ماهر شرف الدين
(لبنان)

إلى زينب

مَدَد

كانت سرّتها أثر إصبع في عجينة، وفماً مختوماً، وعيناً مغمضة. وكانت سرّتها تقول: المسني، وتقول: احترس، وتقول: آه. وكنت إذا رأيتها أهرب، وأقول لأمّي: رأيت هرّاً كبيراً. وكانت سرّتها زكيّة كحفرة جديدة، وطافية كندب أو عضّة. وكنت أقول للناس إنها كمين، وإنها حفرة مموّهة، وأوزّع المناشير ضدّها. وكانت سرّتها تأتيني في المنامات بقناع، فأضرب بقدمي على الأرض لتهرب، وأنقر بإصبعي على الزجاج لتعود. وكنت إذا لحستُها تموء، وإذا عضعضتُها تزأر. السرّة حلمة واطئة، وحبّة بظر مرتفعة. السرّة هدف خاطئ، ونقطة رمي مغشوشة. وكانت سرّتها حبّة فاصولياء بيضاء، ونقرة خطأ على أصابع البيانو. وكنت أحسب الزغب الذي يحوطها أهداباً، ودبابيس أقول للناس. لا تتثاءب سرّتها كي لا تصبح فماً (المصوّرون يلتقطون صوراً فوريّة لسرّة وقورة). وكانت سرّتها خابية للحَمَام فيشرب، وجرناً للبطّ فينام. وكنت إذا الشفاه استحلتْ أملأها حليباً. وفي الشتاء، زبدةً ومربّىً. السرّة بصمة الله على البطن، نسيها لتكون دليلنا عليه. وكانت سرّتها تغمزني كعين فأفرح، وتعضّني كفم فأصيح. ولو كان لها لسان لتدلّى، ولو كان لها لعاب لشربتُ. وكانت سرّتها تقف عند كشك الجرائد ولا تشتري. وتقرأ واقفة كما لو أنها تقيس فستاناً. وعندما يطردونها تقول: الجرائد كالفساتين. وتطقطق بكعبها العالي. وكانت سرّتها حلقة ذِكْر، فندوخ. وكان المتصوّفة يدورون فيدوخون. وكنتُ أدور فأدوخ. وكان الأنبياء وكان الصالحون. ودارت سرّتها. مَدَد. مَدَد. مَدَد. سرّتها التي لا تنتصب. مَدَد. مَدَد. مدَدَ. سرّتها القادمة كوعد. مَدَد. مَدَد. مَدَد. وكانت سرّتها ملوّنة كورق الرسائل، ومعطّرة كمناديل المطاعم. وكانت إذا غمزتُها تضحك، وإذا نهرتُها تتطاول كجرح عنيد. السرّة فأرة الجسد، وعدوّة علماء الفلك. وكانت سرّتها سكّيرة تقول للناس: سأتوب. وحشّاشة تقول للأهل: قريباً. وحين يلحس الليل أسفل ذقنها تذهب إلى النايتات لتشرب، وترقص مع الغرباء إلى الفجر. وحين يقولون خليعة تغضب، وتنام على الكنبة البنّية. كان على سرّتها أن تلبس سوتياناً كي نثق، وأن تضع قرطاً كي نغرم. وكان علينا أن نرضى ونحمدها بسبحات المئة حبّة وحبّة. سرّتها الليّنة كثدي، الطريّة على كلّ حال. وكانت سرّتها أثر شتلة مقلوعة من البطن. شتلة تبغ أو خشخاش. وكان المارّة يحسبونها نعناعاً فيشهقون، والنساء يحسبنها حَبَقاً. السرّة فرج مزيّف، أو مسدود، أو خامد أسوة بالبراكين. السرّة عاصمة الزنّار، ونقطة التماس. نقطة حدودية بين الصدر والمؤخّرة. وكانت سرّتها تلاعب الصابون وتقول: يحرق عينيّ. وتكره الثياب الداخليّة وتقول: أقفاص. وكانت إذا اكتأبت تنام على كرسي هزّاز، وإذا أتتها الدورة تذهب إلى السينما. السرّة قمر الجسد وعينه الجبانة. لا سبيل إلى الغدر في السرّة لأنّها في البطن. لا ظهر للسرّة. أو لا سرّة في الظهر. وكانت سرّتها محتارة كرقّاص ساعة، وقبلها كانت حواجبي متواضعة، وبلا رعد أذناي. وانفجرت سرّتها حليباً ولوزاً وعسلاً، وأكلنا وشربنا. وكانت سرّتها من أهل الكرامات، تضيء القمر كاللمبة، وتطفئ قاعة السماء بالسبّابة. وكنت أرتقي سلالم الرجلين إليها، ودرج الركبتين إليها، ومصعد الفخذين. سرّتها الصريحة كسهم، المرسومة كمفتاح الصول. وكانت سرّتها أبخل من أنف سبّاح، وأعند من صحافيّة مغمورة. وكانت تنزل البحر بمايوه رفيع (لا يحجب البحر سوى مايوه!)، حاسبةً الغرقى أسماك زينة. وكانت سرّتها متأنّية وحكيمة، ولأنها كذلك قالوا: قفل الجسد. وقالوا: قفل نهائيّ مفتاحه في بطن الحوت. وقالوا: سرّة. وكانت سرّتها تكذب على الناس بلطف، وتثرثر مع العابرين بلطف، وتسأل المارّة بلطف. وكانت تستخفّ بالمؤخّرات التامّة، والأثداء الناقصة. السرّة بانيو صغير. يروق سرّتها أن تُعرّف الشعر، فتقول إنّه صلاة أمام مرآة. وتقول إنّه سرّةٌ عذراء. ويحدث أن تعقد مؤتمراً صحافياً تعلن فيه: "النهدان خصيتا المرأة، المؤخّرة قمّة سهلة، الجدائل بلا طموح"... كانت سرّتها تغار وتحقد، وتردّ على الذين نادوها: يا عقدة البطن، وتقضم أظافرها بأسنانها. وكانت سرّتها بيضاء كلافتة للبيع، صغيرة وعنصريّة كطابع بريد. تقود التظاهرات، وتُسقط الحكومات. وكانت إذا أضربتْ عن الطعام، تقول: زمن الصوم. السرّة وجه ممحو، وقبلة تظلّ. السرّة حكمة الجسد ولؤلؤة البطن. السرّة جُحْر النظرة وقبو الأماني. وكانت سرّتها تكتب الشعر في أوقات فراغها، والرواية في أوقات ضجرها. وحين نحتجّ تقول: أتسلّى. وتقول: أقتل الوقت. وتستخدم الإصبع الوسطى. وكانت سرّتها عدوّة للصدر، في الشتاء تهجوه: خيمتي السيّئة، مظلّتي المفلوقة، سناما جَمَلي، مؤخّرة في الأمام... وفي الصيف تعقد المقارنات: السوتيان غمد الصدر، السرّة بلا غمد... كانت سرّتها نيتشه صغيراً، تخبط بقدمها على الأرض، وتقول: أنا. وحين نقول: حرام. تقول: أوغاد. وتنشّف شعرها أمام المروحة. وكانت تربط عيون المعجبين كبالونات، وتصعد في سيّارات الأجرة والنقل العامّ. وكان الشعراء يتلون القصائد على رنّة حذائها، والموسيقيّون يضعون العلامات الموسيقيّة على سلّم تنهداتها. وكانت سرّتها تخلط البكاردي بعصير الليمون، وترطّب الكعك بالشاي، وتشعّ كوجه مذعور. السرّة قاع الجنّة وأرضها البائرة. السرّة حفرة الخلد، وتلّة قزمة في سلسلة جبال الأنثى. وكانت سرّتها ساحرة كصغار العقارب. تقول للأرض قلب، وتضع أذنها على التراب وتنصت. تلعق جَزَر الأصابع، وتكتب مذكراتها في دفاتر صغيرة. تحسب العالم سرّة، والقمر سرّة، والناس. كان يا ما كان حبّة عنب ستنفجر ادّعوا أنها سرّة. وكِلّة ولد ضائعة زعموا أنها سرّة، وخرز ملوّن، وخاتم سليمان، ومحارة صغيرة. كان يا ما كان سرّة ملمومة وسط البطن حسبها المارّةُ برعم رمّان، والشعراءُ فَرْجاً غير متفتّح. كان يا ما كان سرّة ليّنة وعجيبة، تتورَّد من نظرة عين، وتحبّ النميمة، وتعشق القيل والقال. كان يا ما كان سرّة صغيرة بحجم قلب عصفور. عيناها لوزتان طويلتان. ويدها شمعدان صغير. تمشي على رؤوس أقدامها حين تمشي على رؤوس أقدامها. وتمدّ لسانها للمارّة والمباني العالية. تكتب قصائد قصيرة وروايات قصيرة، وتحزن. لم يمسك أحد بيدها حين كتبت قصّتها، ولم تلتقط طفلة حبّات النجوم من بين خصلات شعرها الفاحم. كان يا ما كان سرّة صغيرة بحجم قلادة عنق ذهبيّة، نزلت الشاطئ يوم الأحد، وأحرقت جلدها بشمس آب، وحسدت البحر على جلده. كانت حزينة وفرحانة في آن. وكان المارة ينظرون إليها فيحزنون ويفرحون في آن. وحين رأيتها مستلقية فوق الكنبة البنّيّة فرحتُ وحزنتُ في آن. كان يا ما كان سرّة صغيرة محفورة في عين سنونو كقفص. حين رآها الرهبان خنقهم بخورهم، والعرّافون غيّروا التقاويم الشمسيّة والقمريّة، وطمروا أجسادهم بتربة زراعيّة. كان يا ما كان سرّة ملونة بحجم حبّة عنّاب، يزعجها صغر نهديها. تقف على أصابع قدميها حين تغضب. وعلى رؤوس شعرها حين تنام. تجلس وراء الكيبورد. سريعة الملل والغضب. كان يا ما كان سرّة ملولة تشرب العرق على الريق، والحليب على الريق، والدمع على الريق، وحين نلومها على ذلك تكتب الشعر على الريق. أخرجها الحزن عن صمتها. تركت حجابها واستقلّت أقرب بوسطة إلى النايت كلوب. لم نسمع حكايتها من قبل، ولا كتبت الصحافة عنها. كان يا ما كان سرّة سحريّة وعجيبة، وُجدت مرميّة على قارعة طريق. لم ينحنِ أحد لالتقاطها، ولم يرها أحد. هكذا إذاً، سرّة ذهبيّة بحجم الإصبع تقف أمام مربعات خشبيّة وترسم. تصنع عقداً من قلوب حمراء، وتدّعي أنها خرز. لنا أن نرفع حواجبنا، ولنا أن نغار وندهن مؤخّراتنا بالفلفل. هكذا إذاً، لوحة كبيرة، وسرّة صغيرة تمسك فرشاتها بكلتا يديها، وترسم أمام المرآة: ترسم نفسها. هكذا إذاً، سرّة مهجورة كعشّ، وامرأة صغيرة بحجم الإصبع ترفض حيازة سرّتها، تخشى الاعتراف بها. هكذا إذاً، حلقة ذِكْر، وسرّة ملوّنة بحجم برعم تدّعي أن الشمس بدعة، وأن جامعاً قريباً لا يزعج. هكذا إذاً، كانت وسادتي الرقيقة أصل الوجع في رقبتك، وأصل كوابيسك الليليّة. وكان فراشي المهترئ أصل الألم في فقرات ظهرك. مع ذلك لم تنتبهي إلى أن السماء مثبّتة بالصمغ، وإلى أن الغريق هو السمكة الخطأ. مَدَد. مَدَد. مَدَد...

(2003)


*****

النشوة

سحبتْ شِباكها من ظهري. اصطادت سَمَكي. هي ذي النشوة. وهذا الرجل. وهذا البحر والصيد. النشوة تُوزَّع في القناني على الناس. النشوة البيضاء كحليب التين، والفاسقة كشجرة رصيف. قطرات عَرَقها وجوه شفّافة، وخمرها دم شفّاف. تفقد صبرها في البشر، والنار تفقد صبرها في الخشب. أيضاً وأيضاً يا فتاة. يا قمر. يا لعبة. إلبسي أقراطك على الفور. اختاري قرطك الكبير ذا الحلقة الكبيرة كحلقات السيرك. دعي نمورنا تقفز إليك. الضحك في الفم مُراق، وفي الظهر مُراق، يسيل على الأرض ويتبخّر. الضحك لُعاب. الضحك قوس على الفم. الضحك معجزة. قصيدة تُكتب في دقيقة. يا فتاة. يا بطّة. تتنفّسين كالأشجار بلا جلبة. نسمعكِ ونقول: ضيّعناكِ. نسمعكِ ونمرّ بقربك. ليغمى علينا. عليكِ. السهم ذَكَر، والموج عضل البحر. وجنادب نظراتكِ تقفز أمامنا. اخلعي قفّازات قلبك وخذينا. النشوة أبونا وأمّنا. النشوة الهاربة كالماء؛ نشربه ولا نستطيع القبض عليه. النشوة البرق: علبة الثقاب بين يديها. النشوة المطر: تطفئ النار بيديها. لا يقطف أكوازها إلا الذين اشتهوا لحماً أسود لامرأة بيضاء. هي ذي النشوة. وهذا الرجل. وهذي المرأة. يا فتاة. يا لصّة. شجرة صنوبر قزمة أكوازها رمّانات يدويّة.

(2006)

****

سعال

سعالكَ في الليل، وأنتَ تقود الأوهام بالسكّين، ترهبها بالسكّين، تجبرها على البقاء معك. تجوع بصمت، وتخنق النوم بوسادة ممزّقة. جراحك مرسومة كالوجوه. تضرب الباب بقبضتك، والجدار برأسك، وتنام مكسور المعصم والقلب. سعالكَ في الليل، والجميع يقول إنك جُننت، وطليتَ زجاج النوافذ بالأسود، وإنك تعوي كالذئاب فوق السطوح، وتتكلّم مع نفسك وتضحك. سعالكَ في الليل، وهذا الحزن الذي لم يمتلكه سواك، ولم يُعذَّب به سواك، يرتِّب دموعه على خدود سواك. عُدْ كي نكرّ الشريط من الأوّل. عُدْ كي ننام كي ننتقم. عُدْ كي نهرب. سعالك في الليل، وأنت تقلّب وجوههم على النار وتقول: أعدائي. وترفع بصرك إلى السقف وتقول: من أنتَ؟ حياتك قصيرة ولجوجة، وصمتك مفزع كالروايات. ولستَ فراشة بيضاء فنقول ضحية الضوء، ولستَ رقعة ماء فنقذفك بالحصى. سعالكَ في الليل، وأنا أعرف أنك تبيتُ هناك، في الدار التي ملأت أرضها بالعلب والأكياس، منتظراً الفتاة التي تخاف منك، وتظنّ أنك مجنون. آن لعينيك الصغيرتين أن تفهما أن الأنهار ليست شرايين منتحرين، وأن الأوهام ليست فتاة لتهرع إلى النافذة. اسمعني. أنا الآن على الحافّة. أراك وأسقط. أسمعك وأجنّ. سعالك في الليل، وهم يقولون إنك تصرخ باسمها، تجعر باسمها، وإنك تناديها لتخيفهم. تفكّر في الانتحار، وتحتار إذا كان الحبلُ يدَ المشنقة أم رِجلها؟ تفكّر في الموسى والدواء والسمّ؟ تفكّر في القتل؟ سعالك في الليل، وهذا الرأس المليء بالدموع، وقبضة قلبك الملاكم. اضربهم بقبضة قلبك الملاكم. فلا أحد يفهم ذلك أيها الوحيد والعاشق. لا أحد يستطيع رؤية وجهها المذنّب يمرّ في سماء شاعر مصروع. سعالك في الليل، وأنت تهزّ سرير الموتى ليناموا، وأنت تقول وتنسى، تهذي وتصيح. لو تكفّ قليلاً كي أنام، لو تكفّ قليلاً كي أنهزم. سعالكَ في الليل، وأنت محموم وبردان، حارّ وترتجف. تعيش لوحدك، وتنتظرها بجاكيتك الغريبة في مكان هي لا تعرفه، ولم تطأه قدماها من قبل. سعالكَ في الليل، وهم يقولون إنك كسرتَ يدك البارحة وهشّمتَ جمجمتك. قف، ليس البرق ما ترى، بل الله يُطلق فلاش كاميراه إليك. قف، الله يصوّرك. قف، الله فنّان وحقود. الله يضرب تحت المعدة. سعالكَ في الليل، أراك من بعيد، تفتح الباب على عجل، تصرخ بهم وهم غير موجودين، تقرّر طردهم: ماء وجهك تعكّر كأن سمكةً عبرت فيه، وقلبك قويّ كبلطة خائف.

(2004)

*****

شهداء الشوكولا

"عملية انتحارية تودي بحياة أكثر من ثلاثين طفلاً عراقياً، اعتادوا التوقّف، في طريقهم إلى المدرسة، لدى جنود المارينز للحصول على بعض قطع الشوكولا".
(عن وكالات الأنباء)

الأطفال شهداء الشوكولا لم يحفظوا دروسهم ذلك اليوم، ولم يكتبوا واجباتهم. أحزنهم أنهم يأكلون الشوكولا وحدهم. فكّروا أنهم أنانيّون. توقّفوا عن قضم الشوكولا، وانفجروا. الأطفال شهداء الشوكولا لم يغسلوا وجوههم جيّداً، ولم يكملوا كتابة فروضهم المدرسيّة. أرهقتهم حرارة الشمس المحشوّة بالصمغ، وأوجعتهم أحذيتهم الضيّقة قليلاً. بعضهم كان يلبس حذاءه من دون جورب، وبعضهم عيونه سوداء وصغيرة. الأطفال شهداء الشوكولا كان ينقصهم أن يمدّوا ألسنتهم للكاميرات ساعة موتهم، وعوضاً عن ذلك ضحكوا كثيراً وقليلاً. وقبل أن تستوي لحظة الصفر، صعد أحدهم إلى أعلى المباني، ووقف على الحافّة. غمز أصدقاءه بمرح (لم تلتقط الكاميرا هذه الغمزة بالطبع). رفع يديه على شكل جناحين، وربّما على شكل صليب، لكنّ الراوي أصرّ على فكرة الأجنحة. عندما دوّى الانفجار كان الطفل ذو الجناحين يسقط، والراوي يقول إنه يطير. الطابق الرابع، أوقفوا المشهد كي نتأكّد... الطابق الثالث، الأجنحة تتخشّب... الثاني، فات الأوان... الأول، صليب مغروز في لحم الأرض، مائل كعمود كهرباء، مكسور كقلم رصاص. الأطفال شهداء الشوكولا مرّغوا وجوههم بأكمام قمصاننا، وعيونهم في أطراف مخدّاتنا. وحين سمعنا خبر انفجارهم، ملأنا آذاننا بالسبيرتو والقطن، وقلنا كلاماً قديماً عن الموت. الأطفال الفقراء عاتبون علينا، يقضمون رؤوس الشوكولا بأسنانهم، وينفجرون. الأطفال شهداء الشوكولا أقلقهم أن الهواء غير النظيف مضرّ بالصحّة، لكنهم لم يفكّروا أن الشوكولا يمكن تفخيخها، لذلك حين رأوا قاتلهم مقبلاً نظروا إليه وابتسموا، كأنه على وشك تصويرهم. ابتسموا من قلوبهم، كما يفعلون دائماً. قالوا إن الكاميرا والقنبلة شيء واحد: لحظة انفجار. قالوا إن الموت موجود في كل مكان، وإنهم ما زالوا صغاراً عليه. قالوا إنه لن يكترث بهم. لكنهم أخطأوا. وكي يعبّروا عن أسفهم، انفجروا. أطفال العراق الفقراء تمنّوا نهاية أخرى، وأغمضوا أعينهم بقوّة. نهاية تليق بضحكاتهم العريضة، وبصفوف أسنانهم الناصعة التي أبرزوها لتوّهم. أخذهم النعاس، وكان دجلة يحفر خدّ العراق كدمعة طويلة، والفرات كجرح طويل. سمعوا جلبة الموت، فضحكوا في نومهم، ولحسوا السائل الأسود عن شفاههم وأنوفهم. اقتربت الجلبة، ولم ينصتوا. تابعوا ضحكاتهم، وأخبار أمّهاتهم. كان الحرّ شديداً، وكانت كنزاتهم الرخيصة متيبّسة من العرق والدموع والنعاس. حلموا حلماً مزعجاً. صرخوا في نومهم. رأوا الملثّمين يقطعون رأس الشوكولا. ازداد الحرّ. تمدّد الهواء في رئاتهم. تحوّلوا بالونات صغيرة، طاروا وانفجروا. الأطفال شهداء الشوكولا كانوا متفقين على تغيير أمكنتهم في صفوفهم هذا اليوم، وتبادل كراريسهم المكسّرة الحواف. لم يحسبوا حساباً لموت أو مفاجأة. كانت عيونهم مليئة ومترعة بليل بلادهم، وسواد ليل بلادهم، ونجوم ليل بلادهم (ككراريسهم قبورٌ مكسّرةُ الحواف قبورُهم). الأطفال شهداء الشوكولا لم يخطر ببالهم بعدُ تبادل الأيدي والأرجل والدماء القليلة في أجسادهم الهزيلة. لم يُعطَوا الفرصة كي يسجّلوا على كراريسهم المدرسيّة تاريخ اليوم، واسم المعلّمة، ومادّة الحصّة. لم يُعطَوا إبلاغ أمّهاتهم بتأخّرهم عن المنزل. كانت الشوارع عارية كالأعناق، والسماء المشطوفة حديثاً قد احتقنت بالدماء: عندما كانت قطرات الدم الثقيلة ترتمي على نوافذ البيوت وعيون الناس والكاميرات العوراء، فتح الأطفال الفقراء أعينهم لآخر مرّة، وقالوا كلاماً غير مفهوم، وأنشدوا نشيداً مدرسياً غير مفهوم، وابتسموا. الأطفال شهداء الشوكولا عتبوا على الكاميرات لأنها لم تفرك عيونها وهي تنظر إليهم. عتبوا على نشرات الأخبار المسائية لأنها لم تذكر أنهم تلاميذ من صفّ واحد. أزعجهم تزوير سيرهم الذاتية، وأزعجهم إهمال سنّهم، وأزعجهم القول إنهم "ثلاثون". الأطفال شهداء الشوكولا حبسوا أنفاسهم كما لو أنهم على وشك أن يغطسوا، ورحلوا على رؤوس أقدامهم كي لا يزعجوا العالم. لكن ضربات قلوبهم الضعيفة على أبواب صدورهم كانت تدقّ كهاون ثقيل في جرن العالم. غيّروا رأيهم في اللحظة الأخيرة، وقبلوا الشوكولا من الأيدي الأجنبيّة. عيونهم على وشك الاحمرار، ولم يسمعوا كلمة "عمالة" من قبل. كانت صدورهم الصغيرة مملوءة بروائح بيوتهم، وفساتين أمّهاتهم. عقدوا أيديهم وراء ظهورهم، وضغطوا على رقابهم بأكتافهم، وانفجروا. الأطفال شهداء الشوكولا فكّروا أنهم منبوذون في هذا العالم. فجأة، لم يعد في استطاعتهم ربط أحذيتهم على شكل فراشة، ولا مطاردة القطط في الأزقّة، ولا الغشّ في الامتحانات. فجأة، راحوا يجمعون لُعَبهم الرخيصة، ويحزمونها في حقائبهم المدرسية، ويرحلون. الأطفال الفقراء عندما انتهوا من جمع لعبهم وحزم حقائبهم، لم يكلّموا أمّهاتهم بصوت عالٍ كالعادة. وحين انتبهوا إلى سُبحات آبائهم، وقرائينهم المعلّقة على الحائط، مسحوا الجدران بنظراتهم، ومعسوا الشوكولا بأيديهم، وانطلقوا. كان الاستشهادي يقف لهم بالمرصاد، وكانوا يخافون لحيته الداكنة، ويحسبون أنه أخرس. كانوا يخافون التفكير أنه أخرس. لذلك عندما رأوه ابتسموا. قالوا إنه لا بدّ أن يبتسم. قالوا من غير المهمّ أن يتكلم. قالوا الضحك أفضل من الكلام، واقتنعوا بذلك. الأطفال شهداء الشوكولا دمهم من ذهب الأمّهات مشغول، ومن قصب النهر. يقولون للمارّة: اعبروا. والهاوية تلعق شفتيها الضخمتين. نظراتهم لجوجة كبرقيّة، متردّدة كمسوّدة. يتلقّون الطعنات بإيمان المنتظرين وذهول الجوعى. دمهم متعبٌ ويسيل، مرهقٌ ويجري. الأطفال شهداء الشوكولا يستعيدون الناس بعيون كليلة، والفرح بيدَين متعبتَين. سماؤهم مخيّطة بإبرة مئذنة، والعالم مرتاح الضمير كعذراء. رأيناهم يغادرون فصمتنا، وحين خسرناهم قلنا: كثيرٌ، وألقينا رمّانة يدويّة في وجه الشمس. أطفال العراق الفقراء يسفّون التراب على قبور أحبابهم، وظهور أحبابهم، وثيابهم. في كلماتهم أسنان مكسّرة، وشفاه زرقاء وكدمات. يصعدون إلى السماء ببالون، ويمسحون الدمعتين، دجلة والفرات، بمنديل كبير. أزعجهم أن الشمس اختارت الظهيرة لاستعراض قوّتها، وأرهقتهم مكبّرات الصوت وخطب الشيوخ والأئمة. مع أن الصحافة لم تلتقهم قطّ، ولم تأخذ الكاميرات صوراً لهم. كانوا منشغلين بتقشير الشوكولا وقضمها، وإتمام ضحكاتهم. الأطفال شهداء الشوكولا أنجزوا كل شيء قبل رحيلهم: قضموا أظافرهم بأسنانهم، وغسلوا صنادلهم بغبار الطرق، لكنهم كذبوا على أمّهاتهم حين قالوا: نعود باكراً. الأطفال شهداء الشوكولا كانوا منشغلين بتقشيرها وقضمها. كانوا يلعقون شفاههم ويضحكون، ويلحسون رؤوس أصابعهم ويضحكون، أنوفهم ويضحكون. كان بعضهم أكل نصفها، وبعضهم خبّأها لإخوته الصغار. أطفال العراق الفقراء سينبشون قبورنا بأيديهم المتّسخة، وقلوبنا بأيديهم المتّسخة، وسيكرهون الله في سرّهم. الأطفال الشهداء ملّتهم عيون الكاميرات، وصاروا خبراً بائتاً في نشرات الأخبار، وموضع جدل وخلاف وفتاوى دينية. لكنهم تجاهلوا ذلك كلّه، وأعلنوا أنهم غير معنيين بالموضوع. شغلتهم مقبرتهم الجماعيّة، وشغلهم تناثر أجسادهم. وكلما اقترب صوت الانفجار منهم، وأحسّوا سخونة الشظايا في حبال أمعائهم، نبت الريش على ظهورهم، وتخلّصوا من جاذبية الأرض. رأوا بلادهم من أعلى: وجه حزين ومتطاول بدمعتين على شكل نهرَين يحملان اسمَين وقوارب وصيادين، وعيون سوداء ووسيعة تضيء في الليل كقرى بعيدة. عيون أمّهاتهم اللواتي انهمكن في تمزيق فساتينهنّ الطويلة والمقصّبة، ونتف شعورهنّ المغسولة بالحنّاء، وسفّ التراب فوق القبور. الأطفال شهداء الشوكولا انتهزوا فرصة موتهم كي يعلنوا للعالم أنهم عَتَبات وأنبياء. وكي يملأوا حناجرهم بالطبشور، وجيوبهم بالطبشور، ويغسلوا قمصان أخواتهم بدموع الرؤوس. كانوا منهمكين في الرقص على طبلة أذن العالم. يرقصون ويدوخون. يرقصون فندوخ. يرقصون والعالم يتحول دوائر. تتسع حلقة الرقص. دوائر دوائر. ينضمّ إليها الزرقاوي وجورج دبليو بوش وصدام حسين وأطفال حلبجة وكوفي أنان... أراهم يرقصون ويدوخون، والعالم يعلن حظر التجوّل والرقص. لكن الموت يتجوّل في كل مكان، هكذا يحتجّون. العالم يصمّ أذنيه بالقطن والسبيرتو، ويعلن مجدّداً حظر التجوّل والرقص. لكنهم يرقصون ويرقصون. أطفال العراق الفقراء. يرقصون ويدوخون. يرقصون فندوخ. لم تسقط ألواح الشوكولا من أيديهم لحظة انفجروا، لكنها ذابت. سقطت عيونهم لأنهم نسوا إغماضها، ووجوههم لأنهم نسوا غسلها في الصباح، وشعورهم لأنهم لم يمشّطوها. لكن أيديهم التي أحكموا إطباقها، أيديهم التي حملت الشوكولا بقيت مرفوعة: عالياً عالياً كطائرة تحترق، عالياً عالياً كنسر مفتون.

(2005)

******

الزهرة القرمزيّة

"عُثر على جثة الشاعرة الأفغانية ناديا أوجمان (25 عاماً) داخل منزلها في هيرات، وعليها آثار ضرب شديدة، مع جروح كبيرة في الرأس. واعترف الزوج بأنه أقدم على ضرب زوجته بالبلطة حتى الموت، بسبب كتابتها الشعر، لأن ذلك يتنافى مع التقاليد الإسلامية. وكانت أوجمان قد أصدرت أخيراً أوّل كتاب شعريّ لها حمل عنوان: الزهرة القرمزيّة".
(عن وكالات الأنباء)

أيّها الربّ، كما تدّعي، إرفعْ رأسك وكلّمني. لم يعثر عبد الرحمن على زوجته ناديا تخونه مع رجل آخر. عثر عليها تكتب الشعر. جريمة شرف؟ كان على ناديا إذاً أن تكون أكثر شاعريّة ذلك الصباح، فتخلع حجابها الأسود، وتسرّح شعرها الفاحم أمام الكاميرات، وتبتسم. وكان علينا أن نعاين أجنحة دموعها، وجِلد نهديها، وأكواز الدموع المعلّقة على رؤوس أهدابها. كان عليها أن تبري أصابعها كأقلام الرصاص، وكان علينا التقاط حجابها من أقرب مقبرة، لنمسح به ما كتبتْ. لنصنع منه مناديل لعَرَقنا، وشراشف لأسرّتنا، وستائر لغرف نومنا. أيّها الربّ، كما يسمّونك، إصعدْ إليّ لنتفاهم. أقلقنا أن ناديا أوجمان لم تكتب وصيتها كسائر المنتحرين. وأحزننا أننا لم نعرف بماذا كانت تفكر لحظة موتها. مع ذلك، أقسمنا أن نثأر للشعر بالشعر. أن نخفي بين الأحرف بلطة. أن نرسل من ديوانها نسخاً للملاّ محمّد عمر ولأسامة بن لادن. أن نفرط أوراق ديوانها، كي نصنع منها طائرات ورقيّة، نرسلها لتصطدم بكلّ أبراج العالم. أيّها الربّ، كما ترتشي، أصلح ياقتك واسمعني. لم تنتظر ناديا زوجها كي يزوّدها حزامها الناسف. كانت على عجلة من أمرها: خلعت حجابها، وسرّحت شعرها الفاحم أمام الكاميرات، وابتسمت. لم تستجوب مرآتها لحظة موتها. المرآة قفص الوجه، قالت. ولم نفهم. زنّرت خصرها بكتاب شعر صغير، ولفّت قطعة الحصير إلى الزاوية، واختنقت. كنّا في ذلك الوقت مشغولين بمسح الغبار عن سطوح مكتباتنا، وسطوح بيوتنا، وسطوح أعيننا. وكانت ناديا مشغولة بتنظيف البلطة، وبشطف الدم، وتوضيب حقيبتها. قرأنا الخبر متأخّرين كالعادة، وقرّرنا البكاء متأخّرين كالعادة، وكتبنا كالعادة. وحين رأيناها في الصورة تنظر إلى الأسفل، وتنظّف دمعة صغيرة في زواية عينها، تأثّرنا. وقلنا لن نغفر لأنفسنا، لن ننسى غرّتها الظاهرة في الصورة. وغفونا كي نحلم. لم نقرأ من كتابها الناسف لو جملة. لم نعرف تلك الأحرف التي فجّرت ينابيع رأسها. لكنّا خمّنا أن العنوان يكفي. أن العنوان هو السرّ، وأن الزهرة لا تصلح عنواناً. لم نعدها بشيء، ولم نخرج في جنازتها المتواضعة، ولم نبنِ تمثالاً. فقط، كنّا جالسين تحت جسور مدننا، ندخّن حشيش خيباتنا، ونلعق الدموع من على شفتنا العليا، ونقارن بينها وبين امرأة عراقية أرادت تفجير نفسها في عُرس. أيّها الربّ، كما تشتهي، إغسل يديك واتبعني. سنحتاج منحدراً لاكتشاف الوجع في الركبتين، وسنذرف أفضل دموعنا على شاعرة مكسورة الرأس من الأعلى. لم يكن القلب سجّادة حمراء ليُفرَش في الطريق إليها. ولم يكُ للمرآة جلد كي يحكّها. ناديا أوجمان استحقّت موتها يوم أُعجبت باسمها. لندُرْ حول قبرها مردّدين أشعارها. ستقوم ناديا لتغيّر إبرة الراديو، لتنقّح أحزاننا جيّداً، ولتكتب في زاوية الصفحة، من جهة اليسار، اسم القرية الطينيّة في هيرات. لن نهتمّ لكثرة المكاتيب والطرود البريديّة، وسنستخدم مكانس الأرصفة للتخلّص من البرقيات المعزّية. ممنوع التصوير الآن. دعوا دماءها تبرد على التراب وحدها. دعوها تسودّ قليلاً. سيكون لدينا من الوقت ما يكفي لتجهيز كاميراتنا وسحب أفلامنا. كفّوا عن تعكير مزاجها في هذه الساعة. دعوا رأسها الصغير، المتخفّف من دمائه، ينام. دعوه يجرّب حظّه في نوم أعمق. لم تكن ناديا شهيدة بالطبع، كي نلصق على الجدران صورها، أو نرفع وجهها لوحة مربّعة على أعمدة الهاتف. يمكننا العثور على صورتها في موقع متخصص بالعنف ضدّ المرأة. ناديا أوجمان انتحارية الشعر، انتحاريتنا، لا بدّ ستأتينا هذه الليلة لتطرق أبوابنا بقبضتها المتعَبة، وتقرع ظهورنا بدموعها الكبيرة. ولا بدّ أن نطلّ من شبابيكنا، ونتخيّل نافورة دم تخرج من رأسها المشجوج بالبلطة. خيط دم رفيع يسيل على عتباتنا. نهر يتقدّم من دون أرجل. يحفر في الأرض ويتّسع. يجرف البيوت ويتّسع. لكنّ شيئاً صغيراً لا بدّ أن يطفو على سطحه. شيء شبيه بقطعة قماش سوداء. حجاب أسود له رائحة شَعر فتاة في الخامسة والعشرين، قالت عنها وكالات الأنباء إنها تحمل اسم ناديا أوجمان، وإنها كانت تكتب الشعر لحظة موتها، وإن حجابها الأسود سيمتدّ ويمتدّ ويمتدّ حول عنق الكوكب الأرضي، وسيشنق العالم.

(2005)

******

المفتاح

"اغتيل الصحافي في جريدة "النهار" سمير قصير بتفجير سيّارته في محلّة الأشرفية".
(عن وكالات الأنباء)

الأشرفيّة. ضع إشارة إكس هنا، وتقدَّم. لا تحيِّ أحداً. فقط، ابتسم لهم. سامحهم رجاءً. انسَ الجريدة والجامعة. انسهم جميعاً، واذكرها بوجهها المكسور كذراع. خطوة، خطوة، كأنك تصعد الدرج. تفتح باب السيّارة. تجلس وراء المقود. تخلع الجاكيت، وتضعها جانبك، أو في حضنك؟ لا فرق. الشاهد لا يتذكّر أصلاً. تُخرج مفتاح السيّارة. تنظر إلى أعلى، إلى المرآة. تبتسم. يدك على المفتاح، وعينك في المرآة. تدير المفتاح... أتعلم؟ أكثر ما يؤلمني اليوم أني لم آتِ إلى حفل توقيع كتابك. الآن أدر المفتاح. أراك أراك تنفجر عبوةً في وجوه قاتليك، غاضباً على غير عادتك. يا من يكره الضوضاء والضجّة، لمَ تخون مزاجك الآن؟ فلنؤجّل عتابنا إذاً، ولنأمر دموعنا أن تنتظر أقلامنا، ولنصفّق. أحنينا ظهور القبور بالزهر، وأحرقنا جلودها بالشموع. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني تشغيل موتور الذاكرة، وموتور الدم في آن واحد: هكذا، بضربة معلّم، تلهب العالم بالضجيج وتغادر. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تلعب بماكينة الموت، وتركلج أجهزتها من دون قصد، وتوصل أسلاكها، وتستعملها. يا رجل، أهذا كلّه من أجل أن تسافر إلى الموت مستقلاً سيّارتك؟ أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تستعيد في لحظة واحدة أعزّ ذكرياتك عليك، وأن تسامح. بمن تبدأ الوداع أوّلاً؟ تسأل نفسك، ولا تجيب. بالمناسبة، لماذا يقولون: زوجة الشهيد، ولا يقولون: أرملته؟ أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تتوقّع موتك، ويعني أنهم لم يفاجئوك، ويعني أنك تنتظرهم. بلاد أشبه بصور ناجية من زمن الحرب، بلادك. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تتدبّر موتك بنفسك، ويعني أن تكون وصيتك جاهزة على الدوام، ويعني أنك مستعدّ. لم يقل الجميع للجميع: انتبهوا. لكنّهم شدّوا على أيديهم وأكتافهم، وابتسموا لهم حين غفلت عين الكاميرا عنهم. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن أسراراً خبّأتها ستندفن معك، وآمالاً أجّلتها، وأحزاناً ووجوهاً وذكريات... صحبة القتل تعني صحبة التوقّع أيضاً. نوع بغيض من الانتظار: انتظار التالي في موته. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن توقف العالم لحظة كي تراجع حساباتك، وكي تفكّر في التراجع، وكي تناقش شروطهم، ويعني إدارة المفتاح. لذلك نراهم دائماً يتساقطون كالمطر على عيون الكاميرات، يشوّشون الرؤية، وينسحبون (دماء على الزجاج الأمامي والمسّاحات معطّلة). أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تكون نقطة رمي حيّة، ويعني أنك عنيد، وأنك لن تحتاج باقي مفاتيحك: مفتاح الشقّة، مفتاح المكتب، مفتاح الخزانة... ببساطة، أن يكون للموت مفتاح. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تكون مستعدّاً لرؤية صورتك مبتسماً على الصفحات الأولى في جرائد الفجر، ولسماع ريبورتاج عن حياتك الشخصيّة: شهيد، تعبير غير رصين بحقّ من يموت بكلّ تلك الروعة. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني ألاّ تدير مفتاحاً بعد اليوم. صوت انفجار سيّارتك هو صوتك الذي فاض عن حنجرتك. بعد الآن، من يستطيع الادعاء أن تفخيخ السيّارة ليس من قبيل تفخيخ الحنجرة؟ أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أنك قرّرت تعطيل المدارس، وتنكيس الأعلام، وإعلان الحداد العام أيّاماً، ويعني أن تغفر للذين أساؤوا إليك يوماً، وأن تصفح حتى آخر قطرات دمك. لا عليك، دائماً هم هكذا المشيّعون... غاضبون. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تذهب إلى الموت على قدميك، ويعني أنك المذنب، ويعني أنك انتحرت. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن أحداً في انتظارك اليوم سيخيب أمله، وأن مواعيد قطعتها للناس ستتأخر عنها إلى الأبد. لا داعي للتجريب: القنبلة مصمّمة على مقاس شخص واحد، وموت واحد. هذا الموت الضيّق الصدر ككمنجة لم يتسع لسواك، يتّجه صوبك حيثما ذهبت: أنت جهته: كبوصلة، جهة وحيدة هي كل ما يملك. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تقتنع بالصورة الأخيرة، والأشهَر، التي ستصيرك: وجه مدمّى، شعر محترق، عينان مغمضتان من دون أهداب. كان بلا معنى أن نظنّ أن الوطن أبله كسرير زوجيّ، وكان من قلّة الموهبة أن نظنّ عكس ذلك. لم يكن هجاءً إذاً استهلال مرثاتنا بالقول: وطن يمرّن عضلاته بحمل نعوش أبنائه. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تشهر مسدّساً في وجه زمنك، ويعني أن تقول له: قف، ويعني أن تطلق النار. أن تدير مفتاحاً في سيّارة يعني أن تنظر في المرايا الجانبيّة، كي تتأكّد أن الطريق خالية كي لا تؤذي أحداً... كلّ يوم الصورة نفسها على هيئة خبر عاجل: كاميرات ترتجّ فوق أكتاف المصوّرين، ومراسلون مذعورون أخبارهم مليئة بالهمهمات والدمع، وجثّة مستقرّة في سيّارة منفجرة، أبوابها مفرودة على وسعها كالأجنحة، كأنها تهمّ بالطيران.

(2005)

******

العروس

عقرب الساعة يرتفع، الرابعة تماماً، وطائرتكِ أيضاً. أراكِ بجناحين كبيرين في الظهر، تتنفّسين وترتفعين يا عروس. وأنا في فراشي المليء بورق جلدك أغرق. لا يحتاج الغرق أجنحة يا عروس. خفيفةً كغيبوبة تتنفّسين، ثقيلةً كالنذور ترتفعين. بعينيك الذائعتَي الصيت، المشغولتين بفضّة الدمع. من زمان لم أكتب الشعر يا عروس. من زمان وهذا الوجه الأشبه بعتاب صغير، وبعلبة الحليب في العبّ. وأذكر، كنتِ على يدي، وكان الطلاء على أظافري. وأذكر، عصبتِ نهديك بمنديل، وأتيتِ مستندة إلى جدار. وأذكر، كان الألم في فقرات ظهرك أكبر من حصباء دموعي. تلمّين الأوراق الصفراء، وتقولين: عندي الخريف؟ وحكيتُ لك عن حزني، وكنتِ تزمّين عينيكِ. واستعرضتُ مرور دموعي أمامك كعارضات الأزياء. وحلمتُ بطيور لها مجاذيف، وبخنافس مزركشة. وآلمني صبّار نهديك الصغيرين. وأنا لم يسبق أن قرأتُ في حكمة العرب عن زوج شعراء في سرير. لم يسبق أن وقعت عيناي على شاعرَين في جُحْر. وكان الطريق إليك أطول من درب الطواحين، وأنا أوّل من ضرب الجرس بين رجليك. أوّل من صعد سلالم الركبتين إليك. وأتيتِ لي، نهراً من الكحل والليل يا عروس. بعينيك المخبولتين بالأحزان، ونملكِ الأشقر والصغير، وعنقك الهشّ كعنق زهرة. لي رغبة في البكاء والثأر، والدموع لا تنتقم يا عروس. وأنا لم أكن أكثر من كتاب على وسادة. لم أكن أكبر من خرزة في العين. وأنا شجرة رصيف صادفتها، ويوم رأيتك قلتُ للناس: قطار بحذائي موصول. وكان الجميع يضحكون ويرحلون، والطيور تضحك وترحل، والنساء. وكنت شاردة كالحنين، غريبة كالحنين. وحبلتِ بي مليون عام يا عروس. وولدتني بسهولة العشب: فتحتِ دُرج بطنك، وسحبتني من شَعري. وعلّمتني أن أكون قمراً ولا أعجب الناس. إلى أعلى يا عروس، تنفّسي وارتفعي. سنتفق على أسعد النهايات، وأثمن النهايات. دخلتِ وكنتُ نائماً. وقلتِ: هكذا تكون طفلاً. وغفونا. وكانت أنفاسك الخفيفة على فروة رأسي، ووجهك المفرود على وسعه... إلى أعلى يا عروس. من عادة المباني الشرفات، والكلام في الحبّ تجديف، والحزن في الحبّ تجديف. تنفّسي وارتفعي. صافية كرصاص الفجر، وطاووساً كامرأة لها عُرْف. سأهذي بليلة الشتاء والثلج، وسأحمل التذكار من المنتصف، معيداً الجسد إلى الفرن، واصلاً الفم بالنشيد. دعيني أتنصّل من قصائدي كشاعر جبان. دعيني أغرف الدمع بخوذ الجنود، وحسرة الجنود. إلى أعلى، إلى أعلى، تنفّسي وارتفعي. العتمة جرباء كالحبر، وأنا أحكّ وأذوب، أحكّ وألتفت. سأعمى يا عروس. سأعمى وأذوب. العتمة كتيمة ومقفلة، وجوزة عنقك تضيء كلمبة تحت الجلد.

(2006)

****

ولد ماهر شرف الدين العام 1977 في جبل العرب، جنوبي سوريا. وعاش في محافظة الحسكة حتى العام 1999، حيث سافر إلى بيروت التي ما يزال مقيماً فيها حتى اليوم. يعمل حالياً ناقداً وكاتباً في الملحق الثقافي لجريدة "النهار" البيروتية، ويترأس تحرير مجلة "نقد" الفصلية. صدرت له الكتب الآتية: الرسّام الفاشل (شعر 1999)، ملحق حمورابي السرّي (شعر 2002)، سورة فاطمة (شعر 2004)، أبي البعثيّ (سيرة 2005).