لَعِب (0)
قضينا صباحات الخميس في بناءها
وصباحات السنوات التالية في تكرار ما حدث ببطء
لإعادة الألعاب ذاتها بصور شتى
دون أن نلمس الأخطاء الطفيفة
التي أدت إلى انهدامها مبكراً..
ملاعب الطفولة التي أصواتنا لم تعلق بها،
خطانا لم تنطبع...
ولهذا لن يكتشف أحد ما حدث.
فم المريض
أرض فضاء
الوجوم أمام ورقة مستطيلة في انتظار أن تمتلئ بالقبائل والأجناس والأقاليم لم يأت بنتيجة مرْضية...
في الأمر مشقة ووضع يد على بقعةخالية،
إقامة حدود وشوارع حسب الهندسة السائدة للسبعينات،
ارتجال بيوت تتكاثر كما تتالى الأحاديث...
الوجوم الذي ترك مكانه للسيقان النحيلة نفخه أحدهم
فصار مراهقاً برأس عجوز وكفي أم.
المراهق تجادل بيديه مع آخرين حاولوا ثني الورقة ومحو الأسماء.
الأم استمرت في نفح المراهقين دعاءها وإضافاتها
والعجوز كان حاذقاً وهو يقترح غرفاً أخرى ليزوج الأبناء
كما كان حاذقاً قبلها وهو يسد النافذة الكبيرة
ويقسم الغرفة إلى غرفتين..
في الأمر ما يشبه البحث عن إبرة من علو شاهق.
الإبرة كانت تنسج الثياب الرحبة لمن أضجرهم اتساخ أيديهم وضيق منازلهم وقد التقطها أشخاص يرون الأماكن الشاغرة
ويقايضون إشاراتهم بمبالغ زهيدة...
ولأن طائرة المسح الجوي في الستينات لم تكن تبحث عن الإبرة فإنها لم ترصد الخيط الناشب في نبتة صحراوية حين كانت عشرات البيوت الآهلة تنتظم في خفوت
أما الإبرة فقد ملأ الصدأ عينها الوحيدة ولذا لم تُلاحظ.
لهذا كانت النتيجة المثبتة على الخرائط المعتمدة:
(أرض فضاء)
غرفة بجدران بيضاء
وهي تنافس تأملات الساكنين وتحديقهم
تتحرك النباتات بضآلة هنا
مع مرافقين تضاعف أعدادهم المرايا،
المرايا التي تختزن أشياء قليلة..
وليس غريباً أن تفسح المجال للدواليب والأرفف والشخوص...
أما الذين تمنوا أن يصبح الكون غرفة مربعة بجدران بيضاء
فهم قليلون للغاية.
انتصرت الأزقة، المصابيح المكسورة، الحوائط المخرمة...
على زجر الآباء وسباباتهم المهتزة في الغرف المربعة
ذات الجدران البيضاء
و(الحوش) الذي يسمح بمشية بطيئة للقمر..
.. القمر الذي وجده أحدهم ناشباً في (شكاعة)*
وظنناه يكذب..
صرنا نجده رثاً
وقد تلطخ سطحه بزيت السيارات
فنتضاحك ونحن نشير له محوقلين...
...أن لا أحد يمكنه تنظيف هذا الدرن كله.
بلا عناء
الملاءة الإفريقية الصفراء مع زخارف وبذور نباتات غريبة
تلفها (حواء) برشاقة على جسدها،
العباءة السوداء التي تضع أمي على رأسها،
العباءة السوداء بخط قصب عريض -على الظهر- والتي كانت أمي تضع واحدة منها على رأسها وبقية الجسد،
ملاءات الباكستانيات البيضاء تصل إلى منتصف الساق،
عباءات هذه الأيام..
خفيفة وبحزام خفي في المنتصف لإبراز الخصر وما وراءه،
النيجيريات يتحركن وحدهن دون ملاءات...
بقمصان فضفاضة تتوجهن ملكات وبأجساد تفي بالدور،
الصوماليات يتحركن بهفهفة عباءة كعباءة أمي – بلا قصب– وحيناً بعباءة هذه الأيام..
هذه العباءات التي لم تجتمع في مخيلة بائع
أو هفوة شارع مزدحم ...
ازدحمت هنا بلا عناء.
أعمامي ونفرٌ آخرون
الأحاديث التي تنغل في الماضي كما تفعل ديدان في صخرة تحاول قلبها.
الأحاديث التي تنغل الماضي كما يصنع تراب في صخرة دحرجتها السيول..
السيول التي خلفت ربيعاً لا ينسى،
(البِلْدان) التي ساقوا منها (الحبحب) بعد مئة يوم على ظهور الجمال أو الشاحنات،
المواضع التي سكنوها وتأتي دائماً بأسماء مجهولة..
الخارطة القديمة التي لم تعد مستعملة.. يدهنها أعمامي ونفر آخرون كل ليلة بألوان عميقة للحكايات التي تنتهي بسخريات وضحك وأهاجٍ...
تلك الحكايات حينما لا تتحدث العربية تجئ من صحراء تشاد
لما يعود الأبناء والبنات أيام الجمع
أو على لسان شيخ صومالي وهو يتذوق الموز.. أيام الموز والخيرات التي كانت تقيم وراء البحر.. تجئ بالأقاليم البعيدة فتسيل من أنهارها المياه على أبواب المنازل،
تجلب الحلوى والأقمشة إلى دكاكين شارع (الثمانين) مع البنجاب والكشميريين...
والأحاديث عندما تنغل في الرأس
كما تفعل ديدان في صخرة...
تنبعث كبخار رقيق يغلف المنازل ويحيل ألوانها، يموه الشبابيك ويطفئ الأضواء لتمكث في خفوت، تتسربُ على هيئة همهمات بخور إفريقي أو تتصرف كوصايا (حتيتة) تحتفظ بها عجوز في خزانتها...
في هذه الأحاديث كان دوري يتطلب ثرثرات العمل وأداء الألعاب الراهنة وهو ذات الدور الذي كان يؤديه آخرون كلٌ بلغته الأم وبحرية لا محدودة في التصرف..
مما جعلنا لا نمد أيدينا إلى المائدة إلا حينما يحتاج أعمامي ونفر آخرون إلى مخمنين جيدين للأحاديث التي تنغل في الماضي
كما يصنع تراب في صخرة دحرجتها السيول..
وقد ظللنا جميعاً ملتزمين بالقاعدة...
نخمن خطأ لئلا نخذل ضحكهم.
حكاية قديمة
حكاية السابعة مع (كريِّم) الذي رافقته بعد أن قفزنا
سور المدرسة لنصل إلى دكان بعيد..
نشتري منه ( سندوتش بيض طويل ) ونقتسمه كما قال...
هي حكاية قديمة،
وما حدث ليس من الضروري إكماله
لمن أحكي لهم القصة هناك.
تخطيط
في الرسم البدائي للبيوت
لا يمكنك أن تجمعها في إطلالة واحدة:
أدوات العمل البالية هذه،
الخطوات التي تبتعد،
البيت ذو النافذة الخشبية الخضراء والتي ما عادت تفتح.
...الرسم البدائي للبيوت
لم يخف كثيراً
شخصية الفنان.
فم المريض
فم المريض الذي ملأته الدمامل وبنت عليه الفطريات،
الذي يفتحه الآن وهو يظن أنه أمام طبيب
فيما يقعد أمام رحالة يعرف أجناس الإبل..
هو (البوادي) مقعية على أربع أسفل شارع (الثمانين) ..
هو ذاته الفم الذي تصطف في حنكيه بيوت متوالية
يتوسطها لسان أسود ينـز منه الماء الآسن،
هو ذاته الفم الذي يضحك ويمتلئ بالحكايا والشعوذات..
التي لن تصل لعابر انفتح أمامه، لبرهة، شق الباب الأزرق
فولجه
كما ولج مصريون بملابس مرحة ووجوه ملطخة بالإسمنت مرتين (منتصف السبعينات وبداية التسعينات)
ولجه أفغانٌ بأرجل مقطوعة وعمائم لشجيرات بيضاء مقلوبة وعبروه وهم يجسون الشوارع
قبل أن يتحول الأوزبك لتجارة السجاد وآخرون بموازاتهم تحولوا إسكافيين.
ولجه يمنيون بأصوات حادة ونسوة وأطفال
ثم عبروه جميعاً
قبل أن يعود الرجال منفردين لطلاء الجدران الحديثة.
ولجه أريتري واحد هو وأطفاله الذين غبطناهم حينما عبر أباهم محمولاً في نعش وصاروا أول أيتام الحارة.
ولجه صوماليون سمعنا أصواتهم خلفه حين كانوا يسددون بنادقهم في لفائف نقدية تشارك في الاقتتال...
ولجه تشاديون لم يخرجوا إلا في أوقات الصلاة
فيما شغلت تجارة الصحن رؤوس نسوتهم بشغف
وتفرق أبناءهم بيننا وبين بطون السيارات
ولج منجمون وسحرة يربطون الأزواج ويعيدون الأشياء المسروقة إلى أصحابها بأمانة
ولج برماويون لم يصبحوا أبناء بلد لفارق التوقيت
وانطلقوا منه بمطارق ومقصات...
الباب
الباب الأزرق
عبره باكستانيون بلا اكتراث ومضوا
بوجوه متجهمة تعالج الحديد والكهرباء
بينما تعثر أبناءهم عراة قبل معاودة اللعب..
ولجه بنغاليون واجتمعوا خلفه
حول جهاز (استيريو) جديد...
الباب
الباب الأزرق الجاهز والمستعد كل لحظة
الذي كان يبيعه محل على شارع ( الستين )..
واشترى منه كل القاطنين أبوابهم
تكفينا هذه السنوات لنحكم على نزاهته..
على أنه خفيف حقاً ومصنوع بإحكام
أما فم المريض فلم يوجد له بعد ما يمكننا الوثوق فيه
كباب مناسب.
بقع
التي ظلت تنجب أطفالاً موتى لفترة طويلة.
ظل زوجها يذهب بلفافات الأرواح البيضاء إلى المسجد
ثم يدفنهم بالمقبرة ويتلقى التعازي
لفترة أقل.
منذ المرة الثالثة كانت التي ظلت تنجب أطفالاً موتى
تدفن أطفالها في ذات المكان الذي اغتسلتُ فيه طفلاً
لم يلحظ الأنين ولا البقع غير المنتظمة في (صبة) الحمام...
كما لم يلحظها المستأجرون الجدد بعد ذلك.
حسابات أمي وأبي
أمي جنية وأبي راعٍ عاد مع المغيب ليشهد حيتين تصطرعان
كادت إحداهما أن تقتل الأخرى قبل أن يقتلها أبي بحجرٍ
أخفى كافة المشاهد السريعة بمجرد سقوطه.
ولأنه في خلاء لم يدهش أبي حين أيقظه من نومه شيخ لم يُر شبيهاً له في قبائل الساحل...كان الشيخ جنياً مسلماً وكانت الحية البيضاء ابنته.
أبي كان توقعه لباقي القصة سليماً فقد كانت الحية التي قتلها جارية أرادت الغدر بسيدتها.
ولأنه اعتاد المقايضات فقد فغر رأسه حين سأله القادم:
كيف أجزيك صنيعك ؟
وهو لم يفرك عينيه بعد قال كلمات قلائل كعادته.. أبي:
ليس عندي زوجة ... أريد ابنتك.
والشيخ بعد أن أسقط في يده اشترط ألا ينهرها الزوج مهما فعلت فهي ترى مالا يراه وتسمع مالا يسمع..
وهي ستخرج من ذمته لو نهرها للمرة الثالثة كما هو معلوم.
حين دخلت أمي بملابس عروس بدوية قبل أربعمائة عام
لم يتغير شئ في حياة أبي سوى إضافة زوجة إلى البيت
استدعت عزلته عن قبيلته لتجنب الأسئلة.
لم يغضب أبي في السنوات الأربع التالية سوى ثلاث مرات آخرهن حينما نحرت جمله المفضل لضيوفٍ
فات عليه أنه لم يرهم.
عندها جاء الجد ثانية من مكان غير بعيد
كي يأخذ ابنته وأبناءها
كان حكمه واضحاً: سنتوجه شرقاً وسنبتعد،
أنت ستقف قرب عمود خيمتك هذه
سنقطع ثلث المسافة معاً ثم يعود لك أحد أبناءك
إن لم تلتفت ناحيتنا
في كل نظرة ترفعها نحونا ستفقد واحداً منهم
..ودَّعه الجد بحكمة أخيرة:
الأمر كله في عينيك
قد يعود الثلاثة كلهم لك.. وقد يصبحون منا.
البقية أن لا إخوة لي
كنت ابن الجنية والراعي
الراعي الذي لم يلتفت ناحيتي
لم ينخزه قلبه ليرفع رأسه تجاهي وأنا أعود له من هناك
من الجهة التي دفع لها أخوي وهو يظن أنه يشدهم ناحيته.
لم يلتفت نحوي أبي
ولم أحتضنه بعد
وإن شارف كلانا على المغيب.
المغيب الذي جمع الجنية والراعي
وأخرج ابنهما من حساباته.
مسارَّة
-تحتفظ بسر...
..لم َ هذا الانشراخ، التهلل المفاجئ...
الشرخ الوردي الذي مد ذراعيه الوديعتين ليحتضنني
من أين أتت مائة عين دافئة انطبقت عليّ بود الآن...
حين وجهكَ يبسط نجومه وطفولته
وأنت تنتظر أن أضعك في جوفي البائس
حين تتحدر فيه أشكال عجائبية وأيام سقطت أسنانها...
انتظر
قبل
أن
تقفز...
هل تريدني أن أتحدث دون مقدمات..
أتظن أنك جمعت ثياب روحي المهلهلة في راحتيك،
أنها ستكون جديدة بعد قليل
بعدما أتحدث...
كل شيء قيل.
قل لي أنت: ماذا ترى؟
دون أن يعلم أحد
أشياء كثيرة تسير دون أن يعلم أحد
كما كانت الأمور بالنسبة للطفل المنغولي وقد صار رجلاً
لم يتحدد عمره بالضبط وظل يدبر نفسه بدراجة يستعيرها وحشائش وابتسامات.
اللواتي يمشين على أيديهن وأرجلهن
دون أن يعلم أحد موضع سكناهن،
(فالح) وهو يكتشف الأرق دون أن يعلم أحد
أنه بعدما جاوز التسعين صار يمشي طيلة الليل..
السيارات التي تجوب الشوارع وتبتاع أغرضها بسرعة
لا ينتبه لها أحد،
الشجرة التي لا يعلم أحد جنسها ولا من أتى بها للمقبرة.
المخارج السرية التي تسلكها الفتيات لمواعيد لا يعلم عنها أحد،
العبارات النابية على الجدران ولم يعرف من كتبها بعناية هكذا...
الذين يمسكون بأطراف ثياب أمهاتهم وهم يمصون أعواد الحلوى وقد صاروا نموراً تقتنص خطاة آخر الليل وتفرغ جيوبهم
أولئك الذين لا يعلمون كم كانت أمهاتهم جميلات وحائرات
في بدء زواجهن.
عائدة
الراعية التي تسوق غنمها على مهل وهي عائدة قبيل المغرب
بقربة شبه فارغة وعصا وكل ما يلزم لزي راعية عام (73هـ) ..في المشهد الذي سارع لالتقاطه تجار صورٍ جائلون
لم يصلهم ضيق الراعية من رائحة ملابسها،
تأففها.. ألم قدميها المشققتين وجوع بطنها...
أو أنهم قاموا بحذف هذه العناصر.
الراعية وقد تجولت لفترات مكتملة الصورة
فوق صمد ( بن عجلان )
والصميدات*
تجول أحياناً في أذهان بقية البدو قطعان خواطرها الهزيلة
وهي عائدة دائماً.
المياه التي لا تبين
لم تكن كذلك:
الغيمات الملونة التي ظننا أنها بيِّنة وجوهنا
..لقد تجرعناها كما يبتلع الشجر ريقه
وامتلأت سرائرنا بأهداب مسننة ترتخي على عصافير خضراء...
كففنا أكمام ثيابنا ليبرز ريشها،
فعلنا ذلك سنوات...
وحتى لو أصبحنا لا نتحرك بخفة
ظلت المياه الغزيرة تغمر رؤوس أفكارنا وتفيض:
في الارتباك والخطوة والانفراجة.
..واضحٌ أنها صارت مالحة وبالكاد تطبق عليها أكفنا القصيرة
أن حجارة صقيلة مثلومة لم تعد تفسح لنا الطريق.
الواضح أيضاً أننا لم نكنـز المياه التي لا تبين عنوة
ولم تكتنزنا عيون.
يافتة تشير إلى ما كان
رقش
بوضوح الوصية
التي سمعنا
..................
باكتمال حقيبة في دفتر لم نقرأ منه سطراً لأن حروفه بليت.
..................
لأن القراءة كانت غرفة بلا جيران.
..................
لأن طريقتها التي تجذبنا هي المشي مع إطباق الجفون.
..................
..................
جئنا
متعجلين
وبنينا
بيوتنا
هناك.
أعشاب كل أرض
الأعشاب التي نمت بعد المطر ليس خطؤها أنها كبرت،
ازدحمت بفجاجة، نمت سوقها على بعضها البعض...
امتصت مياهاً سرية،
جمعت الحصى، حفرت، نقلت المياه والركاب،
قادت الشاحنات، باعت عظامها،
احتالت ولبست كما يلبس الناس، بنت، اكترت،
أرسلت أبناءها للمدارس...
هذه الأعشاب وكما هي الأعشاب بعد المطر ظلت على حالها ففي حسبانها كل أرض تنبت العشب بعد المطر.
سطوع
العشوائية ليست كلمة مزدحمة
حتى تأتي قصة الاختناق هذه في مقدمة الراقصين
بملابس مبتلة وساقين طويلتين.
هي الزجاجة تشف عن كوكبها الأسود الصقيل برعونة،
الزجاجة التي نشرب سوائلها النيئة
كطريقة للتنفس
وبناء الأعشاب.
هي الخفية...
عرفها ظمؤنا وتجشأتها قلوبنا،
الخفية
التي لا يوقظها صداع الرأس
..الرياح لم تفُض صررها المعقودة في الحاجبين
.. خفية
كمنابت الفتور.
الجمرة المخبوءة أسفل الظهيرة
الوسواس المقلوب على ظهره والذي اعتدل حين أتى أناس كثيرون بأعمار وهيئات شتى...
أولئك
وهم يأخذون اسمي بين أيديهم ككتاب من الركض والعناق
ويتابعون الساقين البارعتين لراقصة في المقدمة
فيما أتابع التنقل معهم في غرف غريبة
وأيام تندفع من فوهة صنبور...
هي ...
هذه المياه الكسيحة وهي تُنْبِتُ الأعشابَ
هذا الشَعر وهو يتساقط
هذا الألم وهو يأتي من جدران سميكة شاحذاً الزجاج
ليهبه اللمعة والسطوع.
سقاية السأم
سقاية السأم ساعة الجلوس في الركن
مع نظرات حادة توبخ الانتظار.
نظرٌ يشي بالانهماك في متابعة جلبة لا مرئية
تتصاعد في هواء الشارع،
التكرار المنتظم لتمرين الجفنين،
تحريك الرقبة والساقين بالتناوب.
أشياء كثيرة تحدث أيها الجهل
وأنت تعود بشكل ذبابة تروح وتجيء
أشياء كثيرة لم تحدث.
الطريقة
الجدران اللينة وهي تتصاعد في صفوف حول أرواحنا
بنيناها بملامسة أكفنا للطوب..
باستمرار وقوفنا الحاسر عن ساقيه النحيلتين...
بالأصوات الخشنة حين نطلقها كلاب حراسة
تحوم في دوائر حولنا.
تلك الجدران
اكتفينا بأن نمسد ظهرها ونحن نرفع أعناقنا قليلاً ونتبادل التحية ولأن ثغاءها استمر يعلو أثناء ذلك
تم التفاهم حول أمورٍ كالعمل والزواج والموت
بومضات خاطفة..
هزة رأس، رفع للكتفين أو إشارة باليد
تكفي للتقدم
الطريق المغلق ما تفحصناه منذ أن كان..
أولينا عنايتنا بالطريقة التي تتسع لنا.
حصانة العفة
لحسن حظنا ستأتي كل تلك الملاعق متأخرة بعض الشيء... الأحذية والثياب المضبوطة، المقاعد والستائر
وأجهزة الكهرباء ... الخ
لهذا لم يعن لنا الانتظار شيئاً
المواعيد المتأخرة منحتنا حصانة العفة ووعودها كلها.
يافتة
الأحشاء الباردة والملتصقة
والتي تتدافع فيها مناكب الكائنات وأنفاسها
التي لم نجرؤ قط أن نسخر منها
سخرت منها يافتة زرقاء برأس مثلث وضعناها فوقها.
.... ضحكنا
لأن الحكاية صارت تدغدغ بطوننا
رأس المثلث لن يفكر في النتائج التي توصلنا إليها
إلا حين يغادر صرامته ويتجول
نقطة...
نقطة.
خروج المهزومين
10 ملم من وبر الموكيت
ستشف عن عدم استواء الأرضية وحرارة البوليستر.
وهي كافية لأن ننسى اجتماعاً سابقاً لنا خارج الغرفة
حين كسرنا الباب بعدما استمر توقف سيارة الخمسيني ثلاثة أيام
10 ملم تنسينا من فتح الشبابيك وطوى الموكيت السابق
بعدما رفع نفر من جماعة الرجل جثته.
10 ملم كافية لمحو البرودة من أطرافنا ونسيان الانتفاخ والرائحة...
10 ملم محسوبة بدقة كي نلم الورق فوقها بلا عوائق وبسرعة
فهناك آخرون ينتظرون خروج المهزومين.
خط متقطع
فاكهة السأم وهي تنبعج...
في هذه الأثناء
ونحن نتشاغل بتقليب أيدينا...
لم نكن نملك خطاً يصل هذه العثرات لنصرخ
فأسي
فأسي.. أيها الغريب.
كتاب هجاء
كلمة في الأمام دون نافذة جانبية لأن باباً سيفضي هناك إلى زقاق بعرض حرفين أحدهما ينتهي بثلاث كلمات مربعة.
الأبواب الزرقاء لهذه الكلمات لا عتبات لها،
سترفع قدمك فقط لتلج جدرانها البيضاء.
ستجد تقاويم معلقة للزينة، شعراً مدسوساً وخيطاً أبيض يضيء مقابل نافذة خشبية..
ستركع لتجد خلفها: جملتين اسميتين وفعل ناقص يقود دراجته ويرتدي ملابس داكنة.
الجملة الأولى من طابقين بسلم خارجي
والجملة التالية من عشر كلمات ورغم ذلك فقد أصابها الصمم
..لا تنتهي الكلمة عند هذا الحد فلو قسمتها إلى نصفين متشابهين ثم أعدتها مرة أخرى لكانت كلمة مختلفة بثلاثة حروف وصالة..
كي تطالعها من الجهة المقابلة يلزمك أن تقف في وسط كلمة جديدة أكثر انخفاضاً فيها حوش صغير وغرفة بسقف عالٍ
أما الجزء الداخلي فهو محكم الإغلاق
لم نر منه سوى باب رمادي ،رائحة بخور ( جاوي )
وأحذية كثيرة.
ملابس نظيفة للدندنات
البهجة تتجول بملابس نظيفة بعد (الجمعة)
حين الأكياس البلاستيكية تتأرجح من أعناقها في الأيدي...
الأيدي الممسكة بها بحزم.
...وهي تتقدم مع إيقاع الأذرع التي تهدهدها
وتهدهد معها أطفالاً يرقدون في بيوت غير قريبة.
...حين بدأ كيس بلاستيكي يقدم وعوده بخاراً ساخناً
يجتمع في قطرات على صدره
التمعت عينين غريبتين أخذتا تدندنان
بعد (الجمعة) ..
قبل أن تذهب الدندنات إلى غرفة يزدحم بابها بأحذية المطاط
وتنوء برائحة السجائر والكاري وآلات النقر.
كراسٍ متعددة
سواء بعلبة مشروب غازي تموه (الغراء)
أو بحقنة الهيروين حينما يشحذ لحم المسرات وعظامها...
لم نطفئ الأضواء ونمشي متخبطين
في الأمتار اليسيرة التي تشد على أكفنا...
كانت مطفأة ففتقنا في قماشها ما يكفي لمد رؤوسنا
للخارج.
بشفرة تذهب في المعصم أو حبل يشدنا إلى أعلى
بهجرة أو بكراسٍ متحركة أجلسنا فيها الساعات
ودفعناها في أرض رملية...
سواء
بسواء.
مناظر مبالغ فيها
عرفوا أنك تمر على نظرتك الثقيلة بمنشفة مبللة
ليجف الصمغ ولا تلتصق بالمناظر الجميلة للعتبات
والجسور والكلمات...
أنك سكبت عليها الماء الساخن وحككتها بأظافرك
أن شفاهك السوداء مجّت دخاناً كثيراً وهي تُطبق
وأنها لا تطبق على مناظر جميلة...
عرفوا ذلك وسيعرفون الأمر مهما بالغت في انتظارك.
كلمات غير مفهومة
ليس غريباً أن الفرح يتم وضعه داخل أكياس بلاستيكية صغيرة
في الجيوب الداخلية وأماكن لا تُكتشف بسهولة
كما أن ليس غريباً ما يحدث للحرج
حين تتم معاملته بطريقة أنكى...
غير المفهوم هو أنه حتى لو سال هلامه بين كل خطوة وأخرى
فإنه يظل يتأتئ بكلمات تبدو غير مفهومه.
نقاط
......
الأمر الذي جعل الحي منخفضاً.
نقطة على السطر،
بيت على الشارع.
نقطة على السطر، نقاط خلفها..
في الشارع الممتلئ بالقنافذ والنجوم.
شقشقة
أنا الضجر..
لست حزيناً حين ارتخيت على هذه الصورة
ولم أفكر في أن أذهب لأعضائي المبعثرة وأجمع الحشوات كلها.
معدتي ممتلئة بعلب الخضروات،
أسناني ثقبتها الأرضة...
وأنا ثوب مبلل على حبل دون أن يقطر منه شيء
ودون شمس تقرضني أو مشابك تحدد كتفي.
أنا الضجر بشعره القليل، بالتراب الذي يترسب في قاع كأسه
وهو يشرب ..
رسمٌ على جدار بخطوط (بخاخ) ثخينة تتفرع منها الزوائد.
الجدار أبيض لا ينفتح فيه باب.
الصورة المثبتة تهتز باستمرار على ذات المشهد.
الجدار مع جزء من تراب الشارع يظهران باهتزاز
إلى الأعلى تارة وتارة نحو الأسفل.
حكمة العنكبوت وهي تتقدم ناحية ركن العين
لتقيم بيتها الخفيف.
مشية النمل في خطوط متقطعة،
سوداء..
نحيلة.
الأصابع وهي تتقافز على سطح الجدار..
ثقل الجسد وهو ينتقل من قدم إلى أخرى
في ذات الوقفة التي لا باب لها.
العادة السرية للقفز في مكان واحد وبسرعة إذ تتكرر بانهمار.
الشحوب وقد هزلت أطرافه
يحوم حول الوجه وتحت العينين بأظلاف خشبية.
الشقشقة النتنة للعصفور..
أنا.
..أنا الضجر.
مجموعات غير نادرة
طيلة الوقت الذي كان توقنا فيه يصنع العربات
على شكل ديدان خضراء بلا عيون.
كانت القطط ومجموعات زواحف غير نادرة
تقتنص الجدران والأرفف،
خنافس وجوقة مفصليات تجاورها...
فئران وقوارض ملساء تجتمع في صدورنا ونفضي بها
للأزقة والغرف كهمهمات،
...كلاب متسكعة تتشمم جزعنا وفتور نوايانا،
ذبابة تعيد ترددنا بانتظام،
بعوض في ضآلة أمل لا سعٍ يرصد ويتحين...
وبينما مكثت شكوكنا وحيطتنا في أحجبة
كانت المخاوف وهي تدحرج كرياتها وتسبقنا بخطوة
أصواتاً غليظة نجس بها بحيرة الظن.
رائحة مستطيلة
بين السبابة والإبهام وبعدما يجيب الحفيف قرار الشفتين
تندفع الجوقة رثة الثياب في النشيد والحماس..
ومع استمرار ذلك سينخفض إيقاع الآلات الأخرى
إلى أن تنسحب من المجموعة..
...المسرح الفقير يناسب الرائحة المستطيلة الرطبة
حين تملأ الدكاكين ومسام العرق والمياه القليلة في العيون.
غير ظاهر
فتق غير ظاهر في الحذاء...
يدفعك ألا ترفع قدمك كثيراً،
أن تقصر خطوتك،
تضع ثقلك أكثر على الحذاء السليمة
تتأنى وتحاذر الاندفاع
..لابد أن تدرس ما ستضع عليه قدمك في الخطوة التالية
ألا تقترب من الأراضي الزلقة وتجمعات المياه
ليس مهماً أن يلحظ الآخرون ذلك
فلقد رأيتَ الفتق وتفحصته هذا الصباح..
لكنك لم تلحظ ما حدث بعد ذلك حين انتقل للجلد والوجه
حبات العرق الصغيرة التي نزت منه مسحتها اليد الباردة
وتفوه اللسان الجاف بتعليق صغير لم يكف كعزاء.
فراغ
أصواتنا الغليظة العالية
ترد التحايا وهي تقفز من مكانها.
ثوبي متسخ أيها العميق..
فلا تبسط لي ذراعيك.
وأنت أيها المارّ..
بم تكترث لو ثبتْنا بيوتنا
بهذه النظرات غير المستعملة
في أماكن أخرى.
قتامة الثلاثين
..محاطة بالرغبات المقيتة
بالأنياب الزرقاء اللامعة لعصافير تتخبط في السوائل السوداء
قتامة الثلاثين.
السوائل التي تتماصل في الجوف بانتباه
لئلا يفضحها الاندهاش حين تمر عليها السنوات
بريش منفضتها
وهي تزيح الغبار عن نظرة ثقيلة...
يهدم ملامحها الرملية أنها لا تحمل تحدٍ أو تساؤل..
تتابع المنفضة عملها
لتلحس القتامة بعد ذلك وجهها الكثيف الرخو
الذي لم تجد له طعماً.
إسفنج
سواكَ..
الكائن المنطرح جوار الحائط،
شبيهك الذي مشى في أحلامك فمرض واسودَّ وجهه.
بساطك السحري وقد اندلعت كرانيشه الحمراء ألسنة رخوةً
راحلتك الضامرة بعد أن كُسرت رقبتها ولم يعد يَسمع رغاءها سواكَ...
يمكنك أن تبادلها أشياء غير الملامسات..
هي لم تقاومك وأنت تدس وجهك في رائحتها التي لم يسترها القماش؛ صحراؤها كانت مضيافة على الدوام...
لكنها والوسادة النحيلة التي وهبتك
(صباح الخير) بلا مواعيد
ورددت باحتضان زخارفها في الفرص السانحة
كانتا تتساءلان: لماذا لا يفهم؟
بعد أن أنشأتَ ظمأهما طيلة هذه السنوات
كانتا تنتظرانك سائلاً يندلق دون انتباه
ليملأ المسام.
تركيب
الرسم البدائي للبيوت
وقد نجح في إخفاء شخصية الفنان.
الملامح التي تتغير بين وقت وآخر
حسب زاوية الإضاءة والرؤية والحنين.
البيت الذي لم يكن فكرة صائبة لكتابة النص
يأتي ساكنوه بعروضهم الطويلة محاولين الدخول.
بلا حراك
من بين أصوات الأذان، جلبة العربات، صفق الأبواب،
مصانع (البلك) الإسمنتي التي مازالت تعمل،
اللغات الكثيرة التي تمسح عينيك..
الأصوات التي تستمع هي الضروري فقط.
أعمالٌ أخرى بحاجة لإنصات يفي بالغرض..
الأعمال الداخلية في غرف الروح
وقد سمحتْ لأن تعصف هذه السنوات
بلا حراك حولك.
طائر القطيفة الحمراء
من طائرة سترى (البوادي) مربعاً معتماً.
من طائر لم تجرب ذلك لكنك تفترض أن المشهد سيكون مغايراً.
البراعة ليست في عيني الطائر
الذي يصبغه بعضهم باحتراف قبل أن يدوروا به
في قفص الشوارع.
ولا في عيون داجنة لطيور يبيعها آخرون بلا ريش
ليست كذلك في عيون طائر القطيفة الحمراء
الذي كان ينام على مساند بيتكم القديم ...
بيتكم القديم الذي انهدم مرتين لإصلاحات وتوسيعات
وفي إحداهن لم تعد المسندة التي كانت برائحة (الطَّرف) وصار قليلون يصنعون مثلها.
الطيور البارعة التي تناوشت أعواد الطرف
لم تعرف أين ذهبت...
ولا أين هي الآن أعشاش طائر القطيفة الحمراء؟
لعب (1)
لأن خطانا لم تنطبع
وأصواتنا لم تعلق بها
فإن أحداً لم يكتشف ما حدث في ملاعب الطفولة.
ملاعب الطفولة التي قضينا صباحات الخميس في بناءها
وصباحات السنوات التالية في تكرار ما حدث ببطء
لإعادة الألعاب ذاتها بصور شتى
دون أن نلمس الأخطاء الطفيفة التي أدت لانهدامها مبكراً.
****
إشارات: *كتبت معظم نصوص المجموعة في نهايات عام 2003م البوادي : حي شعبي بمدينة ( جدة ) السعودية صدرت للشاعر مجموعة أولى هي ( كنا ) دار الجديد – بيروت – 1998مـ العنوان البريدي : السعودية – جدة ص.ب : 31082 الرمز البريدي 21497 eidalkhamesi@hotmail.com *** الناشر: طوى للإعلام والنشر/ لندن- دار الانتشارالعربي/بيروت الطبعة الأولى: 2007م عدد الصفحات: 103 لوحة الغلاف: أيمن يسري |  |