عبدالله جناحي
(البحرين)

( إِلى خَالديَّة )

عبدالله جناحي

****

مقدمة

في مدى فعل الاختراق لا في مسائلة مداه

فوزية السندي

في حياة حركة الإبداع العربية، تعودنا أن نغفل دوماً مرافقة النص الإبداعي عبر محاورته من خلال الحبر الصديق، عبر الترفــق بمكـنوزه الرؤيوي ومحتملاته الجمالية، بل اكتفينا بقراءة التجربة الفنية بشكل عابر إلي أبعد حد قادر علي أن يحيلنا إلي تمويه السر البوحي و تأجيل مبتغي المكاشفة، الأقسى من ذلك، تجاهلنا لمكنوزها التعبيري، بل مرورنا العابر علي ذاكرة إبداعية تعمل علي إدغام فعل التأريخ لمستقبل هذا الوطن بمحتملاتها الفنية، بل تمادينا في إهمال الرعدة التي حاولت أن تثيرها فينا، رأفة بوميض جمر بالغ في الحياة ضد كل هذا الدمار، ضد، وميض أمل حاول أن يستكشف مدي يأسنا.. بل حاول أن يستدعينا لنري كل هذا الليل.
كنا نرتكب فعل التراب المبلل أو الرماد الخجول، أمام نار لا تهتم بغير أوراها الصعب.
كل هذا التسويف المرير، تحصلت له السيادة، لكوننا كنا دوماً نرتكن لضيافة خبرة النقد المثقل بحضرة أدواته الصارمة الواثقة من قدرتها علي تخليق الجسر الوحيد بين القارئ الأصم الأبكم الأعمى - كما تراه دوماً - والكاتب عبر الناقد الرائي العليم المتفصح في مقادير النص. طيلة نبض الكتابة، افتقدنا لحلول جرأة الأصدقاء في نزوعهم الشره لتمثل طاقة المجابهة، رأفة منهم علي الأقل بالنص الرحيم و بمقدرات المجاهيل التي تتكشف لهم، عبر ذاك النص.. ذاك الغريب الذي يتقدم نحوهم.
هذا الوهم المستحكم بضرورة استحواذ النقد المنهجي المستبد بأدواته الصارمة، المسماة بالعلمية و الموضوعية و المصانة بأمصالها النظرية ضد ذخيرة المخيال الحر، استطاع أن تتسلط طويلاً علي مقدرات اغلب التجارب الفنية، أيضا علي جموح رغبات الأقلام الصديقة التي كانت تختبر بصمت هلعها الخاص نحو ما يحدث من إبداع و ما يتنامى من جماليات صورية ترتهب من ذاتها، وهي تدفع تقنياتها التحريضية-ضد الآخر- بحرص تتفصد منه حرية الحبر.. بما يكفي لمحاورتها بذات الحس وحده لا بغلبة الحواس كلها.
لعبة الاختراق محاولة نصيه منفلتة بحريتها، بمعني حلولها بحرية المطالعة وحدها و تحدي قدرتها النقدية علي السبر المغوي.. لمجابهة كل نص إبداعي، من دون الارتكاز علي شفاعة تنظير نقدي مسبق، تناول هذا النصوص.
هي محاولة حبر صديق يستقي من حريته النقدية ببعدها الاستشرافي، محاولة استكشاف مدي مكامن هذه النصوص الإبداعية المختارة، هذه التجربة، ارتأها الكاتب عبدالله جناحي ليقارب بها نصوصاً هام بها طويلاً و هو يحاول اختراق مكتشفاتها عبر تخليق نصه المقتحم لعزلتها، لذلك حين احتواها منساقاً باستبصار رؤاه من خلال سطورها، حاول أن ينداح بالتالي لغواية استيلادات نصية عديدة، شكلت أمام عينيه متواليات من الجدران التي كان يمتحن من خلالها مدي صرامتها بمقدرات مخيلته، ليشرف علي مدي دلالات كلماتها و هي تتقصي مصير مرام المعاني و تتداهى بفرادة الأدلة، بل زاد علي هذا الجهد بارتهانه لاستنادات نصيه عديدة لغـــيره مـــن الكتاب و المفكرين و الفلاسفة، كلها تواردت لتعاضد أو تحاور ما كان يراه، لقد حققت هذه الاستجلابات التنويهية لمقدرات تحليلاته الكشفية دوراً مهماً في تزكيـة الفعل الاختراقي ذاته، لا عبر الإسناد بل على صعد إباحة التأويل وشحذ الاستشراف لبغية تأويل نقدي لمدي محنة النص الإبداعي.. تحديداً.
في هذه الكتابة، لا يهمنا مدي اقتراب حبر جناحي من شرفة الأسئلة التي انتزعتها إبداعات قاسم حداد من روحه، و لا مدي ممنوحاته الكشفية لرؤى أمين صالح الجديرة في ابتداعها، لكن لنا أن نرافق مجهوداته الحادة لمحاذاة عدة من النصوص، رافقها بوعي مخيلة تتأرجح بين المتحقق و المتخيل، بين الصادر عن بئر الروح و الكامن في مأوي الجسد.
ثمة قدرة فردية في تصعيد قادرية العطاء و البوح أو بمعني آخر منازلة بئر الغموض.
هذه الثيمات الرعدية، المتمثلة في طاقة المجابهة، استحثت حبر الكاتب جناحي ليمتحن حتم غوايتها و دهشتها، تلك البعيدة - تماماً - عن رحى النقود المدعية جاهزية كشوفاتها، تمثلها جناحي و هو يشافه تجربتين إبداعيتين شديدتي التميز في راهن الحركة الأدبية في البحرين و مستقبلها معاً.
ما يستوقفنا في فعل الاختراق الذي امتهنه حبر جناحي، قدرته علي دفع توالي و تعددية الجدران، تحديها عبر محاورتها و تبديد ضلوعها الكامن في مكتنه الغموض، بل تبادل الأدوار مع تحدياتها عبر العمل علي تعلم طبيعة الاعتراك معها.. لإغواء الروح لتصطبر و لتنجز مهمتها المضنية بلا شك.
عندما اشتغل الفنان سامي محمد علي صلد منحوتته التي تحفر لنا بياض هذا الغلاف، كان بالفعل يتقصد مجابهة حديد الجدار لا اسمنته الجاف، كان يسرف في تحولات جسده المتزامن مع حاضره و المقتحم لمستقبله له في ذات الوقت، عبر مرموزه النحتي الذي يتصدى لمواجهة الكبت، كل هذا ليباغت عنف الصد الذي تولاه، بل ليعتزم بعزلة جسده وليوليه مبتغي الثأر الحثيث نحو ملاذ حريته.
لذا مرأى لنا أيقونة جسده بحرية بالغة، بل نازع بنحته الصلد عبر أدواته الحادة و الباطشة ليغالب تحولات العضل المستفز و هو يستنبت ببطء خائن شتي أسلحته المستوحاة من صلادة قبضته، لتجلو لنا مدي مقاومته لصعب حياة لا تراه له.
سامي محمد لم يستضاف لتقدمة هذا الكتاب ليستبسل وحده، بل ليشارك الكاتب جناحي في نحت قبضته الشريدة، لينتزعان معاً قسوة هذا الصمت الذي جلل كل جدار تعالي ضد كل إبداع تعالي عليه.مثلما استرعت هذه المنحوتة جناحي ليدعها تتصدر كتابه، مثلما أدام لها الوقت و البياض، ليدعونا لنستبصر مدي دوافعه المحمومة لجلاوة خفايا النصوص المختارة لسبر أغوار إمتاعها المغوي.
في هذه الكتابة نتعرف علي مقاربة حميمية، فيها الكثير من خصوبة التكشف، بمعني نهضة الكتابة التي تعول علي ما تراه بحرية تامة، استهواء لعبة الاختراق أو سهرة بوح الذات بمذاق خاص، فيها اغتوى جناحي ليكاتب ليل أمين صالح الذي في كل مكان، ليهاتف قبر قاسم حداد.
هذه المحاولة تيسرت لنا لنتعرف صداقة النص الذي تأجج أكثر عبر سيل من حمي الاختراقات.. رأيناها معا.. تتكاثف، تتواجه، لتتهادى نحو كل جدار و آخر.
ثمة نزوع تفشي في هذا الكتاب، تمثل في انحيازها لقلقها الخاص، بمعزل أحيانا عن النص الإبداعي بل تبدت ملتاذة بحرية دفقها السري، كأنها ترتكز، عبر التسريب البوحي لمحاور غريبة تبزغ فجأة أمامها، لتوليها رعاية المعرفة، كما حدث و القيامة كنص إبداعي الذي تعرض لحلول إسراف فلسفي ممتع، تداول شأن التفاسير بمختلف تنويعاتها الوجودية وطقوسها اللوغوسية، أيضاً مع محور تأسيس اللغة و مكنونات تخلقها التي تعرضت لعسف التدوين الأصم.
لقد أندفع جناحي بحرية معرفية لاستقراء تأريخي لقديم تداوين اللغة العربية، كان يبدو في مجترحه بعيداً عن مقادير تجربة قبر قاسم، لكنه ارتأى له طريقا آخر ملتحما بإثارة الخبرة المعرفية و اللغوية لإضاءة المشهد أكثر، كل هذه الاستدلالات الفكرية كانت تقترح علي عبدالله جناحي الكثير من مكامن التأويل، لذا لم يقتصد و هو يسرف في استضافة الآخرين، ممن ساهموا في مجاهدة نصه لاختراق تأويله الخاص و المندفع لملاقاة مدلولات إبداعية صعبة.
قاسم حداد و أمين صالح هما صديقا النص الصعب، بالضرورة علي من يحاول استضافة رؤاهما، أن يتقلد بحرية مخياله، عليه أن يجتهد كثيراً ليدفع حصيلة مخيلته نحو الحياة ذاتها متقلداً قبضته.. ساعياً لتهديم جدار تلو آخر تلو آخر.. علي الأقل.. ليركل هذا الهواء.

****

"مدائح" صالح، كخفة الروح ونشوة الراح
انتصار للتألق الشعري
قراءة في نص (مدائح) لأمين صالح

(لم يضع شرطاً مسبقاً يحول دون حرية الواقع، وهو يقرأ النص علي هواه). (1)
رفيقان في درب الإبداع:
هل يختلف اثنان علي وجود ذلك التوحد الروحي والإبداعي بين مبدعين في هذه الجزيرة أثمرا خلقاً مبهراً ومستفزاً في آن واحد؟
هل يختلف مهتمان في شؤون الأدب والفن بوجود تأثر وتأثير واضحين وفاضحين وحاضرين وظاهرين بين مبدعين يتمني كل واحد منهما أن يحل محل الآخر في خلقه الإبداعي، وإن لم يبوحا بهذه الغيرة المتبادلة، ولكنها الجميلة والممتعة؟
غيرة عشيقين يتباريان لكسب قلب هذا النهر المتدفق بلا توقف، نهر الإبداع الفني بكل تلاوينه. هذه الغيرة التي فضحتها إحدى الروحين، تلك المنطلقة الناطقة قلماً ولساناً لتعبر بكل تأكيد عن وجدان وأحاسيس الروح الأخرى المنطلقة قلماً (2) !! هذا الفضح غيرا لمستغرب من هذه الروح - المستغرب أن تصمت بدلاً من أن تتمرد - التي كانت الحاملة لمرحلة تاريخية مازالت رائحة دخان بارودها في الصدور، وهي التي أشعلت حربها الضروس دفاعاً عن حداثتها في مواجهة رؤية أخري جديرة أيضاً بالاستماع والاحتضان - بعد صمت إلي حين (3) - وهي التي استمرت ولغاية الآن تعلن وبكل جرأة بأنه (لا يحتمل أن يكتب النص في ذات الشكل مرتين).


البدايات:

منذ "موت الكورس" (4) عام 1984م وهما يعلنان عن تمايزهما معاً ويحاولان أن يزيلا الفواصل الشفافة الرقيقة كجناحي فراشة بين الفنون، ويعبرا عن إيمانهما لما أعلنا عنه من بيانات، فسربا إلي روحنا "بالجواشن" (5) عام 1989م، هذا الإبداع المبهر الذي تركني لأيام أحاول فصل الأوكسجين عن الأيدروجين، أحاول لمرات عديدة، أنجح أحياناً وانهزم في معظم الأحيان إلي أن وصلت في النهاية إلي قناعة ذاتية بأن الماء وحده أجمل الكائنات والأشياء، شكله اللا محدود، لونه اللا محدد، زمانه السرمدي، خياله الأبدي، حلمه المنساب لكل مبدع، هذا الماء هو الخلق الذي عليّ أن أروي عطشي وأغمر وجهي فيه وأغوص بجسدي وأذوب في ريشته ولمساته وانهماراته وهيجانه وعواصفه وفيضاناته وأمطاره ورعده ورذاذه وخصبه ودماره وهتكه، هذا الماء هو الباقي، فلم الإرهاق اللا مجدي في البحث العبثي للفصل الفكاهي الذي تحاول الوصول إليه؟هكذا كان وهكذا أعلنت هزيمتي ورفعت بياضي أمام نص أُدْمِجَتْ فيه روحان مبدعتان تحاول كل واحدة منهما أن تحل محل الأخرى...!! (فالاختلاف المتواصل في التجارب هو الذي يمنح النص حريته الدائمة، وهذا ما يؤدي بالكتابة إلي اختراق الأنواع الأدبية، وتجاوز حدودها المعروفة، ذهاباً إلي النص المفتوح).


الجواشن ترجمة حقيقية للبيان:


وأقصد بالبيان هو (موت الكورس)، في إحدى محاوره، فأمين صالح وقاسم حداد حينما اندمجا معاً في نص الجواشن وقبله في موت الكورس كانا يطمحان بخلق نص مغاير لا هو شعر ولا هو قصة، هو شعر وقصة ونثر وأجزاء من نص مسرحي وفن تشكيلي ونحت وإحساس بالموسيقي، هو كل هذا أو بعض من هذا، وهذا طموح لذيذ وجميل ورائع ومبهر ومرغوب -بالنسبة لي علي الأقل - وكنت حقاً أتلهف -بوصفي متلقياً - بأن أحصل علي هذا الحلم/ اللذة، والجواشن قد عبّر كنص مشترك عن كثير من تلك الفنون، فهو نثر... نعم، وهو شعر... فهو ألف نعم، وهو قصص قصيرة... آلاف نعم، رواية... بكل تأكيد نعم، مسرحية... نعم نعم، مشاهد ولقطات سينمائية... صحيح، نعم، نعم، نعم، موسيقي حزينة مؤلمة... أه، نعم، منشورات سياسية وبيانات تحريضية... نعم بكل يقين، لوحات تشكيلية... كادرات، صور... نعم، نعم، أحداث واقعية إنسانية وعشقية وسياسية محلية وعربية وعالمية، نعم، أحداث فنتازية، سريالية، نعم ومليون نعم.
إنه نص مفتوح احتضن فيه أمين قاسماً وذاب قاسم مع أمين، ليتحول أمين حداداً
ويصبح قاسماً صالحاً!!

الانفصال:

ولكن ماذا بعد هذا الخلق المبدع المشترك الجميل؟

لقد أتحفنا قاسم حداد بملحمة تاريخية عام 1995م (6)، كان يمشي بها ويحتمي بالوعول، وكنا نجري بل نلهث هرولة لعلنا نلتقط عذاباته وهذيانه وصوره الرائعة بشعرية واضحة، فهو شعر خالص، ويعترف لنا قاسم بعد ذلك في خطاياه، خطيئة وراء خطيئة ليجمعنا معاً تحت (عزلة الملكات) (7) عام 1992م، أي بعد عامين من (يمشي مخفوراً بالوعول. وهو أيضاً ديوان شعري خالص، ويتحفنا بعد ذلك بشعر جميل رقيق، مختلف - ومؤتلف حينما تدّخل هذا الشاعر، ولمس أسطورة العرب العشقية، وزلزل عذرية الحب لدي العاشقين قيس وليلي، وأنتج شعراً خالصاً في ديوان (أخبار مجنون ليلي) (8) عام 1996م.


وكان منذ ذلك التاريخ يفتح كنزه لينثر لؤلؤاً هنا، وياقوتاً هناك، ويفتح قبره تارة علي شكل رسائل محملة في أحضان بنات آوي، وتارة علي شكل وجوه تحاول إعادة الاعتبار لأطروحة نسف الحواجز بين الفنون السمعية والبصرية والمقروءة (9)، وتارة أخري علي شكل إشارات سريعة كظلام الجبل الذي لا نعرف لغاية الآن محتواه (10) !! وهو في كل هذه الأشكال/ التحولات/- أي شاعرنا - قاسم - استمر في تعميق وتجذير وتجديد وتثوير شعريته.


منذ البدء ولغاية الجواشن مروراً عليه وانتهاء إلي هذه اللحظة مخلصاً وموالياً ومتعصباً للشعر، رغم غيرته علي رفيق روحه أمين، ورغم إعلانه أن أمين صالح (شاعر أكثر حرية مني)، ورغم تأكيده أن أمين صالح (كان العنصر الأكثر تحريضاً لتجربته من أجل اقتحام الأفق الذي كان يحلم به)، وعلي الرغم من كل هذه الاعترافات فإن تشبثه بولائه وانتمائه للشعر- وليس غير الشعر - ورغم إعجابه بتجربة أمين صالح فإنه جذبه - بشعوره أو بلا شعوره- نحو الشعر، فهذا القاص، الروائي، المبدع المتميز في مجاله، المبهر في نصوصه القصصية والروائية والذي اعتبره قاسم قادماً ( من عالم النثر إلي التألق الشعري بسرعة متناهية، وكان مبكراً في ذلك أيضاً )، هو حقاً أخذ يتخلص من هويته القصصية والروائية ويتوجه صوب النص، ولكن النص الذي يهيمن عليه (التألق الشعري) وها هو هنا أيضاً يعترف شاعرنا قاسم بتعصبه للشعر وإعجابه لكل من ينتقل من عالم النثر أو غيره من الفنون إلي عالم الشعر، حتى أنه ومنذ بواكير تجربة أمين القصصية يؤكد قاسم ذلك (فأغنية أ. ص الأولي) (11) عام 1982م كان يتمني أن (لا يكتب علي غلافها إنها رواية، فقد رأي فيها نصاً جديداً مغايراً لمثل هذا التصنيف، نص يتمتع بحرية تخرج عن حدود الرواية بمفهومها المتعارف عليه، فقد كان فيها من الشعر عناصر كثيرة)، هنا بالذات اعتبر قاسم الشعر وحده هو المنبع، هو الأصل، هو أصل النهر الذي يجلس هو وغيره من الشعراء المبدعين حول منبعه، وعلي المبدعين الآخرين وفي المجالات الفنية الأخرى أن يحاولوا كتلك الأسماك التي تقاوم تيارات واتجاه النهر وتناضل وتكافح وتقاوم وتستذبح حتى تصل ليس إلي المصب حيث البحر والمحيط والفضاء، وإنما إلي الشعر حيث الأصل والنبع.

الوصول إلي التوحد بدلاً من التعدد:

إن الروائي والقصصي والتشكيلي والمسرحي عليهم إذن ضمن سياق هذا التوجه الذي يحاول أن يلغي الحواجز والفواصل بين الفنون أن يصل إلي التوحد وليس التعدد، وإلي النص المخالف لما هو متعارف عليه في باقي الفنون، وهو النص الذي يحتضن التألق الشعري، لذلك فبدلاً من أن يناضل المبدعون كل في مجال فنه لتسلق جبل الإبداع والوصول إلي القمم العديدة لهذا الجبل، عليهم أن يتسلّقوا هذا الجبل للوصول الى القمة الوحيدة، قمة الشعر.
وهكذا كان، فقاسم حداد بعد الجواشن كتجربة مبدعه ونص جميل، استمر شاعراً، ديوان وراء ديوان، أما أمين صالح فأخذ رويداً رويداً- أو نضالاً وكفاحاً كالسمكة الصاعدة صوب النبع- يتخلص من جلده الروائي، فقبل الجواشن كانت شعرية أمين صالح واضحة ولكنها كانت في خدمة الرواية والقصة حتى في إصداراته بعد أغنية ألف صاد الأولي (12)، فبعد الجواشن، صدر له نصان هما (ترنيمة للحجرة الكونية ) عام 1994م و (مدائح) عام 1997م جولة لابد منها:
يعتبر نص ( ترنيمة للحجرة الكونية ) بمثابة نص نثري فيه من الصور الجميلة المتناثرة في كل صفحاته، ولكنه أيضاً هو نص كان يحتضن من الشعر عناصره الكثيرة لدرجة أن فقرات عديدة منه كانت بمثابة أبيات شعرية بتفعيلات واضحة وأوزان تقليدية وإيقاع داخلي هو ذاته الإيقاع الموجود في الشعر الحديث، وهو نص تخلص من كل ما هو متعارف عليه في القصة والرواية والشعر أيضاً، فأحداثه متفرعة ولكنها مفصلة لدرجة جميلة، ينطلق القاص فيه من خلال كلمة أو دلالة واحدة إلي أعماق الأحداث التي تجري وراءها ومنها تتناثر الصور والخيالات المبهرة، وبين كل هذه الصور تبرز الصورة الشعرية:

(يدميني
هذا الغبار المثقل بالحديد يدميني،
ارفعه، ارفعه كالعبء بلا ضغينة،
لئلا يبعثر دمي، فأتشتت في هاوية
الحمي
جرحاً
جرحاً)


غنائية شعرية واضحة تتسرب بين صفحات من الوصف والصور التراجيدية والأوصاف القبيحة والأفعال المقززة (لقادة أقل حذقاً من ألقابهم) والمماليك والطغاة والضحايا.


(تلك نفحة الخرافة
انتفض أيها الحشد
زلزل المسرح
غيّر مجري مجرات المسوخ
واكفر بالنعمة الباطلة)

حماسية شعرية واضحة تتسرب من جديد بين صور ودلالات ومشاهد ولقطات سينمائية (لرموز الدسيسة وحراس الأفيون الذين يجرون بغالاً محملة بالنفائس منهوبة يكدسونها بين يدي الههم الصغير)وكذلك خيالات جميلة ورائعة (لسرير الكون المطرّز بالضوء وشهقة خالدة).

( آه
كلما غادرني هذا الحلم، أهلكني الصحو)

تأملات شعرية نثرية واضحة تتسرب أيضاً بين مقولات وحكم عميقة المعني (الصمت يعزز الحكم) (جميل أنا مثل رضيع يموت) وكذلك فقرات من الثنائية كأنساق، بالضبط كرفيق روحه حينما استخدم ذات الأنساق في قصائده (زوبعة الأرامل، هواية الانتحار، كياسة النسيان، استراحة الأمس، حجاب البغاء، غنج السوط، موهبة الرثاء، نتانة الحبر، أناقة الطغاة، مزارع الوسن، رغوة الترانيم، دهاء الإذلال).
تألق شعري، في نص لقاص وروائي.

"مدائح" أمين انتصار للشعر:

هاهو القاص أمين صالح يصدر "ديوانه"!! الجديد، "مدائح" ذلك النص/النثر الشعري، إنه هنا قد حقق حلم النبع، حيث الأصل، حين يأتي الكاتب من حدود الأشكال (إلي حرية الكتابة، نحو لذة المجازفة ونشوة الاكتشاف، ليشهر جمالية المغامرة) وإذا كانت جمالية قاسم هي نحو المزيد من الإبداع والإبهار واللا تكرار للأشكال ولكن تحت ظلال الشعر، والشعر وحده، فأمين صالح دخل هذه المغامرة التي أوصلته إلي التخلص من كل الأشكال المتعددة المشروعة في القصة والقصة القصيرة والرواية والالتزام بالتألق الشعري، أو كما قال رفيق روحه (في النص - عندما لا يصدر الكاتب عن تصور/مثال سابق يقلده أو ينسج علي منواله، فإن مسؤولية الإقناع الفني تتوقف عندئذ علي طاقة الابتكار والجمال)، وهذا النص الذي يعتبر إحدى محطات التحول لدي القاص أمين صالح - وهي ليست المحطة الأخيرة بالتأكيد - هو نص بلا شك (يمكن أن يصير مادة أولي، أو نقطة انطلاق لنصوص أخري قيد احتمال، إذ لا قداسة لشكل ولا تكريس لنمط)، وهو أيضاً نص يتمرد علي ما سبقه من نصوص وقصص وروايات، وهو بالتالي نص اكتشف فيه أمين صالح أن (ثمة وهم اسمه الشكل الواحد الوحيد المستقر لطريقة التعبير).

إن كل هذه الاعتبارات/التبريرات/التوجهات/القناعات المشروعة/لا بد أن نضعها في مقدمة أذهاننا ونحن نحاول الدخول في هذا النص الجديد/الشعري لروائي وقاص، وكان لابد من طرح ما سبق من استهلال لتوضيح مدي التطور في الأشكال التي أبدعت من قبل الشاعر والقاص، ومسار هذا التطور لكل واحد منهما، ففي حين استمر الأول في مساره الشعري بأشكاله المتعددة، توجه الثاني إلي مسار آخر طارحاً فيه أشكاله المتعددة أيضاً، وهنا أيضاً سنضع ضمن أولويات مقدمات الذهن حق المبدع في التعبير بأي شكل يشاء أو كما أكد قاسم (بأن شكل القصيدة ليس هدفاً في حد ذاته، ولا شكل القصة، ولا المسرحية ولا الرواية، لذلك فإن الاستمرار في الابتكار الفني لشكل التعبير، هو نشاط إنساني يشير إلي الحرية التي يتطلّع إليها المبدع بوصفه إنساناً)، وأعتقد أن أمين صالح مارس هذه الحرية في هذا النص، وأصبح بالنسبة له جنته وجحيمه في آن واحد.

الحلم والأنثى في نصوص أمين صالح:


حينما علّقنا علي "مدائح" كنص بأنه نص شعري، كان ذلك مجازاً، فهو في تصورنا ليس شعراً خالصاً ولا نثراً خالصاً وإنما هو(مدّ من البوح ينمو فيّ ويهب) (14)، وهذا ما كشف عنه أمين صالح في كتابه، ولكن ما الذي جذبني للكتابة والتعليق علي هذا النص؟ ما الذي استفزني في هذا النص؟
أعترف أن النص الذي يدعوني للتحدي هو النص الذي ينهض فيّ ملكوت الكتابة، ولأن هذا النص يتكلّم عن الأحلام، والحلم شيء خاص، سر لا يباح، لذلك حينما يأتي المبدع لينشر علي الملأ حلمه، سره، خصوصياته، ويفتح باب الذات علي مصراعيه لنا، حينذاك هو يلاعبنا أو يتلاعب معنا، هو إذن يتحدانا في أن ينكشف السر ويتوضح لنا كاملاً أو علي الأقل معظمه، أو سياقه العام، والمبدع في إحدى فقرات هذا النص يعلن لنا ذلك، فهو عندما يكتب يتصدق (بحلم فائض، سر ما، صغير ومتهور، تسرب مع الحلم)(الفقرة 144)، وهو وإن كان يعترف بذلك إلا إنه يتحدانا حينما يؤكد أن هذا الحلم/السر (لا يكشف بل يموه، يعطي كثافة أكبر للغموض، فمن رأي الحلم، لم ير غير ظل يدكِ الحانية علي جبيني شبح يتنفس ببطء)(الفقرة 144). إنه إذن نص سري تتسرب منه (بقايا اعترافات مؤجلة أخذت شكل مدائح.(الفقرة 145) وأرجو (أن لا تتسم صورها ما أن تكشف للعيان)(الفقرة144 ).
ولكن هل حقاً هي بقايا اعترافات مؤجلة أم هي أحلام دائمة موجودة في نصوص سابقة وهي تنحصر أيضاً ضمن أحلام خاصة، سرية، لا تباح، محورها المرأة، تلك الأنثى التي ما أن يقترب المبدع منها تحول هو إلي حالم، وتحولت هي إلي خيال/ حلم يقظة.

منذ عام 1986م وفي كتابه ندماء المرفأ. ندماء الريح يحلم بذات الحلم وذات الأجواء وإن كانت صورته التخيلية أكثر جرأة ووضوحاً وفضحاً وأكثر شجاعة في كشف حلمه.
(وفي الحلم اضطجعا علي سرير العشب تطعنه بأنين إباحي يطعنها بأنين إباحي، ولما فاجأتهما الرعشة أطلقا معاً تنهيدة لافحة وتدثرا بالعري، آنذاك بكت وبكي معها لأن الحلم سيغادر) (14) هنا تجرأ المبدع في سرد مكنونات الحلم بشيء من التفصيل لم يتمكن من ذلك في نصه الجديد، وهذه نقطة تسجل لصالح الإبداع وليس ضده، فجمال الصورة ينبع في مالا يقال ولكن أن تعطي الإيحاء بذلك، فحينما يناجي الحلم بأن يسيج له مدار حبه (بشهقات الندي) الفقرة(1)، ويضرج قلبه (بحليب الأنثى- الفقرة (1) فهو يكفي لانهمار التداعيات في ذهن القارئ، فالشهقة لها مدلولاتها العميقة والطويلة وحليب الأنثى يتركك مع تداعيات أكثر عمقاً، فهدف المحب هنا ليس هو ذاته هدف الطفل الرضيع، وإن كان الاثنان يمارسان ذات السلوك الحركة نفسها، إلا أن الصورة هنا تعطي للحليب معني النهد والجنس، في حين تعطي في حال ارتباطه بالطفل صورة الأمومة والشبع والدفء.

في عام 1986م مرة أخري وفي "ندماء المرفأ.. ندماء الريح" أيضاً مازال يحلم (خرجت تتعري منارات العشب تسأل عن عاشق ينثر الملح علي مواطئة كي يطمس آثاره، وفي الليل يدثر نساء الحلم بعريه) ويواصل في حلمه (لدغدغات إمرأة مجنحة هبطت من السقف) ويتجرأ في وصف حلمه بشكل لا سابق له (وشوشت في أذني: اسكب بلا خجل حليب بأسك في حوضي وكن لي الغزو الأشرس، إذ ذاك غطيت زغبها بزغبي وصرنا وحيدين في جسد الفضاء، يطرز عرينا اللهاث.... تنزهت في نهد المحرم غير آبه، ارتوت نبع الفتنة غير آبهة، هكذا أطلقنا سراح الغواية وكنا النفحة الإباحية) (16)، ولكن علي الرغم من كل هذا الوصف الشبيه بمشهد سينمائي إباحي فإنه كان مشهداً في الحلم (عندما صحوت ولم تكن معي، كأنها ضاعت في غلالة المساء)... هذه الجرأة النابعة من استخدام الصورة الواضحة للمشهد الإباحي عبر تداوله لكلمات/رموز واضحة المعني والمدلول كحليب بأسك، والحوض والزغب واللهاث وغيرها، كثفها في (مدائح) وأعطاها غموضاً واضحاً وذلك باستخدامه لمصطلح بحاجة إلي كل من يحاول تكملة صورته المتخيلة للمشهد الرجوع إلي معناه في لسان العرب أو غيره من المناجد، فمثلاً (ماذا تفعل أيها النديم بهذا الالتباس لحظة سطوع النفث الفاتن وانزلاقة في قرمز الغموض؟ -الفقرة (28).، إنها صورة شبيهة بالصورة الموجودة في نصه عام 1986م، بل هي أقوي تعبيراً وشراسة في الإباحية، غير إنها مغطية بغموض المصطلح (النفث) الذي ما أن ينكشف معناه حتى تتحوّل الصورة إلي صورة فاضحة هائلة الجرأة في الوصف، ففي هذه الفقرة (28)من نص مدائح تعطيك وصفاً يحل محل كل ما كان يبوح به في نصوصه السابقة ولكن بلغة أخري، فهي تسهب في شرح صور عديدة (للشهقة) القادمة من الفم الذي يداهمه ما لا يتوقع والنفحة المرتدة، شهقة كيقظة الشجر ومجون البحر ونكهة وفجور الفجر، الشهقة غير الزائلة وغير المتفتتة، شهقة المعاشرة، حيث بعدها لا يعود المرء كما كان، حيث هي الرماد المنهمر علي نار الشهوة، هنا يكفي أن نفضح (النفث) وانزلاقه في قرمز الغموض لنتخيل النتيجة النهائية المتمثلة بانطفاء النار (الشهقة) بالرماد حيث وحيث فقط (لا أعود كما كنت - الفقرة (28) (17)

هذه القوة والعنفوان والإثارة والجرأة والشجاعة والنارية والإبهار والحرارة والتدفق اللامحدود في الرغبة الجامحة نحو تفجير تلك الصور الجميلة المعبرة عن لحظة الحب لا يأتي للمرء إذا كان منطفئاً أو إذا كان قد تحول إلي واقع مادي ملموس و حقيقة كاملة، أما إذا كان المرء في حالة انتظار دائم، حب ينتظر، عشقاً متخيلاً حلماً مستمراً، رغبة مكبوتة أخذت تتضخم وتتضخم وحتى لا ينفجر لابد أن تنفّس عن ذاتها بين مسامات الحلم والخيال، فتظهر أكثر صدقاً في التعبير عن الرغبة المفقودة، أكثر أصالة ونقاوة وشقاوة أيضاً، أكثر حيوية وحرارة من صور نابعة عن تجربة واقعة أو تجارب متتالية، (لم يتدفأ بعد بالفرح، قلبه الرهيف يحتدم بحلمتي امرأة لا يعرفها تسفح تويجاتها في شفتيه الضامئتين وتهدل بعذوبة، أحبك، أحبك، هكذا يعتزل في المساء، المساء الرقيق ويحدث نفسه همساً. (18)، (لم يقرب نساء قط، كان يرتعش خجلاً، ويغض عندما ترتطم نظراته بنظرات عذراء تسأله أو تغازله) (19)، وهو في نصه الجديد يعيدنا الى كتابه هذا في فقرة واضحة حينما يقول (وثدياً في مجرة ناسك خجول يكاتب ندماء الريح - الفقرة (118).، فالخجل وبرودة الحياة والضمأ الدائم والوحدة والليل والحوار الهامس مع الذات، عوامل خلقت عالم الرغبة المكبوتة التي تفجرت تارة علي شكل صور فاضحة وتارة تحولت الى مدائح لأنثى تحولت إلي عذراء مقدسة، قديسة رائعة الجمال الروحي والجسدي فذابت ذاته في ذاتها وتحول إلي عاشق متصوف يمارس عشقه تارة علي شكل عشق إنسان لإنسان، جسد لجسد فتراه يفجر مكنونات الشهوة والشهقة واللذة، وتارة علي شكل عشق إنسان لروح لامرئية للمطلق، للقداسة، فتراه يفجر مكنونات صوفيته وذوبان روحه وجنونه، فهو هي وهي هو، ظله ظلها ودمه دمها، أنا المطلق (هو) والمطلق (هي) أنا، وفي كلتا الحالتين هو في انتظار دائم (فالحب: انتظار مديد تحت شرفة الأمل - الفقرة (13). وهذا الانفجار المديد هو الذي يفجر أقصي درجات الانفعال والجيشان، ويكون - أي هذا النوع من الحب - في اشتعال دائم ملتهب، متوهج، يحرق الحبيب والحبيبة معاً ويذيبهما في وحدة تامة، وواضح من حالة الانتظار هذه أن الإشباع العاطفي والوصول إليه مازال حلماً يراود المحب وأن حالة الانطفاء مازالت بعيدة عن أحاسيسه.

تحليل النص من الخارج والباطن:

إن نص (مدائح. يمتلك بين فقراته تداعيات عديدة، وفيه محطات كثيرة من الممكن الوقوف أمامها وتحليلها، وهو بالتالي من ذلك الصنف من النصوص التي تتألف من نصين(أحدهما هو الماثل أمامك مطبوعاً، والنص الثاني غائب، لكن له وجوداً يتجلى سره من خلال منطوق النص، ومرة أخري من خلال الأشياء التي أضمرها صاحب النص وصمت عنها. (20) ولذلك فنحن نحاول أن نبرز هذين النصين بجماليتهما، وعلاقة أحدهما بالآخر، وإبراز المسكوت عنه في النص الغائب.
فواضح من الشكل العام للمدائح بأنه خطاب أدبي يحتضن عواطف جياشة حول أنثي متخيلة، إبتداء من تخيل قدومها في الليل وتخيل عطر أنفاسها وفمها وشهقتها ونفحتها، مروراً بالمكان الذي هي فيه، ذلك المكان المتعدد والمبتدأ بالعشب الذي تسير عليه والحجرة والسرير والمدينة كلها، وكذلك بالأجواء المكانية المحيطة بها، وهي تتقدم إليه كالعربة الملكية المرشوشة بالذهب والبحر والمطر والسلالم والشرفة، وإنتهاء بالزمان المكثف الذي يدور فيه حلمه هذا، وهو الليل بالذات وما يحمله هذا الزمن من إرتباط وثيق وتاريخي وحضاري وشرقي بالأنثى والجنس. وهو خطاب بجانب هذا البحر من العواطف يتكون من أفكار ومعان تتمركز حول الرغبة في الحصول علي الحبيبة والتخيل ما يفترض أو ما ينبغي أن يدور بينهما، والمدائح المبجلة، المقدسة التي يبثها العاشق إليها، بالتالي هو خطاب تمتزج فيه هذه العواطف بتلك المعاني لتفجر لنا في كل فقرة من فقراته وبصورة مرئية بل أحياناً بصورة حية ملموسة محسوسة ما أن تندمج في محيط مفرداتها إلا وتحس بالأجواء والرغبات والعذابات، بل تراقب تلك القوة الخفية، تلك المرأة، الحلم وهي تعيش أمامك عبر آثار أقدامها، وهي تدوس علي العشب أو ملامح خصرها وهي تهبط وسط السرير، أو تسمع الزفرات والشهقات، ومن هنا تتيقن بأن هذه العواطف لا تعبر عن نفسها مباشرة في هذا النص، وإنما يخلق لنا المبدع صوراً واضحة تارة، ورمزية مبهمة تارة أخري، وتداعيات لقول لا يقال تارة ثالثة، وكلها تفضح مشاعر ومكبوتات ورغبات غير محققة!!
تحت هذه المظلة من عناصر هذا النص تتشكل العوالم الداخلية (لمدائح)، وهي عوالم في شكلها اللغوي تتكون من جمل ذات دلالات، أو غايات تكون لها معان واحدة، وهي جمل واضحة غير غامضة المعني في أغلبها، بسيطة، كثيرة الاستخدام في عالم الحب والعشق، لذلك ما أن تنتهي من قراءة الفقرة الواحدة إلاّ وتتكون أمامك مباشرة الصورة المطلوبة، نابضة بالحياة أو الرغبة في الامتلاك أو الافتقاد أو العذاب، غير أن هذه البساطة والوضوح في تكوين الصورة والمعني في كل فقرة لوحدها قد تجرك نحو الاندماج مع الصورة وتبعدك عن رسالة النص كله، إلا إذا أخذت بربط المفردات بعضها ببعض، والفقرات أيضاً والصور كذلك، وكوّنت علاقة متشابكة فيما بينها لتصل الى ما يريد المبدع قوله، فهو رغم كل هذا المديح يتراءى لك بأنه حزين، وأن هذه الصور مرت من خلالها حالة الحزن بعدم امتلاك الأنثى، ومعايشتها في الحلم، والحلم فقط.
الحلم:
(مدائح) أمين صالح تتكون من (152) فقرة، وتتكرر كلمة حلم فيها (43) مرة، تتكثف أحياناً في بعض الفقرات، وتختفي نهائياً في فقرات عديدة، وعندما نحاول ربط الفقرات بالترتيب المسجل في الكتاب نكتشف بلا منطقية الترتيب من حيث ارتباط الحلم بالمشهد أو بمضمون الفقرة، فهناك فقرات يحلم بقدوم المرأة فقط، إلا إنها فقرات متباعدة بعضها عن البعض تتخللها فقرات يحلم بالمرأة ذاتها وتتخلل هذا وذاك بحلم التغزل بها والامتزاج معها.
هو بالتالي يقفز بنا قفزات تنتقل من خلالها الصورة المتخيلة من صورة تلهف قدومها والرغبة في كشف هذا المجهول إلي صورة المرأة ذاتها لتنتقل مرة أخري إلي صورة اللهفة بقدومها من جديد إلي صورة التغزل بها، وهكذا لا يترك لنا النص بهذا الترتيب مجالاً كبيراً وكافياً للوصول إلي الإشباع الكامل في الصورة أو الحالة الواحدة. ولتوضيح المقصود بشكل أكثر تمثيلاً نبدأ بالفقرات التي تكثف صورة قدوم الأنثى أو لحظة اختراق المرأة للحلم وتوجهها إلي الحجرة أو السرير. فالفقرة الأولي هي فقرة تمهد لك بداية الحلم (الحلم... يرفع الأهداب ليمتشق بعدها الأشكال... هذا الحلم الذي سيصطفيك من بين الوجوه العابرة علي ضفاف أنفاسي ويزرعك ثمرة من ضوء في سرير الهذيان.....

لتأتي الفقرات 2 - 7 - 15 - 17 - 29 - 32...إلخ لتكثف الصورة الخاصة بقدوم الأنثى، فهو في (2) يسمع رنين الليل، إذن هي قادمة، تلك التي سوف تؤثث الوجود، ثم يركز في (7)علي العشب الذي تسير عليه، ويدعو العشب بالرفق علي قدميها ويقظة الطريق تمتحن العسل الهاطل من أصابعها، ويعيد تكرار رجائه للعشب بأن يكون حنوناً بالقدمين المغسولتين بماء الورد، ثم ينتقل في (15) إلي حالة الوحدة في حجرته وهي هناك حيث أطفال كحجم الجوز يطفرون من أحداقها في عبث شيطاني، وهو في حالة الانتظار يناجي الحبيبة في حلمه، أنظري هناك، كم هو وحيد ذلك الغريب، ثم في (17)يعطيك صورة المبشرين بقدومها من الحيوانات والأجواء الأسطورية التي تعلن عن قدوم الحبيبة، فهناك ظبي يعدو في أروقة المطر يعلن عن قدومها، وأول ما نري شمساً باردة وحشداً من الفراشات، فعربة ملكية مرشوشة بالذهب، لينقلك في (29)إلي الأمكنة التي ستمر فيها أو عليها، وأن عليه أن يملأها بالزعفران ويراقب حفيف القدمين المبللتين بعطر المساء، وها هي في (32)قريبة من باب حجرته، فلا تطرقوا الباب وترعبوها فتهرب من حلمي، فهي ما زالت في الخارج تتنزه مع حلمها، وعلي راحتها المريشّة يتنزه المطر مع ذاكرة العشب.

إن جمالية هذا الترتيب الجديد المقترح للفقرات تنبع من وجود صور تحتضن المجهول وتترك القارئ في حالة من اللهفة والرغبة في معرفة هذه الأنثى القادمة التي لم تتوضح لغاية الآن - رغم هذا الوصف المكثف لآثار وإشارات قدومها - ملامحها وصفاتها، فإن الصورة تتركز فقط في الأجواء والطبيعة والأمكنة التي تمر من خلالها إليه.
وفي هذه الحالة في اعتقادي نصل إلي لذة النص التي نتمناها (فاللذة وجود يعم كل شيء من دون أن يتموضع في شيء (21) وهي هنا وعبر هذه اللهفة في معرفة المخفي نحقق- أو ما أحسبه ذلك - ما يؤكد عليه "بارت" بهسهسة الصوت، أو ما يمكن أن أؤوله بهسهسة الصورة، (أن الهسهسة لتشير إلي صوت محدد (صورة محددة) صوت غير ممكن (صورة غير ممكنة) صوت الشيء الذي لا صوت له في مجال تنفيذه لأدائه كاملاً (صورة الشيء الذي لا صورة له. (22) ونقيض هذا الترتيب أو الترتيب الموجود في الكتاب هو الذي ينقلك إلي المعني أو الوضوح مباشرة حيث (سيكون هنا نقطة هروب المتعة) (23)،والكاتب لابد أن يخلق هذه اللذة لقارئه أو كما يقول بارت في نفس الكتاب (هل الكتابة ضمن اللذة تضمن لي - أنا الكاتب - لذة قارئ؟ أبداً، ويقع علي عاتقي إذن، أن أبحث عن هذا القارئ (أن أغازله) من غير أن أعرف أين هو، وبهذا سيكون فضاء المتعة قد خلق، ذلك أن ما أحتاج إليه ليس هو (الشخص) في الآخر، وإنما الأمر الذي أحتاج إليه هو الفضاء، إذ في الفضاء إمكان لجدل الرغبة وإمكان أيضاً لفجاءة المتعة..

أما الفقرات التي تكثف صورة الحلم بها بعد أن حلم بقدومها فهي عديدة منها , 3 - 4 - 5 - 9 - 10 - 11 - 18 - 19 - 21 - 43 ..إلخ وفيها تختلف الصورة المتخيلة عن سابقتها، إذ تبدأ الأوصاف والملامح في البروز والكشف والوضوح، فأنفاسها وحواسها وفمها المسكون بالشهقة وأجفانها ونومها كي يراها وجمالها ولونها وطعمها وعينيها.

وتأتي بعد ذلك الفقرات التي يتغزل فيها ويمتزج معها ويذوب في كيانها ليصبحا ذاتاً واحدة. ونحن هنا لا ندعي إنه بالإمكان ترتيب الفقرات علي حسب نوع الحلم ترتيباً ميكانيكياً فجّاً وصارماً، ووضع الحواجز فيما بينها، فهذا محال في حالة مثل حالة الحلم بامرأة والرغبة فيها، ذلك أن الصور المخلوقة تتداخل فيها الكثير من حالات الأحلام في ذات اللحظة (حلم قدومها، حلم أوصافها، حلم الذوبان بها، حلم مدحها مدحاً جنسياً عشقياً أوصوفياً مقدساً عذرياً) إلا أن بالإمكان - ولو جزئياً - إعادة ترتيب الأجواء وأسبقية حالة علي أخري، وذلك لإعطاء اللذة المطلوبة وللوصول إلي المتعة المقبولة.

حوار مع الحلم والقبض عليه:

جميل أن يتمكن المرء من التحكم في حلمه والسيطرة عليه، والأجمل أن يتذكره، ومن ثم يسجله إما علي شكل لوحات سريالية مبهرة كما يفعل بعض الفنانين التشكيليين أو يدونه علي أوراقه ويتحاور معه، بل ليصبح هو محور السرد ولب الموضوع وجوهر العواطف. وكتاب (مدائح) يحتضن هذا النوع من الحلم وبدرجاته الخفيفة ثم العميقة، لذا تراه أحياناً يتحوّل هذا الحلم إلي حلم اليقظة، حلم من الممكن أن يدير المرء أحداثه ويخلقها ويوقفها تارة، ويحركها تارة أخري، ويبعد عن الحلم مالا نفع فيه ويبرز ما يثير شهيته ورغباته ومكبوتاته، أليس هو القائل أن إبداعاته إنما هي أشبه (باقتحام عالم مجهول، غامض، لم أختبره من قبل، وفي هذه المرحلة - الشاقة والممتعة في آن- تتوالد الصور والمشاهد والأفكار من خلال تمازج الذاكرة والمخيلة والأحلام والوعي واللاوعي، إنني إذن لا انتظر الكتابة وإنما أذهب إليها. (24)، والكتابة بالنسبة له أيضاً (لاتخضع للوعي فحسب، وإنما أيضاً للمخيلة والهذيان وأحلام اليقظة. (25)، وفي هذا النص يبدأ أمين صالح لعبته ومتعته مع الحلم بتوصيفه، فهو آسر يستل من مياه العينين مراياه، وهو بالتالي بين الصحو والمنام، شعوره الواعي و شعوره اللاواعي يتفاعلان معاً، هو إذن في المرحلة الأولي من النوم إن جاز التعبير التي فيها فجأة يهب ذلك الحنين الشره، ليختار وبوعي وتحكم ما يريده، لذا يصطفي من بين كل الوجوه العابرة وجهها لتكون مليكة حلمه وليحضنها الحلم بالنعم والمدائح إلي نهاية المطاف. وهنا بالذات يصرخ منادياً آمراً حلمه أن يحقق ما يريد، أن يسبح حبه هذا بشهقات الندي ويعبأ قلبه بحليب الأنثى!! (الفقرة1) . ليبدأ بعد ذلك وصفه لأحداث الحلم /الحبيبة/العشيقة/ إلي أن يجسد ذاته في الحلم، يجسد الحلم القادر علي التسرب إلي كل مكان وزمان، في الهواء المحيط بها والجدران والليل، إلي قدرته في دخول جسدها والمرور علي أعضائها التي يرغب الوصول هو إليها، لذا تراه بعد فقرات عديدة يصل إلي لحظة تحوله هو إلي الحلم داعياً أنثاه أن تفتح أجفانها وتسمح للحلم/ هو/ الذي ينتظر أن يقتحم ذاتها، هو هنا يتمني أن تحلم هي أيضاً بحلمه، ويصبح الحلمان حلماً واحداً، ويصبح هو ذاتاً خالصة لها (الفقرة 9)، ولكنه يتيقن أن هذا التمني بعيد المنال فيرجع إلي تيهه ويصبح حلمه هو باحثاً عنها فلا يجدها، لذا يدعو حبيبته أن تنام ليس لكي يراها كما يعترف، إنما لكي هي تحلم فيلتقي الحلمان(الفقرة 10). بل يتحوّل في لحظات إلي أن يتخيّل نفسه الحلم/ الإنسان وهي في الخارج تتنزه معه (إنها في الخارج تتنزه مع حلمها (الفقرة 32).. إلا أنه رغم كل ذلك ورغم كل هذه التمنيات يتسرب الوعي قوياً في حلمه فيعترف بأنه مازال غريباً بالنسبة لها، غير مندمجة معه:


>(آه تستحمين يا أجمل الكائنات
في أحداق الغريب
هذا الذي لا يحلم الإ بك - الفقرة (50).


وهكذا يتلاعب أمين صالح بالحلم ويحوّله إلي تجسيدات عديدة، فهو أحياناً الحلم ذاته، وأحياناً هي الحلم، وأحياناً ثالثة هو وهي الحلم ورابعة الحلم هو الحلم المجرد، وخامسة يتحوّل الحلم إلي تشبيه لشيء مادي ذي دلالة ورمز (الإبط محارة الحلم- الفقرة(65). فهنا يشبه الحلم باللؤلؤة الجميلة القابعة في محارتها، وهي - أي اللؤلؤ- رمز لذاته الذي يتمني أن يكون قابعاً في محارتها/ إبطها حيث الدفء والرغبة والنعومة الشبقة، أو يحوّل الحلم في أحيان أخري إلي لذة محسوسة ذات طعم ومذاق كأنواع الطعام تماماً (تعالي إلي مأدبتي خبز وعنادل وحلم - الفقرة (71).


>نخلص من ذلك أن:

  • الحلم يبقي حلماً، بل سراباً، ولكنه سراب جميل.
  • الحلم أمل بالنسبة له للقاء فعلي، ولكنه يبقي أملاً فقط.
  • الحلم ملاذ لوحيد، منعزل، مجنون في حبها، وهي مرحة، تعيش في سعادة.
  • ولأنه وحيد لذلك فهو متشبث بكل شيئ منها وفيها من أنفاسها التي لا تتبدد بل ترسو في الجلد.
  • الحلم بديله الجميل لذلك يتمني أن يستمرّ ويكره الصحو واليقظة.
  • الحلم في أحيان قليلة يتحوّل إلي حلم جماعي، فليس هو وحده ينتظرها، بل الجميع، لتزيح في ضلوعهم الأجنحة وتمرغ صراخهم الحيواني في ريش الفضاء -الفقرة (53).

إلا أن الحلم الجماعي هذا يكون هو - كخالق هذه الأحلام - موقفه سلبياً، فأمام منافسة العشاق ورغبتهم لامتلاكها لا يتحرك للفوز بها، لا يحاول منعهم أو منافستهم أو إبراز ذاته أكثر منهم أمامها، بل يقف بعيداً، متفرجاً، غريباً، متالماً، وكأنه في هذه الحالة مازال يحلم أو كأنه متيقن بأنهم لن يصلوا إليها، أو أنهم منهزمون لا محالة، بل تراه في فقرات أخري يتمني أن تعطيه ولو بصيص أمل حتى يدخل في المغامرة ويقتحم المتاهة كباقي العشاق، فهو يقترب من شرفتها ويري العشاق هناك، ولكنه ينظر إلي الشرفة ويرحل، فهل لرحيله معني سوي أنه متيقن بأنها تلعب بهم، فكل الذين مروا تحت شرفتها لم يعودوا وضاعوا وأصابهم الجنون وفقدوا الذاكرة (فعبروا الثلج بلا مظلة ولا ذاكرة - (الفقرة (40). وكذلك (الفقرة (147).
ما هذا العشق الذي لا يرتوي؟ من هي هذه المرأة المغرم بها لدرجة الجنون؟ هذه العشيقة التي تركته يتحدث همساً مع أشباحه عن هزائمه التي لا تحصي وأوهمته أن يزف نفسه بنفسه ولوحده في تلك الليلة إليها، من هي التي التقي بها في تلك الأمسية لينزف بعدها بآلام نبكي معه ويجبرنا أن نرجع إلي الحجرة الكونية ونبحث عن ذات العشب الذي ناما عليه معاً وفي الحلم أيضاً (أطول فقرتين في هذا النص هما الفقرة (118)، (126)، وفيهما يفجر أمين كل ماضيه وحلمه، وأجمل عبارات الألم والقسوة واليأس والإحباط، وهما حقاً فقرتان تعبران بقوة هائلة عن قصة مأساوية من حيث الصور التي تنهمر علي القارئ). هو إذن واع تمام الوعي بأن عشقه لن يرتوي وشهيته لن تشبع، فهي كشهية الأعمى للأشياء التي لا يراها، دائمة، أزلية لا تنطفئ لأنها لن تتحقق!!

السرير والعشب رمزان للحقيقة والخيال:

العلاقة بين التجربة الفعلية والمكان تكون واضحة كصور جمالية أو ومضات إبداعية، حيث يتركز الوصف وتتكثف الدلالات اللفظية والرمزية بين الخيال والذكري لتجربة مورست والكائن الذي شارك في هذا الفعل، وهذه الممارسة، حيث ينصب الوصف للمكان كمقدمة أولية ينتقل منها إلي المرحلة التالية من الوصف المعمق عن لذة ورغبة لتكرار التجربة أو حنين لذات التجربة، لدرجة إنك كقارئ تتحسس التجربة وتتعايش معها، بل قد تتكشف أمامك ملامح وأوصاف الكائن أكثر فأكثر، بل وأكثر كثيراً من المكان ذاته.

وهذه الحالة الإنسانية المعّبره عنها بالخيال الأدبي قد تتجسد ليس بشرط الفعل الحقيقي لذات الوصف أو ذات الكائن، ولكنه أيضاً بشرط مرور المرء بتجارب حياتية عديدة يعكسها في خيالاته ومن ثم في نصوصه ويستحضرها بأشكال عديدة، ولكن حينما يكون الوصف، الرغبة، الحنين ما هو إلاّ نتاج خيال بحت، وخيال جامح ومتفجر وقلق دائم يستحضر في الوحدة والعزلة والانعزال، فإنه بلا شك يكون الوصف هذا مركزاً علي المكان أكثر منه علي الكائن الحي في هذا المكان (نحن هنا وفي هذا الجزء نحلل النص تحليلاً نفسياً بعد أن أعطينا لنفس الموضوع حقه من ناحية قوة هذا الخفاء والمسكوت عنه وترك خيال القارئ ينطلق في فضاء الاحتمالات وهو في صالح المبدع أدبياً كما أشرت ذلك وسنشير إليه لاحقاً).
ففي هذا النص كما في نص "ترنيمة للحجرة الكونية" حينما يقترب المبدع من لحظة الاحتضان الفعلي للجسد الأنثوي يبرز أمامه المكان الخاص لهذا الفعل بشكل دائم ومتكرر أكثر من بروز وحضور الجسد ذاته، والسرير كمكان ودلالة جنسية ونفسية واضحة حيث تتحقق عليه تلك المشاركة الإنسانية، وهو ذاته دلالة رمزية يعبر من خلاله الخيال عن رغبة مكبوتة تتفجر لحظة العزلة والوحدة والاندماج مع الذات، ولذلك يكون كرمز حاضراً عند معظم لحظات حضور الأنثى في لحظة الاقتراب الجنسي، وبحضوره كمكان للفعل الإنساني يختفي الوصف والدلالات الأخرى للمفعول معها، حيث الفاعل يتخيل الفعل مع خيال في مكان مجسد محسوس، فهيمن المكان علي الخيال لدرجة أكبر من هيمنة خيال المفعول معها.

ففي نص "ترنيمة للحجرة الكونية" عام 1994 يكون السرير منطلقاً وموقعاً يخترق من خلاله المبدع إلي أعماق الذات والرغبة والخيالات والصور الجميلة والمعبرة حقاً عن حالة فعلية:

  • فالسرير مطرز بالضوء، حيث الحلم الوثير.
  • والسرير موطئ بشهقة خالدة.
  • والسرير المعتكف خارج شهوات الأمس.
  • والسرير وشاح الغفوة وحرير الحلم.
  • والسرير نار الإغواء وجمرة الجنس.
  • والسرير مفتاح الفتنة وبوصلة الفضيحة.
  • والسرير شراع المجهول.

ولكل صورة من صور السرير هذه تداعيات جنسية واضحة وقوية ورائعة العمق، ولكنها المعبّرة أيضاً عن هيمنة الحلم والوحدة والعزلة والنوم مع وسادة خالية بجانبه!
وإذا كانت الصورة/ الرغبة واضحة في ذلك النص من خلال دلالة السرير، فإن نص "مدائح" أيضاً يحتضن هذه الكلمة وهذه الدلالة ولكن عنفوان الرغبة والهدف من إبراز هذه الدلالة قد خف لدرجة تحوّلت إلي دلالات أكثر إنسانية ومثالية وطهرانية وعذرية، وبعيدة بعض الشئ عن الصورة الجنسية الواضحة، وهذا ما يخدم خلاصة رؤيتنا التي سنشير إليها لاحقاً.

  • .. يزرعك ثمرة من ضوء في سرير الهذيان حيث تفيض النعم والمدائح - الفقرة(1).
  • حلمت إنك نائمة والريح تحرك السرير كالمهد -الفقرة(19).
  • نتحرى دهشة الحب في سرير ينحسر عن عسل وعشب - الفقرة (28)
  • في مهب اللهاث بين سرير اللذة وسرير التيه -الفقرة (67).
  • كلما آويت وحدي في سريري انحسرت الغرفة عن أفق ينتحل وجه حبيبتي - الفقرة (109).
  • وطني هناك في الحدقة الأكثر حناناً من سرير-الفقرة(120).
  • ... تتضرع إليك أن تصعدي أدراج المياه وتسطعي عارية لتضيء بك ضفاف أسرتنا - الفقرة (136).
  • أحياناً أتخيل أنك تمدين راحة يدك كسرير لينام عليها كائن أرهقه التشرد - الفقرة (148).

هذا السرير المرتبط بشكل وثيق بالأحلام ومن ثم بإبداعات ومخاضات المبدع وهو المكان/الصومعة/المصنع الذي ينفجر منه وينخلق فيه وتخرج الإشراقات والومضات وينتج فيه الخيال المعبّر عن رغبة إنسانية جامحة تبحث عن قنوات للمرور والتجسيد.
والعشب دلالة أخري معبّرة عن المكان أيضاً الذي عليه ينفجر الخيال ويعبّر عن ذكري ورغبة ولحظة إنسانية مع الحبيبة، وإذا كان العشب في نص ندماء المرفأ... ندماء الريح عام 1987 يعبّر بشكل فاضح عن المكان ويتجسد عليه الفعل وتتوضح الصورة بشكل مجسد للمفعول معها، والفاعل. (فقرات من هذا النص مذكورة في هذه الورقة موضحة فيها دلالة السرير والعشب معاً، راجع الهامش رقم (15)والفقرة الأخرى المقتبسة مع نفس النص فيما بعد هذا الهامش مباشرة ولم ترقم في الهامش)، فالعشب في نص "مدائح" مرتبط بذات الدلالة في بعض الفقرات، إلا أن أكثر الفقرات فضحاً لعلاقة العشب بالذكري هي فقرة (126) حيث ترجع الذاكرة إلي ماضٍ جميل (... نسرع الخطي صوب عشب تغزله الحجرة الكونية ليكون لنا مرفأً وملعباً وحصن أسرار وينبوع حلم....، ذاكرة تعيد أحداث نصوص سابقة لذات الحالة الإنسانية مع الأنثى / الحلم (26). وبالطبع يستخدم أمين صالح في نصوصه كأي مبدع آخر مجموعة من الكلمات /الدلالات/ الرموز المحببة في لغته الأدبية والمتداولة بكثرة في كل نصوصه، وليس مجالنا هنا دراسة هذه الظاهرة، وإن كانت تستحق التحليل وتبيان أبعاد ذلك علي الإبداع الأدبي، ويكفي استشهادنا بكلمتي السرير والعشب كنموذجين للتوضيح.

المدائح البعيدة عن الدلالات المحسوسة:

لننتقل إلي محطة أخري في هذا النص ونتجول عبر هذه الفقرات المدائحية لأنثى ونتعايش مع أجوائها لنصل إلي النتيجة التي لابد من الوصول إليها والمتمثلة بأن المبدع قد كان علي وعي تام بلغته التي لم تتجاوز المديح العذري والتصوفي والحنين الإنساني لأنثى يهيم بها، ولكنها خارجة عن نطاق التوغل في أعماق جسدها، أو بمعني أدق بعيد عن وصف لحظة اندماج الجسدين معاً، فهو بالتالي نص لا يعبّر عن اللغة الإيروسية المعروفة في النصوص الهادفة لإبراز تلك اللحظة. فمن لوحة الغلاف المعبّرة حقاً عن امرأة قديسة/ حلم/ إيحاء للتأمل والمديح والغزل الصوفي أكثر منه للتغزل الإيروسي، مروراً بعبارة مقتبسة لزرادشت حيث تركز علي المديح المفرط وليس علي شئ أخر، وانتهاء بمعظم فقرات النص. فالمبدع في هذه الفقرات يقترب من الجسد ليطرح سؤالاً بدلاً من أن يعبّر عن واقع حسي، رغم ما أكدناه في مقدمة هذه الورقة بان السؤال وحده يعطي القارئ تداعيات وخيالات عميقة ذات ارتباط وثيق بالإيروسية، وهذا هو سر جمال هذا النص البسيط من حيث ألفاظه وعباراته وحتى صوره، ولكنه العميق من حيث تداعيات تلك الصور.

( الآن والليل في كل مكان
من أين ينبع الضوء إن لم يكن من الفم

المسكون بالشهقة؟ - (الفقرة 5) صورة رائعة للفم، منبع الضوء، هذا المنبع المتدفق منه ماء سلسبيل بارد ما أن تلمسه بوجهك، بفمك، بشفاهك تنتابك الشهقة المسكونة في هذا النبع، وكيف يكون حالك وأنت في هذا الوضع الشبقي، والليل في كل مكان؟! وتتكرر ذات الصورة حينما يتحول الفم إلي صورة أخري وتأويل آخر وموقع مختلف حيث هو منبع اللذة القادمة من النفحة الطالعة منه. فالخيال والتداعيات وتخيل ما لم يقله بالحروف وبالكلمات سيكون هو سيد الموقف التخيلي ( كم أشتهي أن أكون سجين النفحة الطالعة من فم اللذة - الفقرة (6)..

(ماذا تفعل أيها النديم بهذا الالتباس لحظة سطوع النفث الفاتن وانزلاقه في قرمز الغموض؟. سؤال يجيب عليه بعبارة بسيطة ولكنها ذات تداعيات وخيالات عميقة (-لا أعود كما كنت.
وهي حالة إنسانية لكل العاشقين والمحبين في الواقع حيث التجربة أو في الحلم حيث الخيال، فالمرء بعد هذه اللحظة لا يعود كما كان، هنا نهاية شهقته، خياله، ولكنه يعود مرة أخري ليعيد لذاته مقدمات الشهقة بتجديد اللقاء ولكن مع اسم آخر وشكل آخر، وهو يعي أن في ذلك تعدداً ومن ثم اتهاما، فهو هنا يزور معاني الشهقة عند كل مرة، ويعطي مع كل تكرار، مع كل اسم جديد إحساساً يختلف للشهقة، لذا تراه يعيد مرة ثانية ذات الجملة (-لا أعود كما كنت. ليعطيك تداعيات مختلفة الأحاسيس عن تلك التداعيات السابقة للحالة الإنسانية المشروعة.
الشهقة لدي أمين صالح لها دلالات تندرج بعضها ضمن الفضيلة والجمال والهيام وبعضها ضمن الرذيلة والمجون، وارتبطت بها في كل نصوصه السابقة بدلالات عديدة، فالشهقة الرحبة، والشهقة اليقظة والمجونة والنكهة والفاجرة والشهقة التي لا تشبه الشهقة، وغير الزائلة والشهقة التي ليست للتفتت وليست للإصغاء والشهقة للمعاشرة، وهي فضة الجوهر وهي شهوة الرماد إلي النار، الشهقة الهيام، الطائش....إلخ.

(آه تستحمين، يا أجمل الكائنات.
في أحداق الغريب
هذا الذي لا يحلم إلا بك
يهتز مسرح الشرائع وتحتشد في الخارج نواقيس الفتنة.

الاستحمام هنا وعند قراءة السطر الأول يعطيني إحساساً بجسد أنثي غير واضحة المعالم، ولكن حينما تصل إلي نتيجة هذه الرؤية، حيث يهتز مسرح الشرائع وتدق نواقيس الفتنة يزداد الخيال عمقاً، فالاستحمام هنا أصبح له مفهوم آخر، العري الكامل وما يرافق هذا العري من حركات وقفزات تهز كل الأنا العليا للإنسان الفرد والمجتمع.
إلا أن هناك فقرات عديدة تعطيك تداعيات صوفية جميلة بعيدة عن خيالات الإيروسية، وهي الغالبة علي هذا النص، لذلك ونتيجة لهذه الغلبة التي خلقت أجواءً عامة لعموم النص هي التي أوصلتنا إلي النتيجة القائلة بهيمنة الحب العذري علي النص رغم تلك الخيالات الإيروسية، فهو في تلك الفقرات يكتب بدم نوره (فيما ليل المرأة الغائبة دوماً يغطي الحواس" واللافت إن الشاعر لا يكتب عن امرأة حاضرة يراها كما يري المرء عادة بناظريه، بل عن امرأة مستعارة من غيابها الذي يتجلى كفعل حضور، فالمرأة تحضر عبر ما يترك غيابها من أثر وتغيب لتحضر حضوراً أشد وقعاً من حضورها الحسي، إنها طيف ولكن من نور، وربما من نار حارقة) (27) وهو في هذه الفقرات ومن فرط ما يعشق العاشق معشوقته يحل بها وتحل به (فاذا بهما كائن واحد، متحدان في الروح والجسد، في الحواس والخواطر ) (28)أليس هو القائل:


- (إذا كنت قد جننت بك
فلأن من يهواك منذور للجنون - الفقرة(12)..
- (أنفاسك لا تتبدد
إنها ترسو في الجلد - الفقرة (16)..
- إليك وحدك
تنحاز حواسي - الفقرة (22)..
- بك يا ابنة الضوء أمتزج
بك وحدك أكتمل - الفقرة (23)..
- ( من يشم دمي يشم عبير ظلك - الفقرة (26)..
- ( عندما التفت أرى ظلي ظلك - الفقرة (27)..


هي إذن صوفية وجدانية شعرية قبل أن تكون عرفانية دينية، أي أن هذا النص يسعى إلي أن يجعل من الصوفية (قصيدة معاصرة تطلع من القلب وتخاطب القلب بلا تقديم ولا تذييل، فالمسافة التي بينه وبين معشوقته ليست مسافة خارجية بل داخلية.) (29)، إنما وكما عبر عنها رولان بارت في كتابه مقاطع من خطاب عشقي (إنها مسافات القلب والسكن والهجرة والرحيل وجميعها من أعمال القلب.) (30)

والمتأمل لكافة هذه الفقرات وتداعياتها وحتى الإيروسية منها يستشف أن كلها من فعل الخيال وافتقاد تحقيق تلك اللذة والرغبة، فالنص لا يتضمن حتى كلمة ملامسة فعلية للجسد، فهو يسمع بقدومها، يتخيلها، يحلم بها، وحتى تلك الفقرات التي لا يذكر فيها لا يوجد ما توحي بالمادة المحسوسة فعلاً، وحتى حينما يذكر الأنفاس أو الحواس فهو في حالة نوم أو تمني وأقصي ما يصل إليها ظلها، وحتى عندما يذكر وصفاً جميلاً لليدين والقدمين والإبط والرقبة والخصر و...إلخ فهو لا يقترب من هذه الأعضاء ولا يلامسها وإنما يتخيل فيعطي الوصف الخارجي لها ويترك للقارئ خياله، وحينما تقترب بعض الفقرات من حالة التلامس كما في الفقرة (108) حيث يرتشف من أناملها المتعة وكذلك الفقرة الطويلة المؤلمة من حيث وصف الحالة (الفقرة (118) حيث وجهكِ الذي أحتويه بيدين راعشتين فيغمرني البريق وألهج بالح، فالملامسة في هاتين الحالتين كمثالين فقط هي ملامسة عفيفة أو معذبة (وكذلك الفقرة (76) حيث خصلات شعرها تلتف حول رسغه ويهتف ممجداً بالعبودية) وتأتي أهمية الملامسة كوسيلة مهمة للعاشقين في إقامة الاتصال ومنه الفهم عبر المدرك الحسي المباشر(فالمركوز في طبع الأيدي إنها لا تكذب، في حين يكذب الكلام كثيراً حين يصدق، واللمس لا يدعو إلي برهان منه يستنتج الصدق أو البطلان، فاللمس هو المس إن لم يقتصر علي اليد، يوقظ في الجسد المتحصن في حياده الأخلاقي، اعتمالا للأحاسيس الهجينة، فالجسد يستيقظ حين يُمس) (31)، وحينما يمارس المبدع هذا اللمس علي المجهول والخيال فقط، فيصبح اللمس في النص مساً أي (اللمس بجماع الجسد علي صفحة الغياب) (32).
إلا أن هذا المفهوم النفسي الذي حاولنا إقحام النص فيه ينهزم أمام هذا النص باعتباره نصاً يبوح فيه المبدع عن حب دون أسباب أو مسببات رغم أعراضه الأكيدة ونتائجه الجلية ولكنها جميعها يحكمها قانون أعمي وضعه إله أعمي، إله الحب (إيروس) الذي تخيله الإغريق معصوب العينيين، ولذلك فمشروعية هذا الخيال في هذا النص نابعة من أن المحب له وحدانية طقوسه وخصوصيتها علي الرغم من وجود حالات الحب عبر تعاقب العقود وتتالي القرون، وما محاولتنا هذه إلا لاستعراض مدي إمكانية تحمل هذا النص المفتوح لتحليلات متناقضة ومتعارضة في ذات الوقت.


صناعة النص:

هكذا أصل إلي السياق الأجمل الذي جذبني لهذا النص، وهو أنه علي الرغم من تناثر فقراته فإن نسيجه المبدع هو قول ما لا يقال، وهذا يعني أن الذي (ليس ظاهراً في السطح علي صعيد التعبير هو ما ينبغي أن يفعل علي مستوي تفعيل المضمون) (33) أي أن هذا النص خلق فضاءات بيضاء للقاريء وترك له ضرورة ملؤها، وهو بالتالي يجسد كنص علي الرغم من بساطته اللغوية مقولة النص المفتوح إزاء ألف قراءة ممكنة وكلها تتوفر فيها متعة لا متناهية، فلقد استخدم المبدع في هذا النص كلمات وجمل باعتبارها منبهات رائعة من منبهات التخيل. فالأنثى هنا وضعت ضمن سياقات عديدة، أحياناً تكون جزءاً من العالم بأعشابه وأنهاره وبحاره فتعطي للخيال حرية الانطلاق، وأحياناً تصبح حبيسة الأهداب والأحداق أو السرير والحجرة فتعطي الخيال قيد الانغلاق والترويض، وأحياناً ثالثة تصبح المتمردة أو المتكبرة أو المغرورة فتعطي الخيال رغبة المواجهة والتحدي أو الاستسلام واليأس، وهكذا تصبح المرأة/الأنثى هذه شكلاً صعباً في الحب أو شكلاً طيعاً أو مستحيلاً، وهكذا أيضاً تنتقل من الصفاء الروحي المرتبط بالشفافية الواضحة في النص، تلك الشفافية التي لا تلقاها إلا عند الزاهدين البسيطين، فإذا بك تنتقل إلي عالم آخر يترائ لك فيه جسد المرأة كالأثير فقط بعيداً عن مادته، فتحس بعمق تأثره بها لدرجة تتيقن بأن إصراره علي أن يبقي الحب هكذا دوماً حلماً سرمدياً هو إصراره علي أن لا ينزل إلي الواقع الفعلي فيفسد أو يطفئ جذوته وعذاباته.
هذه هي إذن مخرجات هذا المصنع النصي الخاص بأمين صالح، فعبر عدد محدود من المفردات في فقرة واحدة من هذا النص ولد لنا أقصي الطاقات التخيلية بخفة كخفة الروح ونشوة كنشوة الراح.
أرجو ألاّ يكون هذا الرصد والتحليل طريقاً لتخريب لذة هذا النص، إذ ليس للذة شيء أكثر قتلاً من سؤال يستفسر عن موضوعها، وأرجو ألاّ أكون من هؤلاء الثوار الذي قال عنهم أمين صالح في ندماء المرفأ... ندماء الريح (لماذا يرصد ثوار الكلام أخطائي؟.،
ولنتركه يحلم ويستمر في حلمه.
احلم يا أمين، فحلمك يخلق إبداعاً لذيذاً وجميلاً ومبهراً، ولتتخيلنا نحن الراصدين حشرات مزعجة نحوم حولك، نزعجك بأزيزنا ولدغاتنا، فتهشنا منزعجاً، خائفاً من هروب حلمك، أو كما عبرت أصدق وأجمل تعبير عن حالنا (هِش... إني أحلم. (34)

****

إضاءة أسطورية للدخول الأول من (القيامة)

قد أكون خاطئاً في تصوراتي حول ( القيامة) (1) ، ذلك أنني قد ذهبت بعيداً في هذه التصورات لدرجة اللامعقول ، وعلي الرغم من ذلك سأطرح تلك التصورات التي خرجت بها عن العلاقة بين عناوين ومضامين الدخول الأول من القيامة من جهة وبعض مدلولاتها التي تحتضنها من جهة أخري، مؤكداً بأن صاحب القيامة قد يكون بعيداً عن هذه المدلولات الفلسفية/ الأسطورية أثناء الحالة الشعرية للشاعر ، ولكن ألا يعقل أن تلك المدلولات تنتقل من عقل لأخر ومن مجتمع إلي آخر من دون أن تصل إليهم مرتبة منظمة واعية؟ بمعني آخر ألا يجوز أن الشاعر يدخل في حالة من الصراع بين الوعي واللاوعي ليخرج منه بقصيدة تحمل في أحشائها أبعاداً فلسفية/ أسطورية وتجارب عالمية وظّفت في خدمة الرمز. أليست التجربة الإنسانية أكدت أن هناك من يطرح فكراً أو يكتشف نظرية ويفاجئ أن غيره ومن منطقة أخري تبعد عن منطقته بعد القارات يحاول أو حاول أن يسير علي الطريق نفسه. ألم يكن هناك من يؤمن بتوارد الخواطر وقد تكون هناك خواطر فلسفية تتداخل مع الهدف الأدبي نتيجة لتراكم الخبرة والتجربة والقراءات السابقة.

تبحث الدراسة عن ذلك الخيط الذي يربط القيامة بالفلسفة من دون أن تركز علي أي جهد حول الشكل والجماليات الفنية موضحة أن المضامين الفلسفية للعناوين وأبيات القصيدة كانت جسراً لعبور الشاعر فقط للرمز الذي بدأ طاغيا علي مضمونه الفلسفي/ الأسطوري ، والدراسة تقتصر علي الدخول الأول من القصيدة الواحدة (القيامة) ذات المداخل الأربعة، وركّزتُ علي المدخل الأول منها فقط مؤكداً أن الوحدة الفنية للقصيدة متكاملة في مجملها، والمداخل غير منفصلة عن بعضها ولمجرد التحول من حالة إلي أخري برزت العناوين الثانوية والمداخل الرئيسة.

مدخل

في نقد رائع للقيامة يبدأ شوقي بغدادي حديثه " هل هي صوفية جديدة حين يستبدل (الله) بالقضية، أم سريالية جديدة حين يستسلم الشاعر لتداعي اللاشعور - عن وعي - كي يعوض علي الحقيقة في المتاهات الباطنية اللامتناهية للنفس، هل هي مراجعة تأملية حرة لجميع تجارب المرارة والنضال والبحث في الماضي عن شكل تهويمات طليقة من جميع التقاليد (2)
أليست الصوفية " الله " القضية " السريالية " اللاشعور " الوعي " الحقيقة " النفس" التأمل " النضال " التقاليد " هي موضوعات في الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والاجتماع.
ولقد عبّر مرة الدكتور فؤاد زكريا " أنه ليبدو أن الفيلسوف عندما يصادف أسئلة يعجز عن الإجابة عليها يشعر بإغراء لا يقاوم لكي يقدم إلينا لغة مجازية بدلاً من التفسير، وإننا لنجد العقل الفلسفي طوال تاريخ الفلسفة مقترناً بخيال الشاعر ، حيثما كان الفيلسوف يسأل كان الشاعر هو الذي يجيب " (3) أليس كل إنسان نسبياً - علي الأقل - فيلسوفاً صغيراً له طريقة في التفكير.
أليس الشاعر إنساناً له نهج وتفكير يسير علي هداه. ألا تنعكس الآية ويصبح الشاعر فيلسوفاً أو يندمجان في ذات واحدة ويعبران معاً عن فكرة فلسفية بلغة جمالية راقية ، فكلاهما يتأملان، وحينما يندمج التأمل العقلي المبني علي المنطق والبرهان والحجة مع التأمل الشعوري المبني علي الوجدان والموهبة والخيال والتجربة واللغة فإنهما قادران علي ربط المضمون الفلسفي بالشكل الفني في علاقة جدلية واضحة ورائعة ، وهذا ما تلمسها البغدادي في نقده حينما وضح تلك العلاقة الجدلية بين المضمون والشكل الموجودة في القيامة والتي من الصعب التحديد أيهما كان البادئ في التأثير والتوجيه هل هو المضمون الذي فرض هذا الشكل ، أم هو الشكل الذي فرض هذا المضمون ، أليس هو القائل . (إن في القيامة كانت بداية رحلة الأعماق، من هناك كانت المرايا عناصر تعبيرية تتحوّل إلي طريقة حياة واحدية الرؤية التي من المحتمل أن تعاني منها أية تجربة إنسانية في مرحلة من المراحل.. ومن هنا أعتقد أن تجربة (القيامة) طرحت علي تجربتي أسئلة لا تحتمل جواباً واحداً، ولا تريد ذلك أيضاً حيث مرايا الأعماق أكثر خطورة من الكشف من مرايا الواقع، لأن عناصر الحياة تأتي من هناك، من الأعماق " (4) .

إذا فالحق معي، فالقيامة تحتمل أكثر من جواب واحد، وقد يكون هذا أحد الأجوبة المخفية في الأعماق التي فيها تتكون عناصر الحياة .

الدخول الأول

يقول الشاعر " إنني أستمتع بحرية الأحلام ، وأرثي لمن يكتب من دون أن يحلم ، من دون أن يقدر علي كتابة أحلامه " (5) نعم أنه الحلم الجميل الشفاف الذي من خلاله انتقل الشاعر من عصر ومن مرحلة إلي أخري ومن تكوين الإنسان منذ البدء إلي الصراع الدامي الذي يعيشه في هذا القرن .. إن الدخول الأول هو الخلق ، خلق الوعي ، الإنسان ، الوجود ، إنه الخلق المطلق بكل مات حمله كلمة المطلق من معاني فلسفية يبدأ الشاعر بعنوان فلسفي مثير بلغة شعرية جميلة ، الهواء ثم النار ثم التراب وأخيراً الماء ، عبر هذه العناوين وعبر ذلك المدخل يحملك إلي بداية نشوء الفلسفة علي الأرض ، بداية البدء في التفكير حول الأسئلة الصعبة والمحرمة، بداية نشوء الإنسان ليس كجسد فحسب بل كفكر يؤثر علي الواقع ويغيره.
في القرن السادس قبل الميلاد طرح الفيلسوف (انكسيمانس ) أن أصل الحياة بل المادة الأولي التي تكونت منها سائر الموجودات هي الهواء " وهو مادة لا نهائية ، معينة متحركة علة للحياة في العوالم وفي جميع الأشياء المتحركة " (6) واعتبر اللامحدود مسئولا من الحياة والفعاليات العقلية وجعل الهواء يفسر من خلاله وجود الحياة وطرح أن " الهواء يسيطر علي العالم ويوحد أجزاءه كما تسيطر النفس علي جسمنا وتوحده ، وبالتالي فالهواء يتضمن قوة التفكير وبه يسيطر علي الكل " (7)

" الهواء قريب من اللامادي ، وبما أننا نأتي إلي الوجود بواسطة تدفق من هذا الهواء ، فيجب أن يكون غير محدود وغنياً بحيث لا ينضب " (8) هكذا نطق أنكسيماندر .

" شعرت بأني بدء لم يبدأ
صرت النطفة "
" الفضة غامرة
غائمة
كالغبش البدئي
سديم "

يذكرني ذلك بإحدى نظريات خلق العالم العلمية التي توضح أن الكون بدأ من السديم ثم تحول تدريجياً نتيجة التفاعلات إلي شيء رخو ومن ثم إلي شيء صلب منه تكونت الكواكب في المجموعات المعروفة.

" دخلت
كأني أدخل في التكوين
تعال أريك الحلم وسر الحلم
تعال تعال
أريك المدهش هات
فجئت
وكنت الطفل الكهل
وكنت الشيء اللين والسائل والمتكوّن "

إنها بداية الحياة .. بداية الخلق في حلم الشاعر وهو يطير فوق ريش ناعم يسحبه من عالم إلي آخر ، يريه التكوين من البدء وكأنه نور تاريخي قديم ، شاهد علي بداية تكوين الخلق .. خلق الكون والقناعة والذات والإنسان .. وهو الكهل في العمر والتجارب يقف كالطفل الصغير العاجز علي تفسير الأحداث المحيطة به .. تخيلوا وبشفافية عميقة لحظة امتداد اليد .

" فمدت يدها ... أخذت بيدي
أطراف أصابعها كالريش النائم
كانت ريشاً
جاءت
لمست أطراف يدي .. أخذت بيدي
قالت هات يديك
تعال تعال أريك المحتمل القادم
هات يديك أريك أريك أريك.
أشكل في عينيك الأشياء
تعال تعال أريك الحلم وسر الحلم
تعال تعال
" أريك المدهش هات
فجئت "

وهكذا وبعد إصرار طويل " تعال .. تعال .. أريك .. أريك " وبعد إغراء لمشاهدة السر قرر الشاعر أن يطير محملاً علي ريش خفيف ناعم نائم كروح تدخل في جسد الإنسان، كأنفاس الريح تدخل في الإنسان، كالنفس محمولة علي أجنحة الريح تتسرب في الأبدان .. هكذا كان يفكر الفلاسفة القدماء ويأتون بتشبيهات مشابهة للريش - الروح - الخفاء " وخلق بعدئذ سحاباً رقيقاً فأصبح في عماء ( أي غمام ) تحته هواء، وفوقه هواء، ثم خلق الماء علي متن الريح ووضع عليه عرشه ثم خلق البيت العتيق فوق الماء وجعله علي أربعة أركان، ثم قبض من حجارة الماء قبضة، ثم فتح القبضة فتنفس الماء وارتفع دخاناً وإذا بسبع سماوات في كل سماء ملائكتها" (9) .

لقد قرر الشاعر أن يري العالم منذ القدم، منذ لم يكن هناك فكر ورأي نفسه والآخرين، رأي أنه البدء الذي لم يبدأ ومرت أمام عينيه أحداث التكوين الأولي وهو مرتبك بل ومندهش " لم أعرف أين .. أين .. أين " رأي الغبش البدئي، بداية الإنسان، رأي السديم، ذلك الظلام المخيف الضخم اللغز الذي منه انبثقت الكواكب والشموس، ودخل في التكوين ورأي بداية خلق الإنسان، رأي الإنتاج الجديد وهو يبدأ، أحس أنه هو الأول، هو البادئ، هو المطلق، أحس أنه اللين السائل ومنه تكون الإنسان الجسد، أحس بالوعي يتسرب في ذاته، الوعي الملتزم الذي يحول الشاب إلي كهل من جراء هموم القضية والذي ينتظر الخطر في كل لحظة

" كأني لم أولد بعد وليس لموتي وعد "

الهواء إذاً منه تكونت الحياة، ليحمله الريش الناعم، البراق، الحلم إلي عالم آخر ليكوّن بقية ذاته ونضجه ورحل إلي النار.

النار والتكوين

النار كلمة تداولتها مجموعة من الفلاسفة، فها هو (هرقليطس ) الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد يطرح أن هناك شيئاً واحداً يسيطر علي الكل ويحكم كل صيرورة ووجود، وجود الطبيعة والنار والآلهة يسمي هرقليطس هذا المبدأ (باللوغوس ) ويقول عنه إنه "النظام الخالد الثابت، الكوني والوحيد في الموجودات، أنه النسبة الثابتة التي يتخذها المبدأ المادي الأصلاني الذي هو النار في حالاته المختلفة، هذا اللوغوس والنار هو الطريق نحو الأدنى ونحو الأعلى يجعل من الوحدة كثرة ومن الكثرة وحدة، إنه المقياس الذي يحكم الحقيقة والعدالة ويصحح كل انحراف، إنه يحكم بواسطة الكل ويبقي منفصلاً عن الكل، اللوغوس والنار جهتان لموجود واحد لا يمكن رده إلي المبدأ المادي ولا إلي الماهية المثالية بل إلي الوحدة الدينامية للأضداد (10) هي (أي النار ).
توحد المادة والروح وتوحد الرذيلة والفضيلة تحيل المعارف المادية مثالية والمعارف المثالية مادية، إنها المبدأ الذي يقوم عليه غموض أساسي لا يفتقر إلي السحر، بل هو ما ينفك يحلل نفسياً في اتجاهين متضادين، ضد الماديين وضد المثاليين وما سبب هذه الثنائية العميقة إلا أن النار كامنة فينا وخارجة عنا، غير مرئية ومتفجرة وأنها روح ودخان (11) " لا أحد من الآلهة أو الناس خلق هذا العالم، إنه كان منذ الأزل وهو الآن سيبقي إلي الأبد ناراً حية دائمة تشتعل بمقياس وتحبو بمقياس" (12)
نعم في النار .. القضية الملتزمة .. الآماني المثالية وفيها ينصهر الشاعر .. الإنسان ويتذكر وهو يطير علي الريش الناعم ووحيه وإلهامه يكشف له الماضي الذي منه بدأ ...

" تعال أريك أمانيك تصير
أريك خيالاً كنت تراه وتحلم "
" وعرفت بأني أقف الآن بوهج الفضة
هذه فضة أيامي الأولي
حين دخلت
دخلت النار "
هل يا ترى كانت أيامه الأولي ناراً ؟!

إن النار بالنسبة للشاعر هي مجموعة المتناقضات المادية والنفسية والتي تدور في مخيلته وإن كنا غير راغبين في التوسع داخل العنصر النفسي للأدب ودور النار في ذلك، إلا أن الذي شجعنا في سبر غور هذا المجهول الشيق ولو بشكل سريع هو إصرار الشاعر الالتزام بالعناصر الأربعة وهي الماء والنار والهواء والتراب وغيرها من الرباعيات المعروفة في الفلسفة القديمة، وسوف نتوسع في ذلك لاحقاً إلا أنه من المفيد التأكيد بأن هذا المدخل يتضمن الكثير من التفسيرات التي طرحت من قبل غاستون باشلار، الذي وضح وكشف الكثير من المفاهيم اللاشعورية لدي الشعراء حينما يتطرقون في إبداعاتهم للكثير من الصفات النارية والمائية والهوائية والترابية، وما تحمل هذه العبارات من معان عميقة بالنسبة للإنسان " تهيئ لنا النار والحرارة أدوات تفسير في مختلف الميادين لأنهما تتيحان لنا المناسبة لذكريات لا تنالها يد البلى، وتتيحان المناسبة لاختبارات شخصية، بسيطة، حاسمة، وهكذا هي النار ظاهرة ذات امتياز يمكنها أن تفسر كل شيء، وإذا كان كل ما يتغير بطيئا تفسره الحياة فإن كل ما يتغير سريعاً تفسره النار، فالنار هي الحي الأعلى، وهي داخلية وخارجية، تحيا في قلوبنا وتحيا في السماء، تصّاعد من أعماق الجوهر تبدي لنا حُبّاً ثم تعود فتهبط إلي قلب المادة وتختفي كامنة منطوية كالحق والانتقام، وهي الوحيدة من بين جميع الظاهرات التي يمكنها أن تتقبل كلتا القيمتين المتضادتين، الخير والشر، تتألق في الفردوس وتستعر في الجحيم، عذوبة وعذاب مختبر بداية ورؤيا نهاية، مسرّه للطفل يجلس وديعاً قرب الموقد غير أنها تعاقب علي كل عصيان إذا ما أريد الدنو منها كثيراً والعبث بلهيبها، هناءة واحتراماً، إله حارس ورهيب، طيب وخبيث، يمكن أن تتناقض مع نفسها، لذلك كانت ولداً من مبادئ التفسير العالمي" (13) .

إن النار في نظر باشلار كائن اجتماعي أكثر مما هي كائن طبيعي، كما أن النار والموت بلهيبها هو أقل ضروب الموت عزلة، إنه بحق موت كوني يتلاشى فيه الكون كله مع المفكر "المحرقة رفيق التطور" (14) ويري باشلار أيضاً من ضمن ما يراه أن الفن الذي يحاكي الطبيعة يفتح أجساماً بواسطة النار، إنما بنار أشد هي نار النيران المغلقة، النار العليا، نحلم بالإنسان الأعلى وفي المقابل إن الإنسان الأعلى هو مشكلة اللاعقلاني الذي نحلم به كما لو كان مطالبة بقدرة ذاتية فذة ما هو إلاّ نار. " إن الإنسان الصانع هو إنسان السطوح الذي تجمدت روحه عند بضعة موضوعات مألوفة، وعند بعض الصيغ الهندسية العريقة أو الدائرة عنده لا مركز لها، فهي تحقيق للحركة الدائرة المستمدة من راحة اليد، وعلي النقيض منه الإنسان الحالم أمام موقده فهو إنسان الأعماق وإنسان الصيرورة، أو بعبارة أخري أن النار تعطي الإنسان الحالم درس العمق ذي الصيرورة، اللهب ينبعث من قلب الإنسان" (15)

وبمجيء الشاعر إلي الوجود، الوعي في الهواء ودخوله النار التي نفخت روح التحول في الحياة، بدأ يقف (وقفت) في التراب، الطين الذي خلق منه الكائنات والإنسان وناقشته ليس فقط الأديان بل الأساطير القديمة والعلوم النفسية أيضاً

انصهار القناعات

هنا في الطين - التراب، لا بد أن نطير جميعاً معه، محملين علي الريش النائم، مخدرين بوعي لنري الأسطورة والملحمة والفلسفة، ففي التراب نستشف تداخل الصور في مخيلة الشاعر وهو يسبح في الفضاء علي ريشه، ونكشف محاسبته للذات ما بعد الدخول إلي النار، محاسبة الالتزام أو القناعات السابقة التي كانت رخوة في لحظاتها الأولي في وعي الشاعر والجموع

" فهذي الأرض الرخوة لا تحملني
وقفتُ
الأرض الرخوة ترخُي تربتها وتسوخُ "

وكلما كان لا شعوره يكشف له أن المشي علي الرخو مخيف، يأتي صوت آخر يدفعه نحو الأمام ليس علي الرخو فحسب بل علي الماء الألين من رخو الطين.

" من يمشي فوق الرخو بلا خوف
ستمشي من غير مخاوف فوق الرخو وفوق الماء
ستمشي "
التردد في دخول ما لا يدخل فيه، في المخاطر وفي المجهول " تقدم فتململتُ
تقدم فتلفتُ
أخذت بيدي
تعال تعال "

وبتردده كان يبحث عن منقذ ينقذه، فيلتفت ليبحث عن ريشه الناعم ليحمله، هذا الرخو يتحول إلي صخر، إلي قناعة راسخة، الحقيقة الحارقة، الشمس التي تستطيع بتبخير الماء من الطين وتحويله إلي صخر.

" تحيل الطمي السائل صلباً "

ويستمر التحول / التغير من رخو إلي طين إلي صخر صلب إلي جلمود صلد، وبانصهار الصخر وتجميده مرة أخري يتحول الصلد إلي شيء أصلب ويتحول الذات إلي جلمود لا يتفتت مهما تدحرج علي الصخور والأحجار...

(الجزء الرخو من الأرض بلاد هجرتها الشمس)
(صار الرخو قوياً
صار الرخو صخوراً تحت القدمين العاريتين
ومد الرخو يديه
تثاقل قال
أنقذني
هاتِ الشمسَ
تكلم عني
باركني بالدم تجيءُ الشمسُ
تحيل الطمي السائل صلباً
هاتِ
أصهرني.. حوّلني جلموداً
ترتاح حوافر خيل الشمس عليه
أخبطني بالقدمين الضاريتين... أصير "

إن تداخل العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية هو تعبير عن التحوّلات في الذات والوعي، تلك التحوّلات التي أفرزتها تجاربه القاسية في الحياة والسجون لتتحول قناعاته إلي جلمود لا يذوب ولا يتأثر بعوامل " التعرية " الطارئة السريعة..
إن تلك التحوّلات تتزامن مع تصورات الإنسان البادئ من الطين، أنه يري نفسه ينخلق أمامه رأي ، التراب - الطين الرخو يتحول إلي صلب - جسد ينصهر في الحياة ليتحوّل إلي جلمود - مناضل عنيد لتحوّلات الواقع الموضوعي والذاتي، إنه يري نفسه المطلق الذي خلق الحياة من رخو الأرض.

" فمددتُ يديَّ ملأت الكف برخو الأرض
وصافحتُ الجزء الرخو من الكف
فضج الفرح الخالق من أوردة الأرض
سمعت الفرح المخلوق "

هل هو سحر ؟ الخيال النرجسي .. فكففتُ. بالبقية الباقية من الرخو في القضية ومواصلته ، إعادة الحياة والفرح في الأرض ، وحينما حاول الذوبان مع الرخو وفعل لبرهة

سمع الصوت المهدد
" كفي .. فكففتُ .. فتحتُ الكفَ "

صرخة (كافية) تنقل الخيال من لحظات الفرح والنشوة وفجأة إلي لحظة الانصياع لعالم جديد " تعال.. تعال " تعال إلي الماء يا فضة أيامي الأولي ليكتمل النضج، بعد أن رحل الشاعر إلي الأعماق ليخلق ذاته ليصل إلي الأرض لينثر لها قناعاته وتبرمه وضياعه وليواصل معها صراع وعيه ليصل إلي القمة.

سر الماء

يبدو أن للشاعر حوادث وتواريخ وقصصاً وعشقاً مع الماء، فالماء مرتبط بالشاعر ليس في هذه القصيدة فحسب بل في قصائد أخري تحمل بعضها اسم الماء، وللماء فلسفته العميقة منذ طاليس، ذلك الفيلسوف الأيوني الذي يري بأن الأشياء كلها تصدر من أصل واحد وبالتالي رغم اختلافاتها الظاهرة هي واحدة " الاختلاف بين الأشياء حية لأنها متحركة وإن حياة جميع الأشياء من الرطوبة، من الماء وأن الحرارة نفسها تتكون من الرطوبة وتبقي حية بها، وأن بذور جميع الأشياء ذات طبيعة رطبة، وأن الماء هو أصل الطبيعة الرطبة في الأشياء" (16) هكذا تكلم طاليس.

" الآن أصيرُ... أنا أعرفُ
أدخل... فدخلتُ
كان الماءُ جميلاً.. كان كأن الماء أنا وكأني أعرفه "

الماء في الأديان هو أساس الحياة وفي الفلسفة الهندية يؤكد الفيلسوف "براهماندا " أن الماء كان قبل كل شيء ومنه خلق الله البيضة التي أنفلقت مكونة السماء والأرض من كل نصفيها "، والنيسابوري ( الثعلبي ) يري أن " الله حينما أراد خلق السماء والأرض خلق جوهرة حجمها أضعاف أطباق السموات والأرض، ثم نظر إليها نظرة هيبة فصارت ماء، ثم نظر إلي الماء فغلي وارتفع منه دخان وزبد وبخار" (17) والحضارة البابلية والمصرية تفسران خلق العالم من الماء وبشكل أسطوري أيضاً مؤكدتين أن الماء هو المبدأ الأول غير المخلوق... ويأتي القرآن الكريم ليؤكد هذه المقولة " وخلقنا من الماء كل شيء حي ".

أما الشعراء فيأتي علي رأس من فسر الكون وخلقه كتفسير طاليس هو شاعر الملحمة الإغريقية ( هومر ) ولقد تحول هذا المبدأ الأول لدي بعض الشعراء والحضارات إلي رمز أدبي جميل وصعب وكذا الحال بالنسبة لشاعرنا، فحقاً وراء الماء سر ما يحمله لنا الشاعر يكشفه قطرة قطرة

" أُباهي بكَ أيام الليلِ
أريكَ الوهمَ
أسمّي فيكَ الحُلمَ الآتي "

هذا الماء الذي يرمز في كثير من الأحيان إلي التجدد والتطهر والثورة أو خط الثورة والتغير ويرمز إلي الطهارة في حياة الإنسان، يصارعه الشاعر ويندمج معه ويسمع منه هو " الشامخ " " الجميل " " اللاهج "، الماء الذي كان مختبئاً في ذاكرته تذكره بصعوبة المهمات، ويقترب من الحقيقة ويربط الماء بالدم الثاني، وهنا يأتي من يمنعه من الاستمرار في اكتشاف الحقيقة والاستمرار في الغوص بماء الطهارة والثورة " قال كفي " ولكن لأول مرة يرد علي الصوت نقيض ردوده في الهواء والنار ولا يكفف " فصرخت الماء أنا " وهدده الصوت من جديد " كفي " فتراجع باستسلام " وبكيت "
وترك هذا العالم - الذكري - الأعماق - ومر الريش النائم من هذه المرحلة، بعد أن اكتمل نضجه.

" مشيتُ وسرُ الماء معي
أخذت بيديَّ وسرُ الماءِ العاشقِ في رئتي "
هل مشيته وهو في لحظات الفرح والقبلات يعني وقوفه بعيداً عن النار.. تصيبه حرارة اللهيب فقط ؟
" رأيت يدي في الدم وماء الدم "

ولقد عبر جبرا إبراهيم جبرا في كتابه "الأسطورة والرمز" عن اعتماد الشاعر علي الماء وكان مصدره الأساسي كتاب غاستون باشلار "الماء والأحلام" إذ وضح أن الخيال الأدبي وكذلك الخيال الذي لا يعبر عن نفسه بأعمال أدبية يمكن ربطه في كل حالة علي حده بأحد العناصر الأربعة التي تحدثت فيها الفلسفة القديمة النار - التراب -الهواء - الماء، والتي تنشأ عنها أربعة من خليقة الكون وتحدد أربعة أنماط من المزاج الشعري وأن الكتّاب يختارون "حدسياً" صورهم في العنصر الذي يؤثرونه بدائياً وبشيء من الوعي، وهو يعترف أن ما يفعله ( باشلار ) هو صور الماء والذين يشاطرونه هذا التفضيل بوسعهم أن يدركوا أن الماء يمثّل أيضاً نوعاً من المصير، لا مجرد مصير باطل من صورة عابرة أو مصير باطل من حلم لا ينتهي، بل مصير جوهري دائب باستمرار علي تحويل مادة الكينونة، ومن ثم سيدرك القارئ بمزيد من الأسى والحزن أحد أوجه الفلسفة الهيراقليطية. لا نستطيع أن نخطو مرتين في النهر نفسه - لأن الإنسان في أعماقه يشاطر الماء مصيره الجاري" (18).

ومن دخوله عبر الهواء إلي مجيئه ثم دخوله في النار ووقوفه أمام الطين الرخو إلي احتضانه للماء. استوعب وفهم " وفهمت "، وبهذه الكلمة ينهي الشاعر رحلته في الدخول الأول، وبمعني آخر ينهي الريش الناعم رحلته الأولي وينزل الذات من الفضاء الكوني ومن فضاء الأعماق لترتاح...

ولكن هذه الراحة هي ذاتها استراحة المحارب الذي يعد نفسه لخوض معارك أخري، وهذا ما نشاهده في المداخل الأخرى من الديوان التي تبدأ في سرد أحداث العالم وأهواله وثوراته ودمائه بشكل تقف مشدوها أمام لوحة جميلة تارة وأمام فيلم تاريخي إبداعي تارة أخرى. ولأننا التزمنا بعدم الخوض في المداخل الأخرى مكتفين بالمدخل الأول فقط فإن نقاشنا كله سينصب في هذا الإطار.


منهج العناصر الأربعة


من الواضح أن الدخول الأول تتكثف فيه الكثير من الرؤى والجمل والتعابير الفلسفية التي استعملت كرموز أدبية راقية تذكرك بمدارس الفلسفة وأسئلتهم الحائرة، رابطاً مجمل تلك المفاهيم بوعيه في خضم الحياة منذ تلمس الوجود ومنذ كان يريد تغييره نحو الأفضل، ويبدو أن (شاعر الماء ) قد التزم بوعي أو من دون وعي بمنهج إخوان الصفا الذين آمنوا بأن أصل كل شيء يتكون من أربعة عناصر، فمراتبهم أربع وهي" الأخوان الأبرار والرحماء كمرتبة أولي، والرؤساء ذوي السياسات كمرتبة ثانية وهم الأخيار والفضلاء والأخوان الفضلاء الكرام من الملوك، وذوي السلطان الذين يحفظون الناموس الإلهي كمرتبة ثالثة، والأخيرة هي العليا وتكون من الذين يعرفون أحوال الآخرة " (19) وكذلك نظرتهم للطبيعة (أن الأمور الطبيعية جعلها الباري مربعات مثل الطبائع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والتراب والماء، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان . المرة الصفراء والمرة السوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع والرياح الأربع . الصبا والدبور والجنوب والشمال، والأوتار الأربعة الطالح والغارب ووتد السماء ووتد الأرض، والمكونات الأربع التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنس، كما أن سائر الأعداد أصلها من الأرقام الأربعة الأولي. (20)
ويوضح غاستون باشلار منهجه هذا حول العناصر أو الظواهر الأربع والتي يعتبرها داخلة في تفسيرات الأمزجة الشعرية " تتراءى لنا علي الرغم من وجود علاقة بين العناصر الطبيعية الأربعة وعقيدة الأمزجة الأربعة ، أن الذين يحلمون تحت تأثير النار أو الماء أو الهواء أو التراب، ليكشفوا عن تحالف كبير ، لاسيما وأن الماء والنار يبقيان عدوين حتى ولو تلاقيا في الهاجس والذي ينصت إلي خرير الساقية لا يمكنه أن يفهم الذي ينصت إلي نشيد اللهب، انهما لا يتكلمان لغة واحدة .. إننا لو طورنا هذه الفيزياء أو هذه الكيمياء الهاجسية بكل ما تنطوي عليه من عمومية لوصلنا في يسر إلي عقيدة رباعية القيمة للأمزجة الشعرية ، والحق أن رباعية الهاجس لتكافئ رباعية الكربون الكيميائية نقاء وإنتاجية، وأن للهاجس ميادين أربعة واتجاهات أربعة ينطلق منها إلي فضاء اللا نهاية، وإذا أردنا أن نكشف عن سر شاعر حقيقي مخلص ، أمين علي لغته ، شاعر قد أصم أذنيه عن الأصداء التي تتنافر مع الانتقائية الحساسة ، شاعر يود أن يعزف علي جميع الحواس ، فما علينا إلا أن نقول له كلمة واحدة " قل لي ما هو شبحك أهو العفريت أم السمندل أو حورية البحر أم السلفة ؟ " ( السمندل حيوان خرافي يعتقد بعودته إلي الحياة بعد احتراقه . السلفة أنثي السلف وهو كائن خرافي يرمز إلي الهواء في الأساطير السلتية ) .

والحال أن جميع هذه الكائنات الخيالية قد تكونت وتغذت من مادة واحدة - فالعفريت أرضي مكثف، يسكن في شق صخرة ويتولى حراسة المعدن والذهب وهو مشبع بأشد المواد تماسكاً، والسمندل ناري ويبتلع نفسه في لهيبه، أما حورية الأمواج فتنزلق بلا ضوضاء فوق المستنقع وتغتذي من انعكاس صورتها علي صفحة الماء، أما السلفة فيثقلها أقل شيء وتجفل من أقل الكحل وقد تغضب من المدخن الذي يلوث عنصرها وترتفع دون أدني مشقة في السماء الزرقاء ناعمة بفقد شهيتها إلي الطعام ... إن هذا التصنيف للإلهامات الشعرية لا يتعلق بالمادة أبداً بل بالاتجاه ولا يتعلق بالجذر الجوهري أبدا بل بالميول والتسامي" (21) لذا فالدخول الأول قد انقسم إلي أربعة أقسام، وهي العناصر الأربعة بجانب استعماله لرموز في غاية التوسع كالفضة والريش المحمول به والعقل والشيء الحلو .. .إلخ، وأمام هذه البلورات الجميلة يخرج المرء من قراءاته للدخول الأول بالكثير من الاستنتاجات الفلسفية، أهمها أن (شاعر الماء) قد وضع عناوين لتفسير الفلاسفة قبل أفلاطون لخلق العالم، وأن كل فيلسوف طرح تفسيره الخاص لمادة من المواد الأربع وفي فترات تاريخية مختلفة، إلا أن الشاعر مثلما لم يلتزم بفصل الأمزجة الأربعة للهاجس الشعري لدي باشلار، ودمج كل هذه الأمزجة في هاجس واحد، كذلك الحال لم يلتزم بالتسلسل التاريخي أو بالتعريف الحرفي، بل جمعهم في مدخل واحد وتصرف معهم تصرفاً أدبياً راقياً وحولهم إلي رموز تخدم عمله الأدبي، وكان هذا الجمع لكل التعريفات الفلسفية في مدخل واحد قد اقترب كثيراً من تفسيرات إخوان الصفا، وكذلك من تفسير الفيلسوف ( أنبا دوقليس) الذي عاش في القرن الخامس ق.م والذي فسر تكوين الخليقة من العناصر الأربعة معاً وهي " الهواء والنار والتراب والماء، وهي عناصر أزلية أبدية لا تخضع للتغير من ناحية الكيف إلا أنها تفسر التغير الحاصل في الوجود تفسيراً كمياً تحت تأثير مبدأين آخرين هما المحبة والكراهية"(22) وإذا كان للبغدادي رأي حول الدخول الأول والذي يعتبره اتحاد الشاعر " بالهواء ثم بالنار والتراب والماء كعناصر ضرورية لتكوين مخلوق مطهر، صلب، شجاع، نفاذ البصيرة" (23) إلا أن هذه المعاني لها أبعاد فلسفية ورمزية لدي (شاعر الماء) يعمق هذا الرأي .

العقل والشيء الحلو:

من الرؤى الفلسفية التي بحاجة إلي وقفة موسعة أمامها هي قضية العقل وسؤاله الملح حول العالم " أريك جنون العقل .. ولا تسأل كيف
الرؤيا غامضة
لا تسأل كيف دخلت .. ستعرف كيف "

هنا تحس بانسياب الفكر الوضعي داخل هذه الأبيات، فالوضعيون يقولون أنهم لا يرفضون العالم الواقعي لا عملياً ولا نظرياً، بل أن الدلائل كلها تدل في كتاباتهم علي قبولهم للعلوم الوضعية وضرورة الاعتماد علي التجربة وفي قبول النتائج العملية .ورفض المثالية الفيزيائية، ويؤكدون أن العالم أزلي ولا معني للسؤال ( من بداية له أو موجد أوجده ) وكأنهم يؤكدون علي عدم ( التساؤل لهذه البداية ) "ولا تسال كيف " ولقد كرر الشاعر هذه الجملة أكثر من مرة، بل أن جنون العقل هذا قد دخل في صراع ليس ببسيط بين الفلاسفة، تحوّل بعد ذلك من مفهوم مجرد مادي كعقل إلي مفهوم غيبي، أصبح هو بالفعل المطلق الوحيد، فمن أفلاطون الذي طرح نظرية التذكر التي تقول أن المعرفة تذكر والتي تحاول تفسير المعرفة الإنسانية بقولهم أن ذلك قد تم للإنسان ويتم بواسطة عون خارجي عن طريق ما يسمونه (بالعقل الفعال. وهو أحد العقول الفلكية أو أحد الملائكة عندهم، وهو الله نفسه عند بعضهم مثل ( الافروديس ) ومن هذه استمدت فكرة ضرورة حكم الفلاسفة وفكرة العظمة التي يتصف بها هؤلاء الفلاسفة كما عند الفارابي وسواه وتوجد نفس النظرية لدي أرسطو والكندي وابن سينا ومعظم الصوفيين الإشراقيين، ولقد تقدم عنهم الأكويني الذي جعل "العقل الفعال " جزء من العقل البشري (24) .

أما الشيء الحلو فيبدو أنه يرمز إلي فكرة في أعماقه مرتبطة به لا يستطيع الفكاك منها.

" ورأيت الشيء وكان جميلاً "
" الشيء الحلو الراكض في جسدي يصطحب الآن كفي "

ويستمر (شاعر الماء. في إدخال الشيء الحلو في الدخول الثاني والثالث وهنا يتوضح تقريباً سر هذا الشيء الحلو حينما يردد في الدخول الأخير

." ورأيت الشيء الحلو رفاقاً أعرفهم
لكن من أين سأذكر، أين أعرف هذا الجمع "
ثم يؤكد بأن هؤلاء الرفاق وما يحملون من أحلام ستبقي.
" أن جميل الشيء الكامن في القلب يظل
جميلاً قبل القول وليس يقال "
وفي دخول الدخول يتوحد مع الرفاق
" أعطيت الشيء الحلو يدي
فتذكرت
تذكرت تذكرت
تذكرت البدء "

هل تذّكر بدء حياته، عنفوان أحلامه، شرارة أهدافه .. تذكر مثل هذه الأشياء التي لا تقال فقط ... أم اجتاز مرحلة التذكر إلي مرحلة محاسبة الذات والعمل من جديد ؟

الفضة والأسطورة

وأخيراً كان واضحاً من هذا الدخول، أن الشاعر استعمل مصطلحاً رمزياً أدبياً يدخل ضمن مدلول فلسفي أسطوري ونقصد به كلمة (الفضة. التي استعملت في المداخل الأخرى أيضاً، وكانت محور القصيدة الديوان منذ البداية للنهاية، إنها (اللوغوس ) لدي الشاعر أي المبدأ الأول، أي الحقيقة التي يبحث عنها والتي يراها أمامه ويقترب منها ليكتشف ألغازاً أخري ويواصل البحث .. الفضة لوغوس القيامة.
وقبل الدخول في عمق الكلمة لابد من توضيح مهم وهو أن الأسرار الخفية كالأساطير والخرافات والتفسيرات المثالية لخلق العالم التي هي بمثابة لباب للحياة الدينية هي لم تقتصر علي أنها نفذت إلي القصص الشعبية عند كل طبقة من طبقات المجتمع، بل نفذت أيضاً إلي الفنون والشعر والروايات المسرحية والفلسفة أيضاً ولكن هذا لا يعني بأن المفكر أو الشاعر حينما يستعمل تلك الأساطير والتفسيرات قد آمن بها، بل قد يستعملها من أجل توصيل عمق رمزي ونظرة جمالية علي أشعاره أو كما يقول باشلار ( ندافع عن أطروحة غيبية وذلك بالذات لأنها لا تنشد أية غاية غيبية (25) إذا كانت الإلياذة تذكر " البرونز " أربع عشرة مرة عندما يذكر فيها الحديد، والأوديسا يذكر البرونز أربع مرات لكل مرة يذكر فيه الحديد (26) وعلي ضوء ذلك تم تفسير وتحديد تاريخية الإلياذة والأوديسا. فالقيامة ذكرت اثنتين وخمسين مرة كلمة الفضة، ثلاث عشرة منها في الدخول الأول، وخمس وعشرون في الدخول الثاني، وأربع عشرة في الدخول الثالث. وفي كل مرة رافقت الفضة كلمات أو جمل تعطينا صفة الفضة كالوهج، الحلم ، سيدة الوقت ، الطائرة ، أو سجلت الفضة ككلمة لوحدها.
ولقد شرح البغدادي في نقده ( الدلالات المحتملة المنسجمة مع التوجه الفكري والنفسي العام حيث تبدو الفضة موجودة باستمرار لتؤكد جو النقاء والأصالة ((27 ومع اتفاقنا لهذا التوضيح الفني إلا أن عمق الكلمة يحتمل الكثير، فمن المعروف أن مادة الفضة مادة مضيئة، لامعة، إذا ما كانت خالصة ونظيفة ويمكن أن تتحول في لغة الشعر إلي رمز للشعاع والنور، أي رمز للحقيقة، للأمل، للغد الآتي، للقضية، للحلم المضيء الجميل، وقد تكون الفضة هي المطلق وهي حاملة الأسرار والحقائق، وقد تكون هي المراقبة المرافقة للشاعر منذ طفولته الوطنية إلي نضجه فرؤيته للعالم، والفضة قد تكون عصراً في التاريخ، ومرحلة تاريخية مستمرة في نظر الشاعر. وهذا ليس ببعيد علي الشعراء أن يقتبسوا من الأساطير كما ذكرنا ما تثير رغباتهم المكنونة في استفزاز عقل القارئ وتدمير المعتاد في الواقع، ولقد كان "هزيود" ذلك الشاعر الأغريقي القديم قد ألف أشعاراً سميت بأصل الآلهة أو أنساب الآلهة (وتناول فيها المشاكل الحياتية والأفكار العملية بمحتوي لاهوتي، أي محاولة تفسير حقائق موضوعية خلقية واجتماعية تفسيراً أسطورياً كما يتضح في تناوله للشر والمرأة والتاريخ البشري (28) وبمناسبة دخولنا عالم الأساطير علينا أن نراجع القيامة من جديد، فمنذ الدخول الأول نحس أن الريش النائم يحملك إلي بداية العالم ويمر بك إلي أن نشأت الحضارات والقبائل ونشبت الحروب والثورات، أكان ذلك انعكاساً لأعماق الشاعر أو لتجاربه، إلا أن ذلك وللمتتبع للفكر الأسطوري سوف يذكره بأسطورة خلق العالم لأنه يعيش عند قراءته للقيامة لحظات خلق العالم ضمن منظور شاعر له عمق فلسفي وتاريخي في وعيه وتجاربه، لذا فليس مستبعداً أن نتذكر طريقة تولد الآلهة الإغريقية، لأن الآلهة في تلك الأساطير هي الكون وأجزائه، فهزيود الشاعر الكبير يتحدث " في البدء كان العماء CHAOS ثم كانت بعدئذ الأرض ( جايا ) وثمة أصل ثالث وهو إيروس EROS وهو الحب وقد ولد لهذين ( العماء والأرض ) الأثير ETHER والنهار وولدت الأرض الجبال والسماء، وولدت من اقتران الأرض والسماء، الاقيانوس، أي المحيط ونشأ من تزاوج السماء والأرض الجبابرة TITANS ولم يكن أورانوس إله السماء يحبهم فقذف بهم إلي الظلمة ولكن الأرض ساءها هذا، فعرضت عليهم أن يقتلوا أباهم، وقام أحدهم وأسمه كرونوس وتزوج الأخير بأخته وريا " (29) ولقد قدم هزيود تفسيراً تشاؤمياً للتاريخ عبر المراحل الخمس الذي يري أن الجنس البشري مر بها حتى زمانه، أولها عصر الذهب أي عصر السلام والكمال، ثم خلق الآلهة جيلاً آخر وهو العصر الفضي، أحط منزلة من الأول ولكن يمتاز أفراده في نموهم إلي مائة عام، ثم يأتي العصر النحاسي ثم عصر الأبطال وبعده عصر البرونز وأخيراً (عصر الحديد) (30).

فهل يا تري كان الشاعر متأثراً بمميزات العصر الفضي الذي بقي طويلاً، وما زال في تصوره مستمراً ؟ أم أن الفضة رمز لنور شفاف بلوري تنبهر منه الأبصار ؟ أم أن الفضة هي الضوء الأول في العالم وخصوصاً إنها في ديوان يسمي القيامة، والقيامة في كل الأديان والأساطير ترمز إلي انتهاء مرحلة البشرية وترمز إلي الدمار النهائي ومحاسبة الناس والعالم وقيام عالم جديد. فبعد الخلق ورؤيته للعالم وتجاربه لابد وأن تأتي القيامة، وخصوصاً أن الدخكوخه،ول في القيامة كان دخولاً هادئاً في مراحله الأولي ويختبئ تحت هذا الهدوء بركاناً ثائراً وزلزالاً تحس بهزاته في الدخول الثاني فتري الدماء والعنف والقيم المتناقضة مع المبادئ السامية، لذا نجد أن فكرة السقوط أو "التدهور المستمر للجنس البشري التي وجدت في الأساطير والدين والفلسفة والأديان الكبرى الثلاث تقول بحياة أولي سعيدة ( آدم في الجنة ) ثم الخروج أو السقوط كعقاب علي الخطيئة ثم تتدهور الأمور حتى تقوم القيامة " (31) .

إن هذه الفكرة تحس بها وأنت تواصل مع الشاعر بدايته إلي حين وصولك أنت بالذات بأن القيامة آتية: قيامة بشرية تزلزل الموجود الذي رآه الشاعر . إلا أن للفضة تفسيراً آخر، فليس بعيداً أن الفضة التي قد ترمز إلي الصفاء والنقاء والحقيقة ترمز أيضاً إلي الضوء أو المبدأ الذي يضيء الطريق، ولقد جاءت من الفلسفة الأوروفية التي عاشت كمجموعة واسعة الانتشار في القرن السادس ق.م، هذه المجموعة تتصل بالآلهة (دينسيوس) وهي آلهة النبيذ وأصبحت فيما بعد آلهة التضحية " وتري الأوروفية أن العالم بدأ بالزمان كأول مبدأ للموجودات، والبعض رأي أن الليل هو الأول، بينما رواية أخري تبدأ بالماء ومنه تكوّن الطين وجف وتحول إلي الأرض ومنه ولد كرونوس ومعه كانت الضرورة أي قانون القدر والنصيب الذي يحوي العالم كله، ومن كرونوس ولد الأثير والعماء كذلك، ثم صنع بيضة في الأثير وانقسمت فظهر فانس ( المضيء ) وأول الآلهة المولودين في اللاهوت الاعتيادي هو فانس أو ( الأول المضيء (The Bright One ) أو الضوء وهو ( خالق عالمنا وما يحتويه ) وله أسماء أخري منها منيس أي العقل" (32)، فهل يا ترى الفضة تعني أيضاً العقل وتطوره لدي الشاعر ؟
كان بروكروستوس يتربص بالمسافرين المارين في غابته، فيصطادهم ويسحبهم صوب كوخه، وهناك كان لديه سرير ذو حجم ثابت، فإذا كان صيده أطول من السرير يقطع أجزاءه الزائدة منه ليتساوى جسمه مع طول وعرض السرير، وإذا كان قصيراً ونحيلاً يبدأ في سحب أجزائه إلي أن يمتد (يتمزق) ليتساوى مع السرير أيضاً وحينذاك يبدأ في التهامه .
أرجو ألاّ أكون في موقع بروكروستوس وألاّ تكون القيامة صيدي والفلسفة سريري...!!

****

يمشي مخفوراً بالوعول.. محاولة لمعرفة الخفايا
دراسة حول التأويل التاريخي لديوان
(يمشي مخفوراً بالوعول)

للوهلة الأولي عندملنا،كت ديوان الشاعر قاسم حداد المعنون بـ "يمشي مخفوراً بالوعول " لم أستطع أن أتصفحه أو أقرأ عناوين المقاطع الصغيرة المتناثرة فيه، بل وقفت لفترة طويلة أتأمل اللوحة المهترئة علي غلاف الديوان، تلك اللوحة الرائعة التي تستشف منها رائحة الفلسفة والتاريخ، و رائحة الغبار أيضاً، تعمقت في اللوحة أكثر فرأيت ذلك الحنان العبقري، التشبث الجميل من يد هذا الرجل الوقور علي كتاب، فكأنه يقارن الفكر بالعشيق، يحتضنان برقة، تعمقت أكثر في الكتابات غير الواضحة والخط الكوفي القديم بتصرف جميل من الفنان المبدع عبداللّه يوسف الذي كتب به عنوان الديوان، وكأن الشاعر قد تعمد بوعي واضح أن يربط اسمه واسم الديوان بهذه اللوحة القديمة... تري ماذا يقصد الشاعر من هذه الحركة الجميلة.

أيبدأ معنا - كل مرة - لعبة استفزاز الدماغ ومنذ اللحظة الأولي، ماذا يحتضن هذا الديوان من طلاسم وخبايا وأسرار؟


أمام هذه التساؤلات، أحسست أنني سأدخل حلبة التحدي مع هذا الديوان، ومنذ لحظة تأملي الغلاف إلي أن قرأت آخر صفحة، اكتشفت - وأرجو ألاّ أكون هنا مبالغاً في الخيال والوهم - بأن حتى عناوين المقاطع مجتمعة تعتبر قصيدة لوحدها، توضح كل فقرة منها فكرة عامة وشرحاً واضحاً لعنوان مقطع واحد.

فمقطع (هو) = تراث الليل + ذاكرة الرمل + شهوة الغزو .
ومقطع (الفاتح) = خراج الجزيرة + نبؤة النخل، وغيرها.

ومن الأجوبة التي حصلت عليها من تساؤلاتي، هو أن وراء هذا الديوان / القصيدة مناسبة ما أثارت مكنونات الشاعر لينطلق في الصحراء باحثاً عن خراب المدينة الراهنة... ذلك أن القصيدة تحمل روحاً واحدة متسلسلة مرتبطة بعضها ببعض .
وتيقنت أن التاريخ وليس شيئاً آخر هو الذي فجر رؤيا واشراقات شاعرنا، ولذلك اعتبر هذا الديوان، سردا ً تاريخيا ً من الغلاف إلي الغلاف، يطرح فيه الشاعر عن جذر ومواقف سلالة الغبار المنتفض من حوافر الخيول البدوية القادمة من الصحراء العربية، فالغبار مرتبط بالصحراء، والخيول مرتبطة بتاريخ الفتوحات والغزوات التي انطلقت من صحراء العرب.

كما يطرح فيه مشاعر المنتصرين من مرح وسعادة ويكشف مشاعر الألم والقهر عند المهزومين، ويبرز تاريخ المقاومة البحرية ونهاية البحر، رمز الطهارة ولكن أيضاً رمز الغدر.. هذا البحر الذي كان حصناً منيعاً يمنع الغبار من الوصول إلي اليابسة الرطبة، ولكن أمام الخيول لم يستطع الصمود، فانهار الماء أمام الغبار، واستسلمت النخلة أمام الخيمة.

إن التأويل الشعري الذي سأقدمه سوف يهيمن عليه التحليل والتأويل التاريخي وبالتالي فقد يسيطر علي الذهن بأن هذا الديوان ما هو إلاّ كتاب من كتب التاريخ وما يحويه من أحداث ومعارك، وهذا بالطبع إجحاف كبير بحق هذه القصيدة التي تحتضن من جمال الشكل وما يحتضن من تشبيهات والصور الشعرية ومجازات جمالية رائعة وحكم ومقولات فلسفية عميقة، ما يؤكد عن وصول هذه القصيدة إلي قمم الشعر العربي الحديث.

لذلك لا بد من التنويه ومنذ البداية إلي أن التزامي التأويل التاريخي للقصيدة يجب ألاّ يغفلنا عن رؤية الجوانب الجمالية فيها، فالشجرة لا تعمينا عن رؤية الغابة.


المقدمة .. مفتاح الديوان

من فقرة الربان بزرك بن شهريار الرامز رمزي، تستشف تاريخية هذه القصيدة، فالشاعر يمهد لك فكرته حول القصيدة من خلال هذه الفقرة، إنه صراع البحر وأهواله، إنه تاريخ القراصنة القادمين للنهب أو للدفاع أو المقاومة، إنه تاريخ بحيرة تدخلها من مضيق يحمل لقب الربان ذاته ... ومنها ينطلق الشاعر في سرد أحوال اليابسة، ففي مقطع (الباب) وصف جمالي لحال اليابسة قبل دخول الغزاة، ومن هذه الجماليات تمر أمامك كل صور الطهارة والنقاوة والهدوء والطيبة والتعاون، إنها مدينة في الحلم، في السحاب مدينة فاضلة غافلة عن مصيرها الآتي.

" وكان البابُ إلهاً يذكرُ غفلة أهل الدار ويغفرها "

وحينما ينهي الشاعر وصفه للحال يدعوك أن تستعد ذهنياً وتسجل للتاريخ وللناس تاريخاً جديداً حقيقياً بدل الموجود المشكوك فيه، ففي مقطع (طائر الروح ) يقول:

" افتحوا الدفتر الآن "

ويكرر ذلك مرتين ثم يوجه الكلام للماء - ( لقد وضحت في دراستي لديوان القيامة مدي حب الشاعر للماء وعشقه له، لذلك سمينه بشاعر الماء ) - وهو يدعو الماء رمز الطهارة أن يفتح الطريق ليكشف الغموض المخفي من تاريخ هذه اليابسة:

" قلت للماء، قال: افتحوا مثل جنية هذه الروح، مثل الغموض الذي لف تاريخي المستعاد"

ثم يحاور نفسه، هل حقيقة هذا التاريخ الحقيقي قد انتهي ليحل محله تاريخ مزيف؟
ولكنه يرد علي ذاته بالتأكيد علي الأمل وعودة الحقيقة للتاريخ، هذه العودة الآتية يوماً ما "انتهي ؟ كيف ؟

لا ينتهي
غاب حيناً وعاد "

في هذا المقطع " طائر الروح" يسحب الصخرة السرية لينهار السد الكبير أمامنا ، تلك الصخرة التي تفتح ثغرة واضحة جميلة للماء الطاهر النقي ، إنها السقيفة ( ولنا عودة شاملة للسقيفة كتاريخ وتراث ومعني ).

تبدأ القصيدة كذلك بكشف أوصاف أبطالها ، فبعد تحليل سريع للواقع والاستعداد لشحذ الدماغ في أن يسجل ، يكشف مقطع " تاريخ الماء " الخطوط الرئيسة لأبطال التاريخ وغزاته ، المحتلين والمستقرين ، وهنا يدمج الشاعر بين الذين تمردوا وقاتلوا وأخذوا من البحر قاعدة وملاذاً لهم ، فاتهموا بالقرصنة وبين الذين جاءوا كقراصنة حقيقيين ودنسوا الأرض بهدوء

" لماذا مرت العربات في بطء علي رئتيه ؟ "
هل سينسي البحر مقبرة الصواري والقراصنة النهاريين؟
لماذا عندما اكتنزت قوافلهم دنسوا تاريخ هذا الماء ؟ "

وهنا بالذات يدعونا الشاعر لنتذكر المعارك البحرية ونكران الجميل.

وبعد كل ذلك يبدأ الشاعر في سرد واقع الجيشين المتضادين، ففي مقطع " هو " يبدأ
الجيش في هتك هذه الأرض المقدسة
(يا سيد الهتك
ازرع الطين بالكاف والنون
واهتف لكل النهايات تبدأ
يا سيد الهتك
افتك بنا في هدوء
هدوء
لكي لا ننـام.

وحتى لا نضيع في متاهات التاريخ المخفي يعيدنا إلي الماضي، إلي التراث، إلي بداية المؤامرة، إلي ذلك الاتفاق الذي غير التاريخ العربي إلي مسار آخر !!

" كل سقيفة وشمُ علي جسدي
يدي في زعفران الليل
يا وجعاً تراثياً "

وللسقيفة تاريخ عربي معروف، فهناك حسمت مسألة الخلافة إلاسلامية بعد موت الرسول الكريم، صلي الله عليه وسلم، وتم الاتفاق بين المهاجرين والأنصار وفي غياب ابن عم الرسول، علي بن أبي طالب، في بداية المفاوضات وبحضوره المتأخر وبعد أن تم الاتفاق بالإجماع علي أن الخليفة منا ( المهاجرون ) والوزراء منكم ( الأنصار )، حينذاك بدأ الصراع يتبلور حينما أحس الطرف الآخر بأن حقه في الخلافة قد ضاع وأنه قد خدع، بل يمكن القول بأن اتفاق السقيفة كان انتصاراً للتيار المعتدل، البرغماتي، السياسي علي التيار الثوري، المبدئي وبانتصاره سيطر هذا التيار علي التاريخ الإسلامي ووجهه صوب أهدافه وانزاح بعيداً ومن غير تأثير ذلك التيار الذي لو كان بيده قرار توجيه التاريخ العربي آنذاك لكان مساره مختلفاً تماماً.

هنا يتألم الشاعر من غدر التراث، ويقذف في وجهنا بتساؤلات عن إمكانية عودة هذا التاريخ الموجع وتكراره في أماكن أخري قد يكون في المدينة/الحلم أو قد يكون، في أي مكان.

وبعد أن ينبهك ويذكرك بمآسي التراث القديم، يرجع ليؤكد لك الحقيقة التاريخية الباقية رغم كل شيء، وذلك في مقطع " ذاكرة الرمل " " للأرض تاريخها
مثلما للتراب التفاصيل والنخل والذاكرة

من يقرأ الرمل "
ثم يبدأ في شحذ الهمم ويعيد لنا الثقة بأن التاريخ لن ينمح بالسهولة التي يتصورها البعض
" والريح مرصودة للشراع
وللدفة النافرة
للذي جاء للنوم في ليلها
أن للأرض أحداقها الساهرة "

عبر هذه الأبيات الحماسية التفاؤلية يواصل سرد الحقيقة التي جرت ، ولكن هذا الحماس تحس به في المقاطع الأخرى وقد تحول إلي سرد مؤلم للأحداث بلسان شيخ وقور يتأمل من السماء مجري التاريخ :

" سيفان في الغمد
سيف وتعويذة للقتال
وسيف لأحلامه الغادرة "

ويواصل في كشف التاريخ المخفي ويفتح صفحة جديدة من صفحاته ليؤكد لنا بأن هذه اليابسة التي حرفت تاريخها وشوهت ، لها تاريخ عريق ففي مقطع " شهوة الغزو"
يقول

" جاوءا لها من فجوة السقيفة "

فأغاروا عليها من هذه الفجوة ، من هذا الإجماع الذي كرس بعد ذلك قيم ومفاهيم لا يمكن لأحد أن يتمرد عليها ، وفي هذه اللحظة ، لحظة الغارة كانت اليابسة مشدوخة الرأس

" تجرجرُ من حروب إلي غدر "

ولكن كيف غزوا اليابسة ؟ كيف استطاعوا أن يهيمنوا بالسهولة الغريبة ودون مقاومة كبيرة ؟ كلا،ط لأنها كانت جريحة ومنهكة ؟ كلا، بل لأنهم أيضاً كانوا...
" خيالفاتح،عُ خُرقة الخيام وتُغيرُ، تيمموا لصلاة مجوسية ولم تكن الأرض سجـادة ..
كانـت سوراً وزنـزانـــــــة ..."

المغير وعصارة الجزيرة

لقد بدأت خيوط الحقيقة تنكشف لنا، خيطاً وراء خيط، ولكن من هو البطل الرئيس في هذا التاريخ ؟ إنه الفاتح، وهنا لنكن حذرين في فهم ما يقصده الشاعر من كلمة الفاتح، فمن المعروف أن هذا الاسم يعطي إيحاءً تفاؤلياً، فالفاتح يعني الأمل، المنقذ، الذي يقود الجيش والحشود لإعادة الأرض وتحريرها من الغزاة، ولكن هنا يقلب لنا الشاعر هذا المعني/الإيحاء /، فهو فاتح الأرض للغبار وليس غسل الأرض من الغبار، إنه يحمل وجهاً مغطي بالرمال وليس بالآمال " جياد الفاتح الرمليّ في رئتي وأنسي "
لقد جاء هذا الرملي في لحظة كان الصياد يستمتع بصيده والمزارع يتلذذ بزرعه وثماره، والإنسان يعشق طحالب بحره الصغير

" كنت مأخوذاً بترديد القواقع والطحالب
عندما جاءت جياد الفاتح الرملي
مأسوراً بوقع الموج عند حديقتي "

ثم يبدأ الشاعر يكشف عن المزيد من الحقائق حول نوعية هؤلاء الغرباء
" الجياد مدججاتُ بالقبائل "

وهنا بالذات، وفي هذه اللحظة، تم تسجيل أول حروف التاريخ السائد ليحل محل التاريخ الناصع " فتفتحُ لي جياد الفاتح الرملي تاريخاً تُزّينه القبائل "
وبدأت مرحلة جديدة وذلك حينما هجعت الجيوش بعد أن لهثت في الصحراء وتناسلت وأكلت من نسلها وتصارعت وتقاتلت وتم تقسيم المناطق حتى إذا ما وصل جزء منهم إلي اليابسة الخضراء قالوا:

" لنكشف الأرض الصغيرة الخضراء التي هناك، الوحيدة التي هناك، نفتحها ونرضي بخراج يجيء من الرمل والنخل والأصداف "

لقد كشف الشاعر في مقطع "خراج الجزيرة " حقيقة التاريخ الذي لم يسجل ولم يــؤرخ، فمن فجوة البحر جاوءا وطرحوا السيف ليأخذوا ذهب الأرض، ولكن من هم هؤلاء؟ إنهم جيوش ذلك البطل، جاوءا بعد أن منيوا بهزائم متكررة في مساحات أخري في الصحراء، وحينما دخلوا أرض الأصداف والنخل، كان دخولهم هو آخر الفتوحات بالنسبة لهذه اليابسة ولهم.

وفي مقطع " نبوءة النخل " يتوضح بجلاء المعني السابق، فهنا بكت النخلة تحت السيوف الغريبة، وأمام بكاء النخل وجريان الدم وبداية المؤامرة برزت أولي اهتزازات النخل ومن الماء أيضاً وعبر الصواري والسفن، فمن هناك خرجت قلة من الأوفياء اتهموا بالقرصنة وهم حقاً كانوا قراصنة ولكن للسفن الغربية الأجنبية، وقادهم الجلهمي، الذي فتح عيونهم لمقاومة الغزاة، رغم أنه كان ضريراً في آخر حياته.

" صارية من المياه
ربما يسمح الغائبون
ربما القراصنة الأوفياء يحنّون للنخل
يأتون للؤلؤات السليبة
يا أرض
يا أرض لا تفتحي شرفة للبكاء
افتحي نار عينيك نحو الغزاة
افتحي للطريد النجاة .. افتحي
استعدي "

وفي مثل هذه المواقف ينسي الشاعر حداثته الشعرية ويحن إلي شعر ذي إيقاع واضح يحتضن الحماس ويحرض ويدعو للاستنهاض، فنداؤه الجميل للفوران لانطلاقة الغضب بدل البكاء والعويل، نراه كمرحلة أولي يصفّ مع المعارضة، ولكنه كمرحلة ثانية يبدأ في وصف كيفية إجهاض هذه المقاومة علي يد الغزاة، ففي مقطعي " الحوري " و" غفوة القتيل " يقول:

" يتذكر العجلات والخيل الغريبة، ساهراً يمتدّ من بدء بعيد مثل قافلة من الرمل، استوي بيتاً تذّكر أو تناسي أو نسيته الريح
محاراته غُرقاً، تجاسرَ واحتمي فيها وحاربَ .... وانتهي "
وكان الجلهمي يرفض التلاشي رغم أنه وصل إلي نهايات العمر ولم يبق في جسده الهزيل سوي الرماد.

" كلما أرخي تحاصره السفائن والسواحل، كلما
أرخي خبتْ في مقلتيه النار "
ورغم الخيانات المحيطة به من السواحل الرملية والإحباطات ونكران الوعود السابقة بينه وبين الذين في الصحراء، إلا أنه لم يخبُ
" خانته القلوعُ ومزقت رئتيه قابلةٌ قبيل الوقتِ
أغفي ... وانتهي "
رغم ذلك، لم يستسلم، بل أحرق نفسه مع سفينته كقبطان شجاع أبي أن يترك أسطوله الغارق المحاصر إلا وأن يغرق معه.

تجليات ذاتية:

لنرتاح قليلاً من اللهاث وراء الحروب والدماء والقتل والغدر والغزاة والخيانات والهزائم، ولننتقل إلي الأحلام والحب والعشق، وكأن (شاعر الماء) أحس بذلك، فأعطانا هذه الفرصة، فبعد هذا التاريخ من الموت يتوقف في جزيرة خضراء ليبث فيها رحيق حبه للوطن، ففي مقطع " اللؤلؤ" تطير مع الحب ولكن مرفق معه الألم، وأعتقد أن هذا المقطع من أجمل المقاطع التي تدعو إلي حب وطن معذب، وطن يعيش فيه الإنسان مغترباً، يحلم به كحلم الصوفي في تجلياته مع ربه " وطني بعيدٌ مثل لؤلؤة البحار
وطني تُزفرهُ المياه وتستريحُ يدي عليه كأنه سعةُ المدارِ.."
ويكشف لنا الشاعر في هذا المقطع أن الاستقرار قد بدأ ينتشر في أرجاء اليابسة بعد الهزيمة الأولى، ولكن بات هذا الاستقرار بالنسبة للمهزومين وأحفادهم بداية الجرح النازف، ففي مقطع " بكاء الخريطة " نستمع " يطوي خريطته القديمة، لم يكن يبكي "

" لم يزل أصحابه المتشردون علي خريطته القديمة
مشرأبين
انتهي جرحٌ ليبدأ
ربما يطوي خريطته لينسي "
" طوي تاريخه البحريّ واستلقي علي أملٍ
لكي يأتي البكاء "

ومثلما سرد لنا وقائع ما قبل وأثناء وبعد الغزو ، فهو هنا يسرد لنا وقائع ما بعد مرحلة الاستقرار ، ففي مقطع " حجر الضياع " يمزج الشاعر بين الوجدان وذاكرته الذاتية من جانب وواقع المراحل الأولي من الدخول والهيمنة . إحساس أن الهزيمة الأولي لمقاومة البحر قد خلقت حالة من الإحباط ومن قبول الأمر الواقع وإمكانية الصلح والتعايش، ولكن رغم هذا الإحساس، بل أحياناً الرغبة، كان الطرف الآخر يأبى الحياة، وكأنه يعلن للملأ أن الأرض كلها ملكه ولا مكان لغيره فيها، فمن يقاوم سوف ينبذ بل ويحطم، ورغم أن هذا المحطم يرخي حباله حتى يعيش بسلام، كان الطرف الآخر يشد ولا ينسي التاريخ والمواقف السابقة

" كلما أرخيتُ أعطوني دماً أرخيتُ
أعطوني دماً
أرخيتُ "
" كلما أرخيتُ في بيت أضاعوني
وداري خيمة ، أرخيت "
" كلما أرخيت شدوا "

وها هو يتساءل عن سبب تحوّل هذه الأحلام الوردية إلي حطام وكابوس

" لماذا كلما هيأت أحلامي أحالوني إلي خرقٍ "
وما نتيجة هذا الارتخاء من طرف وشد من طرف آخر ؟
" لماذا كلما أرخيتُ كي أنسي، أحالوني لذاكرة الجنازة "
" لماذا كلما أرخيت كي أنسي، أحالوني لذاكرة السقيفة"

ولا بد هنا وفي مقاطع أخري سابقة ولاحقة أن نستوعب عملية الشاعر في كيفية هضمه للأحداث التاريخية التي تختلف تماماً عن المؤرخ أو المفكر أو الفيلسوف، ذلك أن الشاعر بعد أن يهضم هذه الأحداث ويحولها ويستخدمها في أشكاله الفنية يبرز لنا تلك الصور التي لها سمة الاستمرارية والتكرار، بل سمة تطبيقها في كل موقع يوجد فيه صراع بين الخير والشر أو الحق والباطل أو الفضيلة والرذيلة، ولذلك فإن شعوره التاريخي هو ذاته شعوره لحاضره أو مستقبله نظراً لتكرار تلك الأحداث بأشكالها المتعددة ولكن بمضمون واحد ... في مقطع (حجر الضياع) يمارس الشاعر تناصه وإسقاطاته الأدبية علي التراث " وهذا الجُبُّ تاريخٌ "

وذلك حينما يريد ربط عملية الغدر وإلقاء يوسف في الجب، وارتباط هذا الحدث بتاريخ صراع الأشقاء، وتتوضح صورة هذا الإسقاط التراثي في مقطع ( تجربة الجسد) بشكل كبير

" مَدّ أعضاءهُ في تراب بطيء "

" من بَرّأ الذئبَ والجبُّ أشداقٌ مقصلة "

لقد كان أحد أسباب الهزيمة الأولي هو خيانة الأشقاء لبعضهم البعض، لذلك تحوّل مجري التاريخ، بل حتى شكل الجسد / الأرض / الذاكرة / الواقع / التراب الذي كان يحتضن النخل بتاريخه وقيمه وتقاليده وتطوره الطبيعي إلي تراث تدخل أوتاد الخيام في أحشائه، تحفر مكاناً للقبر.

" جسدٌ، كل تاريخه نخلةٌ
حَولوُها إلي خيمة
فاستوت واحة للقبورْ "

دور الشاعر في فعل النقيض:

عندما يقرر الشاعر أن يكشف عن دوره في عملية التغيير ومقدار مساهماته يبدأ يعلن ذلك بغموض ويتعمد أن يعلن ذلك

" قلتُ: في حلٍ أنا من شهوة التوضيح
نسرٌ جامحٌ صوتي
لي الشهقُ الشموخُ "

ورغم إصراره أنه لا ينوي أن يكون مفسراً واضحاً للأحداث كالمؤرخ، ويكفي فقط بنظرة واحدة كالنسر أن تعرف ماذا يريد من طريدته، رغم ذلك، إلا أن شهوة التوضيح تبرز بين الحين والآخر، كرذاذ المطر ولكن حينما يستطيع المرء أن يجمع كل تلك تلك
ولكن قد تستغــرب وأنت في هذا اليم الهائج من التحدي، لِمَ يبدو هذا الشاعر غاضباً، مستنفراً، يعصر كل مخلوقاته ليعلن لنا غضبه ؟

لأنهم قالوا له " القراصنة النهاريون " وهو عنوان أحد المقاطع أيضاً
" قيل لي: لا تقرأ التاريخ في قلق وفي شك ٍ
ولك الخيارُ أو الخيال
قيل لي: أرضُ من الصُبير، فاصبرْ "

ولأن هذا الاستفزاز وهذا الأمر الذي يكرر كل عام كان مؤلماً في ظل وعي جماعي لا يتذكر، لذلك يعلن أن هذا هو السبب الذي دفعه لأن يفضح الماضي، بما فيه أخطاؤه وأن يقرأ التاريخ المكتوب في قلقٍ وفي شكٍ ...

هو إذاً يتألم ويتمني أن ينتهي هذا الصراع الداخلي بين انتظاره وصبره، ويدعو أن يطلق عليه طلقة الرحمة ليرتاح وتحرق روحه.

هو يدعو للكشف والانكشاف، ولكن هنا فقط يدعو . ورغم دعوته يصدمك في مقطع آخر بأن لديه شعوراً خفياً بعدم الإيمان بكل شيء، بكل الماضي والحاضر من وعود ولغة كسيحة وحرب غادرة، هو يعلن عبر هذا الشعور عن انفصاله وابتعاده عن " ميتين يواصلون الموت" هو يراهم أمواتاً وكان هو منهم، ميتاً، وحتى لا يتركك تنطلق مع خيالك وتربط هذا الجزء من المعادلة بالنتيجة المنطقية، إنه إذا ما أعلن أن ماضيه ومن هم متمسكون به في حاضره ميتون، إذاً فإنه من الطبيعي يري الطرف الآخر علي أنهم الأحياء الذين يجب المراهنة عليهم، حتى لا تصل إلي هذه النتيجة يؤكد لك إن مثلمــا هم أموات فإن الطرف الآخر أعداء " قلت ُ في حلٍ أنا من نجمة في عسكر الأعداء
في حلٍ من الأسماء "

وهنا نتساءل: هل هذه دعوة للفردية أم للمقاومة العنيفة وخاصة حين ضغط علي أسنانه وصرخ

" سأمسك دفتي بيدي من نارٍ وماءٍ "

ولكن إلي أين سيسير بدفته هذه وبطريقته المتناقضة بين النار والماء، بين الشعور الحار والبارد، بين الشد والارتخاء، بل الامتداد والانكماش .. ؟ هل هي دعوة لطرح استراتيجية جديدة في فن التعامل مع الأعداء ؟

نعم، فرغم صراخه، وعلي الرغم من تذمره وتبرئه من كل شيء، وعلي الرغم من ناره المكبوتة فإن أنجح حلوله هو الاحتماء في مذبحته ليصبح كأغنية النفور .
أظن أن الشاعر بعد أن أفرغ كل شحناته من غضب وألم وفرح، أخذ يتمهل ليعيد المشاهد من جديد بعد ترتيبها وتوضيحها بشكل أوسع وأكبر، وهذا يتوضح في المقاطع اللاحقة من القصيدة، فهو يدخل في نفس العوالم السابقة، يدخل في عالم الألم والغدر والمرأة والوطن، ففي مقطع (سورة التهيؤ. يعيد لنا إحدى إسقاطاته التراثية علي الواقع الراهن، ففيه يذكرك بتاريخ معركة كربلاء ونساء بيت الرسول صلي اللّه عليه وسلم وهن يتحملن ويناضلن من أجل حماية الأطفال / رمز المستقبل، وإنقاذ من بقي من الفتيان، ولكن رغم هذا الاسترجاع التراثي الأليم، إلا إنه لا يقصد من ورائه مجرد إحياء لذكري ذات دلالة، وإنما ليطرح أحد تصوراته كحل لما هو راهن، إنما دعوة للنساء أن يتحولن نوعياً من كم سلبي إلي فعل قوي إيجابي، إنها دعوة لتحمل المرأة الدور التاريخي لإنقاذ المعسكر الرجالي المنهار. " تهيأن يا نساء يخرجن من يقضة البحر ويفتحن فحولة الرمل "

" أخرجن في وقتكُنَ ولا تعقدنَ السفائن في أحجار النوم"
" وليكن في أقدامكن تميمة العرس حيث وحشة النهايات خلقٌ يبدأ "
" تهيأن وتسلحن بشكيمة الجوارح افتحن أحداق صدوركن لاحتضان الشبق الشاهق
في فتية المعسكر "

وينطلق الشاعر في تكوين حله الأمثل ويحلم في خلق جديد من طين طري يتجمد بفعل الشمس بعد انصهار الدار، بخلقٍ يرفض الأقدام/الأجساد/الأذهان الخائفة.

" إن أقدامنا في قطيع من الخوف "

ويرفض من يهرب خوفاً ووجلاً كالغزال أو يرفض تلك الزرقة المكونة في قاع القدم بفعل ضربة الهراوات، هذه الزرقة وإن كانت بنفس لون البحر الأزرق إلا أن الإحساس بها يختلف عن إحساس المرء بزرقة البحر.

" أقدامنا في غزال شريد وفي زرقة .. ليست البحر "

وهو يحلم بهذا الخلق يتساءل عن حقيقة الإخلاص وحقيقة الإيمان بإنقاذ الأرض وكيف يتحقق ذلك في

" دارٌ تطارد سكانها .. أي دارٍ تقيدّ أخطاءنا بالتعاويذ "

وقبل أن يتركك تتساءل: هل هذا هو الحل ؟ يرد عليك بالبالتاريخ.أقدامنا في بياض يؤرخ
هاتوا التمائم والأرض في خلقها حرةٌ "

الاحتجاج من حذاء وتاج:

وهنا يحتج الشاعر بأجمل الاحتجاجات، أحلي الصرخات أصعب التساؤلات، وكل ذلك يكشفه لنا في (كأس الأسئلة)، حين يطعن الشاعر بشرعية الراهن ويتساءل عن أحقية ذلك " مَنْ أعطي رمم الدفن لتمشي في تخريب جمال الأرض وتستبدلها بخيامٍ وخوازيق وأخلاطٍ خائفةٍ، من أعطاها غفلة هذا البحر لتحرثه بحيازيم قراصنةٍ وقبائل، من أعطاها طقس الطاعة كي ترتعش الأرض علي الأرض "

رمم الدفن، فضلات مقززة مكانها تحت التراب، فكيف تخرب جمال الأرض الخضراء العذراء وتفتح البكارة وتحل محل الأخضر، النخل، الماء وتطورها الهادئ لتحل مكانها خيام بلون الصحراء ؟ هذه هي حقيقة التاريخ.. ولكن حذار أن تسأل أو تبحث عن الحقيقة، فما عليك سوي أن تصدق تلك المخطوطات الجاهزة أمامك.

" لا تسأل كيف تزُيّفُ مخطوطاتُ الردة قبل شتاء الصيف وتسقط فوق خريطة هذي الأرض صحاري كاملة بقبائلها المخرومة بالأنساب وحدّ السيفْ.. لا تسأل كيفْ ".

وينتقل بعد أن أسهب في الشرح والغضب ووضع النقاط علي الحروف، ينتقل إلي الطرف الآخر ليضعه تحت المجهر النقدي ويبدأ في تشريح جسده.. قم. خلية، ففي مقطع (لمن لا بيت له) تقرأ وكأنك تطلق لحنجرتك العنان أن تجرب قدرتها علي نطق حرف " القاف " ولأول وهلــة يهيمــن هـــذا الحرف علي ذهنك ولسانك وكأنه يريد أن يقول لك قم.. قم .. قماستنهض، نهض، فهذا الحرف قادر أن يهز الجبل فهل يستطيع أن يستنهضك أو يقوّمك ؟

" قلاداتٌ في القيد وقناديلُ تقدرُ علي العتمة وكلامُ لا يقول/ قوافل في الصيف وقوافلٌ للشتاء.. قوالبُ قندٍ
سمرقند وقندهار والقدس
والقطيف والفسطــــــــــاط
رفقة لا تخلع الخرقة "

ولكن بعد أن تهز رأسك لتبحث في هذا الجمال اللغوي الرائع عن معني يريد أن يوصله لك الشاعر ، تكتشف تلك الجدلية في الترابط بين المتناقضات من جهة ووجود سمة مشتركة بين جميع تلك المدن ، فهم رفاق لا يخلعون الخرقة رغم تعدد أشكال الفكر والنظم عليها .. وتستشف رغم ذلك وراء هذا الجمال دعوة بل يأساً. فالفارس/ الحلم الذي ينتظره والذي صرح وأعلن ورفع الشعارات بضرورة الاستعداد للحرب مازال يبني جيشاً من الكلام..

" فاعدوا لهم ما استطعتم
اعدّوا.. ولكنهم
لم يزل فارس الليل في وحشة الليل يجتاز جيش الكلامْ
أحتفي بالنهايات "

ثم يطعن طعنته في كل المتشبقين، لكل المهاجمين علي المقاتلين.. حين يتحدى بقوله بأن العبرة في النهاية، وإن من ينتهي وينزل من قطار الدرب الطويل فمصيره معروف

" قال: الذي ينتهي
ينتهي في حذاءٍ وتاجْ "

نعم فعلي الرغم من اقتراب هؤلاء من عالم التاج فإنه مازال في موقع الحذاء في أنظارهم... وهنا يطرح الشاعر الحل البديل، هذا الحل الذي يتناقض تماماً مع ما هو سائد لدي الذين يريدون التغيير ولكنهم مازالوا مرتبطين بالتراث القديم، يبكون عليه ويستلهمون منه راحتهم النفسية، هو هنا يطرح النقيض حيث يقول في ( جنوح الهوادج )

" أستعدي الفؤوسَ لكي تعيد كتابة الأسماء/ مستبقاً حضوري "
وهنا إذاً يرفض الحل التراثي حيث ينادي بطوي التراث وعدم البكاء علي أحد، بل والخروج من تقاليد القبور والبدء في الانطلاق
" أطويك يا ماء التراث مجللاً بدم الذبيحة والنذور "

" ربما أطوي تراث الروح في سجادةٍ/ في طينة مجبولة بالوهم. لا نبكي علي أحدٍ "

وهكذا وبعد هذا الانتقاد لأسباب فشل الطرف الآخر ودعوته أن يخرج من الأشكال التقليدية للعمل، ورأيه أن جزءا من الأزمة له علاقة بالسجادة والطينة والبكاء الموسمي، بعد كل هذا تتخيل قبضة الشاعر وهي ممسكة بعنق هذا الطرف يسحبه من تحت المجهر ليقف أمامه وجهاً لوجه ليعلن له لب الكلام، ففي ( العطايا ) تكتشف اللب، هنا تزيل الزبد البحري وتكتشف ما في أعماق المحارة من جمال. هنا يعطيك الشاعر موقفه الواضح، فأمام كل المغريات والمتغيرات التي طرأت علي الواقع.أمام كل الهدايا والعطايا التي أدت إلي نسيان البعض لماض عريق، أمام كل هذا يذكرك الشاعر أن عند كل هدية يهدونك عليك ألاّ تنسي.

" أعطوك ؟! لا تغفر لمقتصليك "

سؤال واستفهام، وأفواه مفتوحة وعيون مستغربة، ثم يعطيك النصيحة ويهز ذاكرتك
" عندما مروا علي حقويك حطت آخر العربات أوتاداً وحامية، وما التفتوا "

فكيف تنسي يا هذا ؟

يمسك بأيدي الغافلين أو المتناسين ويذكرهم بما سيكون أو كان

" لا تغفر لمغتصبيك، لا تدخل خيامهم الكسيحة ربما أعطوك أوسمة النهاية.."

لا ركوع للمعتدي.. لا استكانة.. لا طاعة للمغتصبين، بل يدعوك أن تتواصل ذاكرتك توهجاً دائماً رغم كل السكر والتخدير، فهو يعلن لك إذا سكرت فأسكر وأنس في لحظة ماضيك ولكن استيقظ وتذكر

" كمكتنز الهوادج، أيقظ الصلصال وارسمْ شكل مقتصليك لا تغفر لمحتفلي نهايتك الأخيرة "

وفجأة، بعد أن يوهم الغافلين بأنهم حقاً أعطوك ما أعطوك، يرجك رجاً قوياً ثم يقذف في وجهك نفس السؤال

هل أعطــوك ؟

هل حقاً يا هذا قد حصلت علي ما تريد ؟ وقبل أن تجيب هوجنازة.يابة عنك وبكل جرأة يعلن بأنهم حقاً أعطوك ولكن ماذا أعطوك ؟

" أعطوني دماً وجنازة.. فاخلعْ قناع الوحم وأطلق زهرة الصلصال "

جسر السقيفة يعلن موقفه

ولكن " الملحمة قد استكملت، والتاريخ قد بان علي حقيقته، والصورة قد توضحت، وحان موعد التجليات الذاتية الممزوجة والمتداخلة مع الهموم العامة، وهذا ما نلاحظه من المقاطع الباقية من هذا الديوان، فالشاعر منذ أول مقطع وفي معظم المقاطع الأخرى كان التراث مهيمناً عليه بشكل واضح وقوي، ففي ( فضاء العناصر ) وفي غيرها من المقاطع تتراءى أمامك صور من التراث ومعارك خاضتها أقليات مؤمنة، ومجازر، وربما وأنت تقرأ تحس بانسياب الماضي وتأثره العميق به وخاصة بلحظات المعارك والهزائم والمؤامرات وبمحاولات الضعفاء في لحظة الرمق الأخير وهم يحاولون البحث عن وسيلة للانتصار.. ولكن

" ولا تجد الوسيلة "

وهنا يرجع إلي الحاضر ليري أن الكل قد نسي ، وحتى السماء، وهو يحاول أن يقاوم

" مذابح في تعاويذ القبيلة "

ولكن يري أمامه يدين تقاومان بدون أمل

" لي يد مشدوهة ويدٌ قتيلة "

فكيف يستطيع أن يمسك دفته بيدين من نار وماء !!؟

ولكن أمام هذا التشاؤم والإحباط لا يتركك تعيش معه تلك اللحظات، بل يوضح لك أن كل هذا النسيان والقتال اللامجدي لا يعني النهاية.

" ليس احتضاراً
إنه شجرٌ تحاصره المدائن والمآذن "

ويبث فيك روح التفاؤل، بل يقول لك بأنه مازال كما كان ذلك القائد الذي قاتل في الليل رغم إحساسه بالهزيمة

" جسدي جواد الليل "

وإذا كان النسيان مرتبطاً بالسماء

" هذي الأرض لا تنسي عناصرها أنا مستقبل الماضي "

نعم ما كان في الحلم لدي الضعفاء أن الماضي العريق كان لهم هو يدعوك بأنه نفسه كفكر وموقف مستقبل الماضي الذي سيتحقق، أنه ربط جدلي جميل في مفهومه حول الأصالة والمعاصرة. فالأصالة كذات لا يمكن تصور وجودها وإنما المعاصرة هي ذاتها الأصالة ممزوجة فيها، بمعني آخر المستقبل هو ذاته الماضي في شكل متطور يحتضن خلاصة وعصارة الماضي. ويواصل الشاعر تجلياته الذاتية التي يربطها بالتراث أيضاً، ففي (اعتذارات) تستشف الذاتية المتداخلة مع هموم الحقوق الإنسانية الشرعية والعامة، فهو هنا يطمح أن يري موقع السقيفة وترابها ولكنه لم يستطع عبور الجسر، فلقد منعوه من العبور وعليه أن تقبل بذلك الآن

" فلن تعبر الجسر
لن تنحني عند باب السقيفة "

وكيف لا أعبر وهذا جسري.. وجزء مني.. وكنت أحلم به منذ سنوات طويلة، كنت أحلم بوجود هذا الحبل الجميل، فيأتيك الجواب :

" لن تعبر الجسر
مأخوذة باعتراضات سيف القبائل "

أهكذا إذن يعيد التاريخ ذاته.. فالمخلصون الطيبون كانوا غائبين ومنغمسين في تلك اللحظة بالجسد النبوي الطاهر وبالجنازة، وهكذا أمسك برأس القرار من كان ينتظر الفرصة السانحة. وها هو يمسك بالسيف يمنع الطيبين من إعادة الحلم لهم، وهم مازالوا منذ السقيفة يشكّون ولديهم ريبة تجاه من كان غائباً آنذاك وهاهم مازالوا يشكّون بأحفاد هؤلاء الآن.

" دمُ الشك في ساعديك الكسيرين "
ولهذا منعوك...

وتنهمر أحاسيس الشاعر في المقاطع التالية علي شكل مشاعر رقيقة وعذابات جميلة، ألم وضياع وجوع للحقيقة واحباطات من الأهل، من حجر الأرض ومطاردات من كواسر الخيام وإحساس بالوحدة، بالغربة، بالاغتراب، والكل يحاول أن ينهي أحلامه، ليس فقط الكواسر ولا لغة الأهل ولا الطرقات ولا العقول النفطية بل حتى النظرات. في هذا المقطع (الكواسر) تعيش عذاب الألم الحقيقي، ينهيه بوخزة أليمة جداً جداً في القلب والوجدان، وليتذكر مرة أخري تاريخ اليابسة، ويكرر ما سبق ذكره في الملحمة من حوافر الخيل وإجهاض النخلة، وفي هذه اللحظات ينتبه فيعيد توازنه من جديد ويدعوا للأمل مرة أخرى، ينشد للأطفال ويوعدهم أن الأرض رغم كل ذلك ستكون لهم وللمنفيين والمدفونين، فعلي الرغم من هذا الأمل الجديد الذي بثه فإنه لا يستطيع أن يواصل في العيش والكلام عن حلم ويترك الآخرين يعيشون في الوهم ويستمرون في تنفس الخيال والوهم، لذلك يرجع ليضع أصابعه علي الجرح مرة أخرى، فيذكرك بأن الشعب مازال مشتتاً أمام عدو موحد، وفي خضم ذلك يكشف لنا عن حقيقة كان يدور حولها منذ البداية والمتضمنة أن هذه اليابسة ما هي الإ جزء صغير من تلك البقعة الكبيرة، ومهما فعلت ومهما قاومت فأنها تنظر إلي أمها تستنجد بها وتساعدها في كل مراميها وعذاباتها

" ليس لي شرفةٌ أدفع الخيل فيها
وليست قلوعي مصادفة أو هيام
وليس المدى قوسُ ماء جميل
وليست بلادي جزيرة
ستبقي تمد العيون علي زرقة الأفق "

وأمام هذه الحقيقة يري أن تطبيق تجارب الآخرين حول الخلاص لا يمكن أن تنجح هنا إذا ما طبقت بحذافيرها، فنحن هنا وهم هناك فوقنا يطلون سلالة الغبار برعايتهم..
.. وبعد ..

وقبل أن تنهي جولتك هذه لابد أن نسأل الشاعر وأين موقعك من هذه الملحمة؟ لقد فرشت لنا التاريخ وزرعت في أرضه كل الزهور والأشجار والأشواك، وكان أمامنا العوسج والياسمين والكواسر والفراشات ، ورأينا الوعول وهي تهرب من حواليك تارة ويداعبون رموشك تارة أخرى ، فماذا تنوي فعله ؟ وتستمع إلي نحيبه وهو يسرد عليك حياته مع الآخرين منذ أن بدأ يضع الحلم وعملوا معاً لتحقيقه، فإذا بالظروف قد حولتهم إما إلي متفرجين أو إلي أكثر من سيزيف، ذلك الذي عاش حاملاً عذابات العالم علي كتفه، ويري الشاعر بأنه كان من الفئة الثانية، وكان يتمني أن يخرج من القتال من جولته الأولي كما خرج البعض، ولكن القتال استمر في أعماقه لغاية الآن..

" آه لو أن القتال مشي سريعاً فوق هذا القلب
لو سعة لضلٍ تحتفي بنهاية.. "

وها هو يتألم لأنه رغم تمنياته مازال موجوداً في قلوب الآخرين، رغم قناعته بأن هذه القلوب مازالت خائفة وربما أن قلبه كان خائفاً أيضاً لذلك توزع في قلوب الآخرين

" قلبي تناثر في قلوب ربما هلعاً "

وهنا يري إذا كان قدره وقناعته في أن يستمر مقاتلاً فإن خير وسيلة في ذلك أن يكون أمام الجميع شاعراً.

" فخلوه علانية يعالج يأسه بالجمر أو بالزعفران وربما ولعاً.
هذا الحل الأمثل ليس له فقط بل للكثيرين من أمثاله، ويري أن هذا الحل رغم ضرورته فإنه الحل الذي يحلم به " ربما ولعاً "

الثنائية التقليدية

وأخيراً يهديك أروع وصف لحال الواقع الذي عاشه ويعيشه وسيعيشه هذا الشاعر وأمثاله، هو يطرح هنا وفي مقطع (من كل ذلك.أوجاعه وملاحقات العيون الحاقدة عليه وعذاباته وتعذيباتهم، وأقفاصهم وأصدقائه وأعدائه...

" من وجع النوافذ التي تطل علي سريرة الناس
من التربص للحلم وحلمه الرضيع
من الرسائل التي أنتظرتها وكانت لاتصل "
من الذي لم يمت والذي قتلوه والذي سوف...
من الخطوة التي وراء قدمي...
من كل ذلك - وهذا عنوان المقطع -
" وعليّ أن أتشبث بما ليس يأساً "

ومن كل هذا المخاض يمد يديه للوطن والمرأة.. للأنثى بكل ما تحمل ذلك من رموز مكثفة لتساعده من أجل إنقاذ العالم، من أجل الترميم، لأن الذي أمامه لم يعد كاملاً ولا جميلاً ولا عدل فيه...

وهكذا نخرج من الديوان بوضوح كامل، فبعد أن عشت في هذا البحر العميق كقطعة خشب يتقاذفها الموج الشعري من أمل إلي إحباط ومن تشاؤم إلي فرح ومن قتل إلي نصر ومن نصر إلي حزن ومنه إلي الأمل من جديد، كنت تحس أنه مازال متمسكا بالخير والشر كمعادلتين مترافقتين في زمانه ومكانه الراهنين والماضيين، لا تستطيع الفكاك من دعوة الأمل بعد أن يسرد عليك حالة الإحباط، وسرعان ما يتذكر أن الأمل وحده سوف يدمر الهم، فيستفزك من جديد بكلامفي الألم، وهكذا كان الألم والأمل حروفاً متداخلة كانت مفتاح الديوان وخاتمته...

****

فردانية الشعر وحرية اللامنتمي
في ديوان "قبر قاسم"

لا أكتب النص مرتين ... قاسم حداد

إنه شاعر الماء، ذلك الكائن الجميل، خالق الحياة، باعث الأمل، إنه كائن لا يكرر ذاته مرتين، تراه في كل دورة ولحظة بشكل جديد، رمز للتغيير المستمر.. الأبدي... تارة تراه هادئاً رومانسياً، وتارة ساخطاً تراجيدياً، أمطاره تنعش القلب والروح، ورذاذها يدغدغ الرغبة ويفجر الإلهام، إلا أنه يدمر الحياة بفيضاناته وأعاصيره وغضب أمواج بحاره، أنه المتغير المطلق دائماً لا يستقر ولا يعترف بالسكون والبقاء في مكانه.
هو الوسط بين الهواء والتراب وهو المبرد للنار، ولذلك فمن يعشقه ويذوب في أسراره ويجن من تحولاته يمتلك مفاتيح باقي العناصر، فمن خلاله يحوّل هاجسه الهوائي إلي عقلانية وهاجسه الترابي إلي ليونة وهاجسه الناري يكبحه ويبرده.
وقاسم حداد، عاشق الماء وأحد مريديه المتلازمين في كل نصوصه، قد جسد طقوس الماء وفلسفته، فهو لم يكرر ذاته من نص لآخر، وكانت دواونيه التي تجاوزت الأثنتي عشرة محطة نوعية وتحولات كيفية وقفزات جديدة لعوالم جديدة.


* البشارة مرحلة حماسية ثورية، نارية الهاجس، رسائل تحريضية وخطابات رسولية (1970).
*خروج رأس الحسين من المدن الخائنة، تجليات سياسية، التزام بالمحيط الصغير ورؤية تفاؤلية للمستقبل عبر شموس الجنوب وعرق العمال وثوران الإنسانية (1972).
* الدم الثاني، بدايات تبريد النار بسائل أحمر قان، هو منزلة بين المنزلتين ، الماء والنار (1975).
قلب الحب، عالم جديد، هواء وعشق وحياة، فضاء آخر يمارس فيه إبداعه خارج عالم النار والغضب (1980).
*القيامة، أسطورة، التطهير وإعادة الخلق الجديد بعد أن يمر عبر ريشه وفضته لوغوس هذا النص، من بدء الخلق مروراً بالتأسيس وثورات نهاية هذا القرن، وانتهاء بالقيامة التي تدمر السائد لتعيد من جديد تكون الحياة (1980).
*شظايا ، تأملات ، ومضات، إشراقات، بلورات، حكم مكثفة، صوراً معبّرة ، فضاء آخر، جديد علي التجربة ، خفيف علي القلب، عميق علي الروح (1981).
*انتماءات، رحلة فلسفية عبر مرايا التاريخ وأعماق الذات (1982).
*النهروان، ملحمتان تلهثان وراء شخوصهما بكل خباياهما (1988).


فهرس

*الجواشن، نص مشترك مع توأم روحة أمين صالح، يشعان فيه، ويتحديانك في فصل الإبداعين، وهو تجسيد 0 أي هذا النص - لبيانهما التاريخي - موت الكورس، وفيه كل الفنون، نص شعري ونثري ومسرحي وقصصي وروئي، ولقطات سينمائية ولوحات تشكيلية واقعية ورومانسية وسريالية، سماء جديدة فتحها علي فضاء تجربته (1989).
* يمشي محفوراً بالوعول، رحلة مؤلمة عبر جسر السقيفة إلي جزيرة الماء والنخل والنساء الحوريات وغبار الصحراء ورمل الفاتح وخيالة الغزاة، باب جهنم يفتحه علي تجربته عبر هذا النص (1990).
*عزلة الملكات، تحول الذات الجذري نحو الانعزال عن غدر المحيطات ولذاتها أيضاً التي يحن إليها دائماً رغم إعلاناته الجريئة بالطلاق والانفصال، بداية النرجسية والصومعة، اللا.......... (1992).
* أخبار مجنون ليلي، عودة للحب والغزل ولكن بتلاعب جميل لأسطورة الحب العذري وقصة هذا الجنون ونسف لما كان يقال عنهما من حب طاهر!! تأسيس ذاتي للتاريخ، نضج آخر أيضاً مع الفن البصري بألوانه وخطوطه وضربات ريشة الفنان (1996).
* قبر قاسم، يسبقه فهرس المكابدات تليه جنة الأخطاء (1997).
*معراج آخر لسماء جديدة، نتوقف عنده قليلاً ، نتصفح أوراق هذا النص، نتأمل مفرداته وانفعالاته وفرادته وفرديته الفاضحة الواضحة.

ابن منظور وخطيئته الفادحة

في ظلال دعوته الآمرة بالصمت، في مفتتح ديوانه، في إهدائه لقراءة هذا الديوان كأنه يعيدنا إلي تاريخ اللغة العربية حينما يستشهد (بابن منظور) وهو يرتكب خطيئته الفادحة: وهو يقضي العمر يشحذ (لسان العرب. ويصقل لهم اللغة، هو إذن يمارس نقده تجاه ما فعله أبن منظور بجمعه ما يقارب (80.000) مادة لغوية التي يضمها قاموس (لسان العرب) الضخم، هذا القاموس الأغنى الذي تم تدشينه في عصر التدوين في القرنين السابع والثامن الهجريين، وعلي الرغم من ضخامة وغناء هذا القاموس فإنه لم يشتمل علي الأسماء والأشياء الطبيعية ولا المفاهيم النظرية وأنواع المصطلحات التي عرفها عصر ابن منظور، ولا تخرج مادته عن دائرة حياة ذلك الأعرابي الذي كان بطل عصر التدوين، حياة (خشونة البداوة) بتعبير إبن خلدون.

إلا أن هذا المفتتح (إهداء الديوان) قد وضع أمامه ما يعبر عن تشبيه لنفسه، (وكأنه) هو قد حل محل ابن منظور، و أنه هو الذي يمارس هنا خطيئته الفادحة، ويقضي عمره كله في الشعر وصقل اللغة، وكأنه يريدنا أن نتهيأ أن ما سنقرأه يدخل ضمن هذا السياق.

إلا أن ومقابل هذه الرسالة فإن الفقرة تتضمن رؤية خاصة بين الفكر واللغة من جهة ونظرته لتأسيس علم اللغة العربية من جهة ثانية ، وكأنه في هذا المقام يدعونا إلي استرجاع تلك المعارك التي نشبت بين تيار الحداثة وتيار التقليد في الشعر وذلك في بداية تمرد الأولي علي قوانين وعروض وبحور الخليل بن أحمد الفراهيدي وما تمخضت عنها من تحرر واضح علي البحور والتفعيلة التقليدية، وها هو يأتي دور اللغة ذاتها وموقف أحد رواد التيار الحداثي في المجتمع العربي بإعادة النظر في مناهجها وقواعدها ونحوها ومفرداتها ، ومثلما تم تدشين تيار الحداثة بالهجوم علي المنبع ونقده وإعادة النظر في أسسه والمتمثل بقواعد البحور الخليلية، فها هو يعلّق باستيحاء تدشين المعركة الثانية ببدء الهجوم علي منهجية جمع اللغة وأسلوب ابن منظور المستخدم في تجميع مفردات اللغة العربية في لسان العرب.

إن هذه الفقرة تفوح منها رائحة الاتهام والشك ورفض تبعية الخلف للسلف، مثلما تفوح منها رائحة (النرجسية) الإبداعية) حينما يحل ذات الشاعر محل مؤسس علم اللغة العربية الفصحى.

ولأنه في اعتقادي بداية لمعركة أدبية جديدة لتيار الحداثة، فإنه من المفيد أن أتوسع قليلاً في إبراز تلك العلاقة بين الفكر واللغة وتأسيس علم اللغة العربية، معتمد علي رؤية المفكر العربي محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي ومقتبس منه العديد من الفقرات التي تخدم رؤيتي، فمن المعروف أن اللغة ليست مجرد أداة للفكر بل هي أيضاً القالب الذي يتشكل فيه الفكر، فكل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم، وتخزن في لغتها تجاربها بما فيها من عناصر الصواب والخطأ فتنقلها اللغة إلي الأجيال الناشئة اللاحقة فتصبح أخطاء الماضي أو جزء منها علي الأقل من ضمن التراث الذي تنقله اللغة عبر الأجيال والذي يساهم في تحديد نظرة أصحابه إلي الكون وإلي الحق والخير والجمال.

يؤكد الجابري ان علوم اللغة العربية هي (معجزة) العرب كما كانت الفلسفة هي (معجزة) اليونان ويعتبر أن جمع اللغة العربية وتقصيدها كان بالفعل أشبه شئ بالمعجزة، ذلك أن المعجزة هي طرد العادة والسرعة التي تم بها الانتقال بلغة قائمة علي (الفطرة والطبع) لغة لا يمكن تعلمها ولا فهمها إلا بالعيش وسط القبائل التي تتكلمها إلي لغة قابلة لأن تكتسب وتتعلم بنفس الطريقة التي يكتسب بها العلم، إن هذا الانتقال هو طرد للعادة، فلقد كان تدوين اللغة أكثر بكثير من مجرد (تدوين) بمعني تسجيل وتقييد، إنه الانتقال باللغة العربية من مستوي اللا علم إلي مستوي العلم.
إن الجابري وهو يصبغ صفة العلمية الصارمة علي تدوين اللغة، يبدي إعجابه لدقة المنهج الذي أتبع في ذلك المسح الشامل للغة العرب، لا بل للغة قبائل عديدة لكل منها لهجتها العربية، إن هذا المنهج كان من الصرامة بحيث فرض علي اللغة نظاماً صارماً لابد أن يكون له تأثير في كيانها الداخلي ذاته وبالتالي لابد أن يكون قد جعل الصنعة فيها تزاحم السليقة والفطرة، وهو المنهج الذي مارس الصلابة لدرجة حجمت اللغة وضيقت فيها القدرة علي مسايرة التطور والتجدد، ذلك أن ممارسة مثل هذه الصرامة المنطقية والعقلية الرياضية الراقية اصطدمت مع الواقع الحي المتطور.

إن طريقة الخليل بن أحمد واللغويين من بعده انطلقت من الإمكان الذهني، فتعامل مع الحروف الهجائية تعاملاً رياضياً صرفاً، فحصر أنواع الألفاظ الممكن تركيبها منها، هذا المبدأ كان لابد أن يجعل اللغة من صنع الذهن بدل أن تكون نتيجة التعامل معها كمعطي واقعي، وفي هذه الحالة ستنقلب العملية من عملية جمع اللغة إلي عملية التماس سند واقعي وفرض نظري، لقد كان من الطبيعي في ظل هكذا أسلوب أن يتحكم (القياس) بدل السماع، فالكلمات صحيحة لأنها ممكنة وليس لأنها واقعية، وهي ممكنة، وهي ممكنة مادام هناك أصل يمكن إن ترد إليه أو نظير تقاس عليه، وهي ليست واقعية لأن (الفرع) هنا في الغالب فرض نظري وليس معطي من معطيات الاستقرار والتجربة الاجتماعية.

إنّ القوالب الصورية التي جبّ فيها الخليل وزملاؤه اللغة العربية قد منحتها نوعاً من الدينامية الداخلية (=الاشتقاق) وبالتالي جعلتها أكثر مطاوعة، فإنها قد عملت أيضاً علي (تحصينها) من كل تغير وتطور يقترحه عليها التاريخ، ولذلك بقيت اللغة العربية ومازالت منذ زمن الخليل علي الأقل لم تتغير لا في نحوها ولا في صرفها ولا في معاني ألفاظها وكلماتها ولا في طريقة توالدها الذاتي، إنها كما يوضح الجابري لغة لا تاريخية، أي إنها تعلو علي التاريخ ولا تستجيب لمتطلبات التطور.

إن هذا الفقر الحضاري في اللغة العربية يقابله غني بدوي، يتمثل خاصة في كثرة المترادفات، كثرة راجعة في جزء منها إلي الاشتقاق الصناعي علي طريقة الخليل، وكان لابد للاشتقاق الصناعي أن يؤدي إلي التضخم في الكلمات التي هي من أصل واحد، ولذلك تصبح لغة المعجم، لغة الأصل والمشتق أوسع كثيراً من لغة الواقع، ولكن فقط في دائرة خشونة البداوة، هذا الاشتقاق الصناعي كرس الانطلاق من اللفظ إلى المعنى، أي أن اللغة العربية أصبحت يتوفر فيها فائض من الألفاظ بالنسبة للمعني ولكن بالنسبة لعالم البدو دون عالم الحضر، وبالمقابل فإن النظرة التي تنطلق من اللفظ إلي المعني قد كرست الانطلاق كذلك من الفعل إلي المشتقات وأصبحت النغمة الموسيقية في اللغة تعرض أو تغطي فقر المعني وتجعل الكلام الذي يجر معه فائضاً من الألفاظ ذا معني حتى وإن لم يكن له معني.

وقاسم حداد حينما يطرح هذا التساؤل في مفتتح ديوانه يضيف عليه، وفي الصفحة الأولي من فهرس المكابدات ذات التساؤلات فيما ينطق.
( هل النص شهوة اللغة.
(هل المعني شكل يفيض بالأبجدية.
فهل يا تري بدأ شاعرنا يعد العدة لدخول معركة تحرير الشعر من فائض الألفاظ بالنسبة للمعني؟

إلا إنني أري أن هذه المعركة أو ما أتوهم أنها معركة قادمة سوف تواجه بصعوبات عديدة أهمها إنها معركة ليست علي أرض وزمان يختارهما المبدع، وكما يؤكد رولان بارت أن اللغة معطي اجتماعي محمل بالمعاني والاستعمالات، إن اللغة ملكية مشاع للناس لا للكتاب، إنها عنصر (سلبي) بالنسبة للكاتب لأنها لا تخصه وهو يستعملها من دون أن تكون له حرية كبيرة في تغييرها، إنّ ما يستطيعه ضد اللغة هو أن يخلق لها سياقاً آخر يبعدها عن الاستعمالات المألوفة في مجال التواصل، ومع ذلك فإنّ الكاتب يظل (مقيداً) بلغته وبمورثاتها.

جنة النار وفردوس الجحيم

يفجر شاعر الماء في نصوص هذه الديوان كل مكنوناته، شعراً ونثراً، هذياناً وعقلانية، فيه من الحالات التي يمر فيها المبدع، يتلاعب مع الكلمات بشكل مرهف ومخيف، يكشف المعني، يحاسب الذات والرفاق والتجربة والآخر المضاد، يتذكر ويذكر المحيطين به، المتأثرين، القلة التسعة أو الجموع، يعيش حالة اليأس والإحباط والتشأوم ويدعو إلي العزلة، يهاجم حاملي الراية والأحلام ولكنه لا يلبث في موقع آخر يبث روح الصمود ودعم نسيان الماضي أو الحاضر، لا يساوم أبداً علي عشقه للنص، وحده عالمه وقوته وهو الذي يحضه ضد الذات والآخر وأيضاً، بينه وبين الغابة والعالم مسافة، وبينه وبين القطيع مسافة!! وبين إله نص مكتوب لا يخرج عنه ولا أخرج عليه.

فهرس المكابدات، سفر مفهرس علي فرس وفارس يسري بسره، يسهر علي ذئابه ويفسر قليلاً ويعلن أنه في حل عن التفسير في معظم الوقت، يشاغب ويرواغ ويجادل ويهادن ويتخاذل وهو في كل الأحوال يكابد، والقارئ عليه أن يكابد أيضاً قبراً، ظلاماً، فيه قاسم يري مصيره ويتأمله، وهو مسجي ويتأمل المحيطين به، وهو مخفي في التراث، جنة النار وفردوس الجحيم.

يبدأ بالسفر نحو النص، بداية الكتابة علي بياض الورق الذي هو كالكفن المنتخب، هو كالحرف في الكلمة، يخترق الألق كسرب من اللقالق، وفي هذه اللحظة الرهيبة ينتابه الوجل فيرشح أكثر أعضائه خفاء لقيود طقس الجسد، وهل أكثر من الأسرار التي في الذاكرة المبدعة المحيطة بأكثف الغموض هي أكثر الأعضاء خفاء في الإنسان، العقل والدماغ يقودهما القلب والإحساس؟

هنا يتساءل عن كيفية التعبير عن ارتعاشة هذا الجسد الوجل وهو يستعد لتجربة الكتابة، عن بكاء الروح واضطرابها مثل طفل فاجأته الصاعقة، هو إذن في لحظة الخوف من التجربة، إلا إنه ينتبه ليعيد توازنه وشجاعته فيحرض روحه.. (ما الذي تخشاه؟
لست الأول ولن تكون الأخير. وعبر هذا التحريض تبدأ الرغبة لهذه الرحلة الشهية، شهوة مفتونة بأجمل الأحلام ولكنها الأكثر مكراً، فانتبه أيها القارئ ولا تنخدع، اقرأ النص بانفعال وتفاعل وفاعلية، انفعال اللذة، وتفاعل الرغبة، وفاعلية حضور العقل الناقد.

وها هو الكورس يدعوه للتقدم، يعدون له الأعراس ولكن أيضاً المراثي، يشدّون أزره ويسندون خاصرته بالسكاكين، استعداداً لاقتحام معركة الكتابة.

(تقدم.

فيتقدم، وما أبهاه وهو إلي الكتابة يزف كأنه إلي القتل يذهب، تأمل تلك الصدمات التي تهز ذهنك، صور مرتبطة بألفاظ واضحة معاينها، فإذا الصورة تنتهي بنقيض أبجدياتك !!
ومن يذهب إلي القتل يعني أنه ذاهب في ظلام، ومن يعي أنه ذاهب إلي القتل ولا يهاب فهو قد قرر أن لا ينحني لأحد أبداً.

(خذنا في ظلام النص، للنص الذي لا ينتهي بالنوم.. اكتب سيد الشكل الذي لا ينحني للشكل.. )

وفي رحلته هذه يتذكر كل نصوصه السابقة، معاركه، تجاربه، من شظايا، عزلة الملكات، قلب الحب، القيامة، ليعبر في فقرة جميلة كل مدلولات هذه العناوين وما وراءها من أبعاد.

قيل له:

لملم شظاياك وارجع إلي نفسك
زين وجرك بوثير الوحشة، ترف العزلة
قيل له:

ارجع إلي قلب الكهف، ارأف بك من وهم الحب.
يرشك بالومضات النرجسية، ذات الأبعاد المتعلقة بالذات والإبداع ومن يدور في هذا الفلك /الجسد النصي ...
"الشمس وحدها، تستطيع أن تقلد شمساً مثلها"
النص كائناً إحساسياً:

في نصوص هذا الديوان يتجلى ذلك الطلاق بين قاسم والبلاغة، ذلك التطابق بين الإنسان والعالم من خلال المحاكاة، يصبح النص الشعري هو المعبر عن هويته الفنية، تتجدد من خلاله كينونة الإحساس، ويضحي الشعر كائناً إحساسياً موجوداً بذاته، وعلي حسب تعريف عبد العزيز بومسهولي في دراسته حول استطيقيا الشعر في الأسس الفلسفية لعلم جمال الشعر للكائن الاحساسي هو المفردات المتنوعات، وإن الصور الجمالية لا علاقة لها إطلاقاً بالبلاغة، فهي إحساسات، مؤثرات إدراكية وانفعالية، مشاهد ووجوه، رؤى وصيرورات (للمزيد من التفصيل ارجع إلي مجلة فكر ونقد المغربية)، العدد (15)، يناير (1999)، هذه الاحساسات والمشاهد والرؤى تتكشف بشكل جلي في الدلالات المستخدمة في هذا الديوان، ومثلما يستخدم قاسم في تجاربه السابقة دلالات محددة هي المحببة لهاجسه ولغته الشعرية، نراه هنا يمارس ذات الحب مع دلالات أخري جديدة، بل يمكن القول أن هناك دلالات مستخدمة في هذا النص لم يكن لها ذلك الحضور المكثف في النصوص السابقة، كالملكية والجسد والقميص والوجوه... الخ

واعتقد أن المقام هنا لا يسمح - مكاناً وزماناً - أن نتابع تطور ونمو استخدامات قاسم للدلالات التي تعبّر عن مراحله الحياتية والسياسية والفنية وتحولاته الفكرية والسياسية أيضاً، ومدي ترابط لغته الشعرية ومنها تلك الدلالات بهواجسه الوطنية والمعرفية، ومتابعة اختفاء بعضها تدريجياً وبروز البعض الآخر تدريجياً في مراحل تجربته الإبداعية، وما تعكس هذه الدلالة أو تلك من معان ومضامين إنسانية وموقفية تجاه الأحداث المحيطة في الحياة.

لقد توقفت كثيراً أمام نصين يعبّران عن هذا التحوّل أولهما (في حضرة المليكة) الصفحة 107 وهو نص جميل من حيث المعني والصورة الكلية التي تتكون لحظة بلحظة كأنها حركة عين الكاميرا في المشهد السينمائي الواحد ومن زوايا عديدة وبؤرة مختلفة بعيدة وقريبة، تنتظر عبر هذه اللقطات أن تنتهي اللحظة بنهاية إيروتيكية، فإذا بها تنتهي بتأكيده الأول بأنه كان ولا يزال ضمن حاشية المليكة، هذه الدلالة لا بد من تتبعها، خاصة وإنها استخدمت في نص (المليكة ذاتها) الصفحة 130 والتي كشفت الصورة الكلية بشكل أوضح، إذ أصبح هذا الفارس/المقاتل الوحيد/ الشاعر الذي يهجو القبيلة لأنه قادر أولاً علي نطح البراكين لم تعجب به المليكة ولم تستدعيه كما في النص الأول، وإنما هو الذي تقمص موهبة المكابرة وموهبة الثلج وسهر عند شرفتها وهي تلهو به متروكاً في الهمل تحت الشرفة كباقي الفرسان ينتظرون يترجى وردتها وتصطفي ذئباً حزيناً يحسن الهجاء، وهم يتحاجزون ويتكاسرون و(نشرف علي الملك..
( هناك دلالات وصور ولقطات شعرية مشتركة من حيث اللغة والسياق بشكل كبير بين الشاعر قاسم حداد والقاص أمين صالح، مما يوضح في اعتقادي مدي التأثير والتأثر بين المبدعين، وفي نص المليكة ذاتها تستشف هذا التأثير بين صورة المليكة الواقفة علي شرفتها والفرسان ينتظرون وردتها وصورة شبيهة في نص (مدائح لأمين صالح. وهناك دراسة في طريقها للولادة حول هذه العلاقة التأثيرية التبادلية بين الاثنين من بداية تجاربها ولغاية الآن..

استطيقيا الجسد


الدلالة الأخرى البارزة والمكثفة في استخداماتها هي (الجسد)، وفي هذه النصوص يتجسد المفهوم الجديد للجسد المرتبط بصعود الفردية كبنية اجتماعية، وهو ما يوضحه بومسهولي في الدراسة المذكورة أعلاه، فهذا المفهوم يدرك الجسد بوصفه عامل تفرد، كمكان وزمان للتمييز، إنه ما يبقي عندما نفقد الأشياء الأخرى، إنه الأثر الملموس أكثر من غيره للشخص بأعضاء جماعته، وإذن فإن القرعة الفردية تكتشف الجسد في نفس الوقت الذي تكتشف فيه الفرد.

( منذ نهاية الستينات انطلق مخيال جديد للجسد واكتسح ميادين للممارسات والخطب كانت غير معروفة حتى ذلك الحين، وبعد فترة من القمع والتكتم يفرض الجسد اليوم كموضوع لتفضيل الخطاب الاجتماعي، ومكان هندسي لإعادة غزو الذات، الأرض التي ينبغي إرتيادها، المرصد اللانهائي للأحاسيس التي لا تحصن داخلها، إنه المكان للرفاهية (الشكل) ولحسن المظهر وجماليته إن الجسد - في نهاية هذا التصور - هو موطن الإنسان كما يوضحه دافيد لوبرتون في أنثربولوجيا الجسد والحداثة، وهنا يضحي الجسد قرين أنا الآخر، فهو ذاته والمرأة في آن معاً، هذا التصور يعتبر (أساساً فلسفياً لعلم جمال القصيدة المعاصر، فالقصيدة تدرك ككينونة فردية، مستقلة بذاتها، فهي مكان نمو الإحساس الجمالي، وهي بمعني هيدغري موطن الكينونة".

ومن الفقرة (7) من الديوان حينما يصرخ ليس هذا صريخ الجسد لكنه جنون الجثمان وهذيان الروح (مروراً بجميع الفقرات التي تفجر الأبعاد العميقة للجسد، وصولاً إلي قصائد معنونه بالجسد في جنة الأخطاء، ولهذا الجسد وقمع رغباته عندما يشتهي، إلي ترنحه وفرحه ورقصه، إلي اختباره تحليل كيمياء الداخلي ومعصيته في ليل الشهوة، إلي إرتباط هذه الجسد بالخلق والإبداع :

جسُدُ يكتب جسداً
يقرأه جسُدُ آخر

لقد تحول مفهوم الجسد كعضو إنساني إلي مفهوم خالص للنص/ القصيدة، وإذا كانت القصيدة جسداً مادياً تتكون جزئياته من اللغة، فإنها تعبر عن الأنا العشري، في نفس الوقت الذي تتأمل فيه ذاتها كحاضر.

( القصيدة امتداد للشعر، كما هو الجسد امتداد للإنسان، إذا كان الجسد يجسد الفردانية الصميمية الصحيحة لكينونة الإنسان، فالقصيدة تجسيد آخر لفردانية تعبر عن الكينونة الشعرية..


قبل أن تفهم العبارة يجب أن تفهم إلاشارة

في ظل هذه الفردانية يبرز الموقف الحياتي من الوجود والتراث والتاريخ والحاضر.
فهناك نصوص تكشف عن حالة الاحتضار الطويل الصفحة (167)، وهي حالة انتظار طويل مستمر منذ الفتنة الكبرى، حوار مع التراث وحب لطقوسه وطعن في مرجعيته، وصف جميل لحالة الشوق للقاء ورؤية الحلم.

وهناك نصوص تكشف عن حالة القياس والتشاؤم (البقايا الصفحة (217)، لا إيمان بالتراكم، إحباط أبدي، لا بصيص للنور والأمل، بقايا أشلاء، وبقايا أحلام.

وهناك نصوص تفضح البنية المعرفية، وتعطي تأويلاً خاصاً بالوحي.
هناك نصوص يحدد فيها الشاعر رؤيته الفكرية.
( صحراؤك محزومة بالملوك.
( وقف في حضرة التعب، وحوله طغاة مدججون بذخيرة العقل.
( المخفي.. يخيف.
(ملكية ترأف بالرعاة، كي تفتك بالرعية.

هل هناك أكثر تشخيصاً وتشريحاً للمجمتع الريعي من هذه الجملة الأخيرة !!!؟
وللمزيد من فضح العلاقة بين هوية المبدع وهوية الذين يتحاور معهم من الأعداء والأصدقاء، وكيفية تكون تلك العلاقة الخفية بين المتناقضات، فسوف نمارس حق التأويل والتفسير لنص منذ بنات آوي الصفحة (149)، وهو نص يحتضن اللغة الشعرية والسياق الراقي والموقف الذي تعبر عنه الصور (الومضات) المكثفة التي تنهمر عليك لتتجمع في النهاية كصورة كلية فاضحة.

حرية اللامنتمي

(قيل أن بنات آوي الجميلات يجلسن في خديعة البهو يأوين الهارب والمتشرد والغريب. فها هو الحيوان المخادع الخبيث المتوحش المهاجم بخديعة وجبن اللص يحمي ويأوي المشردين والهاربين والغرباء الذين يبحثون عن مكان آمن يطمئنون علي أنفسهم من هجوم مباغت أو ضربة مفاجئة.
هو إذن يطرح لنا منذ البدء النقيض المفاجئ والسريع وهو يواصل في نهجه هذا إلي آخر النص. وهو بالطبع يجلب من جراء ذلك كل أحاسيس الصدمة. وهو من طرف آخر قد أضفي علي الجو العام المساواة في كل شيء. حيث أصبح كل شيء. كل الصفات متساوية في القيمة.

عزلة الأحلام:

ها هو قد استقر هنا. هادئاً. مختبئاً منتظراً الغامض، معتزلاً وفخوراً ومنتشياً باعتزاله الذهبي هذا...
هو يعلن ذلك أمام الملأ الحاضرين، المحلفين، الشهود، القضاة، المدعي العام. هو الآن في قاعة المحكمة واقفاً يدافع عن نفسه أمام الجميع. يحاكم نفسه ويحاكمهم. وفي كلا الحكمين يساوي بين الأطراف كلها. الذات والآخر المؤتلف والآخر المختلف.. يبدأ في تفسير عزلته التي حللت وفسرت من قبل الذين لم يهربوا بعد بأنها نهاية هذا الهارب، خاتمة أحلامه التي كان يناضل من أجل تحقيقها، فعلي الرغم من أن التحليل المنطقي يقول بأن خاتمة الأحلام تعني بداية اليأس. فإن الهارب المعتزل ينتبه لذلك فيؤكد أن..
(خاتمة الأحلام وليس لليأس أن يدرك أدواتي..
وحتى يثبت دفاعاته يبرز التناقضات المتواجدة في اتهاماتهم (فكيف يهدم أحلامه وهو الرافض أن يدب اليأس في ذاته؟ وكيف يفر ويتراجع وهو الذي يحرّض عبر أشعاره ونصوصه بالهجوم؟ ولأنه يريد آن يحاكم الجميع. لذلك يبدأ بنفسه أولاً متهماً ذاته بالتظاهر، بالقوة ونجاحه في ذلك ولكنه حينما نجح وصدقته حيوانات الغابة هاجمته بعنف فوق طاقته وتمثيله (تظاهرت بالذئب فتكاسرت في جسدي حيوانات الغابة..
يا لها من صورة مخيفة محزنة، فهو محاط بالكواسر ينهشون في جسده وهو يحاول المقاومة من دون جدوى. فهل بعد ذلك من مبرر أن يصمد؟ فالفرار هو السبيل للنجاة، لكنه رغم ذلك يقول أنه لم يقرر الهروب. فأمام الكواسر كانت الوصيفات المرتبطات به، المحيطات بأحلامه، بل وقود آلامه كانوا يدفعونه نحو الاستمرار والبقاء في الغابة.. ها هو ينتبه لنفسه ويصدم الحاضرين من الآخرين المؤتلفين معه بصدمة التساوي في القيمة بين القبح والجمال. الخير والشر، الكواسر والوصيفات، ففي عزلته الذهبية هذه أحس أن كل ذلك كان غواية منهن وانجذاباً.. التي لم يكن بمقدوره حينذاك أن يهرب منهن ومن أحلامهن/ أحلامه، لذلك واصل تظاهره بالذئب وتكاسرت الحيوانات عليه وتمرغ وتعذب وذاق الويل وهو ينتظر خلق الأجنة التي زرعها ولقحها في هذه الأرض..
(تمرغت في انتظار الأجنة وهي تتخلق....

(كيف يضفي المساواة علي كل شيء. تماماً كما في عالم العبث، حيث يكون كل شيء متساوياً في القيمة).

ها هو مرة أخري يدافع عن الذات ويهاجمها في آن واحد مبتدئاً بفقرة طويلة من (الكنتيات. كنت .. وكنت.. هذا الدفاع كان رداً ضد الاتهامات الموجهة إليه من الآخر المؤتلف معه. وهو في هجومه/ هجائه يؤكد أنه كان البطل، فهو كان في تلك المرحلة شظية القلب، مسمار الباب، أسئلة الكهرباء، نحيب الأبجدية، ميراث الكتب، الحديد، فاضح الليل، عاج العفة، الشهوة الخفيفة، التميمة، الدمث، وحش أليف، مستجير من المخلب بالنار، مستفز للعدو، يفرز النحر لشفرة النصل..
صورة جميلة وقوية من جانب، ومشاعره الإنسانية والنفسية المتضاربة في وجدانه من جانب آخر..


حرية اللامنتمي عبر بوابة المأساة:

كل هذه المتناقضات المتفجرة في ذاته وكل الصور التي تمر أمامك وتشيد في مخيلتك صورة إنسان أقرب إلي الملاك بل بشكل أدق أقرب إلي القديس والبطل. ولكن إذا كان القديس معتزلاً الآن من كل ذلك ومن كل شيء. فكيف نستطيع حل هذه المعادلة الصعبة؟ كيف نربط صفات البطل/ الملاك/ القديس وما تعنيه من استمرارية في المحيط/ الغابة/البهو وتقديم الرعاية/الرقابة/التضحيات، وصفات المعتزل الذي يعيش حالة من المعاناة الذاتية/ الاشراقات/ في جو من السكون/ الصومعة/ الابتعاد؟ اعتقد أن الحل الذي أوجدته ينتمي إلي المأساة وصفات اللامنتمي ولكن من جانبه الإيجابي المرتبط بالحرية والانطلاق. فالمأساة غالباً ما تتعلق بالخصوم الأشداء وما طرح في هذا النص من صدمات مفاجئة هي إحدى سمات المأساة وهي تدور أيضاً حول المعاناة والألم وخاصة حينما يكون المرء معتزلاً، وهذه المعاناة تؤدي إلي الانكشاف ومن ثم الوصول من جهل الأمور إلي معرفتها ومنها إلي تحديد الموقف منها، فأما أن يحب أو يكره، يأتلف او يختلف، ينحني أو يرفض الركوع. ولكن كيف يصل المرء إلي هذه النتيجة؟ عبر اللاانتماء. فكما يطرح كولن ولسن في وصفه للشخصيات اللامنتمية بأنه يرغب في التخلي عن صفته حتى يكون متوازياً وحتى يفهم الروح الإنسانية وينجو من التفاهة، ولكي يفعل ذلك يريد أن يعرف كيف يعبر عن نفسه؛ لأن تلك هي الطريقة التي يستطيع بها أن يعرف نفسه وإمكاناته، وفكرة طريق الخلاص بالنسبة له غالباً ما تأتيه في الرؤى أو في لحظات التركيز/ الاعتزال أو في التطرف، والفرد الذي يبدأ في هيئة اللامنتمي ينتهي في هيئة قديس.

ولتعميق هذا الربط بين المأساة والعزلة والطريق الموصل بينهما عبر اللاإنتماء، نعيد قراءة النص لنعيش حالة المشاعر المتفجرة فيه والتي تعطي إحياء وشعوراً بالإشفاق تارة والخوف تارة أخري( وهما صفتان تستثاران بكثرة في المأساة، فالأشخاص المأساويون بشر مثلنا غير أنهم يتميزون بعظمة لا نصل إليها وهم مطالبون بمواجهة مصائبنا وبالنتيجة يغدو ما نقاسيه في العادة من إشفاق وخوف لدي المقارنة غير ذي بال.، وهنا تبرز صفات التطهر الذي يتضمن نوعاً من التنفيس، فالإشفاق والخوف وتحدي المصائب والمصاعب يولد التطهر من كل هذه العذابات والوصول إلي عزلة لكل المسببات، بل قد تؤدي هذه المصائب إلي أن يقف المرء أمام مرآته ناقداً ماضيه لدرجة رفضه كله.

فأمام هذه (الكنتيات. في النص وصل إلي نتيجة حاسمة. فكل أحلامه كانت بويضات غير ملقحة. فلقد كان يقود أحلامه في تربة لزجة، مائعة متهدلة ورجراجة. كان يحرث في الملح وكان كلما يرفع قدمه من شرك يضعها في فخ، وكانت التحولات تفعل فعلها في ذاته ووجدانه، وكان الواقع بنموه وتحولاته يفرض عليه أيضاً أن يمارس تلك المتناقضات. لذلك كان يتحوّل تارة ويحتال تارة أخري. يموت ويعافي، يفطس ويفترس، يمرض ويبرأ، يصبح غامضاً ولكنه أيضاً يتوضح، يبتذل ويتعفف. يوهم البعض بأنه منتم لهم ولكنه ينفصل ويتقاطع ويعترض، ينهار ولكنه يتجرأ، يتجرأ ولكنه يخاف. يستذئب ويأتلف، يصرخ ويبكي ويضرب، فينالون منه لا يهاب، فيهتف ويستمر في التحدي فينالون منه من جديد فيهذي هذه المرة أمام اللا متوقع من الممارسات والصدمات والعذابات والانهيارات، وحينما يكتشفون ذلك ينالون منه للمرة الثالثة والرابعة والعاشرة ويستمر في هذيانه و....

الانتقال من (كنت) إلي (منذ)

هكذا كان دفاعه وكشفه لمتناقضات حياته وهو في قمة هذيانه وهنا يهدأ فجأة ليعلن أمام الحاضرين في هذه المحكمة من مؤيدين ومتعاطفين ومهاجمين أنه أمام كل ما سبق من أتراح وأفراح وجبن وشجاعة. فهو قد خدع خديعة كبري. إطمأن لبنات آوي فخدعوه. لذلك فإن كل انتصاراته التي اعتقد أنها حقيقية كانت وهمية.

(وها أنا أحصي الجراء وأداعبها متوهماً أنها انتصاراتي.

عند هذه الفقرة لابد أن نتذكر شهادته في بداية نصه حينما كان يرفض اتهامه باليأس. فهذا الهبوط الهائل من دفاعاته المجيدة إلي الانطفاء الواضح لأحلامه واعتبار كل هذه الانتصارات وهماً، هو قمة اليأس، فهو هنا قد رفض كل منطق التراكمات والتحولات والنتائج للمسببات. عند هذه اللحظة اليائسة وهو منحني أمام الحضور، وفجأة، يرفع رأسه للعيون المركزة عليه ويضرب بقبضتيه علي صدره بقوة صادراً صوتاً مجلجلاً كالطبل، صارخاً..(شخص مثلي، استفردت به الكتب وشغف به الهذيان.

ويرجع إلي هدوئه تاركاً الحضور ينتظرون بلهفة نهاية هذه الجملة، فإذا به يصرخ بقوة أكثر حدة مكملاً:

( لن ينجو من خديعة البهو الزاخر بالليل ومخلوقاته.

نعم، هو هنا يعترف أنه متميز، متفرد، عيون العدو مستيقظة تجاهه، فكيف ينجو إلا إذا ترك أحلامه تنطفئ..
هو لن ينجو الآن ولم يكن ناجياً منذ البدء، منذ بداية بدء أحلامه، وهنا يبدأ بسرد كل منعطفات حياته بفقرة طويلة من (المنذيات. منذ .. ومنذ.. ومنذ.. وعند كل منعطف..
منذ كان يلتهم أروقة المكتبات المعتمة قارئاً وموظفاً..

منذ الغرف الموصدة وهو يهمس في آذان وصدور وعقول الوصيفات وينشر رحيق أحلامه. منذ الجزيرة وأحداث آب.. منذ الاستجواب تلو الاستجواب المؤجل منه والمستمر تأجيله لغاية الآن..منذ أن عاشر المخادعين والأصدقاء..منذ أن عصر كل أحلامه وعواطفه وشهواته وصبها في كأس جميل رسم عليه نصاً سماه قلب الحب.
منذ أن غربل أفكاره وفلسفاته وأساطيره وحوادث هزت منطقته وصبها في نص خيل له أنه محمل فوق ريش نائم يحلم بالشيء الحلو، فخلق أبجديات القيامة.. ولكن وأمام هذه المراحل العمرية اكتشف بأنه:

(لم أذهب طوال هذا الليل أبعد من حياة مليئة باللبونات بنات أوي وصيفات ذئبة الملوك..
(ما بال أحلامه لا تكبر. فهي تقف عند حد الجراء واللبونات فقط! ! ).

يلتف صوب الحاضرين المستمعين والقضاة، ها هو أحد الحاضرين كان صديقه في العزلة، ها هو الآخر رفيقه في الغرف الموصدة، والآخر سجانه والرابع جليسه في الجزيرة، وها هو.. وها هي.. كلهم يتهمونه وكأنه (الوحيد مرتداً في حضرة الدم.. لا... لا وألف لا.. ويستمر في صراخه، لا... أنا لست الوحيد المرتد، لقد كنت بالنسبة لكم
كالرائحة الزكية التي تتصاعد من الروح..

(أليست الروح الزكية هي إحدى سمات القديسين والصالحين والأبطال...؟)
وهنا يبدأ يهاجم الحضور..

الانتقال من مرحلة المأساة إلي مرحلة الهجاء:

يهجو الحضور ويشمئز من وجودهم، يستصغرهم، يسخر منهم ويستهزئ بمحاكمتهم هذه، متهماً الجميع بأنهم ليسوا (أقل مني توغلاً في الدم..

لقد انتقل هنا من مرحلة إبراز المأساة إلي مرحلة الهجاء. ومثلما في الأولي استطاع أن يبدع في خلق صور جميلة ويخلق لنا حالة من الألم والخوف والإشفاق. فهو هنا استطاع عبر الهجاء المتولد من غريزة الاحتجاج أن يخلق نصاً أدبياً راقياً. فغاية الهجاء كما يقول (ديفو. هي الإصلاح. فالشاعر قد أمسك بالمحراث رغم خشيته أن يفعل الهداية قد توقف منذ زمن طويل، وحينما يبدأ في الهجاء فهو واع تماماً بالفرق بين واقع الأشياء وبين ما يجب أن تكون عليه. وحينما ينبثق الهجاء من شخص يندرج ضمن الأقلية الواعية وغير المنبوذة ولا المرفوضة من قطاعات واسعة فإنه يرغب ألاّ يتحول إلي واعظ يتقبل سامعه كلامه عن الفضيلة والخير. بل يهدف في هجائه أن يتفق معه قارئه في تبّين وإدانة ما يعده معيباً ومرفوضاً في السلوك والمواقف والقناعات في صفوف المؤتلفين قبل المختلفين، ولأن الكثير منا لا يفضل أن يدين لذلك يتهم أنه قد وضع كل أنواع الحبوب في مطحنة الهجاء..
هنا يقارن وبافتخار بين حياته المكشوفة وجهره لكل قناعاته وبين الآخرين حيث (كنتم.. تنسجون المؤامرات تحت شرفة في عتمة البهو..

ويختتم نصه بموقفه التاريخي الجريء الذي أعلنه في (يمشي مخفوراً بالوعول. فهو في هذا النص كان فعلاً كالخيال المضيء يركض تارة ويطير في الفضاء تارة أخري وقطعان الوعول أمامه تحرسه وهو ينشر التاريخ الفعلي ويفضح المزيف منه...
(اعتزلكم مثل رعية تفقد مليكها دون ندم.

استهزاء واشمئزاز (لهم) وهي حالة شعورية ترتبط باللامنتمي من جانب وبالعبثية من جانب آخر ولكنها تؤدي بالنتيجة إلي أن يدرك المرء حالته هذه فيصبح حراً ويفعل ما يريد، وهو متيقن أن حريته لن تأتي إلا باعتزاله هذه التي لم ولن يندم عليها، وهنا تصبح العزلة جميلة وحالمة، وحينما تتسرب الحرية من خلالها له تصبح العزلة ذهبية كما قالها الشاعر بفخر وانتشاء..
هذا النص استخدم ضمن عمل فني أقيم في البحرين تحت اسم (وجوه) واشتمل علي معرض تشكيلي للفنان إبراهيم بوسعد بلوحات تعبر عن حالات عديدة للوجه الإنساني وترافق معه تلحين لهذا النص من عمل الفنان خالد الشيخ وتم إخراج المعرض وكذلك مسرحية بنفس الاسم بإشراف المخرج المبدع عبدالله يوسف، وصدر شريط غنائي لذات الكلمات شارك في إلقاء القصائد الشاعر العربي أدونيس، وأصدره الشاعر قاسم حداد ضمن ديوانه (قبر قاسم. الصادر عام.1997

سينمائية القلعة

حضور الحواس المستنفرة
في المخيلة لحظة القراءة

القلعة تمثل في المخيلة الإنسانية رمزاً للصمود والتحدي ضد الغزاة. والدفاع عن الأرض والمدينة والعشيرة.. وهي رمز وبهذا المعني في كل الحضارات ومنها حضارتنا، وحينما يأتي أحد أبناء هذه الحضارة ويوظف القلعة كرمز لحداثته الشعرية وأحلامه وتوجهاته. فإنه بلا شك يعيدنا إلي تلك الصور التاريخية والوقائع والأحداث التي كان للقلعة دور مهم فيها من حيث مكان للحماية واللجوء والأمان أو من حيث بؤرة للهجوم والاقتحام.
ولكن أن تتحول الصورة السائدة في المخيلة للقلعة من صورة مكانية واسعة المساحة والفضاء إلي صورة ترمز إلي فضاء الجسد الإنساني الواحد، فأن هذا يعني بأن المخيلة لا بد لها أن تستعد للمفاجآت، وحينما يلغي العمل الجماعي الضروري لتشييد هذه القلعة ويتحول إلي عمل فردي فإن صورة القلعة لابد وأن تختلف، وعليك أن تأتلف مع هذه الاختلافات. وهذا الإلغاء للضرورة الجماعية منبعه ليس فقط صعوبة تشييد القلعة وإنما أهمية المشاركة الوجدانية الجماعية لبناء هذا الحاجز الحامي لجميع القوم.
فيأتي هذا الشاعر ويتحدى هذا الوجدان الجماعي ويبني لنفسه ولو لمرة هذه القلعة.
ويبنيها ليس للقوم المحيطين به بل لنفسه فقط، فلنتصور شكل هذه القلعة المادية وهي مبنية حجراً حجراً حول جسد واحد ولشخص واحد... بل يمكن أن نتخيل مرحلة البناء كتخيلنا لمرحلة تغطية القبر، حجر فوق حجر وجنب حجر إلي أن يغطي الإنسان نفسه وبنفسه ويختنق..

هذا هو الإحياء الأول الذي يسُّر به لك كائن وحيد، يبني لنفسه وحوله قلعة، بيديه يشيّدها حجراً حجراً. ولكن في ظل هذا الهدوء الصحراوي المخيف. وهذه الوحدة القاتلة التي تحس بها وتتعايش معها. فإذا فجأة تسمع صرخات وهيجاناً ونداءات وقرقعات السيوف والطبول والرماح وغباراً محيطاً بك من جراء حوافر الخيول وبالطبع تسمع صهيلها أيضاً.. إنه الجيش العرمرم القادم... لا عِذراً.. إنها الجيوش كلها ومن كل القبائل قادمة لتبدأ الهجوم علي هذه القلعة الصغيرة.

وهذا هو الإيحاء الثاني

فمن الهدوء والسكون إلي الصراخ والاستنفار. وبومضة سريعة وكأنها لقطة سينمائية مفاجئة يتعمد المخرج أن ينقلك من حالة هيجانية للجيوش وضوضاء وصخب إلي هدوء تام، لا صوت، لا موسيقي. لا حركة..

(وحــدي.

ويسكت ليترك لعينيك تنطلقان في البياض الممتد بعد هذه الكلمة ولحواسك الأخرى أن تهدأ، فلا اهتزازات الصخب علي طبلة أذنيك ولا ارتعاشات حركة الخيول علي يديك.. ماذا وحدك يا هذا؟ ماذا ستفعل والجيوش الغاضبة من نصوصك قادمة للفتك بك؟

وهذا هو الإيحاء الثالث.

- أتريد أن تعرف لماذا فعلت ذلك؟
- نعم أيها الشاعر المغامر الرامي نفسه للتهلكة.

- إنني أغري هؤلاء (الأعداء. لقتالي. أهيئ لهم الوليمة. فأنا الصغير في قلعة صغيرة ولوحدي كطعم أحمر قان معلق في صنارة ملقية بين أسماك القرش الجائعة.
استفزهم ليشحذوا أسلحتهم. أرفع رأسي خارج البرج ليحسنوا التركيز وأرسل لهم خطابات التهديد لأستفزهم.

يسكت الشاعر وبؤبؤا عيني يتوسعان أمام هذا الكلام ليتسرب المشهد السينمائي
لذهني، فهاهم جيوش الأعداء ينظمون صفوفهم صفاً وراء صف. وها هم الرماة راكعين والرماح موجهة صوب القلعة وكل واحد منهم رافعاً رمحه في موازاة عينه للمزيد من التركيز، وها هي الميسرة، جموع منتظرين إشارة الهجوم، وجنود أقوياء علي الميمنة حاملين علي أكتافهم جذوع النخيل الضخمة ذات الرؤوس المفلطحة لبدء الهجوم وفتح الثغور وكسر السور الصغير..

وهذا هو الإيحاء الرابع الممتلئ بالاستعداد والنفير والصراخ.

(وحدي)

وبياض أمامها وإيحاء قوي بالسكون والعزلة والوحدة وسكون يدل علي الخطر والقلق، وكأن حركة الكاميرا من جديد تنتقل من لقطة عنيفة صاخبة إلي لقطة هادئة. وكأنها كلها لقطات متقاطعة لموقعين مختلفين تقدم الكاميرا تارة هذا الموقع وتارة ذاك الموقع واللذين يقعان في نفس الوقت (وهي حركة سينمائية تهدف غالباً إلي خلق التوتر والتوجس.. لقطة صاخبة فيها من المؤثرات الصوتية والموسيقي ما تخلق جواً خاصاً بالمعركة وفجأة لقطة أخري صامتة لا صوت ولا موسيقي ولا حركة.

بعد هذا الوصف للطرفين والحالة النفسية لعناصرهما وكشف معالم المكانين وتوضيح العلاقة بين الشاعر والقلعة والجيوش المحيطة بها. وكل ما سبق كانت مثابة (لقطات سينمائية توضيحية تهدف الى معرفة جغرافية المكان ومعالم الوسط. الذي ستجري فيه المعركة. تنتظر بعد هذا الوصف بأن يقوم الشاعر بسرد تلك المعركة غير المتكافـئة والتي تتخيل مسبقاً نتائجها.. فسور القلعة منهار من كل جانب. وثقوب كبيرة وعديدة فيه، وحجارة متراكمة والقلعة محطمة عن بكرة أبيها، بقايا البرج الصغير وفي أحشائه آلاف السهام، والنيران تلتهم السقوف، والسيوف منغرسة في قلب الشاعر وبطنه وساقيه، واللون الأحمر سيد المكان، يسيل من فمه الدم. أو هو في طريقه نحو الموت.
أو في أحسن الأحوال مجروح من كل صوب، ينزف، مقيد اليدين بالأغلال ويجرونه صوب معسكر الأعداء.
ولكنه ينتقل فجأة من دون المرور بتفاصيل المعركة وكأنها لقطة زائدة أو مشهد تقليدي لا داعي له ليعطيك وصفاً دقيقاً لنتيجة المعركة. فها هو الهجوم النهاري قد بدأ واستطاع أن يحمي قلعته، فارتدت الهجمة. وهاهو يخرج ليسعف الجرحى ويرسل الأسري مدججين بالهدايا.

وهذه هي الصدمة. أو المشهد النوعي الذي يقلب المخيلة والتصور ويعكس المعني ويعيد ترتيب الأمور من جديد في ذهن القارئ أو المشاهد.. فالقلعة الصغيرة في المخيلة قد كبرت وتحولت من قبر إلي دولة. والفرد المنعزل الضعيف الوحيد قد تحول إلي بطل عادل، لا يقتل الجرحى ولا يبادل الأسري بالأسري. بل يرسلهم إلي معسكراتهم وهم حاملين جزءاً من هداياه الثمينة. وبعد ذلك يبدأ يرمم أسوار قلعته الضخمة من ثقوب صغيرة تافهة ويزيل السيوف الهزيلة ويمحو الآثار الطفيفة ويزين البرج والسور ليغري هؤلاء الصغار بالهجوم الليلي..

وما زال وحده، والقلعة صامدة، ولكن هنا يصبح الإيحاء مختلفاً. والإحساس بالعزلة والقلق والخوف يختفي لتحل محله صورة إيجابية بالانتصار.
هذا النص الصالح لسيناريو فيلم قصير فيه من اللقطات المتقاطعة والمؤثرات الصوتية والموسيقي والسكون وحتى الحوار يتضمنه هذا النص من خلال ما تطرحها الكلمات من معانٍ وتفاعلها مع الصورة لدرجة تساعد في الكشف عن المعني الكامن للصورة من دون أن يحل محلها أو يأخذ مكانها، وإذا كان المقطع الثالث من هذه القصيدة (كل موجة من الهجوم... قد أربك هذا الانتقال بين الهدوء والصخب والوحدة والجموع وخفف من حالة الصدمة أو اللقطة النوعية وأعطي إحساساً بالنتيجة غير المتوقعة للمعركة، فإن وجوده في نهاية النص وبعد الاستعداد للهجوم الليلي كان سيعطي للسيناريو وضوحاً لأسباب الانتصار المعنوي قوة وصلادة الفكرة أمام قوة الجيوش والمادة.

ولكن لماذا لم يتجرأ الشاعر ويفضح هوية هؤلاء الأعداء، من هم؟ وماذا يريدون منه؟
ولماذا يحاربونه؟

ثم لماذا هذا اللطف معهم. فلقد وصفهم بالشجاعة وعلي الرغم أنه يتحداهم وأسعف جرحاهم وبعث بأسراهم حاملين الهدايا، وكأن لسان حاله يقول أن هذا العدو الجميل لا بد من وجوده لأبقي أنا وحدي مع قلعتي. وبالضدين تتوحد الأشياء، علي الرغم أنه استصغرهم في هذه المعركة فإنه أخذ في موقع آخر من الديوان يهاجمهم بشراسة لا رحمة فيها فهم تلك (السمكة التي فقدت عادة الماء وزعانفها تتلاطم في طين الشاطىء. وهم الذين يصغون لدسائس المثقوبين ويعرفهم ثقباً ثقباً، ولذلك أخذ يراقبهم من برج قلعته الصامدة هذه وهم ينحدرون.. إلا أن هذا الخلط والدمج بين كل الأعداء، الأضداد ووضعهم في سلة واحدة لا يفرق بينهم. لا يعطي للعدو الجميل حقه ويساوي بالعدو الآخر، لا يميز بين الذي خرج من رحمهم والمتكون من عجين نيرانهم وتجاربهم وبين الآخرين..

وهنا يحس بأن صموده بحاجة إلي قلعة جماعية.

(فأي قلعة ستفتديك
يا كشيف الجرح والمعصم والمجادلات)