان يودّ من كلّ قلبه أن يدرس في الثانوية في دياربكر، حيث أنّه كان يملك أصدقاء له هناك. لكن والده لم يسمح أن يمضي إلى دياربكر، لأنّه كان يخافُ أن يقع أحمد عارف تحت تأثيرات سيئة عن طريق أصدقائهِ، بدل أن يتعلّم شيئا ما. كان يقصد والده أنّه في دياربكر سيصيرُ إمّا " مهرّبا أومجرما" وعليه‘ فإنّه سيتمّ قتله ذات يوم. كان أحمد عارف حزينا جدا بسبب الانفصال والابتعاد عن أصدقائه. بالأخصّ كان يستفقدُ مصطفى، " زعيم" جماعة الأطفال، الذي حينذاك في سيفيريك، بالمقلاع جعل الشرطة تلوذ بالفرار، أولئك الذين كانوا يعذّبون العربيّ. خاصّة من مصطفى كان يريد والده أن يبعده في كلّ الظّروفِ، كذلك والد مصطفى منع ابنه من الاتصال مع أحمد. كطالب ثانويّة في " أفيون" كتب أحمد عارف حين كان في السادسة عشرة من عمره كلّ ليلة ما بين ثمان إلى عشر صفحاتٍ، دفاتر كثيرة مليئة بالأشعار. عن مصير هذه القصائد يقول: " كلّ دفتر من هذه الدفاتر ظلّ مع فتاة من الفتيات. الكثير منها أيضا عند الشرطة... لم تُرجع إليّ... كلاهما – الشرطة والفتيات- لايرجعانها. أردتُ القصائد، لأنّها مثل صورة طفولتي، صورة دماغي وقلبي..."
خلال زمن الثانويّة بدأ أحمد عارف ينشر بعض القصائد في المجلات الأدبية اليساريّة. كمكافأة على قصيدة أولى منشورة له في مجلّة" الشعر المنتخب" تلقّى عارف عشر ليرات، كان هذا المبلغ كبيرا في ذلك الوقت، حيث كان كلّ المصروف الذي كان يتلقّاه من أبيه، فقط خمس ليرات شهريّا. لكن كان أهم من النقود لأحمد عارف هو كون قصيدته نشرت إلى جانب قصيدة ل" نيزن توفيق" الذي كان في ذلك الوقت شاعرا معتبرا ويتخذه أحمد عارف له قدوة. في ذلك الوقت كان توجد حلقة من الأدباء الشبابِ الذين كانوا يهتدون بنازم حكمت، أحمد هامدي تانبينار، أحمد مهيب دراناس، جيهات كولبي، آتّيلا إيلهان، ريفات إلغاز، يلماز غوردا، فيدات توركالي، نيازي آلكينجيوغلو، حسن إزتين دينامو وبهجت نجاتيغيل. عند نهايات الأربعينات ازدهرت حياة أدبيّة نشطة في تركيّا، قطعت الصلات مع الصيغ التقليدية واتخذت كموضوع لها النقد الاجتماعي منهجا. كذلك في المدن الصّغيرة كانت هناك أوساط ثقافيّة- أدبية للشباب، حيثُ كانوا يلتقون في المقاهي ويتناقشون كثيرا.
عدّ أحمد عارف الشاعر" أورهان فلي" قدوة مهمّة له، ذاك الذي يعتبر مؤسس الجيل الأدبي " الغرابة" . 1947 ، في الصفّ الأخير من الثانويّة، غضبت الشرطة للمرة الأولى على أحمد عارف، وكان هذا بسبب من قصيدته" توغلياتي":
" لم يكن للقصيدة بعد أي اسم. بالميرو توغلياتي كان رجلا مهمّا. حسب رأيي، كان هو المثقف الأهمّ من بين " الكومينتريين" (وحدة الأحزاب الشيوعيّة العالميّة) إلى جانب غيورغي ديميتروف وشفيق حوسنو، الذي كان صديقا ل" هو شي مين " ، ويدير معه المكتب الآسيويّ.
هناك خطب لتوغلياتي، لم تكن مهمّة فقط للبروليتاريا الإيطاليّة، بل كان لها تأثير كبيرعلى السياسة العالمية بمجملها. تم اغتيال هذا الرّجل سنة 1946. من قبل من؟ بالطبع من قبل الفاشستيين. كنتُ آنذاك لاأزالُ طفلا. جلست وكتبتُ قصيدة. في أحد المقاهي، أعتقدُ، كان هذا سنة 1947. شخص خبيثٌ سرقها من جيب جاكيتي. كتبها وصوّر منها 80 نسخة ووزّعها. بعض النسخ كانت توجد في غرفة " ملاهات"، إحدى صديقاتي، التي كانت تعد رسالة دكتوراه في الفلسفة. حين علمتُ بذلك، أسرعتُ للتوّ إليها. عندئذ جاء ثلاثة أو أربعة من الشرطة واستولوا على النسخ. ذهبتُ إلى الشرطة وشرحتُ أنّها كانت قصيدتي. سجّل الكوميسار إفادتي وتركني أمضي. بعدئذ رفعت قضيّة وفيها لم يجرالحديث بتاتا عن القصيدةِ. كان يهمّهم أن يستغلّ الأمر كذريعة لمنع جميعتنا" شباب تركيّا"، التي كانت تترأسها ملاهات. حلّت الجمعيّة نفسها تحت مراقبةِ كوميسار حكوميّ. وهكذا وقّفت القضيّة أيضا.
من جانبي لم أنشر القصيدة، لأنّها لم تكن مكتملة. كان عليّ أن أعيد صياغتها، لترى نور النّهار. بعد هذه الحوادث لم أستطع ذلك. كانت مثل طفل يولد قبل أوانه، ميتا، مختنقا، قصيدة مذبوحة. أريدُ لأجل ذلك أن أعتذر من البروليتاريا الإيطاليّة وبعدئذ من شعبي. في الحلقات الإيطاليّة أيضا تمّ نقاش الأمر فيما يتعلّق بهذه القصيدةِ، وبخصوص استعمال العاميّة في الشعر، وهل ذلك يحطّ من قيمة القصيدة أم لا. بحسب رأيي فإنّ العاميّة خصوصيّة مهمّة من خصوصيّات لغة الشعب. الذي يعرف جماليّة العاميّة الباريسيّة، يستطيع أن يقدّر هذا حقّ قدره.
بعد إنهاء الثّانويّة سنة 1947/48 بدأ أحمد عارف يدرس الفلسفة في كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا في جامعة أنقرة. في هذا الوقت كتب قصيدة" ثلاث وثلاثون طلقة"، هذه القصيدة التي سببت له ثانية ضغوطات وأدّت إلى مناقشات حادّة في المجتمع التركي، حيثُ أنّها جعلت من إحدى التابوات الأشد منعا، لها موضوعا- المجزرة التي راح ضحيّتها الكورد.
هذه القصيدةُ يمكن اتخاذها مثلا لكلّ الحالات والحوادث التي حدثت في كوردستان- والمستمرّة إلى اليوم أيضا- القصيدة تتحدث عن رمي الكورد البريئين بالرصاص في 28 من آب 1943 عند نبع- زيفو في منطقة وان- أوزآلب بالقربِ من الحدودِ الأيرانيّة.
1943 لم يكن يوجد في كوردستان أي إنتفاضة ولا أيّة مقاومة، فوق هذا، فقد ذبّح الجيش التركي القرويّين الكورد. قبل ذلك بأيّام حدثت في قرى كثيرة العديد من الاعتقالات الجماعيّة تحت ذريعة سرقة قطعان الماشية، حيث الجيش التركي نفسه كان المخطط لهذه العملية اللصوصيّة. جُعل القرويون أدوات لتنفيذ العمليّة والاغتناء من ورائها. قاضي التحرّي أمر بزج قسم من المقبوض عليهم، الذين كان سيُدّعى عليهم، في السجن، الباقون الثلاث والثلاثون شخصا، كان ينبغي اطلاقُ سراحهم. بدلا من ذلك فإنّه تم حجزهم في احدى اصطبلات الماشية من قبل الجنود وتعذيبهم. بعد أن وصل الحكم المشفر من الجنرال صاحب النّجوم الأربعة " مصطفى موغلالي" إلى مكتب البريد والتلغراف في السراي، تمّ اقتياد هؤلاء الأشخاص إلى نبع – سيفو، مربوطين ببعضهم البعض وهناك تمّت تصفيتهم. بعد ذلك تم حفر قبور من قبل الجنود المشاةِ وأبعدت القيود من الجثث، قبل أن يتمّ دفنها. ولطمس هذه المجزرة وتشويه الحقائق، تم تمثيل الحادثة في سجّلات الجيش، كما لو أنّ المدنيين هؤلاءِ الثلاثة والثلاثين كانوا بالصدفة على الحدود" بين الجبهات القتاليّة" أثناء تبادل اطلاق النار.الجندي اسماعيل جولاك الذي لم يرد أن يطلق النار بسبب من تأنيب الضمير، أطلق سراح أحد الثلاثة والثلاثين، ذلك الذي كان جريحا، حين كان عليه أن يتفحّص، فيما إذا كان جميعهم قد ماتوا.
هذا الشخص جرجر نفسه تحت وطأة جراحه البالغة عبر الحدود إلى إيران ومن هناك أوصل هذه حقيقة المجزرة إلى الرأي العام.
وعلى العكس من كلّ المذابح التي اقترفت على رقاب الشعب الكورديّ، وصلت هذه الحادثة إلى البرلمان التركي، لكن فقط في سنة 1946. وبسبب من ضغط الرأي العام، تمّ رفع دعوى مقاضاة ضد الآمر في الجيش الثالث، الجنرال بالأنجم الأربعة " موغلالي" من قبل المحكمة العسكريّة للقيادة العامّة. وهو برّر هذه المذبحة بالإدعاءِ أنّ هؤلاء القرويّين الكورد الفقراء كانوا " جواسيس لروسيا"، ولأنّ الكورد بسبب من الدعم السوفييتي لجمهورية مهاباد، كانوا يتعاطون الجاسوسيّة للروس بطواعية، فإنّه من غير الممكن، عند" بعض الحوادثِ التي تتعلق بالكوردِ أن يُقاس بالمقاييس العاديّة والحسّ الرسمي الطبيعي". تمّ الحكم على " موغلالي" بالإعدام أولاّ ثمّ حوّل الحكم إلى 28 سنة من السّجن وخفّضت إلى 20 سنة بسبب من " انجازاته في الجيش" . حاول محاميّه أن يدرجه في خانة" غير مؤهّل للمساءلة"، لكي يستطيع هكذا أن يطلق سراحه. لكن الجيش خاف على سمعته وصورته، وحسب الأمر إهانة له، أن يؤمر لمدّة ثلاث سنوات من قبل شخص يعتبر" غير مؤهّل للمساءلة".
يشرح أحمد عارف في مقابلة، كيفيّة كتابته لقصيدته "33 طلقة" كالتالي:
" تمّ ايصال القضية من قبل أخ مربيّتنا، مصطفى إكينجي، إلى البرلمان. مصطفى كان نائبا عن دياربكر هناك. حين كان شابّا، كان عليه بعد انتفاضة الشيخ سعيد، هكذا في سنوات 1925 أو 1927، أن يمضي إلى المنفى. فقط في عمر يقارب ال 45 أو ال 50 سنة عاد ثانية إلى دياربكر. إنّه هو الذي عرض المسألة في البرلمان. الحزبُ الديمقراطي ربح معه الانتخابات في الشّرق. الضرب من العسكريتاريّة والاغتيالات... عندئذ عملوا دعايتهم الانتخابيّة قائلين، علبة السكائر سيخفض سعرها إلى خمسة قروشات، حين هم يستلمون السلطة. وحين استلموا السلطة، رفعوا سعرها إلى 50 قروشا. نعم، لكنّ هذه قصة أخرى...
على السّاحة السياسيّة هذا شيءٌ جديدٌ- أعني القضية الكورديّة. لكن للشعب- للفلاحين من أفيون، آكشهير، أنتاليا وفي الجانب الآخر، الفلاحين في سيفيريك، سيرت، أرزروم- فهل حصل اختلاف وتبدل بخصول القمع والاهمال؟ في ذلك الوقت لم أكن أعرف ذلك... هذا هو الواقع. انتفاضات. أيضا قصة ال 33 رصاصة... هناك وثائق، سجلات المحكمة، تقارير البرلمان. فيها أشياء تقشعرّ لها الأبدان. يقول تقرير البرلمان أنّهم لم يكونوا فقط 33 شخصا.
في زمن سلطة الحزب الواحد، أعني حتّى سنة 1946، كان هناك في العديد من الأماكن في وطننا اغتيالات كهذه. الآلاف من الاغتيالات مجهولة الفاعل من هذا النوع... نُشر القسم الأوّل من ريبورتاج زاهير غوفيملي في الصحيفة اليوميّة " هورّيت". لقد قرأتُ هذا، رأسي يدوخ. عندئذ حلّ الحظرُ الإعلاميّ، هذا الذي استمرّ 20 إلى 30 سنة."
تمتّ ملاحقة أحمد عارف بسبب من قصيدته " 33 طلقة":
" قيل لي: - لماذا كتبت هذا؟
- هل الموضوع تابو، يا أخ؟ إن أنا لم أكتب، فمن الذي سيكتب؟... أقربائي، أصدقائي قالوا- لماذا كتبت هذا الشيء؟- أو – بدل أن تكتب عن هذا، كان عليك أن تكتب عن مصطفى صوفي-. لكنّني لم أعرف بالتفصيل عن قضية مصطفى صوفي... فوق هذا، كان الأمر قد مضى عليه زمن طويل. أمّا ما كتبت عنه، فكان حادثا مأساويّا يجري أمام أبصارنا. قلتُ- لو أنّه هنا في هذا الحيّ، قام مجنون بسرقة ثلاثين دجاجة وذبحها ثم رماها على الشارع، فإنّ المرء سيقرأ غدا عن هذه الحادثة في " جريدة أولوس" خبرا عريضا مؤلفّا من أربعة أسطر. وفي القصيدة المسألة ليست مسألة دجاجات، إنّما مسألة 33 شخصا من أبناء بلدك. بالإضافة إلى أنّهم كانوا بالمطلق بريئين. ذنبهم الوحيد هو أن لا أحد يقف إلى جانبهم، أنّهم لايملكون لوبيا، لاشيء آخر.
الشباب والكهول، الجميع موتى، مقتولون. لكنّ أحدهم لم يكن ميّتا. علمتُ بهذا مؤخّرا. استطاع أن يجرجر نفسه جريحا عبر الحدود إلى إيران. هناك تمت مداواته وكتب بعد ذلك بسنوات رسائل. وهكذا برز الموضوع. أخ أو ابن عم لهذا الجريح، محام باسل، أرسل برقيّات باستمرار إلى إسمت باشا وأخذ على عاتقه ألاّ يتمّ نسيان الأمر. بالضبط هذا ما كان يريده الحزب الديمقراطيّ. حزب ال DP "" استغلّ الحادثة لدعم مصالحه السياسيّة. حادثة تجرح الشّعب. كتبتُ القصيدة كمرثيّة. كان قلبي ثقيلا. كنتُ أحسّ بنفس الألم الذي كانت تحسّه إمرأة قرويّة، أمّ فقدت أهلها في الحادثة...إذن، بسبب من قصيدة " 33 طلقة" أحضروني وعذبوني طوال اللّيل. طالبوني أن أستشهد بالأبيات، لكنّي تمانعتُ. هذا كان في سنة 1950 أو 1951. لم يكن أيّ سطر قد نُشر في أيّ مكان بعد. " لن أستشهد بالأبيات ولو كان عليّ أن أموت أيضا! بأي حقّ تفعلون هذا؟ وهم كانوا يشتمونني وينهالون عليّ بالضربِ حتّى الصّباح...
في ذلك الوقت كنت طالبا في أنقرة. في الصباح رموني بالقرب من الملعب على سياج شائك، هناك بقيت معلّقا. جاءت الكلاب وتشممتني. اضطربت وجزعت خوف أن تفترسني أو أموت. إلى أن وجدني منظفو الشوارع وخلصوني من الأسلاك. نادوا سيارة أجرة وسألوني " هل عندك نقود، يا بني" ، قلتُ" نعم". تم نقلي إلى البيت وبقيت ممددا في السرير طيلة أسبوع. كنت في في سكن جماعي يضم 20-30 غرفة. الخادمة التي كانت تلقب ب" الحاجّة مبوس" كانت إمرأة طيبة جدا، كانت تحبني وترعاني. كانت تجلب لي الحساء لكنني لم أكن أستطيع آن آكل. فقط بعد أسبوع استعدت عافيتي قليلا. لم أتحدّث لأي شخص عن هذه الواقعة، حتى ولا لأقرب أصدقائي."
حاول أحمد عارف بعد ذلك أن ينشر القصيدة، ولكن بسبب من الحظر الإعلامي والأخباري المتعلّق بهذا الموضوع ولأنّ الناشرين أيضا كانوا يعرفون، أيّ ضغوطات سيجلبه نشر قصيدة كهذه معه، فإنّه لم يتمكن من نشرها. كان أمله في " سليم شينغل" الذي قال فيه أحمد عارف:" كان سليم دائما سخيا معي، مرارا كان يعطيني 100 ليرة. لو كنت موظفا أيضا، لما كنت أكسب 100 ليرة..." ولكنّه هو أيضا رفض أي نوع من النشر للقصيدة. تزايد قمع الطبقة اليساريّة والحركة العمالية بعد نوع من الإنفراج في هذا المجال سنة 1946، حين رفع الحظر لمدة قصيرة عن النقابات العمالية وتم تأسيس الحزب الإشتراكي العمالي وسلسلة من النقابات العمالية. تم منع المنظمات مجددا واعتقال العديد من أعضائها ونشطائها. في السنوات التالية ازدادت حدة القمع باضطراد مع ربط تركيا بالمنظومة الغربية. سنة 1947 حصلت تركيا من أمريكا على المساعدات العسكريّة، سنة 1948 تلقت أموالا من خطّة مارشال، هذه الخطّة التي شدت تركيا بإتجاه الولايات المتحدة وسياستها أثناء الحرب الباردة. مع كسب الحزب الديمقراطي للإنتخابات في سنة 1950 فتحت تركيا نفسها أكثر للمصالح الأمريكية وحتى أنها أرسلت ب"4500" جنديا إلى كوريا دعما للجيش الأمريكي هناك. الانضمام إلى الناتو تم الإعداد له، وجرى تطبيقه سنة 1954 بدعم وتوصية أمريكية، بعد أن ترجعت بريطانيا عن منعه. سنة 1951 إبتدأت هستيريا قويّة ضد الشيوعيّة وقمع شديد ضد اليساريين باعتقالات جماعيّة، ووضع حكم الإعدام موضع التطبيق فيما يخص الشيوعيين وكذلك تشريع قانون لتشجيع الرأسمال الأجنبي في تركيا. الوضع الإجتماعي تفاقم واحتدّ سوءا. بين سنوات 1950- 1953 حصلت انتفاضات فلاحيّة عديدة ضد الإقطاعيّين الكبار. في هذا الوقت تم زج العديد من المثقفين أيضا في السجن. أحمد عارف سجن سنة 1950 وثانية 1952 حتى سنة 1953 مع آخرين- على سبيل المثال- مع صديقه الشاعرأنور غوكجه وروحي سو متّهمين " بالدعاية للشيوعية" مدعى عليهم بحسب المادة 141. تم الحكم عليه في القضية – " ت .ك . ب " في الملف ذي الرقم 1951- 82 بسنتين وثمانية أشهر من السجن. تم وضع أحمد عارف في السجن" سانساريان هاني" بالقرب من استنبول. هناك، كان يوجد في ذلك الأوان مركز التعذيب الأقسى للمعتقلين السياسيين، حيث كان يجري" تجريب" نظريات تعذيب جديدة، على سبيل المثال، نظرية " التابوت". بحسبها كان يجب على المسجونين لأيام أن يعذبوا بحشرهم في صندوق خشبي ضيق، موضوع عموديّا، كان يشبه تابوتا وما كانوا فيه يستطيعون بالإتيان بأيّة حركة. عن خبرته في السجن سنة 1952 يقول أحمد عارف:
" كنت في الزنزانة الفرديّة ذات الرقم 9 . التحقيق امتدّ طويلا. أعطوني ربع رغيف جاف في اليوم، حيث ما استطعت ابتلاع ولو حتى لقمة واحدة منه. شربت فقط الماء. وجدت عود ثقاب محترقا عن طريقه رسمت على الجدار يوميا خطّا، وكانت 128 يوما. ما كان في الزنزانة أي شعاع شمس، بغير انقطاع كان يلتهب نور كهربائي. ذات يوم جاءت إمرأة تعمل في السجن كمنظفة بالسر إليّ وسألتني، إن كنت أحمد عارف، داعبتني مثل أمّ وقالت:" إنّي أبحثُ عنك منذ شهور". وردا على سؤالي:" لماذا" لم تجب بشيء. في اليوم التالي أيضا أتت وجلبت لي بيجاما وعلبة ورق. فتحت الورق بحذر، كان فيه عنب. من مِنَ الممكن أنّه أرسله لي؟ أمّ، أخت، صديق، حبيبة ما؟ ومن كانت هذه المرأةُ؟ بكيتُ من التأثّر، لم أستطع أكلَ العنب وهكذا تعفّن. قرأت الأوراق، بعض صفحات جريدة من مطبوعات قوس وقزح، وحيث أنّي منذ زمن طويل لم أكن قد قرأت شيئا، فإنّي قرأتها ملتهما، مقالة عن " هوليوود الخضراء". إلى هذا اليوم لم يكن حتى اسمي قد سجّل، لم يكتب، متى القي عليّ القبض وزجّ بي في السجن. لو قدّرلي أن أموت هناك، أيّ وثيقة كان بامكانهم عملها؟ كيف كانوا سيشرحون الأمر لعائلتي؟ كنت متروكا ووحيدا بالمطلق. فوق ذلك كنت مريضا جدا، كان الدم يسيل من رقبتي باستمرار. في زنزانتي كان هناك موضع لسرير السجن وأيضا ربما 30 سنتميترا وبعد ذلك الجدار. الجدران كانت ملوثّة ببقع الدم ومغطاة بالأسماء. الكثيرون الذين كانت أسماءهم مكتوبة هناك، تعرّفت عليهم بعدئذ في سجن " الحربية" . أصبحنا أصدقاء.
في الحقيقة كان غير مسموح لهم أن يبقوا علينا هناك مسجونين أكثر من 15 يوما. لكن الكثيرين منا ابقوا هناك محبوسين لشهور طويلة. قدمنا إلى المحكمة العسكرية، بالرغم أنّه لم تكن هناك أحكام طوارىء سارية. وفي وقت من الأوقات أصبت بالإنهيار، بحمى وصلت إلى 40 درجة وفقط في المستشفى مقيدا عدت إلى وعيي، كنت أهلوس وتم إجراء عملية لي. ثم جلبوا لي برقية" والدك مات، لم يتم دفنه بعد، لا أستطيع الذهاب إلى هناك. أمّك آريفه". تعجبتُ، كي لهذه البرقية أن تصلني، حيث أنني لم يتم اقتيادي من استنبول بل من أنقرة، حين تم القبض علي، وما كان أحدٌ يعرف، أين أنا. بعدئذ عرفت أن أمي لم ترسل أيّة برقية من ذلك النّوع. كانت معنوياتي في مستواها الأدنى، وأصبت بنوبة قلبيّة. أخذوني إلى المستشفى. ثلاث مستشفيات لم تقبلني متذرّعة " إنّه ميّت لا محالة"، فقط متشفى كاظم باشا دنيز وافق على معالجتي. هناك تم معالجتي بالصعق الكهربائي. ثم أعادوني إلى " سانساريان هاني" ومن هناك إلى " الحربيّة" حيث أمضيت 17 يوما في زنزانة مثل التّابوتِ. الجدران كانت رطبة، ومغطاة بالطحالبِ. كنت أدير بجانبي الأيمن إلى الحائط لكي أحمي بذلك قلبي، الألم في كتفي الأيمن لازلتُ أحسّ به إلى هذا اليوم.
كان أحدهم قد كتب على الحائط" تو بي أور نت تو بي"، وفي الأسفل من ذلك بالكورديّة " يا هرّو يامرّو" وبخط تحتها.
من أنقرة إلى استنبول قام ضابطا شرطة بنقلي. كنت قد هزلتُ كعصفور. في القسم كان يجلس زوجان كهلان. والشرطة كانوا يتقلدون مسدسات ضخمة ويتهامسون من وراء جرائدهم. كانوا يقومون بالإرهاب النفسي:" هناك أحكموا الأسلاك فوق الأسنان واصعقوهم بالكهرباءِ" ، " الذي يدخل غرفة الضوء، لايبقى منه سوى الغبار" وعلى هذا المنوال. حين نام الشرطيون وبدأوا في الشخير، سألتني المرأة العجوز" يا ولدي، ما الذي جرى لك؟" ما الذي كنتُ أستطيع أن أقول لها!. إن قلتُ لها، إنني سياسي؟ لا، لايمكن. أنا طالب؟ لا، لايمكن كذلك. ناشط، اشتراكي، ما الذي تستطيع هذه العجوز أن تفهم من ذلك؟ كنت محرجا بشدّة، بعد عدة ثوان قلت لها بعفوية:" إنّه الحب، عمّتي" . وكم تهلل وجه المرأة العجوزعند ذلك!. أرادت أن تقبلني. لاطفتني مثل أمّ، مثل حبيبة. أرادت أن تعطيني نقودا، لكني تمانعت عن أخذها. كانت لدي فقط خمس ليرات في جيبي، كان عليّ في الواقع أن أقبل النقود، لكنّهم كانوا أشخاصا كبيري السن، كنت أخجل أن آخذ منهم نقودا. هكذا وصلنا إلى استنبول. سأل الشرطيون " أتملك أجرة التاكسي؟"، " ألستم تعلمون!" جاوبتهم. هكذا مشينا. حملت على كتفي سريري وأحد الشرطة أخذ حقيبتي في يده. اجتزنا الجسر، بحثت بنظري عن أحد المعارف لأسأله نقودا، لكنّني لم أجد أحداً. هكذا جئنا إلى سجن " سانساريان هاني". أيضا أثناء الحكم عليّ في المرّة الأولى قبل سنة في أنقرة، طلبوا منّي أن أسلّم دفاعي كتابة إلى مديرالسجن أو المدّعي العام. لكنّي رفضتُ هذا. عند كلّ مداولة محكمة كانوا يعرونني في الصباح الباكر بالزلط ويفتّشون ملابسي بدقّة. كلمة دفاعي المكتوبة ناولتها للمحكمة، لكن أرسلت نسخة عبر كاتب العدل."
بعد اطلاق سراحه من السجن سنة 1953 كان على أحمد عارف أن ينقطع عن الدراسة. كان يكتسب مورد عيشه كما في السابق عند أيّام دراسته، عن طريق أعمال تحريريّة، أعمال تكنيكيّة وكسكرتير لدى العديد من الصحف، من بينها " أنقرة تلغراف" وعن طريق نشر قصائده بين الفينة والأخرى في المجلات الأدبية مثل" التبديل"، " ساحة الشباب"، " سطح الأرض" و " آفاق جديدة" . فقط في سنة 1968 نشر قسم من قصائد أحمد عرف في كتاب. " شوقا إليك أبليتُ الزّناجير" بقي كتابه الوحيد. القصائد الأخرى تم نشرها متفرقة في المجلات أو لم تنشر. الطبعة الأولى من المجموعة بيعت بسرعة وحصل أحمد عارف على عرض ناشر آخر وذلك بطبع عشرات الآلاف من النسخ وتوزيعها على أكشاك الصحف ذات العدد الكبيرفي تركيا. هذا العرض لم يجلب أيّة فائدة لأحمد عارف، لأنه كان قد وقع العقد مع ناشره الأول وفيه تم الاتفاق على عدم إعادة طبع المجموعة بعد الطبعة الأولى لمدة سنتين. كان أحمد عارف حتّى الانقلاب سنة 1980 من أكثر الشعراء المقروئين في تركيا. حتى سنة 1990 تمت نشر 28 طبعة جديدة من الكتاب وبالإضافة إلى عدد لامنته من الطبعات " اللصوصية". بالإضافة إلى ذلك فإنّ الكثير من الفرق اليسارية الموسيقية والمغنين يستخدمون في نصوصهم مقاطع من قصائده. ويتبين لنا، كم قصائد أحمد عارف محبوبة في تركيا ومعروفة، وذلك عن طريق معرفة طريقة انتشارها يقول أحمد عارف:" التلاميذ والتلميذات، الطلاب والطالبات ينوّعون ويأخذون من القصائد ويرسلونها كبطاقات، كرسائل. معلم على سبيل المثال يشتري 500 نسخة من كتابي ويوزعه بدل سكاكر العرس. لقد أخجلني هذا الشيء بطريقة ما. الشعب يتعطش إلى القصائد. إن استطعت أن أروي العطش ولو بقطرة، فأنا سعيد. الشعب يجعل القصائد تنتشر. بعد الثاني عشر من سبتمبر، فإنّ الكتب حظر طباعتها على أيّة حال. لهذا فقد وجدت الكثيرمن الطبعات اللصوصية. إنّه كان دائما الشعب هو الذي يفسّرُ قصائدي بطريقة مدهشة، يحبها ويدافع عنها وينقلها من فم إلى فم. وإلا لكانت القصائد ستنسى منذ زمن بعيد. من زاوية النظرهذه فإننا أغنياء جدا. وطبعا لدينا بالكاد أدب مكتوب. وربّما جمالية أدبنا في الحقيقة تكمن في أنّه تم نقله وتداوله من فم إلى فم، ومن جيل إلى جيل. هل كان لدى كارجا اوغلان مطبعة؟ من الذي طبع قصائده..."
يقول أحمد عارف عن جماهير قراءِ شعره:
" قبل 15 سنة، كان الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و50 سنة يقرأونني، هؤلاء الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، موظفون، أصحاب الدوائر، أساتذة، ربّات المنازل. في الوقت الحالي أمتلك قراء وقارئات شبابا. اليوم يقرأني ويدافع عني جيل فتيّ لايتجاوز الثلاثين سنة. السبب يعود إلى اللغة التي أستخدمها. أستعمل بوعي مسبق وقصد التركية العادية وليس التركية المستعملة في استنبول( أوز توركجه) أي ( التركية الفصحى النقيّة). أعتقد أن الاصرار على هذه الفصحى يؤدي إلى العنصريّة. وهذا سيكون خطأ. اللغة هي شيء، على المرء أن يهبها حريتها وسجيتها. اللغة قبل كلّ شيء هي كيان عضويّ. الشعب يطور اللغة. بالطبع يلعب المثقفون، الشعراء، المعلمون دورا رياديا في هذا. ولكن الأهم هي تلك اللغة التي يحكي بها الناس مع بعضهم البعض."
ويصوّر أحمد عارف طريقة عمله كالتالي:
" ليس عملي كمثل عمل مهندس أو نجار، حيث لاأقوم بالتخطيط لكل شيء منذ البدايةِ. مع أنني مثل أيّ شاعر لي خطتي. ولكن لم تطعني كل القصائد بسهولة ولم تتركني أصيغها كما حدث معي في قصيدة " 33 طلقة" أو " الأناضور. بعض القصائد جرفتني معها وطوحت بي. لم تنته كما تصورت لها في البداية أن تنتهي. وطبعا لاأندم على هذا. دماغ الانسان عجيبة من العجائب، خزينة للجمال، الدماغ وقلب الإنسان حينما يلتقيان، فإن القصائد العظيمة تتكون. أطور قصائدي في البداية في رأسي، في قلبي. بعد ذاك أجلس وأكتبها، أصلحها في ثلاثة إلى خمسة مواضع، حين تبرز لي لاتوافقيّة ما بوضوح.
أبيات الشعر تتجول باستمرار في رأسي. أنسى البعض منها، أخرى لا أقدرُ أبدا أن أنساها. وربّما بعد خمس أو عشر سنوات تأتي وتطفو على السطح. أنتظرُ، حتى أجد الإيقاع والنغم. هذا هو تقليدنا، في الشعر التقليدي الكلاسيكي وأيضا في الشعر الشعبي، في كليهما الإيقاع هو العنصرُ الأهمُّ. حين لايتناسب الإيقاع ولايتسلسل، فإنّ القارئات والقرّاء يلقون صعوبات جمّة. والسبب يعود إلى هذا أنّ قصائدي لاقت حظا حسنا. الشعب يحب هذا الإيقاع. وبالطبع ليس فقط الإيقاع. لأن المحتوى ليس فقط نفسيّتي، غضبي الشخصي، بل أيضا لعنة وألم الشّعب- حتّى أيضا الألم التاريخي. وليس هباء أتحدث اليوم عن سبارتاكوس. سبارتاكوس يشبه أخ جيل سابق، أحبّه، أنا فخور أنّي أعرفه. أنقله إلى يومنا هذا. حين أتحدث عن غضبي ولعنتي، فإنني لا أعني هذا فقط على المستوى الذاتي فقط. أعتقد أن المثل والشجاعة التي يُعبّر عنها في القصائد، لسوف تحافظ على مفعولها وصلاحيّتها عبرآلاف مؤلّفة من السنين. حين يكون هناك بشرية... حين يكون هناك اضطهاد ووحشية، فعلى ذلك أن يُحكى. لقد طردوا الناس إلى جوكوروفا. لقد أرسلوهم إلى الموت، لم يكن الأمر شيئا آخر. مات هؤلاءالأناس المساكين بالملاريا. هذا أيضا إرهاب. هذا أيضا مهم، إذن كتابة قصيدة الاندحار والاضطهاد، إنّ هذا حقّا لصعب.
الاعتماد فقط على الينابيع المحلية لايثمر قصائد. لايستطيع المرء بهذا أن يبلغ أي شيء. الكتابة غير ممكنة بغير احتياطي، بغير ثقافة حقيقية يملكها المرء ويجعلها تجري في المنخل.
قصائدي عضوية. هرموناتي، غضبي، كآبتي، لعناتي تنفجر بضربة في أبياتي، أو تفرّ وتجد لها مأوى هناك. أكتب الشيء الذي أشعره، حوادث يوميّة، الغضب، الألم، الخسارة، التمرد، الولادة من جديد. إنني يتوجب عليّ أن أعجب آخرين. إنّه من الطبيعي أن يكون هناك من يريد الحطّ مني أو يعاديني. إنّه ليس غريبا أن يكرهني الفاشستيّون."
1966 تزوج أحمد عارف. للأسف ليس هناك معلومات عن زوجته. 1972 ولد له ابن. قبل ذلك كان قد أعلن أحمد عارف، أنّه، إن صارله ولد ذات يوم، فإنّه سيسمّيه، إن كان ولدا أو بنتا، ب" فلينتا" أي " البندقيّة"، كرمز أنّ على الولد أن يكون مقاوما. فلينتا ابتدأ سنة 1990 في دراسة فن المعمار في جامعة أنقرة، وانجذب بشدة إلى النحت الميزوبوتامي، إذن تماما مثل الأب في علاقته بالثقافة في كوردستان. فلينتا راضٍ جدا عن اسمه، ويرغب أن يحقق رغبة وتمنّي الأب المخبّأ في هذا الاسم، لامحالة.
في السبعينات والثمانينات اعتزل أحمد عارف تقريبا الحياة العامة. ومجاوبا على سؤال لماذا لم يعد ينشر أيّة قصائد، يبرر أحمد عارف الأمر بأنّ معظم المجلات تنتمي إما إلى التنظيمات أو الأحزاب السياسية، وهو باسمه المعروف والمعتبر لدى الشعب، غير مستعد أن يُستغل لأغراضها ومصالحها. في السبعينات والثمانينات كان الشغل الشاغل لأحمد عارف هو الاهتمام بتربية ابنه، كان يأخذه إلى المدرسة، يطبخ له الطعام. بالإضافة إلى هذا فإنه كان في محيطه يعتبرا أخا كبيرا، يُسألُ في كلّ شؤون الحياةِ. لم يكن يذهب بعد إلى المقاهي. كان مريضا تقريبا ولم يكن يتحمل دخان السكائر، بسبب من مشاكله القلبية:" سابقا كنت أدخن وأشرب أيضا العرق... لكن لم يصبح شرب العرق عندي إدمانا. دخنّت لسنوات طوال. أخيرا تركت التدخين، وإلا لكنت ميتا منذ زمن طويل. كنت أدخن يوميا أربعة باكيتات بافرا، حتى ولو أنني كنت أضيف الآخرين نصف باكيت، فإنّ الباقي كنت بنفسي أدخّنه."
مات أحمد عارف في 3 يونيو 1991 عن عمر يناهز الرابعة والستين سنة في أنقرة. سر ذلك الشوق في عنوان كتابه الوحيد: "شوقا إليك أبليتُ الزّناجير" لم يأخذه معه إلى القبرِ. قبل سنة من موته، أدلى بالتالي:" تم مراراً سؤالي وخاصة من قبل أصدقائي الشعراء، أي شوق أقصد، هل هو الشوق إلى الحبيبة، أهو إلى مثل أعلى. لايمكن لهذا الشّوق أن يحدّد بدقّة. بالطبع فإنّه يضمّ في نفسه الحبيبة، لكن بجانب ذلك فهو الشوق إلى الحياة المثلى، حين يستطيع الشعب أن يعيش في سعادة وتكون له حياة ومستقبل مأمنان."

*****

شوقاً إليكِ أبليتُ الزّناجير

أحمد عارف

 

حبّي

لم يهجرني حبّي.
كان عليّ أن أقاسيَ الجوع والعطش،
خائنا وحالكا كان اللّيل،
الروّح متروكة، الرّوح عطشةً،
الرّوح متمزّقة...
والأيدي في القيودِ،
دون تبغ وأرقا.
رغم ذاك لم يهجرني حبّي.

في السجن

أتدري، أنت يا حجر، أنت يا جدار؟
أنت أيّها الباب الحديد، أيّتها النافذة العمياء؟
أنت أيّتها الوسادةُ، أيّها السرير الخشن، أيّها الزنجير؟
أني ذهبتُ إلى الموت وعدتُ ثانيةً،
أنتِ يا صورةَ الظّلامِ الحزينة.
هل تدري،
أنّ زائري أحضر بصلاً أخضرَ،
سيكارتي تفوح برائحة القرنفل،
والربيع قد حلّ في جبال وطني؟ ...

شارع القَرَنفُل

على كلّ الآفاقِ يبدأ الطّقس في التشتّي
الجهات الأربع كلها، جهات الرّيح الستةَ عشر،
الأجواء السبعة، القارّات الخمس
تحت الثّلجِ.

لنستطيع أن نصلَ إلى بعضنا البعضِ، فإننا
نربط اتّصلات مع فصول السّنة قاطبة:
سكك الحديد، الاسفلت، دروب الأرياف، المسالك الصخريّة الوعرة
طريقي الصعب المنحدر‘ دربي الضيّق
الطوروس، الأمانوس والفراتُ المتمرّد
وديان عاجّة بالتبغ، بالقطن، القمح وحقول الرز،
وطني كلّه
تحت الثّلج.

هناك أيضا مَن يتشاحنون في هذا الطّقسِ،
الأيدي والأقدام متصقّعة، القلبُ جهنّم حارقة،
ممتلئين بالأمل، الغضب والحزن.
الأملُ، هكذا بصدقٍ حتّى درجة الخطأ،
انسحب راجعا إلى الجبال
تحت الثّلج.

أعرف أغانٍ تصيرُ أعاصيرَ ثلجيّة،
لوحات، تماثيلَ، حكايات أبطال –
أعمال عظيمة كلّها.
فينوسات بغير أذرع، نصف متعرّية،
زقاق ترنانس- نونين،
قبر غارسيا لوركا،
وبؤبؤات بيير كوري
تحت الثّلجِ.

الجدران من حجارة الصبر الصّلدة،
مشارفُ المدنِ تحت الثّلجِ.
يا أنقرةَ اشتياقي الحبيبة،
فقط الذّئابُ تحبّ هذا الطّقَس المبهم.
على شهر ديسمبر أن يعبرَ على الإسفلت،
إنّي لا أحبّه، إنّي متوجّسٌ من هذا الشّهرِ.
ولربيع آتٍ
- ولكن مَن يعرفُ متى يقدم -
يبقى لقاؤنا محفوظا.
في قلبي هذا الحبّ المعذب بفظاعة
تحت الثّلجِ.

الهواءُ في الأحياء البائسةِ خانق، طافح بالدّخان،
السّماءُ فوق حيّ آلتينداغ الفقير مسدلة الغيوم.
بالكدّ، الحبّ وطوال العمرِ
مشحونون باللّعنات.
رئاتُهم صغيرة، أياديهم كبيرة،
نَفَسهم لايكفي لأيديهم
- جميعهم في سنّ المدرسة الإبتدائيّة -
أطفال على الهامشِ،
تحت الثّلج

الجانبُ الآخرُ من نهر هاتب ناعمة،
البولفار في ينيشهر صافٍ.
استفاقَ النّهارُ في شارع القَرنفلِ.
مشيئةُ الحكمةِ ليستْ مبهمة.
إنّّني أعرفُ " الأسبابَ الموجبة"
و" الأدلّةُ الكافية" واضحة.

في شارعِ القّرنفل في بيتِ نباتات زجاجي
تنمو نبتةٌ في وعاءٍ آجريّ.
غصنٌ يمدّ بنفسهِ نحو الأزرق،
رافعا أغنية بكائيّة صارخة حمراء كالنّارِ
لايّهمّ أنّها قد كبرت في الوعاء.
جذورها تمتدُّ في آلتينداغ وفي إينجسو

لسنا وحيدين

أخيرناً بلغنا الأفقَ.
لسنا وحيدين، يا حبيبتي.
حقّا، اللّيلُ طويلٌ هكذا،
الّليل هكذا حالك السّواد،
إنّه حبٌّ العيشُ بهذا الشّكلِ،
وحيدا تماما،
بمقدار نَفَسٍ واحدٍ فقط على مبعدة من الموت،
وحيدا.
في الزنزانة أيضا
فوق ذلك ليس تماما وحيدا.

عند الشّفقِ أصطادُ
مِنَ المياهِ الجارية والسّاكنةِ.
تماما مثلما في مساء ربيعي في العالمِ،
حينَ كلّ المعامل تتوقّفَ في المساء،
لستُ مزجوجاً بين أربعة جدران:
إنّني في الرزِّ، في القطنِ وفي التبغِ
في كاراجاداغ، جوكورفا وبالقرب من جيبالي.

بأفاعي السمّ العمياء
وبالملاريا
يطاردُ النّهارالبشرَ طوال أربع وعشرين ساعةٍ.
حقولُ الرزّ في كاراجاداغ،
مثل دموع بنتٍ صغيرةٍ
- على الكاحل خَلخال دُررٍ،
على الكتفِ اليسرى حجابٌ،
عند قدمِ الجبالِ بنتٌ صغيرةٌ، مثلّجةٌ، منسيّة
بنت عشيرة رحّل صغيرة،
يصيرُ الرزّ حبّة تلو حبّة بيّناً كالكريستال.
ويُحضرُ بالشّاحنات وقوافل البغال
إلى موائدِ السّادةِ...

يا جوكوروفايَ،
يا حِفاضَنا، يا كفننا.
أيّها الدّم الأسمر، الوجه البشوش.
أسفل القيظِ تشتعلُ أحجارُ نارِ الصّبر،
وليس قلبُ العامل المتنقّل.
حين يرغبُ‘ فإنّه يجيءُ بالقطنِ
مشعّاً أكثر من الغيومِ وأرقّ من الزّبدِ.
الشبّان المتهوّرون الرّعناء يتشاجرون بسرور،
معظمهم من جوكوروفا،
هؤلاء الذين يُقعون في سجون أناضولي السيئة الصّيت.
هكذا، مثلما يري الإنسانُ صديقاً جراحهُ،
هكذا، مثلما تمتصّ صفصافةٌ حزينةٌ الماءَ،
هكذا من الباطن
هكذا عميقاً
أنْ تُردّدَ الأغاني وأن ترتفع الّلعنات
محجوزٌ مسبقا لأبطال جوكوروفا.

أتعرِفُ هذا التّبغَ؟
" شَعر الصّبايا" سمّاه المؤرّخون.
لايشربُ ماءَه من أيّ عرقٍ كان،
لايرضى بأيّ مكانٍ كان،
إنّه يتجمّد
إنّه يحتار ويتردّد،
يحنقُ،
ملفوفاً بين ورقتين
قطعة في قلبي،
رقيقاً كالنَّفَسِ، مطويّا في ورقٍ لامعٍ،
يحترقُ في وقتٍ قصيرٍ ويمنحُ نفسه كاملة
لشفاه الصّديق الظّمآنة...

من الشّوارعِ،
من الشّواطىءِ،
من أزرق السّماءِ،
من العملِ،
منِ الرّوح مبتوراً،
هكذا مضنى مِن كلّ الأشواقِ
ومصاباً بالسمّ بغير منفذ،
يصلني كمثلِ رسولِ ربيعٍ النّفسُ الأوّلُ
من سيكارتي الملفوفةُ في جيبالي...

عاملاتُ التّبغ فقيراتٌ،
عاملاتُ التّبغِ منهكاتٌ،
لكنهنّ بطلات،
عزيزاتُ النفسِ، مشّعات.
شهرتهنّ مضت إلى ماوراء الأنهارِ
الأملُ الفريدُ لوطني...

مرحباً

يستيقظ النّهار،
يقدّم بطنه للأرض المشبعة بالمطر.
مرحباً، يا نهرَ إنجِِسو!
على السّقيفةِ تزقزقُ العصافير مجنونةً
وفي الغيوم يطير النّسر
بأكثر سيادة.

ذاك الذي ينتظرُ ورقةَ فصلهِ مِن العمل
ينتزعُ زرّاً آخر مِن صدرهِ.
مرحباً، يا نهرَ إنجسو!

هذه هي الرّاياتُ الفتيّةُ،
تفكّرُ في السّلام،
في الحُفر العمّال ببذلاتهم الزرقاءِ.
أفكّرُ في الجميعِ،
أربعا وعشرين ساعة بالتمامِ.
وأفكّرُ فيك،
في الظّلامِ وحانقا...
فيك، يا ثمرةَ العالم الغالية.
إعلانُ حبّ، بيتُ شعرٍ
ينبثقُ في اضطرام لواعجي
وأتذكّرُ عينيك...

ولا يتحقّقُ مُرادي،
أنهارُ من النّورِ في الحلكة،
أعرف، حصّتي هي هذه فحسبُ...
بؤبؤ عيوني نسي الضّحك
شفاهي نسيتِ القبلاتِ.
مرحباً نهر إنجسو...

حسنا، الرّصاصة لاتقدرُ أن تثقب الّليل

الشّوناتُ الباسلةُ وأكوام القشّ،
مشيّدةً في الجبالِ المنحدرة لوطنِها.
قطّاعُ الطّرقِ أجبروا على الركوع،
وجبَ على الخونةِ أن يستسلموا،
تمّ السؤالُ بحسبِ حقّ الحكماءِ،
واجراء الحساب.
دم...

دم،
نارٌ في قاع النّهرِ،
شهرُ أيّار أراق الدّماءَ فوقَ الوديانِ...
ينسابُ، خفيفاً مثل ريشةِ طيرٍ.
مخابىءُ مثل جيفٍ معدنيّةٍ.
الموت، يا حبيبتي، الموت.
تمّ بلوغ المرادِ...

تعالَي،
إنّ الأمر أفظع، إنّه قدرنا.
لا يصيبُ الموتُ الإنسان هكذا مباشرةً كمثل ستّةِ سهامٍ،
الصّمت والانتظارُ، هذا أفظعُ.
إنّنا شبّان مثل سبطانةِ بندقيّةٍ
ولنا قلبٌ جريءٌ
متلهّف إلى السّلامِ والاحتفالاتِ.
نومُنا عميق، دون همّ وهادىء،
أسناننا الإثنين والثلاثين، إنّها للضحك هنا،
كذلك لنحبّ ونأكل...
كم من الدّروبِ، كم أصبحتُ مغتمّا وحزينا في الّليالي.
في الواقع حنينُنا المتبادل شيءٌ جميلٌ،
وفي الواقع نعرفُ القَدَرَ.

حين يكون باطني صمتاً، أليس مسكونا آنئذٍ؟
هذه السكّين المالطيّة، بغير غيظ ويقظا،
وبيتُ شعر فتيّ
أمامَ قدِّ بارودةٍ...
لماذا، لماذا هذا التقهقر فوق جبهتك،
في نظراتك هذا البُخار المميتُ؟
فوق كم من الدّروبِ سأغدو مغتمّاً في الّليالي...
وكيف سلبني عقلي،
حبّك، حيثُ بذرتُه نمتْ في داخلي وازدهرت.
الصّديق والعدوّ يعطون لبعضهم البعضِ الكلمة.
النّقدُ برأس مرفوعةٍ
ليسَ عيباً ولا ممنوعاً،
هذا هو الواقعُ، تماما ببساطة،
ربّما سببُ عدم العيش...

أجل، أصبحُ حزينا – دم.
حسناً، الرّصاصة لا تقدرُ أن تثقبَ اللّيل،
لا أستطيعُ أن أصف، هكذا وحيدا، هكذا مظلما..
ومسمومة – سيكارتي الزَقّومة.
جهنّم على وسادتي،
إذن تعالي...

المساءُ يحلّ باكراً في الحبسِ

المساءُ يأتي باكراً في الحبسِ.
حتّى وإن كنتَ ثعبانا، فلا يغيّر هذا شيئا.
ولا البأس في العراك
ولا القلبُ الأجرأ لمكافح يبدّل شيئا.
السريرةُ تمتلىءُ خلال المسامات كلّها
ويجرف بها الشّوق.

المساءُ يأتي مبكّراً في الحبسِ.
يغوص أسفلا، خلل القضبانِ الحديديّة السبعةِ،
أبواب المحبس السبع.
بغتةً الحديقةُ قريبةٌ من البكاءِ.
في المقابل، في الأسفل عند الجدارِ،
لذّة ليليّة لأجلِ غصنين،
ثلاثُ رابّاتٍ مجتثّاتٌ...

كأنّه حبّ فظيعٌ،
في السّماءِ غيمةٌ، في الغصون كمثّرى.
المحبس مغيظٌ بإفراط.
ظلامٌ، ضاغط...
أحدهم يغني في البلوك " عروس الكورديّ"
وأنا أمشي جيئة وذهابا أمام تختي،
أنُشيءُ قلاعاً من الهواءِ،
مضحكة، عمل هواة، صبيانيّة...

أفكّر، لو أنّي رُميت بالرّصاصِ،
عاريا ولو أنّي ببساطة انتهيتُ في عراك،
لكن برجولةٍ، شريفاً يجب أن يكون،
لكنّ كليهما غير ممكن.
تعبرُ سبطاناتُ البنادق بالحراب،
التجوال الليليّ للدركِ يبدأ...

مليئا بالغضبِ أشعل عودَ ثقابي
وأستنشقُ بعمق السّحبةَ الأولى من سيكارتي،
الدّخان، هكذا عميقا، بحيثُ أقدرأن أقتل نفسي.
أعرِف، ستسألين " أنتَ أيضاً؟"
لكن المساء يحلّ باكراً في السّجنِ،
وفي الخارج ربيعٌ مجنونٌ.
أحبّكِ،
حتّى الخَبَلِ...

بصمت

اصمتْ، يجبُ ألاّ يسمع أحدٌ.
ألاّ يسمع أحدٌ – إني أموتُ.
في الّليل النصف منارٍ
بعد مطرٍ أخضر
إنّها تمطرُ أخضر.

أتسمع، على هذا النّجم الأبعد، الذي بغير اسم ولاصاحب،
على هذا النّجم الممزّقِ؟
كمانٌ ستراديفاريّ يميلُ نحو الأسفلِ
بقوسٍ أخضر، بجسرٍ أخضر.
" في البداية كنتُ أنا"، يقولُ وبعدئذٍ " ما هو لي"...
أبدي، جمبل وبتحكّم.
نغمتُهُ تخترقُ العصرَ بتمامهِ،
العزلاتِ المعروفة والمجهولة.
روحي تنصاعُ.
عاشقة لكلّ أشكالهِا الذاتيّة
يخترقُ الأخضرُ كلّ شيءٍ.

كل ما صنعناهُ، هو فقط مثل حلم.
فقط هو حلم الأسى، فقط حلم الزنزانة.
وكم من السنين صار عمر
مغامرة أبياتي الشعريّة المداومة...
لاتستطيعون أنْ تتوقّعوا، كم بحثنا بشدّة عن بعضنا البعضِ،
لاتقدرون أن تقدّروا، كم أحببنا بشدّة بعضنا البعض،
قلبان مشقّقانِ في الشّوق،
روحان متشظّيتان.
نبضَ القلب على صوّان النّارِ،
مرتفعا إلى طراوة قوس المطرِ،
الماء الخرخارِ، المغرق...
إنّها تمطر أخضر.

في سبطانات البواريد تزهرُ ورودٌ خضراءُ،
صمتت كلّ السبطانات...
الجبل خرس،
البحر خرس،
العالمُ يرقدُ بنعومةٍ
في نومٍ عميقٍ.
تجلبُ الأفعى لفراخ العصافير الماءَ،
امرأةٌ عاقر أنجبتْ فتاةً بيضاء البشرةِ،
أثداؤها طافحةٌ وباردة...
الأخضر يتخلّلُ كلّ شيءٍ.

القمرُ ينيرُ الّليل،
نيرون ليس أكثر من تكشيرةٍ بشعة في كتبِ الأطفالِ
والقيصر اسم للخرابِ.
ولكنهم كانوا يتأبّطون خنجراً،
وقرطاجة الكبيرة!
انظرْ، كيف تبكي، ببطولة،
بعدَ آلافِ السنين،
إنّه يبكي، الأخضر.

من ذروةِ الجبلِ
أصابَ مقلاعي أمواجَ البحرِ.
في ظلّ الشاطىءِ
لايُصابُ الطّائرُ ولايُمسَكُ بالحجلُ.
ولكنّ أسماك القرش الجائعة، الشرسة
تمزّقُ إرباً ما تقنصهُ.
انظر، التيبر يسيلُ وقوراً وهادئاً.
انظرْ، مغطّى بستار من ورودِ البحرِ.
فلتنظرْ، قيود القوارب الطويلة المسطحة وسلاسلها،
أمل العالم الأوّل، الحبّ الأوّل،
ومكافح حرب العصابات الأوّل: سبارتاكوس.
الأخضرُ يخرس.

اصمت، لا أحد يجبُ أن يسمع.
لا أحدَ يجب أن يسمع – إنّي أموت.
في الليل النّصف مضاءٍ
التقيتك مصادفة،
التقيتك، يا قطعة الذّهب في قفص صدري
التقيتك، يا ضوع التفّاحةِ في أسناني.
أيّة أمّ ستلدنا مرّة ثانيةً؟

يا روحي
لكي تعلمي، أغنّي أبياتاً،
هذه هي الحانةُ الأصغرُ في المدينة.
شعري متشابكٌ مع وجهي بأخوّة.
تحت بشرتنا يترصّد الموتُ الدنيءُ...
بخصوص ما يتعلّق بأحمد، فالأمر ماشٍ،
لأوّل مرّة يدُ صديقٍ، دون أن يتربّص فيها خنجر،
إنّه يبكي، الأخضر.

ضوء قمر ضعيف

مغمورة في الأزرق،
في الأزرق مغمورة عيونكِ،
في أزرق اللّهب.
الرّيح متمرّدة.
لو كنتُ أعمى،
لو كنت بدونك،
لو كنتُ مهشّماً،
يا حبيبتي، يا حلمي،
أين يداكِ؟
تعالي،
القمرُ ينيرُ بلطف...

أكثر جوعا من حبل المشنقة،
أكثر عرياً من الأفعى،
عاشقاً ومكدودا،
جئتُ إلى بابك.
هل لي يوما أن أشبع منكِ؟
بالتأكيد وبالتأكيدِ
علينا أن نتحابّ!
علينا أن نتحابّ؟
مقترفو الجرم المكتبيّون جلسوا،
ليكتبوا الأوامرَ.
على أيّ حالٍ، تعالي،
القمرُ يشعّ بلطف...

حولي الكذب والتدليس،
لكن أيضا الصّداقة
والضّحكُ.
سيكارتي تشتعلُ.
الصمت، الغشّ وذوو الألفِ رجلٍ
يقبّلون جبهتي.
حواليّ الكذب والاحتيالُ،
أدورُ في حلقة بغير منفذ.
النّدى في اللّيل
فيه تتدلّى السّماء مليئة بالكمانات،
حسنا لا تكوني هكذا، تعالي إذن،
القمرُ ينيرُ بلطف.

قربان

ما وراء الجبالِ،
هكذا مهيباً
عند صخر الهاوية
دربٌ ضيّق،
يتعرّج ويتلوّى.
عندكم مريضةٌ، بغير أمل،
ربّما آيشه، ربّما أليف.
بدنُها المتناسقُ ينمو كمثل سنبلة،
متواريا في مكانٍ مهجور،
في صدرها ألمٌ باترٌ
كمثل سكّين...

إنّه الموتُ،
موتُ الفقراءِ،
الذي لم يعلن عن نفسه قبل ذلكَ.
حين تغنّي الطّيورُ الأولى، أو في ساعةِ المساءِ
في شفقِ الصّباح، أو في وقت النّومِ
فإنّه بغتةً هنا.
لديكم مريضةٌ، بغير أمل؛
شوقُها ينسابُ باضطّرادٍ في الّنومِ؛
شوقها ينسابُ باضطّرادٍ إلى الينابيع الباردة.
عيناها مثل زهرتي خوف زرقاوين،
زهرتي جزع كبيرتين، متّسعتين،
مثل آبارٍ عميقة...

ما وراء الجبال هناك الفزع،
مَن يتفكّرُ في ذلكَ؟
الحسابُ المجرى في الصبح الباكرِ
لمَن يفتحُ في المساءِ؟
مَن يبني من أكوام المطرِ الغيمةَ؟
مثلما تتحوّل آلةُ الأطفال المباركة
إلى وحشٍ.
الذّئب وخبز النّمل اليوميّ،
كيفَ تحرثُ الأرضَ.
قطّ لا ينظرونَ إلى الثيران العرجاء،
ولايضعون رقابها في نير الحراثة الأسود.

ابنُ بائع السّلالِ عاملُ مناجم،
ونازيف من أورفا لا يحمل بندقيّة ماوزر،
بل المعول في يده.
بضاعة، خِراج- ربح،
الإنسانُ أيضا مصيره إلى السّوق.
قمح أحمر، فاتح وداكن،
لين وصلب.
كلّ هذا ملكُ الذين أنجزته أياديهم.
المعدةُ الخاوية تصيح وراء الخبز اليوميّ- منهارة.
ويتجوّل المخبرون...

ما وراء الجبالِ،
كيف لي أنْ أصف...
بغير أشجار، بغير طيور، بغير ظلال.
بالزلط،
قربان...
" مَن سوف لن يضحّي بنفسه بغبطةٍ في سبيل هذا الوطن السماويّ!"
بأسُ الأبطالِ، حتّى وإن كنتَ تعيشُ في جهنّم.
أن تكون مستعدّا للتضحية،
أنتَ أيّها الشّعب البائسُ،
الدؤوب،
لكي يصنعوا لأنفسهم سماءً.
هذا هو التّاريخ،
الحبّ التراجيديّ.

أن أحبّك
إنّها فلسفة خالصة،
إنّه إيمانٌ صبور مهول.
بالرغمِ من حبل الشّنقِ والرّصاصة،
إنّه يتقدّم، بدون رحمةٍ وبسؤددٍ،
يدّمر سلاسلَ الجبال،
يبدّلُ مجرى الأنهارِ،
يعطي اليتيم حقّه،
يدعو المرءَ إلى الكتبِ...

ينبغي أن يشرق أخيراً النّهارُ، ينبغي أن يتغيّر اتّجاه العالم،
أن يغلب الأمل،
في ما وراء الجبالِ
يجب أن يكفّ الفقرُ أن يسود، أن يكفّ الحنين عن التعذيب،
أن لاتبقى سنبلةٌ واحدةٌ غاضبة،
أن لايبقى غصن شجرة زيتون وحيداً...
عليهم أن يحاولوا أن يوقفوا المطر!
عليهم أن يحاولوا منع الجبلِ أن
يستفيق من نومهِ!
لأيّ نهارٍ يضربُ هذا القلبُ...
يجري من حلكةِ الشّرايين فارّاً،
يفرّ كي لا يرجع أبداً،
يقدّم نفسهُ للعناقِ،
ومليئاً بالسّعادةِ
يأخذُ مكانَه في ضياءِ العقلِ.
كلّ موسمٍ سيصيرُ أكثرَ شباباً وأكثرَ ثمراً،
يهبُ نفسهُ أكثر نوراً
كمثلِ حصادِ الحبّ للحياةِ الأجملِ.
سطحُ الأرضِ يُصاغُ من موهبةِ أيادينا،
موائد عامرة، أمّهات مبتسمات، أطفال ضاحكون،
يحملُ المساءُ عشرات المرّات، مئات المرّات قوّة العملِ،
وهي تولدُ في الفجرِ.
لا كذب يبقى، تحفظُ الكلمة المعطاة.
هكذا هو في الكتبِ مسجّلٌ وهكذا يجب أن يكون في الواقعِ،
الحبّ يجبُ أنْ يتحقّقَ،- بالتمام.

عدم استطاعة النّسيان

فتحتُ عينيّ
في الوحدةِ.
أزرق وأخضر
دخلا إلي عينيّ،
والأحمر القاني، أحمر الحنّاء- بشفافية الكريستال،
غلبتُ الوجعَ، التخاذلَ...

أذهب
في عينيك إلى المنفى أذهب،
أستلقي،
في عينيك في الزنزانة أستلقي.
أين عيناكِ؟

ليس" to be or not to be"
وفورا ليس قَطّ " Cogito ergo sum "...
المهم في المحصّلة هو فهم الذي لا بدّ منه،
العاصفة الثلجيّة التي لايمكنُ إيقافُها،
الإعصارُ الذي لانهايةَ لهُ.

أمتصّ،
في عينيك ضوءَ القمرِ أمتصّ.
أن نلتقي،
في عينيك مع حيوان الرّوح الصّغير أن نلتقي.
أين عيناكِ؟

مخبّأة في قلبي كنتِ قلباً.
ليس الدّم بل حبّنا سال في الّليلِ،
كلّما شدّ الجلآّد
الأنشوطةَ أكثر...

أشعر،
في عينيك بالمشنقة أشعر،
صمت
في عينيك صمت،
مثل شفرة سكّين...
أين عيناكِ؟

أسود

إنّك مضروبٌ
قد مُزّقتَ،
من العصير الأسود للحبّ التراجيديّ...
وأسنانك على الصّدر الأسود منتفضة،
أسود الّليل اللانهائيّ، حيث فيه تستلقي مطروحا،
القدر يرغمك على الأنين، تتقبّله...
بين العوالم، الأطفالِ، الطّيورِ،
التّي تفرّ إلى جهةٍ ما،
بغير اسم ومهجورة
تفرّ، بحذرٍ، بانزعاج.
وبرعم ذو طعم دمٍ،
يتقطّر إلى أبياتٍ لاتُعدُّ...

عاريا أو مُعلماً برضّاتٍ،
أو ببقعة حرق حليبيّة
أو بقطعة من الليلِ في قفصكَ الصّدري؟
إلى أيّ حالٍ أودت بك خصلُ الفتياتِ،
يداك مجنونة وخرقاء،
يداك عطشى وملتهبة مثل النّار،
لكن حذارِ، أبعد يديك...

آه أنت يا أسودي القوي كالأسود،
أنت يا أسودي الجريء!
من أيّ جميلة
هذه اللطخة الزّرقاء،
عضّ أسنان الحب؟

القضبان المتشابكة
ترمي بالظلال
بالعرض فوق جبهتك، غالبة وباردة
في سجل الذنوبِ الكلّ مسجّلٌ -
كم من النّجوم طارت، كم من المرّات خيّبت، كم من الصّبايا أحببت.
ما جاء أحدٌ، لا أحد...

آه أنت يا أسودي القوي كالأسودِ،
أنت يا أسودي المقدام!
ريح ريف أيّ سمّ،
أيّ ريح هوجاء
تخرقُ خيالك؟

أكان صديقك حقّا،
أو سيّدا وهبته روحك،
أو عدوّا لدوداً لايهداُ قطّ؟
إنّك تئنُّ، أكان الأمر كذلك؟

آه أنت يا أسودي القوي كالأسودِ!
أيّ سيفٍ خبيثٍ
سيف خفيّ،
يطعنُ في جرحك؟

إنّها الزّنزانةُ، إنّها الإهانةُ، إنّه بازارُ البشر

لقد شاهدتم
سبعةَ عوالم،
أناس أم أرواح، قاطنو الجبالِ عند نهايةِ العالم.
ولو أنّ الفاقة تسود والأوبئة تطغى،
هل رأيتم ما أنجبته الأمّهاتُ هناك،
أمان، أمان، آخ...

هناك العديدُ من العوالم
في قطرةِ ماء، في شعيرةٍ،
هناك فاكهة، فاكهة رائعة،
بغير شجرة، بغير جَدعة،
متولّهة بك، لك صديقة.
مبعوثة قابيل، البلطة القاتلة،
وطواحين الدّم،
ضربات القدرِ.
المبعوث، أبواقُ الموتِ الخبيث،
معدّا، كريما في حال غبطةٍ،
مستعدا أن يترك شرفَهُ،
حين يُهلك الشّجعان.
تمساح، يفترسُ صغاره
ويوقفُ الماء الجاري.
شبح يحوكُ خيط العجين المحلول الدقيق
من الكذب من جبلٍ إلى جبلٍ،
أمان، أمان، آخ...

هذه هي الزنزانةُ، هذه هي الإهانةُ، هذا هو بازارُ البشر،
ليس مغامرة.
العيشُ، فقك ببساطة" عيش"،
الطّحلب متاح للديدان،
هكذا يتحقّقُ الهدفُ،
حتّى بدون ماءٍ، بدون شمس، حتّى مكسّرا،
النّورُ من ورودِ الغيمةِ حتّى الماءِ،
عطرٌ آخرُ، عطرٌ.

إنّها الزّنزانةُ، إنّها المهانة، إنّه بازارُ البشر،
ليس مغامرة.
طمرتُ صبري مغطّى في الأرضِ،
الحزن الرجولي القاسي للحظة،
لستُ أملكُ سيكارةً.
وحبيبتي تصيح في النّوم
أمان، أمان، آخ...

طعمُ الرّيح، حدّ سكّين الحلاقة،
ثديُ فتاة، حيوان الرّوح الصّغير،
من المطرِ منسربة قطرةُ كفرٍ
قطرة عشقٍ.
نومك خائنٌ،
حلمك أخ.
أتسمعُ، أتفهم وتنوح آنذاك؟
في اللّيل، حين تصفّرُ الرّيح فوق دربِ التبّانة
وأبياتي تنادي بأخوّة
أمان، أمان، آخ...

للسرابِ نهايةٌ،
عند الأفق، نهايةٌ اعتياديّةٌ،
يطيرُ بعيدا، يفرُّ وينتهي ببساطةٍ.
فقط أنت غير نهائيّة،
هناك بازارٌ للزّيتون وبازارٌ للتين،
أنت فقط ، لايمكن للإنسان أنْ يشتريك في البازارِ.
بدونك لاتتفتّحُ أيّةُ رمّانةٍ،
بدون لايطلق الطفلُ الرضيعُ أيّة نأمة.
بدون لايصيرُ شاعرٌ مثلي هكذا مجنوناً.
فتاة بثدي شَموس،
دموعك تطالب بالتبجيل،
تسيل في القمحِ، في أشجارِ الجوزِ،
وكحليبٍ أبيض في الأرضِ الحالكة...

لو علمت، لمن أنت كلُّ الهمّ والألم،
لو أنّك فهمت هذا، هل ستبكينه بأعجوبةٍ؟
لو علمت، كم أخوتي أناسٌ ذوو قلبٍ خيّر.
ولو علمتِ، كيف يضربني هذا الجدارُ،
كلّ مساءٍ، حين يوجعني حبّي الحزين
أمان، أمان، أمان...

هاوار

في وسط النّارِ،
في الأحبولةِ الخؤونة،
في صرخة الفزع،
في ينابيع القيح وبين الوحوش الضواري،
في المياه الزقّومةِ ومحاصرا بالسكاكين.
هكذا تقفُ هنا، وحيداً تماما، يا لألمك!
أعزل، بغير حماية، مزلطا وعاريا،
فقط برفقةِ روحك ورأسك،
مرصودا من الجلاّدِ.
آه، كم أحببتك...

وطنُ مَن هذا إذن، من أوسكودار إلى هنا؟
آه حبيبتي،
جبالٌ من ورود، من الفاقة والأوبئة.
الوردةُ لاتزهرُ، لايسقطُ الثّمرُ ناضجاً من الفرعِ.
ضربةٌ تنهالُ على جبهتي
كمثل حجر صوّان يضربُ صخراً،
إذلال ولا من معين.
نهرُ مونزور ونهرُ شاه مورات أحمران من الدّم.
وأنا شاعر.

هكذا لأجل شرفِ حياةِ عمّال
القلبِ المبدعين.
بدون خوف، نزهاء، غير متحوّلين إلى غبار،
لا ألتقطُ صوراً
بنظراتٍ حزنانةٍ،
ولا أنظم أبياتاً
من الرّيح الطّليقةِ.
آه، كم أحببتك...

وأنت، تماما الآن،
حتّى وإن مضت السنواتُ، رغما عن ذلك فقط الآن تماما،
كما بسكين قُطعتُ، كما غصن فُصلت عنك، سقطت،
يا سببَ حياتي، يا سيّدتي، حبيبتي،
غار جرحك عميقاً،
الفتيل لايشتعلُ، أعرف.
لكنّ الحساب سيتمّ في الجبالِ،
الأملُ في الجبالِ.

تفكّر، بقدمٍ نقفُ في عصرِ الفضاءِ،
حتّى وإن ظلّت القدم الأخرى في حذاء الفلاّحين
والجواربِ المنخورة.
تفكّر، النسبيّة، الفيزياء النوويّة.
وعندنا هذا الحبّ المعاندُ الذي هو ماهيّتنا،
مرمييّن إلى الهامش، في زمن المتناقضاتِ.
لأجلِ أطفالِ المستقبلِ، لأجلِ الورودِ.
كلّ طفلٍ بزغب ناعم، بلطخِ الصّيفِ،
مجازفا بالعمركلّه للهو،
مسلما كلّ شيءٍ للعبِ.
أيا حبيبتي
اعطي أنت البقيّة.

هاوار
بحبّ محمّدٍ، بحبّ عيسى،
بحبِّ التختِ الفظّ الذي تنامُ عليه.
آخ، تُضرب الجبال متحوّلة غبارا بفأس فرهاد!
وحدُّ السّيف ظالما يستحمُّ في الدّم والعرقِ من جنبي الأعزل،
لكن المنتفض.
إن قلتُ – هوو، ستتمزّقُ الألجِمةُ.
الوردةُ الوحشيّة أختُ الوردة الأنيسة، شوق.
أوي، كم أحببتك...

أناضول

وهبتُ نوح مهودا،
أراجيح وأسرّة معلّقة.
إنّّني كطفل من البارحة، طفل الأمّ حوّاء،
من الأناضولِ أنا،
أتعرف هذا؟

إنّي خجلٌ،
خجل بسبب الفقرِ،
بأيدٍ خالية، عاريا في وجه النّهارِ...
تتجمّدُ نباتاتي المسكينة الصّغيرة،
موسمي بائسُ الغلّة.
إخوّتي، عملي،
مشاطرتي
كلّها اخترقها الفطرُ النّووي.
إنّني وحيدٌ
في عالم الشعراء والمفكّرين،
وحيد وجداً بعيد.
أتعرف ذلك؟

منذ آلافِ السنين سُحنتُ.
بجيوشٍ مهولة من الخيّالة مزّقوا
نومي الصّباحي اللذيذ-
طغاة، ظالمون، مجرمون،
أرغموني على دفع الضّريبة.
لم أصبح تابعا للإسكندرِ الكبير،
ولا للسلطانِ مُراد.
أتوا ومضوا بغير أن يبقوا أثراً وراءهم!
حيّيتُ صديقي،
وتمّردتُ..
أترى؟

وكم أحبّهم، لو دريتَ!
كوروغلو،
كاراييلان،
الجنديّ المجهول...
والبير سلطان وبدرالدّين.
وأحبّاء لايحصون،
لايقدرُ الإنسان أن يكتب أسماءهم كلّها...
لو علمتَ،
كم أحبّوني هم!
لو علمتَ،
كيف ضحك أولئك الذين أطلقوا الرّصاص في أورفا
وجها لوجه مع الموتِ
من المنارةِ، من وراءِ المتاريسِ،
من وراء السّروِة،
عليك أن تعلم ذلك يقيناً،
أتسمعُ؟

لاتترك أن تُعدم هكذا،
لاتكن مغتمّا هكذا، ليس هكذا مبتئسا...
لايهمّ أينما كنتَ،
إنْ في الحريّة، في السّجن، على طاولة الدّراسةِ
أو إن كنتَ إنساناً عاديّاً.
سر إلى الأمامِ برأسٍ مرفوعةٍ.
اتفل في وجه الجلاّدِ
والمستغلّ، العميل والخائن..
تجلّدْ-
بالكتابِ، بالعملِ،
بالأسنانِ والأظافرِ،
بالأملِ، بالحبّ، بالأحلامِ.
تجلّد، لاتتركني أعدم.

انظر، كيف أستيقظُ في حياةٍ جديدةٍ،
في يديك الصادقتين، اليدين الفتيّتين.
سأملكُ صبايا وشبّاناً في المستقبلِ.
كلّ واحدة وكلّ واحٍد يكون عضوا لايمكن التخلّي عنه
في العالم.
وبرعمة اشتياقي الطويل لآلافِ السّنينِ.
أقبّل عينيك،
عينيك،
أنت أملي الأوحد،
أتفهمُ؟

ياليلي- يا ليلي

يا ليلي- ياليلي نصفُ عالمنا
أحمر- الرّبيع الأخضر،
ولو أنّ النّصف مغطى بالثّلج.
وعندئذٍ يا شعبي- بأخوّة، لكن الإنسانُ للإنسانِ عدوٌّ أيضا،
وعندئذ العقربُ بحلقاتِهِ السّبعِ،
الأفعوان الأصفر،
فظاعةٌُ الخبيثُ تجلسُ في قفانا.
وروحي في أعمقِ ليلٍ
عند المشنقةِ التي يراها الإنسانُ خلف درفاتِ البابِ،
في بئر حوشِ السّجنِ،
الذي منه ينساب الماءُ جانبيّا.
لقد أتوا، ليفحصوا، إن كنتُ ميّتاً،
يتلمّسون بين أضلاعي.
فليفعلوا...

يا لهذا العصرِ- لايتحمّلُ القلبُ هذا!
عصرٌ، هكذا مضطربٌ، متمرّد كما لم يكن قبل،
جهنّم براعم الأثداءِ.
إنّه عصرٌ، لمدّة أربعين يوم، أربعين ليلة،
ذراعيّ، عنقي في الأحبولةِ مشدودٌ.
أيا روحي، عاندي السيءَ...!
آخ، ما الذي عليّ أنْ أقولَ،
الطّلقاتُ تئزُّ من سبطاناتِ البنادقِ،
مبادئها دمويّة،
الهجمةُ يمزّقونَ نومنا،
يأخذون قلبي أسيراً.

ممنوعٌ على المرايا أن تعكسَ.
لا أستطيعُ أن أنزل إلى حديقتك، لأنّهم
بالكاملِ دمّروها.
ليس سوى خواء، شنيع بإفراط،
للتوّ حيثُ بدتْ لي السكّين كجهنّم،
أتذكّركُ ثانيةً.
يداي هزيلتان...

إنّهم يتقنون كلّ صنوف الوحشيّة والقمعِ
لهم دراية – بالسيف المعقوفِ، بالماوزر الأسودِ، الكمين الدمويّ
وأفكار الإنسان – الأخبثِ
الأشنع، الأقبحِ،
مثل اليورانيوم المجنون.
لهم دراية بهاٌ،
وبالطبع فليعرفوا!
كيف آكلُني حنينا إليك،
أوووي، حبيبتي...

هكذا صار القراصنةُ فاقدي الوعي عند رؤيةِ الدّم،
فاقدي الوعي وجها لوجه مع الذي لاشبعَ له، المغذّى بالمحظورات،
مع الأنبياءِ الكذبةِ،
مع الأقزامِ
والعبيدِ الأغبياءِ المخصيّين.
تماماً مرّة ثانيةً،
حين كانت هذه الرّوح عندي،
كنتُ مجنونا بالكاملِ،
أوووي، حبيبتي...

هذه الممنوعات
بقايا الفراعنة.
التجبّر،
من النّورِ إلى الظّلام.
فخاخ سريّة للرّوحِ.
يصيرُ الصّباحُ رماديّا ويبترُ الأمل بيدٍ وحشيّة.
عاطفة عمياء، مقصوصا من العالم.
يحلّ النّهارُ. ينتظرون أن تسقطَ.
لاتسقطْ!
إنّي أموتُ...
أضيّع عينيك.

ياليلي- ياليلي
مع السفرجلِ والرمّان
أنتِ صاحبتي.
في البؤسِ،
حيثُ العالم يضيق.

شوقا إليك أبليتُ الأغلال

أن أشرحك، أشرحكِ.
للأرواحِ الطيّبةِ، لذوي الهمم.
أن أشرحكِ، أنت.
للكذب الذي لايعلم، كيف أنت،
للزورِ الخبيثِ.

شتاءٌ قاسٍ تلو الآخر،
ينامُ الذّئبُ، ينام الطّيرُ، تنام الزّنزانةُ.
وفي الخارج عالم ضاجٌّ وصاخبٌ يجري...
فقط أنا لوحدي ما استطعتُ أنْ أجد نوماً
ليالي ربيع أرِقَة لاتُعدّ.
شوقا إليكِ الأغلال أبليتُها.
ضعي وروداً في شعرك- وروداً دمويّة،
واحدة يميناً
وواحدة يساراً...

لو استطعتُ أنْ أدخلَ فيك،
إلى البئر التي لاقاعَ لها،
إلى النجمِ المنهارِـ
الذي يتحوّل عودَ ثقابٍ،
عود ثقاب متفحّم،
تحت أعتم موجة في المحيط.

ممزّقة الوداداتُ الأولى لحيوان الرّوح الصّغير،
ممزّقةٌ القبلاتُ،
لاحصّة لي، بغتةً يهاجمُ الّليلُ،
رشفة، سيكارة، ومطاردة الأفكار،
لو أنّي استطعتُ أن أشرحك...
غيابك اسم آخر لجهنّم.
أرتجفُ صقيعا، لاتغمضي عينيكِ...

ملاحظات من قلعة دياربكر
و
أغنية مهد للصغير عادلوش

1.

بالكادِ أجرؤ على لمسه،
بزغبه السفرجلي النّاعمِ، بروحه، روح الرمّانِ الهشّة.
أركضُ بعمودي الفقريّ المكسّرِ.
ليس مخلوقاً كطائرٍ،
آه، لاتسأل،
لاااااااااااااااال...
أرسلَ الأمرُ الفظيعُ في طريقهِ؛
حديقةُ الصّديقةِ معاثٌ فيها ومنهوبة،
خصلتي تقطرُ دماً.

منحتُ نفسي لروحٍ متشبّثةٍ
للخصب والخرابِ بالكليّة،
هكذا كنتُ إذن، لوووي...
بأيدٍ خاوية،
بقدمي مقتنَصةً في الفخِّ.
لو كان الحالُ هذا حالي فقط،
أيّ مصيبة أن أحبّها،
لها فمٌ، لكن بدون لسان،
قلعةُ ديار بكر...

2.

إنّها تزدهرُ،
الزّهورُ في أحمر الدّم
وفي الطّرف الآخرلايزالُ يهطلُ الثّلج.
جبلُ كاراجا يغيب بالثّلج،
السّهلُ الصيقيّ مغطّى بالثّلجِ...
انظر، شعثُ الجليد فوق شاربي
وأنا أهتزّ بردا.
لانهايةٌ الشتاءاتُ القاسية.
أتخيّلك مثل دياربكر،
لكن ما الذي لايصيبه الانتهاك.
حلوٌ أن أفكّر فيك...

3.

نهرُ همراوات متصقّعٌ
فوق دجلة جليدٌ بغلظ أربعة أصابع.
وعلينا أن نجلب ماءنا من البئرِ.
والشاي نخمّرهُ بماءِ الثّلجِ المذابِ.
أمّي تصونُ روماتيزمها كسرٍّّ.
" ريحٌ" تقولُ، " إنّها تمضي في الرّبيع".
أختي حاملة، حملها ثقيل.
إنّها فتاةٌ جميلةٌ، أتعلمُ،
إنّها خجولة، من جانب هي خجولة
من آخر فإنّها تخاف،
أنّها يمكن أنْ تموت.
ستزدادُ أرواحنا روحا أكثر في هذا الشّتاءِ،
يا صغيري، أين عليّ أن أخبّئك؟
أهلاً وسهلاً،
ألفَ مرّة أهلا وسهلاً
يا ابنَ أخت أحمد عارف...

4.

لقد ولدتَ،
جوّعناك ثلاثةَ أيّامٍ،
ثلاثةَ أيّامٍ منعنا عنك الثّدي،
أيّها الصّغير عادلوش،
كي لاتمرضَ.
هذه عادةٌ عندنا.
الآن ارضع الذي تستطيعهُ،
ارضع الثديَ واكبر...

هذه هي
الثّعابينُ وذو الألفِ رجلٍ بسمّهِ،
يكمنون لحبّنا ولخبزنا.
عليكَ أن تعرفهم،
أن تعرفهم، لكي تصير كبيراً.

هذا هو الشّرف،
محفورا في سجلّ ذنوبنا،
وهذا هو الصّبرُ،
متخللاّ بالسمّ.
احتضنها،
احتضنها واكبر...

 

ثلاثٌ وثلاثون رصاصة

1

هذا هو جبلُ مَنغَنَه،
هناك، حيثُ يشرقُ الصّباحُ في وان.
إنّهُ طفلُ نمرود هذا الجبل،
هناك في قبالةِ نمرود، حيثُ تطلعُ الشّمسُ صباحاً.
إنهيارات وأعاصيرُ ثلجيّة على أحدِ الجوانبِ، عند الأفقِ القفقاسُ،
سجّادةُ فارسيّة على الجانبِ الآخر.
أنهرٌ متجلّدة فوق القمم،
حمام فارٌّ لدى ينابيعهِ،
سربُ حجلٍ...

لايستطيعُ أحدٌ أن ينكر شجاعتهم،
لم يُغلبوا في القتال رجلاً مقابلَ رجل،
هؤلاءِ الفتية- منذ آلافِ السّنين!
كيف يمكنُ للمرءِ أن يقصّ حكايتَهم...
إنّها ليست قصّة سرب كراكٍ،
أو كوكباتِ النّجوم في السّماء-
ثلاثة وثلاثون قلباً، ممزّقاً بالرّصاصِ،
ثلاثة وثلاثون نهراً من الدّم الجاري
لاتسيلُ إلى الأسفل،
بل تتجمّع متحوّلة بحراً فوقَ الجبلِ...

2

على قدمِ الطّريق أرنبة مذعورة،
ظهرها أبلق،
بطنُهاُ في أبيض الحليبِ،
أرنبة جبليّةٌ مسكينة، حبلى.
حتّى الحلقِ يضربُ قلبُ الحيوان المرتجفِ.
يحسُّ الإنسانُ بالشّفقةِ.
وحدة- ساعات وحيدة
في فجر خالصٍ، معرّى.

واحدٌ من الثلاثة والثّلاثين ينظرُ إليها،
في البطن خواءٌ جائعٌ معذّبٌ،
الشعرُ متلبّدٌ واللحية،
قملٌ في القبّة،
الأيدي مكبّلة
بجهنّم في القلب يرى الشّجاعُ
أرنبةً مسكينةً
خلفَهُ.

يتذكّر البندقيّة الحبيبة،
مكسورة الخاطرِ متروكة تحت الوسادة.
يفكّر في فرسه الفتيّة، من سهلِ حرّان،
بخرزة زرقاء في العُرْفِ،
بناصيةٍ بيضاء
وعُصُبٍ بيضٍ.
متعةٌ الامتطاءُ الخفيفُ،
الفرسُ السَّغلافيّة الكُميت.
كيف ارتفعوا فوقَ جبلِ هوزات!

أعزل ومكبّل الآن،
في الظَّهْر سبطانةُ بندقيّة باردة
- كان ينبغي لهذا ألاّ يحدث!
كان بإمكانِهِ أن يجد مهرباً على القممِ...
هذه الجبالُ إخوتُهُ، إنّها تعرفُ قدَرَهُ.
واللهِ! هذه الأيدي لاتجلبُ على صاحبها أيّ شائنة!
رمادُ السيكارة المحترقة،
في ضياءِ الشّمسِ شوكةُ لسان الأفعوانِ المشعّة.
بالرميةِ الأولى فقط تذرّي
الأيدي الماهرة...

لم تقعْ هذه العيون أبداً في مصيدةٍ.
الإنهيارُ الثلجيّ المهدّد، لعنةُ الأخاديدِ،
مكرُ المهاوي الدّقيقُ المغطّى بالثّلجِ-
مُسبقا كانت تتعرّفها عيونُهُ...
أجرد
مرميّا بالرّصاص،
الأمرُ كان قد أعطيَ.
عيناه ستصيران فريسة الكائناتِ العمياءِ،
قلبه جيفةً للعقبان...

3

اُصبتُ بالرّصاصِ.
في ساعةِ صلاةِ الفجرِ
في وهدِ جبالٍ قصيّ،
مرتميا هنا.
نازفا، ممدّدا...

أُصبتُ.
حلمي أحلكُ من اللّيالي،
لاإشارةَ خير تبدو لي،
بغير تأجيلٍ يسلبون منّي الحياةَ.
لايوجدُ هذا في كتبِ التّاريخ.
أحد الباشوات أعطى الأمرَ المشفّر.
بدون إفادةٍ، بدون حكم يتمّ رميي بالرّصاصِ.

أيّها المؤرّخ، سجّل كلّ شيءِ عن مصيري!
فلربّما ظنّ المرءُ أنّها فقط خَرافة؟
إنّها ليست وروداً هذه التي على صدري،
بل طلقات دومدوم!
الفمُ ممزّقٌ...

4

لقد نفذّوا أمر الموتِ،
غمّسوا ضباب الجبل الأزرقَ في الدّم.
وريح الشّفقِ المستيقظة للتوّ
لطّخوها بتيّاراتٍ من الدّمِ،
جمّعوا بعد ذاك البنادقَ إلى بعضها،
تفحّصوا الصّدرَ،
اختبروا
كلّ شيءٍ بدقّة الشَّعرِ.
لفاحي الأحمر،
أخذوا معهم مِسبَحةَ الصّلاةِ وعلبة التبغِ
- هدايا الفرسِ.

إنّنا إخوةٌ، مرتبطون بالدّمِ
مع تلك القُرى في الطّرفِ الآخرِ، مع الرحّلِ
أصهار منذ مئاتِ السّنين.
إنّنا جيران، جنبا إلى جنب.
تخالطتْ دجاجاتنا،
بسببِ الفقرِ
لم نستطع أن نتّخذ جواز السّفر لنا صديقاً.
بسبب من هذا السّلوكِ
يتمّ ذبحنُا
ونُدمغُ كقطّاع طرق،
مهرّبين،
لصوص،
وخونة...

أيّها المؤرّخ، سجّل كلّ شيءِ عن مصيري!
فلربّما ظنّ المرءُ أنّها فقط خَرافة؟
إنّها ليست وروداً هذه التي على صدري،
بل طلقات دومدوم!
الفمُ ممزّقٌ...

5

ارمِني بالرّصاصِ، أنت!
ارمِ!
لاأموتُ هكذا بسهولةٍ.
أنا الجمرةُ في رمادِ الموقدِ.
في بطني كلمةٌ
للذي يفهم.
أمام أورفا أعطى أبي عينيه،
أيضا ثلاثة أخوة،
ثلاث أشجارٍ طيّبة،
غير شبعين بعد من الحياةِ، ثلاث صخورٍ.
من أعاصيرِ القلاعِ، التّلالِ، المناراتِ
المؤرّخُ، القريبُ، أطفال الجبالِ
في التمرّدِ ضدّ الحصارِ الفرنسيّ.

كان شاربهُ للتوّ قد بدأ في النموّ.
عمّي الفتيُّ نازيف،
كان وسيما،
بقلبٍ خفيفٍ،
فارسٌ متمرّسٌ.
قالَ" أطلق النّار، يا أخ،
إنّه يوم شَرفٍ"
- وعَدا بفرسهِ.

أيّها المؤرّخ، سجّل كلّ شيءِ عن مصيري!
فلربّما ظنّ المرءُ أنّها فقط خَرافة؟
إنّها ليست وروداً هذه التي على صدري،
بل طلقات دومدوم!
الفمُ ممزّقٌ...

قصيدةٌ مكتوبةٌ في الثّانويّة في آفيون

مخدّتي بستانُ ورد أزرق،
نومي غناءُ شَعري المبهم.
الظلّ الأوّل على مخدّتي هو قلّة الخبرة،
والرقص هو الحريّة الأولى المنسيّة.

لطافةُ قبلاتك الزبديّة
هي المكان السماويّ للذّنوبِ المقدّسة،
زغبُ بشرتك الخالصة البيضاء،
حينَ تعبرُ غيمةٌ القمرَ.

الموسيقى في عيونك التي يسيلُ فيها نبيذٌ أزرق،
واهنةً في ظلّها.
أنتِ دائما كذا جميلةٌ، يا حبيبتي.
أحبّك بشكلٍ إلحاديّ مطلق.

قصيدةُ شبابٍ من عام 1947

في ساعةِ المساءِ، الخمرةُ
تسودُ فوق كلّ الحدائقِ والمنحدراتِ الجبليّةِ.
إنّه الوقتُ الملائمُ للتجوّلِ في العالمِ،
حينَ يشربُ ضياءُ القمرِ قليلاً الماءَ.

إتخذَ خصرك شكلا،
تصفّرُ العصافيرُ من السقوفِ.
العناوينُ الرئيسيّة للصحفِ تبصقُ لأميالٍ الأكاذيبَ،
لكنّها تقفُ على أرجلٍ آجريّة.

أنت يا طفلي
اسودادُ المطبعةِ و
عمل يديك تمّ خيانتُها.
أخذو صديقك بعيدا
إلى عين الإعصار.

الحب
يشبهُ الأمل.
سبطانةُ بندقيّة باردة
رصاصةٌ عمياء، فخٌ ماكر،
القمعُ الوحشيّ في القفا،
وروحي المزهرة مهيّأة على السفرةِ،
فوق طرفِ الأنفِ
الحريّةُ.

أنّك تحبُّ – إنّه ممكن.
بينكم الرّصاصة
والمنطقة المحرّمة.
إنّك فتيٌّ
وحبّك كذا جميلٌ، يحقّ الموتُ في سبيلهِ.
إنّهم الرّجال الكهولُ
هؤلاءِ الذين يسنّون هذه القوانين.

" توغْلياتي"

باليرمو، باليرمو، أيّها الكادحُ العظيمُ
رائحةُ البارودِ من جراحك التي لازالتْ حارّة
تجعلُ حليبَ الأمّ يجفُّ
وتنهبُ من الطفل الرضيع نومه.
أنت ذعرُ الكاتدرائيّات في شبهِ الجزيرةِ.
ساحاتُ روما
تعودُ إلينا الآن، في النّهارِ أيضاً.
ريحُ البحرِ زرقاء معدنيّة،
امتداداتُ صقلية،
الأمواجُ فوق الكروتِ التذكاريّة وحدائق نابولي،
أيضا الهواء، كلّها تقفُ إلى جانبنا،
أيضا الماءُ، كلّها تقفُ إلى جانبنا.
على العكسِ من السنيور غاسبيري
والسّادة الآخرين
الذين يرهبوننا تماما
كما ترهبنا فئران الكنائسِ.

معتقل

فجأةً
صمت، كأنّما مصاباً بطلقةٍ؛
أيضا بؤبؤاتُ عيوني
تصمتُ.
المدينةُ تفتحُ نفسّها، تعطي الطّريقَ فارغا؛
في الرّاديو أغنيةٌ حزينةٌ
من مدينةالأزيز-- Elaziz.

لاأفكّر في مجالاتِ الفرارِ
لستُ عديمَ شرفٍ،
لستُ نادماً.
أريدُ أن أجعل الأمرَ لي مريحا
بسيكارةٍ.
دخانُها غالٍ لديّ كمثل الأحجار الكريمة.

أأنا مكسورٌ، أأنا خجل من نفسي؟
في الحقيقة – لا.
إنّني رجلٌ فقيرٌ، إنّك جميلةٌ
والعالمُ مليءٌ بالأملِ.
إحساسي هكذا غريبٌ هذا المساء
يا حبيبتي.
كأنّما الوحشُ سيجرجرني
كأنّما يضيق عليّ يساراً ويمينا
بالحرابِ
.............

وهناك جدران
محرّم على الشّمس منظرها.
وفظيعةٌ عزلةُ تختِ السّجنِ المنفردِ.
تتمدّدُ على ظهرك في السّريرِ
مع صديقتك السيكارةِ على شفتيك.
ربّما تبدأ أشجارُ المشمش للتوّ هذه اللّيلة بالازدهارِ.
في الثكناتِ ترنّ إشارةُ حظر التجوالِ
ومحظورةٌ عليك العراكاتُ الجميلةُ.
قلبٌ محشورٌ في منجم فحمٍ في زونغولداك
رأسكَ في عراك شارعٍ في الصّين

كتبتْ سنة 1951 في السّجن في أنقرة

الوطنُ شرياني الأبهر

عذّبتني أنيابُ الأفعوانِ
أنيابه السامّة
غرزها في لحمي...
رغمَها لازلتُ عاشقاً.
عيناهُ تثقبانني كمثلِ جهنّمين اثنتين،
لقد تشمّم الدّم...
أتشبّثُ بقوّةٍ بلحية الفهدِ،
لدى قلب الجبل الصّمودِ،
لدى أزرق البرقِ المتأجّجِ.
الحبّ صبورٌ،
الحبّ مثل أغنية
لووو... لقد هويتُك في السّجنِ،
وفي المنفى.
وطني،
أنتَ شرياني الأبهر...

قممُكَ جليديّة
ومليئةٌ بالثّلجِ،
أرانبي الجبليّة الحبيبة
تنشطُ مع الضوءِ الأوّل للنّهارِ.
إنّها لنا الشتاءاتُ القاسية والأفاعي
كذلك النسور العاشقةُ للأبديّة.
............
..........

أنت كلّ شيءٍ لي
في صرختي المكتومةِ...
لاسلاح عدا اسمك،
لاذَنب سوى مصيرك
في الملفّات السريّة
وفي الكُتبِ.

جشعون تربّصوا بك:
بالنّقودِ الملوّثةِ،
زنمةُ الدولارِ،
ضباع الذّهب وذئابُ الفضّة
طغاةُ النّفطِ،
دكتاتوريّو الرّصاصِ...

...............
................

كم من القرى فارّة
من قنّاصي البشر...
وجثثُ الأطفال
مقطّعة،
لم تبلغ الفطام بعد.
وجثث نساءٍ،
كليلات، فتيّة الدّم،
كلّها بأعين مفتوحةٍ.
شعبي،
صراخُهُ على مقعد التّعذيبِ...

الكرامةُ أيضا تبكي

من عينيك ينبعُ نهرٌ
غيمةٌ مثقلة،
تنهمرُ.
ما الذي يضير.
الذي يجولُ في رأسك
يحضك على البكاءِ.
العالمُ كلّه رأى،
كيف يخنقوننا...
لاتحبسي دموعك،
الكرامةُ أيضاً تبكي...
اتركي الدّموع تسيلُ- عليها أن تغسلَ الأفق!
الأزرق العميق، الأخضر، الضّوء
الذهبيّ عند مغيبِ الشّمسِ.

لأنّنا نصلُ إلى شفقٍ جديدٍ،
عارٍ
وأزرق.
تماماً مثل ريح جبليّة
وريح منعشةٍ بحريّة...
ولا أحد يضايقنا قطّ
ليس حتّى بمقدارِ الاسوداد تحت الأظافرِ.
أنتُ الصبيّة الأجمل
في كلّ المجرّاتِ.
وأنا فقط عنصرٌ،
رمادٌ منطفيءٌ،
محترق مثل بروميثيوس
من حبّي البائس إليكِ...

ليس لنا وصمة عار على الجبين
ولا صليب مخبأ تحت الكرسيّ.
فقط أحببنا الشّعب
وهذه البلاد.
تماما هذا هو ذنبنا
الذي لايكفّرُ عنهُ...

جزءٌ من

قلبي برميل ديناميت

... تأخذني عيناكِ بعيداً.
عيناكِ-
بالحبّ، بالوجعِ...
لقد حاصرتني،
صوتي، نَفَسي
مقطّعان.
أنتِ خبزي، أنتِ ملحي.
إنّني عاشقٌ بكليّتي
ومحشورٌ في الزّنقةِ،
أسيرٌ.
كلّ فَرعٍ يحترقُ رماداً،
حين يدنو منّي.
كلّ طائرٍ يهوي من السّماءِ،
حينَ يرفرفُ فوقي.
أجل، كذا هو حالي.
بغيرِ توقّفِ
يمضي في الغيابِ طريقي.
كلّ مرّة، حين تأتين،
يذهب أبعد
وأبعد.
مع كلّ نَفَسٍ
تصيرين أكثر لي،
في عناق بغير رحمة.
ذراعايَ،
كأنّها ثملةٌ
تنادي،
تذيبُ بدَنكِ كالثّلجِ...
كم مغرٍ فمُكِ،
أيّ إدمانٍ
سجّلُ خطايانا حادّاً كالزلزال.
آخ...
كم العالمُ زنزانة لرأسنا.

لنا، نحن الذين
نعكسُ مستقبل الشّعبِ،
أمله، وصفه،
غضبه، كرامته...
شفق صباحه.
آخ يا حبيبتي،
قلبي
برميلُ ديناميت.

 

****