محاولة للطَّيران
لم أكن أقلدُ الطَّيرَ
فليسَ لي أجنحةٌ
لكنَّني كنتُ أجرِّبُ صدْقَ أمِّي
قالتْ لي يوماً:
الأطفالُ ملائكةُ اللهِ
على الأرضْ.
أغسطس 2004
Gent
شتاء
مطرٌ
والشَّوارعُ مغسولةٌ ومُزْرقَّةُ الوجناتِ
العاشقونَ لصوصٌ يسرقونَ المحبَّةَ علانيةً
ويرجعون إلى أسرَّتِهم بشفاهٍ مُحْمرَّةٍ
وسراويلَ مبلولةْ.
وحدها الأشجارُ تظلُّ واقفةً
ترقبُ أوراقَها التي تتهاوى في العتمةِ
لتطفو فوق المياه
وعلى البعد
شبَّاكٌ وحيد
خلفَ زجاجه المصقولِ دفءٌ، وكأسُ نبيذٍ
وروحٌ معلَّقةٌ في الفراغ
روحٌ
كانت تجاهدُ كي تمتصَّ داخلِها
بصبر الجبال
قطرات المطر.
نوفمبر 2004
Gent
وحدة
يهربُ من الزحام
وحين يغلقُ عليه باب حجرته
يسمعه الجيران لساعات طويلة
وهْوَ يستعطف آخرين
ويرجوهم المغادرة
كانوا متأكدين أنه وحده
وأنّه لا يعرف أحداً
بعد دقائق
يسمعون أصوات أقدام
تهبط السلَّم.
ديسمبر 2004
القاهرة
رقصة
وحدَها في البيت
أنهكتْها الموسيقى
وأتعبَها الشَّجنُ الغريبُ في صوت الكمان
ظلَّتْ ترقصُ سبعَ ساعاتٍ
كان جسدُها يختزنُ الإيقاع كنبْتةٍ عطشى
وصدرُها العفيُّ
يترجرجُ بزيتونتيه المنتصبتين كدرويشٍ
رمتْ نفسَها في الفراشِ عاريةً
بعد أن خلعتْ قميصَ نومِها الحريريَّ
هذا الذي
واصلَ الرَّقصَ وحدَهُ
من دون موسيقى
ولا عرق
ولا بحَّةِ الكمان الحزين.
أغسطس 2004
Gent
مصباح
وضعونِي على البابِ
كي أُنير لهم
يدٌ مسحتْ زجاجيَ المصقول
ويدٌ أشعلتْ ناري
ومضوا
ركلوا العشبَ بأقدامهم
وداسوا على ضوئيَ الرَّهيفِ فوقَ حجارةِ الطَّريق
الغرباءُ
لم يعدْ واحدٌ منهم إليّ
تركوني معلَّقاً هكذا
تاريخي كلهُ
صدأْ.
أغسطس 2004
Gent
جنازة
سرنا في جنازته
لم يخبرْنا أحدٌ أنَّ علينا اختصارَ الطَّريق
ولم يعطِّلْنا المرورُ
حملنا زهورَنا بكفوفٍ بلَّلها العرق
وانحنتْ رؤوسُنا خلفَ نعْشهِ في مذلَّةٍ
النَّعش
الذي تباطأ خطوهُ بوضوحٍ
قبيل بوَّابةِ القبورِ المشرعة
ظللنا نخطو
بنفسِ الإيقاعِ الحزين
عبرنا كلُّنا البوَّابةَ الحديديَّةَ في صفوفٍ متراصَّة
حتَّى الذين كانوا يحملون جثمانَه
أنزلوه على قارعة الطَّريق
وأغلقوا وراءنا البوَّابة بسلاسل عريضةٍ ومصقولة
فيما تابوتُه
يرتجُّ في الخارج
يرقبُ خطوَنا المرتبك
إلى قبرهِ المفتوحْ.
أغسطس 2004
Gent
سيمترية
صبحٌ
وزهرتان أسفل الشرفة
حين تفتحتا
كان انتهى للتوِّ من قبلته الأخيرة
على نهدها المترع
وكانت تخفي دمعتها التي أطلتْ بين جفنيها
صبحٌ
اثنان في الفراش
وزهرتان
واحدة ولدت لتموت تحت قدم عابرة
وأخرى ستصبح بعد زمن
أمَّاً لعائلة من الزُّهور.
ديسمبر 2004
القاهرة
قارب
ما جعلَني أحيا
ليس المياه
التي نُذِرتُ لها في غفْلةٍ منِّي
ولا الرِّيحُ البيضاءُ في شراعي
لا الذراعان اللَّتان تدفعانني للأمام
بمجدافينِ عتيقينِ
ولا مسامرات المسافرينَ على ظهري العاري
لكنَّه الرَّملُ
هذا الذي يمسُّه خشبي
فقطْ
حين أرسو.
أغسطس 2004
Gent
طيور
ثمَّة ما يوجعُ في المرأةِ التي تجلسُ قبالَته
ثمَّة كفٌّ تعصرُه حين يراها وهْي تسيرُ
تشدُّ خلفها سرباً من الحَمَامِ
والطيورِ التي لا تعودُ لأوطانِها.
سبتمبر 2004
Gent
شجن
ليسَ من ألمٍ
ولا من حَجَرٍ في الكلام
لكنَّها عيناكِ
حين ترفُّ فيهِما دمعةٌ
وتتعلَّقُ على جفنيكِ
دون أن تسقط.
نوفمبر 2004
Gent
ثلاثة
كنَّا ثلاثة
أنا... وهْيَ
وجثَّةٌ خضراءُ مدفونةٌ بحرص تحت أقدامِنا
قالتْ: لماذا تنبتُ الزُّهور نديَّة هنا؟
قلتُ: ماتَ عاشقاً.
كنَّا ثلاثة
أنا... وهْوَ
وجثَّةٌ خضراءُ مدفونةٌ بحرصٍ تحت أقدامِنا
قالَ: كيف يموتُ وحيداً؟
قلتُ: لأنَّه حيٌّ - لم يزلْ - فيها.
كنَّا ثلاثة
هيَ... وهْوَ
وجثَّتي خضراءُ تحت أقدامِهما
حين داسا على العشبِ
وقفتْ على قلبي البنتُ
فأمرتُ الزُّهورَ أن تنشرَ عطرَها
وحين رأيتُه خلسةً يبكي
صعدتْ دموعي
فوق أوراقِ الزُّهورْ.
نوفمبر 2004
Gent
طعنة
لي في المحبَّةِ قلبان
واحدٌ مِلْكُها
وواحدٌ عالقٌ بشصْ
كلَّما هزَّهُ نبضٌ
غارَ فيه النَّصلْ.
نوفمبر 2004
Gent
بورتريه لـ"ليشيا"
من عَلٍ
ترمي عينيها إلى العالم من عَلٍ
وحين تهمُّ بفردِ جناحيها الأبيضين
تشعر بنصلين من وجعٍ
يندسَّان في كتفيها
فتنكسر عيناها
خطوة وراء خطوة
فيما صوت رفيف جناحين حقيقيين
يخبطان من خلفها الهواء.
كنتُ معها
أدسُّ يديَّ في ترابٍ
وأحاربُ سرب النحل الذي تكالب عليّ.
مرةً أخرى
يدها
........................
...........................
اللهم نجِّ قلبي
فأنت أعلم مني بضعفي!
يناير 2005
القاهرة
على أطراف أناملنا
رميننا بعيونهنَّ
وتركننا منصوبين خلفهنَّ كأخيلةِ المآتة
العاشقاتُ
مؤوّلاتُ الأحلامِ
وقارئات الغيب في نظراتنا
عددْنَ أصابعَنا العشرَ على نهودهنَّ
وهنَّ يستعذن من تربيتنا السيئة
مسحنَ مياهَنا البكر من فوق جلودهنَّ المصقولة
بعيونٍ راضية
لكنَّها مذلولةٌ
بالخجل.
قلن كلاماً
تبسَّمن
دحرجن ضحكهنَّ خلف خطونا المرتبك
وذكَّرننا بالصلوات الخمس
لو افتقدناهنَّ
تركن في أدراجنا مناديل مزينة بشفاهنَّ
وخلَّفننا ورائهنَّ
نقفُ في منتصف الطريق
يحفُّ بوجوهنا الهواءُ
وتضربنا الريح الخفيفة
فيهتز عودنا الهشِّ
وتفرُّ من كفوفنا لمستهنَّ الدافئة.
بناتُ الصُّدفة
والصبا القريب
أطعمناهنَّ خبزَنا وجبننا الرَّخيصِ
في بيوتِ أصدقائنا
ليدخلننا جنَّات الله في الأرض
قاسمناهنَّ سجائرَنا التي نسرقُها خلسةً من علب آبائنا
ليعلِّمننا من أين تنبع المحبَّة
وكيف تكبر جزر العزلة فينا
قبَّلننا القُبلة الأولى
فعرفنا أن لشفاهنا وظيفةً أخرى
غير الصَّفير
خلف فرائس الطريق.
أُرسلن لنا
بباقات زهر ملفوفةٍ بعنايةٍ
محمَّلات بفاكهة من عنبٍ وتين
وشعورٍ طويلة تنسدل على أوراكهنَّ
كأغصان الكافور
نمنا في أحضانهنَّ عمراًً
أكلنا وشربنا معهنَّ
بصحبة موسيقى شرقيَّة
تنزُّ كالمياه من بين أصابعهنَّ
عرَّفننا طعم طفولتنا التي نسيناها على حلمات أمهاتنا
وجعلن منا رجالاً
ندوس على قلوبهنَّ بأحذيتنا
دون رفَّة ندم.
رحلنَّ عنا كطيور
تهاجر من أرض إلى أرض
قفلن صناديق متعهنَّ على أطراف أناملنا
فجأةً
تاركين كدمةٍ تزرقُّ فوق أناملنا
ودمعة من شجن.
لا اليد التي قبَّلناها خلسةً
ولا السلالم الغريبة التي صعدناها كي نسرق محبَّتنا
لا شبابيك الأهل التي أُغلقت في وجوهنا
ولا انكسار نظراتنا في البكاء
لا شيء يُمحى من عقولنا
وليس للنسيان في قلوبنا جلال.
نوفمبر 2002
القاهرة
حجاب
لو قاومته منذ البداية
لو دفعته بعيداً عن صدرها النَّاهد
لو ركلته بين وركيه بركبتها الملفوفة
ما تجرَّأ على رفع عينيه في عينيها
وما استباحتها يداه.
ابنة العشرين
أزالت احمرار شفاهها
بضربةِ منديل
ونزعتْ سوتيانها بإصبعين
الصبيَّة الهشَّة كطبقة ثلج
القصيرة القامة
الملفوفة الأرداف
تعرَّتْ فجأةً تحت ساقيه
إلا من حجاب عربيّ
بقى متماسكاً كعمامةٍ منصوبة
أو كشاهد قبر.
فبراير 2004
القاهرة
كنبعٍ وحيدٍ في الرِّمال
يعودون في المساءِ
مُنْهكين
هدَّهمُ التَّعبُ
والإفراط في التَّدخين
فقراء
جاءوا من الرِّيف والمدن السَّاحلية
ومن أقصى الجنوب
فلاحون بالوراثةِ
صيَّادون بالمصادفةِ
وصعيديُّون ينتمون لعشائر مهاجرة.
صموتون
لا يتكلَّمون إلا بحسابٍ
يدورون كل يومٍ
بحثاً عن فرصة عملٍ
أو بنتٍ ينامون في حضْنها
ليلهم الطويل
ياقات قمصانهم تقذف للوراء
كي لا يلوثها العرق
وتلتف فوق صدورهم الضَّامرة
أردية الصًّوف
المجلوبة من حرص أمهاتهم العجوزات.
لهم رسالة في الحياة
وجنَّات على الأرض
يسعون لخلقها
وأسر يخبئونها في رؤوسهم
منتظرين المرأة التي سيقاسمونها
المسئوليات والأبناء.
رومانسيون بالسليقة
وحزانى بالفطرة
وبريئون
معدنهم أصيل
ومياههم نقية
كنبعٍ وحيدٍ خلَّفته الحضارة
في الرِّمال.
أغسطس 2002
القاهرة
صمت
سنصمت برهة
كي نشدَّ أنفاسنا ثقيلةً
من أثر الدُّخان
نحكم قبضتنا الهشَّة على صدورنا
ونتنهَّد بحرقةِ المحبِّين
عندما تمرُّ برؤوسنا لحظات ضعفنا
وانكسارنا المذلِّ تحت وطئة العيون
سنجول في الطرقات بلا هدفٍ
ونبحث في الوجوه التي تمرُّ بنا
عن لحظة ضعفٍ تقوينا
أو نظرة حقدٍ
بلا سببٍ
صمتنا سيطول رغماً عنَّا
فيما الحروف تنزُّ من دمعنا
صافيةً ومصقولة
سننده في الفراغ
دون صوتٍ
ونرفع أجفاننا إلى السماء
كالمستضعفين:
يا صوتنا الذي يغيب
يا ندهة الملهوف
شدَّ من أزرنا لمرَّةٍ أخيرة
واجعلنا نصلب عود نبتتنا
هذا الذي يطوِّحه الهواء
تارة إلى الشمال
وتارة إلى اليمين.
ديسمبر 2003
القاهرة
أحدٌ سواي
كنتُ صغيراً
أعدو خلفَ حَمَام قريتِنا بحَجَرٍ
وأوشْوشُ النَّحلَ فوق عنب عائلتي بأسراري
أصطادُ الفراشاتِ من فوق الورود بإصبعين
وألاعبُ كلبَ جارتنا بنايي الذي صنعتُه من غاب.
جميلاً كنتُ
أفتحُ ذراعيَّ لأحضن الضَّوء
فيفرُّ
وأنفخُ في لهبِ الشَّمسِ كي يبردَ الجوُّ
أجري بنهمٍ كي أدفن رأسي في صدورِ رفيقاتِ أمِّي
وحين يندهنَ عليَّ
أختبئُ - مثل فأرٍ - بين زهرتين.
كنتُ أظنُّني نبياً
وأنَّني أحدٌ سوايَ
وحين كبرتُ
تأكَّدتُ من أحد الظَّنَّين.
نوفمبر 2004
Geluwe
يدها التي في مكمن ضعف*
لمْ تكن عَرْجاءَ
كانتْ كُتلةَ عِظامٍ
جُمِّعتْ إلى بعْضها البعضِ
بعفويَّةِ صانعٍ مبتدئ
الحَدْبَةُ الخفيفةُ خلفَ كتفها الأيمنْ
سوَّتْ بُروزَ نهديها الملفوفينِ
بصدرِها المَلْمُوم
وقِصرُ إحدى ساقيها خمسة سنتيمترات
جعلها تمشي بانحناءةٍ مفضوحةٍ؛
كان على يدها اليسرى
أن تتَّكئ بقوةٍ
إلى رُكْبةِ ساقها
فينحني جذعُها كلَّما مشتْ
كعبدةٍ.
سبعةٌ وعشرون عاماً
ولم ترعشها النَّشوةُ
بين ذراعين حقيقيتينِ
لم يختلطْ عرق جسمها البضِّ
بماءِ سواها
سبعةٌ وعشرون
لكنَّها شبقةٌ بما يكفي
لتخيّل طعمه في فمها
هِيَ التَّي
سرقتْه نتفاً في زحامِ المواصلاتِ العامة
تلصَّصتْ كممسوسةٍ
على شبابيك جيرانها المتزوجين حديثاً
أرهفتْ سمْعَها بحرصٍ
لطقطقة عِظام زوجات أشقائِها في الغرف المجاورة
وتركتْ نفسها هامدةً كجثَّةٍ
تحت يد جارِها الذي هَرَسَ لحمَها على بَسْطةِ السُّلمِ
حين انقطعَ النُّورْ.
كانت صبورةً
الصَّبر الذي علَّمها تحمُّل هشاشة عظامها
عمراً بأكملهِ
وقسوة زوجات أشقائها
حين ينادينها بكلمة "عانسٍ"
كلَّما تشاجرن معها.
المغفَّلة
لم تُبدِ نظرةَ تشجيعٍ
للجِلفِ الذي ألصقَ جذعَهُ بكتفِها في الأتوبيس
كذبَّتْ ظنونَها في البدايةِ
ثمَّ أغمضتْ جفنيها على كحلهما العربيِّ بقوةٍ
فيما سنَّتاها الأماميتان
تضغطان بنشوةٍ على شفتها السُفْلى
حين أحسَّتْ بانتصابه يتمسَّحُ كطفلٍ
بنهدِها المحمومْ
شعُرتْ به بارزاً تحت بنطاله الرَّماديِّ
وصلباً كعمودِ خيمةٍ
فحرَّكتْ كتفها قليلاً
كي تحسَّ نبضَه كاملاً
بين نهديها.
في جلستها الضَّئيلة أمام خاصرته
جرحتْها عيون المتطفلين وهْي تمسحها بنظرة لومٍ
فرمتْ عينيها خارج النَّافذة محطَّمة الزُّجاج
وهْي تدسُّ أصابعَها المرتعشة بين فخذيها
حيث بللٌ مفاجئٌ ضربها كزلزلةٍ
في مَكْمَنِ ضعْف.
مغفَّلةٌ
لو انتظرتْ قليلاً
لشعرتْ بقذفِهِ القويِّ فوق صدرِها المرفوعْ
لكنَّها سحبتْ كَتْفيها إلى مسندِ كرسيَّها العتيق
حين أحسَّتْ بروحِها تنسابُ كقبضةٍ من مياهٍ
بين وركيها
وتشنجتْ أصابعُها الخمسةُ
على حافةِ الإفريزْ.
كلُّ ليلةٍ
تدخل غرفتَها المطلَّة على الشَّارعِ
وتكمن كقطةٍ هاربةٍ تحتَ غطائِها الثَّقيل
تكتم أنفاسَها المحمومةَ
وهْيَ ترفعُ قميصَها الأسودَ الحريريَّ
إلى ما فوق حلْمتيها الصّلبتينْ
( قميصها الأسود الشَّفاف
غافلتْ أمَّها ذات ليلةٍ
وسلبتْهُ خِلْسةً من جهاز عرسها )
بيدٍ مرتجفةٍ ومعروقة
ترفع حريرَ قميصِها
حتَّى تشمَّ رائحةَ الصَّابون المعطَّر
وعبقَ حبَّات النَّفتالين
وتنظر إلى جرحِها السَّاخن
بعتاب أمٍّ.
تقرِّب كفَّها منه
بخوفٍ في البداية
كطفلةٍ تجرِّب أثر شعلةِ شمعةٍ
على يدها الصَّغيرة
ثم تدعكه ببطءٍ وخفَّة
فتهتزُّ عروشُ آلهةٍ وأربابٍ
تفترضُ وجودهم
في الأعالي.
لم تكنْ عَرْجاءَ
كانتْ كُتلةَ عِظامٍ
جُمِّعتْ إلى بعضها البعضِ
بعفويةِ صانعٍ مبتدئٍ.
مفتوحة السَّاقين
فوق فراشها الكبير
كأنَّما أعضاؤها مفكوكةٌ
كنجمةٍ معلَّقةٍ في ليلٍ بلا انتهاء
أخفُّ من دعاءٍ على يدين مفتوحتينِ
وأثقلُ من وجعٍ على جسدين يلتقيانْ.
علَّمتْها الوحدةُ
والأيامُ
التي تخطو فوق تُرابِها بلا أثرٍ
كيف تربِّي وجعها السَّاكن بين وركيها
كذنْبٍ لا يغفره الله
كيف تكوِّره كحجرٍ
وتقذفه بعيداً
بكفٍّ واحدةٍ أو أقل
عرفتْ كيف تروِّضه ككلبٍ
وتجعله خاتماً
في إصبعها الصَّغير.
فقطْ
إصبعان يفتحان شفتيه برفق
وثالث يحكُّ بظرَها المنتصب
بلا رحمةٍ.
البنتُ التي تبكي بنهنهةٍ
كلَّما لسعتْها المتعةُ بين وركيها
تغلقُ عينيها على وجعٍ
وتفتحهما على أوجهٍ مضبَّبةٍ
تجيءُ من عدمٍ
وإلى عدمٍ تروحُ
أوجهٍ
يظلُّ أصحابها
مصلوبين بين ذراعيها
وهمْ يحكُّونَ ألسنتَهم السَّاخنة
في عضوها المفتوحْ.
يا الله
ثلاثة أصابعٍ فقطْ
وتشعرُ بجسدٍ خشنٍ يهتزُّ معها
جسدٍ جميلٍ
يعرفُ كيفَ يغطِّي كلَّ جزءٍ من جسْمها الملفوفِ
بفُجْرٍ محبَّبٍ.
تهتزُّ
تترجرجُ انحناءاتُها في فرحٍ موجعٍ
وصدرُها البريُّ يعلو ويهبطُ
كأرجوحةٍ
فيما مِلْح دموعِها يلسعُ جفنيها المحتقنينِ
وثمَّة إصبعٌ
إصبعٌ وحيدٌ
تَقشَّر لونُ طلاء ظفره
يندسُّ إلى أقصى نقطةٍ
ببطءٍ رحيمٍ
بين وركيها.
2003 - 2004
القاهرة - Gent
* القصيدة التي رفض ناشر الديوان ضمَّها إلى المجموعة.
لاعبُ الشّطرنج .. ذو الابتسامة
إلى "Omer Vanhee"
لم أشرب معه كأسَ نبيذٍ
ولم نجتمع على حبِ امرأةٍ
لم نتواعد لنخرج في نزهةٍ عبر الحقولِ
ولم نشتبك في مناقشة سياسية
كنتُ الأجنبيَّ الوحيدَ
الذي دخل بيته الرِّيفيَّ
وكان أوَّلَ من علَّمني كلمةً سيئةَ السُّمعة
في لغته الأم.
ابن سلالة الفلاحين
النَّازحة من المجهول
إلى المجهول
المكرمش الوجه
ذو الابتسامة
والأحفاد الذين ألْهتهم الحياةُ
ظللتُ أضحكه ليلة أمس
حتى أتعبتُ قلبَهُ المُنهك
خبطَ المائدة ثلاث مراتٍ بقبضته المضمومة
وسرحَ بعينيه المضبَّبتين بالدموع
خارج الشُّرفة.
الكهلُ
ابن السِّنين
الرِّبعة ذو الظهر المحْني
حكى لنا وهْو يقهقه كمسطولٍ
كيف أسره عساكر "هتلر"
وسحبوه عُنوةً إلى خرائب ألمانيا
كان عليه أن يحرسَ ثكْناتهم في الليلِ
ويقصَّ على زملائه مغامراته العاطفيَّة في قريته البعيدة
كلَّ صبحْ
سألني فجأةً عن عمري
وحين رددتُ عليه، تنهَّد بحرقةٍ:
"آهٍ ... يا ابن الذي لم يأتِ بعد!"
بكْرُ أُمِّه
مربِّي الصَّبارَ
والأغنيات الشَّعبية المرتجلة
خاضَ حربين طويلتين
وسيجارته معلقةٌ بين شفتيه
كساريةٍ
شربَ كؤوس خمرٍ
تكفي لتغييب مدينةٍ بأكملها
وظلَّ يقظاً لمعاركة الأجانبِ في الحاناتِ الليليةِ
صوناً لكرامته
شربَ السَّجائرَ الأمريكية المهرَّبة مع الأتراكِ الأجلافِ
في ضواحي موسكو القديمة
وشاغبَ جيرانه في المناسبات
بخبثٍ ومحبَّة
تلصَّصَ على مفاتن صديقات رفاقه في الحرب
بخجلِ فلاحٍ
وظلَّ وفياً للصَّبايا الفلمنكيات اللواتي تركهنَّ معلقات وراءه
كعاشقٍ
ربَّى أطفاله الثَّلاثة على حبِّ المسيحِ
وبثَّ فيهم كراهية الكنيسة
بدأب راهبٍ.
البحَّارُ
لاعبُ الشّطرنج
ماتَ وهْوَ نائمٌ في فراشه
لم تقتله مطواةُ سكِّيرٍ في حانةٍ ساحليةٍ
ولم تثقبُ قلبَه رصاصةُ غدرْ
لا امرأة شرختْ قلبه بهجرٍ
ولا دهستْهُ سيارةٌ طائشةٌ
على الطريقْ.
كان يحاولُ أنْ يلفَّ ذراعه حول امرأته
حين انحشر الهواءُ في رئتيه
وتوقَّفَ عن الدوران
الدوران الذي استمر في قفصه الصَّدري
اثنين وثمانين عاماً
توقَّفَ فجأةً
لترتسم ابتسامةٌ هازئةٌ على شفتيه المزمومتين
ويموتْ.
كان يضحكُ
فتظهر أسنانُهُ الصِّناعية
بيضاءَ ومصفوفةْ
وحين كان يشردُ في البعيدِ
كنت أرقبُ عينيه الزرقاوين بفضولٍ
فألمحُ - في كلِّ مرةٍ -
طيفَ سحابةٍ شفافةٍ
تمرُّ خلسةً
في بؤبؤيه.
أبريل 2004
Gent
تهشُّ على أغنامها من دون عصا
كلُّهم تمنُّوها
وأعيتهم الحِيَلُ
مَن لم يمسّها بيديهِ
تخيَّلها
ومَن أعْرضتْ بوجهها عنه
انتقم من جسمها الذي يطوِّفُ في دماغه كعقربٍ
بين ساقي سواها.
أصابعُها
الخيوطُ العشر الملفوفة وهْيَ تهتزُّ في مشيتِها
أربابُ الرِّضا إن تبسَّمتْ
وآلهةُ الإشارةِ لو رضيتْ
الشَّفافة حين تمسُّها الشَّمسُ
البضَّةُ كرغيفِ خبزٍ
أصابعُها
كانتْ تدَّخر خامَ الأنوثةِ
من منجمِ الزَّمنِ
وتهشُّ على أغنامها
من دون عصا.
طويلةٌ
حين تمشي
تشعرُ بالعيون وهْيَ تتمسَّحُ بإليتيها المرفوعتين
خطوها الثقيلُ على الأرضِ
له مريدونَ
يديرونَ رؤوسَهم خلفها برهبةٍ
ولرجَّةِ نهدها الملفوفِ
نصلٌ يحزُّ القلوبَ
كأنَّ الذي يرتجُّ في جلبابها البلديِّ
ربٌّ
يقيمُ - حيثُ يشاءُ - عَدْلَهُ
وحين يغضبُ
يُذلُّ.
سيِّدةُ البيتِ
كلَّما فتحتْ شفتيها تعلِّم البنات
احمرَّتْ وجنتاها كمراهقةٍ
وملأ وجهها البريء
عرقٌ فاضحٌ
كأنَّها لم تتقلَّب عمرها كلَّه
في أحضانِ الرجالِ
كأنَّ السنينَ مرَّتْ عليها
وعفَّتها مختومةٌ بين وركيها
كطابع حُسْن.
الغجريَّةُ
تاجرةُ السعادة
التي تشتري وتبيعُ
تتربَّعُ في جلستها الرزينة
أمام فنجان قهوتها المُحَوُّج
وهْيَ تلفُّ سيجارةَ الحشيشِ
وبناتُها الجميلات يُحطن بها
كلُّ ما تعلَّمتْه من أجساد الرجالِ
من بكائهم كالحريم في حضنها الدافئ
من قسوتهم المفتعلة بين ساقيها
ليخرجوا آهةً أو أنَّةً من بين شفتيها المرتعشتين
يعودون ملتذِّين بها ككنزٍ إلى ليلهم الطويل
ما تجرعتْه منهم عُنوةً
وما شربتْه بنشوةٍ كشهدِ الملكاتِ
ما انفضحَ
وما انحجبَ
تهبه لهنَّ عن طيبِ خاطرٍ
تقولُ:
لي في المحبَّة ألف فدَّانٍ
وأرضكنَّ - لم تزلْ - بورُ.
كنتُ صبيَّةً، تقولُ
تكوَّرَ نهدايَ في صدري كبرتقالتينِ
كلَّما دُستُ الأرضَ
رنَّ في أذنيَّ صوتٌ
كأنَّ لكعبيَّ حدوةً كالفرسْ
ولعينيَّ مثل بومةٍ كُحْلهما الربانيّْ
نسوةُ الحيِّ يستعذنَ بالله
من رائحةِ الكافورِ الخارجةِ من صدري
ويخبِّئْنني عن العيونِ
كان ظلِّي يسبقُ قدميَّ
ونظرتي للناس أوْهَى - عند اللهِ -
من خيط العنكبوتْ.
كنَّ يرقبْنها بفضولٍ
فيرتعشن كيماماتٍ تعرَّين من ريشهنَّ فجأةً
لكنَّهنَّ يحترمنَ صمتَها المتلجلجَ
ويرقبنَ حروفَ الكلامِ
وهْيَ تنبتُ فوق شفتيها ببطءٍ
وينصتنَ بشغفٍ طفوليٍّ
لصوت تنفُّسِها الذي يئزُّ في الهواءِ
وحين تنتبه لرأسها المنحنية على صمتها
تومئُ لهنَّ بعين مكسورةٍ:
أنتنَّ رحمة الله في الأرض
فلا تتكبرن!
كان ابن جارنا، تقولُ
شدَّني من شعري الذي فضحتْهُ طرحتي
ورماني تحتهُ
خبَّأتنا عيدانُ القمحِ في غيطِ أبي
وتصلَّبتْ مشمشتانِ غامضتانِ في نهديَّ
كنتُ نشوانةً
فتحتُ ساقيَّ دون أن أدري
لكنَّهُ - الغَشِيم -
دسَّ يده الخشنة ليدعك مائي
وبحث بشفتيه عن حلْمتيَّ
قنع الغبيُّ بما طالتْه يداهُ
وخلَّفَني وراءه كخرقةٍ
لكنَّني أقولُها لَكُنَّ بصراحةٍ
عشتُ عمري كلَّهُ
أعدو خلفَ المتعةِ التي منحها لي
بلا فائدة!
أكتوبر 2004
Gent
في الظِّل الغامق لامرأةٍ لا تشبهنا
I
لا شيء
أنا قابعٌ في آخر السَّطرِ
تليني نقطةٌ
ويسبقني الفراغْ.
II
مثل أعمى
يستردَّ نورَ عينيه من ظلمةٍ في القاعِ
كان وحدَهُ
يدرِّبُ يدهُ على الكتابة
ووحدَهُ
يختبرُ قدميه بالمشي
وصدرَهُ بتحمِّل ثقل النيكوتين
وقلبه بالحزنْ
الأرضُ التي هجرتْهُ قديماً
أنبتتْ زهراً غريبَ الشَّكلِ
طيِّبَ الرَّائحةْ
وناسها
لم يعودوا أنفسهمْ.
III
كأنَّكَ على سفرٍ
ترتَّبُ الأشياءَ
تزيحُ الأتربةَ الخفيفةَ بضربةِ مِنْفضةٍ
وتنصتُ لشروخِ الأصواتِ في أذنكَ
وهْيَ تتبدلُ من حالٍ إلى حالْ
تودِّعُ الأصدقاءَ بنظراتٍ مكسورةٍ
وابتساماتٍ معتذرةٍ بلا سببٍ
كأنَّك على سفرٍ
تحتارُ ما الذي تحملهُ معكَ
وما الذي تهملهُ
أيُّ الكلماتِ تقولها لأمِّكَ
وأيُّها لا تلفظه
كأنَّكَ
على سفرْ.
IV
فتَّشوه
أخرجوا من جيبه الصَّغير
صوراً عائليةً مكسَّرةَ الحوافِّ
أولادَ عمومةٍ لم يرهم منذ سنينَ
وأسماءَ رفاقٍ طارئينَ أوصوهُ بأنْ يرعى المحبَّةَ بالسِّؤالْ
وثيقةَ سفرٍ
وقبلاتِ أمٍّ محلاةٍ بملحِ دموعِها لحظة الوداعْ
أحجبةً ضدَّ الخوفِ
وقلاداتٍ تحفظُهُ من العينِ
سنابكَ خيلٍ متعبةٍ من التِّجوالِ في كتب التَّاريخِ
وتذكاراتٍ رخيصةً من الأصدقاءِ البعيدين
نوباتِ حنينٍ
وفتياتٍ لم يعصرهن بعدُ
بين ذراعيه.
فتَّشوه
أوقفوهُ في آخر الصفِّ
وصوَّبوا عيونَهم عليه بغِلٍّ
نادوا على اسمه
مرةً
مرَّتين
وحينَ لم يستجبْ لهم
تركوهُ يمضي خفيفاً
لا هدهداتِ أمٍّ تُثقلُ عليهِ
ولا أدعية
تشبكُ أكفُّها الصغيرة في ذيل ثوبه الذي يحفُّ التُّرابَ
كلَّما مشى.
V
في البردِّ
عدَّ أصابعَهُ
( زرقاء ..
ومُصفرَّة الأطرافِ )
أحكمَ غلقَ سترتِهِ على صدرهِ الضَّامر
وشدَّ دخانَ سيجارته بحرقةٍ:
يحرمُكِ اللهُ كلَّ راحةٍ
يا التي تركتِني
وحيداً.
VI
لا لغة
ولا كلامْ
لا التَّنهيدةُ الحارقةُ
وهْيَ تخرجُ مكسورةً من صدري
ولا نظرةَ عينيَّ المهزومتين قدَّامكِ
لا شيءَ ينقلُ حضوركِ فيَّ
وجسمكِ
لا تترجمُهُ الحروفُ.
قدمكِ
وهْيَ تخطو
يدكِ وهي تلمسُ القلمَ
عيناكِ خلفَ نظَّارةِ الشَّمسِ
شفتُكِ مضغوطةٌ تحت سنَّتيكِ الأماميتين
شعرُكِ حين تهزُّه الرِّيحُ
ويبتكرهُ الهواءُ
صوتُكِ المبحوحْ
غناؤُكِ الخجول وهْوَ يتدحْرجُ فوق الوسائدْ
ضحكتُكِ التي ترنُّ في صمتِنا
كعملةِ نقدٍ ممحوةِ الوجهينِ
خفَّتُكِ وأنتِ تخبطينَ الأرضَ
في خطوكِ الهشِّ ...
............
.........
لا لغة
ولا
كلامْ.
VII
قالتْ لهُ أمُّهُ:
لتكنْ تلكَ اتكاءتَكَ في البعيدِ
صوتكَ الذي ترفعُهُ خفيةً في الظَّلامِ
يدَكَ التي تبْطشُ بها الآخرينَ
ودمعتَكَ التي تبكيها
عليهم!
قالتْ له:
أرِنِي يديكَ
يا ابن بطني
وبِكْري الذي سيكونُ سندي في القادمِ من الأيامِ
أرِنِي يديكْ
هنا طَبْعُكَ الذي ربيتَ عليهِ
وعمرُكَ الذي كبرَ تحتَ عينيَّ كنبتةِ ظلّْ
ندوبُ جسدكَ التي ارتكبتْها رعونتي بغفلتي عنكَ
وسقطاتُكَ الخمس من فوق ركبتيَّ
هنا
أسماءُ أخوتِكَ ..
أبوكَ وأمُّكَ
طينتُكَ التي عجنتْها الآلهةُ
وصلصالُكَ الذي سوَّاهُ رحْمي
فبحقِّ الذي في يديكَ
دعْ عينيكَ معصوبتين
وافتحهما خلسةً من تحت الغمامةْ
مدَّ يدكَ لمن يسحبكَ في الزِّحامِ
واسحبْهُ أنتْ
حين تقرصُكَ الوحدةُ في مكمنِ ضعْفٍ
قوِّ قلبَكَ بندهةِ أمِّك
وأَرِحْ كتفيكَ من تعبِ التذكُّر
ولا تصف أحداً
إلا بالذي فيه
وامرأتكَ أنتَ ربُّها وراعيها
فاجعلها فَرْشَتكَ وسترَكَ عن العيون
اضربْ غرورَها برحمةٍ إن عصتْكَ
وانهضْ لها إن دخلتْ عليكْ
وإن رأتكَ تبصُّ إلى حُسن سواها
قلْ لها:
لي قلبٌ تحفُّ الصَّبايا إن مررْنَ بهِ
وعينٌ مختومةٌ على الجمالِ
فكيفَ أنهيها؟!
لتكن تلك اتكاءتَكَ في البعيد
هذه الصفحة البيضاء
ليس قبلها
ليس سواها.
VIII
مسَّتْ يده الباردة وهْيَ تتنهَّد
نظرتْ إلى شفتيه
كأنَّها تنتظر منهما أن يصفاها
همَّ بالكلام
حين شعر بعينيه تسبقانه:
أنتِ ككأس النبيذ هذا
أوَّلكِ مُسْكرٌ
وآخركِ مرارة.
IX
يلوي لسانَه كلَّ يومٍ
ليفهمه الناس
تنبت فوق شفتيه ابتسامات شاحبة
وهو يربتُ على كتف نفسه
يقولُ:
غداً سوف أرى أمِّي.
X
رغم تعبه
رغم قدميه اللتين تئنَّان كمومستينِ
أكلَ الغرباءُ لحمَهُما عُنوةً
رغم قلبه الذي يهرولُ من سياط التَّدخين
حطَّ رأسَهُ على فَرْشَتِهِ
شمَّ رائحة شعر امرأته المنسدلِ جواره
تنفَّس كلَّ الرَّائحة بكامل رئتيه
أغمضَ عينيه الضِّيقتين وهْوَ يفتح فمه قليلاً
بوسع حلْمة نهدها الذي يرقد هادئاً تحت كفِّه
وضغطَ شفتيه في رقةٍ بدائيةٍ
جعلتْ لسانَهُ المحمومَ
يميِّز ما بين دمعه المالح الذي فاجأه
وحموضةِ لبنها
هذا الذي تخثَّر كجرحٍ على شفتيه
تسعة وعشرين عاماً
بكاملِها.
XI
قالَ:
كيف تركتِ محبَّتك الحرير كقبر وَليّ
يحكُّ الأحبة أياديهم المدنسة على قطيفتها الزرقاء
ويبتهلون إليكِ؟
يا بنتُ
ردِّي فمي إلى طفولتِهِ
وامنحيني بئريَ الأولى
ضعي يدَكِ دافئةً بين وركيَّ
شدِّي عليه
واجعليه صلباً مثل ساريةٍ
أنا سأفتحُ أوراقَ وردتكِ التي تنامُ هادئةً
وأجعلها تزهرُ من جديد.
XII
قالتْ له أمُّه:
عندما تكون هناكَ
في البعيد الذي لم أره
في الظِّلِّ الغامق لامرأةٍ
لا تشبهنا
في البيت العتيق
الذي تحرسُه الأشجارُ الغريبة
والطرقاتُ الباردةُ المكسوَّةُ بالثلجِ
نمْ
وتدفَّأ بأنفاسي
يا ولد
لا تحلم بامرأةٍ ليستْ ملكَ يمينكْ
ولا تُهرِّب نظرتك تحت فستانٍ لم تشترهْ
وابقِ عينيكَ مفتوحتين
اتقاءً لغدرٍ.
مارس 2004
Gent
أنا السِّكين
التي تئنُّ تحت يدي وهْيَ تذبح الذكرى
كنتُ هناكَ ...
في المسافةِ التي لا تُحدُّ
بين نظرةِ العجوزِ
وألبومِ الصِّور
بين جناحِ العصفورِ
وبابِ القفصْ
في الفراغِ الرَّهيفِ
بين شفتي العازفِ
وفوَّهةِ النَّاي
في الخط الفاصل بين انحناءةِ رأسِ رجلِ الجيشِ
ونياشينه المرتَّبةِ خلفَ لوحِ الزُّجاجِ
بين بريق نظرةِ الدَّميمِ
ومشيةِ الجميلةِ حين تمرُّ
بين دمعة الوحيد
وضوءِ الشِّموع
بين بحَّةِ صوتِ المغنِّيةِ وهْيَ تندهُ في الغيابِ
وحديدِ مكبِّر الصَّوتِ المعطَّلْ
بين قلب الأم
وخطو ابنها في ساحةِ الحربْ.
كنتُ حاضراً بكامل مُلْكِي
بين عصا الأعمى
وحجارةِ الطَّريقِ
بين صوتِ المتكلم
وأذن الأصمّْ
كنتُ الفارق بين ملح عرق الأجير
والملح في لقمته.
كنتُ هناك
في نظرة الحبيبة للعشيقة من تحتٍ لتحتْ
بين رفَّةِ عين اليتيمِ
وعناق الأم
بين شَفَةِ القاضي
وقلب البريء
بين قميصِ الغائب
وصدرِ الأرملة
بين نهدِ المراهقة
ووردة تذبلُ في كتاب
وكنتُ المسافةَ
بين إصبعِ الوحيدةِ
وبظرِها المنتصبْ.
أنا..
أنا ارتباكةُ اليدِ
في تلويحةِ الوداع
ارتعاشةُ الشَّفتينِ حين تهمُّ العينُ بالبكاءْ
أنا السِّيجارةُ الثلاثونَ
وأنتَ وحدكَ
أنا العمى ذاتَ يومٍ خريفيٍّ
حينَ لم ترَ انتفاضةَ الوردةِ التي أزهرتْ تحت قدميكَ
أنا شجنُ النَّايِ الذي يحفُّ بكَ كلما تذكَّرتَها
عجوزٌ تصعدَ السُّلم وهْيَ تتشبَّثُ كطفلةٍ بدرابزين البيتْ
أنا الطيورُ حين تفرُّ من غابةٍ تحترقُ أشجارُها
قبل أن تكتفي من الظِّلِ
أنا الظِّلُ حين تزيحُهُ من مكانهِ الشَّمسُ
أنا المرآةُ في يدِ مليحةٍ صارَ عمرُها ضيِّقاً خلفها
كدرب
أنا السِّكين التي تئنُّ تحتَ يدي وهْيَ تذبحُ الذِّكرى
أنا الذِّكرى
وأنتَ تجاهدُ كي تستعيدَها أو تمحوها.
وأنا الفضَّاحُ
تدلًّ عليَّ العيونُ
والدَّمعُ
اسم فضيحتي.
اسمي القابضُ
والقاتمُ
والشفافُ
ومغشي البصر
اسمي السَّاكنُ
والحارقُ
والمرُّ
ومربِّي القلوب
اسمي الراكبُ
والقاعدُ
والمقيمُ
وذو الجلال
اسمي الشَّاردُ
والظَّالمُ
واللاسعُ
وحجر الصدور
اسمي اللامعُ
والبارقُ
والرَّاجلُ
ورابطُ الألسنِ في وتدِ السُّكوتْ.
ملكُ الملوكِ أنا
صولجاني مشهْرٌ في يدي
ونصل خنجري لا يستثني أحداً
عرشي لا يزول
ويسمونني:
الألمْ!
ديسمبر 2004
Heusden-Zolder
مغْناجٌ .. اسمه الشِّعر
كلُّ ليلةٍ
يقفُ تحتَ رحْمةِ الضَّوءِ الموشَّى بالظِّلالِ
يحبّ العتمةَ
حاملُ الخَرَزِ
ذو الوشم
أمْكرُ من ذئبٍ في الخلاءِ
وأخفُّ من ريحٍ
على أوراق الشجرْ.
هو الصَّائدُ
نعرفُ
لكنَّه يتخفَّى في سمْتِ الفريسةِ
يقولُ:
ليسَ كلُّ الذي في يديَّ حريقاً
لا سلالتي أنجبتْ غيري
ولا رفعْتُ محبَّتي البيضاءَ
عن أبنائي المخلصينَ
وأنا أنا
ابنٌ للمصادفةِ
مَكْمَنُ القنْصِ
وغزالةُ الشَّاطر.
ملعونٌ
يمشي ساحباً خلفه سرباً من البومِ
من النَّحلِ
من ملكاتِ النَّحلِ
نايُهُ
جرحه المفتوحَ على وقعِ الخُطى
يحطُّ قدماً في الهواءِ
وأخرى على الأرضِ
ليسَ براقصٍ
لكنَّه غندورٌ
مغناجٌ ابن اللئيمة
يمرُّ على الصَّبايا في النَّهارِ
ويهمسُ لهنَّ في خُلوة الليلِ:
يا شقيقاتِ روحي
في الشَّجنْ.
كنَّا نظنُّه عربيداً
يدوخُ من كأس
ويسكرُهُ نبيذنا المعتَّقُ
لكنَّه كلَّما شربَ
كان يكتبُ
ليمحو
ويمحو
ليكتب
يمسكُ بيديه خناقَ جثَّةٍ اسمُها المعنى
يمسحُ بكرامتِها الأرضَ
أمام عيوننا
ويضحكُ
رافعاً رايتَهُ الحمراءَ في ندى الليلِ
كأنَّهُ امتلكَ اللغاتِ
أو
ورثَ
أختامها.
حاولنا صيدَهُ مراراً
كنَّا نعدُّ له شِراكنا في الفجرِ
نسنُّ سكاكينَ ورثناها عن جدودنا الميتين
في الليالي التي لا ينيرُها قمر
نفرشُ طريقه بالفخاخِ
ونقوم من نومنا كلَّ صبحٍ
لنراه يَدوس على عشبِ الأرضِ
فتصلصلُ أجراسُهُ المعلَّقةُ في ثيابهِ
لتختبئ في جحورِها كلابُ الشَّوارعِ
وتصرخُ في البريَّةِ
بناتُ آوى.
ما منعنا عنه
ليس الخوفُ
ولا رهبة أن يكون في حوذتنا
لا ذهبه الذي يعمي عيوننا
ولا لقمته المغمَّسة في ملحِ التَّشردِ
لا فضَّته التي تبرقُ في الأصيلِ الغريبِ
ولا ثوبه المهلهل الذي يجفِّفه على فزَّاعة الطيور فوق الرَّابية
لكنَّهُ شيءٌ به
لو مسكناه مرةً
فقط
لو.
مخفوراً بأسرابه
بصليل أجراسه
بنور عينيه اللتين تتبسَّمان
بزمَّة شفتيه الغاضبتين
كان يعبر بقدميه الحافيتين فوق ظلالنا
فنشعر بخفَّة خطوه الهشِّ
فوق صدورنا
ويمسُّنا رفيف أجنحةٍ غامضة.
ابن الحرام
يظلُّ يدورُ على عقبيه أمام عيوننا
هازئاً من تخاذلنا
من رؤوسنا المحنية في مذلَّة الخسران
من دوراننا ونحن عائدون
فارغو الأيدي
ليس سوى
كَدْمةٍ زرقاءَ فوق شفاهِنا
من عضَّة النَّدمْ!
أغسطس 2004
Gent
صدر الديوان عن دار شرقيات للنشر والتوزيع بالقاهرة
يناير 2005