كمن يخرج
جثة العشب من قاع البحر
أو كمن يرعى القمر
في ضيعة بلا سياج
مرهقا كان الكلام
يرتعش في قدمي
قبل أن يصعد إلى لساني.
القمر هو القمر
لم يتغير شكله منذ البارحة
أشجار المنحدرات تفقد لونها
و تغرق في لون الفضة
و أزهار المارغريت
تغدو في الليل ظلا فقط
لأزهار المارغريت
و أنا حين أستلقي على الأرجوحة
كأنما أستلقي على كومة قش
الدفء الذي يجول في قلبي
أقل بكثير من الدفء الذي يسري في الثياب
يدي تتدلى إلى الأرض
كأنما تريد أن تمسك الدموع
التي تسقط من عيوني
ماذا علي ؟
و ماذا فعلت
حتى يسيل مني كل هذا العرق ؟
هل كان لزاما عليّ أن أحرس الماء
حتى لا يفر من البحيرة ؟
و النافذة التي أغلقتها منذ سنين
هل كان لزاما علي أن أفتحها
و أجلس كالمخبول في تلك الغرفة المهجورة ؟
لقد تركت كل شيء هناك
و جئت إلى هنا باحثا عن هواء جديد
و حياة تفتح قلبها
لعابر سقط الحنان من قلبه
وضعت سنواتي القديمة
في زورق من ورق
و نفخت فيه أنفاسي كي لا يعود
غلفت كل الذكريات في علب الهدايا
و طوحت بها في الهواء
مغمضا عيني، متنكرا
تماما مثلما تفعل بلقيطها فتاة الخطيئة
لم أشأ أن أخطو خطوة واحدة نحو الوراء
لذلك دست كل عشب يابس
نما في حديقتي من زمن قديم
خنقت الصور و دفاتر الذكريات في الأدراج
كسرت أقفاص الحمام
و الحياض التي كانت تسبح
فيها أسماك من خشب
نظفت خزانتي من كتب الحب
و السحالي المحنطة
جئت إلى هنا
باحثا عما لم أجده هناك
ربما ستفهمني يوما ما
هذه الأرجوحة المعلقة بين شجرتين
ستشدني من ياقتي و تصرخ في ظهري:
" لمن تحمل هذا المصباح أيها الأبله
و تمشي بلا دليل في الغابة؟
أصدقاؤك القدامى تناثروا
و الذين حسبتهم عميانا
أصبحوا يبصرون أكثر منك
الأشجار التي كانت تظلك قد ماتت
و الكوخ الذي بنيته من قش و طين
جرفته المياه من أعلى الهضبة
و أنت أيها الهارب الصغير
يا نديم الوحشة
لا تزال تحتمي بجسدك الراعش
في هذا التل الرجراج "
منذ كم سنة
و أنا معلق كهذه الأرجوحة بين شجرتين
أتأمل الجمال العابر في السماء
و أنسج شيئا يحميني من الموت
لم أعد أحمل مصباحا لأحد
لأنني أنا الأعمى
فقط أريد أن أضيء خطواتي
حتى لا أسقط في البئر من جديد.
إلى حليمة الزاهري، والدتي.
البارحة لم أنم
كان طيفك يملأ علي الغرفة
و كلما أطفأت المصباح
أضاء وجهك هذه العتمة
فحال بيني و بين النوم
حينما تصيبني رشحة الحنين
أحدق في سماء قريتي
و أمد يدي إلى الظلمة العالية
كأنما أريد أن أصافحك هناك
و حين يهزمني الانتظار
و يجمد الثلج قدمي الواقفتين لأجلك
أعود إلى حجرتي
مستأنسا بنحيب البرد و المطر
أنظر إلى صورك المعلقة على الجدار
فأشم رائحة الحناء في قدميك
و أتحسس بقايا الكحل في العينين
أتحسس السوار و أقراط الفضة
و قلادة الكهرمان
التي يتدلى منها درهم للملك القديم.
البارحة لم أنم
كان طيفك يملأ علي الغرفة
و كلما أطفأت المصباح
أضاء وجهك هذه العتمة
فحال بيني و بين النوم
أحتاج إليك
سأحفر اسمك على جدع شجرة الكستناء
أرسم بجانبه قلبا كبيرا
و سأحرص على ألا يخترقه أي سهم
سأستل الأعواد اليابسة من حزمة الحطب
لأشكل اسمك كبيرا في باحة البيت
سأرسم وجهك على المرآة، على الباب
في دفاتري، و على زجاج النافذة
أريد أن تخترق نظرتي
عينيك الغائرتين في الزجاج
لتلاحق الحياة
و هي تركض خارج الحجرة.
في المساء
حين أعود من المدرسة
مودعا عصافيري الصغيرة
أخبئ حزني في شجرة الطرفاء
أعبر الزقاق القديم
و أصعد الأدراج
لأجلس إلى مكتبي المنسي هناك
كعصفور في قفص،
مغمورا برسائل ماري هاسكل
أشعل شموعا في زوايا الغرفة
و أشعل ما تبقى من الحنين في جوارحي
أقرأ قصائد للشعراء الروس
و أحتسي كأس نعناع كالعادة
طعم المرارة يصعد مع الأنفاس
أنا هنا و أنت هناك
و بيننا تمتد الأيام المستعادة:
كأنك لا تزالين قرب البئر
تسحبين الدلاء إلى بيتنا القديم
تغزلين الصوف في الظهيرة
و تنحدرين مساء
مع نساء القرية إلى الوادي
لتعودي بحزمة الكلإ إلى حملاننا الوديعة
كأن الحملان لا زالت ترعى في ذاكرتي.
البارحة لم أنم
كان طيفك يملأ علي الغرفة
و كلما أطفأت المصباح
أضاء وجهك هذه العتمة
فحال بيني و بين النوم
أحتاج إليك
أحدق في الماضي
و أخاف أن أصاب بالعمى
كان الفرح يرقص في حذائي البالي
يلمع في الأقلام
حين تحتك بالمبراة
ثم يختفي في طاقية الوالد
أو يومئ لي من خلف منسج الجدة
كان الجمال يتبخر
من سحنات الشيوخ الطيبين
من أغاني الرعاة و أعراس البوادي
ينسحب خلف المشط
المنزلق على شعر الصبايا
الصبايا المزدحمات في حمام الطين
يصعد مع دخان الرغيف صباحا
و يتبدد في الظهيرة هنالك
حيث الريح تعوي في المنحدرات
بخطى بطيئة
أمر من دربي القديم
هامتي محنية باتجاه الماضي
و عيناي تحدقان في الذي راح
من تلك الشرفة
كانت تطل فتاتي الصغيرة
بشرى، ذات التنورة الحمراء
قرب عمود الكهرباء المائل
كنت أجلس كل مساء لأغني لها
و أنفخ بجوارحي المرهفة
في شبابة من حديد
أنا العازف
ذو النغمة الغريبة
أطارد أسراب السنونو
و هي تغادر منزلا بلا باب
منزلنا العتيق، ذا العتبة الواطئة
هناك تربيت صافيا
كماء في قمة جبل
كنت طفلا
أغمس قطعة خبز في كأس شاي
و أذوق حلاوة اللحظة الفارهة
بلهفة عاشق من العصور الأولى
عانقت الحياة كما لو أنها أمي
قبلتها كثيرا
حين كانت توأما لعروس البحر
حين كانت شبيهة بملاك.
تحت خفق حنانها
و رفقة الأصدقاء الذين غابوا
جست قريتي:جزولة العزلاء
أحياؤها ذات النوافذ المشرعة
الربى الآهلة بالعشب و الحنين
الحقول المتموجة و الأسوار العالية
آبارها التي لم يعد فيها ماء
أشجارها التي لا تنتظم في غابة
الأوكالبتوسة المتعالية
تلك التي نقشت على جدعها اسمي
و اسم الفتاة التي أرهقني الركض
في بساتينها المتعبة
الفتاة التي ستنسى حقيبتها في قلبي
و تسافر مع أسراب السنونو
إلى حيث لن تدركها الحواس
إلى حيث تختفي الجميلات للأبد .
ما زلت أحدق في الماضي
و أخاف أن أصاب بالعمى
مذ نبت الشعر خفيفا على ذقني
و أنا أحمل أنكادي و كتبي
في حقيبة الظهر
جوابا بين قرى و مدائن قاسية
أبحث عم كسرة خبز
و كثير من الأفكار
ضد قطيع من المعتوهين
عشت متمردا
بعينين دافقتين بالسخط
و بلسان أشبه
بخاتم فولاذ في نار حداد
أعلق كلامي على أصعب مشجب
و أنثر فوضاي حيث أشاء
و في سبيل جموحي
في سبيل سذاجتي أيضا
ذقت القسوة في أكثر من كأس
و تلقيت وابلا من الصفعات .
على أكتافي حملت أكياس الكاكاو
إلى مخابئ وعرة
في الليل الموحش
كنت أنام على حصير رث
متوسدا أحلامي التي لم تصدأ
ناسيا يدي تحت أقدام
غرباء و مجهولين
ممعنا النظر في الضوء
الذي لم يبدد وحشتي
و كلما فتحت كتابا للتنسم قليلا
أغلقه التعب
هنالك تذكرت أبي
صانع السكاكين و بنادق البارود
أبي الذي زرع يديه
في صهاريج الكروماج
و تحمل الألم لوحده
من غير صراخ أو أنين
لملمت أطراف جسدي
و عدت إليه
ألفيت لديه رسالة باهرة
أخيرا سأخرج قارب
العائلة من الوحل
أخيرا سأصبح عاملا بسيطا
في سكك معقدة .
بحماسة نسر
حلقت من جديد
وطئت مدينة الجرائم و القتلة
كأي كاسر
حاربت الأشباح طويلا
لكني عدت بلا ريش
للقطار الأسود العنيد
القطار الذي داس
ثلاث سنوات من عمري
و ما زال أزيز عرباته
يرن عاليا في الجمجمة .
كان نزهة في حديقة ضيقة
كان حلما بعيون مفتوحة
أفقت منه باكرا
حملت تحت إبطي
علبة الصامولات و البراغي
و مفاتيح الحديد
لأعلق في السطوح أعمدة الهواء
أو أزرع أحجار الإسمنت
في أرض عنيدة .
الطريق أطول من لأن تحتمل
الموج يهز قاربي
في جنون بحري غريب
و المطر ينزل على جمجمتي
كطيور ميتة..
ربع قرن من الموت
ربع قرن من الحياة
يد ما
يد عالية و طويلة
ستخرجني برفق
من حجرة الموتى
و تعيدني إلى منزل الأصفياء
حيث الكتب العتيقة
تتقافز فرحانة حين أعود
و الجدران تحضنني كأشقاء
و العصافير ذات الوزرات البيضاء
تغني، دونما خوف، خارج القفص
حيث للسبورة شكل المرآة
و للطبشورة أكثر من رنة .
بقدمي الرطيبتين
دست الصخر
دست رغباتي
بحكمة طفل
رجرجت الأيام
سيارة قديمة
تنزل ببطء في المنحدر
كذئب تسلل من وجاره
باحثا عن فريسة
عما قريب
سيرفع الضباب ملاءاته عاليا
كي أرى جدرانك تتهادى
كم من الطرقات عبرت
كي أصل إليك يا " تنكرفا "
أصل مثقلا بأحلامي
إلى زوابعك التي لا تنتهي
و أكماتك الشائكة
كان الغبار كثيفا
و كانت الريح تدس ترابها
بين جيدي و ياقة القميص
جففت جسدي من التعب
و سرت مختفيا
بين شجر الأركان
أرشف الحرارة
كأني الوريث الوحيد
لهذه الشمس
لم أعد قادرا على المشي
حقيبتي تقادمت في الطريق
و حذائي مات من شدة العطش
يجدر بي أن أتوقف قليلا
ربما يدعوني أحدهم
لأشرب كأس لبن بارد في الظل
لم يعد في هذه القرية
سوى أشباح أناس
سقطوا من التاريخ
على مدى العين
تمتد الأرض حقولا
من التراب الأسود و الحجر
الغيوم لم تعد تقيل هنا
المياه شاخت في الآبار
لذلك تترك بياض شعرها
عالقا في جدار الكأس
حسنا أيها الفراغ
لست وحدك هنا
أنا أيضا أبحث عن أنيس
أبحث عن خيوط
ترد أقدامي عن الوادي
أبحث عن يد وديعة
تنفض الخوف عن ملابسي
سأسير بمحاذاة الجدران
مغمض العينين
حالما بالأفلاج
حتى لا أفاجأ بطبيعة أمر
من تكون هذه الشقراء ؟
ولم تتكئ على جدع شجرة ؟
ربما أرهقها المشي على التل
ربما أتعبتها الطريق إلى قلب عشيقها
إنها " توايا "
حاملة الشاي إلى المرعى
توايا البرشاء، حفيدة الجبل
النساء هنا
مجرد خادمات
يحملن القراب و الدلاء
يكنسن الحظائر من بقايا الدواب
يغسلن الأسمال في البركة الجافة
و في الليل يلجن الفراش
برائحة الحطب
النساء هنا كومة برسيم يابسة
يجرجرها حصان أعمى
أين شباب القرية ؟
تشير امرأة
إلى جبل غائر في السماء:
" عبروا من هناك
ذهبوا ليجلبوا الشتاء
من الشمال "
يقول عراف القرية:
" بل حزموا أحلامهم يا ولدي
دفنوا اليأس في الأعتاب
و خرجوا باكرا
للصيد في بحار الجنوب "
هؤلاء الشيوخ الطيبون
ذوو الضحكات الدرداء
هم قدماء حرب
قامروا بحياتهم
دفنوا الفرنسيين قديما
في مقابر جماعية
و هذا العجوز المرابي
ذو اللحية الطويلة
و الوجه المستعار
لطالما هرب الحشيش إلى الصحراء
في الليل
في باحة الدار
و تحت شجرة ليمون يتيمة
أختلي بديوان أو رواية
أفتح كتابا قديما
و أقفز من نوافذه
إلى حكايا الأجداد
أجول بلا دليل في حدائق الموتى
و أصل مدنا لم يصلها جسدي
أتعالى وحيدا
في عالم يزدحم بالأنفاس
أغلق الكتاب
أخرج منه صاخبا
كما يخرج الجنين إلى ظلام أشد
أرشف القهوة السوداء
ناظرا بعيني إلى الخلف
حيث الضباب
ينزل ملاءاته من جديد
منتظرا سيارة قديمة
تصعد ببطء خلف المنحدر .
لا أحد
ماذا تبقى؟
المقعد الوحيد
تكسرت ساقاه
و سريري القديم
يستند على الجدار
بلا ملاءات و لا تكايا
نمت أعشاب الزنجار
على العتبة و في زوايا الغرفة
نمت أيضا على يدي
و لا أحد يطرق الباب
لا أنيس لي هنا
سوى طائر البلشون
قبالة منزلي الخرب
يبحث في الغدير
عن بقايا سمكة ميتة
تدريب
منذ سنين
و أنا أسكن في الغرف الواطئة
كأنما أتدرب على القبر.
حروف بارزة
الحياة
حجرة قاسية
قلبي أقسى
لن أهادن الريح
لن ألوذ بجدار ما
لن أستجدي أثواب الرحمة
من قبيلة يحتكم سادتها
إلى كتاب مثقل بالأخطاء
أصابعي تكتب إلى السبورة
السوداء كلاما غامضا
لكن بحروف بارزة.
مقامرة
حسنا أيتها الحياة
ضعي أوراقك على الطاولة
و دعينا نعيد اللعب من جديد.
الهروب من مدينة قاسية
السقوف العالية
تتهاوى فوق ردم قديم
الغبار الغبار يلاحقنا
أغمضي عينيك
و تشبثي بالتابوت
ستجرفنا المياه
إلى مدن بعيدة
مدينتنا أصغر من كتاب العشق
الذي قرأناه البارحة
مدينتنا أوضح
من قبلة سرية
تتخاطفها الصبايا
مدينتنا حقل ماء
تنعق في سمائه الغربان
و تلهث خلف أسماكه القراصنة
المطارد
افتحي شباك بيتي
و اقرئي الليل نجمة نجمة
افتحي شباك صدري
و اقرئي قلبي المعطل
قلبي ذا الأقفال الصدئة
اقرئي البراكين و الزلازل التي عنفتني
اقرئي وديانا و جبالا و غابات بت طريدها.
خذلان
الطيور التي أخرجتها من المرايا
الطيور التي خبأتها في كتبي
الطيور التي حرصت
على ألا تكون طرائد للوهم
الطيور التي نسجت لها الأعشاش
من نباتات الكهوف الأكثر رهبة
الطيور التي ما فتئت
أطهر ريشها من بقايا العاصفة
الطيور التي أخرجت رأسها من كتفي
و ظلت تحدق في الخوف
النابت من حولي كالقصب
تتأمل كيف كنت أشقه محني الهامة
و أنا أصعد بها سادرا أدراج الشمس
الطيور التي من أجلها
أطفأت نوافذي و كسرت سلالمي القديمة
و تركت الباب يرتج وحيدا
بين الخراب والدخان
الطيور التي من أجلها
أشعلت النار في بيتي
و شددت الخطو باكرا إلى الصحراء
الطيور، تلك الطيور
خذلتني، فرت من جنائني
حينما أرعبتها رجة عابرة.
الصيادة الغريرة
عدلي قبعتك المائلة
ارفعي التنورة قليلا
عن ساقيك
و أنت تعبرين النهر
أيتها الصيادة الغريرة
أبعدي السلة عن المياه
و انزعي الخوف
مع الجوارب و الحذاء
لست أدري
متى سيدرك قلبك العنيد
أن الشص القديم و القصبة الصفراء
لا يصطادان أسماك الباراكودا.
أحلام سيئة
كأن عربات الذئاب
كانت تجر جثتي
عبر ذلك المنخفض الثلجي
كأن أفيال الهند
كانت تتقاذف جمجمتي
من أكمة إلى أخرى
كأن جمال الصحراء
كانت تسحبني ميتا
إلى حيث لن ينتظرني أحد
كنت ضريرا
أطفأت مصابيح العالم
و أشعلت قنديلا صغيرا في قلبي
أعرف أني كنت ضريرا
و سائسا لأفراس عمياء
أعرف أن أزهار النسرين
قد تساقطت واحدة تلو الأخرى
تساقطت باكرا من يدي
أعرف أني تركت صدري للأقدام الثقيلة
تدوسه متى تشاء
أعرف أيضا أن الفراشة
التي كنت أوزع أجنحتها على رفاقي
ستعود إلي حينما تزهر أشجار الخيزران
و في انتظارها
في انتظار أن تعود
د ون أن يراها رفاقي
أطفأت مصابيح العالم
و أشعلت قنديلا صغيرا في قلبي.
هشاشة
الأرض التي أطأ
قد تهوي بقدمي إلى أزمنة غريبة
حيث الحواس أكثر برودة من لون معطفك
حيث الحياة أكثر غموضا
من الأشعار التي قرأتها في سن العاشرة.
آسفي
أوائل غشت
العزيزة نوال
في الليل، حين تنام الشمس خلف كتفيك
بأصابعي، بأطراف أصابعي فقط
أفتح الدرج، أفتح رسائلك
فتغمر أنفي رائحة كلماتك القديمة
الرائحة لا تزال في جريد النخل
حيث كنا نطل على الدالية المجاورة
اشتقت كثيرا إلى تسلق النخل
اشتقت أيضا إلى الجلوس في حقل الذرة
إلى احتساء اللبن من جرة الطين
إلى تحطيم مشبك شعرك
و العبث بدميتك المصنوعة
من بقايا قمصان و قصب
يبدو أن أحدا ما
يرتب الأيام الجميلة في دولاب
يطوق الدولاب بحزام من حديد
ثم يرميه، خلسة، في البحر.
البارحة كنت أحدق في صورتك
بينما كانت دموعي تسيل من صورتي المعلقة،
كتذكار منسي على جدار الغرفة
كل ما كنت أريد أن أقوله لتلك الصورة
قلته لوسادتي و نمت.
حتى النوم لم يعد يأتي
يبدو أن أشباح الغرفة تأخذه بعيدا كل ليلة
و الغالب أنها تربطه بجدع صفصافة تتثاءب هناك،
كثيرا ما أصحو على رنين غامض
صوتك في الهاتف يغريني بارتكاب حماقات
رجاء دحرجي كلامك إلي ، دحرجيه كما لو كان
كرة من الثلج تنزل على قلبي من أعلى الجبل.
هل قرأت رواية "ألفونس كار" ، هديتي إليك ؟
هل رأيت كيف كنت أصارع التيار في تلك الرواية
لأحميك من الغرق ؟
حذار إذن من مكر الأعشاب
حذار من المشي ليلا في الدغل
أعر ف أن أنظار الآخرين تجرحك
لذا كان يجدر بنا أن نلتقي في غابة،
و نختفي هناك.
العزيزة نوال، متى ستأتين ؟
أنا جالس على هذا المقعد
أنتظر أن يصلني وقع حذائك
و أحلم في الظهيرة أني أسمع طرق يدك على الباب،
منذ آ خر وداع و أنا اجلس وحيدا في هذه الغرفة
أرعى سربا من الأحلام
و أسقي وردا في لوحة فان غوغ
موقنا أنه لن ينمو،
كان اليأس يتجول هنا عاريا
طردته و أحكمت إغلاق النافذة
أنفاس غرفتي لم تنته بعد
لازالت الموسيقى تخرج من الجدران كالعادة
لازال هواؤها، رغم النوافذ المغلقة،
قادرا على الانتظار أكثر.
هل كنت تلبسين فستانك الأبيض الشفاف
أم أن أطرافك كانت مغطاة بالثلج؟
لقد كان الضباب كثيفا
لذلك لم أرك جيدا
و أنت تعبرين كالبرق في حلم البارحة.
صوت الكناري في القفص
يحدس أنك قادمة من الصحراء
منذ أزيد من فصل و أنا أنتظر
رجاء لا تتأخري
فمن فرط الحرارة
قد يجف الحب في قلبك.
البطاقة التي أهديتني
علقت أزهارها الجامدة
على زجاج نافذتي
ربما حين أفتحها أشم نسيما آخر
غير الذي يسري في الهواء.
كان القمر مكتملا تلك الليلة
و كان ضوءه يحيلك شيئا فشيئا
إلى ما يشبه الخرافة
حتى أني لم أعد أرى وجهك
بل صرت أرى وجه سلمى كرامة
و هي تجلس على أريكة
في رواية جبران.
لست وسيما بما يكفي
لذلك سأفعل مثل طائر الكوراي
ألملم أعواد القش و بقايا الأزهار
أرتب أوراق الشجر
أدحرج الحصى من الوادي
و أسحب القواقع من البحر إلى الغابة
أبحث عن ديكورات تليق بعصفورة
كي أصنع لك عشا صغيرا و دافئا
ربما يرجرج أحاسيسك الراكدة.
املئي الأصيص بالماء
رتبي أزهار الفل في سلة القصب
دعي شعرك هائما في الغرفة
شغلي شرائط الموسيقى
اتركيها تتسلق الهواء كاللبلاب
أزيحي الستائر
أدخلي الشمس إلى الحجرة
افعلي ذلك من صباح لصباح
ليس من أجلي أنا
بل من أجل الوردة التي زرعناها معا
في لوحة الجدار.
أجلس في الشرفة
أشرب الشاي
اقرأ قصائد "ماريتشي كو" في نزوى
أقرأ الرسائل التي وصلتني من سعد سرحان
أرتب الكتب في الخزانة
أمسح الطاولة من غبار بالكاد سقط
أغمر هواء الغرفة بعطر فرنسي
و أصفف شعري أمام المرآة
أعرف أنك حين تطرقين الباب
سترتعش وردة في أصيص النافذة.
أفتح ألبوم الصور
أفتح مسودة قصائدي
أفتح كتاب الذكريات
أفتح الباب
أفتح شبابيك الغرفة
أفتح قلبي و أنتظر
و أنت كالعادة لا تصلين.
أوكالبتوس:
عارية
تقف أشجار الأوكالبتوس
احتجاجا على الخريف.
ويستريا:
وأنت تمرين ببستاني
لا تنسي أن تقطفي
زهرة ويستريا.
فاوانيا:
رجاء
لا تمسكي بوردة الفاوانيا
قد تجرح نعومتها يديك.
نسرين:
كنت أهمس لأزهار النسرين
بكلمات حساسة
لذلك كانت ثيابها ترتعش.
ربيع:
دائما
أحلم بالربيع في منامي
و أستيقظ و في لساني طعم الخريف.
كوراي:
لأنه رمادي و غير مثير
يزين طائر الكوراي
عشه بشظايا الخيزران.
فزاعة:
أصيبت بضربة شمس
و لم تطرد العصافير
تلك الفزاعة الخائفة.
على مقربة من المدشر القديم
أمسك بمحراث الخشب، يصطف البجع على حدود الضيعة و تتناوش الديكة قرب أشجار الصبار، أضع يدي في الكيس و أطوح بهما في الهواء لأزرع حبات القمح في الأخاديد الصغيرة و حين ينال مني التعب أخرج منديلك الأزرق، أجفف جبيني من العرق و الذكريات، أغمض عيني و ألتفت إلى الماضي، إلى البئر والبيدر، إلى البستان و مشاع القرية، أشجار الزيتون كانت ترشح بالمطر، كنت تجلسين على الأكمة، تلاحقينني بنظراتك الباردة و أنا أمسك بمحراث الخشب على مقربة من المدشر القديم، ترتبين سلة الشاي و تقرئين حياتي مبعثرة خلف سطور من "ذئب البوادي "
أحيانا أفكر في كتابة قصيدة طويلة في مديح العتاهة، و أحيانا أسترد وعيي فأكتب عن زنابق الوادي. أحيانا أحس أنني أشبه حكيما في جلسة يوغا، و في أحايين كثيرة أحس أنني شبيه تماما بفردة حذاء خارج الطريق، لم يعد يهمني أن أكون شرسا أو وديعا، لم يعد يهمني أن أكون راعي فراشات أو سائسا للغربان، أنا عازم على الإطاحة بهاته الجبال في ليلة حالكة، الجبال التي تحاصر الطوفان في عيوني.
إنني أبحر في اتجاه صعب، و بدون بوصلة، و كلما وصلت جزيرة مجهولة، أو صحراء لم يصلها أحد من قبل جلست القرفصاء على كثبانها أستعيد هول المفازات و أنظر إلى سرب العقبان بعينين أتعبهما الصبر.
سأعبر من فج وعر باحثا عن مرج الوردة السوداء، تاركا خلفي كل هذا الضوء، أريد الظلام، أريد أن أنزل إلى قعره العميق، فقط لأرى ظلي ممددا هناك كأي خطأ مر، أريد أيضا أن أقتلع الوردة السوداء من البستان العاتي، سأمضغها بأضراس مستعارة، ربما تذيب مرارتها مرارتي.
و في الليلة الحالكة سأحتفل بعيد وفاتك أيها اليأس، أيها الذئب الأسود الرابض على قلبي منذ سنين، لن أسمح لك أن تعوي بعد الليلة في أرجائي، عيوني ستغدو أكثر حكمة و طيشا في الآن ذاته، كلماتي ستتأرجح بين الوداعة والشراسة، و في دمي سيسقط ضحايا حرب مريبة بين القسوة و الحنان، سأظل هكذا مزدوجا و غريب الأطوار كمصباح تحت الشمس، في الصباح ألعن الشياطين و البلداء، و في الليل أحمل كيسا كبيرا و أوزع الرأفات على المساكين.
أخيرا وصل الشتاء، الريح تعزف موزارت، و حبات البرد ترقص بخفة على السطح، أشجار السرو ذات السيقان الطويلة تنفض عنها الثلج، تشبك أغصانها بأغصان الصفصاف و تتهادى كراقصات الباليه برشاقة بالغة، سماء ديسمبر آهلة بالسحب الدكناء، لذلك سأسحب القمر إلى الغرفة و أضعه فوق الدولاب كي يضيء حفلتي فقط. الليلة سأنتشي بسقوط المطر كالماتادور في حلبة الكوريدا. كعادتي لملمت الحطب البارد من غابة الأرز و بالكاد أشعلت النار في المدفأة، علقت المصابيح على شجرة العيد، علقت أيضا أجراس النحاس و الشرائط الملونة. رغم وحدتي فتحت الكظيمة و أفرغت الحليب الساخن في أكثر من كأس، نضدت صحون الحلوى، وضعت الأزهار في الوسط، وضعت الشموع الحمراء في أطراف الطاولة، ارتديت معطفي و اتكأت على الكرسي الرجراج أرتب أحلامي، أراقب بندول الساعة و أنتظر.. لكن رجل الثلج لم يمر، لم أسمع صرير عربته كالعادة، أوه، رجل الثلج، لم يطرق النافذة، ولم يهبني نصيبي من الهدايا.
سعد سرحان
ربما أخطأ جمال بدومة حين سماك جنرالا، أنت حارس طيب لبساتين الكرز. تعال يا صديقي نلقن الأشواك درسا في الرقة، نعود الصحراء على الرهافة و نشرح للمستنقعات كيف يكون الجمال. صعب يا عزيزي أن تزهر وردة في قمامة، لو نثرت قصائدك الأنيقة في سماء طوكيو لاستيقظ باشو من قبره و ربت على كتفيك بجذل: مرحى سرحان.. مرحى حفيدي.
مصطفى ملح
المرأة " صاد " و " أمطار يوليوز " و ليالي القلعة وآلاف اللفائف و الثرثرات في مقهى لاكورنيش. تبا لأربعين قصيدة كتبت من أجل امرأة واحدة . تبا لامرأة تطرق بابك.. تداهمك بالعطر ، تملأ الغرفة بالويستريا و الياسمين ، ثم تمضي بلا وداع ، تتركك وحيدا و " تعلق عنوانها في الريح ".
خالد أبو رقية
تركت المسرح و السيميائيات، تركت الحساسين تغرد وحدها على شجرة الميموزا، تركت وردتك اليتيمة تذبل على مكتبي و انصرفت.لا أعرف كيف أسقطت من يدك باقة المارغريت و حملت مقصا صدئا و اتجهت إلى الجنوب.. لطالما واعدتك بالمجيء ، لكنني مثل السنونو لا يني يعقد الحب مع الشرفات حتى إذا ما حل الخريف لملم ريشاته و رحل .
أبوبكر متاقي
كلما جلست في غرفتك الخالية من النور أحسست أن الحياة تشتد من حولك تماما كالعاصفة و ترجرج قاربك الغارق في الماء. أرجوك يا صديقي لا تغلق النوافذ هذه المرة و تنزوي في حجرتك الموحشة تتحسس دموعا تنحدر من الماضي و تنتظر ما يسقط على أكتافك من بقايا السقف. أعرف أن جسدك عنيد لذلك كن خرافيا أكثر، سر بقوة ضاربا برجليك في الأرض كي تصدم ما تبقى في حياتك من شقاء.
إبراهيم الكراوي
الغرفة الباردة، و صورة سركون بولص على الجدار، حفيد آشور المتسكع في أمريكا، لم يكن يعرن أنك تفتح الحياة قرب الأكروبول كل مساء، تنزل إليها خفية، تغلق دفتيها و تنام هناك.العزيز إبراهيم، رجاء إذا التقيت بالماغوط تائها فالرياض،ة فدله على بيتي.صدقني يوما ما ستصل مرام من باريس لتلقاك في مقهى الرياض، مرام التي حشرت الأخلاق في الدرج و عصبت عيون ملائكتها من أجل قبلة، مرام التي خدع رجل القش عصافيرها.
زينب الشزوقي
قطيفتك الصفراء و قميصك الأشقر و عيناك الذاهلتان دائما و شعرك المائل قليلا إلى اليسار، كنت في الخلف، في الخلف تماما و أنت تداعبين المايكروفون برقتك المعتادة، كلما سمعت اسمك تذكرت إيمان مرسال و لينا و هدى و الأخريات.. وصيفات الجمال يقفن على الرصيف برشاقة يحملن سلال القصب و يرمين السابلة بالرياحين.
سوغانو تاكيو
أنا نؤوم و ذو همة خاملة، لكني سألتقيك يوما ما في قطار ما باليابان، سأجلس هادئا في المقصورة و أرهف حواسي لألمح طائر البكاسين يرتفع خارجا من قصيدة شيكو ولأسمع الأجراس تهز معبد أساكوسا وراء ضباب زهور الكرز.
عثمان كضوار
كم تدحرجت من الجبل إلى تيار الماء بقلب فارغ من الإيمان، جرجرني ذلك النهر طويلا إلا أنك كالعادة كنت في انتظاري على الضفاف، أمسكت بيدي و سحبتني إليك قبل أن يسحبني المنحدر. لازالت صورتك معلقة على الجدار في غرفة السطح بحي الصفاء، وكلما فتحت باب الغرفة و فتحت معه باب الذكريات صارت ابتسامتك أكثر شساعة. كيف نموت هادئا وسط التماسيح و المياه الآسنة يا زهر النيلوفر ؟