في الثوب، يدٌ لم ترتفع؛ لتدارُك دمعٍ لا يهتدي إلى مصطبة العين، يبقى راكداً في منابعه ويأسنُ. وهناك أيضاً صدرٌ، بشعرٍ قليلٍ، صالحٍ كمبرّر لامتناع النوم، عيونٌ لا ترى شيئاً غير سجائر فوق طاقة المنفضة، أصابع مطويّةٌ على شكل قبضةٌ تُستخدم لاتكاء الذقن، أصابع زغبها خفيف، أشعثُ، أصابع لم تعجز حتّى الآن عن احتضان السجائر، أو الارتفاع أحيانا لحكِّ فروةِ رأسي، الانبساط لاحتواء الشعر والمكوث قليلاً هناك.
وقد لا يفيد القول أنّ في الثوب شفتينِ سالكتين، فقط، لنفث الدخان، وأنّ فيه بشرةً تبرهنُ أن الجوَّ حارٌّ، وأنّها ليست وعرةً لأنّ العرقَ كان يتسلّقها دون حذر.
وقد لا يفيد القول أيضاً أنّ فيه أذنين مشغولتين بتهدُّمِ الليل، لا تريان ما يمنع ولوجَ سبّابةٍ تتحرّك سريعاً ثمّ تمضي، مشغولتين بدخول الهواء وخروجه من الصدر ذي الشعر الخفيف، وبزعقةِ القدّاحة الهيّنة.
في الثوب ذاته، قدمان سائبتان، وجدتا أنهما تحملانِ جسداً داخل ثوبٍ صعب، ثوبٍ لا يجابه، وليس من اليسير التقدّم فيه، أو الفرار من نسيجه، الثوب الذي لا بدَّ من عبوره.
وقد يكون في الثوبِ، ما ليس فيه، من شراهة الحوائط، وجسارة الضوءِ، وكذلك من وقاحة الأرض التي لا تصوِّبها ألا نحو أُولي الثياب المتشابهة. من استغراق نملٍ في الذهاب والمجيء، في الدخول والخروج من ثقبٍ تحدّق فيه وتفكّرُ لو تخرج من ثوبٍ صار واسعاً حدَّ الألم.
في الثوبِ، ذراعانِ هادئتان، يهمي الضوءُ فوق شعرهما الخفيف. ذراعان سئمتا الاجترار. ذراعان هادئتان، لا ترغبان في رؤية الثوب، أو صلابة نسيجه. ذراعان كَفَّتَا حتّى عن التفكير في مجرّد محاولةِ شقِّ الثوب.
المهم أنّه ليس في الثوب، ما يدلّ على البكاء.@
ليس من الضروري، التفكير في لكز مروحة السقف، أو حتّى التردد في إيقاظ مكيّف الهواء. ليس ضروريّاً الاكتراث لدرجة حرارة الغرفة، ولا مهمَّاً الانتباه متأخراً إلى أن سكّر " النسكافيه " كان أكثر مما ينبغي، أو أن الاكتفاء بملعقةٍ واحدةٍ هو ما كان يجب.
هل الضوء كان كافياً. ورقٌ أصفر لكتاب " صانعة المطر " لـ (رؤوف مسعد)، أكان الأمرُ يتطلّب زيادةً ولو قليلة في الضوء. انشغالاتٌ كلّها ليست ضرورية؛بقيّة " النسكافيه "، هل ينبغي دَلْقُها قبلَ غارةٍ على عددٍ من الصفحات، أو بعد ذلك، برودةُ السائل أو حرارتُه المترتبة على المراوحة بين أمرين يسيرين كهذين، كل تلك أمورٌ غير ضرورية. أَوَ لم يتدحرج حجرُ ضرورتها الكبير، ساحقاً كلَّ ما في طريقه.
ليس هناك ما هو ضروري، حتّى الاستلقاء، أو الاتكاء، المبالاة بالعمود الفقري.
وليس ضروريا أيضاً، إلقاء نظرةٍ على الساعة، أو معرفة ما إذا كان النهار ما يزال يمرّ،أو أن الليل يوسع خطاه.
ليس القيام بفعلٍ ما أو تركه، ضروريا، ليس الحرص على إسكات الغسّالة أو دحرها. الإصغاء إلى أمورٍ كانت تشغلُ إلى حدٍّ قريب؛ فتلك أشياء ليست، أبداً، على شيءٍ من الضرورة. أمورٌ كثيرة لم تعد ضرورية، حتّى أخْذ نَفَسٍ عميقٍ، وطردِه سريعاً، أو الراحة التي يبعثها القيام بذلك.
حتّى المرأة التي انتبهتَ إلى خطاها في الممرِّ، ثمّ استقرّتْ بقامتها في وجهك، لم تقم بأدنى فعلٍ ـ مع أنه كان في وسعك ـ لإخفاء ورقةٍ مملوءةٍ بهذرك، كما كنتَ تفعل عادةً، لأنكَ لم ترَ حينَها ضرورةً، أبداً، لذلك.
الخروج إلى الشارع، الانتباه إلى اتّجاه السيارات وسرعتها، ارتداء الثياب حتّى تكون لائقاً، الدخول إلى " البقالة "، اللهاث خلف ملحقٍ أدبيٍّ، التمعّن في صفحات الجرائد، الانتظام داخلَ صفٍّ أمام الرجل المحاسب، التظاهر بعدم الاكتراث للنساء المتبضعات، الكآبة التي يورِّثُها جهدٌ كهذا، والتي تخرج بها على شكل تعبٍ، تحملها معك إلى الشارع على هيئة فمٍ مزموم، نظرٍ تائهٍ، يديْن مشدودتين تحتَ ثقلِ ضرورة قيامك بكلّ ذلك كما لو أنّه، حقيقةً، ضروري.
هكذا وبكل بساطةٍ، دونما تعقيد، ما من شيءٍ ضروري، ولا ينبغي التفكير، وإنْ قليلاً، ما إذا كان ضروريا، هكذا، لا يوجد ما هو ضروري، حتّى ولا قول كل ذلك.
الضروري الآن، هو ألاّ ترى ضرورةً لشيءٍ، أيّ شيء، حتّى حياتِك. @
1420هـ ـ الأحساء
1
أمام الأرض الرطبة
أمام الأرض الرطبة.
انتصاب الجذوع
في وجه الضوء.
وضوح الظلال
التي لا تنتهي
لتصبَّ في العتمة المجاورة
في الأجساد الترابية
الصغيرة
لم تُلحظ حركتُها
حين غُودرت
في جدرانٍ
انهارت في الصدور
حيث تتدحرج الأحجار
طويلاً
كانوا يرفعون أصواتهم
لمواراتها
أمام الأرض الرطبة
كان فمي يسيل
في غير اتجاه
وعن شَقِّ طريقٍ
، ولو صغير،
كانت يدي عاجزة.
2
في الأحلام
لأننا، لم نخرج
يومَ امتلأت هياكلنا بالدخان
ولأننا أضعنا اليدَ
وانتظرناها
تجيءُ طافيةً
في مياه الأحلام
ولأننا مع اليد
أفلتْنَا الفكرة.
3
نهار
جثّة النهار المنتفخة
جذبناها
إلى راحاتنا
دفنّاها
أسفل الذقون
طمرناها تحت الانتظار
كيلا ينتبه الزوَّار.
1420هـ الأحساء
1
البيتُ الذي
البيتُ الذي يعبر راحة الأصابع
باتجاه راحة اليد
هو البيتُ الذي ينهنِهُ عندَ الرسغ
ثمّ يصعدُ حتّى آخر الذراع
يمكثُ عند المرفق قليلاً
حتّى إذا فاجأتْهُ عضلةُ الزندِ
تخبَّطَ بشفتيه.
2
الغُرف
ألجُ الغُرفَ
تتقدّمني حيرتي
ألجُ الغرف التي
لطَّخناها بالرغبات
ألصقنا فوقَ حوائطها
قطعاً من صمتنا
نحن الذين
كَبُرْنَا داخلَ أشجارٍ
تحترقُ الآن.
3
سكن
لم نعد من الأحلام
ولم نبكِ أبداً
لأننا نرى الأوراقَ
نائمةً
على العكس
كنّا نسقي الوجوه
بماء الانتظار
وكلّ زهرةٍ
نعدُّها
صالحةً للسكن.
1420هـ ـ الأحساء
1
الصبح
الصبح فوقَ الموائد
يختلطُ بالأطباق
الصبح الذي، يَنْحُلُ في المناديل
يتحدَّر من حديث الأواني
الصبح الذي يرفع المياه
يأخذ قشرة الحياة
إلى تجاويفه
يأخذ وجهي
يذرِّيه في الشوارع
يرفعه قليلاً
فوقَ جئير السيارات.
2
المساء
أصلُ إلى المساء
ساعاتُ نهارٍ كاملٍ
ورائي
أصل..
ليالٍ، وأيامٌ
سنواتٌ ورائي
أصلُ خاوياً
مثلَ حشرةٍ
ميْتةٍ
يدفعها موجٌ
أو يقودها جيشٌ
لهذا الجُحْر.
1420هـ ـ الأحساء
1
مباغتة
الحشراتُ تسرّع قوائمها
صوبَ نقطةٍ واضحة
وأبطئ لأباغتَ الكلام.
2
فيض
وكنتُ في الدفاتر
أسوقُ فيضَها إلى حِجْري
كنتُ في هوائها
الذي وهَّجَني
كنتُ في دخانها
الذي أراني
الأسماءَ
مغروسةً في التراب
والأسنان
تعضُّ
الفراغ..
3
اقتلاع
الجسدُ، فوقَ المائدةِ
دُلِّكَ جيداً
وجرى الماءُ كثيراً عليه
أخذ الأفكار التي
التصقت به أبداً
استدرجَ الهواجسَ
التي تعذّر وصولُ
الأصابع إليها
اقتلع صيحاتٍ
رُبطت في زواياه
فيبست هناك.
الجسد،
هادئ ونظيفٌ
وما من كلمةٍ
يمكن الوثوقُ بأنها
لن تأتي
وتعيث.
4
فرار
أعودُ من فلاة صدري
ليس هو العطش
ولا الرمل الذي أكل القلب
وليس عواء الخيبة
ما جعلني أفرُّ
وأبرك في ظلّ الكلام.
5
حيرة
حيث النوافذ
الأكثر ضيقاً
الأرض المرفوعة
فوقَ النظرات الفارغة
الثياب التي
علَّقناها
واختفت حين عدنا
كذلك الزغبُ، أعلى الشفاه
سُرِقَ هو الآخر
لم يعد هناك
غيرُ خطىً لا تقود
إلا إلى الرمل
هكذا
تُركنا لحيرةِ أيدينا
تُركْنا وحدَنا
للكلام.
6
تلك الكائنات دائماً، تلك الكائنات
تلك الكلمات
تؤكّد أنها هناك
غير مرئيّة
النسمةُ وحدها
تحملُ رائحتَها
وبلا سبّابةٍ
تفضح جهتها
ليجِدَّ قلبي صوبَها
تلك الكائنات
التي، دائماً، أتخيلها
تحتَ السياطِ
عارية.
1420هـ ـ الأحساء
أنْ ننسى، أن نضعَ خطّاً فوقَ أحاديث نسند بها لقاءاتنا؛ كي لا تميل
أنْ نضعَه فوقَ ثيابٍ، صمدنا داخلها، ولم نتقهقر..
كنّا جسورين على كلّ ما يجعلنا قريبين من النسيج، لا نتزحزح
أنْ ننسى، أن نُخْرِجَ من جيوبنا كلَّ الطرق، نطوِّحُها قليلاً، ونقذفها مثل حصاة..
الطرق التي درجَتْ فوقها الضحكات، الطرق التي ضاقت، الطرق التي نحُلَتْ فلم تجد غيرَ شرودِنا كي تنطوي فيه أنْ نكفَّ أيدينا عن التواطؤِ مع المرايا.. كي لا تقولَ
أنْ نخرجَ على المرآة، أنْ نفرَّ من حبالها؛ نافرِين أو دامِين حتّى.
ألا نبقى أسيري نظرةٍ بلهاء
أنْ ننسى، أن نكسر بيضةَ الحياة، ونسيل، بأبيضِنا وأسودنا، ليس بأيدينا غير عيونٍ تسعُ كلَّ الظلال أنْ نغفر حتّى الغبار، الذي جاء متعباً، فاضطجع واضعاً رأسه على أوّل السطر أنْ نركضَ مسرعين خلف اليد، كي لا تصدم بيأسها، اليد التي استشاطت، فلم تتورّع عن أيِّ شيءٍ حتّى الكتابة. 1420هـ ـ الأحساء
لن أقول: أنّ الصبحَ
مرَّ بلا هوادةٍ
ولن أقول أنّه
وضعَ شمسَ الظهر
طيَّ كتابه
كيما يعودَ
لن أقول أنّه
ضربَ النوافذَ
والجدران
ضربَ داخلي
وتركه مكشوفاً
لمن مرُّوا
أو تحدّثوا
ضحكوا
لمن قعدوا ساهمين
في عربات قطارِه
غافلينَ حتّى
عن بحّةِ ثيابِهم
لن أقول:
أنّ الصبحَ الذي
مرَّ بلا هوادةٍ
ملأَ كفَّيَّ
ولم ينشفْ .
16/10/1420هـ
الصباحاتُ
تذبل في الأيدي
المساءاتُ
تتدلّى في الروح
عاريةً من الأوراق
ولا يحطّ على الشفاه
إلا الحمام
المهذّبُ بالطلقات
ليس لنا صدورٌ
حتّى يعبرَ الغيمُ
ليس لنا عيونٌ
حتّى يهطُل
كم مرّةً عبرتْنا الكلماتُ
وعذّبتْنا حسكاتُها
كم مرّةً عبرنا بها
إلى جهاتٍ
تشبهُنا كثيراً
حين تتّسعُ حدقاتُها
حين تنكفئُ على أوراقِها
وحين تفقدُ النجم.
نكبرُ في الصراخ
في الشفاه الذابلة
في الابتسام الهارب
في الندم الفظّ
وفي الحنين
في كلّ شيء
نكبر
إلاّ في زجاجٍ حادٍّ
يتفتّحُ في العيون
ويدلُّ علينا.
الأحساء ـ 8/11/1420هـ
أنت تذهب في الشاي والتبغ، وحدك تذهب؛ ولا أحد بإمكانه أن يذهب معك، تفتقُ الوقت وتدخل، دون أن تنسى رتقه خلفك، تمكث هناك وحدك، دقائق قد تطول، تسوّي مكانك، تستبعد حصى أيامك وتكنس عيدان أوهامك، وتبقى، فلا أحد ينتبه إليك، ولا أنت تنتبه لأحد، ولا تريد، أنت لا تنسى رتقَ الفتق، أو إسالة مادّةٍ لزجةٍ على الرتق؛ مادة تجلبها من أماكن عميقة في روحك، أماكن بعمق وجهك حين تذهبُ، فذهابك على هذه الطريقة وبهذه الصورة، ليس عبثاً. تقعدُ شغلُك النظر، من عينٍ مفتوحة، أو مواربة، وقد تكون مغمضةً بإحكام، تحدّقُ في الشيء ولا تراه، تذهب فيه ولا تصل إلى قاعه، كأن النظرة ليس لها آخر وكأنّ الشيء بلا قعر، هكذا مثل مصادفة، تذهب في الوقت ولا تجيء، تفتقُه وتذكرُ جيّداً رتقَه، أو طمسَه، تحرص على ذلك ولا تنساه، حتّى لا يُعلَم مكانَ دخولك، تذهبُ كأنك لستَ هناك، تتقن الطمس، حتّى ليتعذّر على أيٍّ كان الهجسُ بوجودك حيث أنت، تذهب وتقيم جدرانك حولك، فلا تترك مكاناً لباب أو نافذةٍ، أو حتّى أقلّه كوّةً، تتيح لأحدٍ أن يطلّ عليك فيعثر على نظرتك، التي تبدو، كما لو أنّها لا آخرَ لها، كوّة يقع خلالها على ذهابك، فيفكر للحظةٍ أنّك ذهبتَ.
أنت تذهب جيداً، وتتقن ذلك، فأنت لا تفعل شيئاً على الإطلاق، غير أن تذهب بعنفٍ وقسوةٍ أيضا، ولا أظن أحدا يحتمل عنفَ ذهابك هذا ولا قسوته، حتّى يغامر أو يتهوّر، ويذهب معك، لذا أنت وحدك الذي يذهب ولا يرافقك غير ذاتك، ذاتك التي درّبتَها على هذا الذهاب، وحقنتها بتلك الجرأة، ولا يُعلَم بماذا أغريتها حتّى ذهبتْ معك، ونقدر أنْ نقول ـ دون أن يكون بذلك أية مغالاة ـ أنت أغويتها حتّى سارت على خطاك، وولجتْ معك شرنقةَ ذهابك، واختفت، وقد تكون تفعل ذلك من باب الخوف عليك، فإنْ هي فعلتْ وتركتك تذهب وحيدا، فمن يضمن لها عودتك من ذهابٍ كهذا، فلا أحد يعرفك أكثر منها، أو يتكبَّدُكَ مثلُها؛ فهي لم تذهب معك إلا كحارس ولم ترافقْك إلا كأمٍّ تدرك أن ذهابك هو الذهاب بعينه.
تشعل ضوءك الخاص، الضوء الذي لا يستطيع أي ضوء أن يعوّضه، تشعله لتتمكّن من الرؤية بكل وضوح؛ فبدونه لن ترى أبداً، وقد تتعثّر بوحدتك فتوقها وتكسرها، وقد تبقى في الظلمة وتبقي ضوءَك مطفأً لأنك لا تريد أن ترى شيئاً، لأنّ الأشياء، أحياناً، تفسد وحدتك التي اخترتها خاليةً من أي شيء.
الأحساء ـ 8/10/1420هـ
اللائق أنْ أترك لهذيان أفكاري أن ينساب، أن أزيح ما قد يعترضه من عثرات، أن أفكّر به كأمرٍ جدّي لا ينبغي التهاون فيه أو التكاسل عن القيام به، عن حمله والاعتناء به. اللائق أنْ أصغي إليه، ألاّ أتشاغل عنه بأشياء أخرى، وأنْ أهتمَّ.
من اللائق أنْ أحترم ضوء النّهار، أن أفتح له عيني، ذاك أنّ من حقّه الولوج إليها، فتلك مهمّته وذاك شغله.. أنْ أصغي إلى الصمت حتّى ينتهي، أو يغيب، وأن أكفّ عن الترفع عليه؛ احتقاره أو الاستهانة به، مع أنّه يجوز لي أن أوتّرَه بصوت تنفُّسي، أن أمسّه بأنيني، حتّى وإنْ أؤذيه بالهمهمة، يجوز أن أخرقه بالتحدّث ولو إلى نفسي، ويباح إنْ تطلّبَ الأمرُ أن أشقّه بالصراخ، وأن أبكي بكائي بين وقتٍ وآخر، إذا برزت الرغبةُ فيه.
يليق أن أستمع إلى عبور السيارات متتابعة أو متفرقة، يفصل بينها وقتٌ يتيحُ لي أن أفكّر بما يليق ومالا يليق.
اللائق أنْ أبتسم أحياناً، بلا علّةٍ فعليّةٍ، أن أضحك أيضاً، أتحدّثَ في أمورٍ أفهمها جيّداً، أو أفهمها فقط، وأخرى لا أفهمها، لكن أجدني مضطراً، لأنّ من اللياقة أن أفعل.
اللائق أن أتصبّب عرقاً، لأنّ طبيعة الطقس تُمْلِي عليَّ هذا التعرّق أحياناً، أو يكون ذلك لأنّي لم أنمْ جيّداً، وأن النومَ استعصى عليَّ دون سببٍ واضح.
من اللائق أن أختبئ خلف كتبٍ أقرؤها، أحياناً، دون رغبةٍ، لأنّ ليس لدي ما أفعله أو أرغب فيه، ولأني يضربني بين فترةٍ وأخرى، ويؤذيني في العمق، حزنُ المثقفين وهو بكامل لياقته.
من اللائق أن أتسامح مع ظلمة الليل، وبياض الأوراق، ومنه أيضاً أن أعتذر لحبرٍ عن كلّ ما نجم عنّي وكان ليس لائقاً؛ من هذرٍ، أو سكوتٍ، أو أفكارٍ كسرتْ سياجَ الحظيرة وانطلقتْ فجأةً، عن قلمٍ لم يكن أبداً لائقاً؛ لا في التماع عُرْفِهِ ولا في قوائمه التي يرفعها..أتأمّل الآن حدوتيْه وأنام.
الأحساء ـ 13/10/1420هـ
أيها الوحيدُ، قد صار لمحبّتِكَ سنام.
أنتَ الوحيد، حتّى يسيلَ الندمُ من عقيرتِك.
أنت الوحيد، مرُّوا على بابه؛ فألفَوا طيوراً كثيرة.
ما من ريشةٍ، إلا وتحفظُ لك نعومتَها.
موّهتَ وحدتَك بالشجر، فبرزتَ رغم قسوةِ اِخضرارك.
أيها الوحيدُ، ماذا ستقول لهم، وقد قدُّوا قلبَكَ من قُبُلٍ ودُبُر .
أنتَ الضريرُ، حتّى تصلَ إلى مياهِك
أنت الماءُ، كلّما كفر بك المكان
سيظلّ غصنُكَ طافياً، تنكره الأوشابُ والطحالب
أنتَ الغريقُ، كبُرتْ عليك يدُك، فلم ترفعْها
سيكون لقلبك، ما كان لشجرةٍ نخروا لها الفؤاد.
أنت النائم، إلا عن جمرٍ زيَّنَ راحتيْك.
ما من ورقةٍ، إلا تعضّ عليك بياضَ الندامة.
أنت الحمامة، حينَ زيَّنوا رقبَتِكَ بالنسيان.
أنت الحمامة، حين سقطت من أعلى هديلها.
محرم 1421هـ ـ الأحساء
( 1 )
اليوم، يسقط إلى الأبد آخرُ حرّاس عرشكِ
آخرُ البراهين على مملكتك
آخرُ المخلصين
ظلّ لصيقاً لك
لكن لم يعد يحتمل
فتدحرج قطعةً سوداء
خاتمةُ حبلِكِ السري
( 2 )
بكاؤهم
لغة الغضاريف
لغة الجلد الطريِّ
القشرة الهيّنةِ
تسَّاقط عن أجسادهم
يوماً بعد آخر
الأصابع الصغيرة
الأيدي الصغيرة
التي تتخبّط.
بكاؤهم
سلامُ الروح
يُعزَفُ
فتنتصب له
حتّى الأشجار
( 3 )
يبكون
لأنّ تيجانهم سقطتْ
وإلى الأبد
يبكون
لأنّهم أُرغموا على
مغادرة المياه
ولأنّ عروشهم تحطّمتْ
مع مراكبهم
على صخور أيامهم
الأو
لى
( 4 )
ملوكُ العزلات هم
يزمُّون الجسد على هجعاتهم.
كلّ ما يلمسونه سماء
نجمتهم بأيديهم،
فلا يتيهون..
انشقّت بهم الأرض
فأفلتوا النجم
خرجوا
يبحثون
ويبكون
( 5 )
سلاماً..
أيّها النجم الذي
يبرق في السرير
سلاماً يا ابنتي
يومَ تنامين
ويومَ تبتسمين
يومَ تبكين
سلاماً..
حين يسمّونكم
الملائكة
كخطأٍ شائع
( 6 )
من اليوم
علينا، أنْ نتعلّم
كيف نشمّ
ونحن نقبّل
وكيف تكون المحبّة
بلا غطاء
وأنْ نتعلّم
كيف تحمل الأشجارُ
أغصانَها
وكيف أنّ صدورَنا
لم تكن إلاّ أعشاشاً
علينا، أنْ نتعلّم
كيف نتحدّث
وكيف نلثغ
مثل بُلَهاء
غير معنيين
أن نكونَ
مفهومين
أو مسموعين
وعلينا أنْ نتعلّم
أنْ نشتبه
حتّى في الهواء
من اليوم
من هذا اليوم
الذي
ارتعشت
فيه
جدران
البيت.
الأحساء ـ محرّم 1421هـ