أسامة الدناصوري

عاش أسامة الدناصوري علي حافة الحياة

كان متأكدا طوال الوقت أن رحيله وشيك ولا مفر منه.
وإحساسه هذا كان سببا في دفعه إلي عدد من الحالات المختلفة.. فأحيانا كان يعتزل الناس ليتأمل وهو يشعر بأنه لا فائدة من أي شيء، لا الأصدقاء، ولا الزوجة ولا الشعر ولا حتي قصص الحب.. وأحيانا كان يريد أن يلهو كما لو أنه يبيح لنفسه متعة دنيوية أخيرة، يقحم نفسه في قصة عاطفية سرعان ما يخرج منها ليبدأ غيرها حتي ولو كانت هذه القصة وهمية أو في خياله فقط.
وأحيانا كان يلجأ إلي الشعر، والشعر كان يطاوعه أحيانا ويخاصمه أحيانا.
عاش الدناصوري حياته يطل من نافذة علي عالم آخر وشيك يعلم أنه لا فائدة ترجي من حجبه بالستائر وكتابه الأخير 'كلبي الهرم...' تأكيد علي إحساسه بالرحيل.. في هذا البستان يكتب أصدقاء قريبون لأسامة عنه كإنسان في المقام الأول وكشاعر له خصوصية وبصمة واضحة في عالم الكتابة، شاعر قاوم طويلا السقوط في هوة اليأس بالأمل والإحساس العالي بالإنسان.
حسن عبدالموجود

***

طرف من خبرالدناصوري

حمدي أبوجليٌل

كلما أتذكر أسامة أضحك، أنا صديقه الأخير، والمفترض أن أبكي وألطم علي وجهي، ولكني أضحك فعلا وأقهقه، كل ما ربطني به يخص الضحك والانبساط، لم أكن أراه أساسا إلا للضحك والانبساط، وحتي مآسينا وخيباتنا ومشاكلنا الزوجية كانت تتحول إلي مادة جيدة للضحك، قبل موته بحوالي شهر واثر أزمة صحية قال لي ان زوجته قالت له صحابك صحاب سهر، ضحك ولعب ومسخرة وملهمش في الأزمات ، وللأسف هذا ينطبق تماما عليٌ، في الفترة الأخيرة كنا نلتقي بشكل شبه يومي لا لشئ إلا السيجارتين والضحك والكلام، أحيانا نذهب لأحمد طه، وطوال الوقت في ميريت، طبعا كنت أعرف أنه يغسل ثلاث مرات أسبوعيا والمرة الواحدة خمس ساعات، وكنت أتابع ملابسات اشتغال العملية وتوقفها، ولكني لم أشعر أبدا أنه مريض، بالعكس كان نشطا وسعيدا ومقبلا علي الحياة بضراوة، يوميا يضرب ويتسلطن ويوميا يقابل أصدقاء ويوميا يحب ويحب، وفي نفس الوقت موظف منضبط وزوج مثالي، يوميا يوقع في دفتر الحضور والانصراف ويوميا يكون أمام زوجته علي سفرة الغداء، في عز القعدة يقول لك بأدب جم معلهش أصل سهير مستنياني 0
وطبعا أسامة كان يحكي، حينما ينجلي كان يحكي ويتألق، وكنت أستمتع بحكاياته وأضحك من كل قلبي، ولم أفكر فيها كمادة للكتابة إلا بعد أن نبٌهني هو، في عز استغراقه في حكاية عن والده أو جده توقف وقال لي اوعي تكتب الحاجات دي يا حمدي 00 أنا عارفك ندل وتعملها 00 أقولك: اكتبها بعد ما أموت ، يومها قلت له اكتبها أنت، وفعلا كتب تحفته الأخيرة والآخرة كلبي الهرم كلبي الحبيب ، وهذا طرف مما حكاه ولم يكتبه، أو حكاه وكان ينوي كتابته، بعضه سجلته بصوته وبعضه رويته عنه، وحاولت، قدر الإمكان، أن يظل الكلام بنفس نبرته الجميلة الآسرة المحبة للكلام.

طوق نجاة
درست إعدادي وثانوي في دسوق ولكن ماتنقلتش لدسوق وعشت فيها كمواطن دسوقي إلا في تانية ثانوي، لذلك فترة ما قبل تانية ثانوي مرحلة وما بعد تانية ثانوي مرحلة أخري، البنات اللي كنت باشوفهم قبل تانية ثانوي هما بنات محلة مالك ، باشوفهم في دسوق ومحلة مالك، يعني إيه هما اللي باشوفهم ؟ يعني هما اللي مسيطرين علي مشاعري وعواطفي منذ الصغر، واحدة أو اتنين أو تلاته، دول اللي فيه طول الوقت المناجاة الدائمة ليهم، حتي بعدما ذهبنا جميعا لدسوق، ولكن بعد ما عشت في دسوق اتغير الحال، ودا موال تاني خالص، عتبة عن طريقها حصل الانتقال الحقيقي من محلة مالك بالنسبة لي شخصيا.

إيه العتبة دي يا حمدي ؟
كان فيه بنت اكتشفت بعدين أنها لم تدخل مدارس قط، أنا كنت متصور أنها زميلة لينا، يعني في ثانوي أو في دبلوم مثلا، واستغربت جدا إن فيه بنت في الزمن بتاعنا ده ماتدخلش مدارس، خصوصا وأنها من عائلة غنية، أهلها كانوا تجار خشب مشهورين في دسوق، والعمارة كلها كانت بتاعتهم ، وهي كانت من سني أو أكبر مني بسنة، ومن أول ما سكنا في عمارة الأوقاف جنبهم حصل بينا شوية نظرات ونشأت صلة امتدت فترات طويلة، وفي هذا الوقت بالتحديد، وقت نشوء هذه النظرات، واحتمال ان يكون هناك صلة أو لا، أو أو، كانت علاقتي الأساسية، حبي الأول ينهار أمامي في نادي دسوق الرياضي المواجه لعمارة الأوقاف، كان يقام حفل كتب كتاب صفاء في النادي، لقد فكرت في الانتحار، وفكرت في عدم الذهاب للمدرسة، صفاء قريبتي، والأسرة كلها ذهبت للحفل وتركتني أتعذب في البلكونة المقابلة، وفي هذه اللحظة بدأت علاقتي بالبنت، طبعا المسألة خدت وقت طويل لما اتفكيت انا من صفاء، وبقي فيه لغة مشتركة بيني وبينها، أنا نسيت اسمها، تعرف دا يستوجب عليا ان أقرا لك القصيدة اللي كتبتها في هجاء محبوبتي القديمة وهجاء الزمن الذي عشته وقتها، وفي الانتقام والتمثيل بها، هذه القصيدة اسمها جواب إلي خائنة ، ظلت جواب إلي خائنة درة أعمالي فترة طويلة، ولكن المرض الآن لا يسمح بإلقاء شعر من أي نوع، بعدين ابقي اقولها لك، بالتأكيد انا محتفظ بيها0
المهم اتكلمت مع البنت، والتقينا في شوارع جانبية، ولم يحدث شئ أبعد من ذلك، والغريب أن ملامح البنت دي ظلت الملامح المحببة، المرغوبة لي طوال عمري، أحيانا اشعر انها مدفونة داخلي منذ البداية، ملامح معينة في وجه المرأة، دائما تلاقي في الوش زوايا منفرجة، يعني أشياء مفتوحة، مش حادة ومسننة، لا أنف مدبب ولا نظرة عين حادة جارحة أو مغوية ولا شفاه محددة ولا وجه له ملامح جادة وصارمة، لا، كل الوجوه التي أحببتها بعمق فيها الملامح المنفلشة، ملامح أقرب للهطل منها للذكاء، ليس الغباء ولكن الهطل، وفيه حاجة في الفم والابتسامة تقريبا هي اللي بتحدد الكلام دا كله، مش عارف اعبٌر، يمكن في ظروف تانية أقولك بالظبط، انت عارف لو قريت شوية قصايد من الشعر اللي كتبته هاتكتشف الحكاية دي، هاتلاقي ملامح في قصيدة ايروتيكا وبعض القصايد الأخري مثل جارتي 0
المهم هذه البنت بالنسبة لي كانت طوق النجاة، طوق النجاة الوجداني والنفسي من صفاء، إن أنا أتسند بوجداني علي حد في الفترة دي، حد يملي الفراغ الهائل اللي سابته صفاء، أنا كتبت فيها تلات أربع دواوين منهم واحد انتقامي اسمه ' أنياب دراكولا سقطت'0
علي فكرة هيا سمعت قصيدة جواب إلي خائنة وبعض القصايد اللي كنت بعذبها فيها مثل انت طالعة فيها خالص بعد كدة بحوالي خمس سنين في لقاء جمع بيننا، قلت لها القصايد كلها، ولم تكن قد تزوجت بعد، كان مكتوب عليها بس، وكانت هتتجوز بعدين، كنا وقتها هي في السنة النهائية في كلية التربية الرياضية وأنا في السنة النهائية بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، لأني طبعا سقطت سنة والحياة مشت بيا شويا ودا موضوع تاني.

الخليفة
أبي رحمة الله عليه كان نفسه يعمل ماجستير ودكتوراه ، مكنش مكتفي بكونه خريج أزهر ومعاه العالمية في أصول الدين وأنه إمام وخطيب مسجد محلة مالك، وكان مثله الأعلي عمه الشيخ 'محمد الدناصوري' وهو أسطورة في العائلة وبلدنا كلها، وأنا طوال الوقت فكرتي عنه انه فعلا حد استثنائي، وأنا صغير كنت اشبهه أما بالرسول صلي الله عليه وسلم وإما بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، كنت أحس انه يشبه الرسول أو أبوبكر.
الشيخ محمد الدناصوري كان رجل دين، أستاذ وعالم في الأزهر، وكان صاحب 'البفة' بتاع الشيخ عبدالمنعم النمر وبيصار والشعراوي وأي اسم من الوجوه اللامعة في المجال الأزهري والديني كان بالتأكيد من أصدقائه طبعا الشيخ محمد قصة طويلة، انت فكرتني، دي عاوزة رواية لوحدها، عمي الشيخ محمد وعائلته وأولاده، يا سلام، وزيارته لينا في البلد كل صيف، هو وأولاده وزوجته، كان يقيم في القاهرة وعنده عربية ملاكي لها سواق مخصوص يسكن جنبنا في محلة مالك واسمه محمد يونس، المشكلة أن الحاجات دي بتغريني بالكلام الشيخ محمد كان المفروض أن يكون خليفة لأحد الأولياء، وأحد الأولياء هذا كان اسمه الشيخ 'أبوالتنا' وكان له مقام ومولد في البلد، وعيلتنا من غطرستها سمته 'أبوالتنا الدناصوري' وطبعا بقي خليفته منها، ويقال انه مدفون في محلة مالك ويا عالم اذا كان مدفون ولا مش مدفون، ويا عالم ينتمي لأي عائلة، أو هو موجود وألا مش موجود أساسا، وكان ليه منافس في محلة مالك اسمه الشيخ 'دربالة' ودا كان لسه حي، وكان ابنه يعده ليكون قديسا جديدا لمحلة مالك في المستقبل بإذن الله، والشيخ دا كان ملتحي ولابس سبحة كبيرة في رقبته وقاعد علي كرسي علي الجسر في مدخل البلد طول النهار، ولم يكن يصلي ولا يفعل أي شيء مما يفعله المسلمون، فقط يجلس علي هذا الكرسي ليراه العابرون وهما رايحين جايين، والناس كانوا يعتقدون فيه، ويقولك 'الشيخ دربالة دار راجل بركة'.
الشيخ محمد الدناصوري كان الخليفة المنتظر ل 'أبوالتنا' لان عمه، أبو جدي، كان هو الخليفة ولما مات لم يكن هناك أليق من ابن أخيه المتعلم الشيخ محمد الدناصوري، ولكن لأنه كان فطنا وذكيا قالك خليفة إيه ومش خليفة إيه، وهركب الحصان وامشي في البلد ويزفوني الرفاعية والكلام ده، وأنا مالي ومال الخوتة دي، وراح مدبس أبويا في الموضوع، وأصبح أبي الخليفة، في ذلك الوقت كان شابا، خريج أزهر جديد، ورغم ذلك ركب الفرس، وأصبح خليفة المولد، ولف البلد علي الحصان وسط الطبل الزمر وألعاب الرفاعية، أنا كتبت الكلام دا في أمكنة، ودي حاجة من الحاجات البراقة جدا في الذاكرة.

أستاذي
أنا بدأت أكتب الشعر في أولي ثانوي، وبعد حوالي سنة قريت بالصدفة في المدرسة إعلانا عن أن قصر ثقافة دسوق عامل مسابقة في تحديد النسل ، مسابقة شعرية في الزجل، والقصيدة لا تقل عن عشرين بيت علي ما أذكر ولا تزيد عن مش فاكر كام بيت، والمكافأة خمسة جنيه، وسيطبع كتاب يضم كل القصائد الفائزة وسيوزع والناس تشوفه، وها يبقي فيه حفلة وأمسية وكلام من هذا القبيل، أيامها كنت في تانية ثانوي، وقلت دي فرصة عمري، فرصة لأن أكتشف نفسي وأختبر موهبتي، وفي النهاية أحصل علي قدر من المجد، وأنضم إلي قصر ثقافة دسوق وأتعرف علي الشعراء الآخرين، وقصيدتي تنشر في كتاب وأحضر أمسية وأقول فيها 0
كتبت أربعين بيت من تمن مقاطع، كل مقطع خمسة أبيات، أو خمسة مقاطع، كل مقطع تمن أبيات، الله أعلم أنا مش فاكر، بحيث تكون القافية ماتخرش الميه، والوزن، بقدر الإمكان، كان مظبوطا، وكنت محافظ علي أن يكون فيه سخرية لاذعة طوال الكلام من موضوع المسابقة تحديد النسل ، ومع هذه القصيدة، بل أثناء كتابتها أحسست أني انتقلت من أرض الهواة إلي أرض المحترفين، وأني كنت ضائعا، وأخيرا وقعت علي الطريق الصحيح، وأحسست أن هذه القصيدة أول خطوة في طريق المجد والنجاح، واتجهت مباشرة إلي قصر ثقافة دسوق.
كان مين مدير قصر الثقافة في ذلك الوقت ؟
كان الشاعر الكبير إبراهيم غراب رحمة الله عليه، أستاذي وملاذي، وأستاذ شحاتة العريان ومحمد بهنسي وأستاذ الجميع في دسوق، هو من اكتشفني .
إيه اللي حصل ؟
لازم تعرف أولا معلومة عن إبراهيم غراب !
إبراهيم غراب أشهر شعراء دسوق علي مر التاريخ، وكان مشهورا في بلدنا محلة مالك شهرة جبارة لأنه كان يكتب في السياسة، والسياسة في بلدنا هي العمودية، السياسة اللي تخص بلدنا هي العمودية، وإبراهيم غراب كان يكتب قصائد في تمجيد المرشح المنافس لجدي علي العمودية، وكان من الطرف المعادي لنا علي طول الخط، ولذلك ظل جدي غاضبا مني إلي أن مات لأني صاحبت إبراهيم غراب، كان يقول لي مالقيتش غير إبراهيم غراب عدونا اللدود ، والغريب أن الأيام تدور ويصير إبراهيم غراب وأبي أعز الأصدقاء، اتقابلوا في الغربة، في السعودية، وحبوا بعض جدا بس بعد ما انتهت كل حاجة 0
المهم اخدت القصيدة ورحت لقصر الثقافة عشان أقدم في المسابقة، وقابلني إبراهيم غراب، وسلم عليٌ وسألني إنت مين ؟ فقلت أنا أسامة الدناصوري ، فاستغرب جدا وقال أسامة مين، أسامة بهي قلت أيوه، قال انت ابن الشيخ بهي الدناصوري قلت ايوة، قال وبتكتب شعر يا أسامة فقلت ايوه بقالي سنة، فقال وريني كده وقرا وقال بص يا أسامة تعالي بعد أسبوع أكون قريت كويس وعرفت أتكلم معاك، أنا أخدت الكلام ومشيت، وقعدت الأسبوع كله تقريبا لا أنام، وبعدين رجعتله، ولا تتصور مدي الحفاوة والمحبة التي قابلني بها إبراهيم غراب، وقال لي انت اكتشاف، انت حاجة ماحصلتش، بص يا اسامة، في الربيع الجاي حفلة عن عيد ألام وعيد الربيع، وعايزك تكتب قصيدة عن عيد الأم وقصيدة عن عيد الربيع، ودي بقي هايحضرها رئيس مدينة دسوق والقصايد هاتنزل في كتاب فعلا. طبعا انا أول ما سمعت كده يئست من الخمسة جنيه والكتاب والأمسية اللي عن تحديد النسل، وقلت ان كل ده راح مهب الريح، وحط أملك في اللي جاي، عيد الأم وعيد الربيع، ورحت كتبت تحفتين فنيتين في عيد الأمومة وعيد الربيع، أول تحفة بعنوان إلي أمي في عيدها ، وكانت بالفصحي، وعبارة عن عدة مقاطع تكاد تكون عشرة أو اتناشر مقطع، كل مقطع تلت أبيات، وقتها كنت بدأت اقرأ نماذج شعرية، وكان عاجبني قوي التقطيع بتاع إبراهيم ناجي، تلت أو أربع أبيات ورا بعض، قصيدة رومانسية بمقاطع متعددة، ولكل مقطع قافية مختلفة، إلي الآن أمي لم تهتم بقراءة سطر واحد مما أكتب ولا يهمها أن تري أي شئ لي مكتفية بهذه القصيدة اللي كتبتها من كام سنة، من تلاتين سنة 0
قصيدة الربيع كانت بالعامية، وكانت بيتين بيتين بيتين، وكل بيتين لهم قافية، وكانت زجل، وكان فيها ابتكار وصور كانت بالنسبة لي نقلة كبيرة، وحسيت إني انطلقت فعلا، واني في مرحلة جديدة تماما، ومن يومها تم اعتمادي شاعرا، واعتمدني مين؟اعتمدني إبراهيم غراب.

البنات
نحن أبناء محلة مالك كنا ننظر لبنات دسوق نظرة المصري للباريسية في أواسط القرن التاسع عشر، وبالذات في اللهجة، لهجتهن كانت جميلة ولها إيقاع ساحر، حينما تتكلم الواحدة تشعر كما لو أنها تغني، إحنا فلاحين ونتكلم زي الصعايدة، نعطش الجيم وننطق القاف جيم، جالي وجلتله و جمهورية مصر العربية و جمال عبد الناصر، وفيه جفاف شوية في اللهجة، طبعا لهجة محلة مالك ليست قبيحة، بالعكس هي لهجة جميلة وتتمتع بوسطية ما بين لهجتي الريف والمدينة، كان جنبنا قرية اسمها السالمية وتبعد عن محلة مالك حوالي كيلو متر ولهجتها تفطس من الضحك، وكنا نسخر منها سخرية مرة، كانوا يمطون الكلام بشكل فيه مياعة مخجلة وبلاهة أيضا، وتحس أن الكلمات تخرج من الأفواه مائعة وبلهاء، بينما لهجة محلة مالك تكاد أن تكون لهجة دسوق ولا تختلف عنها إلا في موضوع الجيم والقاف، بل إننا تنادينا بأنه لا يوجد فرق بين لهجة محلة مالك ولهجة الإسكندرية إلا الحرفين دول الجيم و القاف'0
كنا نحب لهجة دسوق علي ألسنة الفتيات فقط، أولا دسوق كانوا معانا في المدارس، وكنا لا نكره أكثر منهم في لهجتهم وفي كل شئ، وكنا دائمي العراك معهم، محلة مالك زمرة واحدة يجب أن تتكاتف مع بعضها ضد أي مدينة أو أي قرية أخري، ودا موال طويل، انا هاحكيلك طرف بسيط منه 0
كان آخر يوم في امتحانات الإعدادية، وقبلها بحوالي أسبوعين وقعت علي ذراعي وأنا بلعب كورة كحارس مرمي لفريق محلة مالك، ودي قصة بالغة الكوميدية، طبعا مفيش حراس مرمي عندنا في القرية، وأنا كنت بدرب نفسي، ومن عبطي اترميت بدون كورة ووقعت علي دراعي وانشرخ وخدوني علي المستشفي وجبٌسوا دراعي 0
إذن كان ذراعي مجبسا في آخر يوم من امتحانات الإعدادية، وكنت أعلقه في رقبتي، ورحت أنا وزميلي وقريبي احمد عطية للكشك اللي جنب المدرسة مباشرة، رحنا نشتري بالونات عشان نعمل بيها كورة شراب، وأنا كنت أحسن واحد يعمل كورة شراب في محلة مالك كلها، وبعد ما اشترينا البالونات قابلنا واحد من حتة اسمها الكشلة وتقع علي الطريق بين دسوق ومحلة مالك، وهو طريق لا بد أن نمر عليه بشكل حتمي لو هانرجع ماشيين ع الجسر، والولد ده كان شقي شقاوة غير عادية وكان غتت غتاتة غير عادية، وسطا علي البلالين من محمد عطية، وادعي انها بتاعته، ولقينا نفسنا داخلين معاه في خناقة، بدأت ازاي، مبدأتش ازاي، المهم أنا كنت عارف إني معايا سلاح لا يقاوم، الجبس، جيت ضارب الولد بكوع الجبس ، الولد وشوا بقي بركة دم، ورحت واخد احمد عطية وطيران ع الجسر عشان نروٌح، متصورين أن الكشلة التي سنمر عليها مستحيل أن تكون عرفت بالخبر، ومشينا أنا واحمد عطية في أمان الله، وكان فيه نقطة دم أسفل الجبس مازالت موجودة ، وفوجئنا بان فيه اتنين رجال أو صبية كبار، أكبر مننا عموما، كل واحد معاه عصايا، نبوت، وجايين جري من الكشلة في مواجهتنا، وأول ما وصلونا قالوا في نفس والحد انتو منين قلناهم من محلة مالك واحنا بنرتجف، قالوا مين اللي ضرب الولد قولنالهم والله ما نعرف ، قاموا سايبنا ومكملين جري، ورحت واخد محمد عطية ومبطلناش جري غير في محلة مالك، ولولا كده كانت هاتبقي مجزرة كنت في عداد الأموات من بدري.

(أجزاء من كتاب الأيام العظيمة البلهاء)

****

كتاب شعب اليوريما


محمد المخزنجي

هناك كتب تفاجئك باستثنائيتها ، باستحالة تكرارها ، وباستحالة الحصول علي طزاجتها المدهشة مرة أخري ، لأنها ببساطة تجربة كل الحياة بالنسبة لكاتبها ، وكتاب كلبي الهرم .. كلبي الحبيب ، كان كذلك ، كتاب وداعي لعالم بحاله يكتنز داخله كل العوالم ، علي اعتبار أن الإنسان هو كون صغير في منظومة الكون الواسع ، كوكب أو نجم بأفوله لا تنتهي مفردة واحدة من تكوين كبير ، بل يختفي هذا التكوين الكبير نفسه من خلال اختفاء مفردة تعكس بحياتها صورته ، وحيث صورته لا تعود هي ذاتها بعد اختفاء هذه المفردة . هذا كلام لا مبالغة فيه لأنه محض شعور تلبسني إثر القراءة ، أما الملموس فهو صارخ أيضا لكن يمكن إقامة البراهان علي فرادته بيسر . فهذا الكتاب بفعله الإنقلابي في وجودي القارئ يشبه ضربة علي رأس لم يدرك أنه كان فاقدا لوعي ما ، إلا باستعادة هذا الوعي عبر الضربة التي تلقاها ، وهي ضربة من جمال وشجن واكتشاف يستحيل نسيانه . فالرحلة التي قادنا إليها أسامه الديناصوري كانت مفاجئة تماما ، رحلة كاشفة لوجود عالم آخر يكتنف عالمنا الذي نحيا مستسلمين لوهم كامل معرفته ، فهناك شعب آخر يعيش في تيار شعبنا ، دنيا مختلفة في كنف دنيانا ، هذه الدروب المجهولة كأنها أنفاق أو سراديب لا نراها ولا نعلم بوجودها لوحدات غسيل الكلي المبثوثة هنا وهناك في ثنايا هذه المدينة ، عيونها التي لا تغفو ، مرتادوها الذين ينسج التهديد المشترك بالموت فيما بينهم وشائج من حياة بالغة الرهافة ومفرطة الجمال برغم فزعة الدماء التي تغادر الاجساد في رحلة لا معقولة داخل الماكينات . عذوبة وأسي الوداعات التي تضاهي ألق وبهجة اللقاءات . جسارة الحياة التي تنتظر الموت بلا ولولة ولا عويل . ماهذا ؟ من أين كل هذه الروعة للكائن البشري الذي يحب ويصادق ويعانق ويدخن ويضحك ولا يكف عن ابتكار الاحتيالات الظريفة والنكتة ووسائل التكيف المعجزة بينماهو منذور لموت حتمي .. موت بهذه اليوريميا البيلة المتراكمة في دمه بفعل الفشل الكلوي عندما تنسد بالتليف والجلطات كل الوصلات المحتملة لغسل دمه ، وتستحيل عمليات ازدراع الكلي مع رقة الحال ومنافسات تجارة الأعضاء واختلال المنظومة الطبية في بؤس كل هذا الزحام البائس الذي نعيشه . إنها أغنية مذهلة للحياة وهي في قبضة الموت . أغنية تجعلك تحب الحياة وتحب البشر وتقول لنفسك مثلما قلت لنفسي كيف لم أعرف هذا العالم الموجود في عالمنا بهذا الغني ، لماذا أفلتت مني منحة معرفة كاتب جميل إلي هذا الحد . وليس الكاتب فقط ، بل الكتابة بالتأكيد ، فثمة نثر جميل ينبعث جماله من دقة المفردة وصفاء الجملة . وثمة صياغة للحوارات شديدة الألفة وبرسم مدهش في تحويل الشفاهي إلي كتابي لعل مرجعه خبرة كتابة قصيدة العامية . إنها كتابة جميلة بحق، وهنا تقفز مسألة التصنيف التي هي من شأننا وليست من شأن هذا الكتاب الجميل . فإذا كانت هناك مشاهد تم رسمها بكل هذه الألوان الأدبية الصافية ، الأخاذة والمقنعة ، وبناء متماسك لابد أنه خضع لعمليات حذف وإضافة يحكمها إحساس خبير بتوازن الإيقاع في العمل الأدبي . أي أن هناك تحقيقا لشرط الرواية في أحد تعريفاتها كونها فن مشهد وبناء . إضافة لتحقق الشرط البديهي للرواية كفن توظيف التفاصيل الصغيرة ؟ ماذا يتبقي ليكون هذا الكتاب رواية ، ورواية جديدة ملفتة ؟ مسألة الشخصية ؟ وهل هناك كتاب مقدس لرسم الشخصيات في الأدب ؟ إن الكتاب يفيض فعليا برسم لشخصيات عديدة بضربات رشيقة أشبه بعمل الانطباعيين ، وهناك استكناه عميق للشخصيات من خلال رصد حراكهم داخل المشاهد ، خاصة شخصية الراوي . وفي النهاية هذا ليس كتاب سيرة ، اللهم إلا إذا كانت سيرة فنية ، وهل الرواية ، أي رواية ، إلا سير ة مموهة بطريقة ما سواء لراويها أو المروي عنه . وسواء اعتمد النقاد هذا الكتاب البديع كرواية أو لا ، فإنه يظل كتابا استثنائيا يأخذنا في رحلة آسرة لعالم بين جوانحنا ، وأحباء لصق قلوبنا ، نكاد لا نراهم ، أو أننا لم نرهم بالجلاء والروعة التي قادنا إليها أسامة الديناصوري . لكم أشعر بالألم لافتقاده ، بينما لم يتح لي معرفته عن قرب من قبل !

****

حكاية من هاواي

لا أتذكر اللحظة التي يمكن أن أعتبرها بداية صداقتي الحقيقية بأسامة الدناصوري، كل ما أذكره أن أحمد يماني قبل سفره إلي أسبانيا كان سببا رئيسيا لتقاربنا، لصلتهما الوطيدة ولقائهما المتكرر.
وسفر يماني ترك مكانا شاغرا كبيرا في حياة أسامة، فأصدقاؤه القريبون علي قلتهم لديهم ظروفهم وحياتهم الخاصة، محمد بدوي في الجامعة وكذلك مجاهد الطيب، وعبدالحكم سليمان مع مرضاه لوقت متأخر من الليل وهيثم الورداني وأحمد فاروق سافرا إلي ألمانيا وإيمان مرسال إلي كندا.
كل ما أذكره أنه كان حريصا علي الاتصال بي بانتظام ودعاني لزيارة منزله وهناك تعرفت إلي زوجته سهير، ومع الوقت أصبحنا صديقين، نلتقي يوم الثلاثاء في الأتيليه، ومرة أو مرتين خلال الأسبوع في منزلي أو منزله، عرفت أنني أصبحت قريبا منه حينما بدأ يتحدث معي بلا مواربة خاصة ما يتعلق بشكواه من مواقف آخرين وما يعتبره أسرارا حربية لا يجوز أن أذكرها أمام آخرين: 'لما أموت ابقي انشر الكلام اللي باحكيهولك'، وكنت دائم السخرية منه فيما يتعلق بهذه النقطة، أؤكد له أنني لن أنشر حرفا مما يقول لأنه لا يهم أحدا: 'دا كل اللي يعرفوك في الحياة حوالي 50 واحد'. في الحقيقة كنت أعرف أن هاجس الموت أمر يلازمه في صحوه ومنامه، وكانت سخريتي محاولة لإبعاد هذا الهاجس عنه وعني أيضا فكثيرا ما كنت أشعر أن أسامة قد يغادر فجأة حينما يسقط مريضا وأري أحواله وشحوبه وضعفه الشديد وعدم قدرته علي الكلام.
بعد أن أترك أسامة وأعود إلي منزلي كان يتصل بي ليؤكد عليٌ ألا أذكر ما قاله لي أمام أحد وأؤكد له أنني لن أخبر إلا أصدقاءنا المقربين.
في الجلسات الخاصة يكون أسامة منطلقا، حديثه الآسر وسخريته ووجود شيء جديد لديه دائما كان يجبر الآخرين علي الإنصات، ولكنه كان يلتزم الصمت حينما يكون في الجلسة شخص غريب، يخشي أن ينقل كلامه إلي آخرين فيتسبب في مشكلة له.
ضعف سمعه كان دائما وأبدا مشكلة في التعامل مع الآخرين، حينما أكون ذاهبا إليه في المنزل كنت أدعو أن تكون سهير هناك لأنني أستمر في طرق الباب ورن الجرس لأكثر من نصف ساعة ولا يفتح، كان جاره يفتح باب الشقة الموازية ويقول لي: 'أنتظر سأتصل به'.
وبعد لحظات يفتح أسامة فأقول له بغيظ: أشمعني سمعت صوت التليفون؟ فيضحك ويقول: أعمل إيه أنت شكلك ما خبطتش كويس!
لمدة عام كامل كانت فتاة من 'هاواي' محورا للحديث بيننا. اتصل بي وقال لي إن هناك شيئا مهما يريد إخباري به ولكنه يخشي ¬ كالعادة ¬ من ثرثرتي كما أنه يخشي أن أخبر سهير مع أنه لا يفعل شيئا خاطئا.
كنت ألتقي به مساء الاثنين في 'ريش' ليبدأ حكي ما فعله مع فتاة 'هاواي' خلال الأسبوع.
عرفها بالصدفة علي 'الإنترنت' تحدث معها في كل شيء، أخبرته أنها في الخامسة والثلاثين، وتعيش بمفردها في مكان رائع، تستيقظ منذ الثامنة صباحا لتؤدي التمارين وتخرج إلي عملها، زملاؤها يحبونها، لا توجد لديها مشاكل مع أحد، تهوي القراءة، وأخبرها أنه شاعر وترجم لها بعض قصائده وأعجبت بها جدا..
تطورت العلاقة ، أرسلت إليه بصورها..
طلبت منه أن يريني الصور فوافق.. ثم أخبرني أنها أصبحت متيمة به: 'تقدر تقول : بقت مجنونة الدناصوري.. وأنها طلبت الزواج منه؟
قلت له: بسيطة قل لها أنك متزوج.
وفي صباح اليوم التالي استيقظت علي رنين التليفون ووجدته أسامة وكان منزعجا وطلب أن أقابله حالا. كانت السابعة صباحا وألححت عليه. هل حدث مكروه؟ ولكنه رفض الإجابة إلا حينما أقابله. التقينا علي مقهي في شارع جانبي متفرع من 'حسين المعمار'. قال: إن فتاة 'هاواي' قررت الحضور إلي القاهرة هذا الأسبوع، وأنه أخبرها بأمر زواجه، ولكنها مصرة علي العلاقة معه، تريد إنجاب طفل منه وستخرج من حياته نهائيا.
ضحكت بغل طبعا وقلت له إن هذه الفتاة 'بتشتغلك' وغضب وأكد أن الحكاية حقيقية مائة بالمائة ويريد أن يستشيرني ماذا سيفعل؟ نهضت وقلت له: عندك يماني أرسل في استشارته.
غضب بسبب موقفي واختفي أسبوعا ثم اتصلت به وسألته: هل جاءت؟ وجدته حزينا جدا فطلبت رؤيته. أخبرني بأنها كانت قد اشترت تذكرة ذهاب وعودة وحزمت حقائبها لكنٌ حادثا أليما وقع، فقد فوجئت بشخص غريب في منزلها. حينما رآها انهال عليها بسكين وطعنها أكثر من 20 طعنة. وهي الآن راقدة في مستشفي هناك بين الحياة والموت. حينما لاحظ الشك في عيني قال لي: أنها أعطت أيميله لصديقة لها وهي التي أرسلت له لتخبره بحالتها. بعد شهرين عاد الحديث ليتجدد عن فتاة هاواي وقرب زيارتها للقاهرة.
في هذه الاثناء شاهدت بالصدفة فيلما خفيفا لتوم هانكس وميج رايان 'جالك ايميل' حدوتته قريبة الشبه بما يعيشه أسامة، غير أن البطلين يعيشان متقاربين. منذ هذه اللحظة كنت أناديه ب 'توم' وكان يتضايق وأخبرته أنني لن أناديه باسمه الحقيقي إلا حينما يعترف بفشل قصته وأن الفتاة 'بتشتغله' واتصل بي مرة ووجدته حزينا وهو يقول: 'بنت ال..... كانت بتضحك عليا'.
وضحكت وأنا أقول: 'معلهش يا أسامة، تعيش وتاخد غيرها'!

****

شجاعة كلاسيكية في مواجهة إنذار الموت


عبد الحكم سليمان

من خلال مزجه بين شكلين أدبيين (اليوميات والسيرة الذاتية) استطاع أسامة الدناصوري في العمل الأخير له كلبي الهرم...كلبي الحبيب أن يقدم لنا حياة كاملة، هي حياة روح كبيرة علي درجة عالية من الفرادة والقوة.بمزجه بين هذين الشكلين في هذا العمل،تمكن من الحركة الدائمة بسلاسة تامة بين مستويين زمنيين: المستوي الآني المحايث لزمن الكتابة ذي الطبيعة الأفقية المميز لكتابة اليوميات،أما المستوي الآخر المميز لكتابة السيرة الذاتية فهو المستوي الممتد طوليا في الزمن والذي تحقق من خلال الاستدعاء والتذكر المنهجيين.عكس هذا المستوي الأخير قدرة الكاتب علي وضع يده علي مدخل أو منظور من خلاله يمكن صف تفاصيل حياته المشتتة والمتناثرة علي صعيد واحد.فنجد الفشل الكلوي ليس مرضا...إنه أنا...أنا العادي جدا ، التبول اللاإرادي هو النار الهادئة التي نضجت عليها...، عالم الغسيل الكلوي...عالم الغسيل الواسع الممتد...عالمي .طبعا لم يكن ذلك صعبا بالنسبة لشاعر كبير علي علاقة وثيقة بالحيلة الأدبية،فأخذ يقدم لنا هذا العالم من خلال محطات دقيقة: التهاب الأعصاب الذي ترك علامات دائمة علي صمامات المثانة التي أصبحت مثانة شبه مجنونة،ونوبات الارتجاع منها إلي الكلي التي يتم تدميرها ببطء لكن بإصرار،ثم الفشل الكلوي وأخيرا الغسيل.
هنا لم يتوقف الكاتب كثيرا عند البعد المأساوي لمرضه لكنه تعامل معه بقوة مصدرها القبول بهذا القدٌر وتفهمه وعدم الفكاك منه،وأيضا بمواجهته وعدم القبول بإجراءات اعتبرها تتجاوز اعتداده بنفسه مثل إحداث سلس دائم للبول كحل جزري أو عمل فتحة علي جدار البطن تكون بديلا لإخراج البول كجزء ضروري في إطار عمليه نقل كلي.وحتي بعد دخوله مرحلة الفشل الكلوي،لم يتوقف عن حبه للحوم والأسماك ولا عن التدخين وأمور المزاج.ولكن الأهم من القبول وعدم القبول هنا وهناك هو المرونة العالية التي تمتع بها والتي وصلت حد التجاوز والتخطي،فنجده يكتشف قانونا للتعامل مع التبول اللاإرادي ¬سره المنيع ¬ ويري أن الفشل الكلوي الذي تأهب له طويلا ليس أسدا بل قطا أليفا فقط يعن له أحيانا أن يلهو مع صاحبه فيخمشه بأظافره.هذه الإستراتيجية طويلة المدي هي ما شكل مرتكزا قويا لحياة عريضة ملؤها الاستمتاع رغم كل الآلام.العديد من الحبيبات في كل مراحل العمر،كتابه الشعر والنثر،وفوق كل ذلك مسحه من الظرف والسخرية لا يمكن أن تخطئها عين قارئ فهو يجيب سؤالا عن صحته هكذا بمب والحمد لله.....أكتر من كده بقي يبقي افترا .و يؤلف دعابه حلوة عن ضعف سمعه ويقدم مرثية لعضوه الذكري أخذ منها عنوان الكتاب.
أما في مستوي كتابة اليوميات أصبحت الحياة بكل مفرداتها مادة متاحة للكتابة لينتقي منها ما شاء عاكسا قلقه المستمر تحت وطأة هاجس الكتابة.بل أنه بجرأة قدم لنا تفاعل المحيطين به مع المخطط الذي وضعه للكتاب موضوع الحديث والتطورات التي طرأت علي هذا المخطط.من ناحية أخري عكس لنا هذا المستوي لحظة بلحظة ذلك التوتر اليومي الخاص بالتدهور الوشيك لصحته ف العمليات وهي عبارة عن وصلة بين شريان ووريد يتم من خلالها تركيب أنابيب الغسيل أصبحت تتوقف بمعدلات عالية لتستنفذ كل الأماكن الصالحة في ذراعيه.أما الآن ونحن نتابع معه من خلال تلك اليوميات نري أن العملية الأخيرة والتي مني نفسه طويلا ألا تتوقف قد توقفت.ناهيك عن تليف معظم أوردة الرقبة والصدر بسبب القساطر المتكررة مما تسبب في ورم في الوجه.ومن علامات تدهور صحته الوشيك كما رصدها الكاتب في يومياته زيادة معدلات تجلط الدم داخل أجهزة الغسيل وظهور هشاشة العظام وتعرضه لأزمة صحية عاتية علي إثرها جهز نفسه للموت كما اعترف لداليا ¬صديقته الممرضة ¬ في مكالمة تليفونية،وقلقه من عدم رؤيته لمريض يغسل دمه أقدم منه وكأن 12 سنة هي العمر الافتراضي لهؤلاء الناس.
استطاع أسامة من خلال هذين المستويين أن يقدم ليس فقط حياته الخاص ولكنه قدم خريطة خاصة للمدينة تقوم علي العديد من المستشفيات ومراكز غسيل الكلي مثل مركز الاستقامة ومركز فيصل ووحدة الهدي وكذلك وحدة الزمالك ثم مركز الشباب 2 والبرج وشبكة كبيرة من عيادات الأطباء،ودخل بنا في تفاصيل عالم الغسيل الكلوي من حيث أنواع المكن والفلاتر والفروق بين مرضي التأمين الصحي والكومسيون الطبي،وعالم الممرضين والممرضات محترما بذلك خصوصية المجال وكأنه يقدم عالم الغسيل الكلوي في ذاته.
أعتقد أنه كانت هناك ضرورة ملحة لمثل هذه الكتابة.وإن كنت أختلف مع ما قدمه الدناصوري بخصوص هذا الغرض. لقد تحسنت صحتي عبر الكتابة...هي وليس غيرها من ساعدني علي الخروج من النفق المظلم الذي كنت ألبد فيه... .إذ يبدو لي أن هذه الكتابة قد تزامنت مع بداية فشل المرتكزات التي استند عليها طوال حياته وكأن المستوي الزمني الأفقي قد أوقف امتداد المستوي الزمني الطولي في نقطة حرجة.وكأن فداحة الوقائع اليومية كفيلة بتغيير أي خطط إستراتيجية حتي لو كانت ناجحة في فترة زمنية سابقة.فنجد في الصفحة قبل الأخيرة من الكتاب الآن والآن فقط أعيد التفكير بجدية في عملية زرع كلية جديدة... .أري ان تلك الشجاعة الكلاسيكية القائمة علي القبول بالقدٌر وعدم الفكاك منه قد بدأت تتغير وتبدو كوهم تحت وطأة إنذارات الموت المتكررة.فالقبول بالمرض شيء والإحساس بالموت شيء آخر.من هنا كان نوعا من القلق الذي لا يمكن التعاطي معه الا بالكتابة و الكتابة وحدها.
التزمت هنا بحدود هذا الكتاب كلبي الهرم...كلبي الحبيب ،أما المؤلف نفسه أسامة الدناصوري ¬صديقي ¬ فلم يحن وقت التجرؤ عليه بعد وإن كنت أشك أنه سيحين في أي وقت.

الكتاب : كلبي الهرم...كلبي الحبيب
المؤلف: اسامه الدناصوري
الناشر: دار ميريت ¬ 2007


***

لم يتخلص من سطوة إبراهيم غراب عليه إلا بالقاهرة

أحمد وائل

العلاقة بين أسامة الدناصوري وعمه خيري تدعو للتأمل، فمن الممكن اعتبارها حالة خاصة من الشد والجذب وإن كانت لأهداف إبداعية، حيث كان خيري الدناصوري ¬ العم الأصغر للشاعر الراحل¬ مثل ابن أخيه هدفا لتهكمات ونكات العمدة جد أسامة¬ اللاذعة التي كان يناوشهما بها كل فترة..يقول خيري الدناصوري: كان أسامة عندما يقول لجده أنه متجه إلي الإسكندرية للمشاركة بأمسية شعرية هناك يعقب الجد قائلا:(رايح تشعر يعني) !.
ومن ناحية أخري كان هناك ثمة تعاون فني بينهما حيث تناول أسامة بكتابه الأخير، كلبي الهرم كلبي الحبيب ، تجربة عاطفية انتهت بديوانين، أحدهما بالفصحي والآخر بالعامية (لم يعرفا طريقهما للنشر ربما لأن الشاعر حذفهما من تجربته)، ومن الديوان العامي انتقي عمه خيري قصيدتين أصلي انتهيت و من سكات حيث يكتب أسامة: وضع لهما لحنين مأساويين، متناسبين مع طبيعة الكلمات.والغريب، ظل إلي سنوات قريبة ماضية يغنيهما وبالأخص من سكات في جلساته الخاصة ..و هذه النقطة بالتحديد كانت بداية حديثي مع خيري الدناصوري، الذي كشف عن وجود أغنيتين أخريين كتبهما أسامة، إحداهما اسكتش غنائي يحمل عنوان السقا مات (قجدم خلال عرض تمثيلي لممثلي القرية الشباب)، وأغنية أخيرة كتبها أسامة بعد إلحاح من عمه..هي أغنية خوفي عليه ، ورغم أن الشاعر لم يضم أي من هذه القصائد بدواوينه الأربعة إلا أنها صدرت ضمن أحد الألبومات الغنائية لعمه، وبالتحديد ألبوم يا قلبها اسمعني

قمع انتخابي
الفرق في السن بينهما لم يكن كبيرا، عشر سنوات فقط، مما زاد من فرص وجود صداقة بينهما، عاشا ببيت الجد العمدة بمحلة مالك، وهو البيت الذي شهد طفولة أسامة الريفية، الجد كان أحد ابناء الحاج خير الدين، الذي نال عمودية محلة مالك عن طريق الانتخاب، لذا كان يحافظ علي مايسمي بتقاليد القرية، ربما كانت مقاومة الميل الشعري والموسيقي عند الحفيد والابن بالترتيب لأسباب انتخابية، فكان وجود ميل فني شبهة قد تؤثر في عدد الأصوات الانتخابية، لذا أبعد الجد المتنافس علي العمودية ابنائه وأحفاده عن القيام بما سيعتبر مستهجنا من جانب رجال وناس قريته..أصواته المرغوبة، وظل يعارض ابنه الأصغر خيري لفترة طويلة محاولا إقصاءه عن الولع بالمزيكا، مثلما قام الجد ومن بعده والد أسامة بمحاولات كثيرة لإبعاده عن الشعر..كان والده يردد عليه باستمرار جملة: (الشعر حيضيعك..ركز في دراستك)، ونتيجة لهذه الظروف نشأ التعاون بينهما، فقد كان خيري هو المستمع الأول لقصائد أسامة سواء كانت فصيحة أو عامية، وبالعكس بالنسبة لألحان العم.
ويقول خيري: كان مولعا بالقصيدة، وعضو بقصر ثقافة دسوق وقتها، وكان استاذه في هذه الفترة رئيس قصر الثقافة الشاعر إبراهيم غراب..(يمكنك اعتباره الأب الشعري لأسامة في هذه الفترة)، عرض أسامة علي غراب كل ما كتب من قصائد، والأخير كان يقدم له ملاحظاته وينصحه بتغيير كلمات محددة مع توضيح سبب تفضيله لكلمات مختلفة عن التي اختارها أسامة، هذا بالطبع بالفترة التي كان يكتب بها شعر التفعيلة، ولم يخلص من أبوة غراب له إلا بعد مجيئه للإسكندرية واختلاطه بمجالس الشعراء هناك وبالقاهرة، التي تعتبر الوسط الحقيقي للأدب والشعر .

نهاية الأسطورة
كانت أحداث الحياة تشد كلا من أسامة وخيري، ومنها انتخابات العمودية، الحدث الأهم بالبيت وبالقرية كلها، والتي كانت تنقسم إلي حزبين..عائلة الدناصوري وعائلة أخري منافسة، الاستعدادات كانت تأخذ عام قبل الانتخابات، فحسب ما يقول خيري كانت الولائم والسهرات دائمة بالبيت، يأتي الناس ليأكلوا طوال العام، كان البيت يحتوي عالما كاملا غنيا بالتفاصيل والنماذج، التي تتنوع بين مؤيد ومعارض ومنافق، كانت تلك التجربة مفيدة لأسامة وخيري عرفا الكثير عن طبائع الناس وكسبا خبرة الحياة داخل البيت،
سألته وهل لعب دور الداعية الانتخابي مثلا؟
فأجاب بأن أسامة لم يقم بهذا الدور لأنه كان صغيرا، ولكنه هو الذي كان يروج لأبيه بين رفاقه، ومن يلعبوا معه كرة القدم.
خاض جد أسامة انتخابات العمودية ثلاث مرات، ونالها مرتين متتاليتين أمام نفس الخصم، وعندما فاز الأخير بالعمودية، كانت حياة العمدة الدناصوري مهددة بالضياع، كل لتفاصيلها ستنتقل إلي بيت آخر، غرفة (السلاحليك) التي كان يحفظ بداخلها سلاح الخفراء، وبعدما يوزع عليهما الأسلحة يخابر المأمور (بتليفون العمدة) مقدما له تقرير عن عدد الخفراء و اسمائهم والاماكن التي سيحرسونها، التليفون هو الآخر سينتقل إلي بيت آخر، وكان مشهد انتقال هذه الأشياء التي تحمل ملامح وتفاصيل البيت محزنا لعائلة الدناصوري، راقب أسامة وخيري من البيت وفد ضباط من المركز جاء لينقل التليفون والسلاحليك لبيت آخر غير بيتهم.
العمودية والمكوث ببيت العمدة كان العمود الفقري للعائلة، وربما كان سبب سطوتها وقسوتها أمام الرغبات الفنية لابنائها فبعد واقعة خسارة العمودية، انتقل كل واحد من أبناء العمدة إلي دسوق، ويضيف خيري: انتقلت للزقازيق وتزوجت و أسامة انتقل إلي الأسماعيلية للدراسة بجامعتها ورسب في العام الأول، ثم أنتقل إلي كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، التقي هناك بعلاء خالد وآخرين، وظل هو وعلاء أصدقاء حتي توفي ..التفرغ للإبداع سمة من سمات العائلة، أسامة أحاط نفسه بحالة من التفرغ من خلال الأجازات الطويلة التي نالها نتيجة لمرضه، وعمه أيضا أخذ سنوات اجازة بدون مرتب للتفرغ للتلحين والغناء، ويعلق علي ذلك: يمكنك تسميتنا محترفي تفرغ !.

مزيكا
كان أسامة يحب الموسيقي، بل أنه كان يريد تعلم العزف بالعود ولكن حادث بسيط بينه وبين عمه أبعده عن تحقيق هذا الحلم ففي إحدي المرات أمسك أسامة بعود عمه، كان يحاول العزف، وحينما رأه خيري ممسكا بعوده الذي يحمل رقم 2 بعد أن تهشم الأول علي يد أحد الأصدقاء نتيجة (للمسكة) نفسها، صفعه خيري بشكل تلقائي، ويقول ملحن أعاني الشاعر الآن أن أسامة رحمه الله لم ينس أبدا هذه الصفعة.

****

سيرة صداقة

علاء خالد

تعرفت علي اسامة الدناصوري بعد تخرجي مباشرة في كلية العلوم جامعة الإسكندرية. فترة يائسة لايوجد بها أي أمل بمستقبل، كأنك خرجت إلي الحياة دون سابق معرفة أو تجهيز لها. كيف تعيشها، كيف تؤديها، كيف تفرح بها كحياة مفتوحة علي مصراعيها؟ كل فترات الدراسة السابقة، مهما كانت مشاكلها، إلا أنها كانت تضع حدودا للإحباط الذي كان يعتريني، تجعله يسير علي قضيبين. اليأس مسار ومحطة وصول وركاب. فترة الجامعة كانت كقطار يحمل جثة داخله، ولاأبالغ في وصفي هذا، فقد كنت أشعر أن مشاعر الإحباط أكبر بكثير من عمري ومعرفتي بالحياة. ربما كنت أتساءل هل هناك حياة أخري أعيد تمثلها، وابتديء كتاب اليأس من حيث انتهي الآخرون. لم اجد بجانبي نماذج تعينني علي تحمل الحياة، أو بها بعض من تشابه المواساة. ولكن هل بالفعل لم تكن هناك نماذج مشابهة، أم أن عيني لم تكن تري إلا فرادتها في كل شيء حتي في اليأس.

في تلك الفترة تعرفت علي أسامة الدناصوري، ولأول مرة أشعر بوجود علاقة ندية بها شيء نشط، خارج أي حسابات مسبقة أو توقع لها. كانت صداقات الجامعة وما استمرمنها، تدور في فلك عادي، غير مبهر، وغير محفز تجاه أخذ خطوات جادة تجاه حياتك، باستثناء طبعا البحث عن عمل. العثور علي عمل كان هو الحياة نفسها، ومايتطلبه من أوراق ودورات حاسب آلي ولغة إنجليزية، وتصوير مئات الأوراق وإرسالها إلي جهات مجهولة، لاتفصح عن نفسها إلا عبر رموز في صفحات الوظائف في الجرائد الحكومية.
أقصد بالعلاقة الندية، أن هناك صديقا تعمل له حسابا. بالتأكيد كل الأصدقاء الذين مروا كنت أعمل لهم حسابا ، ولكنه حساب تعرف مداه وحدوده، وتغمض عينك عن مكاسبه، لأنه بشكل ما سيكون في صالحك. أما العلاقة مع أسامة، ومع أصدقاء سأتعرف عليهم فيما بعد، فتشبه السباحة في بحر واسع متلاطم الأفكار والأمواج.يحتاج لبصيرة ولصدق ولرغبة في فهم الآخرين، وليس تأميم نظرتهم لصالحك. ففي تلك السن في بداية العشرينيات من عمرك من الصعب أن تمنح الحياة لأحد نضجا مبكرا وقدرة علي تحليل الأمور، وإن كان بها مسحة رومانسية أو مثالية. ولكن أسجل هنا أن كل أصدقائي، من خارج دائرة الفن والشعر، المجايلين لي في تلك السن المبكرة كانوا يمتلكون نضجا مضمرا، أو موهبة متفردة، ولكنه كان مخلوطا بخوف من ضياع موقعهم في الحياة، في التفوق، في القبض علي وظيفة عالية الأجر في إحدي الشركات الاستثمارية. عاشت الموهبة الشخصية مسخرة للحصول علي امتيازاجتماعي، ومع الوقت ومع مرور السنوات، انزوي داخل النفس كشاهد قبر نزوره في المناسبات. عند اسامة كانت الموهبة الشخصية والنضج المبكر مسخرين فقط للكسل وللبحث في هوية الشعر، وهوية الآخرين، في توطيد وجوده كمحب للأصدقاء.
بمعرفتي لأسامة تأكد لدي إحساس وموهبة كانت من الممكن أن تضيع، أو تنزوي كما حدث مع جيل كامل تفرغ للسفر للدول العربية من أجل العمل. حتي تاريخ لقائنا كنت مذبذبا بين طموح وأداة اجتماعية تستهلك معظم وقتي، وبين ذلك النزوع الشعري، والذي ليس عليه دليل سوي مباركة الأصدقاء وإعجابهم بما تكتب وتفكر فيه. وكذلك إحساسي الشخصي بأني أمتلك رغم كل هذا شيئا مختلفا ودافئا في نظرتي للحياة. ولكن أين تكمن قيمته أو مستقبله ؟ وكيف يصبح مسار حياة ؟ تلك هي الأسئلة التي كنت أعذب بها نفسي.
بجانب أسامة كانت هناك شلة اصدقاء تعرفت عليهم أثناء فترة الجامعة. وكانوا يتصلون بعالم الفن بحكم دراستهم بكلية الفنون الجميلة. وهم مهاب السيد ومحمد فتحي أبو النجا وياسر شحاته. كان لهم عالم غريب بالنسبة لي، ليس فقط كلامهم حول هذا العالم الغريب، بل أيضا سلوكهم اليومي الذي به مس من الفرادة. حتي ملابسهم المبقعة بألوان اللوحات التي يرسمونها، وكوفياتهم الفلسطينية، وهذا الفضاء الحر من العلاقات التي يتحركون فيه، وعدم التزامهم بمواعيد ثابتة للمذاكرة، كأن تحصيلهم يتم بالاحتكاك مباشرة بالحياة، مسرحيات وأفلام ونقاشات وعلاقات نسائية.
في تلك المراحل الأولي كان مهاب السيد هو الأكثر علاقة بروح الشعر، وكم أحسست بالأسي وهو ينشد قصيدة عبد الرحمن الأبنودي الخواجة لامبو . ظل الشعر بالنسبة لمهاب رهانا داخليا صامتا، ولم يأخذ طريقه إلي ديوان حتي الآن، ربما لأنه لم يتحول إلي طريقة حياة، علي الرغم من أنه كان أكثرنا أصالة في حيازة عالم غامض تعيش فيه الكلمات والأفكار، عالم من الأحاسيس المبتورة، ولكنه عالم كان له تقديره بالنسبة لي.

ساعدني أسامة في أن انحاز أكثر لعالم الشعر، وسط هذا العالم الذي بلا أمل، وبلا عمل، الذي كنت أحيا فيه. كان أسامة والشعر اكتشافين صنعا لي بعضا من التوازن. ليال وسهرات ومقاه، كنا نبني فيها حدود هذا العالم ونرسي فيه احلامنا ولغتنا وتصوراتنا عن القصيدة، بسهولة وبدون خجل يمكن أن اسرد أحلامي، بل رأيي الشخصي وهواجسي، بدون توقيفات أو انتقاد لها. في الوقت نفسه كنت متغاضيا عن تعثر اجتماعي، أو قل تورط اجتماعي كنت غارقا فيه، يتلخص في إحساس لم ينفصم بالأسرة، وتقاليدها وأخلاقها، وبصيص من رغبة في الصعود الاجتماعي. بينما أسامة لم يكن لديه مايبكي عليه، لم يكن محاطا بهذه الأجهزة النفسية والاجتماعية التي كانت تحركني، ربما السبب يرجع للنشأة في الريف، وكذلك انفصاله مبكرا بعد المرحلة الثانوية عن أهله وعائلته، وذهب وراء الدراسة في الجامعة، يربي نفسه ذاتيا، في شقق مفروشة سيقابل فيها غرباء، وسيتآلف معهم. وبعدها بسنوات سيكتب أسامة، عندما يترك الإسكندرية، ويذهب للإقامة في القاهرة، في حي فيصل، يكتب مخاطبا الكلاب التي تدور وتنبح في هذا الحي المكتظ بالسكان وبأشكال عشوائية من البنايات، وبخرابات وبقايا زراعات قديمة. يكلم أسامةالكلاب ويقول لها أنا ابن ريف مثلكم . انها كلاب مهاجرة مثله ولم تولد في المدينة. في لحظة الاغتراب هذه، يتذكر اسامة الريف، الذي ربما ولأول مرة يظهر في شعره الفصحي، ويذكر أبوته له، ولن يظهر هذا المشهد مرة أخري في القصائد.
هذا الأحساس الذي لازمه طوال حياته، لم يكن عنده مايبكي عليه، ليس لأنه لايمتلك شيئا، بل لأن ما يمتلكه ليس بقوة مايحلم به، . هذا الزهد الذي جعله لاينازع أحدا في طابور. كان متخلصا إلي حد بعيد من أمراض الصراع. ولكن كانت شعريته ووجوده الشخصي هما مكانا الاستثمار، ومكانا الصراع والامتياز. فلم يكن يقبل بأي مساس بهما، لذا كانت كرامته الشعرية والشخصية، شيئين لايقبل النقاش أو المساس بهما.
صديق جديد دخل في علاقتنا، وكان وجوده حاسما في ضبط إيقاع هذه العلاقة، وهو المرض.بعد معرفتي بأسامة بقليل، بسنة علي الأكثر، بدأت اكتشف هذا المرض المقيم في جسده. لا أتذكر هل حكي لي، أم كان ينتظر أن أري بنفسي إحدي أزماته الصحية، والتي حتما ستأتي ستأتي، فلم يرد أن يعجل بالتصريح بها. عرفت أنه نزيل بالمستشفي الميري بالإسكندرية. ومن هذا اليوم بدأ مسار جديد لعلاقتنا. كنت خلالها أقضي فترة التجنيد في مرسي مطروح. في أول يوم من إجازتي أذهب لزيارته بالمستشفي، كأني ذاهب للقاء هام. ساعة أو ساعتان أو ثلاث من الدردشة والقراءة وتبادل القصائد. كل هذا كان يحدث داخل عنبر المسالك البولية بالدور الخامس بالمستشفي الميري، ومن حولنا مالايقل عن خمس عشرة نزيلا. تحول المرضي إلي أصدقاء لي، وقبل ذلك بالتأكيد تحولوا إلي أصدقاء لأسامة، كانت له القدرة والموهبة الشخصية في صداقة الناس علي تنوعهم، كان يكتشف فيهم ذلك الجزء الفني والدرامي الذي يجعلك تمضي عقدا علي بياض، دون أن تنظر لأي شكليات، وانما تنظر مباشرة إلي القلب.
أصبح أسامة هو الصديق الذي يوجع قلبي عند تذكره؟. من كثرة زياراتي له، وطول فترات إقامته بالمستشفي، نشأت علاقة أخري بيني وبينه، خليط من المسئولية والتعاطف. أصبح هناك شيء يمكن أن اقدمه له بتفان، وأساهم في تخفيف الألم. ولكن لم أخف سعادتي وفرحي بتلك الجلسات الطويلة. في إحدي الزيارات، وأتذكر أنني وصلت مساء، اقتربت من سريره وتعانقنا كالعادة، ولكنه هذه المرة لم يفض العناق، واختبأ بدموعه في صدري. كان موقفا مؤثرا لي وللنزلاء في العنبر. واتذكر أن جاره في السرير المجاور، الفلاح البسيط الذي كان يحمل سرطانا في مثانته، وكان عند قيامه من النوم يرفع رأسه مباشرة لأعلي ويقول : 'صباح الخير ياربنا . هذا الجار استغل خروج اسامة من العنبر لقضاء أمر ما، أسامة بيعزك قوي ، وربما أضاف إلي أهمية الحفاظ علي هذه الصداقة.
بالفعل كان البكاء علامة هامة، خصوصا عندما يصدر من أسامة، الذي نادرا، وربما لم أره يبكي إلا هذه المرة، بالرغم من تعدد حالات الموت التي تخللت صداقتنا. كان أسامة يمتلك بنية نفسية قوية، لها القدرة علي ضبط إيقاع أي فوران يمور داخله، ليحفظ صورته في عيون الآخرين، ولكن الوجه كان يفضحه، ويكشف هذا الغضب. لم يكن هذا هو قانونه في كل تصرفاته التي تخص علاقته بالآخرين، ولكن في تصرفات أخري كان أبعد من أن يحافظ علي صورته، كان يحافظ علي إيمانه بنفسه وبفكرته في تلك اللحظة، مهما كانت متعارضة مع نظرة الآخرين. كان يمتلك مكانا مقدسا لايقبل النقاش، ومكانا قابلا للنقاش والتحول.

كان أسامة واحدا من شعراء الكلية المهمين، وكانت الندوات الشعرية في ذلك الوقت، في منتصف الثمانينيات، مازالت تجذب إليها الكثير من الحالمات. إحداهن انخطفت بهذا العالم الشعري واصبح أسامة قريبا إلي قلبها. كانت مترددة في الاقتراب منه اكثربسبب خطبتها لطبيب. عندما تعرفت علي اسامة كانت صديقته هذه هي إحد موضوعاتنا اليومية عندما نلتقي، وربما كانت العنوان الرئيسي لنقاشاتنا، بجانب الشعر طبعا، ولكن النقاش حولها كان يأخذ ايضا طابعا شعريا، تحليلا وتفنيدا للمواقف والحركات والسكنات. كلنا كنا شعراء في زمن ما. المهم صرت صديقا لها أيضا من خلال هذه النقاشات. تحليل الحياة لم يأت فقط من ساعات الوحدة أو السأم، أو النظر الي الذات بعمق من اجل البحث عن حل لها، بل من الاقتراب من قلب المرأة، الذي كان يحتاج إلي جلسات وجلسات نسهب فيها في رصد تلك المشاعر الخبيئة، والتي لم نعهدها في محيطنا الذكوري. ضمن أي تعريف عن المرأة، هي أيضا فكرة شعرية غامضة.
المهم صرت صديقا لصديقة أسامة، وكنت في نظرها، أيضا، أحد الحالمين الذين ينتمون لهذا العالم السحري، الذي اسمه الشعر. أرضاني هذا الانتماء، فلم يكن لدي أي عالم انتمي اليه، وكذلك كنت خالي الوفاض والبال من أي علاقات نسائية، أو حتي أشباحها. توطدت علاقتي بصديقة أسامة، وخاصة في الفترة التي أصبح فيها نزيلا في المستشفي. نتقابل صدفة، أو عن عمد، ويدور حديثنا حول الشعر وأسامة، حتي أنني كنت أصل في حديثي معها لدرجة من الشجن والقشعريرة في الجلد وجفاف في الحلق، لاتأتي إلا في حضور انثي.بالتأكيد كنت أبغي أن أسرب لها صورة جميلة عن نفسي، عن مقدار إيماني بهذا العالم. كل هذا كان يتم بكلام غير مباشر، كان الشعر هو الوسيط لتمرير النيات اللامرئية.
في إحدي المرات ذهبنا سوية لزيارة اسامة في المستشفي في عنبر المسالك البولية في الدور الخامس بالمستشفي الميري. سبقتها إلي عنبر الرجال، وأخبرت أسامة ليلحقني إلي الخارج حيث كانت تنتظر وفي يديها باقة ورد. وانسحبت أنا في الظل. قضيا بعض الوقت في الكلام والدردشة. وكم كان أسامة سعيدا بهذا اللقاء، تنتابه في تلك المواقف روح جزلة ويصيبه بعض الارتباك الفرح. انتهت الزيارة وهبطت معها. سافرت إلي الجيش ثم عدت في أول اجازة إلي أسامة في المستشفي، وهنا أتوقف عن تلك الأيام الطويلة التي كان يقضيها داخل هذا العنبر، الذي مهما كان غني مرضاه وسعته، إلا أنه في النهاية لايرشح إلا فكرة الموت. عدت إليه وقد كانت له طريقة ذكية في تقصي النفس، ولكنه لم يقترب من قريب أو بعيد لخصوصية علاقتي بصديقته، التي لم تعد في حاجة إلي برهان. كان راضيا عن هذا الإطار المتشابك والمعقد الذي تدور فيه علاقتنا الثلاثية. وهنا أتوقف أيضا عند سمة من سمات أسامة، هواستمتاعه بتلك العلاقات المعقدة، الذي بها صراع وحرب وسوء فهم، كان هذا الحس يشبعه بشكل ما، حتي ولو كان غير مدرك أو متعمد، فالذات نفسها رتبت أوضاعها علي تقبل الحياة والآخرين من هذا الجانب.
ربما بعدها بسنوات طويلة علي هذا اللقاء، وبعد انتهاء علاقتهما وانحياز صديقته لاستكمال رحلتها مع خطيبها الطبيب. بعدها بسنوات صارحني أنه كان يعرف وكان راضيا عن مشاركتي الصامتة والغيبية في العلاقة. لم يقل لي هذا مباشرة ولكن عبر قصيدة كتبها يشرح فيها تلك العلاقة الثلاثية، فلا يمكن للشعر أن يتخلف وتمر من أمامه الحياة بدون القبض عليها بقوة، وتخليدها. في القصيدة يوضح قدر صداقته لي، ولكني الآن أثق أيضا بعد هذه السنوات أن وجوده في العلاقة كان جزءا حاسما في انجذابي لها.

لم تكن لدينا أي انتماءات سياسية كما حدث مع الأجيال السابقة. بالرغم من أن فترة الجامعة كانت مشحونة بتغيرات سياسية وبسيطرة الفكر الديني المتمثل في الجماعات الإسلامية علي روح الجامعة. في هذا الوقت كانت هناك مجموعة من رموز المعارضة تقوم بدور فعال في مواجهة السلطة المتمثلة في السادات.في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات تشعر في المناخ العام للبلد بوجود روح جادة سواء في الصحافة أو المعارضة، لها صوت ومواقف وتضحيات.ولكنها لم تكن مشبعة أو يمكنها أن تشكل ثقافة، وربما ستكون هي نهايات مرحلة وستأتي مرحلة أخري ستخفت فيها أي روح مقاومة أو تطالب بالتغيير أو حتي تفكر فيه، أو تضحي من أجله.بمعني ما اننا نشأنا في ظل مشروع سياسي ميت، أو في لحظاته الأخيرة. تحمل في داخلك شذرات من وجوه ومواقف وكتابات وتضحيات، تجعلك في مكان الرافضين للوضع القائم. وقد تحولت مصر كلها إلي موقع الرفض، لاستشراء الفساد، وتحول الرفض إلي مهنة يومية للناس وللشباب، أصبح رفضا بلا روح. وربما هي بدايات لحظات الاستسلام، الذي ستفصح عن نفسها بعد ذلك عندما سيتحول المجتمع ويعلن عن وجهه الحقيقي.
ليس معني أن ألا تكون لك انتماءات سياسية، أنك تعيش في كون فارغ من المعني. كانت هناك مجموعة من الأخلاق الخاصة التي ساهمت في تكوين وعينا الجمالي والشعري. ولكن هذه الأخلاق لم تكن غايتها المواجهة أو تغيير المجتمع، بل انصبت في تكوين وعي جمالي بالقصيدة والكتابة له اتصال وثيق بالحياة الهاربة من القصائد. وسيتأكد هذا الوعي فيما بعد ويكتسب وجها سياسيا، عندما يتجه إلي الوجود الشخصي والوعي الشخصي من أجل تغييره. كأنك تدفع دينك للمجتمع ولكن عن طريق شخصي وليس عن طريق الآخرين.
أعتقد أن أهمية هذه اللحظة الفارقة، أننا دخلنا الشعر والكتابة من بوابة فردية، عصامية. فلم يكن هناك تصور جاهز لوظيفة الشعرسوي أنه يكتشف الحقيقة ويقلل الغموض من حولك. أن تتحول الكتابة إلي شكل علمي في حقائقه، وتقريبها من الحياة بقدر الإمكان، فالحياة هي مكان الحقائق او المعاينة أو التدقيق.وأعتقد أن مثاليتنا، ولأن بها هذا النزوع الفردي، كانت مرنة، وقابلة للصدام والتحول، وأن تكون كذلك بداية طريق وليس نهايته، وأن تتعلم منها وتطورها. فالصبغة الشخصية سمح بأن تظل بعض الخيوط في يدك.
كان لدينا رفض جمالي لشعريات مطروحة في الكتب، لذا تحولت القصيدة إلي خليط من نص إيديولوجي بديل عن أي نص كبير تخلي عنه المجتمع والثقافة. كانت القصيدة والكتابة مثل مانيفستو مفتوح يوميا في البيوت والمقاهي والبارات، ليصقل بخبرات فردية وجمالية متعددة، لتأريخ اليوم أو صيد أحد عناصر السيرة الشخصية، أو اجتراح جرأة. كنا نتطور مع ما نكتبه يوميا. علي الأقل أصبحت هناك خريطة للأشياء التي يجب إعادة النظر فيها.
ولأن النص، والأخلاق من قبله، كان يبني بعصامية وبفردية، فكان الصدام بين هذه الفرديات لامحالة فيه، بين هذه الرأسماليات الشعرية والإنسانية. ولكن كل فردية، أو كل واحد منا، ومن ابناء هذه اللحظة الشعرية واللحظات التالية لها، ساهم بشكل ما في صناعة وتحديد ملامح هذا النص الكبير الذي يكتبه أبناء جيل واحد، كما قال أسامة في حديث له. هذا النص الذي تم التخلي عنه من قبل الثقافة والحياة السياسية والمجتمع بصفة عامة. وهو أيضا نص التفهم، ليس من اجل الشعر فقط، بل من أجل إعادة صياغة علاقتنا ببعضنا البعض، لقد كانت الفردية هي البداية للفهم ويمكن أن أقول للحب، نعم الحب الذي غاب كثيراعن الثقافة، وإلا بماذا أفسر هذا الإحساس بالفقد الذي نشعره جميعا، نحن أصدقاء اسامة، لرحيله. ويمكنني هنا أن أتكلم عنهم، لي الحق في هذا الآن، لأني اعرفهم جيدا، وأسامة أحد أسباب هذه المعرفة والتفهم. يتجاوز الموت وظيفته في الفناء ويتحول لطريقة لحب الحياة. احيانا أشعر أننا أبناء ثقافة التخلي، ولاأعرف مامدي مصداقية أو حساسية هذه الكلمة. ربما لأن بها مسحة أبوية، نعم مسحة أبوية أو أمومية، الأم الكبيرة والأب الكبير... لم يكن هناك مايشبع روحيا، إلا هذا التشابك الذي صنعته العلاقات، والصداقات، جعلتنا نحتمل فراغ تلك اللحظة ونتحمل عبثيتها.
من نجيب محفوظ وحتي الان رواية الحياة بها الكثير من اليتم، والبطولة المأساوية. لايمكن ان افهم هذه السيرة الطويلة لليتم وللتراجع، وللفردية المهشمة، حتي وإن بانت أنها تملك بزمام نفسها، إلا أن هناك قدرا اجتماعيا فاعلا وناشطا بقوة، قدرا لم نكن ضحايا له، بقدر ماكنا نحاول أمامه. حب الثقافة التي جعلتنا نقتتل ونمارس الكثير من العنف علي أنفسنا وعلي الآخرين هي نفسها التي جعلتنا نكون أفضل من الأول. كل الأصدقاء الذين التقيتهم من لحظة حبي للكتابة وحتي الآن، من كانوا يملكون حاسة الزهد، وان بدت أحيانا كنوع من الشره للصعود والتفوق، جميعهم الآن يملكون حقيقة القدرة علي الاستمرار. من نجيب محفوظ وحتي الآن هناك سيرة طويلة لتقبل الحياة، بعد أن أصبحت ثقيلة علي الفهم والقلب، ولايمكن تصنيفها كحالة مرضية فقط، أو كحالة نظرية، ولكن هناك أفرادا عاشوا داخل هذا الواقع، وقدروا أن يصنعوا كونهم الصغير والحيوي. من نجيب محفوظ وحتي الآن هناك أناس غير معروفين يحاولون أن يقللوا من أخطاءالحياة والمجتمع، ومن فداحة الكارثة.

أعود لأسامة، عن طريقه انفتحت أمامي طاقة جديدة من الأصدقاء والعلاقات الشعرية. طوال فترة إقامته بالمستشفي كان يحدثني كثيرا عن صديقه وبلدياته شحاته العريان. يتحدث عنه بإعجاب ويحفظ عن ظهر قلب بعض قصائده العامية. وبدوري كنت مهيأ لهذه الصداقة. لم تتوافق مواعيدنا لنلتقي في المستشفي، كانت الكلمة المعتادة التي أسمعها من اسامة عند ذهابي له شحاته لسه ماشي . إلي أن التقينا بعدها بسنوات في القاهرة، وكان اسامة هو بداية خيط طويل سيمتد لسنوات ويصنع ذاكرة، وأيضا سيصنع مستقبلا. تعرفت علي مجموعة من الشعراء والمحبين للكتابة، مجدي الجابري، صفاء عبد المنعم، مسعود شومان، محمود الحلواني، ومحمد بهنسي، مجاهد الطيب، إيمان مرسال، عبد الحكم سليمان. وبدأ يتوضح لي شكل جديد من أشكال الثقافة في القاهرة.
كان مجدي الجابري هو المجمع لهؤلاء الأشخاص من خلال ندوة اسبوعية كان يقيمها في بيته في حي الكابلات. نوع من الثقافة المنظمة التي لم أعهدها من قبل، لها جذور ثقافية وسياسية في مجتمع القاهرة الثقافي. المركزية تعطي مشروعية سياسية وثقافية لمجموعة قليلة من الناس، ترشح أكثر الحس الجمعي في التفكير وفي الخطاب. كان يتم اختيار موضوع للنقاش، سواء كان مجموعة قصائد يقوم مجدي بإدارة سمحة بتصويرها وتفريقها كمنشورات علي الشلة، ليتم مناقشتها في الجلسة القادمة.لم تتوقف النقاشات عند هذا الحد، بل امتدت لتاريخ المصريين، وتلك القضايا التي تخص البلد وتاريخها وتاريخ طبقاتها. كانت المناقشات بها هذا الحس السياسي والذي لاينتمي لاتجاه بعينه، ولكنه مرتبط باتجاه إنساني لطبقات اجتماعية وسطي، بدأ دورها يذوي في الحياة العامة في مصر. لذا فقلوبنا لم تكن خالصة فقط للنقاش، بل تراقب مكانها المستقبلي في مجتمع لاينظر إليها. كانت المجموعة تسعي لتكتسب نظرة كلية عن الحياة تمنحها بعض الأمان المفتقد.
ما أتذكره من هذه الجلسات هو طيبة وسماحة صدر وصمت مجدي الجابري، واطباق البطاطس المحمرة نأتي بها من المطبخ القريب من جلستنا، وصواني الشاي والقهوة ومنافض السجائر التي سرعان ماتمتليء عن آخرها، وعلب السجائر المفتوحة في أكثر من مكان، وكما وصفها أسامة في إحدي قصائده التي كتبها عن مجدي الجابري بعد وفاته، والتي كانت تدل علي حديث لن ينتهي إلا بانتهاء هذه العلب المفتوحة، وكذلك أن تتكلم وانت آمن في وجودها. يمكن للسجائر من أن تؤرخ للحظات سعيدة عاشها شعراء وأدباء كثيرون، لايهم الصنف، فالحديث يضفي علي أي شيء مذاقا رائقا. وحتي أسامة نفسه كتب هذا في كتابه الأخير كلبي الهرم.. كلبي الحبيب فقد كان يؤرخ للحظات صفائه وخروجه من نوبات الاعتلال التي كانت تنتابه في الفترات الأخيرة من حياته بمدي إقباله علي التدخين، التدخين كان مؤشر صحة واقبال علي الحياة بدون أن ينتقص منها شيء تحبه. وفي جلساتنا لم يكن لها معني بدون أن يخرج سيجارة من علبة سجائره ويقدمها لي كأنها ثمرة فاكهة، وعندما أصد يده أشعر بعتب صامت لأني لم أشاركه هذه اللحظة استمتاعه بالحياة القصيرة. نعم كانت الحياة قصيرة بحساب العمر، طويلة بحساب علب السجائر المفتوحة علي مصراعيها. وعندما كنت أنصحه بأن يراعي صحته قليلا، كان يبتسم ابتسامة سريعة، ولا أقوي علي المزيد من النصائح.
بعدها تتشعب خيوط الأصدقاء، وتتداخل، سأتعرف علي ياسر عبد اللطيف، وأحمد يماني، ومحمد متولي، وعلي أجيال أخري وذائقات أخري في مجتمع الكتابة والثقافة بشكل عام. وهناك أسماء كعلامات في هذا النص الإنساني الخفي الذي كنا نكتبه جميعا، أحمد حسان، هيثم الورداني، أحمد فاروق، إبراهيم عباس، مجاهد عبد البر، سهام، إسلام العزازي، حسني حسن، محمد المزروعي، إبراهيم المصري، مهاب نصر، عبد العزيز السباعي، ضياء مهران، إيناس خميس، محمد فتحي، سهام نورالدين، علي عاشور، عادل عصمت، وسلوي رشاد، وسهير زوجة أسامة، وأسماء أخري. جميعهم اشتركوا في كتابة نص بدون تزامن فيما بعد.

حب الشعر الذي جمعني بأسامة، كما كان سببا للقرب، كان أيضا سببا في اختلاف وجهات النظر الجذري، ربما من خلال الشعر كانت تمرر آراء لايحتملها هشاشة هذا البناء وحساسيته، ولكنه كان القناة المتفق عليها لنقول خلالها كل مانريد _ عن قصائدنا، عن رأينا في الآخر. وفي ذلك الوقت كان الشعر هو وثيقة الحياة اليومية التي تكشف فكر الشاعر، فكان سهلا علينا أن نحاكم الشاعر أو نحييه من خلال قصيدته. ربما لايوجد في الحياة أو الفكرما يمكنه أن يكشف الوعي والتاريخ الشخصي، حتي الشعر، ربما يؤلم أو يجعلك تتعاطف، ولكنه ليس كل الحقيقة. لذا كانت الأدلة خادعة، ومايثبت قلة حيلتها، أن اختلاف الطرق والمسارات ومرور الزمن أنسانا جميعا تلك الأدلة التي كنا نجمعها، أنسانا أصلا أن هناك جريمة وإدانة، وأثبت أن الأخطاء مهما كانت فادحة، فالقلب والرهان الشخصي قادران علي أن يكتبا النجاة للرحلة. ربما لانتعلم من أخطائنا، ولكننا نتعلم من الرحلة ككل، مادام هناك بقية من الحياة، فالمعادلة تتغير أطرافها، وكذلك نتائجها، ويأتي الموت ليضحك في وجه كل التنظيرات والحسابات.
اختلاف وجهات النظر بيننا وصل إلي سنوات باردة كانت فيها العلاقة مجمدة، وفي حدها الأدني. وربما يرجع السبب أن كلا منا كانت له عصاميته في بناء فكرته، وكذلك اعتزازه بنفسه الذي كان يمكن أن يجرح بسهولة. هذه العصامية مهما كانت قوية وواعية، إي أنها بها مأزق الإحساس الفردي، وهو التعصب. برغم من ان الكلمة سيئة في حساب الفكر إلا أن التعصب كان في لحظة أداة للمعرفة، وللحماية وللإنصات لصوت داخلي.
ولكن مهما وصلت درجة الخلاف بيننا، كنت أري أنه أصبح عمودا رئيسيا في حياتي، لايمكن تجاهله أو الالتفاف حوله. أفكارنا ليس بالضرورة هي ماتعبر عنا، هناك الذاكرة، وهناك الثقة، وهناك التعاطف، اليس كل هذا يمكن أن يكون كلمة الصداقة. وهي التي يمكن أن تعيش بجوار أي سوء فهم متبادل. كان لأسامة تقدير حاسم لفكرة الصداقة، فكرة تتجاوز سوء الفهم أو حتي العداء. ويمكن أن أري جذور هذه الفكرة من ناحية فنية، فقد كان مغرما بالتعقيد البشري، بتلك الذوات التي تحمل طبقات متباينة داخلها. وهي إحدي مواهبه في الحياة، التي ستقبل بها لأن هناك من يصدقها ويعمل بها، تقبل الآخرين بدون أن يتناسي الشك والحذر والخوف من الصورة التي يراه بها الآخرون. له قصيدة دالة جدا بالنسبة لي، وهو مامعناها أنه يريد أن يلبس طاقية إخفاء ليري مايقوله عنه الأصدقاء بعد انصرافه. إذن موقعة الحب وسوء الفهم والخوف وكشف السر والرهان تتعلق بالأصدقاء دون غيرهم، رصيده في الحياة.

لابد وان نعرج علي المرض في حياة اسامة لأنه سيوضح أشياء أكثر تركيبا في شخصيته، فهي العلاقة الذاتية وشديدة الخصوصية التي نمت دون شكوي منه. كانت العلاقة تدار بصمت تحت قشرة الصخب التي كان يحيط بها نفسه. أفكر ماذا يفعل عندما ينفرد بنفسه، دائما ما أتخيل اشخاصا عندما يعودون إلي وحدتهم يجلسون لساعات في انهيار حتي يعودوا إلي لملمة أنفسهم. أسامة لاأعتقد انه كان واحدا من هؤلاء، كان المرض متشعبا في كل تفاصيل حياته لدرجة أنه اصبح أصلا من الأصول، حتي ولوكان به خلل، فهو أصل غير قابل للتغيير، والتسامح هو أقرب الطرق اليه. هذا التسامح لم يأت مرة واحدة ولكن عبر تحولات وازمنة دقيقة ومحطات مر بها المرض في جسده ليكتسب في النهاية تحولا صوفيا. قوة تحمله لايمكن إغفالها في هذا السياق، ولكني أري أنها تفسير مباشرا، ومن الممكن أن يحوزها الكثيرون، وفي أمراض أكثر شراسة وألما. الفشل الكلوي موت طويل الأجل، نعم هناك موت ولكنه مؤجل، وبحسب الأمل الذي داخلك سيطول زمن الموت. أليس التعايش مع الموت، كحقيقة أو مجاز، هو من أهم التجارب الإنسانية لاكتشاف الذات والحياة والآخرين، هي التجربة الأكثر نضجا وصعوبة ؟ لقد منحه الموت زمنا ليتعايش معه ويتقبله كصديق غائب، ويوما ما سيعود فاردا جناحيه.
شيء آ خر ولده المرض، وهو حرصه في التأنق الجسدي، وليس الشياكة، أنها شياكة تخص الأعضاء ةليس الملابس التي ترتديها. فقد رفض أسامة أن تجري له عملية مبكرة تمنع رجوع البول للكلية، عن طريق تركيب مايشبه كيس خارجي، خارج الجسم، يتم تصريف البول عن طريقه، مع علمه أنها الطريقة الوحيدة التي ستؤجل عملية الغسيل الكلوي. كذلك رفضه لتركيب سماعة بعد أن ضعف سمعه في السنوات الأخيرة من تأثير ألمضادات الحيوية. كلها اشياء تدل علي رغبته الشديدة في المحافظة علي شكله الظاهري، علي نظرته المعتزة بنفسه، حتي ولو علي حساب الزمن المفترض للحياة. ليس مهما إطالة الزمن، المهم هو المذاق الجيد، وعدم تبدل نظرته لنفسه، التي يبدو انها حجر الزاوية، ومن أجلها كانت هناك الكثير من التضحيات. هذا الاعتزاز بسلامة الجسد، ومن قبله الاعتزاز بسلامة نفسه، كانا من أهم مميزات أسامة، هما مكان التضحية الشخصية والرهان الشخصي. فكل قرار يخص الحياة وطولها، كان يقف في الجانب الخسران منه، من أجل ألا يفقد أحساسه بها. هذه المعادلة الخاصة من الزهد والاعتزازبالنفس.

في السنة الأخيرة، ذكر اسامة أمام أحد الأصدقاء أن صداقتنا عمرها خمسة وعشرون عاما. حتي هذا الوقت لم اكن احسب عمرها، ولكني رجعت لنفسي لأعد تلك السنوات التي مرت سريعا، فوجدتها ثلاثة وعشرين عاما. فقد بدأت صداقتنا في عام 83، وتوفي أسامة في الرابع من يناير 2007، فبالتأكيد هذه الايام الاربعة لايمكن أن تدخل في حساب سنين الصداقة، ولكنها تدخل في حساب آخر، حساب بدون رصيد. فايامه الأربعة من العام الجديد كانت أغلبها صامتة، ليس فيها أي حديث متبادل بيننا، فقط لمسات مشجعة علي الكتف، وابتسامات هادئة، وأحيانا حديث مشجع من ناحيتي، وهو ينظر إلي ويبتسم، أو يتكلم بعينيه. حتي قبل الوفاة بيوم واحد نظر إلي، وامسك بيده اليسري، فقد كانت يده اليمني تؤلمه من أثر عملية حديثة فيها، وسلامه بيده اليسري أكثر بلاغة من اليمني، فهي اليد الاستثناء لسلام استثنائي. لم يحتج لكلام، فقد كانت نظرته وابتسامته الصافية كافيتان لوداع أخير.
اعود لحساب سنوات الصداقة، وجدتها ثلاثة وعشرين عاما بدلا من خمسة وعشرين. ولكن اختياره لهذا الرقم الكامل يدل علي أننا تجاوزنا بربع القرن هذا حتي السؤال عن عمق الصداقة. في هذا الرقم تسليم أن هناك شجرة كبيرة قاومت وصمدت وأثمرت، ان هناك شيئا غير قابل للتشكيك فيه. وربما كذلك الفرح به.هل كان هناك حساب خاطيء للسنوات؟ لايمكن أن يحدث هذا من طرف أسامة، ولكني أري أن هذه السنين مثل سنوات الحرب، تحسب فيها السنة للجنود مضاعفة، نعم كنا في حرب غير مرئية بها الكثير من الخسارات. سنتان هدية لاننا تحملنا فداحة هذه الحرب، هدية من العقل لحساب الكمال. ربع قرن من الصداقة، اصبحت لي صداقات عمرها ربع قرن، اصبح لي تاريخ لأتامله، ونقاط وجع ونهايات تتخلله، وأشخاص أحببتهم كما أحبوني ثم رحلوا، ابي وأمي واسامة، وبترتيب الاسماء حسب مواقيت الموت، وبترتيب تدرج الحزن، بتدرج استيعاب الحزن، هذه هي الكلمة المناسبة. عندما تفقد شيئا كبيرا كا لأم، عندها ستفهم معني الحزن، بدرجاته، بأطيافه، بقوته في أن ينتشر بهدوء تحت ثقل النشاطات اليومية العادية، ويمنحها إحساسا مطلقا، ولاتعرف من أين اكتسب وجودك هذا القدم الذي تري به الأشياء طازجة. يكبر الحزن كشجرة، لاتعرف من أي بذرة بالتحديد نشأت، لأنك ستعيش في هذا الظل الذي سيحفظ نفسك من السقوط، وربما هي مكافأة الحياة لي.

كل هذه القطع المتناثرة من صداقتي بأسامة، ومن مشاهد تخصه، ربما ترسم صورة الشاعر، أو الإنسان الذي كان له مثل أعلي يحاوره باستمرار. أو هي الموقع الجديد للذات التي تنتقل اليه عبر حياتها، مدفوعة بتصور مغروس فيها عن الإنسان الخاص والذات الخاصة ، وعبر مايطرأ عليها في الطريق كالمرض. لحدوث هذه النقلة كان لابد من التضحية، فحيازة معني خاص يحتاج لمجهود جبارفي لحظتنا هذه.

وربما كذلك أري كتابه الأخير كلبي الهرم... كلبي الحبيب من هذه الزاوية، أنه كتاب التضحيات. كان أسامة يكتبه كأن لاأحد ولامجتمع ينظر اليه، إلا المجتمع المفترض الذي سيقدر وضوح وصراحة هذه الذات. اختفت أي رقابة ذاتية، وظهرت لحظات الضعف والخجل والنزوات وبعض التفاصيل التي تخص مأساة مجتمعاتنا كعالم المستشفيات، ووضوح في كشف علاقته بأشكال التدين المزيفة، وكلها لم تظهر في شعره بهذه القوة.
في الوقت نفسه احتوي الكتاب علي إحصاء بأسماء كل أصدقائه الذين مروا علي حياته، وربما أغلبهم، جميعهم مذكورون بالاسم، لأنهم هم المجتمع الذي كان ينظر اليه ولايري غيره. بذكر أسمائهم هناك نوع من العرفان بالجميل، او كما قال صديقه محمد بدوي، هناك تسديد لدين في عنقه. وأري بها أيضا بعض المجاملة، ليس لأن أحدهم لايستحق هذا، ولكن هناك تسامح الذي يترك الحياة فيدعو الجميع إلي مأدبته. ألم يكن أسامة شخصا مجاملا، لايريد أحيانا أن يجرح أحدا؟ ولكنها مجاملة مغفورة هنا، لآنها تأتي من شخص يودع الدنيا، وهويعرف ذلك جيدا، وكذلك يرفعهم معه، وينقش أسماءهم في كتاب الموت هذا ليصحبوه في تلك الرحلة الخالدة.
في كتابه الأخير كلبي الهرم...كلبي الحبيب يكتب أسامة :
في إحدي سهراتنا القريبة عند هاشم. وإثر كلام دار بيننا عن الكتاب، وقرب
انتهائي منه، فاجأني حمدي قائلا
بص ياأسامة : بعد الكتاب ده تقدر تعمل اللي انت عايزه بقي.
تقصد يعني، إن أنا أقدر أموت دلوقتي وأنا مرتاح؟
عاوز تموت... موت.....أنت حر.
ثم يعلق علي هذا المشهد وهذا الكلام بين قوسين قائلا (وجعتني الملاحظة، بقدر ما ملأتني بالزهو).
زهو الكتابة يتساوي مع الشعور بدنو الأجل. أخيرا وجد الموت داخله معادلا واتزنت كفتا الميزان. وجد الموت أصدقاء أندادا، غير قوة التحمل او الزهد وكلها تقنيات دفاع. أما الكتابة من هذا النوع فهي خارجة من صميم الذات لترفض الموت بدون خوف. لم يعد الموت وحده هو من يسيطر علي حياته، ولكن الخلود أيضا، وهي إحدي وظائف الشاعر.

اخبار الأدب- 29 ابريل 2007


إقرأ أيضاً: