(مختارات من القصة النسائية السعودية)

أميرة علي الزهراني
(السعودية)

كاتبة القصة القصيرة السعودية يمكن الإعلان عنها بالتقديم، الذي دشنت له، مبكرا، القاصة السعودية فوزية البكر في السبعينيات من قصتها حياة من ورق عندما قالت: أنا المرأة التي لا تملك من اتساع عالمها غير أن تقف في الخفاء علي أصابع قدميها لتنظر إلي العالم من خلال فتحات النافذة الصغيرة . القصة القصيرة عند الكاتبة السعودية، كانت منذ بداياتها ومجموعة نجاة خياط الرائدة 1966 (مخاض الصمت) هي النافذة الصغيرة الأشد صدقا والأكثر وفاء في وصف صورة ذلك العالم، مقارنة بالروايات السعودية النسائية المبكرة التي منذ زمن البدايات، حيث رواية (بريق عينيك) 1963 لسميرة بنت الجزيرة العربية (سميرة خاشقجي) و ما كتبته المؤلفة من أعمال أخري، وكذلك رواية هند باغفار 1972 (البراءة المفقودة) وما تلت تلك المرحلة المبكرة من روايات، لا شيء فيها يدل علي أنها روايات سعودية، سوي أسماء كاتباتها، فلم تكن بداياتها وفيٌة في منحنا صورة حقيقية عن المرأة السعودية، وبيئتها المحلية، كما هي القصة القصيرة التي منذ أن نشأت وحتي الآن وهي الشكل الفني الأشد صدقا لمعرفة ماذا تريد الكاتبة السعودية أن تقول، والأكثر استيعابا للصحف والمجلات بوصفهما الوسيلة المتاحة، والقناة الباهظة لتلقف الإبداعات الفنية الشابة آنذاك، حيث كانت الصحافة في ذلك الوقت في أوج ازدهارها. عزز من أهمية هذا الشكل الأدبي “القصير” ، كونه الأنسب في رصد متغيرات شديدة السرعة كما هو حال مجتمع المملكة، فضلا عن عنصر بارز يبدو من الأهمية بمكان، رافق فترة كتابة المرأة، وهو إقرار نظام تعليم البنات في المملكة رسميا سنة 1960.

البدايات كانت للكاتبة السعودية نجاة خياط وأول مجموعة قصصية (مخاض الصمت) في الستينيات 1966. تلا ذلك زخم هائل من كاتبات القصة القصيرة: ففي السبعينيات كانت هند صالح باغفار، وحصة التويجري، وفوزية البكر، وعهود الشبل... ثم جاءت الثمانينات لتتعاظم أسماء كاتبات القصة القصيرة، لا تكتفي معظمهنٌ، بالنشر في الصحف، بل صدرت لهنٌ مجموعات قصصية مطبوعة، مثل، خيرية السقاف ومجموعتها (أن تبحر نحو الأبعاد) ، ولطيفة السالم ومجموعتها (الزحف الأبيض) وفاطمة داود حناوي ومجموعتيها (أعماق بلا بحار) و (الرجل الظل)، وبهية بو سبيت ومجموعتها (وتشاء الأقدار)، ونجوي هاشم ومجموعتها (السفر في ليل الأحزان)، ورقية الشبيب ومجموعتيها (حلم) و (الحزن الرمادي). وشريفة الشملان ومجموعتها (منتهي الهدوء). ومريم الغامدي ومجموعتها (أحبك ولكن)... وأسماء أخري كثيرة توالت من غير المتاح ذكرها جميعا، كان لبعضها مجموعة أو أكثر، وأخري اكتفت بالنشر المتفرق في الصحف.

في التسعينيات وحتي الوقت الحالي، تضخم الإنتاج القصصي القصير، وصدرت أعداد كبيرة من المجموعات القصصية التي تكتبها امرأة، ونحن إذ نربط التسعينيات بالوقت الحاضر، فلأن مجمل من كتبن آنذاك مازلن وفيٌات للكتابة حتي الآن. أميمة الخميس، وبدرية البشر، وفوزية الجار الله، وهيام المفلح، وفاطمة فيصل العتيبي، وليلي الأحيدب، وأمل الفاران، وهناء حجازي، وأمل زاهد، وصالحة السروجي، وندي الطاسان، وفوزية العيوني، وفردوس أبو القاسم... وأخريات كتبن حديثا مثل مني المديهش، وشمس علي، وتركية العمري، وفوزية الشدادي الحربي، ومني البليهد، وخديجة الحربي، وتركية العمري، وهيفاء الفريح ... وأخريات عجرفن منذ بدأن بكتابة القصة القصيرة جدا مثل سهام العبودي، ومنيرة الإزيمع، وزهراء موسي ... ومهما انحرفت الكاتبات عن هذا الشكل الأدبي إلي آخر، مثل الرواية التي باتت توصف الآن بأنها ديوان السعوديين الجديد علي نحو ما حدث عند أميمة الخميس وروايتها (البحريات) 2006، وبدرية البشر وروايتها (هند والعسكر)2006. أو مثل القصة القصيرة جدا، علي نحو ما اتجهت إليه شريفة الشملان، وهيام المفلح مؤخرا. إلا أن القصة القصيرة ظلت بالنسبة لهنٌ طفلهنٌ الرضيع يهدهدن له بكل ما يغمرهنٌ من آلام، ومتاعب، وهموم، وبوح ...

كاتبة القصة القصيرة السعودية منذ البداية وحتي الآن ظلت أمينة في كتابتها لشكل القصة القصيرة الذي يتكئ في جوهره علي وحدة الشعور والانطباع وإن بالغت في سردها علي لغة التفتيت والتشظي اللتين تفرضهما طبيعة البوح والانثيالات الشاعرية، وهما الصيغة الأبرز في شكل الأداء، حتي غدت القصة القصيرة في كثير من نماذجها أشبه بمحاكمة تخضع للغة الانفعالية، وأخري أشبه بالسيرة الذاتية التي تغرف فيها الكاتبة من اللاشعور. أما المضامين التي دارت حولها القصص، فإن مرورا عابرا لعناوين المجموعات يفي بالغرض: مخاض الصمت ، الحزن الرمادي ، مجلس الرجال الكبير ، والضلع حين استوي ، صفحات من ذاكرة منسية ، عفوا .. مازلت أحلم ، أحبك ولكن ، السفر في ليل الأحزان ...
إن قضية وضعية المرأة في المجتمع لا تكون ملحٌة إلا عندما يصبح الركود والتخلف من سمات الواقع الاجتماعي والفكري. فحين يظهر التعتيم والركود علي عقل الأمة وثقافتها، فإن مظهر هذا التخلف لا يظهر في شيء قدر ظهوره علي المرأة روحا وعقلا وجسدا ( ). وفي المجتمعات المتخلفة، تجسد المرأة ببراعة أفصح الأمثلة علي وضعية القهر بكل أوجهها، بوصفها أكثر العناصر الاجتماعية تعرضا للانتقاص في قيمتها علي جميع الأصعدة، سواء في المكانة، أو الجسد، أو الفكر، أو الإنتاج لهذا، فإن الكاتبة السعودية، مثل غيرها من كاتبات المجتمعات الأخري، شجغلت في قصصها بقضية استلاب حقها المشروع في حرية الاختيار، والعيش بأمان، واتخاذ القرار بشأن حياتها الخاصة، وإدانة ممارسة العنف الذي يتسبب في نفيها إلي حياة تؤول إلي ضياع أمنها، ومحاكمة ضآلة الهامش الممنوح لها من المجتمع.

وإذا أمكن اعتبار الذات هو رواية المرأة، و العالم رواية الرجل، فإن تركيز الكاتبات السعوديات في قصصهن علي الجسد الذي يجمنح، بواسطة، عقد نكاح، لرجل لم يكن اختيارها، هو الموضوعة الأكثر حضورا منذ قصة ستشرق الشمس يوما لنجاة خياط في أول مجموعة قصصية سعودية (مخاض الصمت) 1966 وحتي قصة ليتني ما تلوثت بكّ من مجموعة فوزية الحربي التي تحمل العنوان نفسه 2007. وذلك الحضور يبدو بدهيٌا في القصص التي تكتبها امرأة. فالجسد أكثر شيء في الوجود استغراقا في فرديته، واقتصارا علي الحميم والخاص . كما غدا البيت الفضاء الأكثر إلحاحا في قصص الكاتبات السعوديات، يعكس بأمانة حالة الإقصاء، التي تتعرض لها الفتاة، والكاشف لغياب فاعليتها في المجتمع. وتجيء صورته موحشا خاويا بلا حياة، تماما مثل مشاعر البطلة التي أظهرت الكاتبة ما تعانيه من تهميش، وخواء، وما يعتريها من صدأ. أفضي بها إلي تفريغ هذا الاحتقان عن طريق التقنية الأليق بنصوص البوح، والأقرب إلي طبيعة الكتابة عند المرأة، وهي طريقة استرجاع الماضي Flashback .

الكاتبة السعودية كتبت مجمل قصصها تحت مظلة الكتابة النسوية Feminist Writing التي تعني الكتابة من وجهة نظر نسوية، ترصد فيها تجربتها الخاصة وكانت مخلصة في تصوير تلك التجربة من خلال قصصها، التي صورت فيها زخم المورث الهائل من العادات والتقاليد الذي أبقاها ضمن منظومة القهر، والتهميش، والإقصاء، في مجتمع سلطوي، بائت، يعيش الحاضر بعقل أجعد للماضي، علي حد تعبير غرامشي.

ربما يجانبنا الصواب، إذا قلنا بأن تلك التجربة خاصة بالكاتبة السعودية، وقد لا نكون منصفين إذا جعلناها عنوانا للكتابة النسائية العربية، فعلي حد وصف فرجينيا وولف Virgenia Woolf بأن قيام المجتمعات كافة علي النظام البطرياركي/ الأبوي يحتكر فيه الرجال أشكال السلطة، هو الذي أفرز نصوصا تحمل سمة الغضب علي أشكال القمع التي تمارس ضد المرأة. والغضب هو الصيغة المميزة في كتابات المرأة علي امتداد قرون فالوحدة هي الوحدة، والغضب هو الغضب سواء أحست بهما راهبة في القرن الثالث عشر أو أستاذة من القرن العشرين . بدأتها القاصة السعودية نجاة خياط في الستينيات بقصة لو كنت ولدا من أول مجموعة سعودية، قالت فيها: أول شعور بالكراهية انغرس في نفسي هو نحو أنوثتي ولخصتها القاصة السعودية هيام المفلح، حديثا، في قصتها التي تختزل سيرة المرأة ألف ياء امرأة : وقالت فيها: حين ولدتني أمي أخبرتها الوجوه المقطبة حولها أنها ولدت شيئا غير مرغوب فيه. حين وعيت ما حولي اكتشفت أنني مجرد شيء مختلف .

******

خّلع

أمل زاهد

amal_zahed_bookأدار الطبيب وجهه قائلا لها : لا بد مما ليس منه بد ، سأضطر لخلع الضرس!!
رمقته بعينين مذعورتين بينما ترقرقت دموعها في مآقيها وتمتمت بصوت خفيض لم يسمعه أحد إلا ذاتها المنهكة حد الاعياء : لا بد مما ليس منه بد!!
ألا يكفيها الخلع الآخر الذي يحفر في أعماقها .. ألا تكفيها محاولة اقتلاعه من جذور نفسها والتي تخالها مستمرة منذ الأزل وإن كانت بعد لا تزال عصية علي التحقيق .. حتي تقذف في وجهها الدنيا بضرورة خلع ضرسها والذي حسبته قويا صلدا واقفا في وجه عوامل التعرية وأنواء الزمن !!
فتحت فاها إلي أقصاه بينما راح الطبيب المكمٌم يعيث ذهابا وإيابا بأدواته في أسنانها، ثم خدرها في كل نواحي خدها الأيسر. شعرت بوجهها يتورم ويتورم وكأنها تنوء بثقل خدها .. ثم ما لبثت أن شعرت بخدر ثقيل يشل نصفها الأيسر كله ..
تساءلت في نفسها ساخرة متهكمة : وهل يكون إلا في الجانب الأيسر.. ذلك الخافق التعب، الذي تشعر بتورمه هو الآخر وكأنه تمدد في جوانب جسدها فلم تعد تشعر بعضو آخر من أعضائها غيره، فباتت هي ذاتها قلبٌ متورم ينوء بأوجاعه .. مثقلٌ بأحماله .. منهك بكل ذلك الكم من العروق الدقيقة التي تضخ دما ساخنا.. دما متوجعا يدفق في عروقها آنات العذاب ويصهل داخلها بآهات الألم .. كم هو مثير للدهشة والاستغراب أن أغشية الفم هي الأخري رقيقة ناعمة كما أغشية قلبها الذي تري الظروف والبراعم الصغيرة تعبث بهم.. كما يعبث الطبيب بأغشية فمها الرقيقة وهو يحقنها بالمخدر..
يسدد لها الطبيب نظرة توحي لها أن قد أزفت الآزفة !!
يحاول الابتسام مهدئا روعها ، رباه لم تشعربالألم كما تشعر به اليوم!! وهي القوية الصلبة التي لا يهتز لها رمش ولايتحرك لها ساكن حتي وهي في أقصي لحظات ألمها !! لماذا تشعر أنها فقدت قدرتها علي تحمل الألم .. هل الخلع مؤلم لهذه الدرجة؟! ولماذا تشعر أن اقتلاع جزء من أعضائها يثير شجنها لهذه الدرجة ، ويحرك أوجاعها التي لا تفتأ تخدرها كلما شعرت بنبضها وبرغبتها في الانبثاق والتوالد من أعمق ثنايا روحها ؟! ولماذا تشعر فجأة أن هذا الضرس بالذات عزيز عليها ، وأنها ترفض خلعه مهما كان به من آلام ومهما نخرته من أوجاع.. مهما نز ونبض مانعا الكري عن عينيها وسارقا النوم من جفنيها .. تشعربدموعها تتجمع في محجريها ، تضغط بأطراف يدها اليسري علي طرف الكرسي الأسود الجلدي الطويل والذي أماله الطبيب كي يتمكن من تنفيذ مهمته ..
ندت عنها صرخة حاولت كتمانها استدرت عطف الطبيب فتوقف عن الحفر بينما امتدت يد الممرضة تسند كفها الطليقة الأخري ..
سمعت صوت الطبيب وهو يحاول الكلام من خلف كمامته ، فهمت بصعوبة كلماته التي قالها لها : الضرس متشبث يضرب بجذوره في أعماق اللثة ، يبدو ظاهر الضرس ضعيفا هشا ولكن الجذر ثابت وقوي .. ماذا فعلت حتي كسرت قشرته الظاهرية؟! سنحتاج إلي المزيد من المخدر!!
رباه .. المزيد من المخدر والمزيد من الورم !! غثيان شديد يمتلكها يقلب معدتها .. وصداع يكاد يفجر رأسها ، وتعب أشد ينهش كل قطعة منها .. تشعر بروحها وهي تئن بين جنبيها ..
ينتظر الطبيب قليلا ليعاود مهمته الصعبة بعد أن تأكد من شدة مفعول المخدر .
تشعرأنها باتت وجها متورما متضخما .. وقلبا متورما وإن كان أكثرتورما وأشد تضخما!! وروحا معذبة تنوء بآلامها ، تريد فقط أن تفر من كل هذا .. أن تنسي الخلع والاقتلاع ، أن تحتفظ بذلك الضرس حتي لو كان مريضا .. يعز عليها أن تفقد جزءا منها .. يعز عليها أن تفقده .. يعز عليها أن تهرب منه وقد بات جزءا منها وقطعة من كيانها ، يعز عليها أن تسعي بنفسها إلي اقتلاعه !!
يد الطبيب لا تزال تنخر في ضرسها المتشبث بمكانه .. الرافض التزحزح عن موقعه .. روحها تنعصر وتتلوي ، دموع غزيرة تسيل علي وجنتيها ، دموعها تغرقها وكأنها دفق مطر غزير يسقي ملامحها ويروي قسماتها .. لا بد مما ليس منه بد .. لا بد أن يقتلع الضرس!!
رباه .. كيف لها أن تطيق أن يضحي مكانه فراغا في جوفها .. مجرد فراغ ؟! كيف لها أن تطيق ابتعاده عنها ؟! كيف لها أن تعيش دون أن يكون جزءا من حياتها ؟!! ما أصعب اقتلاعه من حياتها ..
يد الطبيب لا تزال تعمل داخل فيها ، لم يعد هناك ألم بل شلل كامل يمتد إلي جميع خلايا وجهها ..الألم لم يعد في الضرس بل تركز هناك في مكمنه الحقيقي داخل ثنايا روحها .. الألم هناك يمد يديه العابثتين ليعيث تخريبا وتدميرا في نفسها !! لا بد أن تقتلعه .. لا بد أن تتركه .. لا بد مما ليس منه بد !! لا بد من عملية الخلع مهما كانت مؤلمة !!
( دقائق وينتهي كل شيء ) الطبيب يؤكد لها ذلك !!
( ليتها دقائق أيها الطبيب .. ليتها تكون دقائق ثم احصل بعدها علي الراحة المأمولة ) لسان حالها يجيبه ولكنها لم تنبس ببنت شفة..
بحركة رشيقة انتهي بها الطبيب من محاولاته الدؤوبة يرفع لها الطبيب ضرسها بآلته الطويلة قائلا : ( انتهينا يا ست هذه هو ضرسك العنيد )
تشعر بطعم الدم في فمها .. تغص بطعم الدم ، رائحة الدم النفاذة تملأ خياشيمها ، تحتل كل جزيئة من رأسها .
تتناول الكأس لتغسل فمها من آثار الدم ، كم تكره هذا الطعم البائس !! يريها الطبيب ضرسها وجذره الطويل المكسو بدمها .. تنخرط في نوبة بكاء حادة .. عويل يخرج من هناك.. من مكامن الوجع ، عويل يقطع نياط القلب !!
(اليوم ستنامين قريرة العين لن تشعرين بالألم بعد الآن ) يؤكد الطبيب !!
تنظر له بعينين ذابلتين تستقر في قاعيهما نظرة ساخرة
تغمغم بصوت لا يسمعه غيرها : ها قد ابتدأ مشوار العذاب !!

*****

قصص قصيرة جدا

زهراء موسي

نسيان

عندما استيقظت هذا الصباح, وجدت البيت مملوءا بطيور كثيرة, تطير من غرفة إلي غرفة, ومن ركن إلي ركن, بلا توقف, وبدون أن تصطدم بأشيائه وبجدرانه القريبة, وكأنها لدهر كانت هنا..
لا أدري كيف نمت ليلة البارحة, و نسيت قميصي مفتوحا

انتظار

لا تستطيع بقاء الليل كله بجانب النافذة, واقفة تنتظر عودته المتأخرة.
فتذهب وتجيء خلال الغرفة, وعند قدومه, تدخل فراشها بخفٌة, وتتظاهر بالنوم..

وحدة

في نهاية الأسبوع....أحمل معي خبزا سبق تجفيفه وأذهب للبحر ...
.لأنثر الخبز للنوارس..وأري كيف هو البحر
لكنني. أصبحت وحيدة أجلس كشاهدة قبر وأنثر الخبز كرفاة
فلم تعد النوارس تأتي إلي هنا...لقد أصبحت تذهب لمكب النفايات فالغذاء وفير هناك.

خطأ في الإرسال

في كل عام منذ عدة سنوات....تأتيني رسالة من رقم لا أعرفه
:­كل عام وأنت حبيبتي...
أمسحها وأنا أرثي لحال هذا الذي أضاع رقم حبيبته ......
لكن بدأت أعتقد أنني أصبحت أنتظرها...

*****

البئر

بدرية البشر


بدرية البشرعندما ماتت رفعه أنطفأت الرغبات البشرية في صدور أهل قرية الحزوم ،وبالذات في صدور نسائها، خبت نار الثأر المتقدة من رفعه ،لأن المرء حين يموت ،تشف ذكراه ،ويذوب حضوره البشري ، ولا يهددنا بكونه الأجمل ،أو الأفضل، أو الاقوي ، بل يصبح كائنا ضعيفا ، مثيرا للشفقة ، لأنه يموت مثل كل البشر ،وتصبح ذكراه خفيفة، شفافة ، فقد كف عن مزاحمتنا علي هذه الأرض .
نساء القرية من رفيقات رفعه ، لم يعدن يتذكرن غير لمعة عينيها المتوهجة بالحياة، وشقاوتها وحبها للمزاح، لم تعد نساء القرية يشتعلن غضبا وغيرة ، وهن يرين فخذي رفعه ، تنكشفان أمام رجالهن، وصدرها الناهض بالفتنة، يخاتل أعينهم ،حين تداهمها نوبات صرعها المسكونة بالجن، ولم يعد الرجال يفكرون بجسد رفعه، كذكري قابله للامتلاك، لأنها دخلت في خفة الغيب، وصارت ذكراها بعد أربعين يوما من موتها تبعث انقباضا في الروح غير مفسر وتحيل النسائم البارده إلي لفح من سموم .
جاءت رفعه إلي قرية ( الحزوم ) في الرابعة عشر من عمرها ،لم تع بعد حيل النساء الماكره، والغمز المستتر في حكاياتهن الماجنة، ولم تع بعد فائدة الوصايا الذهبية التي تفتلها النساء في روشن ( أم عامر) ،والتي تثير مرحا فياضا بين النساء ،مما يزيد من خجل رفعه ودهشتها الساذجة أمام ضحكهن .
راقبت ( أم عبدالله) والدة زوجها بحنان خجل رفعه، وهي تتمدد كل ليله عند طرف سجادتها ،حين تصلي صلاة العشاء الأخيرة، وتدخل في نعاس خفيف ،تهش (أم عبدالله) نوم رفعه، طاردة إياها برفق نحوغرفة زوجها ،مذكرة إياها أن الزوجات الجديدات لا يليق بهن أن يتركن فراش الزوج فارغا دون عذر بيٌن . إلا أن رفعه لم تكن تطلب أكثر من ذلك السكون عند سجادة ( أم عبدالله ) الذي يبعث في نفسها بعضا من الطمأنينة ،مثلما تجده عند والدتها في الليالي القديمة في قريتها، كانت رفعه تعاني من هجمات كابوس أسود يأتيها كل ليلة عند أول غفوتها ،فتري نفسها في وادي (الرمحيه) تلقط عشبة (الحماض )، تضعها في وسط ثوبها ،وغنماتها السبع يتفرقن خلف شجر الطلح والسرو ويقتلعن وردة (النفل) و(عشب الحنباز) (والبقرا) ، وأصوات رفيقاتها تتناهي إلي سمعها بالقرب منها، والجبل الصخري الطويل للعارض النجدي يرجع صدي ضحكاتهن ، كان الوادي الصخري قد جف ماؤه وتلون بطنه بعشب الربيع البري بين البنفسجي والأصفر والأبيض . رفعه تسمع صوت خفيف لحصي يتدحرج ثم ما يلبث الصوت أن يعلو يبدو صوتا لثوب عملاق طويل يكنس الحصي، وفي اللحظة التي اقترب الصوت عاليا من خلفها، وقبل أن تلتفت هبطت يد عملاقه، وقبضت علي خاصرتها هصرتها وهي ترفعها للأعلي ورفعه تختنق ، تقوم رفعه من حلمها وحلقها قد آلمه صراخ مكتوم لم يسمعه أحد، تقوم فزعة خجلي من زوجها الجديد وخائفة.
عندما جاء عبدالله لخطبتها لم يخبرها أحد لكنها سمعت أباها يتحدث بما يشبه الاعتذار لخالها أبوسلمان:­
يا أبوسلمان ولدك سلمان في طريق علم طويل ،وفي غربه والبنت جاءها نصيبها والعرس قسمه ونصيب.!
عندما عادت رفعه من درب بئر الماء وجدت أن خرافها قد جزت رقابها، وبقي دمها سائحا علي الأرض ،سحبتها يد ( مرزوقه ) جاريتهم السوداء، أدخلتها الحمام ،ودلكت شعرها بالحناء، وغسلت جلدها بالسدر، ومشطت شعرها بالزباد والورد، ثم لفتها بعباءة أمها الطويلة ، وأدخلتها غرفة والدتها ، جلست (مرزوقه) السوداء تخبرها عن رحلة عمرها الطويلة ،وحب الرجال للعبث مع النساء الصغيرات الجاهلات ، ومن أين يبدأون ، بينما علي الجاهلات الصغيرات أن يلزمن الصمت ولا يبدين أي مقاومة!. لم تفهم رفعه لماذا تحدثها مرزوقه عن مآسيها القديمة، وماذا عنٌ لها اليوم ،لتفتح هذه القصص ، لم تدر رفعه أن هذه القصص ستصير حكمة عهدها الجديد ، عهد غربتها ،في قرية (الحزوم) .
كان علي رفعة أن تنسي (الرمحيه) و(سلمان) ورفيقاتها في الوادي، لتشفي من وجدها القديم ، وليسهل عليها اعتياد أحاديث روشن (أم عامر) زوجة أمير (الحزوم)، ونكات أم فهاد السالم ، فحديث النساء يداوي كل شيء، يغذي الأفواه بالخبز، ويغذي الروح بالبهجة،ويدفئها بتقاسم الأسرار. كبرت رفعه في العامين التاليين بسرعة، صار لها جسد أكبر، وروح أزهي من ذي قبل ، صار لجسدها مطالب جديدة ،تعلمت منها أنها أمرأة، ولها نظرة أخري في الحياة، رتبت رفعه كل شيء من جديد علي هوي روحها الجديدة ،وضغطت روحها القديمة لتهبط في بئر عميقة بلا قرار، ردمت حسراتها معها،وجلست روحها الجديدة فوق فوهة البئر ،رتبت بيتها ،ورفيقاتها، وقريتها ، أسعد (عبدالله) ووالدته أن يريا رفعه تتغير ، وفسرا ذلك بأنها اعتادت حياتها الجديدة، وكسبت أم عبدالله بذلك أبنة لها .
صارت رفعه فتنة الدرب إذا مشت ورفيقاتها نحو مزارع العامرية الواسعة ،يسبحن في بركتها ، و يتسلقن شجرة (النبق)، ينفضن أغصانها ، ويأكلن من ثمارها الحامضة بجوار الساقية الشمالية، وحين يجلبن الماء من البئر ، تتعلق عيون الشباب المارين ، برفعه وحدها دون النساء ، وبقدر ماكانت رفعه تجسعد رفيقاتها، بصحبتها إلا أنها توقظ في صدورهن غصة وغيرة دامية، يحرقهن الأقتراب منها بقدر ما يسعدهن، ورفعة قادمة من تاريخ غامض، يجهلن سقطاتها، ومكامن ضعفها، أو معلومة صغيرة تنقص منها ويعايرنها بها، ويشفين بها غيرتهن، فهي ليست مثل نساء القرية تجمعهن قرابة الدم والنسب، وتعرف كل واحده منهن نقيصة الأخري، ومواطن الضعف في طفولتها أو في صباها فيتعايرن بها وينهشن بعضهن حين تحين فرصه لذلك ، لذا ظلت رفعه بعيدة عن الهمز واللمز، فيما كانت كل واحدة منهن مرعي لنميمة طارئة أو سخرية دامية تنتهي بقول صاحبتها أن هذا هو واقع الرفقه .
في اليوم الخامس عشر من شوال حين اكتمل القمر الأول بعد رمضان كان (نشمي) قد أعلن لأهل الحزوم أنه سيزوج أبنه (فالح) من ابنة عمه (جهير) وفي مساء ذلك اليوم اعتبر كل فرد في قرية الحزوم أنه ملزم بواجب العون والمشاركة في الاحتفال . الكل ذهب ولم يبق. أحد في بيته . في تلك الليلة، رقصت رفعه كما لم ترقص امرأة في (الحزوم) نقضت ظفائرها الرطبة برائحة الحناء والطيب ، أسدلت غيمة من الشعر البني علي وجهها ،نفضت عن روحها تراب الوقت في دومة غناء السامري المهجور في روحها ، جر الغناء غصون قلبها جرا ،في غناء جماعي لفرقة الدق الدوسرية وهي تغني : (ياجر قلبي جرا لدنا لغصوني .. وغصوني سدر جرها السيل جرا) .
تأخرت رفعه ذلك المساء عن البيت ، كان الليل حرا بها ،فرشت (أم عبدالله ) فراشها في الركن القصي من غرفة التنور ونامت . عندما دخلت رفعه البيت لم تفطن لمن كان يرصدها ، هبت نسائم بارده أطفأت حمي جسد رفعه الفائر ببهجة الرقص، وكشفت عن نحر رفعه اللامع من العرق الساخن ، فاحت رائحة الورد والطيب، من شعر رفعه الرطب، نثرته خلف ظهرها وفتحت صدرها لتتبرد، مشت نحو شجرة السدرة، لتشرب من القربة، المعلقة في غصنها، كان هو واقفا عند القربة أصابه العطش فجاء ليشرب أيضا، رآها ووقع في عشقها ،لم يقاوم سحرها ، فسكن في جسدها وترك رحلته الشمالية.
قالت أم عامر : دخل في جسدها فغشي عليها عند السدره في آخر الليل . كان (بسم الله علينا وعليكم) مسلم من الجن قادم من اليمن ذاهب إلي الشام ، قالت أم عامر : إن الجني يدخل المسلم حين يكون في أقصي حالاته إن كان فرحا وطربا أو هلعا و حزينا ، لذا يلزم المسلم أن يذكر اسم الله في كل حالاته ولا تأخذكم أرواحكم لمنتهاها فتشف وتضعف .
لم تعد رفعه كما كانت من قبل . و بعد أن سكن جسدها الجني، قالوا إن رفعة تغيرت كثيرا، صارت إمرأة نزقة، وصفراء اللون . قالت (أم عبدالله) إنها أعراض (الوحام )، الذي يداهم النساء الحوامل، لكن رفعه تحيض كل شهر وبطنها لم تنتفخ ،وعبدالله كف منذ ذلك الحين عن معاشرتها كما يفعل الأزواج .
قالت أم عامر :­ إن الجني يصرعها كلما رأي عبدالله، وقالت أيضا إن الجني يعذبه ألاٌ تكون له وحده .
جاؤوا بمملوكهم الأسود (مشرف) ،وضع رأس رفعه تحت إبطه الأسود، أخذ الجني ينفض جسد رفعه كما الريشة، هدده (مشرف)صائحا به :
اخرج وإلا قتلتك برائحتي !!! .
تضحك أم سعود وتشرح لبناتها : إن الجن بسم الله علينا وعليكن لا يحبون رائحة الإبط الأسود­ يالله في رجاك يا رحمان .!!
في اليوم التالي ،وجدوا جسد رفعه طافحا علي وجه البئر، فعرفوا أن الجني قد كسر رقبة رفعه، ورمي بها في البئر، فالجن حين يضطرون لمغادرة الجسد المسكون، لا يسمحون به لأحد من بعدهم، ربما لم يسامح الجني، العبد (مشرف) ،الذي هدده بأن يقتله بالرائحة، فرمي بجسد رفعه له كخرقة بالية نكاية به .
حامت روح رفعة حول مجلس القرية، ثوبها الطويل يكنس الأقوال التي دارت حولها، كما كنس العملاق الحصي في حلمها القديم، وقبل أن تقفز في البئر للمرة الأخيرة سمعت روح رفعة رفيقتها مزنه بنت فواز تحدث موضي زوجة أخيها فوق سطح دارهم ،كما يفعلن في الأماسي الرطبة قائلة :
هل تعرفين أن عبدالله هو من ذبح رفعة ؟!!
شهقت موضي
اسكتي لا يسمعك أحد !
أقول لك إنٌ من كسر رقبة رفعة ليس الجني بل عبدالله ، رفعة يوم عرس ابن النشمي لم تعد للبيت لقد ذهبت يومها لملاقاة (سلمان) الذي عاد من الرياض عند البئر .. رفعة لم تنسّ (سلمان) ولو لم يأت هو لقرية (الحزوم) لذهبت هي إليه .
إن الجني الذي اختبأ عند السدرة ، لم يكن غير عبدالله ،لقد رآها وهي تقابل سلمان، وعندما رأت عبدالله واقفا عند قربة الماء يفوح غضبا وكدرا ، شعرت أنه عرف كل شيء، قفز قلبها ، ودخلت في غشاوة طويلة .!عبدالله لم يقتلها في ذلك اليوم تراجع ،خاف من كلام الناس والفضيحة التي سيتحدث الناس بها وقتا طويلا ،وحين رأي عبدالله رفعة بعد شهور من دوامته الشقية بقرب البئر لوحدها، وهو يعرف أن رفعة لم تعد زوجته كما في الماضي، لكنه لن يتركها (لسلمان) أيضا، داهمها من الخلف، سمعت رفعة تدحرج الحصي تحت قدم عبدالله ، لم تتمكن رفعة من الالتفات خلفها، في لحظة سريعة، قبض علي رقبتها من الخلف ،ضغط عليها بشدة حتي غابت أنفاسها، وأرتخي جسدها نحوه ،ثم دفع جسدها إلي البئر .
دفعت (موضي) بيد (مزنه) قائلة :
ستخرفين قريبا يا مزنة ، اذكري الله كلامك ينثر الدم في وجه الرجال ،ضعي لسانك في فمك ونامي!
سمعت مزنة صوت حصي يتدحرج نهضت مزنة علي ركبتها لتطل من جدار السطح القريب شاهدت مزنة ضوء نجمةي منحدر يومض عند رأس البئر، لمعت النجمة في عين مزنة ثم انطفأت، كان شيء ما يودعها .

****

القطيع

تركية العمري

اشتعال
القطيع قطع التمر من النخل في قاموس
قرية الوادي
العرق يتصبب من جبينها ويداها تضج أوردتهما بالألم وهي تمسك (مخرف) تمر، دخل طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات يحاول أن يمسك بطرف ثوبها، تدفعه بل يدفعه تعبها انهمرت دموعه، تركته، تذكرت صوت أبو فالح : الغداء بعد صلاة الظهر، فرحت عندما اخبرها بأنها ستصنع الغداء والعشاء هذا اليوم، هذا يعني أنها ستبقي في البيت وترتاح ملامحها من أشعة الشمس، وترتاح عيناها من تنقية التمر، وتهدأ قدماها من السير في دروب عطشي مترامية الاتجاهات، دروب لا تؤدي إلي هدف.
أخذت البصل وبدأت تعد الغداء، ذهبت ذاكرتها إلي أربع سنوات مضت واختبأت في ذاكرة العمر.

قبل أن تجيء إلي هنا كانت تذهب مع أمها واخوتها للقطيع وتنقية التمر. تذكرت حلمها الذي كان يوقظ في أعماقها ضوء أمل لغد مضيء: سأتزوج ابن عمتي أحمد،الذي يعيش في أبها، نعم وهناك سوف تحيا مع عمتها جملاء التي تملأ السعادة عينيها.
سمعت أمها تلتفت إليها قائلة: أهل عسير مثل جوهم مطر وخير وحياة. وهمست عمتها جملاء:

أهل عسير يدللون المرة (مو مثل ربعنا).
وتمر الأيام وحلم يملؤها تخبئ صور أبها تردد قصيدة حب لأبها.
روحي هوي السودة
روحي في جبل تهلل
بالحب موعودة(1)

أبها تعني حياة مترفة، وحبا وأطفالا. لتتوقف تلك الأحلام الجميلة عندما تقدم ابن عم والدها عامر ووافق عليه والدها بدون تردد وبدون أخذ رأيها. مازالت تذكر ليلة زفافها والطقاقات يقفن صفا ويرددن أهازيج مدح زائف:

أبوها وأخوها
والسنا في حليلها

النساء يرقصن وهن يغطين نصف ملامحهن باللثام، والصبايا تلوح شعورهن في الهواء، وهي تبكي من الأعماق: نوضا نوضا.
تتنبه انه عامر، صرخ: وين الغداء؟.أجابته وهي ترتجف: خلص. بدأت تفرغ الغداء بيد ترتجف، وهو يردد كلمات لا تريد أن تستوعبها دائما يصرخ يغضب يتفوه بكلمات، يستخدم ذاكرته التي تحمل أمثالا شعبية تتنفس السلبية والآراء الجائرة عن النساء جميعا.
أتي أبو فالح، أخذ الغداء وبدا ظهره يغيب عن عينيها، تذكرت عندما طلبت منه أن يحضر من يساعدهن هي وأختيه وزوجة أخيه في تنقية التمر، خاصة انه يملك المال، لكنه رد بسخرية: وأنتم تبون تجلسون كذا شوفونا نتعب بعد.
أجابت: أنتم رجال، حاولت وحاولت ولكنه رفض وأخبرها أن والده يرفض ذلك بشدة. صمتت بحسرة وضاعت المفردات التي حفظتها من برنامج في الراديو عن الأسرة والعلاقات الأسرية.
عندما تأتي أيام القطيع الرجال متوترون، والنساء يتنفسن التعب والشقاء وهن يعدن أيام القطيع التي تتجاوز في الكثير من الأحيان شهرا.
لعل أجمل ما في القطيع هو اجتماع النسوة وأحاديثهن الطويلة جدا، وسخريتهن أيضا، لهو الأطفال والتصاقهم بأمهاتهم، نظرات أعينهم التي تملؤها الدهشة عندما يرون التمور تزداد علوا وتشكل هرما من التمر.

في زيارة عابرة لشبنة ابنة خالة نوضا همست: حظكم ما عندكم نخل.أجابت ابنة خالتها شبنة : لكن عندنا تعب غيره، الغنم.
أكملت نوضا: كل تعب يهون إلا القطيع وهي تنظر إلي يديها وقدميها اللتين تعبتا من طرق المزرعة.
أنهت نوضا زيارتها لابنة خالتها شبنة. في الطريق إلي المنزل تذكرت كلمات ابنة عمتها جملاء هند وهي تقول: لابد أن يكون للمرأة رأي وأن تحافظ علي كرامتها وتصون كبرياءها فهي إنسانة. تنهدت نوضا وهي تقترب من منزلها وتنظر إلي المنازل، رددت: آه (بصوت عال) يا حسرة علينا.
في المساء أتي عامر يخبرها أن القطيع انتهي. صرخت بفرح: ولكن ماذا بعد؟عندما بدا الليل يسدل أجفانه علي القرية بدأت نوضا بالتفكير وهي تنظر إلي غرفتها، توهجت في ذاكرتها كلمات تلك المعلمة التي قدمت إلي قريتها من مدينة تكتحل بالبحر وهي تتحدث عن العلاقة الزوجية، انهمرت دموعها فهي لا تحيا.

نعم عامر بملامحه المتجهمة نادرا ما يبتسم، لا يري المرأة إلا في فضاءات معتمة، كلا بل لا وجود لها في خلايا تفكيره، دائما ما يردد مفردات موروثة لا تمت إلي الحقيقة بصلة: اسكتي يا مرة، الحريم لا يتكلمن.

في الصباح حملت طفلها فالح بعد صلاة الفجر واتجهت إلي منزل أهلها، وما هي إلا لحظات حتي صرخت أمها أنت مجنونة أكيد.
خيل لنوضا أنها سمعت صوت ماء قادم من بعيد،منذ زمن لم تسمع صوت ماء، فتحت النافذة الصغيرة، رأت أعشاب صغيرة، رأت ملامح عامر وملامح كثيرة تشبهه، ووجوه نساء بلا ملامح، أقفلت النافذة.
فتحت الباب بل كل الأبواب وتعالت كلمات في المدي: لن أعود لن أعود. أتاها صوت أجش لن تري في هذه القرية إلا عامر.

***

أمنا الصحراء تتلو علينا شيئا من شأوها العظيم

فاطمة فيصل العتيبي

علمتنا أمنا الصحراء..
كيف نكون علي طرفي نقيض، ويكون لقلوبنا لون الذهب والتراب،وكيف يجتمع في أقدامنا مطر ورمضاء!
علمتنا أمنا الصحراء..كيف نهزج بالقصيد وألسنتنا تتشقق عطشا،وكيف نطلق لأجسادنا مساحات الضوء والقمر ونحن نطوي الأمعاء علي جوعها!
وهجتنا أمنا الصحراء كيفية الركض وراء السرابات وكيف نمتص الصدمات المتوالية..
في كل مرة نجد السراب رملا وقيضا وكنا نمنّي النفس بماء زلال يغسل منا الظمأ!
أمنا الصحراء بوجهها الطافح ببياض النهار،الداكن كمساءات أواخر الشهر علمتنا كيف نجمع بين النقائض.
وكيف يكون لنا محاسننا المتضادة، وكيف يمتزج فأل الربيع بلفح القيظ!
وعلمتنا كيف يكون لقلوبنا أبوابها المفتوحة دائما..
لقوافل الداخلين..
يرسمون فيها أطلالهم التي لا يعلوها الغبار
وكيف يكون لقلوبنا بوابات بوسعها أن تنسي قوافل الراحلين ويعود لها هدوء الصحاري.
دون أن تمعن في مزيد من الجفاف..
وكيف تتشرب رمال القلب مطر الحياة وثمة أثر يسير لا يكاد يذكر للعواصف..للرياح.
فقط هو المطر من يترك أثرا باهظا تنمو له الأشجار وتتطاول ويستطيل بها المدي.
علمتنا أمنا الصحراء..
كيف نقاسم الآخرين عذوبة الحلم،وكيف نمعن كثيرا في ارتداء حلة الفال.
حين يجييء الزمن معبأ بعروق الحلم وقناديله التي لا تنطفئ وحين تعلمنا أمنا الصحراء.
أن أحلامها لا تموت..قد تدفن..قد توأد
لكنها لا تلفظ أنفاسها الأخيرة
يتبقي شيء من رمق الحياة تخبئه الصحاري في أحلامها.
يأتي حين يكون للحياة وجه يغيض بالفأل بالخطو.
وحين تؤمن أمنا الصحراء بهكذا قناعة.
فصدقوها ولا تحسبوها تبتدع الأشياء.
صدقوها حين..
تتلو علينا شيئا من شأوها العظيم ومن أحلامها التي لا تموت..
ألم تروا كيف يستيقظ رملها باهتا شاحبا..فيهمي المطر عليه ويغسل عنه الشحوب..فتتسامق فيه الأعشاب..ألم تنصتوا لهمس التربة عشيا يافعا له من الحلم وجهه المثقل بالشجر والزهر.
ليكون لكم في الصحراء أسوة حسنة..ولكم في رملها ومطرها وعشبها مثلا أعلي..
اجعلوا قلوبكم بمثابة صحراء شاسعة..
واجعلوا الحلم مطرا يغسل صحاريكم بياضا وفألا..
وستجدون أن عشبا عذبا بدأ يستطيل ويظهر في ساحات القلب!
رائحة مطر...
تعلمت من أمي الصحراء درسا خاصا في الحلم..
فقد هجتني يوما..
أن الرمضاء لابد أن تنبت أقحوانا وخزامي..وثمة ديم وزهر أبيض يجيء في أعقاب السموم!
ومذ عرفت أمي الصحراء لم يخب لها ظنا ولم يخفق لها درسا.
ومذ عرفتها ومذ سربت ما هاجسها الجميل في نهارات أحلامي قاسمني الحلم ريق الصباحات..وأرق المساءات..
وإن كان ثمة دهشة تقاسمكم القراءة الآن فلأنكم لا تعرفون أمي الصحراء.

***

رمل

أمل الفاران

أمل الفارانرش خفيف جلي وجه الرمل فأشرق ، سمرات البر تشبهني أو أشبهها : من مطر لمطر لا تغادر ، ولا تنحني .. أنا سعيدة يا صديقي .. الرش يغسل روحي

رسائلها القليلة حين تأتي تجلو روحي الصدئة ، أتلوها وابتسم .. بالأمس فقط غيرت اسمها في جوالي ( سميتها عشتار )
هل أجرب البر لعلي أعشقه كما يليق ببدوي؟
تذكرت مكالماتنا القليلة الباردة ، وقررت أن يكون لدي ما أحكيه لها في اتصالي الآتي ..
أجمع صغاري ونركب ، تشجعهم نصف ابتسامة علي وجهي فيغنون ، ويطلع لي وجهها في المرآة بينهم ، وأتفكر : منذ متي توقفت عن عد الأيام مذ صرت أمهم وأباهم ؟
علي كتف الصحراء نقف ، ينسلون شطر الرمل ، وأحفهم بعيني ..
يجوسون في المكان ويبرقشون وجهه العتيق بخطواتهم الحافية ، ثم يعودون .
لغتي تضيق عما يناسب موقفا استثنائيا كطلعة بر فأخفي وجهي في كيسي المتقشف.
أفرش سفرتي البلاستيكية وأفتح علبي القليلة وأوزع الخبز وأوامري.
يلتهم الأولاد فطورهم وأمضغ معه توجيهاتي ورملا تسفي به ريح فتية إليٌ .
مع قطعتي الأخيرة أتذكر أني نسيت الكرة ، وأفكر كم من الأعين في أعطاف هذا الرمل ستستفهم عن الأجنبي وأطفاله الذين لا يعرفون من البر أكثر من فضاء أوسع للأكل .
أجمع ما بقي ويتبعثر الصغار من جديد ، وأتذكرها أخري ( أمهم ) ، وأسألني : منذ متي بهتت صورتها؟ منذ متي استبدلت كرهها بحقدي لأنها خلتني معهم ؟

لو كان لأفكاري صوت وسمعتني أمي لاستغفرت ثم قالت : مقدر ومكتوب ولربما بعد قليل _ حين تتذكر كم صارت الكلمة تؤلمني ­ ستقترف ست أوسبع جمل قبل أن تجد موضوعا يحمي صوتي من أن ينزلق في البؤس.
ومتقمصا لسان أمي أصرفني لغير الراحلة ، وأستحضر عشتار امرأة أشكلها كل يوم ، ويلهيني جمال روحها وصوتها عن رسم تفاصيل جسدها الذي لا يقربه لسانه ولو بفلتة أتمناها ، لو أستطيع أن أكتب لها الآن !
ماذا أقول لها ؟!
الناس لا يفهمون الحقيقة حين أقدمها بلا ملابس ، ولا يفهمونني فيبتعدون وأتألم ..
أنادي صغاري ، يلتمون وعيونهم علي شفتي وأحكي :
هي عادة قديمة لأجدادكم وسنحييها اليوم
إذا ضاقت صدور أجدادكم أتدرون ما يفعلون ؟
يغنون . قالت الوسطي
ضحكت : صحيح ، ولكن إذا ضاق صدر أحدهم جدا راح للبر ، يحفر حفرة صغيرة ، يحكي فيها ما يوجعه ويدفنه ، والآن سنفعل مثلهم .
قال أنضرهم : لا يوجد ما يضايقني ؟
قلت : احفر حفرة وضع فيها أمانيك ..
أردت أن أكمل : ولا تدفنها حتي لا تكون فأل سوء ، لكنهم كانوا قد انتشروا .
بقيت الكبري ، قالت : سأحفر اثنتين يا أبي ، واحدة لما يقهرني ، والثانية لما أريده .
أومأت مباركا وراحت .

انتحيت بحدبة قريبة أنبش جذرها ، وأحفر ويتهايل ما حوله دافنا ما أحفر .
أقيم كفي الأيمن كتفا أعلي للحفرة تحمي سافلها من عاليها ، وحكيت : صدري يوجعني ، راحت لا أسعدتني بوجودها ولا رحيلها أراحني ، هم يحتاجونني وأنا تعب ، يدي باردة ، وقلبي فاضي .. قلبي يوجعني يا رب
رفعت كفي فغمرت الحبات المستديرة الشفافة نصف الحفرة ، ومسحت وجهها بكفي مساوية باقيه.
عن يساري حفرت أخري أصغر ، ثم صرت أقبض علي الرمل وأذروه فيها ومع كل قبضة أمنية .
صغاري الذين فرقتهم الحفر يجمعهم اللعب الآن ..
أوسد رأسي الرمل وأعلق عيني علي السماء ، زرقتها تبهت بالاعتياد ..وأتذكر أنا أن دفن الأوجاع طقس مؤنث ، وأتساءل : هل تغلغلت فيٌ أمومتي الحادثة لهذا الحد ؟

نركب مغادرين وبعض الطبول تقرع قرعا أوليا هنا وهناك ، أكتب لعشتار : الدواسر كائنات من طرب
حين أدير وجه السيارة أنظر للمكان ، فيبدو لي تكتمه مهيبا ، أوجاعنا لم تغير في سحنته شيئا .. أحسد الأرض ، وأنشد وصغاري يرددون .

***

شجرة العائلة

مني البليهد

زينة طفلة مدللة بين أربعة أخوة تقع في منتصف العقد فهي زينته كاسمها وتجمله بابتسامتها الدائمة علي وجهها الحلو , وكعادة البنات تكون هي أول منصتة لصوت الباب عندما يحضر أبيها , وتسرع الخطي لاستقباله ، كأنه كل يوم يأتي من سفر طويل لافرق لديها , فهي تحظي بذات الشوق ..تؤكد ذلك يدا والدها عندما يرفعها لأعلي ويدور بها عاليا كعادته .
هذا اليوم استقبلها بشكل يختلف حيث كانت يده اليسري تطبق علي كتاب ضخم ذي غلاف أسود . أسندها إلي جانبه وهو ينادي بأعلي صوته : يا أم سلمان ..يا أم سلمان . ياسلمان ..يامحمد ..أقبل سلمان ومحمد وعبدالله ومعهم أمهم تحمل الصغير عبدالرحمن
­ خبر أيش عندك؟
­ طلعت شجرة العائلة .
تخيلت زينة أن والدها أحضر شجرة ما ,فخرجت لتراها في فناء المنزل ..
قالت أم سليمان :
­ كتبوا أسماء أولادنا؟؟
دخلت زينة من الخارج وهي تلهث :
أين الشجرة ؟؟ أين الشجرة ؟؟
ضحك الجميع ورفع أبوها الكتاب مشيرا إلي شكل مرسوم لشجرة ذات أوراق عديدة .وأشار إليها أن تأتي معهم محاولا تخفيف إحراجها خاصة أن إخوانها لايزالون يضحكون ويعلقون علي ردة فعلها .
جلسوا متحلقين حول الكتاب والأب يشير بإصبعه إلي أسمه ثم أسماء أولاده التي كتبت داخل أوراق شجرة العائلة.
تحاول زينة جاهدة البحث عن اسمها في بقية الورق ..أين أسمي ؟؟
التقت عينا الأب بعيني الأم للحظة ثم بادرت الأم :

­ حنا (الحريم) وراء الأوراق حتي ما أحد يشوفنا .
­ وبحركة عفوية قلبت زينة الصفحة محاولة رؤية ما تصورته خلف الأوراق أسمها .
أقفل الأب الكتاب وحاول أن يبين لزينة أن اسمها موجود في قلبه وهذا يكفي
­ أيش معني أخواني ..حتي (البزر) ­أشارت إلي أخيها ذي السنة ­ كاتبين اسمه وأردفت تنشج (يعني أنا مو بنتكم!! ).. وارتفع صوتها بالبكاء وغادرت الغرفة.
حاول الوالدان أن يقنعاها بكل الطرق ..

قبل أن تخلد للنوم , لم تقبل زينة أخيها الصغير ,ولم تنشد له الأنشودة المعتادة .
وفي صباح اليوم التالي، لم تجد الأم ابنتها في سريرها .وبحثت عنها في غرف المنزل ..إلي أن وجدتها في مكتب والدها ..في سبات عميق علي مقعد والدها محتضنة كتاب شجرة العائلة مفتوحا علي صدرها ..أخذته الأم وعندما قلبته لتقفله .لف نظرها رسما بقلم أزرق لشكل ورقة شجر تخرج بين أسماء أخوانها بفرع ممتد للهامش وبخط طفولي جكتب....زينة.

***

السمكة والبحر

شريفة الشملان

شريفة الشملان أشتاقة
عنده فقط أغسل تعبي وإرهاق يومي.
أريد أن أسير بمحاذاته، يرش روحي بنسيمه العبق، فيغسلني من الداخل
أنادي صديقتي ونذهب، في السيارة صامتة أنا، فالتعب أخذ طاقتي للكلام.. الكلام الذي دار هذا اليوم كثير ومتفرع، لكنه مخيف، وأنا أخاف الظلام، وأحاديث السحر والجن، وكلاهما دارا هذا الصباح، فالإنسان كان وما زال عدو ما يجهل لأن ما يجهله يخيفه، وأنا أخاف الجهل كثيرا، وأحاول أن أحاربه ما استطعت لذلك سبيلا..
حاولت أن اذهب بعيدا فلا أسمع شيئا، لكني سيدة البيت وواجب الضيافة يحتم علي البقاء، أحاول أن أزيل أثر الأحاديث قبل النزول من السيارة وهواؤه يلفح وهي بندواته جميلة وأظن أنني فلحت، ولكن..
ننزل نحن الثلاثة نسير بمحاذاته، تهب علينا ريحه التي غسلها لنا وعطرها برائحته، تستحثني الصديقتان علي الإسراع.. أجر رجلي أنها تأبي الحركة، أجلس قباله وأدع صديقتي تكملان سيرهما، أرفع الغطاء عن وجهي وأدع الهواء الطري يداعبه، أشعر أن الريح الندية تدخل لأعماقي، تخدرني، تلغي كل شيء التعب، وهم الأبناء، والبيت ومتابعة نشرات الأخبار والمصارعة الحرة وغير الحرة، وكل شيء، لا شيء البتة أنا وريحه العذبة وتكسر الموج علي صفحاته أمامي كأنها كسر مرايا تتصادم، والألوان تتراقص علي سطحه وأتساءل، ويقولون: ماذا تحبين في الدمام؟!!
وأمامي كل هذا البحر، فكيف لا أحب الدمام!!
الهواء يسير الهويني علي سطحه، وبضع سمكات تتشاقي فتتقافز فامتلئ فرحا، وكأنني طفلة تشاهد الرسوم المتحركة.. وأصنع مدنا لهذه الأسماك وأهبها أسماء جميلة، ألاعبها في خيالي وأقفز معها وأبتعد وإياها عن شبكة الصياد، وأتذكر أنشودة قديمة للأطفال تقول:

يا بط يا بط
أسبح بالشط
قل للمملكة
أتت الشبكة
ميلي عنها
تنجي منها

علي جانبي صيادون أضحك بسري، وأقول ماذا لو سمعوني أقول ذلك بصوت عال.. هل سننشب بصراخ، أم سيضحكون من امرأة تجلس وحيدة وتخاطب الأسماك..
أمضي بتخيلاتي مع عالم البحر، قواقعه وأصدافه، واللؤلؤ والمرجان، وأشكل لوحات مبهجة لداخله، وموجه يعزف أمامي لحنا هادئا.. وعن غير بعد تسير باخرة تتهادي ليلا بأنوار تتماوج علي السطح وتتشابك، ثم تقفز سمكة كبيرة بجسم علوي نسائي، وأسفلها سمكة، قلت في خاطري هأنذا وجها لوجه أمام عروسة البحر، ويقولون خيال بحارة يحلمون بامرأة طال الزمان والمسافات بهم عنها!! ألمس جسدها لزجا ناعما تتحرك أمامي، أتفحصها.
عروس لها عينا غزال وشعر منسدل علي ظهرها، عابثة الموج، رفعت نصفها الأسفل بيديها وجلست جنبي، وراحت تجاذبني أطراف الحديث، عرفت أنها تعيش عمرا كعمر البحر، وأنها سيدة هذا الشاطئ الممتد إلي ما شاء الله.
أما والدها فهو ملك الشطآن كلها ودعتني للنزول معها، فقلت لها: إنني لا أجيد السباحة الا بضع مترات لا تتعدي أصابع اليد، وأني أشرق بالماء المالح (ضحكت عن أسنان لؤلؤية وقالت سأحملك.
(تركت عباءتي وغطاءي علي الكرسي، وحملتني كان شعورا لا أعرف كيف أصفه، وأنا في وسط الماء، هو شيء أكبر من الفرح، وألذ من الوسن قلت في خاطري سأكتب هذا الشعور وسأحاول أن أختزن لحظاته، وسأحكيه (لأميمة الخميس)'1' فتأخذه لتضعه بقصة للأطفال، وتذيعه الإذاعة والتلفاز، لم يكن سباحة ولا طيرانا هو بين الاثنين كانت السمكة المرأة تلعب بزعانفها، وأنا أتماوج بسعادة داخل الماء، وأتنفس ولا أظهر فقاعات ولا أغرق، وروحي ترفرف، جناحان لها تخفقان كما خفقان فراشة شقت شرنقتها.
تنزل بي، وتبحث عيناي عن قصص ألف ليلة وليلة وشهر زاد تجوب البحار بالسندباد، وجنيات البحر، لا أجد قصورا إنما صخورا ملونة وبينها تسبح آلاف الكائنات الجميلة، التي تعبر بين عيني ويلتصق بعضها علي جسدي، وأعابثها وأنا أمد كفي لأمسك شيء منها، لكنها تهرب مني بزئبقية، وأنا تقهقه روحي كطفل معافي، أري قوقعة ما مرت ببال نوخذه (2)، أمد يدي تتحرك بلزوجة كالهلام تحت أصابعي، يغمرني شيء بين الخوف والسعادة.. استأذن صاحبتي بأخذها فتقول لي: دعيها سأمنحك أكبر لؤلؤة ما عرفها هارون الرشيد.

قلت لها أو تعرفين هارون الرشيد؟!.
قالت: ومن ذا الذي لا يعرفه.
قلت لها: أنا أحببته كثيرا، من درس التاريخ.
قالت: أنا كنت سعيدة، وأنا أعيش عصره..
سألتها: أصحيح كل ما يقال عنه..؟
قالت: لا تصدقي كل ما يقال فأنتم يا أهل الأرض أكبر مزور للتاريخ.

كنت أريد أن أستزيد منها لولا أنها أدخلت ذيلها تحت أحد الصخور، فتخرج لي لؤلؤة ما رأت عيني مثلها قط أمسكها جيدا أنها دليلي علي الهبوط علي أن لا أفرط بها. وربما أجعل منها قلادة لابنتي في زفافها.
من بين الصخور الجميلة دخلت قصرا ليس كالقصور التي أحاطت بالبحر مؤخرا بعد أن تم دفن أجزاء كبيرة منه وكأن برارينا لا تكفينا فغزونا البحر!!

قصور يداعبها البحر وتجملها الكائنات، من صخور ملونة مبنية، قلت في خاطري لابد أن أختزنها لأرسمها لابنة صديقتي التي تدرس التصميم الداخلي، لكنني تعبت وأنا أحتفظ بالمناظر الرائعة في داخلي، ثم قررت أن أستمتع بما أري، ولا يهمني لمن سأحكي فيما بعد.

قلت ليتها تجعلني أسلم علي أبيها، كنت أوسوس بذلك لنفسي، أريد أن أري سيد الشطآن، كيف يكون؟!، ومن يشبه؟؟، لكنها التقطت ذلك وقالت سأجعلك ترين أبي اللحظة، انفتح باب كبير في القاع وولجناه. وإذا ببساط سندسي يتماوج بفعل هزهزة الماء فيتغير لونه عدة مرات، وأنا مأخوذة باللون الجميل وبالسحر الذي يحدثه في داخلي، ثم جاءت موسيقي خفيفة كأنها تأتي من بعد، شبيهة بموسيقي (موزارت) '4'، ورأيت جسرا كالجسر الذي يربط مدينة (ستراسبورج) القديمة بالجزء الجديد، وأحسست نفس الإحساس الذي انتابني وأنا أسير عليه آنذاك وكأنني أنتقل عبر بوابة للمستحيل. خرج رجل له رهبة لا كرهبة الرجال هو بين الرجل الحلم وبين الرجل الأب، له سماحة وجه بجمال وله طول فارع تكاد تنكسر رقبتي وأنا أنظر إليه، وأحسست كأن له نظرة أبي، ثم امتزج بشكل عمي، لكني عندما نظرت لأسفله، والذيل السمكي الذي له تأكدت أنه ليس أبي ولا عمي، ملابسه جميلة وغريبة، عمامة يهفهفها الموج وصديرية بأزرار كأصداف مرمرية، في إصبعه الخنصر خاتم كبير له فص تتغير ألوانه وتتداخل حتي كاد يعمي ناظري من لمعانه، كنت أخمن أنه خاتم سليمان الذي يفركه فيكون كل شيء ملك يديه اللحظة، قلت بخاطري أي اللغات تري يتكلمها؟!، قال لي بعربية فصيحة: كل لغات الله نعرفها.. ومد يده مسلما كانت يد دافئة أحسست بها ود وسخاء، أجلسني إلي يمينه ورحب بي، وقال كلام جميل عن أهل الأرض، ثم التفت لابنته التي اشارت له بطرف لحظته، أن يقول ما بدا له قال: هل أحملك رسالة؟ قلت: نعم أن استطعت ذلك.

قال: تستطيعين فأنت تكتبين في الصحف.
وأصابني شيء من غرور حتي أهل البحار يعرفونني يا لي من مشهورة..
قال: سأحملك رسالة قولي لهم يكفون عن أذية خلق الله.. إنهم يضايقوننا ويخربون مناطقنا.. غواصات ومدمرات وطاقات نووية، ألا يكفيهم خراب ديارهم.. اكتبي عن ذلك.
قلت له والله العظيم كتبت مرات كثيرة.
قال: أعرف، لا تيأسي اكتبي واكتبي وراسلي منظمة السلام الأخضر.
يا الله هذا الرجل يعرف كل ما يحدث علي الأرض. سأطلب منه أن يساعدنا في الانتفاضة الفلسطينية. وجمعت كلماتي لأقولها له عن محمد الدرة وإيمان حجو وعن أطفال ماتت أحلامهم الصغيرة، انتهكت الرصاصات أجسادهم الغضة. أطفال بلا أقلام ولا دفاتر تلوين، أنهم لا يرون البحر ولا يعرفون قفزات الأسماك.
وقبل أن أفتح فمي ضحك حتي كاد يستلقي علي زعنفة ذيله، وقال يا ابنتي، لا أستطيع أن أساعدكم، إذا لم تساعدوا أنفسكم.. اليهود أقوياء عليكم إنهم يستغلون ضعفكم وتفرقكم.. وثلاثة أرباعكم غير جادين في خلاص الفلسطينيين من اليهود، بل إنهم يساعدونهم.. قلت كيف؟؟ كنت وقتها أفكر بسفارات الأرض المغتصبة في ديارنا العربية، والأبواب المغلقة التي فتحت لها لتلج ديار الله، وبالمكاتب الاستخبارية التي يطلقون عليها مكاتب تجارية، وأقول في خاطري كل ذاك معروف لابد لديه ما هو أكثر، سأنشر كل ما يقوله لي سأكشف المخبأ. لكن صوتا كان بالقرب من رأسي يقول همسا. (يا حليلها نامت..!!).
فتحت عيني، لم يكن سوي صوت إحدي صديقتي، لم أعرك عيني كنت أشد علي اللؤلؤة بيدي.
ولكني عندما ألقيت نظرت كانت يدي تشكو الفراغ..
تمنيت أن أعود لداخل البحر، أعيش أجواء جميلة لكني تذكرت كلام ملك الشطآن عن المدمرات والقنابل النووية.. وقلت كلنا بالهم سواء..

  1. أميمة الخميس: كاتبة قصص قصيرة، سعودية لها قصة جميلة للأطفال اسمها الوسمية.
  2. نوخذه: اسم خليجي يطلق علي سيد غواصي اللؤلؤ
  3. يا حليلها: كلمة تعجب وتحبب نجدية وخليجية
  4. موزارت: موسيقي نمساوي، كذا ستراسبرج مدينة نمساوية جميلة جدا ولد وعاش بها الموسيقار موزارت

***

حار .. ولكن

فوزية العيوني

طال صمتنا ، واتسعت فجوة عزلتنا في واقع لا يحتمل صمت عاشقين.
سأكسر سخف الصمت هذه الليلة وسأحادثه..
سأذكٌره بتفاصيل غارت في تلافيف السنين، و بكل وجدي سأنبش لحظات العشق الأسطورية التي تحتفظ ذاكرتنا بها..
أخذته برفق إلي زاوية هادئة وأمام مرآة شاهدة.. رأيت في وجهه وله المحب وعطش الشوق ورغبة البوح.. داعبته... حاولت استثارة كل مفاتيحه.... ما أعرفها، وما تدربت عليها حديثا.
قلت له: كفٌ عن الجمود.. تصالح مع وجدي.. انفتح لي و لا تكن عنيدا..

لم يعرني أي انتباه أو رغبة في تجاوب!

أتعبني هذا العنيد، ولكنني مشبوبة الحاجة هذه الليلة... أخذته إلي سريري
واستلقيت نصف مسترخية، وكان علي فخذي مستكينا وموغلا في الصمت.
رجوته أن ينفتح لي، رجوته طويلا، بهدوء حينا وبغضب أحيانا كثيرة.. ففي داخلي ما يجب أن يدونه في ذاكرته برهانا لحالتي وصدقي ..
غالبني النعاس، وهو مصرٌ علي أن يمارس صدٌه وصمته وعناده..
بدتْ حرارته تشوي فخذي، والطقس آب و أسد..
لم أعد أحتمل
ألقيت به جانبا
ثم أغلقت درفته ،هذا الغبي!!
ولعنت ال D S Lوكل شركات الاتصال في هذا البلد.

DSL خدمة لا سلكية رديئة توفر الانترنت في البلد عبر شركة اتصالات وحيدة ومحتكرة حينها

***

شموع الفراولة

فوزية الشدادي الحربي

تيبست قدماي .. كان أمامي . مازال كما هو ، وسيم بشاربه الخفيف ، وغترته الناصعة البيضاء . كنا في صالة ألعاب مزدحمة ، الصراخ والإضاءات تتوهج وتخبو .. كلها تذكرني بليلة زفافي : لم تبرح عيناي ساحة عينيه مازالت توشوشني ، فأنا أجيد قراءتهما، لم أكترث بطفله الذي يحمله ، أو بزوجته التي خلفه، تقدمت أكثر: هل يحق لي أن أسلم عليه ؟ هل يحق لي أن أسأله عن صوري المعلقة بغر فته؟ .
.لا. لا. لن يكون هذا مناسبا له الآن . هل عرفني وأنا متدثرة بهذا اللثام ؟ إنه يبادلني الابتسامة ! كل ما أريده الآن أن أتأكد بأنه أمامي....اقتربت منه أكثر ، حشرت يدي بيده ... ضغطها بكل دفء..عندها سالت دماء قلبي بغزارة، .همست لقلبي: هذا الدفء هو ما أريده منه، ولا أريد المزيد......
ياااااه !
مازال يفكر بي بعد كل تلك السنوات من الطلاق..كم أتمني أن يكون هذا الطفل مني.. ليتركنا الناس بهدوء.. هل أتجاهل الناس من حولنا وأفرش شعري علي صدره كما كنت أفعل سابقا ؟؟
جلس مع زوجته وطفله، وكوب الشاي الحار بين يديه .. جلست علي الكرسي القريب منه أريد سماع صوته.. أريد أن أملأ صدري بأنفاسه..
كان يختلس النظرات لي بين رشفة و أخري..
ماذا سيضر هذا العالم لو سرقت منه لحظة حيث غرفتي وشموع الفراولة عندما تتقارب أنفاسنا ؟!! سيعيد عليٌ إعلانه بأني سيدة النساء، وطفلته !!!
ماذا سيضر البشر أن آخذ أنامله و أمررررررها علي شفتي حيث مازال الشوق يشعلها .
أطفئت الأنوار.. خرج الجميع، وأنا مازلت أمام طاولته.. حملت كأسه الفارغ، لملمت رائحة عطره في صدري، عدت حيث بيت أخي.

***

يوم طارت ابنتي

هيام المفلح

صرخات صوتها الحادة ما عادت تصل إلي مسمعي !
تفقدتها
ألقيت نظرة علي تجمعات الأطفال في فناء الدار لم تكن معهم
بحثت بهدوء وسرعة بين الغرف المتاح لي دخولها لم أجدها.
تسارعت نبضات قلبي والهدوء توقد واندفع في أطرافي ضجيج صاخب:
­ أين سارة ؟ من رآها ؟
استنفرت صاحبة البيت والزائرات تبعثرن في الغرف والملحقات والسطح للبحث عنهاولا أثر!
أركض بين الجدران وأجأر كلبوءة ، وخطوط دمعي اللاهث تجأر معي..
خلي بالك من سارة لا تنسيها في زحمة الضيفات وكثرة القيل والقال أعرفك !
شدد علي بتنبيهاته وهو يوصلني إلي هنا..
وكأن قلبه تنبأ بحدوث شيء ما!
تسمر الأطفال في أماكنهم حين رأوا هلعي ودموعي لم أخجل من الصراخ أمامهم بهستيرية :
­ أين سارة ؟ من رأي ابنتي سارة ؟
تسابقت الأمهات لاستنطاق أولادهن
ارتعدت فرائص أكبرهم فرك يديه ببعضهما :
­ أنا لم أرها
ازدرد ذ و القميص الأصفر ريقه ورفع حاجبيه :
­ أنا رأيتها
أمسكت بتلابيبه __ اتسعت عيناي بمساحة رأسه :
­ أين ؟
رفع بنطاله الأخضر فوق خصره النحيل :
­ كانت تلعب هنا قرب الباب ثم فتحته وناديتها فلم ترد علي وخرجت
دفنت وجهي بين كفي :
­ يا إلهي ليس في البيت رجال ، كلنا نساء وأطفال فقط من سيبحث لي عنها خارج البيت؟
لوح ذو الوجه المستدير بسبابته السمراء القصيرة محذرا:
­ وأنا أيضا ناديتها ، قلت لها لا تخرجي من البيت حتي لا يصيبك ما أصاب الأرنب الصغير الذي خرج من بيته واصطاده الصياد ، أمي قالت لي هذا أليس كذلك يا أمي؟
وضعت أمه يدها علي فمه وطلبت منه السكوت.
دوار يصيبني وحلقي صحراء جافة لم تعرف طعم الإرتواء يوما ..
­ اعطوني عباءتي لأبحث عنها في الشوارع
تدخلت ذات الثوب المشجر:
­ خرجت سارة لتلعب بالرمل الذي أمام البيت، هي قالت لي أنها تحب اللعب بالرمل لكن أمها تمنعها حتي لا تتسخ ثيابها.
منذ متي كانت سارة ­ ابنة السنتين ­ تعرف الكلام
آه ليتني ما نهيتها يوما عن فعل شيء ما ليتني ما منعتها منذ قليل من أكل قطع الكاكاو التي تعشقها
وقف الأبيض ذي الشعر الكث المجعد علي أطراف أصابعه منفعلا:
­ حين كانت سارة تلعب بالرمل وقفت سيارة حمراء فيها سائق له شوارب ، كأبي، وناداها السائق وأعطاها قطعة كاكاو وأخذها معه في السيارة ..
يا ويلتي خطفت ابنتي!
زمجرت ذات الغرة الكستنائية المتدلية علي العينين :
­ قلت لها لا تأخذي من الغريب شيئا أمي قالت لي لا تأكلي من أحد شيئا، ولا تذهبي مع الغرباء أبدا
نهرها السمين الواقف أمامها بغضب:
­ كاذبة لا يا خالة سارة لم تذهب في السيارة الحمراء، بل جاءت طائرة بيضاء وركبت فيها ثم طارت ، راحت إلي البحر
' أراني كرة لحمية تتقاذفها أرجل صغيرة ملونة '
بأسي قال الأقرع الصغير وهو يحك أرنبة أنفه :
­ الصحيح ، أن سارة طلعت إلي الشارع وجاءت سيارة شبح ­ مسرعة ودعستها ونزل منها الدم _
" ابنتي ماتت ؟ دعستها سيارة!
حبوت إلي الباب حبوا ما عادت قدماي تحملانني
وفي صدري فحيح أم ثكلي!
وكحكيم ، نطق ذو الثوب الأبيض، بعد صمت مطبق ، وعينيه تضيق وتتسع حسب مخارج كلماته :
­ لكن سارة قصيرة ، ولا تستطيع يدها أن تمسك بهذه ، لتفتحها وأشار إلي مقبض الباب.
تحنطت في مكاني..
دلو من الماء المثلج اندلق فوق رأسي
سكنتني رعشات متوالية ودمي تيار متناوب ، نقطة مغلية وأخري متجمدة.
قصيرة لا تصل لمقبض الباب لم تخرج إنها في البيت..
اشتعلت الحياة في أوصالي تركبت أعضائي فوق بعضها البعض وكالبرق طرت من بينهم ..
وقفت وسط المطبخ ..
بحثت جيدا
وبهدوء..
تمطت ، من تحت مفرش الطاولة المتدلي حتي الأرض بارتخاء،
قدمان صغيرتان حافيتان
أعقبتهما ساقان رفيعتان
ثم جذعا ناحلا بذراعين سمراوين
ثم عينان لا معتان وسط وجهي بني معجون بنصف علبة الكاكاو المزروعة ، بكثافة ، تحت الطاولة !

فازت بجائزة نادي القصة الأولي عام 1998 ، وترجمت الي اللغة السويدية ضمن كتاب يضم قصص 10 كاتبات عربيات.

***

طقس ونيران

شمس علي

تتأملج بقايا ربيعي في مرآةي مهشمة.. يجطِلٌج الشيبج من صدغِها.. تجواريهِ أسفلّ الخمارِ..يشتعلج جوفجها..تجطفئجهج بكأسِ ماءي فخاريي تتناولجهج من بينِ كؤوسي عدة ي صجفتْ علي جداري طينيي لتخطفّ نسماتِ بردي هاربةي من ذلك القيظِ اللاهب..عيناها الملتهبتان حمرة تنظرانِ إزارّ ابنِها يجرفرفج فوقّه..يهصجرجها الألم !؟
هاهو الطفلج الذي غادرّها أبوه رضيعا، صار شابا ستجزّفٌج إليه عروسجهج بعد أيامي قلائل..
تأسجرجها فكرة طارئة ..سترتدي في زفافِهِ ثوبّ النشلِ الموشٌّي بخيوطِ الذهبِ الذي بعثّهج
إليها أبوهج من عمانّ حيثج يعمل ..

تضحكج عيناها للذكري العتيقة ..حينما جاء بهِ الجمٌالج ، الرجلج البدويٌج ذو الضفيرتين والثوبِ المجنٌح ،بمشقٌةي أستطاعّ أن ينيخّ جملّهج الضخمّ في زقاقِهم الضيق، فزرفتْ قدمج البعيرِ وغاصتْ في تربةِ دهليزِ إحدي البيوتِ الطينيةِ المشرعة ،ليتجمهرّ حولّهج كلٌج أهلِ الزقاق ،والأزقةِ المجاورة ،ويغدو هو وبعيرجهج و ثوبجها حديثّ سمرِهِم ليالي طويلة.
تهبطج الدرج .. تلتقطج الصرٌةّ التي خبأتها في الرازنه الرف ..تنفضج عنها الغبارّ ..
تجخرِججهج للنورِ بفرحي ..يجمطِرج حجضْنّها نتفا ..تتهاوي معهج سعادة نادرة..
(غدا سنطردج الشؤم ) ..تهتفج جارتهجا من خلفِ الجدارِ وهي تسقي الرياحين .. (أهو التاسعج والعشرون من صفر..؟؟) تسأل ..
بنغمةي مشفقةي­ تجيبجها.. نعم..لذا لابدٌ أن تشاركينا في طردِ أشباحِ الحزنِ، و شياطينِ النحس..
في الظهيرةِ ..تتنادي الجاراتج من خلفِ شقوقِ الأبوابِ الخشبيةِ ..يتجمعج الصغارج في الزقاقِ حولّ ألسنةِ النارِ الموقدةِ ..يصهرجهم الترقٌبج ..يفتنجهم الفضولج .. لا يطولج بهِمج الانتظارج ،فسرعانّ ما يشتعلج الطقس ..
جترفعج الأذيالج للركبِ..يبدأج تقافزج النسوةِ فوقّ النارِ منشداتي أهزوجةّ الطردِ، ترافقجهجنٌ شهقاتج الصغارِ ذوي الخدودِ المزهرة ..
واقفة من بعيدي كانت ..ترقبج مثيلاتهّا اللاتي يتدافعنّ نحو النارِ كفراش ..تجحدٌِثج نفسّها ..
أمٌج مسيلمي هذه الطويلةج التي تخترقج الصفوفّ الآن ، مثلي كانتْ ،تركّها زوججها عشرينّ سنة .. وتشرٌدّ صغارجها الخمسةج في بيوتاتِ الزقاق، وحدّها هاجرج الصغيرةج ،رفضتْ مفارقّتّها ،فأضطرٌها ذاك أن تعملّ ليالي طويلة، تجسامرج الرٌحي ،تطحنج الحبٌّ ..لتجطعمّها ..لكنه عاد بعد كلٌِ تلك السنين بزوجةي عقيم ، وكرتونِ حليبي ،وفراشي ممزق..!!
تقعج عيناها علي أمٌِ معتوق ­ وتسرٌج لنفسِها ­ و هذه الشقراءج التي تنتظرج دورّها هناك، مثلي هي أيضا ، غادرّها زوججها منذج عشرِ سنين، المسكينةج لم يجرسلْ لها ولا مكتوبا مع الجمٌال!؟؟
أخوها المعتوهج ذهبّ خلفّهج، ليجطلٌِقّها منهج لكنٌهج غابّ هو الآخرج مخلٌِفا زوجتّهج وأطفالّه ..!؟؟
تلمحج من بينِ الجموعِ أمٌّ أحمدّ ذاتّ الوجهِ المججّدٌرِ­ تتنهدج­ إنها أوفرجهجنٌ حظا، فقد عاد إليها زوججها ليلةّ زواجِ ابنِهِ الذي تركّهج وهو يحبو ..!!
تلتفتج علي ضحكاتِ حميدة فتجدهِشجها ارتجاجاتج جسدِها القافز، وتتذكرج صراخّها عشيٌةّ تلكّ الليلةِ الشتوية عندما رجع إليها زوججها بعدّ أن فارّقّها الخصبج، مصطحبا أخري، وعدةّ أبناء، وطلٌقّها ليلةّ ذاك لأنهٌا بصقتْ في وجهِه.
تنادي عليها، جارتهجا : تعالي يا أمٌّ نويصر لتطردي عنكِ النحسّ..لعلٌ فرحتّكِ تكتملج، بعرسِ ناصري،وعودةِ أبيه، تتعالي الأصواتج مؤمنة علي قولِها..
تشجقٌج الصفوفّ بارتباكي، تقتربج أكثر من دائرةِ النارِ، تلفحج وجهّها الجميلّ، تشجٌعجها نظراتجهجنٌ، تكشفج عن ساقيها..تتعلٌقج بها العيونج..
الدماءج المتدفقةج لرأسِها، تجثقِلجه.. ينتابجها دوار طفيف .. قلبجها يكادج يقفز ..
هي المرةج الأولي التي تشاركجهجن .. لسنواتي مضتْ كانتْ تكتفي بالفرجة..؟!
ألسنةج النارِ تتصارع .. تجشيحج بوجهِها عنها .. تصرخج بها النسوةج، لتنطلقّ بقفزةي صغيرةي خجولة..تعقّبجها قفزات .. يهدأج روعجها قليلا ..تتابعج القفزّ وهنٌ ينشدْنّ .. تنفرجج أساريرجها..يضمحلٌج اضطرابجها ..تعرفج السكينةّ .. تنتشي ..تزدادج نشوة ..تتناغمج ، واهتزازاتِ جسدِها الممشوقِ ، و تراتيلِ الطقسِ الحاميةِ ..
( أخطِرْ عنٌّا يا صفر ..مخك طفر..أخطِر عنٌّا يا صفر مخك طفل)..
تحسٌجها تطيرج..تتوردج وجنتاها ..تسبلج جفنيها علي عينين ناعستين .. يتراءي لها من بين سحبِ الدخانِ عائدا ملهوفا لرؤياها ، جتحلِق روحجها لملاقاتِه .. جسدجها يزدادج صخبجهج ، و حمي الطقس، وشهقاتج الصغارِ، وملح تذروهج النساءج علي وجهِ النارِ فيزدادج تشظيها معّه..
تلوذج بفمِها ذرةج ملحي هاربة ..توقظجها الملوحةج .. السحبج الداكنةج حولّها تتلبدج أكثر، تطوٌقجها سحابة قاتمة ..تطالعجها يدجهج السمراءج خلالّها ، متشبثة ويدا بضة لامرأةي أخري ، تلسعج النارج قدميها العاريتين، تنشبج الحرارةج سريعا بفؤادِها، تزدادج قفزاتجها علوا، قلبجها صهيلا ، وهي تجاهدج لرفعِ صوتِها اللاهثِ معهن أخطر عنٌّا يا صفر مخك طفر وأمنية أخذتْ تشتعلج بضراوةي داخلّها، أن تأخجذّهج (الطبعةج )البحر..!؟

القصة الفائزة في برنامج بي بي سي اكسترا بالإشتراك مع مجلة العربي الكويتية.

***

عنوان منال

أميمة الخميس

أميمة الخميسمن الناحية الأخري من الكوكب انحدرت باتجاهي هذه الرسالة، حين لم تكن كندا تعني لي سوي خارطة في كتاب الجغرافيا، تعلو الولايات المتحدة متممة خارطة أمريكا الشمالية، وقبل أن تتحول إلي مشروع مرعب مسلط فوق رأس منال.!
منال لم تكن معرفتي بها وثيقة للغاية، بل كانت تنحصر في زيارات متفرقة نستطيع أن نقنع بها النطاق العائلي الشائك والمضروب حول كل منا، إضافة إلي أننا تشاركنا في الجامعة في مادة من المواد في فصل التخرج، وكان فصلا دراسيا ممتعا محتدما بالتفاصيل الغرائبية حول منطاد كنا نلاحقه ونبث بداخله أنفاسنا المتحمسة الساخنة و ذلك قبل أن ينفجر إلي مزق و شظايا كانت منال المتضرر الرئيسي منها.
ولربما، في بعض عطل نهاية الأسبوع، كنا نقيم حفلات صغيرة في منزلنا، نرقص فيها ونلتهم الشطائر ونحلم بشبان نراقصهم . في تلك الحفلات كان بريق منال يخفت نوعا ما لسبب أجهله، بحيث كنت أشعر بتأنيب الضمير عقب انتهاء الحفلة لأنني لم أجالسها أو أجاملها طويلا، علي الأقل بالقدر الذي يتلاءم مع ما تشاركناه علي المستوي النفسي في مادة (فقه اللغة)، هذا الكمون والانحسار في أجواء منال والذي يمنعها من الانخراط في مجاميع الصبايا، لم يمنع كونها كانت تزين المقعد الذي تشغله..!
كانت تضع أحمر شفاه عنابيا غامقا، وترفع شعرها عن وجهها بطوق أسود متين لينسدل علي ظهرها، فتضئ بشرتها الزيتونية اللامعة، فتبدو كصبايا نجد اللواتي أورقن بعد سنين الطفرة، ظباء صحراوية مجلوٌة بعد سنين مغدقة الربيع، ويندر أن تستطيع تلمٌجس ملامح البحر المتوسط بها، باستثناء ذلك النفس الضئيل من اليافاوية المتمططة والتي توارت وذابت في مدينة الرياض.
رسالة مزدحمة بأربع صفحات من خط أنيق متلاحق بصفوف رفيعة وحريصة، نوعية الورق المزخرف وتنظيم الرسالة يشيران إلي طبع رومانسي لا يندمل.
وفاء:
ماذا أبثكِ: الشجوي أم الشكوي؟ كيف أنتِ؟ أكتب لكِ هذه الرسالة و الساعة لديكم الآن في الرياض الخامسة و النصف عصرا، لم أغير ساعتي عن توقيت الرياض لعل هذا هو الرابط الوحيد الذي يبقيني في تواصلي ما مع الرياض. و لا أبالي ما هو التوقيت هنا، ولكن علي ما أعتقد نحن في إحدي ساعات الصباح الطويلة المتشابهة، فرق التوقيت بيننا سبع ساعات...
الخامسة و النصف عصرا في الرياض..آآآآه..هل بدأت المدينة ترفع عن نفسها غطاء قيلولتها؟ لتتمطي المنازل مع صفير إبريق الشاي المنعنع؟ هل بدأت سيارات الآيسكريم تمخر الشارع؟ طريق المطار والاستراحات المتناثرة علي وجه المدي، حيث يبزغ دوما مع الأفق قمر ملتهب وعارم يشرع بوابة المساء، هنا القمر بردان وتائه، تلطمه السحب، ويتغشاه غبار الثلج، القمر هنا هو أمير الصحراء الضال حيث الوحدة والوجوم و الصقيع.
وفاء:
هل تذكرين أبلة مفيدة معلمة الإنجليزي؟ هل تذكرين حينما أوقفتني يوما في الصف وبدأتج أتلعثم وأتلجلج في نطق الكلمات؟ وقتها انقلبت سحنتها إلي شئ كدر وغامق وقالت لي: اجلسي.. الله يعينك علي حياتك. عندها صلصل الصف بضحكة مكتومة تمنع ظهورها هيبةج أبلة مفيدة، وجلست لأكره مادة الإنجليزي بصورة أكبر، لكنني لم أكره المدرسة، ربما لأن المدرسة كانت أوسع طاقة متاحة نطل منها علي العالم.كانت أمي تقول: اللي تترك المدرسة بدها جوز..! وكنتج أموت رعبا من فكرة أن يظن أبي أنني أريد زوجا.
الآن في مدينة تورنتو هناك فصول لتعليم الإنجليزية مجانا لغير الناطقين بها، مليئة بالهنود و الصينيين ويهود من روسيا. وفاء تخيٌلي أول مرة أري يهودا حقيقيين، ملامحهم قوقازية تشبهنا، لم أستطع أن أكوٌن تجاههم أي مشاعر علي الرغم من أننا تربينا ونحن نري سحنة جولدا مائير..ورابين كمصدر لعذاباتنا وآلامنا، أما هؤلاء فأحسهم بشرا ممتلئين بالعوز والتشرد، ورائحة ثيابهم القديمة لا تطاق.
يتناوب علي تدريسنا معلمة ومعلم، المعلمة عجوز ومملة، تخرج الأحرف مشوٌشة من بين تركيبة أسنانها، أما المعلم فهو شاب بعينين زرقاوين حادتين، صاح بي بعد أيام من تدريسنا: ما القصة، أأنتِ غاضبة مني؟؟ لا تنظرين إليٌ عندما أتحدث؟؟
بالطبع تجمدتج عندها من الخجل، وكنت بحاجة إلي مهارة لغوية فائقة تجفهمه أنني للمرة الأولي آخذ العلم عن رجل، أول مرة أقلب ملامحه بين عيني وهو يخاطبني ويمر بجانبي ويصحح دفتري، وقد يلقي بنكتة، وتتفرس عيناه الزرقاوان بوجهي منتظرا الإجابة، لم أستطع بالطبع أن أخبره بكل هذا. فتحت قوقعة صمتي واختبأت بداخلها، و أخذت أتأمل وقع حذائه الرياضي علي الأرض، وتذكرت أبلة مفيدة والفصل المختنق بضحكه: الله يعينها علي حياتها.
لكن يا وفاء هل تدرين أين يتم هذا التعليم المجاني؟؟ إنه يتم في الكنيسة.. نعم في الكنيسة، أمضي الوقت في تأمل تماثيل السيدة العذراء والمسيح عليه السلام، فهذه شروط إدارة الهجرة: أن نتقن اللغة الإنجليزية، ويجب أن نندمج ونندغم.. هكذا كأننا دمي من القش، تفرغ من القش وتجعبٌأ بتبن جديد يتلاءم مع أرض جديدة.
يأخذنا أبي إلي الكنيسة كل صباح، ويعود بعد الظهر لأخذنا، وعلي الغالب يكون ساخطا ويبدأ في التمتمة: لعل هذا يعجب العرب؟ لعل هذا يعجب المسلمين؟ لا يوجد بلد عربي أخو (......) حاول أن يمنحنا هوية واستقرارا، وها أنا أري أولادي بين يدي النصاري، (.....) أبو العرب أخوات (الهيك وهيك).. شتائم نابية مرعبة يتخللها كفر وإلحاد، فأخاف منه، و أسخط عليه ساعتها، ولكنني عندما أري كتفيه اللذين أخذا بالضمور بصورة عجيبة (لربما بمعدل شبر في الشهر) أشفق عليه وأسير وراءه مطأطئة صامتة.
كم هجرة عاشها هذا الرجل تعتقدين؟ عام 48 من يافا إلي بيروت، عام 67 من بيروت إلي السعودية، وعام 96 من السعودية إلي كندا...ماذا بقي في العمر؟ لربما خلال صداقتنا لم أحدثك عنه كثيرا، أو ربما كنا مشغولتين بالموضوع إياه، ولكنه حين غادر السعودية كان قد أمضي فيها تسعة وعشرين عاما، تماما كعمره عندما قدم إليها في المرة الأولي، عندما حضر متأبطا شهادة ميكانيكا نالها من الصفوف التعليمية لوكالة الأونروا ويعمل لدي شركة الجفالي وكلاء مرسيدس. إنه، إلي الآن، حينما تمر أمامه سيارة مرسيدس لا بد أن يتأملها بتبجيل واحترام فائقين. تسعةج وعشرون عاما قدمنا إلي العالم خلالها، سكنٌا في البداية في شارع البطحاء قبل أن ننتقل للعيش في شقتنا التي تعهدين بجوار حديقة الفوطة بشارع الخزان.لم يكن لنا كبير علاقة بالأوراق الرسمية، لكننا كنا ببساطة نستجيب لتعاليم تربتنا، فنتشكل وفق ما تمليه علينا فصول الرياض ومواسمها، ونستقبل مرور خريفها وربيعها فوق تقاطيعنا هامسا بأنها المكان...، وعلي الرغم من أن فلسطين كانت موجودة دائما في أحاديث أبي وزياراتنا المتقطعة إلي بيروت، ولكنها وجود غريب وموجع، كأب رحل عن عائلته وترك لهم تركة ثقيلة من الدم والدموع والثارات.
بينما أشعر أن منزلي هو شقة في الطابق الثالث داخل عمارة في شارع الخزان تجاور حديقة الفوطة التي تضئ أشجارها في الثلث الأخير من الليل عندما تحط فوقها عصافير الوله النارية عائدة من رحلتها السرية بين أحياء المدينة.
وها أنا اليوم لا أريد تصديق أنٌ الرياض من الممكن أن تتحول إلي حلم مجرد وبعيد..يا إلهي..كيف تحمٌّل أبي وأمي الغربة في البداية كم أحس بالوحشة هنا، أحس بأنني تحت بحر عميق وهادر، وأطنان من المياه تكتم رئتي.
نحن الآن في مدينة تورنتو وهي أكبر مدن كندا، لكن وجودنا مؤقت إلي أن نجد مدينة صغيرة تستقبلنا، مدينة أصغر وأرخص، ليضع أبي فيها مدخرات عمره، يبحث عن محطة بنزين، بقالة، بوفيه للساندويش، لكنه مرعوب وانجليزيته المهلهلة كثيرا ما تخذله. خوفه علينا لا يوازيه شئ.
أتذكر قول جدتي (أمه) عندما كانت تعايره وتقول له: أبو البنات هّمْ للممات..!!
وهو يظل يرقبنا، يذهب بنا إلي الكنيسة ويعود لأخذنا. يقول: بناتي لحمي مكشوف لعراء الغربة.
وفي المساء عندما تظهر مشاهد إباحية علي التلفاز يبصق عليه ويعود من جديد ليشتم العرب ويكفر..وهكذا.
الساعة لديكم الآن أصبحت السابعة والنصف مساء: آذان العشاء، حي علي الصلاة.
...وكرٌررر..تسمعين شارع الخزان يكر بأصوات أبواب المتاجر التي تغلق لأداء الصلاة آآآآه حي علي الصلاة. سأتوقف الآن. عنواني هذا مؤقت، لذا لن أنتظر ردا، حينما نستقر في البلدة الصغيرة نهائيا سأكتب لكِ.

منال
الانقلاب الخريفي 22/9/96
تورنتو

ظلت هذه الرسالة تسكنني لأيام طويلة، لم أخبر أحدا من صديقاتنا المشتركات بها، وكأنني اكتشفت ندبة أو عيبا في جسدها كانت تخفيه طوال عمرها، لمّ لمْ تخبرني بهذه التفاصيل؟؟ هل بسبب انشغالنا العميق بقصة المنطاد، أو لأنها كانت تود أن تظهر عبر واجهة مختلفة، واجهة تحميها من التبرير أو التسويغ الدائم الذي يجبتلي به الغريب عندما يحاول أن ينصهر في جماعة فيظل يبرر اختلافه ويعتذر عنه طوال الوقت.

هي اختارت الطرف الآخر المضاد لتختصر رحلة لربما لم تكن تعجبها تفاصيلها، فاختارت أن تتقنع بتلك الليونة الرطبة التي تمتزج بعناد مدلل أناني لفتاة نفطية يزدان منزلها باب وأم وعدد لا بأس به من الخدم، الحياة المطوقة بالمخدات اللينة والعصافير الخضراء.
منال وشعرها الخيلي الذي تلامس أطرافه خصرها، لم تكن جميلة كوردة، ذلك الجمال الضاج الصاخب، ولكنها كانت نضرة وفواحة كنبتة نعناع صباحية، أناقتها الهادئة، وعباءتها التي كانت تطويها بحرص وتبّتٌجل كأميرة تعيد عقدها الثمين إلي علبة مجوهراتها.

وصلتني الرسالة الثانية سريعا وقبل أن أتخلص من وقع الرسالة الأولي:
وفاء:
وندسور هو اسم المدينة التي سنستقر فيها، تحمل اسما إنجليزيا قديما، وتقع علي شاطئ يعج بالنوارس، توجد جالية عربية صغيرة هنا، وجميعهم يمتلكون مطاعم لبيع الفلافل والشاورما. لا أدري لمّ لا يصبح لهم وجود قوي؟! آه..ومنهم كأس المرار لا تضحكي، إنه ليس اسما لمشروب، بل هو اسم لرجل فلسطيني أردني، تخيلي هذا هو اسمه! يزورنا كثيرا وأكره نظراته التي تلاحقني، ربما لأن إحدي عينيه من زجاج!..
الساعة الآن في الرياض الرابعة فجرا، الشوارع شبه خالية والمدينة تتنفس بهدوء رتيب.. آه الرياض .. الآن طلٌج الفجر يقبل الأبواب، ويندي الجدران الخارجية بينما جدران الغرف الداخلية تكون قد تندت بمكالمات العشق .
أستمع إلي (محمد عبده) الآن( ياجمرة الشوق الخفي ...نسيت أنا وجرحك وفي) .
وفاء: لمابرحت تمر بخاطرك محاضرات (فقة اللغة ) وكيف حولناها إلي محاضرات في فقة العشق , كان يحمي ثرثرتنا التي لاتنقطع وجود أستاذ المادة خلف الشاشة التلفازية في الجامعة , ووجودنا نحن في عوالم أخري .
يالتلك الأيام , بحثنا عن أسماء أجداده ؟وبرجه الفلكي ؟ ارقام سيارته ؟ هل تذكرين حين استعنا بابن عمتك (محمد) الذي يعمل بالهاتف ليخرج لنا جميع أرقام هواتف منزله ؟ علي فكرة : بلغيه تحياتي .
كان هاتفي أحمر مطويا وبحجم الكف , يتفتق كوردة تبث لواعج وصبوات , عندما يغلق باب غرفة البنات في سقة الخزان يتفتق الهاتف الأحمر , يوم لي ويوم لإنعام , وتبقي حنان تتظاهر بالنوم وتهدد بأن تشي بنا أحيانا , ولكننا نعلم أنها تنتظر أن يصبح لها دور في يوم ما .
غرفة البنات ....كوم اللحم الذي قلص أكتاف بابا !!..
في العشق عادة لانموت , بل نصاب بالعطب والوهن وحالة من البحث اليومي عن قطعنا المفتتة , وعبدالعزيز لم يكن مجرد رجل أحبه...كان مصيرا, لم أسمع بأحد قد أحب قدر حبي له , وها أنا أعيش بعده . أذكر في مرة من المرات , اتصلت به وكان مشغولا مرتبكا وقال لي:
­ سأهاتفك بعد ساعة .
وأمضيت تلك الساعة وأنا أرتعد شوقا , تخبأت في خزانة الملابس لأنني لم أعد أستطيع أن أتحدث أو أتواصل مع الآخرين , وبدأت في العد من 1إلي 60 عددت ذلك (60) مرة اي ستين دقيقة : ساعة , حين انتهيت كنت قد هدأت نوعا ما , فاتصل هو بعد ساعة ونصف و لم أكن أدري مايقول ...فقط كنت أرتشف صوته ارتشافا .
هل تذكرين الكتيبات التي كانوا يوزعونها علينا في الجامعة تحت عنوان (اخيتي إحذري ذئاب الهاتف ) وعبدالعزيز لم يكن ذئبا , بل أنا الذئبة التي خاتلته طويلا...طويلا...
عبدالعزيز كان داجنا , وقضيتنا كانت بحاجة إلي مقاتل ...محارب من طراز نادر . كم درجا من الأدراج المطعمة بالعاج والفضة سينزل كي يصل إلي في شقة شارع الخزان ؟؟
أتذكر أنني شاهدته مرتين في التلفاز ضمن الوجوه التي خرجت لاستقبال الملك . أصابتني حالة من الخفة والاضطراب , ونشف ريقي واحتقن وجهي وكدت أصيح بالجميع , أبي وأمي وأخواتي وخالي : انظروا ..انظروا جميعكم هذا حبيبي , ولاأدري ليلتها كيف هدأت , ولكنني بالطبع لم أنم .
هناك سر لم أخبرك آياه عندما كنا في الرياض , فقد عرض علي مرة أن نتزوج سرا , وأن يخبئني داخل مزرعته الخاصة ريثما يجد لنا مخرجا , ولكنني ترددت ولم يلح هو , كان فقط داجنا رقيقا مفعما بالشعر , ومن يدري لو ألح لكنت الآن نعامة أو طاوسا تركض مع الطواويس والغزلان في مزرعته , زرتها مرة واحدة فقط , جولة سريعة بالسيارة وإياه , وأنا انتفض رعبا من خلف غلالتي : أنها شئ يشبه الجنة .
آه كم سفحت من قوارير كرامتي بين يدي عبدالعزيز , وأنا ألح عليه بالزواج , في نفس الوقت الذي كان فيه (ياسر عرفات) يفاوض اليهود من أجل محمية يكون هو رئيس شرطتها , وأنا أنفخ من أقاصي روحي في عبدالعزيز كي يواجه أهله بقصتنا , وأبي يركض يوميا من وإلي السفارة الكندية ويتمتم : صحن رزقي انكسر بالسعودية
تعبت ..تعبت لم أعد أستطيع أن أكمل الكتابة , أرجوك أن تتوقفي من إطلاق النعوت علي عبدالعزيز ووصفه بالسلبية , فكل مسخر لما خلق له . كان مبهوتا هائما , يغرد بالشعر , ولم ينضم إلي نادي القصور الضارية .
آآآآه..تعبت.. سأتوقف الآن. وبانتظار رسالتك، هذا عنواني (إلي الآن مازلت أطمع بألا يكون نهائيا..إلي أين؟؟ لا أدري!!).

منال
26/3/97

ألا يبدو من المجحف أن أدفع لكم برسائل منال فقط دون أن أدرج رسائلي إليها؟
ولكن لربما لم احتفظ بنسخة من تلك الرسائل قبل بعثها، أو لربما أردت أن أتوراي عن خشبة لا بطولة لي فيها، منذ تلك اللحظة التي قبلت فيها عند توزيع الأدوار القيام بدور الراوي الذي يشرع بوابة الحدث ومن ثم يختفي في ظلمة السياق.
وفاء:
وصلتني رسالتك وعلي الرغم من صفحاتها الثلاث إلا أنني أحسستها قصيرة مبتورة ولم ترو عطشي العميق. أدهشني خمول الأحداث وهدوؤها. كنت أشعر بعد مغادرتي الرياض أن جميع الأشياء تفلتت من قانون الجاذبية وتبعثرت مع الرمال، لربما هو نفس الشعور الذي يخالج الموتي بعد رحيلهم...ولكن الحياة تصر علي المسير!!
المكان هو إحساسك وعلاقتك به، وما سوي ذلك هو مجموعة من الشوارع تنبت علي جنباتها الأبنية، تماما كمشاعري هنا، فهي تمطر في الخارج الآن ومقدم النشرة الجوية يعتذر للمشاهدين عن الأجواء السيئة..تخيلي!!
يوم ممطر في الرياض يعادل مئات الأيام الواجمة خلف السحب الرمادية، المطر في الرياض..أي احتفاء!
عندما تمطر في الرياض كل شئ يرافق هذه العربدة، الحبر علي الورق، والأشواق واللواعج التي تثيرها أغنيات المذياع، والهواء الذي يترنح حول النافذة بنشوة المطر، ومخدات المنزل التي تتقافز كخراف من حلوي القطن..أي احتفاء!..
الساعة في الرياض الآن العاشرة مساء. كم مرة أمطرت في الرياض هذا العالم؟؟
شهادتي الجامعية هنا ديكور زائد، من يريد هنا أن يتعلم الأدب العربي؟ حاولت أن أبحث عن مدارس عربية، لعلي أجد من خلالها وظيفة ملائمة ولكن المدرسة الإسلامية راتبها شحيح كما إنها بعيدة في تورنتو. لذا اقترحت علي إحدي النساء العربيات هنا أن ألتحق بمدرسة لتعليم فن التجميل وتصفيف الشعر. قدمت أوراقي وسألتحق بعد أسبوعين.
لماذا لم تكتبي في رسالتك أي أخبار عن عبد العزيز؟ هل تزوج؟ ...أرجوك إن حدث هذا أخبريني , لن أموت , فقط أخبريني ؟
أما الخبر المهم الذي يطغي علي أحداثي هو..هل تذكرين شخصا سبق أن أخبرتك عنه في رسالة سابقة يدعي كأس المرار؟؟
حسنا: اسمه الحقيقي محمود لكن الجلية العربية هنا تسميه كأس المرار، وهم يشيرون بأن دماءه أصبحت كالعلقم لأنه ولد عام 56 أيام العدوان الثلاثي، وعاش وتربي في مخيمات الأردن وعاصر أيلول الأسود هناك، لينتقل بعده إلي بيروت ويلتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية وخرج من بيروت عام 82. أصابته الصدفية في أطرافه وفقد إحدي عينيه في قنبلة من قنابل الحرب الأهلية في لبنان، فاستبدلها بعين زجاجية، وغادر تونس إلي السويد، ومن هناك هاجر إلي كندا، وخلال 11 عاما في كندا لم يصنع شيئا، لم ينضبط أو يلتزم بعمل أو عائلة أو أي شئ.
لا يصنع شيئا سوي أن يتألم ويتحدث في السياسة، لذا سموه بكأس المرار. أما لماذا أحدثك عنه بهذا التفصيل الطويل؟؟ لأنه يطلبني زوجة. أربعون عاما وكأس مترعة بالمرار يريد أن يسقيني إياها.
يقول عندما يزورنا: حملك ثقيل يا أبو غسان دعني أساعدك، تخيلي، كأننا (بقج)! هل جربت الشعور بأن الحيز الذي تشغلينه في الحياة مكلف ومتعب ويجب أن تفرغيه بسرعه؟؟ علي الرغم من كل هذا (بابا) كان نبيلا كعادته، أرسل أمي لتسألني، أمي كعادتها تتواري خلف كتف أبي، هي تحبه بعمق، ولكن لا أدري لم لا تحاول أن تعبر له عن مكنونها. ليلتها تورم وجهي بالبكاء، فطلب أبي من الجميع أن يقفلوا الحديث في الموضوع. والحمد لله الموضوع انتهي، لكن لا أدري من يتواري خلف بوابة الغربة!
تحياتي للجميع لا سيما أختك نوال..بانتظار رسالتك.
ملاحظة: مرفق مع الرسالة صورتي بجانب بحيرة اونتاريو.

إلي اللقاء 1/6/97
منال

وفي الصورة كانت نضرة فواحة كعادتها ولكنها مختطفة، لا تنتمي إلي خلفية صورتها، علاقتها مع خلفية الصورة واهنة كأنها عملية مونتاج مفتعلة لمصور شعبي غير ماهر. بشرتها الزيتونية لم تعد تبرق الذي كان يبرق هو السلسال الماسي الصغير الذي أهداه إياه عبدالعزيز يوم تخرجها .
وتلك كانت الرسالة الأخيرة التي استلمتها من منال، لأنني ما أن بدأت أشرع في لملمة الأخبار والأحداث والتفاصيل التي أريد أن أحشدها في رسالتي لها، رسالة تليق بترقبها...حتي رن الهاتف...رن رنينا طويلا غامقا مزق أطراف ليلة واهنة تتهيأ لصيف الرياض.
وعلي الرغم من أن المرة الأخيرة التي استمعت فيها إلي صوت منال في الهاتف لم تكن بعيدة للغاية فإنني أضعته. أضعته تماما وهي تقول:
­ وفاء... بابا... مات.

كان هناك موت، وصوت منال، ومكالمة بعيدة من فوق البحار، وذهول وتمتمات. لم أتكلم كثيرا، وهي كذلك كانت فقط تنشج، وكلمات متقطعة يهدجها بعد المسافة، ولم أفعل شيئا سوي أن التقطت منديلا ورقيا لأحاول أن أناولها إياه! تلا تلك المكالمة مكالمة أخيرة أخبرتني بأنهم سيغادرون كندا، بناء علي طلب أعمامها في بيروت، وسيعودون للعيش مع جدتهم في مخيم صبرا لأن كوم اللحم بحاجة إلي من يستره، إلي من يلملمه من فوق حبال المنافي ويدثره ويحفظه في جيب رجل، فالغربة..كرب وعراء.
هكذا سمعتها تقول...أو ربما سمعتهم يقولون!
وحتي كتابة هذه الأحرف مازلت بانتظار عنوان منال في بيروت.

***

قصص قصيرة جدا

منيرة الإزيميع

في المرآة

هذا الصباح ،، عندما استيقظت ورأسي يؤلمني من أحاديثك وثرثرتك ليلة البارحة , وتثقله أغنيتك المفضلة الجديدة ،التي تسمعني إياها غالبا في نهاية حديثك .... عّبّرْتج المّمّرٌّ الصغير من غرفتي إلي الحمام ببطء التفت للمرآة في الجدار ورأيت وجهي.... في عّينيٌّ ,
هناك امرأة أخري تنظر إليٌ باستغراب

ماتفعله الاشجار الكبيرة

قال لي مواسيا بتأثر: لقد أصبحت شجرة ،نعم شجرة صغيرة ولكن قوية مورقة وستواصل النمو وتحمي الزهور التي نبتت في حوضها ستظلهم بظلها وتحميهم حتي يشتدوا... صدقيني لم تعودي بحاجته ).... كنت أدفن وجهي في مخدتي.وعندما رفعته لعالم لن أراك به بعد الان.. قال لي بنفس الهدوء والاستسلام الغريبين: وستفعلين مثلما فعل تماما.و ستذهبين أنت أيضا تاركة أشجارا صغيرة ...هذا هو ماتفعله الاشجار الكبيرة.... ... مازلت أحتضن بقاياأشيائك الاخري بعدما فقدت ملابسك رائحتك... كيف أكون شجرة كبيرة من دون ظلك؟

لوحة

كنت أستمع لأرائك الخلابة و المتطرفة في الفن والتجريد بعد نهاية المعرض....في الحديقة الخلفية لمنزلي...والأرجوحة تذهب بي وتجيء، وأصابع قدمي تجوس في الرمل، وترسم خطوطا طويلة، جيئة وذهابا مع الأرجوحة...والرمل يتموج بألوانه وتدرجاته الجميلة منتثرا،بقرب العشب. كانت تلك لوحة تركيبية ما، سقطت من أحد جدران معرضك الكبير .

ضوء مدينة

أضواء أعمدة النور تلمع كدموع صامتة طويلة علي وجه مياه المدينة وضوء القمر لايفعل شيئا سوي أنه يشارك المدينة حزنها....مدينتي.. مدينة حزينة..حتي حينما أقاموا بها ألاعبهم النارية لم تستطع النفاق وإدعاء الفرح....إجتاحني شوق عظيم لأسطنبول..بشكل أخرالأضواء تلمع هناك وتتراقص فوق مياه البسفور كانت الأضواء قوية غامضة وخلابة....وكأنها عيون عثمانية لكائن خرافي مستعصي علي الموت...سرت بين المدينة والبحر وتحت القمر..لوحدي لانوارس أناجيها..لاأدري أين تذهب النوارس في الليل....في كل مرة أجيء بها إلي هنا...أفكر بك، بأن أراك .فأقنع نفسي بأن الأمر لايستحق..وأن الأيام الصعبة التي أدخرك لها لم تأت بعد.

***

قمر

هناء حجازي

هناء حجازيويا قمر، من الذي أيقظك من النوم الليلة، وضع علي كتفيك هذا الشال القديم، ودفع بك إلي طريق الملهي
ويا قمر، من الذي نبهك أن إيجار المنزل لم يحن موعده بعد، لكنه سيحين، حتي لو بعد عشرة أيام من الآن، أو بعد خمسة عشر، أو بعد عشرين، أو بعد شهرين، شهرين لا يساوي شيئا في عمر الشعوب، لا تضحكي يا قمر، أنت تعرفين ما أقصد، شهرين لا تساوي شيئا في عمرك، وعمرك يمر سريعا، سريعا، في الرابعة عشرة قالوا أن لك قامة قصيرة ولن تنجحي في جذب الزبائن إلي رقصك، الزبائن تحب القامة الطويلة والممتلئة، وأنت لك جسد طفلة، قامة قصيرة ونحيلة، لكن، ليس أمامك خيار يا قمر، يجب أن تثبتي لهم أنك جيدة بما يكفي، سترقصين بسرعة، وتهزين خصرك بقوة، ستتعلمين الرقص بالعصا، تدورينها سريعا سريعا، تدور وتدور، كي تدور معها رؤوس الرجال، ستقفين أمامهم عارية، أو نصف عارية، تحاولين شدهم إليك بهذه الاهتزازات السريعة، قوامك يا قمر ليس مغريا بما يكفي، لكنك تبذلين ساعات طويلة من التدريب كي تقنعي من يشاهدك بحرفيتك العالية
أنت اليوم متعبة، متعبة جدا، يمر بذهنك علي نحو لا تعرفي له سببا كل ما مر بك من حوادث، وتتجاهلين تلك العينين اللتين تتابعانك بألم، كأنك كنت بحاجة إلي عينين تعطفان علي جسدك الآن، أنت لا تريدين هاتين العينين، عينان مثل هذه ونظرات مثل النظرات التي ترسلها تسبب لك الارتباك، وتجلب حزنا ليس مكانه حلبة الرقص، تعرفين تماما أن هناك عيونا أخري تتابعك، تنتظر أن تقعي أو أن تفلت منك العصا كي تشيح بوجهها عنك، وأنت لا تملكين هذه الرفاهية، رفاهية أن تخطئي، فيحسب عليك مدير المحل هذا الخطأ ليبدأ بالتأفف والبحث عن أخري، لها قامة فارعة، ويمكن غض الطرف عما تقوم به من أخطاء.
عليك أن تتجنبي تلك العينين، أن تغمضي عينيك بقوة علي ما فيها من دموع إذا صادف وتلاقت نظراتك بنظرات تلك العينين، عليك أن تكوني أكثر قوة وأكثر حسما، عليك أن تتمخطري كما تتمخطر صاحبات القوام الفارع، وعليك أن تبالغي في إظهار الضعف والرقة، الرقة التي لا تملكها غريماتك، وأوف، لا تتنهدي يا قمر، ولا تنفخي، أبدا، مهما شعرت بالقرف، والتعب، لن يحب الزبائن ذلك، ابتسمي واضحكي واغمزي ، واهربي من تلك النظرات التي ترهقك وتحملك بعيدا عن الجو الصاخب الذي تحاولين منذ دخلت أن تخلقيه، وتعمل تلك النظرات جاهدة علي تخريبه. لا تنظري إليها، لا تنظري، آخر ما تحتاجين إليه الآن، شخص يتعاطف معك، ثم يمضي آخر الليل دون أن يلتفت، بينما تجلسين أنت تعدين مع المدير أخطاءك وتعدينه ألا يتكرر ذلك، وتحاولين أن تتذكري ما الذي تسبب في إرباكك وتشعرين بحزن مباغت لا تعرفين سببه.
لا تنظري يا قمر
لا تنظري
أنت بحاجة إلي مهارتك ، قسط المدرسة بقي عليه، كم، شهر أو شهرين، لا فرق، لأنه حين يحين الدفع، يجب أن تدفعي، كي لا يقف ابنك في الشارع، ينتظر أن تضميه إلي صدرك، وتعديه ألا يتكرر ذلك.

اخبار الأدب
20 يوليو 2008