إزرا باوند
(مختارات)

ترجمة وتقديم: صبحي حديدي

إزرا باوندفي عام 1949 قرّرت لجنة تحكيم جائزة بولينغن الثقافية الأمريكية، المرموقة في القيمة المعنوية والزهيدة في المقابل المادي (ألف دولار أمريكي)، منح الجائزة إلى الشاعر الأمريكي إزرا باوند (1885 ـ 1972)، وكان آنذاك الشخصية الأدبية الأكثر إشكالية وإثارة للخلاف والسجال، على الأصعدة الجمالية والنقدية والأخلاقية. وزاد في جسارة القرار وحسساسيته أنّ الجائزة مُنحت للشاعر عن مجموعة القصائد التي عُرفت باسم "أناشيد بيزا" Pisan Cantos، التي كتبها باوند أثناء فترة احتجازه في برج بيزا على يد القوّات الأمريكية في إيطاليا، والتي اعتقلته بتهمة الخيانة العظمى.
غير أنّ لجنة التحكيم كانت تضمّ ثلّة من كبار رجالات الأدب والنقد في ذلك العهد، مثل ت. س. إليوت، روبرت لويل، و. هـ. أودن، وكونراد إيكن. ولهذا تولّد مذاك نقاش حول نتاج باوند الشعري، لا يكاد يغادر هذه المانوية: هل يمكن للشعر الذي يعبّر عن آراء شريرة (مثل تأييد الفاشية...) أن يكون عظيماً أو رفيعاً حقاً؟ ومن جانب آخر، إذا كان ذلك الشعر عظيماً ورفيعاً حقاً، هل ينبغي أن نلوم المعايير الأخلاقية والموقع الجماهيري للشعر في حدّ ذاته؟
والحال أنّ هذا النوع من "الحرب الباردة"، إذا جازت تسميتها هكذا، سوف تكتنف دراسة وقراءة شعر باوند منذ فترة مبكرة في حقبة ما بين الحربين الكونيتين، حين اقترنت بعض مواقف باوند بالفاشية الإيطالية، وحتى أيامنا هذه. وأمّا أكبر أضرارها فستتجلى في تعتيم منظّم، وبسبب من اتهامه بالعداء للسامية أيضاً، على إنجازات رجل يعتبر أحد أبرز آباء الحداثة الشعرية الأنغلو ـ أمريكية، والشخصية الأشدّ تأثيراً في ممثّلي وتيّارات وأساليب تلك الحداثة على امتداد القرن العشرين بأسره.
ولقد كان باوند شاعراً من طراز فريد، في ما يخصّ مهارات كتابة الشعر من جهة، ومهارات التجريب فيه والتنظير له من جهة ثانية، فضلاً بالطبع عن مكانته كناقد مثقف متمرّس لم يكن أعظم شعراء الإنكليزية في مطالع القرن الماضي (الإرلندي و, ب, ييتس) يتردد في تسليمه قصيدته ليُعمل فيها باوند ما شاء من تصحيح وحذف وتبديل؛ الأمر الذي كان حال شاعر كبير آخر هو إليوت، الذي عهد إلى باوند بقصيدته الأشهر "الأرض اليباب"، وكيف انتهت إلى ما نعرف. ويُقال، دونما مبالغة البتة، أنّ مجموعة القصائد التي تناهز الـ 120 قصيدة طويلة أو متوسطة، والتي كتبها باوند تحت عنوان موحّد هو "الأناشيد" The Cantos، هي الإنجاز الوحيد العظيم للغة الإنكليزية في ميدان النوع الملحمي، ربما منذ قصيدة ملتون "الفردوس المفقود"، التي تعود إلى القرن السابع عشر. و"الأناشيد" هذه تأملات روحية وفلسفية، وحفريات ثقافية وتاريخية مدهشة في الحضارة الحديثة، تعيد إنشاء أكثر من ألفي سنة من التاريخ الغربي، في مونتاج من الأسطورة القديمة والشذرة التاريخية والأغنية والحكاية. ولم يكن مدهشاً أن يحقّق هذا النصّ الفريد المعادلة الصعبة بين إحياء الكثير من عناصر التراث، وتجريب الكثير من أدوات الحداثة.
لكنّ باوند طوّر أيضاً مجموعة كبيرة من الأشكال الشعرية التي تميّزت ببراعتها اللغوية ومهاراتها الإيقاعية وتَمثُّلها الإبداعي لآداب آسيوية وشرقية، صينية ويابانية ومصرية وسومرية وكنعانية. وصاغ عدداُ من المفاهيم الأساسية للحداثة الشعرية الكونية، كما تتجلى هذه في المدرستين اللتين رعاهما، "التصويرية" Imagism و"الدَوّامية" Vorticism، وفي الكثير من الأعمال النقدية التي كتبها باوند تعليقاً على الشعر والشعرية. ورغم ما يُعاب عليه عادة من تعاطف مع الأنظمة الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، فإنّ غالبية دارسيه وقرّائه يقرّون بامتلاكه روحية المفكّر الراديكالي اللامع الذي أسبغ حيوية كبيرة على الأدب المعاصر، من خلال جملة التحديات التي طرحتها أشعاره وكتاباته وآراؤه النقدية.
ولد إزرا لوميس باوند في هايلي، آيداهو، ودرس في جامعة بنسلفانيا، حيث تعرّف هناك على الشاعر وليام كارلوس وليامز والشاعرة هيلدا دوليتل (هـ. د.)، ثم انتقل إلى نيويورك وحصل من جامعتها على درجة في الفلسفة، وعاد إلى بنسلفانيا لدراسة الماجستير في لغات الرومانس. وبعد تجربة تدريس عاثرة أبحر إلى أوروبا، مارّاً بفينيسا حيث طبع هناك مجموعته الشعرية الأولى "بذبالات خامدة" A Lume Spento، 1908. استقرّ باوند في لندن، ودخل الأوساط الأدبية لأمثال ييتس، فورد مادوكس فورد، وت. ي. هيوم، وسرعان ما حاز الشهرة كشاعر مع صدور مجموعته "شخوص" Personae، 1909، وكناقد في كتابه "روح الرومانس" The Spirit of Romance، 1910. ومنذئذ سوف يلعب دوراً حيوياً في تنشئة ورعاية عدد من الأدباء الطالعين، مثل إليوت وجيمس جويس، والإسهام الفعّال في الكثير من المجلات الأدبية مثل Poetry، وThe Egoist، وThe Little Review، وNew Age. تزوّج من دوروثي شكسبير سنة 1914، وفي سنة 1917 نشر أوّل قصيدة من الأناشيد، ثمّ أصدر مجموعته Hugh Selwyn Mauberley في سنة 1920، وغادر إلى العاصمة الفرنسية باريسن حيث أقام صداقات واسعة مع الدادائيين، جان كوكتو، إرنست همنغواي، وجرترود شتاين. وفي سنة 1924 غادر إلى رابالو في إيطاليا، وتفرّغ للأناشيد، وانخرط في دراسة الثقافة الصينية، مثلما انخرط في اهتمام لم يكن غريباً أبداً على شاعر مثله: إصلاح النظام النقدي العالمي!
وهناك أيضاً، بدءاً بالعام 1932، انخرط في صفّ موسوليني، ونشر كتاباً في الدفاع عنه بعنوان "جيفرسون و/أو موسوليني"، وبلغ حماسه للفاشية الإيطالية ذروته في الأحاديث الإذاعية الدورية التي كان يلقيها من راديو روما. وحين احتلّ الحلفاء إيطاليا سنة 1945، ألقت القوّات الأمريكية القبض على باوند وزُجّ به في سجن عسكري في بيزا، حيث كتب الأناشيد التي حازت على جائزة بوللينغن للشعر. وفي تلك السنة تعرّض لانهيار عصبي، أعلن الأطباء إثره أنه غير مؤهل نفسياً للمحاكمة، فنُقل إلى مصحّ عقلي قرب واشنطن قضى فيه 12 سنة، ثمّ أفرج عنه سنة 1958 بعد سلسلة من حملات التضامن التي نظمتها شخصيات وهيئات ثقافية على امتداد العالم. عاد باوند إلى إيطاليا، حيث تابع العمل على الأناشيد بصمت تام، إلى حين وفاته سنة 1972. ويُحسب له أكثر من 50 عملاً، بين شعر وترجمات شعرية، وكتابات نقدية وفلسفية وجمالية.
كان، إذاً، شاعراً وناقداً ومؤلفاً غزير الإنتاج متعدد الاهتمامات، ولكنّ الجوهر في كلّ نشاطاته كان إحياء الحداثة في الفنّ والمجتمع من خلال خلق وحدة جديدة بين الماضي والحاضر. ولقد نهل من كلاسيكيات منسية أو مهملة في الآداب الأوروبية والأمريكية والآسيوية (في وسع القارئ العودة، من أجل مزيد من التفاصيل حول هذا الجانب، إلى المادة الممتازة المكثفة في المجلد 112 من موسوعة Contemporary Literary Criticism، التي عدنا إليها مراراً في هذه المقدمة). ولهذا فإنّ شعره يمثّل مزيجاً فريداً من الأشكال العتيقة، والتضمينات المعقدة، والتجريب الطليعي، والمهارات الفنية العالية، والسيطرة البارعة على الشكل والمعمار. ومجموعته الأولى "بذبالات خامدة"، تعكس ميوله الغنائية الرومانتيكية المبكرة، وقربه من الموضوعات الكلاسيكية والقروسطية، فضلاً عن تأثره بشعراء مثل روبرت براوننغ، شارلز سوينبرن، وفرانسوا فيون. والمجموعات اللاحقة سوف تكشف المزيد من مهارات باوند الشعرية، والمزيد من تمثّله لأشكال الشعر الأوروبي الكلاسيكي، والأنغلو ـ ساكسوني، والفرنسي، والإيطالي، وشعر التروبادور في هذين البلدين، فضلاً عن الأشعار الآسيوية والمشرقية.
ولقد قاد المدرسة "التصويرية"، بوصفها حفيدة المدرسة الرمزية الفرنسية أساساً، فبشّر بضرورة أن يقوّي الشاعر التزامه بمبادئ الوضوح واللغة المحسوسة و"الكلمة المناسبة" le mot juste كما كان يردد بالفرنسية. وشخصية الناقد في مقالاته ليست أقلّ جاذبية من شخصية الشاعر في قصائده، خصوصاً في كتابه "كيف نقرأ"، 1931، حيث يفصّل القول في مفاهيم التشكيل اللغوي الشعري الموسيقيّ Melopoeia، والبصري Phanopoeia، والفكري Logopoeia؛ وكتابه "دليل إلى الثقافة"، 1938، والذي يتضمن آراءه في الأدب والفنون التشكيلية والثقافة والاقتصاد.
وكان اهتمامه بالآداب الصينية قد ترك أثراً عميقاً في شعره، وسرّع في ابتكاره منهج الفكرة المرسومة Ideogram، وهي توسيع لمبادئ المدرسة التصويرية بعد استلهام دقّة ومحسوسية الحرف الصيني. وهذا ما يبرّر استخدامه لمفردات أجنبية، وكتابات مصوّرة صينية، أو حتى سلالم موسيقية للتعبير عن حالات أو مفاهيم محددة. وكانت ترجماته من الشعر الصيني، والتي صدرت في مجموعة Cathay، فضلاً عن ترجماته لسونيتات الإيطالي غيدو كافالكانتي، بمثابة العلامات الأولى على ميله إلى الأقنعة الدرامية أو الشخوص الوكيلة التي تتيح استدخال الماضي في نظائر تنتمي إلى الحاضر. وإذْ اتكأ على الشاعر الروميّ سكستوس بروبرشيوس لإبراز الموضوع الملحمي، فإنه ابتكر شخصية "هيو سلوين موبرلي" لكي يقارب موضوعات السخرية السوداء، ويرسم كاريكاتور الإنسان الغربي المعاصر، دون أن يغفل الجوانب المأساوية للإنسان ذاته وهو يعيش شرط ما بين الحربين الكونيتين.
وليس في وسع دارس باوند أن يقاوم إغراء اقتباس وإعادة اقتباس العبارة الشهيرة التي أطلقها إليوت في وصف باوند، وذلك بعد زمن من الإهداء الشهير لقصيدة "الأرض اليباب" إلى باوند "المعلّم الأمهر"، في مقال مثير بعنوان "التفوّق المنفرد"، حيث يقول: "إنّ امرءاً يبتكر إيقاعات جديدة هو امرؤ يوسّع حساسيتنا وينقيها؛ وتلك ليست مسألة "تكنيك" فحسب. ولقد حدث أنني، في السنوات الأخيرة، أخذت ألعن السيد باوند مراراً، فلم أعد واثقاً البتة من أنني أستطيع نسب شعري إلى نفسي: كلما شعرت بالرضا عن ذاتي، أجدني أردّد بعض الصدى من إحدى قصائد باوند"! كذلك أضاف إليوت إنّ باوند: "مكّن عدداً من الأشخاص من بينهم أنا نفسي، من تطوير حسّهم بالشعر، وهو بالتالي حسّن الشعر من خلال الآخرين كما من خلال نفسه. وليس في وسعي أن أفكّر بأي شخص كتب شعراً، من أبناء جيلنا والجيل التالي، دون أن يكون شعره (إذا كان جيداً) قد تحسّن عن طريق دراسة باوند".

صبحي حديدي

***

الشجرة

إزرا باوندنهضتُ ساكناً وكنتُ شجرة وسط غابة،
عارفاً حقيقة أشياء لم يقعْ عليها بصرٌ من قبل؛
عن "دافني" وقوس الغار
وعن الزوجين العجوزين الضيفين على مائدة الربّ
اللذين استنبتا الدردارة والسنديانة وسط السهل المنبسط.
ولولا التضرّع الرقيق في كنف الآلهة،
ثمّ دنوّ الأرباب من المصطلى في قلب موطنها،
لمَا كان لهذه البدائع أن تُرى؛
ورغم هذا، ها أنني شجرة وسط الغابة
وثمة الكثير الجديد الذي أدركه
وكان، قبلُ، حماقة في بصيرتي. (1)

بعيداً عن مصر

أنا، حتى أنا، هو الذي يعرف الدروب
في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي.

لقد أبصرتُ "سيّدة الحياة"،
أنا، حتى أنا، الطائر مع السنونو.

الأخضر والرمادي رداؤها
تجرجر أذياله في طول الريح.

أنا، حتى أنا، الذي يعرف الدروب
في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي.

Manus animum pinxit
يراعي في يدي

لأكتب القول المقبول...
وههنا فمي ليشدو بالغناء الصافي!

مَن عنده الفم الذي يتسلّم النشيد،
أغنية اللوتس البلدي؟

أنا، حتى أنا، الذي يعرف الدروب
في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي.

أنا الشعلة الناهضة في الشمس،
أنا، حتى أنا، الطائر مع السنونو.

القمر لؤلؤة هائلة في مياه الياقوت الأزرق،
وباردة بين أصابعي المياه الدافقة.

أنا، حتى أنا، الذي يعرف الدروب
في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي. (2)

وهكذا في نينوى

بلى! أنا شاعر وعلى ضريحي
ستنثر الصبايا أوراق الورد
والرجالُ الغارَ، قبل أن يفلح الليلُ
في ذبح النهار بسيفه المظلم.

صاحِ! هذا الشيء ليس لي
وليس لكَ لكي تخفيه،
ذلك أنّ العادة عتيقة، عتيقة
وهنا في نينوى أبصرتُ
أكثر من صادح يمرّ ويحتلّ مكانه
في تلك القاعات المعتمة حيث لا أحد يعكّر
صفو منامه أو أنشودته.
وحيث الكثيرون أنشدوا أناشيده
بمهارة أعلى، وروح وثابة أشدّ منّي بأساً؛

أكثر من شاعر واحد سوف يتفوّق
على جمالي الذي تتآكله الأمواج،
بما لديه من رياح الزهر
بيد أنني الشاعر، وعلى ضريحي
سينثر كلّ الرجال ورق الورد
قبل ان يذبح الليلُ الضياءَ
بسيفه الأزرق.

وليس، يا "رعنا"، أنّ رنين أغنيتي هو الأعلى
أو أحلى في النغمة من أيّ سواها، بل أنني أنا
هنا الشاعر، الذي يحتسي الحياة
بأيسر ممّا يحتسي أغرارُ الرجال النبيذ.

العيون

إمكثْ أيها المعلّم، فإننا متعبون، متعبون
ونتحسس أصابع الريح
على هذه السقوف التي تجثم فوقنا
مخضلّة ثقيلة كالرصاص.

إمكث أيها الشقيق، وانظرْ ! الفجر يتململ
والشعلة الصفراء تشحب
والشمع يتناقص.

حرّرْنا، فإننا نندثر
في هذه الرتابة الطافحة الطاغية
لعلامات الطباعة القبيحة، وللأَسود
على الرقعة البيضاء.

حرِّرْنا، فثَمّ واحدٌ وحيد
لابتسامته نفعٌ أعمّ
من كلّ المعرفة العتيقة الدفينة في أسفارك:
وإليه سوف نشخص.

روما

("ثلاثاً سوف تنبعث روما" ـ
بروبرشيوس)

أيها الوافد الجديد الباحث عن روما في روما
والذي لا يعثر في روما على أيّ شيء نسمّيه رومياً؛
نبالٌ اهترأت من قديم وأماكن باتت مشاعاً،
واسم روما وحده يُبقي صفة الموطن بين هذه الأسوار.

أنظرْ كيف يمكن أن يحلّ الفخار والخراب
على بلد ضمّ العالم بأسره في شرائعه،
وكما غزا، هو اليوم يُغزى، لأنه
فريسة الوقت والوقت يأتي على الكلّ.

وروما التي روما ليست، بعدُ، سوى نصب واحد أعزل،
روما التي بمفردها اجتاحت روما التخوم،
وحده نهر التيبر، زائلاً عابراً دانياً من البحر،
يتبقى من روما. أواه أيها الكون، يا لسخريتك المتقلبة!
ذاك الصامد الراسخ في أزمانك ينحدر،
وذاك الفارّ الذي تولى، يسابق الزمن الخاطف. (3)

أنشودة الصاحب الطيّب


(سمعان الغَيور يتحدّث بعد
زمن قصير من الصلب)

هل فقدنا الصاحب الأطيب من الجميع
على أيدي الكهنة وشجرة الشنق؟
بلى، كان حبيب الرجال الأشدّاء،
والسفن والبحر العباب.

وحين جاؤوا جماعات لاقتياد الرجل سيّدنا
كانت ابتسامته عذبة للناظرين،
هتف صاحبنا الطيّب: "فلتطلقوا، أوّلاً، سراح هؤلاء !"
وأردف: "وإلا حلّتْ عليكم اللعنة".

وحين أطلَقَنا عبر الحراب العالية المتصالبة
وانسرحت السخرية في ضحكته،
"لِمَ لم تحتجزوني حين كنت أتجوّل
وحيداً في البلدة؟" هتف بهم.

وحين شربنا النبيذ الأحمر الفاخر في صحّته
ساعة اجتمعنا للمرّة الأخيرة،
لم يكن كاهناً سميناً صاحبنا الطيّب
بل رجلاً من صلب الرجال كان.

لقد رأيته يسوق مئة رجل
بحزمة حبال منفلتة متأرجحة،
لأنهم حوّلوا البيت العالي المقدّس
إلى مقام للميسر والدانق.

لن يفلحوا في استدراجه إلى الكتاب،
رغم خبث ما يسطّرون؛
فالصاحب الطيّب لم يكن فأر لفائف
ولكنه، بلى، أحبّ البحر العباب.

وإنْ ساورهم ظنّ أنهم اصطادوا صاحبنا الطيّب،
فالحمقى، كلّ الحمق، يكونون.
"سوف أذهب إلى الوليمة"، قال صاحبنا الطيّب،
"رغم أنني سأذهب إلى شجرة الشنق".

"رأيتموني أشفي الكسيح والكفيف،
وأحْيي الموتى"، قال لنا،
"ولسوف ترون أمراً واحداً يفوق هذا كلّه:
كيف يموت الرجل الشجاع على شجرة".

إبناً لله كان الصاحب الطيب
الذي أرادنا أن نكون أشقاءه.
رأيته يلقي الرعب في ألف رجل.
ورأيته معلّقاً إلى شجرة.

لم يصرخ صرخة واحدة وهم يدقّون المسامير
فينبجس الدم حارّاً طليقاً،
وحتى حين صارت لكلاب السماء القرمزية ألسنة،
ما سمعناه يصرخ صرخة واحدة.

مثل البحر الذي لا يطيق السفر
والريح عاتية طليقة،
مثل البحر الذي روّضه في "جَنّيسارَت"
بعشرين كلمة قيلت على عجل.

سيّد البشر كان الصاحب الطيّب،
ورفيق الريح والبحر،
فإذا اعتقدوا أنهم ذبحوا صاحبنا الطيّب
فإنهم الحمقى أبد الدهر.

رأيته يأكل شهد العسل
بعد أن سمّروه إلى شجرة. (4)

الملاّح

هل لي، بغية الحقيقة في ما أغنّي، أن أتلو
رطانة الرحلة، وكيف أنني في أيام
المشقة تحمّلتُ مراراً.
سكنتُ إلى مقامات الأسى المريرة،
وجيشان البحر الرهيب، وكيف قضيتُ هناك
ليالي الحراسة المضنية قرب رأس السفينة
وهي تغوص نحو الجرف. أوجعَ البردُ
قدميّ، وخدّرهما الصقيع.
جليدية قيودها؛ والتنهدات المتقرحة
تُفطّر قلبي مضغةً مضغة، والمسغبة تبعث
مزاجاً مَلولاً راكداً. مخافة أن لا يعلم الإنسان
أنه يقيم في أرض جرداء حبيبة،
أنظروا كيف أنني، أنا الفقير إلى الحنوّ، أجوب بحراً قارساً كالجليد،
نجوتُ من الشتاء، منبوذاً منفياً
مضيّعاً عشيرتي؛
معلّقاً مع ندف الجليد الصلبة، حيث تنهال رشّات البَرَدُ،
وحيث لا أصيخ السمع إلا إلى البحر العاتي
والموجة جليدية البرد، وصرخات البجع بين فينة وأخرى،
وحيث جلبة الطير ما ألهو به،
وصخب الكروان صانع ضحكتي،
وغناء النوارس كلّ شرابي.
والعواصف، تلك المتكسرة على الجرف الصخري، خرّت على مؤخر السفينة
بأرياش جليدية؛ وغالباً ما يصرخ النسر
والرشاش على جناحيه.
                    لا أحد من الحُماة
يمكن أن يدفع المرء إلى عوز الملاحة.
إيمانه واهن بهذا، هو الذي في الحياة البهيجة
يتحمّل الأعمال الثقيلة بين الدساكر،
ثرياً، منتفخ الأوداج من أثر النبيذ، وكم أسأم
وأنا أتصبّر على المياه المالحة.
ها هي تثلج في الشمال، قريباً من ظلال الليل،
الصقيع جمّد الأرض، وعلى الأرض تساقط البَرَدُ بعدها،
الذُرَة الأبرد. ومع هذا، تقرع للتوّ
فكرة في القلب تضعني فوق تيّارات عالية
أعبر، وحيداً، خضمّ الموج الملحيّ.
الرغبة تئنّ أبداً في قرارتي
فتجعل دأبي أن أرتحل، حتى أنني في البعيد منذئذ
أفتش عن مقام ناءٍ غريب.
فلا أرى في البَرّ رجلاً رقيق الحاشية،
حتى لو وُهِبَ الأعطيات الكريمة، فسيبقى جشع الشباب في حناياه؛
فلا فعله مع الجَسُوْر، ولا حُكْمه مع الوفيّ
سيخلّصانه من أسى السَفَر البحري
أياً كانت مشيئة سيّده.
ليس له قلب نَزّاع للقيثار، ولا اقتناء الخواتيم
ولا الافتتان بالزوجة، أو مباهج الدنيا
أو أيّ مثقال ذرّة آخر سوى شقّ الموجة،
غير أنّ الأشواق تستحثه كي يغذّ المسير فوق المياه.
الباسقة تزهر، وجمال العليق يتكشف،
حقول فسيحة للبهاء، واليابسة تدنو رشيقة،
وتراه، في غمرة كلّ هذا، يحثّ امرءاً توّاق الطبع،
والقلب يتلفّت إلى الترحال ريثما يخال
أنّه يغادر بعيداً على دروب الطوفان.
الوقواق ينادي بصراخ كئيب،
ويشدو لسيّد الصيف، منذراً بالأسى،
وبدم القلب المرير. وابن المعمورة ليس يعرف
ـ هو الرجل المنعم ـ ما الذي يكدّ له البعض
وإلام يقودهم دأب التجوال.
ولأنّ قلبي لا ينبجس من قفص صدري إلا الساعة،
وأطواري تتبدّى في غمرة الطوفان المحاذي،
فوق فَدّان الحوت، أجدني أرتحل طولاً وعرضاً.
ومن اتساع الأرض تتقاطر عليّ،
توّاقة وثّابة، طيورٌ عزلاء صارخة،
تشحذ القلب المستكين في درب الحوت،
وعلى مسالك المحيط؛ وإذْ، في كلّ حال، أرى
أنّ ربّي قد قَسَم لي هذه الحياة الموات
في الحلّ والترحال، فإني على يقين
أنّه ما من بقاء لأيّ رخاء دنيوي آبد
إلا ويعتريه شيء من البلوى
التي، قبل أن تحين ساعة الآدميّ، تقوّض الميزان.
السقم أم الشيخوخة أم بغضاء السيف
تجتث النَفَس من الجسد المكبّل بالقدر.
ومن أجل هذا ففي ناظر السيّد أياً كان،
ذاك الذي يتكلم بعد حين، خيرٌ له مديح القادمين من بعده
بدل الفخار بمحض كلمة أخيرة،
وخيرٌ أن يعمل قبل أن يتخطى الصفوف،
ويجنّب الأرض البديعة خبث الأعداء
بالأعمال الجسورة...
وبهذا سوف يكرّمه البشر أجمعين بعدها
ومديحه سيُخلّد بعدهم ويمكث في اللغة،
إلى الأبد، دائماً، نفحة حياة خالدة،
وبهيجة وسط الكرام.
                    أيّام تنقضي قصيرة
وكلّ ما في كنوز الدنيا من خيلاء،
لا تُبقي ملوكاً أو قياصرة،
أو أشرافاً واهبي ذهب مثل الذين بارحوا.
وأياً كان المرح عندهم فائقاً،
أو كانت رفعتهم في الدنيا عظيمة،
موحش كلّ هذا، ومباهج زائلة!
اليقظة واهنة، والدنيا بصيرة.
اللحد يخفي المشقة. والنصل خفيض واطئ.
مجد الدنيا يشيخ ويذوي.
لا أحد يذرع الدنيا،
إلا ويدركها العمر قبله، فيشحب وجهه،
وأشيب الشعر يئنّ، والأقران فارقوا،
والسادة الأشراف إلى تراب،
وأنى له أن يُكسى لحماً، في حياة تتوقف،
أو يذوق الحلو أو يخامره الأسف،
أو ترتعش له يدٌ أو يفكّر بقلب غامر،
ورغم أنه قد يجلل القبر بالذهب،
فإنّ أشقاءه في المولد، بأجسادهم في المدافن
لن يكونوا كنزاً مؤونةً له. (5)

العودة

أترى، ها هم يعودون؛ أترى
الحركات المترددة، والأقدام البطيئة،
الإضطراب في الخطوِ وتلك
التلويحة الحائرة!
أترى، ها هم يعودون، واحداً، واحداً،
بالفزع، بنصف استفاقة؛
كأنّ الثلج ينبغي أن يتردد
ويغمغم وسط الريح،
                    ثم يعود في نصف استدارة؛
تلك هي "المجنّحة بالرهبة"
                    التي لا تُنتهَك حرمتها

آلهة الحذاء المجنّح!
ترافقها كلاب الصيد الفضّية
                    تتشمّم أثر الهواء!

إليّ! إليّ!
                    تلك كانت الأسرع في الإغارة؛
تلك، ذات الرائحة النفاذة؛
تلك كانت نفوس الدم.

بطء على المقود،
                    شحوب يعتري رجال المقود! (6)

الربيع

"السفرجل الكيدوني في الربيع" ـ
إبيكوس

الربيع الكيدوني وموكبه المصاحب،
حوريات شجر الفاكهة وبنات المياه،
يخطرن أسفل ريح صخابة آتية من "ثراسي"،
في أرجاء مقام الآجام هذا
وينشرن النفحة المضيئة،
وجذع كلّ كرمة
كَسَته التماعات جديدة.
                    ورغبة ضارية
تسقط مثل برق أسود.
أيها القلب الواجف،
كلّ غصن استردّ ما فقده السنة الفائتة،
إلا هي، التي تخطر هنا وسط أزهار بخور مريم،
لا تسير الآن إلا شبحاً لصيقاً نحيلاً. (7)

مجاز الرقصة

لأجل العرس في قانا الجليل

يا سوداء العينين،
يا امرأة أحلامي،
ذات الصندل العاجي،
ليس مثلك بين الراقصات،
ليس لأيهنّ الأقدام الرشيقة.
لم أعثر عليك بين الخيام،
في الظلمة المنكسرة.
لم أعثر عليك عند رأس البئر
بين البنات حاملات الأباريق.
ذراعاك فتيّان مثل شجيرة تحت اللحاء؛
وجهك مثل نهر طافح بالمصابيح.

بيضاوان مثل زهرة لوز كتفاك؛
مثل لوزة طازجة سُلخت قشرتها؛
لا يحرسك المخصيون؛
وليس بقضبان النحاس.

اللازورد المذهّب والفضّة في رَخْص ساعدك.
بالثوب البنّي، بخيوط ذهب حيكت
رسوماً، التفّتْ قامتك.
أيتها "الشجرة اللابثة عند النهر".

مثل ساقية صغيرة وسط البردي يداك عليّ،
ومثل جدول صقيع أصابعك.

وصيفاتك بيضاوات كالحصى؛
وموسيقاهنّ تصدح بك!

ليس مثلك بين الراقصات،
وليس لأيهنّ الأقدام الرشيقة. (8)

ترنيمة المصاعد

I

لا تَبْرحيني أيتها الألوان الصينية،
فأنا أخال الشرَّ في الزجاج.

II

الريح تهبّ فوق القمح ـ
والفضّة تتكسّر،
ثمة حرب للمعدن خفيفة.

لقد عرفتُ قرص الذهب،
رأيته يذوب فوقي.
عرفتُ المقام ذا الحجر اللامع،
رواقَ الألوان الفاتحة.

III

أيها الزجاج الشرّير في خفاء، يا تشوّش الألوان!
أيها الضوء المنطوي المنحني، يا روح الأسير،
ما الذي يدفعني إلى الحذر؟ ما الذي يقصيني؟
لماذا يطفح بهرجُكَ بالريبة الغريبة؟
أيها الزجاج الداهية الأريب، يا مسحوق الذهب!
يا شعيرات الكهرمان، أيتها التقزّحات اللونية ذات الوجهين! (9)

"ليو تشي إي"

حفيف الحرير انقطع،
والغبار انثال على امتداد الفناء،
لا نأمة لوقع أقدام، والأوراق
تعدو إلى أكوام لتهمد ساكنة،
وهي، مبهجة القلب، تستلقي تحتها:

ورقة ندية تتلكأ عند العتبة. (10)

في محطة مترو

مرأى هذه الوجوه في احتشادها:
بتلات على غصن نديّ، أسود. (11)

أغنية الرماة في "شو"

ها نحن هنا، نجمع أولى براعم السرخس
ونقول: متى سنعود إلى أوطاننا؟
نحن الذين هنا لأنّ الـ "كين نين" هم أعداؤنا،
وليس لنا أن نخلد إلى الراحة جرّاء هؤلاء المغول.
ننقّب عن براعم السرخس الطرية،
وحين ينطق أحد بكلمة "عودة"، تطفح كلّ النفوس بالأسى.
أرواح ملأى بالأسى، والأسى شاقّ، ونحن جياع عطاش.
دفاعاتنا ليست حصينة بعد، وليس في وسع أحد أن يسمح بعودة صديقه.
ننقّب عن سيقان السرخس العتيقة.
ونقول: هل سيُسمح لنا بالعودة في تشرين الأول؟
الشؤون الملكية ليست هيّنة، وليس لنا من عزاء.
الأسى مرير في نفوسنا، ولكن هيهات أن نؤوب إلى أوطاننا.
ما الزهرة التي أينعت؟
                    عربة مَن هذه؟ للقائد.
جياده، حتى جياده، تعبت. هي التي كانت قوية.
لا نملك قسطاً من الراحة، بثلاث معارك في الشهر.
جياده تعبت، بحقّ السماء.
القادة يمتطونها، والجنود يحفّون بهم.
الجياد عالية التدريب، وللقادة سهام عاجية
                    وكنانات مطرّزة بجلد السمك.
العدوّ سريع المباغتة، وعلينا الحذر.
كانت أشجار الصفصاف تتدلى مع الربيع حين أتينا،
وها نحن تحت الثلج نعود،
نمضي ببطء، جياعاً عطاشاً،
روحنا طافحة بالأسى، فمَن سيلتفت إلى ما نحن فيه من شجن؟ (12)

أهل الجنوب في البلاد الباردة

حصان الـ "داي" يصهل في وجه ريح الـ "إيتسو" القارسة،
طيور الـ "إيتسو" لا تحمل الحُبَّ لـ "إين"، في الشمال،
العواطف تولد بفعل العادة.
البارحة خرجنا من بوّابة "الإوزة البرّية"،
واليوم من "يراع التنين".
الدهشة أصابتنا. اهتياج الصحراء. شمس البحر.
القمل يعجّ كالنمل على عتادنا.
الذهن والروح يتبعان الرايات المريّشة.
القتال الشرس لا يجزي شيئاً.
الولاء صعب التقسير. فمَن سيحزن للقائد "ريشوغو"،
الرشيق الخاطف،
الذي فقدنا رأسه من أجل هذه المقاطعة؟ (13)

في إطراء سكستوس بروبرشيوس

VI

متى، متى، وأنّى للموت أن يُسيل أجفاننا،
نسير عراة على طول "أشرون"
على الرَمَث ذاته ثمة الظافر والمهزوم معاً،
"ماريوس" و"جوغورثا" معاً،
                    كتلة واحدة من الظلال المتشابكة.

القيصر يتآمر على الهند،
ودجلة والفرات سيتدفقان، من الآن فصاعداً، بأمر منه،
والـ "تيبت" سوف يعجّ برجال الشرطة الروم،
وعلى البارثيين أن يعتادوا تماثيلنا
                    ويعتنقوا الديانة الرومية؛
رمث واحد على فيضان "أشرون" المقنّع
"ماريوس" و"جوغارثا" معاً.
وحتى في جنازتي لن تكون هناك قافلة طويلة
تحمل الأرواح الحارسة والرسوم؛
لا أبواق ملأى بفراغي أنا،
ولن تكون، أيضاً، على فراش "أتاليك"؛
                    الثياب المعطّرة ستغيب.
والموكب بسيط مبتذل.
                    يكفي، يكفي ويزيد
ستكون ثلاثة كتب في مأتمي
هي التي سأحملها، هديتي غير المتواضعة، إلى "برسيفون".

سوف تتبع الصدر العاري الحرون
ولن تسأم من مناداتي باسمي، كما لن تسأم كثيراً
من طبع قبلة أخيرة على شفتيّ
حين ينكسر العقيق السوري.

                    "ذاك الذي صار إلى تراب مهجور
                    كان ذات مرّة عبداً لشهوة واحدة":
ولتكتبْ المزيد
                    "لِمَ يتمهل الموت؟"
يحدث، أحياناً، أن تنعي صديقاً فقيداً،
                    فالعرف هكذا يقضي:
هذا الحرص على الراحلين،

ومنذ أن نطح الخنزير أدونيس في "إداليا"، وركضت
"أفروديت" باكية بشعر مرسَل،
                    عبثاً تسترجعين الظلال،
عبثاً يا "سنثيا". نداء الظلّ بلا مجيب،
                    والقول الصغير يأتي من العظام الصغيرة. (14)

النشيد XLVII

مَنْ الذي، حتى في مماته، يَقِظ البصيرة!
ذاك صوت تناهى في الظلام
عليك أوّلاً أن تسير في الطريق
                    إلى الجحيم
وإلى تعريشة "بروسربينه"، إبنة" سيرسيه"،
عبر طبقات الظلام الحالك، لترى "تيريزياس"،
كفيفاً كان، محض ظلّ، في الجحيم
مليئاً بالعلم الذي يجهله الرجال السمان،
قبل أن تبلغ نهاية طريقك.
                    معرفة ظلّ الظلّ،
وعليك أن تبحر بعد المعرفة
وأنت تعرف أقلّ ممّا تعرفه بهائم الوحش. phtheggometha
thasson
φθεγγώμεθα θα ̑θσσου
(فلنرفعْ أصواتنا دون إبطاء)
                    المصابيح الصغيرة تتدافع في الخليج
ومخالب البحر تتلقطها.
"نبتون" يشرب بعد جزر المحاق.
تمّوز! تمّوز!
الشعلة الحمراء ماضية صوب البحر.
واختبارك سيجري عبر هذه البوّابة.
من السفن الطويلة أَشْعلوا الأضواء في المياه
ومخالب البحر تتلقطها في الأمام.
كلاب "سيللا" تزمجر عند باطن الجرف،
والأسنان البيضاء تقضم أسفل الصخرة،
لكنّ الليل الشاحب يطفو بالمصابيح الصغيرة جهة البحر
                              Τυ Δώνα
                              TU DIONA
(أنت يا ديونا)
Και Μοῖρα τ̓ ’′Αδονιν
KAI MOIRA T' ADONIN
(والأقدار من أجل أدونيس)

مع أدونيس يصبح البحر مخططاً بالأحمر
والأضواء تلتمع حمراء في الجرار الصغيرة.
شتلات الحنطة تنهض جديدة قرب المذبح،
                    والزهرة من البذرة الخفيفة.
شِبران، شبران من المرأة،
وبعدها لا تؤمن بشيء. لا شيء يرتدي أية أهمية.
منكبّة على هذا. وفي نيّتها
ذلك المكر الذي تسمّيه النوايا المتقلبة،
سواء ليلاً حين تصيح البومة، أو أوان النسغ في الشتلة،
لا تكلّ، وليس لسبب أو بخدعة مؤقتة
تُستدعى العثّة إلى الجبل
ويركض الثور أعمى على السيف، naturans (وفقاً للطبيعة)
وإلى الكهف تُستدعى، يا "أوديسيوس"
بفعل نبات الـ "مولو" تأخذ قسطاً قليلاً من الراحة،
وبفعل نبات الـ "مولو" تتحرّر من ذاك الفراش
                    لعلك تعود يوماً إلى سواه
النجوم ليست في تعدادها،
هي عندها محض ثقوب جوّالة.
إشرعْ في حراثتك
حين تأوي نجوم الثريا إلى مهاجعها،
إشرعْ في حراثتك
فهي ستمكث 40 يوماً تحت سقف البحر
وهكذا ستمكث في حقول قرب سقف البحر
وفي وديان تتعرّج هابطة نحو البحر.
حين تطير الغرانق عالياً
فكّرْ بالحراثة.
اختبارك سيجري عبر هذه البوّابة
ويومك بين باب وباب
ثَوْران مربوطان للحراثة
أو ستة في الحقل
شحنة بيضاء تحت الزيتونات، وعلامة لإزاحة الحجارة،
والبغال هنا محمّلة بألواح إردوازية على درب التلّ
وما برحت هكذا.
النجوم الصغيرة تخرّ الآن من غصن الزيتون،
والظلّ المتفرّع شعبتين يسقط مظلماً على السطيحة
أكثر سواداً من طائر السنونو الطافي
الذي لا يكترث بحضورك،
وبصمة جناحه بقعة سوداء على آجرّ السقف
غبّ أن مضت البصمة مع صرخته.
وهكذا فإنّ الضوء هو ثقلك على كاهل "تيللوس"
والثلم الذي خلّقتَ لم يحفر عميقاً
وزنك أخفّ من ظلّ
ومع هذا فقد قرضتَ في طول الجبال
                    ناب "سيللا" الأبيض أقلّ حدّة
فهلاّ وجدتَ عشاً أنعم من الفَرْج
وهلاّ عثرتَ على مستراح أفضل
ألديك أساس أعمق، وهل عام وفاتك
سيجلب شتلةً أسرع نموّاً؟
هل دخلتَ في الجبال، عميقاً أكثر؟

الضوء اقتحم الكهف. أترى! أترى!
الضوء هبط إلى الكهف،
بهاء على بهاء!
بأزميل في يدي اخترقتُ هذه التلال:
ها أنّ العشب ينمو من جسدي،
وها أني أسمع الجذور تتحادث،
والهواء جديد على ورقتي،
والأغصان المتشعبة ترتجف وسط الريح.
هل "زيفيروس" أخفّ وزناً على الغصن، و"أبليوتا" أكثر ضياء على غصن اللوز؟
من هذا الباب دخلت إلى الجحيم.
يخرّ،
أدونيس يخرّ.
الفاكهة تلي ثانياً. الأضواء الصغيرة تتدافع مع المدّ،
ومخالب البحر تجرّ المصابيح إلى الأمام.
فكّرْ، إذاً، بحراثتك
حين تأوي النجوم السبع إلى مهاجعها
أربعون يوماً راحةً قرب سقف البحر
والريح في الوديان تؤوب صوب البحر

Και Μοῖρα τ̓ ’′Αδονιν
KAI MOIRA T' ADONIN
حين غصن اللوز يطلق شعلته
حين يُؤتى بالشتلات الجديدة إلى المذبح
Τυ Δώνα, Και Μοῖρα
TU DIONA, KAI MOIRA
Και Μοῖρα τ̓ ’′Αδονιν
KAI MOIRA T' ADONIN
التي لها القدرة على الشفاء
التي لها السطوة على الوحوش الضارية. (15)

النشيد CXV

(مقطع)

أهل العلم في فزع
          والعقل الأوروبي تعطّل
وندهام لويس اختار العمى
          بدل أن يتعطّل عقله.
ليل تحت ريح وسط زهر الآلهة،
          البتلات ساكنة أو تكاد
موتزارت، لينايوس، سولمونا،
حين يكره أصحاب المرء بعضهم البعض
          كيف يمكن أن يحلّ السلام في العالم؟
خشونتهم حَرَفتني في سنوات اليفاعة.
قشرة خارجية مستهلكة
          لكنّ لضياء يغنّي أبداً
وهج شاحب فوق السبخات
          حيث قشّ الملح يهمس لتبدّل المدّ
زمان، مكان،
          لا الحياة الجواب ولا الممات.
وللرجل الباحث عن الخير،
          أفعال الشرّ جزاء.
In meiner Heimat
(في موطني)
          حيث الموتى يسيرون
                    والأحياء صُنعوا من ورق مقوّى. (16)

(تُنشر هذه المختارات بالاتفاق مع فصلية "الكرمل" الفلسطينية، العدد 85، خريف 2005)

هوامش المترجم:

(1) قصيدة مبكرة تعود إلى عام 1908، وتُقتبس عادة كمثال على النزعة الغنائية الرومانتيكية التي اتسم بها شعر باوند في المراحل الأولى. في السطر 3، "دافني" في الميثولوجيا الإغريقية تحوّلت، بناء على طلبها، إلى شجرة زيزفون لتتفادى ملاحقة أبوللو. السطر 4، هما "فيلمون" و"بوكيس"، اللذان درّبا ومَوّها "زيوس" و"هيرميس" فكافأتهما الآلهة بالاستجابة إلى طلبهما في الموت معاً، وفي التحوّل إلى شجرتين تتعانق أغصانهما.

(2) قصيدة مبكرة بدورها، كُتبت سنة 1907، وهي مثال كلاسيكي على المهارات الشكلية والإيقاعية العالية التي ستصبح قرينة القصيدة الباوندية، فضلاً عن كونها تنذر بما سيترسخ في نفس الشاعر من ولع بالآداب الشرقية، وبينها "كتاب الموتى" الفرعوني الشهير والتراث السومري ـ البابلي، كما يتجلى في قصيدته "هكذا في نينوى".

(3) الاقتباس باللاتينية في الأصل: Troica Roma resurges، وسكستوس بروبرشيوس (50 ـ 15 ق. م.) شاعر روميّ، صاحب "سينثيا" التي تعدّ واحدة من عيون الرثاء في الأدب الغربي الكلاسيكي. وسيكرّس له باوند مجموعة القصائد المعروفة باسم "في إطراء سكستوس بروبرشيوس".

(4) سمعان الغَيور Simon Zelotes، أو الكنعاني كما يُعرف أحياناً، هو أحد الرسل ويتردد ذكره في معظم الأناجيل. ومن الواضح أنّ القصيدة حافلة بإشارات إلى تفاصيل حياة يسوع. وهذه، مثل سابقاتها "الشجرة"، "بعيداً عن مصر"، "هكذا في نينوى"، "العيون"، و"روما"، هي من مجموعة "شخوص" Personae التي تمتدّ كتابتها على سنوات 1908 ـ 1910.

(5) هذه واحدة من أشهر قصائد باوند، ولا تكاد تغيب عن أيّ مختارات من أشعاره، كما تُناقش غالباً في معظم الدراسات النقدية التي تتناول تجربة الشاعر. ولقد نُشرت للمرّة الأولى في مجلة New Age، أواخر سنة 1911، ضمن سلسلة كان باوند يكتبها تحت عنوان موحد هو "تجميع أوصال أورفيوس". والحال أنها نموذج بارز في كتلة شعرية خاصة تميّز بها باوند، هي القصائد المترجمة التي تُنسب إلى الشاعر دون إشكالية كبيرة غالباً، لأنها ببساطة ليست ترجمة تماماً، أو هي أكثر من مجرّد ترجمة. هنالك مجموعة القصائد المترجمة عن الشاعر الروميّ سكستوس بروبرشيوس، وتلك المترجمة عن الشعر الياباني والصيني. وهذا النصّ واحد من أقدم النصوص الشعرية الأنغلو ـ سكسونية المكتوبة بالإنكليزية القديمة Old English، ويشتهر باسم The Seafarer، وقد قُدّم في ترجمات شعرية ونثرية عديدة. ولكنه ينقلب على يد باوند إلى نصّ جديد مدهش في اعتبارات عديدة. ثمة تلك المهارات اللغوية والصرفية والإيقاعية، الصوتية خاصة، التي لا تشبه أيّ نظائر في النصّ الأصلي (على سبيل المثال: "النصل خفيض واطئ" هي ترجمة باوند للأصل الذي يقول: "المجد انحسر"). وثمة ذلك "التحرير الوثني للقصيدة"، على حدّ تعبير مايكل ألكسندر، أي تجريدها على يد باوند من طابعها الديني المسيحي وتحويلها إلى إشراقة تأملية وملحمية إنسانية أوّلاً، تخصّ البشر وليس الكينونة الميتافيزيقية. إنها، كذلك، واحدة من كبريات القصائد التي يستعرض فيها باوند مهاراته الشعرية العالية، في النظم والتشكيل الإيقاعي ونبش المفردات القديمة وإعادة توظيفها على نحو شديد الإيحاء والشاعرية من جهة، وشديد الإنضباط دلالياً من جهة ثانية، وشديد التقشف والاقتصاد ثالثاً. إنها، أخيراً، واحدة من أجمل قصائد الشاعر وأصعبها قراءة وترجمة، غنيّ عن القول.

(6) أثارت هذه القصيدة إعجاب الشاعر الإرلندي الكبير و. ب. ييتس، حتى يتردد أنه ـ بعد قراءتها ـ وافق أن "يمرّ باوند بالقلم الأزرق" على بعض قصائد ييتس، أي أن يتدخّل فيها حذفاً وتصحيحاً وتحريراً كما فعل مع قصيدة ت. س. إليوت "الأرض اليباب". وعبارة "المجنّحة بالرهبة" غامضة، وإن كان بعض الشرّاح يحيلها إلى الإلهين زيوس وجوبيتر، وكلاهما رمزه النسر. وقصيدتا "الملاّح" و"العودة" من مجموعة "ردّ الصاع" Ripostes، التي صدرت سنة 1912.

(7) الاقتباس باليونانية في الأصل: Ηρι μεν αι τε Κυδωνιαι، من الشاعر إبيكوس الذي اعتبره باوند "اللون الصافي" في علبة ألوان الشعر الإغريقي. وكيدونيا بلد في كريت، ولفظها في اليونانية يتصادى مع لفظ مفردة "السفرجل". أمّا "ثراسي، فهي الأرض العتيقة من البلقان الشرقي.

(8) كتب باوند هذه القصيدة لتكون على غرار "العودة" إيقاعياً ومعمارياً، مع فارق أنها أيضاً مثال على طرائقه في اعتماد الأوزان ضمن شكل الشعر الحرّ "بحيث تكون الحركة مثل ضربات الطبل" وعلى وقع المفردات ذاتها، كما قال. والإشارة إلى عرس قانا الجليل تحيل إلى يوحنا (2:1) حيث قام يسوع بأولى معجزاته فحوّل الماء نبيذاً. هنالك أيضاً، في السطر 10، صدى لأسطورة "دافني" التي انقلبت إلى شجرة؛ وفي السطرين 12 و13 إحالة إلى الأسطورة الإغريقية عن الحورية فيليس التي انقلبت إلى شجرة لوز. و"الشجرة اللابثة عند النهر"، في السطر 19، وترد في الأصل هكذا: Nathat-Ikanaie، قد تعود إلى أخناتون.

(9) "ترنيمة المصاعد" هو العنوان الفرعي للمزامير 120 ـ 134، وهذه القصيدة بين سلسلة كرّسها باوند لهجاء معدن الذهب، ضمن اعتبارات اقتصادية وأخلاقية تخصّ معالجاته لمسائل الفقر والغنى ومفهوم المال والقيمة التداولية إجمالاً.

(10) "ليو تشي إي" (157 ـ 87 ق. م.)، شاعر وإمبراطور صيني من سلالة "هان". والقصيدة تُرجمت، أو بالأحرى: كُتبت، ضمن مجموعة قصائد صينية أخرى قصيرة، بمثابة تنويعات على شكل الـ "هايكو".

(11) القصيدة الأقصر والأشهر في سلسلة ما سيسمّيه باوند "قصيدة الصورة الواحدة"، والتي نُشرت في حزيران (ينيو) 1913، وستنذر بميلاد "الحركة التصويرية". ومن الجدير بالذكر أنّ باوند كان، كلما نُشرت القصيدة، يصرّ على ترتيب طباعي خاصّ يتضمن فراغات محددة داخل السطور لغاية إيقاعية في نظره، على النحو التالي: "مرأى هذه الوجوه في احتشادها: بتلات على غصن نديّ، أسود ". وقصائد "الربيع"، "مجاز الرقصة"، "ترنيمة المصاعد"، "ليو تشي إي"، و"في محطة مترو" هي من مجموعة "أضحية للجموع" Lustra التي صدرت سنة 1916.

(12) القصيدة في الأصل للشاعر والملك الصيني "بونو"، من سلالة "تشو"، وتعود إلى 1100 قبل الميلاد. وهي واحدة من أبرز قصائد مجموعة "كاثاي" Cathay التي صدرت سنة 1915 وتضمنت ترجمات باوند من الشعر الصيني غالباً، اعتماداً على هوامش ومصنّفات إرنست فينولوزا، الباحث الشهير المختصّ بالثقافة الصينية.

(13) القصيدة للشاعر الصيني "لي بو"، أو "ريهاكو" كما يُسمّى أحياناً. والـ "داي" هو الشمال، والـ "إيتسو" الجنوب، والـ "إين" اسم عملة، باللغة الصينية على التوالي. والإشارتان إلى بوّابة "الإوزة البرّية" و"يراع التنين" تفيدان المسير في الإمبراطورية من أقصاها إلى أقصاها.

(14) نموذج من قصائد مجموعة "في إطراء سكستوس بروبرشيوس"، التي صدرت سنة 1917. إحالات القصيدة: "أشرون" اسم يُطلق على عدد من الأنهار، خصوصاً ذاك الذي يصبّ في العالم السفلي؛ و"كايوس ماريوس" كان قنصلاً سبع مرّات، وهو الذي أسر وأعدم "جوغورثا" طاغية "نوميديا"؛ والإشارة إلى الهند تذكرة بما قيل من أنّ القيصر قبيل وفاته فكّر في غزو الهند؛ والبارثيون قبائل أقامت شرق بحر قزوين، وتمكنت من هزيمة مارك أنتوني في موقعة "فراءاتا" الشهيرة؛ والـ "أتاليّ" نسبة إلى "أتالوس" حاكم "بيرغاموم" وإليه يُنسب اختراع حياكة الثياب من الذهب؛ والعقيق السوري إشارة إلى صندوق المرهم الذي يوضع على، أو يُلقى في، محفّة الجنازة.

(15) هذه، في تقديرنا، هي القصيدة الأجمل بين مجموع الأناشيد Cantos التي لم يتوقف باوند عن كتابتها منذ العام 1904 وحتى وفاته سنة 1972. ومن الواضح أنّ في القصيدة تضمينات عديدة من هوميروس وحكاية أوديسيوس (عوليس) بصفة خاصة، ولكنها تتجاوز الثقافة الهوميرية إلى أزمنة حالكة حديثة بقدر ما هي قديمة، حيث المتاهات دروب قسرية أمام المصائر البشرية. المفردتان phtheggometha وthasson هما تشكيل أقرب إلى الرسم الصوتي لعبارة "فلنرفع أصواتنا دون إبطاء" التي تعقبهما مكتوبة باليونانية؛ وتموز يرد هكذا في الأصل: Tamuz؛ ونبات الـ "مولو" Molü هو العشبة التي يعطيها "هيرميس" لـ "أوديسيوس" كي يقاوم مخدّر "سيرسيه"؛ و"تيللوس" Tellus هي إلهة الأرض عند الروم؛ و"زيفيروس" و"أبليوتا" هما الريح الغربية والشرقية على التوالي.

(16) وندهام لويس (1884 ـ 1957) كاتب وفنان تشكيلي كندي ـ بريطاني، يُعتبر الأب المحرّض على تأسيس المذهب التجريدي المعاصر المعروف باسم "الدوّامية"، والذي سيطلقه باوند على صعيد الشعر والتنظير الأدبي. وكان لويس قد "اختار العمى" بالفعل حين رفض إجراء جراحة لتصحيح ورم خبيث. والإشارات التي تخصّ الزمن في هذا النشيد تحيل، غالباً، إلى كتاب لويس "الزمن والإنسان الغربي"، 1927. "لينايوس" هو الكتابة اللاتينية لاسم المستكشف وعالم النبات السويدي كارل فون لينيه (1707 ـ 1778)؛ و"سولمونا" هي مسقط رأس أوفيد، وتقع شرق روما.