هالة البدرى (*)
(مصر)

(مسَّنى.... فاكتملت إليه)
هالة البدرى

(adde-mod-nature)فركت وديدة "أم عبد الله" عينيها، فاصطدمت بضوء خافت تسربه النافذة. صكت أذنيها أصوات استغاثة انفجرت متناثرة في سقف الحجرة. ألقى الصحو بجسمه عليها فجأة، فقامت إلى خشب الأرضية، ثم إلى نعالها راكضة:
ـ يا شيخ طه.. يا حاج عبد القادر.. الحقونا.. الفيضان.رق.. الفيضان.
جفل باب الغرفة وهى تعبره إلى السُّباط، ( ) والبناء يئن تحت عنف لا تعرف مصدره. أذهلها الضجيج الذي وصلت إلى قلبه في ثوان. انغرست عيناها كالنصل المرسل في المشهد أمامها. فاجأها عشرات الراكضين في ممرات الدوَّار وطرقاته في الأدوار الثلاثة. سمعت صوت تمزُّع شرايين الخشب تحت وطأة ضربات المياه التي تعوي في الحوش. رأت العائلة كلها: عصبها وفروعها، والنأيضاً،مل يهرولون بدأب ليس أخرس، وكأن النبات النامي في الدوار لم يُحصد ولم يُستبدل. عاد الأبناء بالأحفاد في صحبة الأجداد أيضاً، ولهم رعب العيون الفاغرة فوق الخطر. ارتعشت.. لاكت غبار الدهشة دون أن تفيق وتدرك ما يحدث. ترنحت الشرفات تحت قدميها، التفتت إلى صوت نعيمة، وهى تسأل رشدي:
ـ هل يحتمل الدرج النزول عليه ؟ أم أنه سينهار تحتنا ؟
ثم رأتها تقفز من فوق الدرابزين، قبل أن تسمع إجابة رشدي الذي قفز وراءها، وغاصا في الماء الذي يعلو بسرعة حتى وصل إلى منتصف المسافة بين الطابقين، فارت الموجة وابتلعتهما. ركضت وديدة عائدة إلى صالة الشقة الصغيرة، فتحت المشربية، لم تجد الشارع، رأت النهر يتلوى ضارباً الحوائط المنيعة بغضب، ويندفع من الأبواب بقوة. تحول مبنى السلاحليك والجراج إلى جزيرة في منتصف التيار، جارفاً أمامه تعريشة العنب، وانقلبت الكرويتات إلى لعب صغيرة طافية على السطح، ومن فوقها أحفادها الأطفال متشبثون بأخشابها. لم تجد السيارات أو الحيوانات، بل مراكب الصيادين الفقيرة، وأبناءها عبد الله ومحمود وعاطف وإسماعيل وعبد الحميد يجدفون. أعادت بصرها إلى عبد الحميد الذي استشهد في 1967، وتحققت من وجوده بين الرجال الذين يحملون البنات، قمر وكوثر ونازلى وبنورة، والجدات والشيوخ. تعجبت أكثر حين رأت بينها لمعرفة،رفعت رأسها نحو السماء الشاحبة، حاولت أن تحدد زمناً فلم تستطع. شقت قوارب ترقُّبها بحر المعرفة، تاركة خلفها دوامات عنيفة من القلق، وطوابير من الذكريات تلهث في فؤادها، وفراشات تموت في الدم، وأضواء تنز الخوف. رقصت الجدران، ففرت عائدة إلى السُّباط وهى تصرخ دون صوت.
لماذا تجمعت العائلة ؟ فرح أم عزاء ؟ كيف اجتمع جدنا الحاج على المصيلحى وإسلام آخر أحفادي ؟
سمعت أمها تنوح:
ـ العمود سينكسر يا وديدة، العمود..
انتفض الدرج تحت وطأة تمزُّعات أخشابه. ركضت نحو العمود الذي يرتفع بالشرفات الدوفاتها،ط الدار، واحتضنت أمها التي انزرعت أمامها شابَّةً تنضح بالعافية، متوردة الوجه رغم الاضطراب والخوف. ازداد ارتباك وديدة التي لم تر أمها منذ وفاتها، أثناء ولادة أخيها جابر. تسربت الأم من بين يديها، وراحت تهذي وهى تخبط رأسها بيديها، وتتطوح بلا وعى:
ـ العمود.. العمود يا وديدة.
خفق قلب الأرض بقوة، وسرى في البناء نبض عنيف ينذر بانفجاره. شحذت الماء شفرة غضبها، واقتربت موجاتها تشق أحرف الدرابزين أمام وديدة. جفلت وهى ترى المواشي، والخيل خائفة، تجرفها المياه بسرعة لتلحق بأسراب البط والإوز الهاربة، والأرانب المذعورة تصرخ ممتطيةً سطح أقفاصها الخشبية العائمة، والحمام يتخبط في الجدران حائراً. انفتح باب كبير لم تعرف بوجوده من قبل، اتجه الجميع ناحيته متدفقين عكس التيار، واستمر عواء الماء، وتناثرت بلوراته تشق السماء، والناس ما زالوا يقفزون، وودية حائرة مشفقة على البناء، ورحلة العمر أن تذوى. تدور حول نفسها تارة، وحول الدرابزين أخرى. تركت السباط إلى شقتها، وأطلت من المشربية على الشارع الذي جرفه النهر. وجدت كل أهلها هناك، ثم عادت راكضة إلى الداخل لتجدهم فيه أيضاً، وكأن الكون قد تركز في دوامة كبيرة هي مركزها، شاهدةً على دوران الماء والزمن والحياة. لم تعرف أنها مصدر الأزيز الذي يعلو حولها، ويهش الاستغاثات من سمعها، طنَّت مثل خلية نحل لا تهدأ حين تهاجم بالغريزة شيئاً ما مجهولاً، ثم فجأة انسحب الضجيج تدريجياً، وعاد الناس من حيث جاءوا. وراحت المخلوقات تتلاشى، تاركةً السيادة لسكون بلا معنى. ووجد الماء طريقا ناعما تسرب منه ملبياً نداء النهر، ولملمت العاصفة أطراف ثوبها الذي اشتبك في الدرابزين، ووديدة حائرة تراقب الأرض التي جفت، والجدران الشامخة، والدرج الذي استعاد عافيته، حائرة !
حين بحثت مناقير الديكة عن الفجر، جلست الريح فوق أعالي الشجر تتنهد وتتهيأ للنوم، ومسحت الشمس دموع السحابة التي سكنت السماء ليلاً، ونزلت وديدة تستقبل الحلاَّب، تعيد في ذهنها ترتيب حلمها الذي ترك آثاره في قلبها، وكأنه لحن يريد أن ينفلت دون رغبة صاحبه. بدت في ملابسها السوداء كائناً صغيراً دقيقاً خفيفاً، ملأ بحركته التي شابها انحناء بسيط أرجاء الحوش. بعثت الحياة في الأركان المظلمة التي لم تزرها الشمس بعد. فتحت لها الأبواب والنوافذ. دخل متولي ساحباً الجاموسة الأولى، وربطها في الوتد، ثم نقل تحتها المتارد الدافئة التي باتت ليلتها في الفرن، وسرعان ما رنت دقات اللبن تش تش تش، وضحكت الرغاوى البيضاء فوق السطح، وسرت الحرارة في قش الوقود معلنة مولد صباح جديد مشبع بصفاء ما بعد المطر.

دهست خطوات العمال أرض الدهليز، وسمعت في الرواق همهمة وصولهم واستلام أدوات العمل، وانشغلت ستيتة بتلقيم الفرن، وخبز الفطائر التي تعجنها أم عبد الله بنفسها، وأمينة بترتيب الإفطار. وانتشرت الطيور الصغيرة، بعضها يلقط الحب حول الرحاية المنكفئة فوق الجدار قرب غرفة الزلع، وبعضها يلقط بقايا العجين حول الطشتية التي قلبتها وديدة.. وفح ذكر البط حول أنثاه، ثم هدأت الحركة فجأة، وكأن لم تكن في الطابق الأرضي، وانتقلت إلى الطابق الأول، وسمعت أصوات العاملات وهن يكافحن الفناء، ويعدن ترتيب المكان الوحيد المفتوح الاستعمال في القصر الكبير، بعد أن أغلقت معظم أجنحته، وأنَّت الجدران من أمراض الرطوبة.
سنوات كثيرة مرت بعد رحيل أم طه التي كانت تحرص على الزينة والتغيير، فلم يتبدل في الأثاث والمفروشات شئ واحد وضعته بيديها. بهتت ألوان الستائر، وزحف القدم، وسكن أرحام الجدران التي طُلى بعضها بالجير عند زواج الصبيان. ترك فحيح الأفران بصماته تتسرب من الطابق الأرضي إلى الطوابق الأخرى. نزلت صبحية إلى وديدة، تاركةً الشغيلات الصغيرات لأعمالهن، وأخبرتها بضرورة الترميم، بعد أن لاحظت كسر أحد عروق الخشب في سطح مقعد الصبيان. تذكرت وديدة حلمها، وقالت لنفسها " الحمد لله، فسر الحلم نفسه بالصلاة على النبي". انشغلت مع أمينة في ترتيب أعمال النهار الجديد. دخل ابنها إسماعيل إلى غرفة العيش طالباً غداءً مبكراً، قامت إليه وجهزته له، ثم جلست أمامه تسأله بهدوء:
ـ أنهيت تحميل عربات البطاطس ؟
لم تكمل كلماتها، هب واقفاً مشوحاً بيديه، زاعقا:
ـ حتى اللقمة لا تريدون أن نطفحها ؟!
فرت العاملات من أمام باب المطبخ، والتصقن بالجدار ليتجنبن هرولته، وزعقت دجاجة طيرتها ركلة من قدمه، وترددت في الفضاء أصوات طيور أفزعتها الحركة المفاجئة، قبل أن يعبر الحوش ويختفي في الدهليز، ووديدة تركض من ورائه:
ـ تعال أكمل طعامك يا إسماعيل، حرام عليك !
قالت أمينة: اتركيه، أهوج، والغضب يعمى عينه، حالاً يرجع لعقله.
وأشارت للعاملات أن يعدن إلى هز الأرز.
قالت ستيتة: الصبيان ياما يعملوا، هوني عليك ياستي، والنبي لا تجيبي سيرة لحضرة العمدة !!
أجابت وديدة، التي جلست حزينة فوق المصطبة:
ـ من دون أولادي كلهم.. من دون أولادي. ماذا فعلت كي يعاقبني الله آخر العمر. كلمة واحدة لا يريد أن يسمعها من أحد.
قالت أمينة: البطن قلاَّبة.
خرج إسماعيل لا يلوى على شئ، طويل، عريض في غير تناسق، رغم صغر السن، تنفرط على جانبيه كتل الشحم، منتفخ الأوداج، له بشرة سمراء تعكس لوناً أحمر من فرط الصحة. الشراهة هي مفتاح شخصيته، تتضح حين يضحك بوحشية لا تناسب الطبقة، أو حين يزعق بغضب لا يناسب الحدث.
عانت وديدة معه فوران النمو المبكر، إذ انتقل فجأة إلى شاب ضخم الجثة، وبقى عقله في طور النمو الطبيعي لصبى. ماكينة تزحف تلتهم كل ما حولها، لا تفرق بين الأنواع ولا تختار، وربما لا تجرؤ على التذوق أيضاً. كان في صباه المبكر لا يُرى إلا وفى يده شئ يمضغه. لا يدخل إلى الحرملك إلا لطلب، ولا يعود إلا ليبحث عن طعام. اكتسب من وديدة عينيها العسليتين، وأهدابها الطويلة، وأخذ عن طه أنفه الحاد وشعره الأسود الغزير. لم تفلح أمه أبداً في هندمته، وكأن قميصه في عراك دائم مع بنطلونه، لا يستقر داخله أبداً، وقد ظل على خصام مع ملابسه المفتوقة حتى تخلص منها دفعة واحدة، وارتدى الجلباب مثل أبيه مدى الحياة. تعب طه في إقناعه ببذل جهد في التعليم تارة، والتوعد بالحرمان من الخروج إلى الأصدقاء تارة أخرى دون جدوى. تعلم في المنتهى بعد افتتاح مدرستها الثانوية، ولم يخرج إلى عواصم المدن كما فعل أخوته قبله. ومع هذا لم يحلم أبداً بالعالم الخارجي، ولم يحلم بمهنة أو مستقبل خاص، حلمه الوحيد هو الثراء، أما كيف يصل إليه فلم يشغل باله، ولم يعرف من مظاهره أبعد من ذبح أوزى على شاطئ النهر، والسهر مع الشباب حتى الفجر، ولم تشق عقله يوماً شرارة حماس لرغد من نوع آخر. اكتسب قناعةً داخليةً ما، إن أرض أبيه هي ملك خاص له من دون أخوته، لماذا ؟ لم يتعب نفسه في التفسير، وربما يكون قد رمى الأمر كله على أنهم تعلموا، وخرجوا من البلدة، ولن يعودوا إليها إلا زائرين، كما فعل أعمامه من قبل، وأنه هو سيكون سيدها..
خرج من الدوار غاضباً، لكنه سرعان ما نسى السبب حين رأى فطوم قادمة على مهل. وقف قبالتها:
ـ ابعد عنى ياسى إسماعيل "الله لا يسيئك" !
ـ يابت.. يابت تعالى. طيب تعالي اعملي الشاي.
ـ عدي.. وأنا وراءك. أحمّل الحمار وارجع لك.
أدخل كف يده في فتحة جلبابه المفتوحة دائماً صيفا وشتاء، وتحسس صدره المشعر، وهو يتابع فطوم تتبختر أمامه، وتعبر القناية. لاحظ اهتزاز ردفيها المكتنزين، وهى تتحسس طريقها فوق الأرض الترابية تحت ثقل حِمْل البرسيم: "الأرض كاشفة نفسها، لو كانت ذُرَة والله ما كنت عتقتها. صحيح الثقل صنعة، أنا إسماعيل المصيلحى تعصاني فطوم، بعد ما طابت واستوت ونادت الأكال ؟"
قذف فرع الشجرة الذي كان يتكئ عليه، وركض فوق قوالب الطمي الجافة متحاشياً الحُفَر. اخترق الحقل، ولحق بها، وهى تسحب الحمار قبل أن يبتلعها الطريق أمام النهر، وأمسك بكتفها قائلا:
ـ قلت لك اعملي الشاي.
ـ أبى يستعوقني. آذان الظهر قرب. حالاً أرجع لك، راجعة لك، والله.
مد يده إلى العقد الذي يزين رقبتها، فجفلت إلى الوراء وتورد خداها، وتسللت من جبهتها إلى عينيها قطرات عرق، رغم أنف شهر أمشير:
ـ عيب ياسى إسماعيل !
ـ فرع خرز بلاستيك، أنت تستاهلي عقداً من الكهرمان. "كرما" من الأصلي، خلاص، أشتريه لك يوم الجمعة.
ـ عشت والنبي، حلفتك بالمصطفى تبتعد عن سكتي.
ـ نسيتي ؟ زمن آخذك تحتي في الجرن، شفتي واحد غيري أحسن منى ؟
أخفت نصف وجهها الأسفل بطرحتها السوداء، وأرخت رموشها الطويلة فوق عينيها، فظهر جمالها أشد صراخا مع الخجل، قالت:
ـ كنا عيال !
ـ توافقيني وإحنا عيال، وتعصيني بعد ما تكبري ؟
زغدت الحمار في فخذه حتى يتحرك، والتفتت إلى إسماعيل بعد أن انهدلت الطرحة، وكشفت وجهها:
ـ أنا من طينة، وأنت من طينة.
اعترض بكتفه حركة الحمار، ومال عليها مقربا وجهه من وجهها الذي تصاعدت أنفاسه كبخار علق في الجو.
ـ لكن طينتك عاجباني، وخبلاني، وإذا ما طاوعتيني سأزعق بالصوت الحياني، واخلع الهدمة، واقف ملط في السوق، وألطم على وجهي مثل النسوان، وأقول باحبها ياناس، فطوم بنت شاكر.
ـ يا نهار أغبر !!
ـ خائفة من الفضيحة ؟
ـ عيب، أنا حرمة، وانت تحميني.. ما تفضحني.
ـ هو الحب عيب يا ناس ؟ أنا أحميك من الدنيا كلها.
تحسس ساعدها بلطف وسألها:
ـ من يطفئ النار الوالعة في حشايا ؟
ثم تغيرت نبرة صوته اللينة المستعطفة فجأة، واكتسبت عنفاً آمراً وهو يهصر يدها:
ـ هي كلمة، منتظرك في الجرن بعد المغرب.
ـ أبى يكشفني، يقتلني، اعمل معروف.
ـ تحججي بحجة والسلام.. أنت حرة، عارفة لو تأخرتِ ؟... على راسك وراسي.
ـ اختشي ياسى إسماعيل، في عرضك !!
ـ اللي يختشي من بنت عمه..
ابتلع ريقه، وهو يتابع حركتها قائلاً، بصوت عال لم يخش أن يسمعه أحد:
ـ رقبة تسجِّد الجدع.. وأنا ذائب والله !!


انقضى النهار، وسكنت وديدة إلى غرفة نومها. لاحظت أن طه مهموم، فلم تسأله كما اعتادت طوال حياتها. انتظرت أن يبوح لها بما يشغله في الوقت المناسب، إذ لم يتصور طه وهو يدفع بأبنائه جميعاً إلى التعليم - البنات قبل الصبيان - أنه سيعيش ليوم يرفض فيه أحدهم إكمال تعليمه الجامعي، ويختار بإرادته أن يصبح فلاحاً، ويستقل بمساعدة أخوته: "إسماعيل يرفس النعمة." حدث نفسه وهو يخلع ملابسه، ووديدة تمسك له جلباب النوم، تفهم كلماته التي لا تسمعها بقلبها بعد أن خفتت قدرتها على السمع. التفت إليها، ورفع يديه بصعوبة كي تحكم ربط حزامه الصوفي فوق ضلوعه، وزفر آهةً حزينة.
قالت هامسة: ارحم نفسك يا طه.
قال بصوت عال: تعبت يا وديدة. اتفق أولادك كلهم معه، قالوا لي اتركه يختار، لا تفرض إرادتك عليه. أنا أفرض إرادتي ؟ أنا ؟ ماذا يريد من الأرض ؟ وماذا ستعطيه الآن ؟ يتصورون أنني لا أستطيع إدارتها منفرداً، وأنها تحتاج لشاب عفي، طوال العمر وأنا أديرها، المسألة ليست سنا.
نظر إليها نظرة طويلة تعرف معناها، ثم غرق في ذاته. انتظرته صامتة، وعكس وجهها هدوءاً واثقاً من حسن تصرفه.
قال: ليست الكبرياء.. أنت تعرفين.. ليست الكبرياء. الأرض ركبتها الجمعية والسوق السوداء، وبلطجية السماد والبذور، غير تحديد حصص التوريد والسعر.. ولولا التجارة وتربية المواشي ما كنا، الأسهل أن أتركه يساعدني، لكننا لا نحتاج إلى خولي.
رفع رأسه نحو لمبة الكهرباء التي يتلاعب ضوؤها بفعل ريح هبت، ثم استدار إلى الأفق خارج النافذة المطلة على النهر. انتابه شعور بأن الظلام شديد الحلكة، وأن الضوء الصغير على الطريق مهزوم.
قال: أنا أعرف السبب، شئ أشعر به، وسيأتي أوان كشفه، المسألة أكبر كثيراً من إسماعيل يا أم عبد الله.
ـ سُقت عليك النبي ألا تغضب عليهم، هذا نصيب يا أبو عبد الله، وأنت لم تفرط في تعليمهم، كانت أمك الله يرحمها تدافع عن اختيارك طوال اليوم، رغم أنها ما اقتنعت يوماً واحداً بطريقتك، اتركه ربما ينجح كما نجحت.
ـ اخترت الفلاحة بعد منعي من التعليم، كانت العمدية أهم عندهم منى، كان من حقي الاختيار بين التعليم في أوروبا مثل أخوتي، وبين الأزهر.
ظهرت عروق تنبض في رقبته، وانتفخت أوداجه، وامتقع لونه الأسمر، أسرعت وديدة تقدم له الماء. نظرت إليه طويلاً، واحتلت عقلها صورة الحاج عبد القادر المصيلحى حين الغضب، قالت بصوت ضاحك تمازحه:
ـ صرت تشبه أباك كثيراً يا طه، أنت أنجح من الجميع وربنا كرمك.
لم يضحك، استمر يفتت المناقشات التي دارت مع أولاده في عقله:
ـ قالوا الدنيا تغيرت، نعم تغيرت، أنا اشتغلت على ذراعي كي أكفيهم مشقة الطريق.. ما يفعلونه طيش شباب سيدفع إسماعيل ثمنه، لكن بعد فوات الأوان، لن أكتب له قيراطاً واحداً، يتحمل نتيجة تصرفاته، ويعمل لديهم أجيراً، هذه آخرة مخالفة شورتى.
ـ الرزق من عند الله يا طه. بدأنا، وانت سيد العارفين، بلا مساعدة من أحد.
وخزته كلماتها، خاف أن يغلبها حنانها فتساعد إسماعيل على الاستقلال، قال والكلمات تتراوح بين الغضب والمحايلة، بعد أن هدأ صوته قليلاً:
ـ إنه لا يستطيع تشغيل عامل واحد في المزرعة ! لا يمتلك هيبة الإدارة، صدقيني، العمال يشتكونه طوال اليوم.
ـ هو عين شابة لا تغفل، تكشف كسل العمال وتلاعبهم عليك، لهذا يشتكونه حتى يبتعد، وتترك لهم السائب في السائب.
ـ فاكر أنه يقدر يقف أمام جنينة مانجو، ويبيعها قطاعي ويكسب أكثر. ابني ـ أنا طه المصيلحى ـ ينط فوق عربة نقل ؟ هي الدنيا انقلب حالها ؟
جلس على حافة السرير ضخم الجثة غير مترهل، رغم ثقل بطنه التي ترتفع أمامه:
ـ عبد الله يريد أن يبنى مزرعة فراخ يديرها إسماعيل، اكتب الأرض وغداً يبدأ مشروعه.
ـ عبد الله ما كسر لك كلمة، ولا أغضبك، سكت من يوم ما رفضت طلبه.
ـ لا، يلح علىّ كل يوم والثاني، أنا عارف أنه يقدر يشترى أرضا ويبنى عليها، لكن أنا لن أبيع فراخ على آخر الزمن. جمع أخوته وضغطوا يوم لأجل أكتب الأرض لإسماعيل، ويوم لأجل أوافق على المزرعة، وأنا أرفض لسببين: أولا لن أبعزق فلوسي، ثانيا هو المهندس البك وأخوه الفلاح بائع الفراخ، لن أجعله أجيرا عندهم أبداً.
ـ وغربة كوثر، اكتب الأرض يا طه، لأجل يحس إسماعيل بنفسه، أحسن ما عينه تكون مكسورة وسط أخوته.
ـ في الصباح رباح.

هزم طه المصيلحى أمام ضغط وديدة. لم يهزمه إلحاح أولاده عليه، لم يستطع أن يقف في مواجهة حنانها على إسماعيل. استكثر أن تكتب له الأرض من ميراثها، خاف من حيرتها الصامتة بينهما، فرضخ حتى يجنبها الصراع. لم يعشق في حياته قط قدر عشقه لاثنين: هي، والأرض. هي بهدوئها وبحبحة مشاعرها التي تشع حولها مثل نور ثريا نقى، والأرض المفتونة بعرقه، المفتوحة لرزقه. ساهته وديدة، وجرحت رغبته في الثبات على المبدأ الذي أبلغه لإسماعيل يوم ترك دراسته، أن يتحمل قراره دون مميزات. قالت وهى تساومه:
ـ صرفنا على أخوته في التعليم دم قلبنا، احسبها وأعطيه. لو كان شغِّيلا عندك منذ ترك الدراسة لكان لديه مال الآن.
رضخ، وكتب خمسة أفدنة، لكنه لم يسلم الصك له. ولم يمر يوم بعدها دون أن يهدده بأنه ممزق الورقة إن عاجلاً أو آجلاً، إذا لم يرضخ لتعليماته، ويبق في كنفه وتحت طوعه.
جلس في الشكمة يراود شيخوخته على مهل، ويمضغ أيامه. يقلب أوردة الزمن لا الحكمة، يوغل فيه فلا تطول قدماه سوى تحت سفح الريح، يتلون بألوان فاقعة التضاد، يمسك بأذناب الأحداث، ويلف بها السماء، ثم يطلقها إلى فضائها: "النصيب، وعمل بنى آدم". ارتعشت يده بالمسبحة، وهو يردد فوق حباتها أسماء الله الحسنى، ويسجل بها الساعات. وقعت أيامه في متاهة الحنين، فتذكر جده تمام الذي ما ابتسم لطفل
قط، ولا التفت لصبى أو فتاة من أحفاده إلا له، وحمله بين ساعديه ذات يوم قائلاً: "كن كبيرنا حتى نطيعك".
لم يقبل أن يطلع أولاده أبداً على حساباته في السنوات الأخيرة، ولا أن يتنازل عن عرشه وسلطان إدارته لأرضه وتجارته، لقاء شيخوخة تخزها آلاء الشفقة. قام متعكزاً على عصاه المملوصة من جذع خوخة إلى الصالة، وشرب بعض ماء من إحدى الجرار التي لم يتغير مكانها فوق الطاولة العالية في الركن، منذ بنى الدوار، ثم دخل إلى غرفة مكتبه، وتمدد فوق الكنبة وغفا. صحا على هيصة وزيطة عمال، صاح على وسيونى أن يعلمه بالخبر، جاء مهرولاً وقال له:
ـ العمال يشتكون من سيدي إسماعيل، ويريدون الكلام مع جنابك، قلت لهم سيدي نائم.
وصل إسماعيل، ونهر العمال المتجمهرين أما سلم الشكمة، فعلا صوتهم رافضين مغادرة المكان إلا إذا قابلوا العمدة. قام طه غاضباً، يتكئ على فرع الخوخة، فاصطدم بهرجلة إسماعيل وزيطته، ورآه يشوح بيده مادّاً رقبته مثل أوزة غاضبة، سأله:
ـ خير.
أجاب: ناس مالها إلا الحرق. نصب، وخراب ذمة. البكوات كانوا نائمين في الظل، والعربات متعطلة على الجسر تنتظر، والبك رئيس العمال عاملها سهراية، وقاعد يتدفأ ويشرب شايا وسطهم.
قال العمال في نفس واحد: تعبنا، ريحنا، أجلنا ساعة الغذاء لأجل نكمل تحميل العربة، وجاء سيدي إسماعيل افتكر إننا مبلطجين، دائماً ظالمنا، كل يوم مرمطة، مرمطة.
أردف واحد بعد أن سكت الجميع:
ـ تحملناه لأجل خاطرك يا حضرة العمدة.
قال طه بصوت ظهر فيه اختناق الصحو المفاجئ:
ـ روحوا، وابعتوا لي سعفان.
قال إسماعيل وكأنه يفح: خصمت لهم نصف يومية، وإذا لم يعرفوا أن الله حق، لن أبقى على نفر منهم.
تدافع الفلاحون: حرام عليك يا سيدي إسماعيل، عشنا ندب في أرضك، ولنا عيال نصرف عليهم.
قال طه بغضب: قلت اذهبوا.
استداروا إلى الخارج يهمهمون بحنق انكسرت حدته، ووقف إسماعيل في مواجهة أبيه:

تكسر كلمتي يا أبى ؟ تركبهم علينا ؟
ـ نافش ريشك وسطهم، صاحب المال يشغلهم بالحسنى.
ـ لا بيشتغلوا ولا يحزنون، متلطعين طول النهار، لا شغلة ولا مشغلة، ولا أحد يحاسبهم.
ـ مائة مرة قلت لك صبري نفد، سأقطع حتة الورقة، وأريح الناس من شرك.
ـ ورقة ؟ الورقة من حقي، هي مذلة ؟ كل يوم تصبحني وتمسيني بتقطيعها، أنا داخل آخذها من الخزنة ويحصل ما يحصل.
قام طه فزعاً وراءه، أمسك بقماش جلبابه:
ـ تعصاني يا إسماعيل ؟ هي حصلت ؟
اندفع إسماعيل إلى درج المكتب، وفسخه، وأخرج المفتاح، واستدار إلى الخزنة. رفع طه عصاه وهوى بها مرتعشاً فوق جسم إسماعيل:
ـ تحتاج إلى رباية !!
تفاداها إسماعيل فسقطت بعيدةً عنه، واختنق طه بالغضب، فجلس فوق الكنبة مستسلماً. تراجع إسماعيل وركض إلى الصالة، ثم عاد بكوب ماء رفضه أبوه، وأشار إلى جيبه قائلاً:
ـ اعطني الدواء.
بحث إسماعيل مضطرباً عن الأنبوب حتى عثر عليه، وأخرجه ممسكاً به كطوق نجاة. همَّ بفتح الغطاء، ثم تردد، وقبضت كفه عليه، وتجمد أمام العمدة الشاخص ببصره إلى السقف البعيد. ضربات قلبيهما سريعة وواضحة، الحبوب بين أصابع إسماعيل المتسمر في مكانه. أدرك طه ما يحدث، فاستدار إلى ابنه مسدداً بصره إليه في تركيز سرى إلى جسد إسماعيل كتيار صاعق. ارتجفت يده، فأغمض عينيه على خاطر زلزل كيانه، دهس بأسنانه شفتيه حتى شلب منهما الدم، غز روحه شقرف حاد فتلوى مصدراً أزيزاً مكتوماً مسحوقاً تحت ثقل الرغبة التي اصطدمت بحب جارف للرجل الذي أراد أن يقلده فضَلَّ الطريق، تاه في دهاليز وهم القوة والإعجاب بنفسه. انفجرت فوق جبينه فجأة قطرات عرق، ونبضت عروقه بسرعة فانتفخت أوداجه، وطقطق جسده مثل ديك رومي مستفز أمام ثوب أحمر، فسقط فوق أبيه الممدد، وحمل رأسه فوق ساعده، ولصق الحبة تحت لسانه. ثوان فرت تخب، أدرك فيها طه حجم الصراع الذي حسم لصالحه. خرج صوته معانداً عافيته وقدرته:
ـ أريدك رجلاً.
وقع إسماعيل فوق يده المرتعشة، وأغرقها بقبلاته، ماسحاً بجبينه تهوره وطيشه، مجهشاً كطفل نزق، ربت طه فوق ظهره:
ـ أريد أن أرتاح، سأنام حتى يأتي ميعاد العشاء. اذهب لأشغالك.
احتاس إسماعيل والتاث، ولم يعرف ماذا يفعل كي يطمر إلى الأبد فعلته. حثه طه على الخروج، وخزه بالعصا في جنبه حتى ابتعد في لهوجة عرف بها مدى الحياة، ولم ير دموع الشيخ التي صارعها، حتى لا تنفجر كشلال انهمر لحظة أن عبر ابنه عتبة الباب. لم يرغب طه للمرة الأولى في حياته أن يتمالك نفسه، تركها تبكى فساد الزمن، مشقة دموع الكبر، وأحزانه. نازعه احتقار لكل ما يمثله إسماعيل من قيم مهترئة، ورهانه على بصيص ضوء رآه في تراجعه عن فعلته، ضوء مطموس بطلسم الرغبات الجشعة. جفف عبراته، وصاح على بسيوني ليأتيه بمنشفة، وكوز ماء لغسل وجهه، ثم خرج نحو غروب يرهص بالشارات إلى حديقة جافة لم يصمد فيها إلا الجهنمية، بأشواكها الصلدة، وجذعها المقدد الذي يحايل وردات صغيرة على البقاء. يعب مثل جمل عجوز لا تقوى قدماه الطويلتان على حمله، مختال رغم أنفه بطلعته التي يهابها الصغير والكبير، مركزاً النظر إلى البعيد، رغم العصا التي تسنده، عبر الدهليز الذي لم يكف فيه صوت مدشة الفول عن جلد الصمت. انتبه إلى تراكم الزمن الذي عشش في الأمكنة، رغم محاولات التجميل، ولاحظ الكلبة الوالدة في بئر سلم الفيلا الصغيرة التي كان يستدرج فيها الضباط الفلاحين، لكى يجبروهم على الاعتراف بضرب قوة البوليس أيام الحادث الكبير. تذكر تحديه للحكمدار رأفت قاسم، الذي نتج عنه وقفه سنة عن العمدية، ودخول الهجانة البلدة. غمغمت الجراء العمياء، وهى تفلفص متزاحمة على أثداء أمها الراقدة على جنبها تمتص حلماتها بشراهة، والكلبة ساهمة تقطر عيناها رقةً وصفاءً أباحا للحنين أن يعبث في عقله على مهل. تجنب المناطق العالية المقلقة في الطريق الذي دهسه آلاف المرات، عبر الباب الخشبي الكبير، وتمهل في الساحة المربعة التي تفتح على الزريبة يميناً والحرملك يساراً، وألقى بنظرة طويلة إلى الجاموس المسترخي أمام الطوالة، يهش الساعات والذباب بذيله، وسمع صوت حفيده علاء، وحيد ابنه عبد الحميد شهيد 1967، يغنى في زريبة الغنم:
سح يابا دح... يا خروف نطاح
وقف يلتقط أنفاسه، ويتأمل علاء الذي انتبه لجده فجاء يركض، واحتضنه من ساقيه، دافناً رأسه في جسده الكبير. دمعت عينا طه، جففهما بمنديله بسرعة. سبع سنوات منذ رحل عبد الحميد، وولد علاء له بعد شهور من استشهاده. أخرج من جيبه نقوداً معدنية كثيرة، ووضعها في كفه، وفتحها ليأخذ منها علاء ما يشاء. فرح الطفل، وكبش بأصابعه الرفيعة ما يستطيع، ثم ركض إلى خارج الدوار ليشترى كراملة. واستدار طه مع الطريق، وعبر الباب الأوسط الذي كان بشير القهوجي يعلق في فتحته العلوية الحبل، ويربطه في الهلال ويتسلقه حتى يفتح السقاطة، ويدخل إلى روايح خادمتهم، منتهكاً حرمة الدار وهم نائمون. بشير الذي لم يظهر له أثر منذ هدنة 1948 حتى الآن، ولم يعرف لماذا يتذكره الآن، شحذت حواسه الخمسة للرؤية فقفزت إلى ذهنه ومضات من العمر. خف إلى حوش الدار متتبعاً رائحة الشياط التي تفوح من رأسه، وعبر الفناء، فلم ير وديدة، جلس فوق المصطبة بجوار باب المطبخ. رآها، خارجةً من غرفة اللبن، حاملة صحن قشدة:
ـ مرحباً، العشاء جاهز، شهلي يا صبحية، حضرة العمدة وصل.
ـ لا، أريد فنجان القهوة أولاً.
ارتكن على الجدار الخشن المدهوك بطمي النيل. استدارت لتعد له القهوة بنفسها، مدد ساقيه للأمام، شعر برأسه يتثاقل، عدل من جلسته، ليريح الفقرة المتعبة في منتصف عموده الفقري، والتي كثيراً ما يفشل الحزام الصوفي في كتم وخزاتها. تذكر الثور الهائج الذي أوقفه يوماً، وتسبب له في الألم مدى الحياة. لم يندم، عبر واتكأ فوق حاشية صغيرة من وبر الجمل. تطايرت أمام عينيه نجوم صغيرة مضيئة، وفراشات بيضاء، رفت مع رموشه بسرعة، ورقصت مهفهفة. سرى سائل ساخن اتخذ طريقه من رأسه إلى أعضاء الجسم، دثره بهدوء لذيذ وممتع، استسلم له، فلم يسمع قرقعة وقوع الإبريق و"الطشتية" ( ) من يد صبحية، حين جاءت تقدمه إليه مع الصابون ليغسل يديه قبل العشاء، ولا نداءها:
ـ الحقيني ياستي !!
ولم يشعر بدفء صدر وديدة وهى تحتضنه، بل مال معها، واستقر كما أرادت له فوق المصطبة الطينية التي يغطيها كليم صوف عتيق، حتى حمله الرجال إلى غرفة راحته في الشكمة، على بعد أمتار قليلة من مجلسه اليومي، ومن مكتب أبيه حيث استشهد عبد الحكيم. ولما جاء الطبيب، قال إنها جلطة سريعة في المخ، أنهت حياته فور تكونها. دخل عبد الله إلى أمه في الحرملك حائراً، لا يعرف كيف يخبرها، باغتته قائلة:
ـ راحت دولتنا يا عبد الله.
انكفأ على آلامه.
خرجت القرية كلها تودع طه. لم تبك وديدة ألم الفراق، أرجأت الحزن حتى يمر الحفل كما يليق به. تذكرت أم طه ورحيل زوجها، طلبت نحر أكبر ثور في الزريبة ليكون رفيقه في ليلة وحدته الأولى. ذبح لحظة اجتيازه لباب الدوار للمرة الأخيرة، ووقف أهل المنتهى صفين على جانبي الشارع، ليفسحوا الطريق للأغراب لوداعه. طار النعش، ورفرفت أجنحة الملائكة صانعةً موجات من الريح المعطر بالياسمين، وانشغل أهل الدوار باستعادة حلم وديدة الذي حمل النذر، واكتشفوا أنها ليست الوحيدة التي تنبأت به هذه المرة؛ إذ تكرر الحلم مع أربع غيرها، اثنتان من بناتها قمر ونازلى، ولبنى ابنة رشدي وخطيبة عاطف، وأخته نعيمة أيضاً. وانشغلت القرية تستعرض حياته، مآثره وانكسارا ته، تذكروا والده الحاج عبد القادر المصيلحى، وكيف كان منعماً وكريماً، وكيف اختار طه العمل والتجارة طريقاً مغايراً لرغبة أبيه. تذكروا حادث أبو مندور، ووَقْف طه عن "العُمُدية". تذكروا جلسته فوق الحجر بجوار حائط الدوار في الهواء الطلق. تذكروا رفضه لكل المشروعات الجديدة التي جاء بها عبد الله، وتساءلوا إن كان عبد الله سيبدأ في بناء المزارع بعد أن أصبح الأمر كله في يده. وسرت همسات خافتة تحسب ثروة طه.
وقبل أن يطلع النهار، كان الفلاحون يقسمون أنه يمتلك جراراً من الذهب الخالص مدفونةً في سرداب تحت الدوار، وأن الأيام القادمة ستكشف حجم هذه الأموال، فلن يصبر أولاده على تخزينها طويلاً. وعرفوا أن عصراً جديداً قد بدأ برحيله، وناموا وهم يتمتمون: الكبير كبير..
وسهرت العاملات أمام الفرن، يخبزن العيش الخاص وأقراص الرحمة التي احتاجت إلى ثلاثة أرادب من القمح، ولم تتوقف الأبقار والجاموس عن الحلابة، حتى انتهى العجين، ثم عجزت عن إدرار اللبن أسبوعاً كاملاً بعد ذلك.

صحت عصراً بعد أن نامت ساعتين كاملتين فوق قبة الفرن التي حمتها لتبدد البرودة قبل أن تصعد إليها. اعتادت أن تحميها ليلاً، لكنه الفراغ. لم تجد ما تفعله بعد أن أذابت حبوب العدس الأصفر، وهرستها وعصرتها وحمَّرت لها بصلةً في الزيت، ثم دشدشت الخبز اليابس في الماعون قبل أن تغرفه عليها. لم يبق لها سوى أن تأكل خليطها الساخن، لكنها نقلته من فوق وابور الجاز ووضعته أمامها دون أن تمتد يدها إليه، ثم أقنعت نفسها أنها لابد آكلةً، فأكلته. لم تكن في حاجة إلى مضغه، فالعدس أذاب الخبز، وسهل زلطه، ومع هذا تلكأ في سقف حلقها، وبين شدقيها الخاليين من الأسنان. فككت الحرارة تشددها ومللها من الحياة. استراحت فعرف الطعام طريقه إلى بلعومها، وانفتحت معدتها الصائمة لتتلقفه، بلعت ريقها، والنحلة تزن في رأسها: وماذا يتبقى لي في نهاري ؟ هشت النحلة بيدها من أمام عينيها اللتين فقدتا قدرتهما الأولى، ومدت يدها بالملعقة إلى الصحن تنقل من "الفتة" إلى فمها، توالت الدفعات حتى استراحت فنعست.
بدد النوم ساعتي القيلولة، فماذا عن باقي النهار ؟ قررت أن تذهب إلى الغيط لتحضر حزمة بقدونس. مشت على مهل فوق أرض زلقة تفوح منها رائحة التراب، حيت كل من قابلته في طريقها بهزة من رأسها، وكلمة واحدة: "العواف". كانت قد اعتادت الصمت، فتغضنت حواف فمها وظهرت حوله "الكشكشة" كأنها تزمه عامدة، حتى لا يُصدر صوتاً. لفت الخضرة بطرف طرحتها السوداء الطويلة طوال الطريق، فلما وصلت دارتها تحت المكبة مع قطعتي الجبن القريش، وبقايا العدس والبصل، وبركت أمام باب الدار في الهواء الطلق فوق حصير صغير متآكل الحواف. حصرت أيام وحدتها بعد أن سافرت وديدة أم عبد الله لتعاود جرَّاحاً في القاهرة، لم تتعد الأيام إصبعها الأوسط، لكنها كانت أقوى من أن تحتملها. اعتادت في هذا الوقت بعد أن تصحو من القيلولة أن تذهب إليها في الدوار، وأن تجلس معها ساعات العصرية وأن تسامرها، بعد أن اختفى زمن الضجيج، وفرغ الدوار من أهله. تزوج الصبيان والبنات، وأصبح الدوار "ينش" طوال الأسبوع إلا من زائر يمر كل حين إلى أن يأتي يوم الخميس وتتجمع العائلة.
كانت مثل وديدة لا تعرف الاختلاط بالغير، والزيارة هي للواجب فحسب. لم تجلس في المغارب أمام الدور مع الفلاحات، ولم تذهب إلى النهر لتغسل الأواني معهن، ولم يكن لها غيط لتُفلحه. انقضى العمر وهى مشغولة بعائلة المصيلحى، ومع الوقت التزمت بعاداتهم، وكادت أن تنسلخ عن عاداتها. حتى عندما كانت تستحم عند الفجر في النهر قرب أعواد الغاب، اختارت مكاناً محدداً يعرفنه جميعاً، فلم تحتله إحداهن يوماً، ولم تنتظرها جارة أو صديقة لتحمل عنها ملابسها حتى تنتهي. كانت تحمل صرة الثياب النظيفة ملفوفةً بدثار أسود، تعلقها في طرف بوصة قوية، ثم تنزلق إلى الماء، وتخرج منه متطهرةً قبل أن تهتز الفروع المجاورة، أو تعلن الريح عن وجودها. اعتادت جاراتها صمتها، وعزلتها، وكن يحيينها في ود دون اقتحام، إذ كانت لا ترد لإحداهن طلباً، وتوصل رغباتهن، واحتياجاتهن لأم عبد الله، فكن يقصدنها إذا ما أردن شيئاً من الدوار.
ولدت أمينة لأب غريب، والمنتهى لا ترحب كثيراً بالغرباء، حتى لو جاء أحدهم، وعاش فوق ترابها سنوات طويلة. والزمن لا ينفى اغترابه، ولا يعطيه حق الانتماء، حتى وإن تزوج من بناتها، فهي تنظر بعين الريبة لهذه الزيجة، ويتساءل أهلها في لياليهم الطويلة تحت ضوء فوانيس الجاز بدهشة: لماذا وافق الأب، ألف كانوا يتمنون ابنته، حتى لو كانت زرقاء ومقشفة، وكشف الزمن عراقيبها، وكل فولة ولها كيال. عمل أبوها عبد العال القناوي شاويشا في مركز البوليس، واستقر سنوات تزوج فيها أمها، ثم رحل إلى عمله في مركز آخر، وتباعدت بالتدريج زياراته للقرية، وأشيع أنه متزوج في بلدته من أعمال الصعيد. وفى إحدى زياراته لزوجته في المنتهى توفى، واشتعلت المناقشات، هل يدفن في القرية أم لا. وارتاح أهل المنتهى لقرار الرجل الذي كان قد أبلغه لزوجته بأن تعيده إلى موطنه، فمن غير المقبول أن يدفن وسط عائلة المرأة. وهناك اكتشفت الأسرة أنها لن تستطيع الحصول من ميراثه ـ مع كثرة عياله ـ على ما يسد رمق الزوجة وابنتها، فعادت ولسان حالها يقول إن الرزق على الله. وانكفأت الفتاة الصغيرة تربى ابنتها بمساعدة أبويها حتى صارت الطفلة صبيةً يميزها هدوء وعزوف عن لهو نظيراتها من البنات. ورغم اليتم وصفاتها الحميدة التي شاعت في القرية، إلا أن إقبال الخُطَّاب عليها كان قليلاً، فلما بلغت الثامنة عشرة دون زواج، وأصبحت في العرف عانساً، زوجتها أمها من مراكبي عجوز يمر فوق النهر أمام المنتهى لنقل الفول والحبوب من المنيا. ماتت زوجته، وتزوج أبناؤه، ولم يختلف حظها كثيراً عن حظ أمها، إذ ترك لها صبيّاً لم يكمل الثانية من عمره، والمركب هي كل ما يملك، والأولاد يعملون فوقها. ذهبت إلى العمدة تسأله كيف تحصل على حقها، فتحدث طه إليهم، وبعد مفاوضات، حكم لها بثلاثين قرشاً عن كل نقلة، وثلاثين أخرى لابنها، والنقلة تستغرق شهراً كاملاً.
احتارت أمينة، كان هذا أقصى ما يمكن أن تقدمه لها أسرة زوجها، ولم تكن تستطيع العمل في البيوت، ولم تعتد نساء المنتهى العمل في الترحيلة، والموسم ليس موسماً لجنى أي ثمار، فماذا تفعل ؟ عادت إلى بيتها ساهمةً غارقةً في الحزن. تفتحت أمام عينيها صور للفقر كثيراً ما تكررت حين يموت العائل، وتنحدر الأسرة إلى متاهة الحاجة. مرت الساعات ثقيلةً حتى سمعت طرقات فوق بابها، وفوجئت بالعمدة يدخل إلى دارها المقابلة لدواره، ووراءه فطوم تحمل قفة فوق رأسها وطفلاً يلف ساقيه حول وسطها، بوغتت، قال لها وهو يجلس فوق المصطبة ويعطيها ابنه:
ـ أم عبد الله بين يومها وليلتها، ولا تستطيع رعايته، وأنتِ خير أم له.. أريد أن يقضى ابني نهاره لديك حتى تشد أمه حيلها، وتعيديه لها بعد آذان المغرب.
قالت أمينة باكية: رهن إشارتك يا حضرة العمدة.
قال: أنتِ ابنتنا، وكان أبوك صالحاً يرحمه الله.
ثم قفز واقفاً وغادر الدار، تاركاً الطفل معها.
عاشت أمينة في كنف الدوار وحماية أهله. تأتي في الصباح لتحمل الطفل، حتى تربى أبناء العمدة جميعاً بين يديها. وبعد وقت قصير أمسكت مفاتيح البيت، وعرفت أسراره، وأدارت حركة الخدم، كما أشرفت على كل المناسبات السعيدة والحزينة. وكانت رفيقة الأبناء في زيجاتهم، وميلاد أبنائهم، ولعبت دور عسكري المراسلة لدى كل فتاة تغادر الدوار إلى أهل زوجها حتى تستقر الأسرة الجديدة. وتربى ابنها في مدرسة الصنائع، وتخرج وترك القرية إلى مدينة المحلة حيث مصانع النسيج، وكون أسرة بجوار عمله إلى أن جاءه عقد عمل في العراق فسافر، وتركها ترعى أيام الوحدة.
انقضى العصر سريعاً، ودخل المغرب يفتح الباب لليل طويل حالك، لا تضربه رياح لكن تسكنه برودة شديدة. دخلت أمينة لتلحق بالصلاة، ثم تكومت فوق المصطبة تبحلق في السقف. نامت طيورها وسكنت إلا من حركة ناعمة لطير ما زال قلقا يرتب مكاناً لراحته. أسندت رأسها للحائط، وقعت عيناها على الطاقة، زمت جفونها تستطلع الجدار الخشن، منذ زمن نسيت أن تملِّسه بالطين حتى تشقق، وخرجت منه أعواد القش، وبانت عراقيبه، وآثار الريح والحرارة، وتساقط المطر، وجفاف البرودة. رحل شبابه مع شبابها، فكانا أشبه بكائنين خرجا من طينة واحدة، ونضجا معاً في فرن واحد، من ينظر إليهما في هذه اللحظة يعرف حقيقة أن الله خلق الإنسان من صلصال. صلصال ثابت، واقف، لم تنفخ فيه الروح، وصلصال حي في الفراغ. دققت النظر إلى الطاقة فرأت شيئاً يتحرك. تردد في عقلها سؤال إن كان هناك فأر يختبئ ! لكن الفأر لا يسكن جحراً عالياً كهذا ! ربما يكون ثعباناً ! لكن الثعبان يتدلى من القش، فهل يسكن الطاقة ؟ ومتى حفر جحره دون أن ألاحظه ؟! زادت زمة جفنيها، مرقت سحابة غطت بصرها، تضاربت الجفون بسرعة حتى أزاحتها، اتسعت الرؤيا، وتحركت خطوط توسع لنفسها مكاناً في الجدار الطيني، تخلقت حتى صارت طفلاً صغيراً في حجم الكف، طفلاً غير منفصلة أعضاؤه، ملتصق ببعضه !
جنين !! تعالت ضربات قلبها، وانفرطت دموع ناعمة على الوجه المتغضن. قالت بصوت سمعته كل الكائنات حبيسة الدار: لقد دفنتك منذ زمن نسيت عدد سنينه !! بكى الجنين، ورغم لهفتها، والحب الذي سال يفتح كل شرايينها، ويتدفق في أوصالها، لم تستطع القيام لتحتضنه، ولم يخرج الطفل من مكانه، مسحت أنفها السيال بطرف كمها، وهى تجهش حتى شعرت بحركة في جدار آخر، سرى داخلها بهدوء الخوف الموجع، التفتت نحوه، كان جنيناً آخر يفسح لنفسه مكاناً ليبزغ. تذكرته على الفور، كان حملها الذي نامت على ظهرها كل لياليه، لكنه لم يقاوم، وخرج من جسدها مندفعاً كبركان منفجر. صامت بعده عن الطعام أياماً ثلاثة حتى كادت أن تذوى، وأجبرتها أمها بمساعدة الشيخ عيسى أن تفك صيامها لأنه تصرف ضد إرادة الله، يومها أعطاها حكيم الصحة برشاماً بلعته حتى لا يطرد جسمها الأجنة، لكن الجسد اللعين لم يقبل الاحتفاظ بالطفل حتى يكتمل. وأعطاها العطار أعشاباً كانت تسلقها وتبتلع منقوعها المغلي المر على الريق دون جدوى، والأجنة تتساقط مثل أوراق الخريف. لكن خريفها يأتي كل فصول السنة، والجدار كل شهور ثلاثة أو أربعة يحمل قطعة لحم بشرية جديدة. والسنوات تمر، وهى تعرف الأماكن، وترتبها، ولا تنسى أبداً وتفتح حفرة على جنين، بل تمتد يدها إلى مكان نظيف لم يسكنه أخ أو أخت من قبل، وتحفر لتخبئه.
تحركت الأجنة كلها دفعةً واحدةً، تحول الجدار إلى بيت حي للنمل كشف عنه الغطاء الترابي فجأة، اقشعر بدنها، ونمت البثور عليه بسرعة. باتت أشبه بمريض خارج لتوه من معركة مع الجدري، شعرت بحركة في جسدها. دبت الحياة في كل قطعة من بدنها على حدة، وتحركت كل واحدة في اتجاه منفصل كدوائر الزئبق، ثم عادت واتصلت كهلاميات المستنقعات في البراري المتوحشة البعيدة. الكل أطراف، والكل جسم، اتصال وانفصال، اتصال وانفصال دائب. لم تعد تدرى الفرق بينها وأجنتها. خافت والتصقت بالمصطبة، حفرت قطرات العرق خطوطاً في تغضنات بشرتها، تحولت الحوائط إلى عيون، عيون ترتعش وتبرق بالحياة.
قالت: دفنتكم في الحائط حتى لا تتخطاكم والدة أو مطاهر وتنكبس وتيبس فيها الحياة، والإخصاب، أو أكون سبباً في قطع لبن الإرضاع عن وليد في شهوره الأولى، وتتألم أم أو تدعو إحداهن علىّ بضياع صحتي. شلت همي فوق كتفي، وحملته للحائط في دارى وأمام عيني. لم أنسكم أبداً، تعبت من العد، فكففت عنه، ولم أعد أعرف كم مرة تساقط منى لحمى !!
ابتسمت الوجوه حولها في كل الأركان، وتحركت الجدران الأربعة نحوها في خطوات واثقة. احتضنها الجميع بدفء لم تشعر به أبداً طوال حياتها، حتى في وجود ابنها الوحيد سالم، الذي رزقت به بعد طول عناء، وعندما كان أطفال المصيلحى عمدة المنتهى يملئون الدار.

انتعشت الحركة في الدوار صباح الخميس. مسحت صبحية الغبار من فوق الأثاث في الغرف المفتوحة للاستعمال، بعد أن أغلقت معظم أجنحة الدوار، وأبدلت ملاءات الأسرَّة، وتأكدت من وجود أغطية كافية لها انتظاراً لوصول العائلة.. ثم نزلت إلى الحرملك.
اصطدمت بأكوام التراب الجافة التي يلقيها متولي فوق أرض الحوش الزلقة لتمتص الماء، وتغلق الحفر التي ولدها المطر. اختبرت اختمار العجين الذي أعدته مع وديدة في الصباح الباكر، فلما تأكدت من فورانه أشعلت الفرن. خرجت ستيتة من غرفة اللبن حاملة فوق رأسها "طشتية" الخضراوات التي اشترتها من سوق الأربعاء، تمشى كالبطة تضغط على قدمها اليسرى فتميل كتفها ناحيته ثم تنقل الحركة إلى القدم الأخرى، وتسحب معها الجسم إلى اليمين. بدت للجالسين مثل مخرطة ملوخية تتكتك برتابة محببة. منتفخة باللحم و الشحم مثل جوال قطن طرى، تلهث مقطوعة النفس من المشي خطوات قليلة حتى وضعت حملها أمام وديدة على المصطبة، و بركت على الأرض بصعوبة ممسكة بركبتيها و هي تتألم. ضحكت صبحية زوجة ابنها قائلة:
ـ شحَّرتي ؟! قومي يا ولية اعملي حاجة نافعة في نهارك، قرصي لنا الرغيفين، الشاروقة حميت..
ابتسمت فظهرت السنتان الأماميتان الباقيتان في فكها الأعلى تضغطان على نظيرتيها في الأسفل، و انكمش وجهها مثل ياي ليزيد من بروز أنفها الذي يشبه ثمرة الكمثرى، وقالت وهى تفرز الخضروات:
ـ اعملوا أنتم.. شبعت الأرض من دوى حركتنا.. شهلي وهاتى لنا طبق عاشوراء من يدك الناشفة هذه.
قالت وديدة لصبحية:
ـ قلبي القمح على النار وانتبهي لرائحته، ودسي محاشر الأرز وراء العيش. فضوها قبل ما يضحك علينا النهار.. اسم الله الأولاد على السكة الآن.
تأملت ستيتة المكان حولها، وضغطت الكلمات ضاحكةً وهى تتأوه:
ـ أين الشغل ؟! انتهى الشغل و انتهينا معه.
قالت أمينة، وهى تضع الطيور في قزان كبير فوق الكانون:
ـ يوم صحة.. ربنا يبارك، ويداوموا على الزيارة بدلاً من أن تتكومي في ركن، ولا من يسأل عن صحة سلامتنا.. ناوليني يا صبحية العجين..

تأملت وديدة السُّباط في الطوابق الثلاثة التي تفتح على الحوش وسط الحرملك، لاحظت تكسر عدد من القلل الخشبية في سور الشرفة العلوية التي تستخدم أحياناً لنشر الغسيل ـ أثناء الأفراح والعزاء ـ رأت الباب الموارب المنكفئ فوق الأحجار، وقد تآكلت مفصلاته ـ تذكرت أنها تريد أن ترسل للنجار ـ مسحت بعينيها البناء، الفطر يلتهم الجير من فوق الجدران التي لم تطل منذ سنين بعيدة. شعرت بخشونة الأخشاب وبهتان لونها. اختفت بعض قوالب القرميد، فبدا سور السطح الداخلي من وراء الشرفة مثل عجوز سقطت أسنانه. تناثر القش واحتل المساحة كلها، وعششت أزواج العصافير واليمام بين فتحات الدرابزين. سكن الصمت السطح الذي كان يعج بقناني الطيور على أشكالها، وكان ظهور وديدة فيه للحظات كفيلاً بإحداث ضجة يسمع صداها كل من في الدوار، تحيط بها الطيور من كل ناحية، وتزعق طالبةً الحب من يديها..
لم تعد قادرةً هي أو خادماتها على الصعود إلى الطابق الثالث، نقلت العشش إلى الفناء، واحتل بعضها غرفة أم طه التي كانت ترتاح فيها أثناء النهار.
اختفت شجرة الجهنمية المتسللة من الحوش عبر الطوابق كلها، واختفت معها أصص الزهور التي كان يجلب الجنايني شتلاتها أيام أم طه، وكانت وديدة تحرص على استنبات بذور الريحان فيها وتزين به غرفتها.
تنهدت أمام شرفة الطابق الثاني المغلقة، تركت بصرها يبث الحياة في ذكرياتها. منذ استشهد عبد الحكيم الأخ الأصغر لطه زوجها، ورحلت زوجته الفرنسية مارى إلى بلدها مصطحبة طفلتهما الوحيدة، عديلة، التي لم تأت لزيارة المنتهى إلا مرة بعد أكثر من عشرين عاماً من الحادث، فتحت فيها بيت أبيها، ومرت به بسرعة لا تكفى كي تبنى معه أواصر محبة، وخرجت إلى أحضان عمها طه لا ترغب في البقاء في المكان المعبق بذكرى الدم والرحيل والاغتراب.
ما زال الطابق مغلقاً من ناحية الحوش، رغم أن إسماعيل تزوج فيه، إذ سعت زوجته سوسن إلى العزلة من اليوم الأول لوصولها، وظلت وديدة تقاوم الانقسام حتى استسلمت في النهاية، بعد أن جاءها إسماعيل يطلب فتح باب جانبي في ردهة السلم، كي تستعمله عائلته دون المرور بوسط الدوار، قائلاً لها:
ـ اشتريت دماغي يا أمي، وبلا مشاكل.
لم تفهم وديدة أبداً غيرة سوسن من اهتمام العائلة بليلى أرملة عبد الحميد، تصورت أن استشهاد ابنها، تاركاً جنيناً في بطن عروسه، لابد أن يحنن القلوب على الأرملة المكلومة التي وهبت حياتها لطفلها، ورفضت الزواج. لكن سوسن لم تكف عن المشاكل في كل زيارة لليلى، ثم مدت هذه المشاكل إلى باقي العائلة، حتى نجحت في إجبارهم على مقاطعتها.
قالت وديدة لنفسها: "يكون الجمال أحياناً نقمةً، لا نعمة !"
استعادت وديدة بصرها الذي يتلطع فوق الجدران الملتهبة بذكريات موجعة، لكنه ساهاها وسرح إلى الطابق الأول المحتفظ بنصف حياة خافتة، بعد أن أغلق جناحه الأيمن الذي سكنه حماها الحاج عبد القادر وعائلته لسنوات طويلة، ثم زوجوا فيه حيدر. تذكرت إقبال زوجته التي رحلت أثناء ولادة ابنته بيللا، وحيرة حيدر حتى زوجته أخته نعيمة لكريمان، ورحيل العائلة كلها إلى القاهرة بعد ذلك. اعتصر قلبها ألم يأتيها كلما وقع بصرها على الشقة المغلقة التي شهدت فيها أجمل ذكرياتها مع أهل زوجها.
رحل الصبيان والبنات، وتفرقوا وراء الرزق. اكتفت وديدة بشقتها الصغيرة. لم تعد في حاجة لأكثر من غرفة نوم واحدة لها، والثانية لمن يأتي لزيارتها من الأبناء، وصالة بسيطة للمعيشة. أغلقت المقاعد المطلة على السُّباط، تفتحها للنظافة صباح يوم الخميس استعدادا لوصول أبنائها وعائلاتهم، ونعيمة أخت زوجها التي تحرص رغم وهن عافيتها على الزيارة كلما استطاعت.
حاربت وديدة الفناء الذي يسكن الجدران ويعيث في الأمتعة قدر ما تستطيع، هي ومساعداتها اللاتي وهَنّ معها، حتى عجزت عن إدارة الدوار، فأغلقت معظم أجزائه تدريجياً، ولم تسلم الفيلا الصغيرة التي استقبلت منذ بناها طه في الحديقة الخارجية مبيت الأغراب، وفتحت لتحقيقات البوليس في حادث أبى مندور من الإغلاق. الشكمة هي المكان الوحيد في الدوار الخارجي الذي بقى مفتوحاً، وإن أصابه الشلل التام. فقدت بريقها القديم وألقها منذ بناها القاضي المصيلحى الكبير كي يستقبل فيه مريديه، وأحاطها بحدائق تصل إلى النهر، ثم حولها ابنه عبد القادر عمدة المنتهى إلى قصر فاخر، تحتل الشكمة فيه جزءه الأمامي الذي شهد بذخه وزيارات أغنياء الناحية وعلمائها، وعاصرت حكمة طه واستشهاد عبد الحكيم برصاصة في مكتب أبيه، بعد عملية انتحارية أداها هو وجماعة اليد السوداء ضد الإنجليز، فتعقبوه ومشطوا القرى المحيطة، وأشعلوا النيران في كثير منها، مما اضطره للانتحار حمايةً لقريته وأهله من بطش ذوى الوجوه الحمراء.
شهدت الشكمة التي تآكلت ستائرها الحرير، وخفتت ألوان الرسوم فوق جدرانها، عزلة طه الطويلة بعد رحيل الضجيج وتقدم العمر. أُغلقت حجرات النوم بها، وتركت مائدة الطعام التي كان يلتف حولها ثلاثون تشكو الوحدة والتقشف، وتحفرت أرضية الشكمة الرخام وتقلقلت بعض أجزائها بفعل الرطوبة والزمن.
مكان وحيد لم يجرؤ أحد على إغلاقه هو غرفة المكتب. حرصت وديدة على أن ينظفها صادق القهوجي بعد أن اشتكى البطالة من قلة الضيوف، ثم يعيد فرش الكرويتات في شرفة الشكمة استعداداً لاستقبال زوار إسماعيل.
سرحت وديدة مع الطريق الخارج من الحرملك إلى الدهليز والمخازن والزرائب التي احتفظت بمواشيها. شاهد وحيد على العز القديم. اختفت الخيل من الإسطبلات. ولم يبق فيها غير "كارِتَّات" متقادمة تجرها البغال، أغلقت مخازن الغلال على القليل الذي يكفى العائلة، وتحولت مخازن الفول التي كانت تخيف الحمائم بأصوات المدشات إلى مخازن للمركزات وأعلاف الدواجن الحديثة التي تأتى بها العربات من الميناء مباشرة، أو من المصانع خارج المنتهى. فلما زاد ضجيجها نقلت إلى البناء الصغير الذي كان يضم أيام العمدية السلاحليك، وغرفة التليفون والجراج، وأضيف إليه صف من الغرف عزلت الحديقة المطلة على النهر عن الشارع الرئيسي. وامتد بجوارها سور من النباتات موازٍ للنيل، توقف عند شجرة شعر البنت وخميلتها التي يرقد تحتها قارب راضى الصياد. وغيَّر هذا التشكيل من جغرافية المكان، وأوجد مساحة نصبت فيها كارويتات خشبية أُطلق عليها البورصة، يجتمع فيها مربو الدواجن مساءً، للقاء التجار القادمين من البلاد الأخرى، ويحددوا فيها سعر اليوم ساعة بساعة.
اختلفت ملامح القرية كثيراً منذ اللحظة التي دخلت فيها الدجاجة البيضاء، التي تجن وتنمو في شهر ونصف بدلاً من ستة أشهر كما كان يفعل أسلافها. بنى الفلاحون مزارع صغيرة فوق أسطح البيوت الطينية تضاء لها الأنوار ليلاً، فتحول ليل القرية الساكن إلى نهار له طنين يفوق النهار الرباني. هربت الذئاب من القرية واختفت الثعالب، وأصبح ظهور ثعلب أو ذئب كفيلاً بإطلاق ضحكة طويلة تمسح المكان الذي أوشك أن يخرج من الحواديت.
كررت أمينة مناداة وديدة بصوت عال لم تسمعه. اقتربت منها وسألتها: خبزنا العيش. ندخل الطيور الفرن ؟
انتبهت وديدة من استغراقها الطويل، وقامت تدور معهن حتى أتممن مهماتهن، وزعيق الأطفال وركضهم يملأ فضاء الرواق. يتسابقون حتى ارتموا في حضنها، وانتعشت حوائط الدوار بارتعاش فرح، حتى خيل لوديدة أن القش المدهوك بالطمي ينبض، وأن البناء الوقور الأشهب تخلى عن تزمته ورزانته، فتبادلت معه ابتسامةً فهماها معاً.


لم يعرف أحد على وجه الدقة من الذي لاحظ أن قاع النهر ـ على بعد خطوات من البورصة أمام الـدوارـ تسطع فيه جمرات ثلاث مشتعلة تثقب الليل بجسارة المحارب، ثابتة، تشع ضياءً ووهجاً كأنه قادم من نجمة بعيدة، يومض بنبض يثير الحنين ويخز القلب، ناعم كالحلم، بريء، ينفث النور ويرش السراب على المنتهى. تراه العيون القادمة على السكة فوق طريق المعاهدة، يراوغ المسافر حين يهبط من القطار، وينادى البعيد، يلاعبه، يثير فيه فضول الاكتشاف، ورغبة معرفة المجهول، يغويه أن يقترب أكثر فأكثر.
جمرات ثلاث في قاع النهر، الماء لا يجرفها. لم يظهر القمر في تلك الليلة، بحثوا عنه في سمائه، غاب أياماً، وعاد صغيراً لا يعكس شيئاً. ازداد لمعان الجمرات، تحولت إلى شموس صغيرة، جلتها حركة الموج. برقت بومضات نارية وسط السواد المحيط، تشمموا حضورها الجليل وبهتوا. انتشر الخبر ببطء لا يناسب الحدث، تحلق بعض الصبية أمامها ورموها بحجر، غاص بسرعة دون أن يهتز الوهج. رموها، ورموها، ضحكوا... قالوا هي جنية البحر جاءت للغواية متنكرة. في الزمن القديم كانت تتستر بالظلام عند الجسر العتيق قرب الساقية. زحف الضوء وحولت مزارع الدواجن ليل القرية إلى نهار، فأين
تهرب ؟ وكيف تستدرج شابّاً والنور الساطع يحرقها.. ؟! ربما تسكن الماء الآن، ربما هي النداهة..
ـ ابتعدوا.. ابتعدوا.
قالت عجوز واقفة لم ينتبه أحد إلى ملامحها، وأضافت:
ـ هذا نذير.. انتم لا تعلمون شيئاً. هو إعلان من النهر برحيل ثلاثة من كبار القرية. كان هذا ما يحدث في الزمن القديم قبل أن يفسد الزمن، وتسكن قلوبكم الغمامة. لا يرحل عظيم دون نبوءة.
قال طارق مندور: سأغوص في الصباح لأستكشف الأمر.
ضحك علاء المصيلحى بحماس: وأنا معك.
هز وائل منصور رأسه متحدياً: إن كانت بأحدكما قوة لاختراق الماء في مكان كهذا !
قال طارق وعلاء معاً: غداً نرى !!
ضحكوا ورموا الأحجار.
تململ الجالسون في البورصة، والشبان يعيدون الحكاية. حسبوا الأسعار، ونصف آذانهم تعي ما تردد عن الجمرات، لكن أحداً منهم لم يتحرك ليرى. أجلوا اليقين إلى أن تنتهي أشغالهم، رغم بقايا دبيب الميراث العتيق الذي ينغبش في الصدور، ثم نامت منتهى نصف إغفاءة يقلقها الحنين. لكنها لم تكن نفس القرية التي كانت منذ سنوات قليلة تنام أكثر، وتتكلم أكثر، وتحب وتحلم.
ذاب وهج الجمرات مع أشعة الفجر، واختفى مع وخزات الظهيرة الهادئة. احتار الشباب، أين مكانها، وتساءلوا إن كانت هي قطع مرايا أو معادن مدفونة، انجرفت مع حركة الموج ؟! لكنها عادت لتسطع مع الغروب. سكبت شروقها ببطء استلزم ساعات الليل، وقفوا أمامها مترددين: هل ينزلون الماء في العتمة ؟ وجلوا، رغم إنهم لم يتذكروا ملائكة النهر، ولم يفكر واحد في استئذانها كما اعتاد الأقدمون. رتبوا أحجاراً تشير لها، وعادوا في الصباح، مشوا في طرقات القرية مستعينين بإشارات غامضة تهسهس أرواحهم. تبختر شاب أسمر مختال بعضلاته أمام بؤرة بزوغها، انتظر أن يتجمهر الرفاق حوله. لم يسأل نفسه كثيراً عن المصير الذي ينتظره، تحت اللجة المرتعشة بريح الصبح. ترددت في صدره أبيات كان قد قرأها لويتمان تقول:
ليس من مستهل أفضل من مستهل اليوم
ولا من شباب أو عصر
ولن يأتي كمال كالذي هو الآن
ولا جنة أو نار
الاندفاع، الاندفاع، الاندفاع للعالم
أبداً هو الاندفاع الولود.
خلع طارق مندور الجلباب، وثبت بصره إليها بعينين والهتين، ثم قفز مرحاً سعيداً، بعد أن عبر وجوه الرفاق بزهو.
سكت الجميع فجأة. انقلب يقين شبابهم المتقد حماساً إلى خوف، ألجم ألسنتهم، وغلف قلوبهم بستار الصمت. خرج باسطاً ذراعيه، صارخا بفرح:
ـ لم أجد شيئاً.
اندفعوا يتصايحون:
ـ انزل مرة أخرى، ابحث جيدا في الطين.
تجمع أطفال الناحية وشبابها، ووقفت بعض النساء يستطلعن الخبر، وتلطع عدد من الفلاحين كانوا في طريقهم للحقول. وضع فمه فوق الماء، ونفخ بأصوات متقطعة:
ـ وووووو...ووو
كسب القلب الصافي معركة الخوف، مع وخزة جاءت من أعماقه تحثه على التراجع. أشرق وجهه، وهو يخترق الماء الثقيل المحمل بالطمي مرة أخرى، وخرجت قدماه ترفرفان كل في ناحية، ثم انزلقتا، واختفتا تحت اللجة. مر الوقت دون أن يتبادل واحد النظر مع زميله، ظنوا أن دقات الساعة في قلوبهم قد عطبت، إلى أن شاهدوا يديه المحملتين بالطمي مندفعتين تطرطشان الماء، ورأسه ينتفض ويقول لاهثاً:
ـ حتى سمكة صغيرة لم تمر من هنا !
خلع الأطفال ملابسهم، تصايحوا، قفز أول صبى دون أن يعبأ ببهتان خطوط قلم الكوبية التي خططها له أبوه في الصباح على جسده، ووراءه الجميع. اختفى الخوف، وتعالت الضحكات والقفشات:
ـ حاسب من الجنية يا جدع !
لعبوا حتى شبعوا، وملوا، ثم ركضوا عرايا فوق الجسر، حتى عفر التراب أجسادهم في محاولة لتضليل الأهل، وإخفاء خبر استحمامهم في النهر.
عادوا في الليل. تحداهم الشريان العنيد، وسطعت فوق وجهه أقمار ثلاثة صغيرة، برقت كحبات لؤلؤ في صدر أميرة، نفثت أشعتها فوق الماء الأخضر الزيتوني الذي يميل إلى السواد بسرعة.
ضربت القرية أخماساً في أسداس، وشككوا في صحة نزول الفتى إلى الماء، ونقلت العجائز الخبر إلى الرجال العائدين من المصانع في المدن المجاورة، وقلن لهم أن خمسين شابّاً مسحوا النهر، وأنهم استعانوا بمركب كبيرة يستريحون فوقها كلما تعبوا من الغوص، وأنهم كادوا أن يقلبوا قاع النيل، كما تقلب الأم جوارب ابنها المتسخة لتغسلها، وأنهم حرثوه حرثاً، وأنه لو كانت هناك آلات في مدن أخرى تستطيع تصفية الطمي ميكانيكيا لجلبوها، وأن ذلك كله سيجلب الخراب على القرية التي لا تتعظ.
وأضافت عجائز الدواوير الكبيرة والقصور، في الناحية كلها، شماتةً عجيبةً، قائلات أن الخراب آت لا ريب فيه، خاصة أن الشباب يكسبون جنيهات كثيرة، ويأكلون لحوما، ودجاجاً، وفاكهة، وهى أشياء كانت تؤكل في المواسم وبيوت الأغنياء حتى وقت قريب، وأن نور الكهرباء الذي يطل من منازل القرية طوال الليل، والذي غمرها بنور ينافس الضياء الرباني كي تربى الدواجن بالطريقة الجديدة. كلها أسباب تستدعى نذير شؤم، وأن النذير جاء عبر النهر، فليتقوا الله وليعودوا إلى سيرة حياتهم الأولى !!
لكن كلمات العجائز لم تجد صدىً لها غير بسمات فوق شفاه النساء والرجال على السواء. حتى الأطفال الذين عشقوا حكايات أمنا الغولة وطاقة عم متولي والشاطر حسن، والوابور المولع وحمار أبو صالح، لم يعودوا يجلسون في أحضان الجدات، ولم يأبهوا بما قلن، وأصبحت الحياة الجديدة أهم لديهم من عالم الجن والسحر والخوف، وهم يعرفون الآن كيف يحسبون النقود، ويقايضون على ساعات العمل، ويعرفون أيضاً كيف يحكون حكاية الثلاث جمرات وهم يضحكون....

قطع عبد الله المصيلحى الطريق من المنتهى إلى البحيرة في زمن لا يصدقه كل من عرف عن عبد الله التمهل والاتزان. حاول السيطرة على أعصابه، وهو يفكر أنه ورط قريته بكاملها في هذه اللعبة التي قال عنها أبوه أنها لعبة قمار، تكسب فيها كل شيء أو تخسر كل شيء. كان مثل طه حاد الملامح، لكنه ورث شعراً أحمر مجعداً من جده عبد القادر، وانتشر النمش على بشرة وجهه التي لوحتها الشمس. وعلى عكس طه الذي يربك محدثه، إذا ما نظر إليه، يبعث عبد الله فيه الهدوء، والثقة، بعينيه المسالمتين الصافيتين، في لون البندق. لم يخطر على باله أن زيارته لصديقه فرغلي النادي ـ في أحـد الأيـام ـ ستحول مسـار المنتهى، وتنقلها، ربما إلى الأبد، إلى عالم آخر لا رجعه فيه لكل ما اعتادوه على مر العصور، منذ أقام أول رجل عشة بجوار النهر في هذه البقعة من الأرض. تلك الزيارة التي شاهد فيها مزرعة الدواجن البيضاء لأول مرة في حياته، وعرف أنها تنمو في خمسة وأربعين يوماً فقط، وأنها تعطى ربحاً وفيراً، فطالب صديقه بمشاركته في بناء مزرعة في المنتهى قائلاً:
ـ طوال حياتي أتمنى إقامة مشروع، يشدني إلى المنتهى، بدلاً من الركض وراء الرزق في البلاد، مع شركة الوادي للمقاولات.
لكن فرغلي اعتذر بضيق وقته قائلاً:
ـ اقبل ضيافتي حتى تكتسب الخبرة في إدارة المزرعة، ثم ابنِ وحدك مشروعك...
عاش عبد الله في البحيرة شهراً ونصف الشهر، وتردد عليها شهراً آخر أسبوعياً، حتى تم البيع، والتطهير، وإدخال كتاكيت جديدة. عندها قرر مفاتحة أبيه في بناء مزرعة، اختار لها أرضا بجوار جرن القمح، لكن طه فاجأه بالرفض:
ـ لن نبيع "فراخ" في آخر الزمان.
استعان عبد الله بأخوته الذين أعجبتهم الفكرة لإقناع والده، لكن طه لم يتزحزح عن رفضه. وتعجب الجميع لان طه هو الذي أدخل الزراعة المتطورة إلى القرية، وبنى فيها مناحل العسل وعصارات الياسمين، وجلب لزرائبها سلالات ممتازة من المواشي، وعاش يتابع كل جديد في تهجين النباتات. ولم يفهموا أبداً سر الرفض، وهم يعلمون دون مناقشة التفاصيل مع أبيهم أن الأرض تخسر منذ عجز طه عن إدارة عمالها، وحددت الحكومة أسعار بيع المحاصيل، وأجبرتهم على توريدها للجمعية، وأن التجارة هي التي تعوض ما ينفق عليها.. فلماذا التشدد إذن ؟!
لم ييأس عبد الله من استمالة أبيه، ورفض نصيحة أحد الأصدقاء بشراء أرض لمشروعه، حتى رحل طه، فبنى مزرعته الأولى، وتبعه أخوته. وقلدتهم القرية بكاملها، وأصابها سعار البناء وهى ترى دورة الإنتاج السريعة والربح الكبير، حتى جاء يوم ضحت فيه المنتهى بكروم العنب، وحدائق المانجو، التي زرعتها أثناء الحرب العالمية الثانية. اعتمد الفلاحون على تجربة عائلة المصيلحى دون أن يحسبوا حساباً لمخاطر هذه التجارة، ولم يخطر على بال أحدهم أنه سيواجه مأزقاً كالذي يواجهه اليوم، بسبب توقف أكبر مصانع العلف عن الإنتاج لصيانة آلاته، وتأخر وصول شحنات فول الصويا إلى الموانئ.
نعق الرعب في سماء القرية. رقصت السيارات في الطرقات بلا هدف. اجتمعت في لحظة أمام البورصة، ثم انتشرت واختفت في المزارع والأزقة، ثم عادت إلى التجمع في البؤرة لوهلة ذابت بعدها في المدى.
وقف إسماعيل المصيلحى في المخزن يشرف بنفسه على تحميل عربة نقل صغيرة بأجولة العليق، بعد أن أمر بتخفيض الكمية في كل جوال إلى النصف. تبدل إسماعيل كثيراً بعد موت طه، وتحمل مسئوليةً لم يتوقع له أن يتحملها. وكانت وديدة كلما رأته مهموماً بأمور العمل ليل نهار، تتذكر قول طه: "في الحياة انقلابات يا وديدة. قوانين الدنيا لا تقف عند التراكم وحده." لم تفهم أبداً رنة الحزن في صوته، ولم تعرف أنه يحمِّل نفسه جريرة موت أبيه. هو وحده الذي عاش تلك اللحظة الرهيبة غير المتكافئة. هزمه طه ومات، لكنه كشف عن أصالة ما، دفينة، لمعت في لحظة الاختيار، وقدمت نفسها بقوة صهرته "تركته حياً" يقول لنفسه، ثم يضيف:
ـ لكنه مات بعد ساعة، فمن قتله ؟
يختنق صوته: لو يعود أبى ويسامحني ؟
هو سامحني. نعم، سامحني، قال أريدك رجلاً.. سأكون هذا الرجل، فيرتاح في قبره.

تقول وديدة لنفسها "ليت إسماعيل يستعيد مرحه، وحتى نزقه، ما بال رجال هذه العائلة يشيخون في صباهم ؟!"
توقفت سيارة فارغة أمام المخزن، ونزل سائقها حسين أبو كحيلة، وبادر إسماعيل بالحديث:
ـ وزعت العلف على المزارع في حوض رميح، وفى البر الثاني، وسأذهب بكميه أخرى إلى غرب البلد، وإن كان العليق لن يحتمل في كل عنبر أكثر من ساعتين.
ـ تأكد يا حسين بنفسك انك لم تنس عنبراً واحداً صغيراً أو كبيراً. الجميع في خطر، وكله في رقبتنا.
ـ ألم تصل أخبار ؟
ـ لم يصلنا شيء بعد.
ساعد السائق العمال في نقل الأجولة إلى سيارته، وانطلق مسرعاً نحو الغرب. نظر إسماعيل إلى ما تبقى في المخزن، وقال للعمال:
ـ ستموت الكتاكيت في المزارع إذا بقينا على هذا الحال، دون وصول معونة حتى الصباح.
دخل منصور فزعا: اعطني أي شيء في عرضك يا سيدي إسماعيل !!
ـ روَّق يا عم منصور. استلم نصف جوال، وإذا وصلت أي كمية سأرسلها لك فوراً، حمل
الحمار يا إبراهيم لعمك منصور.
دمعت عينا الرجل، وخرج وراء حماره. تلطع عدد من الشباب بجوار المخزن لا يعرفون ماذا يفعلون، وعامل التليفون لا يكف عن طلب الاستغاثة من الشركات. ساءت الحالة في الغروب. عاد زوج أخته فريد شوكت باتفاق مع شركة على إرسال عشرين طناً بعد يومين، ولم يتمكن من استلام أية كمية تبل الريق. ودفعت لهم بنورة ثمن عشرة أطنان لدى إحدى الشركات في القاهرة، على أن ترسل بمجرد وصول الشاحنات من الميناء. وصل حلمي مع سيارة محملة بأربعة أطنان سمك، ولحق به عادل بن فريد شوكت، وبصحبته سبعة أطنان ذُرَة صفراء. وبقيت مشكلة فول الصويا ـ الذي يخلط معهما ليشكلوا العلف ـ لم تحل.
عاد كل من وصل لركوب سيارته منطلقاً إلى مدينة أخرى. علق التوتر بأجواء القرية، مثل عنكبوت يحكم مد نسيجه الترابي فوقها. تعلقت آمالهم برحلة فريد شوكت إلى دمياط لشراء مركزات رغم غلاء ثمنها، لكن الساعات مرت دون أن يُسمع منه أي خبر، حتى فرغت المخازن من العليق تماما.
وقفت أم السعد تراقب الدجاج وهو يلتهم آخر الحب في العلاَّفات. لعنت اليوم الذي باعت فيه مصاغها، وأنفقت نقود تحويل البنك ـ التي أرسلها زوجها محرفوجدتها خالية على بناء المزرعة فوق السطح، وركضت إلى البورصة فوجدتها
خالية، ولم تجد أثراً لجوال واحد في مخزن إسماعيل. سألت العمال فأخبروها أنه ذهب حالاً إلى مزرعته عند العيون. راحت تركض، وهى تتلفت وراءها، علها تلمح سيارة تقلها هذين الكيلومترين، حتى وصلت إليه، مقطوعة النفس، فوجدته حائراً أمام مزرعته الخالية من الطعام.

سألته جزعة، وقد تبخر آخر أمل لها:
ـ هل نتركهم يموتون أمامنا دون أن نفعل شيئاً ؟ مالي ومال عيالي، وغربة محروس.
انخرطت في بكاء مر، وهى تخفى وجهها بطرحتها السوداء. قال إسماعيل:
ـ اذهبي مع السيارة إلى الدوار، سيعطيك حسين نصف جوال ذرة صفراء. أطعميهم وربنا يفرجها.
قفزت إلى السيارة غير مصدقة، تستحلفه أن يعينها ولا ينساها.
انتصف الليل، وتجمع الفلاحون في البورصة يفكرون دون نتيجة. علا أزيزهم وهم يقلبون الأمر: هل يعقل أن تكف أكبر المصانع عن الإنتاج، ويتأخر الشحن في المطارات والموانئ معاً. كيف اجتمعت كل أسباب النحس في لحظة واحدة ؟!
قال طارق مندور: من يعلم إن كان هذا بالصدفة، أم بتدبير أحد المستوردين، حتى يولع النار في السوق.
تصاعد صوت ياسر الفحام: أرواح يا عالم. أرواح خفيفة، ألعن من الأطفال. من يجرؤ على اللعب فيها ؟
قال فرج أبو شعيشع: طوِّل بالك.. فرجه قريب.
وصل عبد الله المصيلحى إلى المنتهى بعد أن انتصف الليل بساعة، جالباً معه سيارةً من مخزن صديقه فرغلى النادي في البحيرة. خايله تحلق الناس حول شيء لا ستبينه، حتى توقف أمام البورصة، وعرف فيه السيارة التي دفع ثمنها في الصباح وهى تفرغ حمولتها للمربين. علا صياحهم عند رؤيته، فرحين بازدياد الكمية، لكن إسماعيل قال حاسماً الأمر:
ـ نصف جوال لكل مزرعة صغيرة وجوال للمزرعة الكبيرة، ننقذ الدجاج حتى الصباح، وبعدها ربنا يفرجها.
تقبل الفلاحون الأمر على مضض، وانصرفوا ينقلون العليق إلى مزارعهم. وصل فريد شوكت بالمركزات مع خيوط الفجر، وفوجئ الجميع بزيادة سعرها غير المتوقع.
تكاتفت القرية أمام الخطر: في البداية أغلق كل واحد مخزنه على ما عنده، ومع اشتداد الأزمة، سرحت الأجولة تتنقل من مكان لأخر لإنقاذ "المحصول" من الموت، ووصل الأمر إلى المواجهة ساعةً بساعةٍ لكسب وقت إضافي، تكاتفوا، فلم تشعر القرية بالفرق بين صاحب المزرعة التي تربى ألف كتكوت والتي تربى مائة ألف، فالكل سيخسر كل ماله.
تناقشوا طويلاً في البورصة، كيف يجلبون فول الصويا، ولم يغمض لهم جفن وقلوبهم متوجسة من الآتي.
وصل الحاج بشير بسيارة تجر مقطورةً كبيرةً محملة بفول الصويا من الإسماعيلية في منتصف النهار، واشترى من إسماعيل الذرة الصفراء، والسمك. لم يتذكر إسماعيل في هذه اللحظة حادث هروب بشير قهوجي العمدة من الدوار في الثالثة صباحاً عارياً، بعد اكتشاف أبيه تسلله إلى الحرملك واعتدائه على خادمتهم روايح، واختفائه لسنوات عن البلدة، عاد بعدها فوق سيارة تويوتا مرتدياً زى كبار المعلمين في السوق. ولم يسأل إسماعيل نفسه من أين أتى بشير بكل هذه الأموال، ولقب الحاج الذي لا يعرف أحد إن كان صحيحا أم لا ؟!
نزل بشير يخلط العليق مع العمال بنفسه، ويبيعها للفلاحين بأربعة أضعاف السعر. انفرجت الأزمة قليلاً بوصول عشرين طناً أخرى، ووصلت سيارات التجار الأغراب ـ الذين جذبتهم الأزمة ـ تحمل العلف بثلاثة أضعاف السعر، اشتراها الناس مضطرين، مضحين بالمال، ومدركين لحجم الخسائر التي ستنجم عن زيادة التكاليف إلى هذا الحد. قال منصور:
ـ كله إلا الموت.. خسارة خسارة.
ثم بدأ التذمر والتردد من الشراء بالسعر الجديد الذي يضارب عليه بشير والتجار الأغراب مع خفوت الأزمة. وسكنت القرية روح أخرى مع وصول أنباء عن نزول الطائرات، محملةً بالفول، وبقرب تدفق الإنتاج في المصنع الكبير. ولاح في الأفق للمرة الأولى منذ أيام، أمل في الراحة بعد التعب.
انتهت الأزمة، لكنها فجرت في البورصة أسئلةً كثيرة، كان أولها: لماذا ننتج شيئاً يعتمد على الغير، فنكون تحت رحمته، ورحمة سماسرة استيراد أىٍّ من مكوناته ؟
وراح الكل يفكر في بديل، هل هو البط ؟ أو الأرانب ؟ أو منتج آخر ؟
قال عبد الله ضاحكاً: الثعالب، أحد الكبار يربى الثعالب لكى يبيع فراءها، ما رأيكم ؟

سكون مفعم بحيوية ذبذبة خافتة لكائنات غير مرئية امتلكت المسرح وقت أن كَنَّت الأحياء الأخرى، تستمتع بحرية الوجود، وتترقب فترة الصحو القادمة. صدرت الحركة الأولى من وراء باب الشكمة في دوار طه المصيلحى عمدة المنتهى السابق. صوت هزيل منظم لقدمين اعتادتا الحياة العسكرية. خرج محمود المصيلحى وجلس فوق الكراويته يستقبل الغروب قبل وقته بزمان. يعشق هذه اللحظات الهادئة، وينسحب إلى داخل نفسه كأنه ما قام من نوم القيلولة بعد، يستكمل اجترار ما فات دون كلل، لا يعرف واحد من أهل الدوار، أو الأصدقاء إن كان يعي ما يجرى أو لا يعي. لا يعرفون إن كانت كلماتهم ومداعباتهم له تصله، أم أن هزة رأسه تلك تأتى من ضجره بهم. فشلت كل محاولاتهم لإعادته إلى المرح أو المشاركة في أي عمل أو حتى في الحوار، يحتفظ في ذاكرته لكل منهم بجملة واحدة لا غير تختصر علاقته به، يقولها فوراً إذا مابادأه أحدهم بحديث، وتتكرر كلما التقيا، ولا شيء غير الصمت. وحين يتأكد الجميع من غياب عقله عنهم، يفاجئهم بتعليق يحمل بؤس الحكمة ومرارة طريقها. تقول أمه وديدة: "انكسر يا حبة قلبي.. حزين اتركوه لحاله". فإذا جادلها أحدهم تضيف: "حزين على نفسه، على أحواله، على أحوالنا.."، تحميه من التواصل معهم، وتنصرف به أحيانا لتجالسه في مكان منعزل. هي الوحيدة التي صدقت أنه يعي كل شيء، كانت تعرف هذا من نظرة عينيه، لا تزعجه بكلمات كثيرة، لكنها توصل له ما تريد باختصار فينفذه على الفور. لم يقدر الأبناء هذا أبداً، وكثيراً ما حاولوا إقناعها بأنه لا يفهم، لكنها كانت تطلب منهم الانصراف إلى أشغالهم وتجلس إليه تشكو همومها، ثم تربت على كتفه فيقبل يدها شاكرا بهدوء. حرصت وديدة رغم وهن عافيتها على جلب ملابس جديدة أنيقة له، تساعده على ارتدائها بنفسها إذا عزف عنها. كانت هذه هي نقطه الخلاف الوحيدة بينهما، إذ تبدلت أحواله بعد الحادث، وأصبح زاهداً في كل ما كان يحبه. تستشعر فيه إحباطاً تحاول أن تخفى إدراكه عن الآخرين، وبؤساً يحمل آلاماً غير بشرية تتمنى من كل قلبها أن يفصح لها عنها، وتدرك تمام الإدراك أنه لا يستطيع الآن. راهنت بكل قدرتها على استشراف الآتي، والامتزاج بعناصر الكون حولها، على لحظة قادمة يستطيع فيها التغلب على كبريائه والاعتراف بالهزيمة، لكى يبدأ من جديد. وانتظرتها بصبر عرف عنها مدى الحياة. تمنت في أوقات كثيرة أن يكون زوجها طه عمدة المنتهى على قيد الحياة، حتى يساعد محمود على اجتياز أزمته، "لو كان طه حياً لعرف كيف يضع يده على الجرح ويفتحه ليجف، ما عهدت خبرته عند مخلوق قط. كيف كنت ستواجه هذا الموقف يا طه ؟ علاقة الأبناء ببعضهم تختلف كثيراً عن علاقة الأبوة، رغم تربيتنا لهم على الحب، هرستهم زحمة الحياة. كلمتك يا طه كانت ستنزل علينا جميعاً مثل سيف يحدد دور كل منا تجاهه، خلق محمود سياجاً من الصمت منع الاقتراب منه، مسافة خدعت أخوته فظنوا أنه تائه، واستكانوا للتفسير الأسهل ليريحوا ضمائرهم".
تتذكر في وقت أخر عجز طه عن منع أخيه رشدي من الابتعاد إلى الخارج، بعد أزمة سلاح الفرسان، واختلاف وحدات من الجيش مع عبد الناصر، ثم تركه للجيش نهائياً بعد ذلك: "رشدي ومحمود لا يختلفان كثيراً، كأن محمود هو ابن رشدي وليس ابن طه، ماذا حدث لي ؟ كنت أتقبل الأمور حولي وأتكيف معها، أين راحت قدرتي على التبسيط، وانتظار الحلول من داخل المشاكل ؟ أصبحت أقل صبراً بعد أن قلت المسئوليات وكادت أن تنعدم، محمود في حاجة إلى معجزة وهى ليست كثيرة على الله وإلى أن تأتى هذه المعجزة، لا بد أن تبقى صورته كما كانت دائماً."
تقول عمته نعيمة أم حلمي، حين تراها منهمكةً في ترتيب احتياجات زهدها الرجل من زمن:
ـ ما فائدة كل هذا الهندام لكى يجلس في الشكمة يا وديدة ؟!
تبكى الأم مدافعة:
ـ محمود هو محمود، الله يجازى أولاد الحرام.
تسلل طفلان من أحفاد طه المصيلحى حافيين إلى شكمة الدوار الخارجي، التي كانت تعج قديماً بزوار العمدة، وفضا سكونها بحذر. رأياه من فتحة الباب الموارب. كانا قد درسا عاداته، وقررا أن يعرفا ما يخبئ، بعد نقاش طويل انتهيا إلى أنه لابد قد تصالح مع الشبح الذي يعيش في المكتب، حيث استشهد جدهم عبد الحكيم. قررا أن يختبرا ردود أفعاله، ربما أجابا على الأسئلة التي لا تستطيع العائلة أن تصل إلى حل لها:
هل هو راغب في الصمت ؟ أم إنه لا يدرك ما يدور حوله ؟ باختصار.. هل هو طبيعي ؟ وإذا كان طبيعياً، لماذا لا يعمل ؟ لماذا لا يدير أملاك أبيه ؟ أو يدير شركة، والضباط الآن يديرون كل المؤسسات ؟!
كان واقفاً أمام موقد صغير يغلى قدر الحليب، ويعد الشاي بنفسه فوق صينية فضية عليها فنجان ذو تلبيسة من فضة أيضاً. أخرج من الدولاب بقسماطات خشنة وقراقيش في طبق بجوار البراد، وجلس يتناول إفطاره وحيداً، فوق الطاولة التي كانت تعج يوماً بضيوف جده الحاج عبد القادر. جفَّا من الخوف وهما مقرفصان تحت الطاولة حين هم بالوقوف، ثم ذهب إلى غرفته. تحركا بحذر لكى يواجها الأحداث. أخرج من درج المكتب علبة ورنيش، ولمع حذاءه بقوة، ثم تركه يجف. ودخل الحمام حيث نقع بعض المناديل القطنية في الليلة الماضية. وجد خنافس طافية فوق الإناء، حملها من الماء إلى صندوق القمامة، وأكمل غسل المناديل. نظر الطفلان إلى بعضهما ساكنين، وهما يشاهدان حركته الهادئة في التخلص من الحشرات التي وضعاها، وأكمل عمله. ثم ذهب إلى حجرته، وراح يرتدى الحذاء الذي جف طلاؤه. انتهزا فرصة انشغاله بارتداء ملابسه، وهربا، فوقع كرسي محدثاً ضجيجاً نبهه، فرآهما، وهما على أعتاب الباب، ثم ظهر أنيقاً في الشكمة كالمعتاد حتى آذان الظهر. قام بعده إلى وديدة وجلس أمامها فوق المصطبة، وهى تعد غداء العمال، لا يتكلم. تجنبته العاملات، ودخلن إلى غرف المطبخ الداخلية يكملن العمل.
قالت صبحية لستيتة: هو قاعد لنا مثل العمل الرضى، لا شغلة ولا مشغلة. ربنا يفوت الأيام على خير.
قالت أمينة: لمي لسانك إنت وهى، شهلن.
قالت صبحية ضجرة: أنا قلت حاجة ؟ أنا غرضي المصلحة.
أجابت أمينة: طحين ما هو لك.. لا تحضر كيله.
صاحت وديدة التي لا تسمع كلماتهن، بسبب ضعف في أذنيها أصيبت به في شيخوختها: احضرن صينية غداء.
دقت الواحدة حين جلس معها وحيداً يتناول الطعام. أخذ منها ما تقدمه، لا يمد يده إلى غيره، تابعته صامتة، تملأ طبقه بما تشعر أنه يحتاج. تعرف رغباته طوال العمر، تجهزها، لا يسألها أبداً، ولا يرفض لها طلباً، ثم عاد إلى المكتب لينام قيلولته اليومية المبكرة.
كان صباح ذلك اليوم لا ينذر بشيء، بل بدأ طبيعيا سلساً، ومملاً أيضاً. ارتدى محمود خلع الملابسض نظيفا، بعد أن تأكد للمرة الثانية من جودة كيه، والتفت إلى المرآة مستطلعاً التناسق العام لزيه، اختبر مرونة الحذاء بالضغط على أصابع قدميه صعوداً وهبوطاً، ثم دقق النظر في شاربه، ورتب حاجبيه، ومرر كفه اليمنى على ساعده الأيسر، مطمئنّاً لقوته، قبل أن يحمل المضرب، والكرات الصغيرة. خرج من غرفة خلع
الملابس، متجهاً إلى الملعب، ينثر قدمه أمامه في دقات منتظمة، عُرف بها مدى الحياة. طويل مفتول العضلات، مصفف الشعر الأسود القصير دائماً، وسيم، قمحي البشرة، وله أنف طويل يميزه، وعيون سوداء مستديرة، يضيق بياضها بسوادها. ركض حول التراك عدة مرات، وسخن عضلاته بتدريبات مرونة أنهاها بسرعة، مجففاً عرقه بمنشفة، حرص على حملها حول رقبته، محافظاً على حركة ساقيه المنتظمتين. فتح صدره، وساعديه للهواء النقي، ونظر إلى ساعته، ثم اتجه مباشرةً إلى ملعب الاسكواش في موعده تماماً. حيا بعض رواد النادي بهزة من رأسه، كالمعتاد، حتى أن أيّاً منهم لم يلحظ تغييراً على هيئته، ولم يتصور حجم التغيير الذي طرأ على حياته.
لم يكن في انتظاره سوى الحوائط، التي اعتاد أن ينازلها بمهارة الخبير. رقص في منتصف المسافة، برشاقة غزال برى، رغم ثقل جسده، وقذف بالكرة إلى زوايا محددة، ثم راح
يقلبها، ويزيد من صعوبة حركتها، ثم يستعيد هدوءها. والسؤال حائر يتردد في رأسه:
ـ هل التقاعد هو نهاية المطاف ؟ أم يلفقون لي تهماً أخرى ؟!
عاد الصوت المنعكس من الحوائط إليه مردداً الكلمات.
ابتسم بازدراء: لم أكن أستطيع غير هذا، حتى لو حاكموني ألف مرة.
تنفس بعمق، مدركاً الاعتداد بالنفس الذي يسرى في دمه، وتلقى رد الحائط على قذيفته باتزان الخبير. داعبها بلمسة روّضَتها، فطارت خفيفة، وحطت فوق كف المضرب،
ناعمة. أعادها مرة ثانية تتهادى، ثم فاجأها بضربة مباغتة:
ـ لم تخدعني الحفاوة في مكان، أو التلويح بالعصا في مكان آخر. التناقض بيننا وصل مداه.
وصلت الكرة تلهث، تلقاها بعنف، وهو يكز على أسنانه، محافظاً على ثبات ملامحه، ثم أعادها للحائط مرات. جفف العرق الذي غطاه تماما، وهو يتحرك، ولا يترك الكرة التي فاجأته بانفجارها، ووقوعها للمرة الأولى أمام قدميه، مشقوقة البطن، منحرفةً عن مسارها المتوقع. التقطها، وضغط أصابعه فوقها، ثم استبدلها بكرة أخرى، أخرجها من جيبه، وعاد إلى مصارعة الحائط، والكرة حائرة بينهما.
ـ لم أكن في أية لحظة مستعدًّا للمناقشة. كنت أعرف حقيقة الصراع منذ عام ثمانية وأربعين.
نطط الكرة فوق الأرض مرات، ثم أعادها إلى الهواء، وهو ينظر إلى ساقيه المتبلتين تماما بالعرق.
ـ لواء على المعاش، في مطلع الأربعين، لا بأس.
استغرقه التفكير في مصيره، حتى لم يعد يرى الكرة، تتبع مسارها من لمسة يده للمضرب، من صوت ارتطامها، محدداً زوايا انحرافها. وانتظرها في مكان عودتها، دقة لرد الفعل لا متناهية.
ـ أحتاج إلى راحة.. راحة طويلة. للمرة الأولى سأستمتع بحياتي الخاصة. ربما أعود إلى المنتهى قليلاً، بعدها أفكر في المستقبل.
حرك رأسه يميناً ويساراً، وهش الصور التي تلاحقت في ذهنه، وتابع الحوار مع الكرة. تسللت دقاتها إلى أعصابه فخدرتها، وانسابت سخونة بطيئة تلفه.
ـ لا بأس.
استعاد النشاط، وأنهى الجولة بمعركة، فاز فيها الحائط بقوة الصمود، وفاز هو بالسرعة والمهارة التي يكتسبها في كل لقاء. ألقى بجسده المنهك إلى الماء الساخن، وتلقاه بهدوء، وهو يردد هذه المرة بصوت مسموع:
ـ لا بأس. سنرى !
اطمأن على أشيائه الذهبية: ساعته، نظارته، أزراره، ونعومة قميصه الحرير الذي يبرز تقسيمة عضلات الكتف، واتساع الصدر، الذي ترك له زرين مفتوحين، رغم لسعة البرد الخفيفة، فظهرت سلسلة ذهبية، تحمل دلاَّية محفور عليها اسمه. حمل البلوفر فوق ساعده، وانطلق بالسيارة، حتى توقف أمام مدرسة ناصر، وهو يردد مع الشريط، "تامي بوركوا بارتيه، تامى ريجارد موا". أشار للحارس أن يحضر الطفل، ونزل من السيارة، وأشعل سيجاراً قبل أن يقرر عبور الشارع، والتفت يضع القداحة في مكانها. باغته شعور خفي ما بخطر قادم، فاستدار ليواجهه، لمحه، وأدرك مصيره، وهو يطير في الهواء. وسمع قعقعة ضربات هائلة في رأسه، وخيل إليه أنه يتفتت، ويذوب، وهو يحاول أن يمسك بمقدمة السيارة، والضوء يختفي، تحت لهيب خارج من عينيه، قبل أن يغيب عن الوعي.
لم يستطع أحد أن يحدد نوع السيارة، أو رقمها، رغم ضجيج الشارع، وسرعة حركته. وأقسم بعض المارة أنها لم تكن تحمل أرقاما على الإطلاق، ولم يحددوا ملامح السائق، وإنما انقسموا حول كونه رجلاً، أو امرأةً، وتساءلوا إن كان مخبولاً حتى يسير بمثل هذه السرعة في شارع مكتظ بأطفال مدرسة. قال واحد أنه رأى السيارة واقفةً عن بعد، وأنها بدأت في الحركة بمجرد ترجل محمود من عربته، اختلفوا، وتركوا للبوليس قضيةً محيرة لم يستطع في النهاية أن يحل لغزها أبداً.
عاش في المستشفى العسكري سنتين من الصراع مع مثلث مغلق: كسور في الرأس أدت إلى إصابة مركز الذاكرة. وقرحة في المعدة، والتهاب كبدي وبائي، نقل إليه عبر الدم المنقول.
قال الطبيب بعد أن أجرى عملية تربنة سريعة:
ـ يهمني المحافظة على حياته أولاً، بعدها نرى كيف تعود الذاكرة.
خرج من المستشفى فاقداً ثلاثين كيلو جراماً من الشحم، تكوين هرم ممسوخ لرياضي قديم، يكشف عن عسكريته إذا وقف أو تحرك. طال شعره الأسود الذي كان حريصا على قصه بشدة، وتفتحت بشرته عن بياض لم يعرف عنه طوال حياته، حتى أن أخته كوثر حين عادت من السعودية علقت ضاحكة:
ـ منقوع في مترد لبن.
رفع إليها عينين صائمتين عن الكلام، ولم يرد.
اعتاد أن يجلس بينهم متطلعاً إلى قدميه. مقوس الكتفين، اللتين كانتا تزهوان بقوة عضلاتهما، صامتا. يرد حين تنهال عليه الأسئلة:
ـ لا بأس !!
اختار الدوار الخارجي مكاناً لمعيشته، أصر على أن ينام على (كنبة) في مكتب أبيه المهجور. حاولت وديدة إقناعه باختيار إحدى غرف الضيوف الملاصقة له، لكنه رفض، فاضطرت أن تنقل سريراً خفيفاً، وتضعه في الركن المواجه للمكتب. عاش فيه لا يغير عاداته اليومية أبداً، يصحو مع نداء ديك الفجر، يغتسل بالماء البارد، ثم يخرج إلى الحقول، حيث الخضرة، والخيل، والركض فوق الطريق الترابي، الذي يوصل إلى جرن الغلة، ثم يعود إلى اغتسال آخر، وإفطار، وصحف قابعة في انتظاره، ثم سكون في الشكمة حتى يحين موعد الغداء. ولا يختلف نصف النهار الثاني كثيراً عن ذلك، باستثناءات قليلة حين تأتيه وديدة تشكو له وحدتها، ومتاعبها مع ابنها إسماعيل، وزوجته التي قسمت الدار دون سبب، رغم أنها لا تنتظر أن يقول لها رأياً، أو يتحدث مع أخيه في شئ، وتكتفي منه بهزة رأسه التي تشعرها أنه ما زال على قيد الحياة.عاد اليوم من القاهرة بعد أن قبض معاشه ـ زيارته الشهرية الوحيدة التي يغادر فيها الدوارـ لم يجد وديدة في انتظاره كالمعتاد، جالسةً على المصطبة أمام المطبخ في الحرملك، فصعد إليها ظناً منه أنها مريضة، استقبلته وحيدة، وقد انتهت منذ دقائق من توديع ضيفة حملت رسالة من كوثر في السعودية. هزتها فرحة رؤيته أخيراً في المكان الحميم. اصطحبته إلى جلسة العصر القديمة، حيث كانت العائلة تجتمع مساءً حول مشنّة ذرة أو أعواد قصب، أو سهرات شتاء حول راكية النار في العراء. افترشا حصيراً فوق السباط المطل على ساحة الحوش الداخلي، جلسا صامتين كل يتبتل في عالمه المغلق. لحظة صفاء وسكون قلما يجود بها هذا الوقت من النهار. كف منذ الحادث عن الدخول إلى الحرملك، والصعود إلى الطابق الأول، والاختلاط بالعائلة. سألته عن رحلته، وصلتها الإجابة حدساً، وليس صوتاً:
ـ لا بأس.. لا بأس.
أسلمهما الوقت إلى الصمت. هي وقد غاب عنها ضجيج العالم بعد أن راحت تفقد السمع تدريجيًّا، حتى كاد يغلفها الصمم، وهو وقد غابت عنه رغبته في الكلام. اكتفيا بما يشع من كل منهما تجاه الآخر، وانسحبا إلى عالمين داخليين
منفصلين. تأملته "كيف انتهى بك الحال إلى السكون، وأنت الذي جئت إلى الحياة صاخباً جريئاً في العراء وسط المطر ليلة الغطاس، والسماء تلح على الأرض بماء مدرار ؟".. تذكرت ليلة ميلاده كأنها حدثت بالأمس.
التهب الطلق دون أن يدفع الجنين إلى الخلاص. حايلت الداية قنوع العظام التي تعودت أن تتفتح معها دون جدوى، قالت جزعة والعرق يتصبب منها رغم البرد:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، لم تعد لي حيلة، لا بد من الطبيب.
يئس طه من وصول سيارة الإسعاف، حمل وديدة ملفوفةً في بطانية ترتجف من الصقيع في الكارتة. ركضت الخيل على طريق المحطة، ثم تعثرت في العتمة وزلق الأرض التي كانت ممهدةً منذ أيام، وتحولت بفعل المطر إلى أنفاق، وحفر، ثم هدأت حركتها وهى تتحسس دروب العجلات التي سبقتها، متجنبةً أخدوداً طويلاً، ومتعرجاً، أشعل بطؤها سعيراً في أفئدة ركابها. ووقف طه ممسكاً بالسوط ولسع ظهري الحصانين، لم تره وديدة في حياتها يقسو على الخيل إلا في تلك الليلة، قائلاً للخفير بسيوني:
ـ أسرع الله لا يسيئك، أم عبد الله فرفرت في أيدينا.
أجاب بسيوني بفزع: ليلة غبراء. المطر سيل، وخائف الخيل تتزحلق، السماء تقذف الماء "بالزِلَع".
قلقلة العربة وهى تتمايل فوق قوالب الطمي المتعرجة رمت وديدة بين يدي قنوع، التي لم تكف عن الإمساك بها في حضنها، وحمايتها من الرجرجة. التفت طه إلى وديدة التي تعانى من آلام الولادة العسرة، وقال:
ـ دقائق، شدي حيلك، سنصل حالاً إن شاء الله.

وقف مرةً أخرى، ولسع الحصانين بغضب.
قال بسيوني: على مهلك يا سيدي. ستقابلنا عربة الإسعاف حالاً. المركز عنده خبر من ساعة.
ـ كيف أهدأ، والبنت تروح في شربة ماء.
مالت وديدة إلى الوراء، وأمسكت بأعمدة السقف، ثم مددت ساقيها أمام مقعد العربة، وصرخت:
ـ الحقيني يا خالة !!
انزلق الطفل، فتلقفته قنوع بين يديها، دون أن تلتفت للمطر الذي بللها، والربكة التي أحدثتها صرخة الأم، وقالت:
ـ أوقف الكارتة. جاء فرج ربنا.
أمسك بسيوني باللجام بقوة. أوقف الخيل، فكادت أن تقذف بالركاب إلى الأرض، نط طه غير مصدق ما حدث، وراح يحكم الغطاء حول وديدة التي ترتجف بشدة، دون أن يلاحظ المولود الذي خبأته قنوع في حجرها، تحت الشال.
ـ مبارك يا بنى، مبارك، تربيه في عزك إن شاء الله.
قال بسيوني الذي جلس في المقدمة لا يستطيع الالتفات ستراً لهم، وكله شوق لرؤية المولود:
ـ يابركة أم هاشم، لن نحتاج إلى طبيب ولا دياولو، نرجع أحسن يا سعادة البك ؟
لم تصله إجابة. تردد في السؤال ثانياً، ثم قال:
ـ ما رأيك يا خالة قنوع ؟ نذهب إلى المستشفى ؟
تلفتت الداية حولها، اكتشفت أنهم في منتصف المسافة بين القرية والمحطة، ما يزال الخلاص عالقاً في الأم. لاحظت العتمة رغم ضوء الفانوس الصغير المعلق في الكارتة، وقوة ضربات الماء للأرض، قالت ساهمة:
ـ يا ليلة، انزل يا بسيوني بنا الجزيرة، تحت شعر البنت هناك، اعمل لنا دروة.. أنزل الخلاص، وبعدها ربنا يفرجها.
أرقدت الأم الهمدانة، وساعدتها على إكمال الولادة، حتى انتهت.
سألت وديدة بصوت واهن، وهى تحاول النهوض:
ـ ولد صحيح يا خالتي ؟ لك الحلاوة.
ـ ولد يتكايل بالذهب، حلاوتي قيامك بالسلامة.
مالت وديدة فوق صدر قنوع، وراحت في إغفاءة طويلة، رأت فيها الوليد في كفيها وسط ريح تدور، لكنها لا تُطيِّر ملابسه، وجاءها صوت الهاتف القديم الذي ما فتئ يُذكِّرها "ارضِ بنصيبك.. ارضِ بنصيبك"، لكنه هذه المرة قال لها:
ـ سوف يعيش، آيتك ألا يرضع من ثدييك. أرضعيه من نساء المنتهى، كل يوم امرأة، لا تنسى، كل يوم امرأة !!
دارت الريح حولهما، لكنها لم تطر ملابسهما، ثم شعرا بها ترحل. حين أفاقت كانت الكارتة تقعقع برتابة هادئة، وهى تدخل إلى صحن الدار في الحرملك، وأم طه باكية تفتح ذراعيها لاستقبال أم العيال، العائدة بسلامة إلى حضنها، والزغاريد تنطلق، وتلعلع في سماء الدوار. بعد يومين، خرجت أمينة وصيفة وديدة، ومربية أبنائها من الدوار حاملةً المولود، ملفوفاً في قماط كستور أبيض وبطانية مزركشة، منتهزةً فرصة الهدنة التي أعلنتها السماء، وكفت فيها عن المطر لدقائق قبل أن تعاود قذف المياه بشدة لليوم التالي على التوالي. سرى دفء ما بين المطر، كاشفاً صفاء الشتاء شديد الخصوصية في المنتهى. هواء له لسعة تحبها أمينة، لكنها لم تلتفت إليها وهى تقبض بساعدها على الوليد، وتتمتم بدعاء خافت أن يستجيب للرضاعة من امرأة أخرى. طرقت باب أم هاشم، والجامع يؤذن لصلاة العشاء، وانضمت للعائلة الجالسة على المصطبة أمام راكية قوالح الذرة، قالت وهى تدارى خجلها:
ـ حاولنا كثيراً، لكنه رفض بعد يوم واحد ثدي مرضعته سكينة أم إبراهيم، حايلناه النهار بطوله بالحلبة والينسون والسكر، بدون فائدة.
ضربت أم هاشم بكفها فوق صدرها:
ـ يا ندامة !! يا أمينة يرضع ويأخذ حبة عيني.
قالت أمينة: اللبن في بز أمه يتكيل بالكيل، وهو عاص، لا كان على البال ولا على الخاطر.
تناولت أم هاشم الوليد، وكشفت عن وجهه، فانبعثت رائحة الحلبة مفحفحة، ومعها خليط من روائح الغلة، والذرة والمغات، وربما التبن أيضا. نكهة خاصة تجمع بينهم، وتشعرهم بشئ من الألفة، قربته من صدرها وبَسْمَلَت. شعرت بلفحة من دفء أنفاسه فمسحت شعره القليل، وراقبت عينيه المغمضتين اللتين لم يفتحهما، وهو يتحسس بشفتيه الطريق إلى حلمتها، حتى التقطها، ثم انشغل بالرضاع. سرت في جسدها قشعريرة من وخزاته الناعمة، ولم تستطع أن تحول بصرها عنه. استسلمت لدبيب هادئ سرى في دمها منسقاً نغماته مع إيقاع قلبها، وقلب الطفل الذي ينبض في صدرها اللحيم، حتى اكتفى ونام.
شربت أمينة كوب الشاى المغلى بعد إلحاح.
قالت أم هاشم: رزقنا الله بهاشم بعد سنين نترجى الخلفة. اتركيه، سأرعاهما معا.
ردت أمينة وهى تحمل منها الطفل: أعود به في الصباح، كثر خيرك.
لكن الطفل رفض الرضاعة منها بعد يوم واحد، واحتارت وديدة ماذا تفعل، بعد أن قضت ليلةً أخرى ساهرةً تحاول تهدئته، أو إشباعه بسوائل أخرى، دون جدوى. وكان صوته الذي يشبه ثغاء عنزة ضعيفة يرسل الحسرة إلى القلوب المحيطة به. جلست تهدهده حتى غلبها التعب، وأسلمها للنوم متقرفصة، تهز ساقها من تحته. انتبهت فجأة، بعد صلاة الفجر بقليل، إلى صوت فتحية تنادى عليها من وسط الدار، أجابت ناعسة:
ـ تفضلي.
دخلت تحمل ابنها، وتبسمل:
ـ أرسلتني أم هاشم لكى أجرب معه، وقد يستجيب، لبن صدري قليل، لكن أنتِ عارفة أنه سر، الله وحده يعلم ما يخبئه.
مسحت ثديها وألقمته له، فاختطفه بنهم وجوع، سحب قلبها، وتقاطر الحليب يوقظ الشرايين التي جفت، فتفتحت، وتدفق منها إلى النبقة الحمراء التي أشهرت رشاشاً قويًّا، اندفع إلى فم المولود، وأشبعه، وسال يغطى وجهه كلما أشاح قليلاً، يلتقط أنفاسه المتقطعة، اغرورقت عيناها بدموع، واهتز جسدها.
ـ كان ابني عبد الرازق يصرخ جوعاً بعد دقائق من الرضاعة، الآن عندي ما يكفى ويزيد.
انتشر الخبر بين نساء المنتهى: "محمود بن طه المصيلحى" لا يقبل الرضاعة من ثدي لأكثر من يوم واحد !!". احتارت النساء، وقلبن الأمر وهن يملأن الجرار من النهر في الصباح، وهن جالسات فوق الحصير أمام راكية النار، وأيضا في الغيطان، وانتهين إلى أن يتبادلن إرضاعه مؤقتاً حتى يشبع منهن جميعاً.
قالت صبحية: ماذا سنفعل إذا مر علينا كلنا ؟ من أين سنأتي له بمرضعات ؟ هل ترحل به أمينة إلى العزبة ؟
قالت أم هاشم: يفرجها الله. نعيد رضاعته بنفس الترتيب، ومن يعرف.. قد ينسى، ويقبل !
يوقظهن من أحلى النوم هاتف يحثهن على الذهاب إلى الطفل. وكانت وديدة تفاجأ في الليالي التي يصاب فيها محمود بمغص، أو أرق، بدقات فوق الباب، وتجد أمامها إحدى الأمهات جاءت رغم الظلام وليل الشتاء الطويل القارص، وتقول لها:
ـ جاءني في المنام من قال لي قومي اذهبي، محمود يحتاجك.
كن يعرفن الطريق إلى مرقده في الطابق الأول، بعد أن خصصت له وديدة غرفةً تطل على ساحة الدار، لتضمن دخول المرضعات إليها في أي وقت دون إزعاج لزوجها وباقي العائلة. يحملنه، ويرضعنه، حتى ينام، وتعود الواحدة إلى دارها وكأن شيئاً لم يكن. شهدت جلسات العصاري حكايات الوليد، قالوا إنه يعرفهن، ويهلل لهن، وتحدثن عن بشاشته، والرزق الذي جلبه لبيوتهن، وأقسمت عمته نعيمة أنه انقلب على جانبه الأيسر ليلة السبوع، وأنها أرجعته للنوم على ظهره فانقلب على جانبه الأيمن، فصرخت تنادى وسط الدوار الذي امتلأ بالمهنئين: "الحقيني يا أمي، الحقيني يا وديدة"، فلما علمت أمها عديلة بالسبب لفت الطفل في بطانيته قائلة: "صلى على النبي، واكفي على الخبر ماجور".. وراحت تقرأ سوراً من القرآن للطفل الذي وضعته في حجرها، حتى أخذوه منها ليبدءوا احتفال السبوع. وأقسمت أم هاشم أنها حين تعود إلى دارها بعد إرضاعه تجد فاكهة لا تعرف مصدرها، وأن زوجها وأولادها يتصورونها هديةً من أهل المولود، لكنها لا تذيع سراً إذ تقول أن الملائكة التي تحيط به هي التي تملأ الدار بالخير، خاصةً أن نساء القرية أقسمن برب العلا ألا يحصلن على أجر من إرضاعه. وقالت تريز: لا أجد فاكهة، لكن مشنة العيش إذا أكلنا منها في يوم رضاعته لا تنتهي، ولا تنفد، وأعيد عدها فأجد الأرغفة بحطة يدي، ملفوفة في البرسيم كما هي، رغم أننا نكون جميعاً قد أكلنا وشبعنا، كيف يحدث هذا ؟ لا أعرف، هي بركة المولود. وقالت "دواء"، وهي تشير إلى جسدها: كنت ناشفة ومقددة، وهبني الله القوة منذ دخل محمود يا حبة عيني الدار، حتى جسمي أصبح فيه رخاوة وطلاوة مرأة، لا أشعر بتعب بعد العمل يوماً كاملاً في الغيط. أشعر أنى خفيفة. أنط من فوق لتحت. غسيل ونشر هدوم، وخبيز، كأني سخرت مائة حصان. وقالت فتـحية: لم ينقطع الحليب عن ثديي بعدما حملت على أبني عبد الرازق. وكان ينقطع في الشهر الثالث من قبل.
نادى محمود كل نساء القرية "يا أمي"، وسرح من بيت إلى بيت دون استئذان، في رعاية كل الأطفال وكل الأمهات. تعلم المشي ممسكاً في يده كسرة خبز، لا أحد يسأل ممن أخذها، مستنداً إلى حوائط الدور، حتى إذا أفلتت يده رأى أطفال الحارة يخطفونه من فوق الأرض، ويقولون في نفس واحد:
ألف اسم الله
حملته النساء فوق أكتافهن وهن ذاهبات إلى السوق، ولم تعرف أمه أو مربيته أمينة طريقه أبداً طوال النهار، حتى إذا جاء الليل أعادته إحداهن إلى حضن وديدة.
عادت إلى مجلسهما فوق حصير السباط. تأملته وقد استسلم إلى السكون، مستنداً
إلى حافة الدرابزين، يبدو لمن لا يعرفه مرتاحاً، لكن الهدوء لا يخدعها. تتبعت خطوط الألم الخفية التي تمرح سراً تحت جلده: "كيف انتهى بك الحال سجين نفسك وأفكارك ؟". استدارت لكنكة القهوة وراحت تسويها ببطء. وقعت عيناها على فراء ثعلب، يفترش عتبة باب شقتها، تركت نظرها معلقاً به قليلاً ثم حولت وجهها لترى جلد الثعلب الآخر على عتبة باب مقعد الصبيان، وتلفتت تتأكد من وجودهم على عتبات الأبواب التي تفتح على السباط. تنهدت وهي تردد بين ضلوعها الكلمات: "كلها من صيد محمود". تذكرت حماها الحاج عبد القادر عمدة المنتهى، وهو يصرخ غاضباً وسط الدار في سنواته الأخيرة: سأترك لك يا وديدة البلد كلها حتى ترتاحي. ماذا نفعل إذا وقع من فوق الحصان وانكسرت رقبته ؟ نقول يا ليت اللي جرى ما كان !
سأَلَتْه وهي تبعد القهوة عن النار: قل لي يا محمود، لماذا انقطعت عن الصيد، رغم أنك مشيت الصحارى كلها، والبلاد صغيرة وكبيرة ؟ ألم تحن للصيد ؟
هز رأسه، وابتسامه تضئ وجهه، دون أن يفتح شفتيه.
قالت: فاكر طيور العنز والثعالب ؟ فاكر أختك نازلي، وهي تملح فراءها وتنشرها معك فوق السطح ؟
رفع وجهه مدققاً النظر في عينيها العسليتين. كانت النظرة كافيةً لتعرف كم يعانى من الذكرى، قال:
ـ أيام
ربتت بكفها فوق يده، وهى تناوله فنجان قهوة صبته، وأعادت الكنكة إلى السبرتايه لتصنع غيره. راقبته وهي تقلب الأمر الذي كثيراً ما أتعبها في أوقات وحدتها: "أين مصلحة محمود ؟ هل هي في العودة إلى امتلاك كل الذاكرة بأحداثها، حلوة ومرة، أم بالوقوف قليلاً على عتبة التذكر حتى يرتاح من اجترار الآلام التي فتكت به دفعةً واحدة ؟" عادت تتبتل في عالمها، الذي لا تكف لحظةً واحدةً عن استجلابه ومعايشته، بعد أن تبث فيه الحياة. واعتصم هو بداخله يتأمله بهدوء.
" بلورات من الذكرى تلمع في سديم لا نهائي. تسرى متجاورة. يغريني تلألؤها بالإمساك بها. تركد في برزخ أعرف أنه الوصلة بين الماضي والحاضر. منفوشة بتجاربي السابقة، تتقلب بين البعد والاقتراب. تخز في قلبي مجهولاً حميما. أحب أن تلمسه لكنها مخادعة. تهرب قبل أن تضئ الجب المظلم. تختفي في الغيهب، وتترك وراءها فراغا. حلقات لسلسلة من ذكريات لا تكتمل. لم أعد أفرق بين ما أتعلمه الآن وما حدث في
الماضي. أستقبل كل يوم وجهات نظر الآخرين، ورؤيتهم في حياتى السابقة، على الأصح ما يوافقون على تسريبه لي ـ بعض المعلومات يراوغونني في معرفتها، حتى كففت عن السؤال، وأرجعتها إلى أنهم يتجنبون جِراحاً لا يودون نكأها الآن ـ من يحكى لي تاريخي الذي يرفض عقلي أن أعرفه إلا لماماً ؟! ماذا أصدق من الومضات التي تأتيني مثل شهب مغلفة بالحنين. أأعتبرها حقائق سمح عقلي بالاعتراف بها ؟ أم هي أحلام يريد عقلي أن يصل إليها... أو هي لا هذا ولا ذاك، بل أوهام يخلقها خيالي لتحل محل ما فات، وأرفضه ؟ أشعر أحيانا أنني لا أريد الركض وراء إحياء الماضي. أقف على الحافة، بيني وبين داخلي سرداب طويل، في نهايته بئر فارقها الماء، وأصابها الجفاف، فتشققت أرضيتها. لا أريد قطع الطريق ومواجهة هذا المضيق. أدير رأسي عنه، لا شئ غير الهاوية هناك. يغمرني في وقت آخر طوفان من الرغبة في تمزيق غشاء النسيان والامتلاء بجذوري أيًّا كانت صفاتها: أهداب أو أشواك أو أوتاد حقيقية مغروزة في تربة عميقة خصبة، حتى لا أتحول إلى مجرد طحلب عائم على وجه الكون. أرصد كل يوم فروقاً في مشاعري إزاء هذا العالم الصاخب من حولي ـ لم أشعر حتى الآن أنه يعنيني في شيء ـ صحيح أنها فروق طفيفة لكنها تمشى في خط صاعد أشبه بدرج.
بماذا يذكرني الدرج ؟ بحلم حلمته بالأمس وأذكر أنه تكرر معي من قبل: أراني على عتبة بناء عال كأدخله ؟أملس من الخارج مثل قلاع العصور الوسطى، كيف أذكر قلاع العصور الوسطى ولا أذكر شيئاً يخصني أنا ؟ وهل تتكون الذاكرة من غرف بعضها مستعد للفتح، والآخر مغلق ولا يريدني أن أدخله ؟ أدلف إلي البرج وأصعد السلم، كلما اعتليته زادت العتمة. أشعر باهتزاز وكأن البناء يتطوح، أتوجس لكنني أكمل بإصرار على المعرفة ورؤية السطح، يلتوي الدرج كحية صاعدة إلى السماء، كلما قطعت الدرجات ازدادت طولاً، وازددت تعطشاً للوصول، أرى في نهايته نوراً، وبيتاً يسكنه أناس

أعرفهم، وأحبهم، يشيرون لي: تعال. يرتج البناء، أعود متقهقراً إلى الوراء فيسكت. أسمع نداءهم فأعاود الصعود. أغمض عيني، وأركض، تذوب الطوابق تحت هرولتي، وأشعر بالبناء، آلاف الخلايا الحية تتزلزل إلى مجموعات صغيرة تشغى. أتسمر، ولا أستطيع نقل قدمي خطوةً أخرى. أحتار بين النظر لأعلى ولأسفل. سرداب وراء سرداب ـ من أين أتـوا ؟ ـ ملهوف على الصعود، أرفع ساعدي: أنا قادم. أجدني محبوساً بالخوف من السقوط والاختناق من الكتمة، أسأل بصوت عال لا يخرج من شفتي: كيف تعيشون في هذا العلاء مطمئنين

فرحين ؟كيف وصلتم إلى هناك ؟
أسمعهم يصيحون: لا تتراجع. لقد قطعت الطريق

الوعر. هنا الأمان. اصعد يا محمود. هذا صوت أعرفه، لمن ؟ أشتهى الوصول لكنني غير قادر. يجذبني الجُرف الأسود، فأتراجع مرةً ثانيةً راكضاً، والبناء يترنح يطلب منى النجاة من الدمار. أقف فجأة، وأنا أتمزق حنيناً إلى النور. أتسامح مع هذا العبث. أقول بصوت رنان: ما الحياة إلا مغامرة. هل أستكين فأموت مثل زهور الحشيش فوق السفح ؟ ـ أين رأيتها ؟ ـ أعاود متابعة مشواري، وأنا أقسم أنني لن أنظر إلى الأسفل مرة أخرى. يغير الدرج مساره، فأتردد لكنى لا أتوقف، ألاحق الانعتاق وأنا أسأل نفسي: هل مات عقلي يوم الحادث ؟ ـ أي حادث هذا ؟ ـ تفاصيل يصلني منها شذرات، وكأنها ليست حادثاً واحداً، وليست في زمن واحد أيضاً، وكأنني توزعت بين أماكن وأزمنة، قطعتني في لحظة واحدة، ونثرتني على طول البلاد ـ من الذي قطعوا جسده وفرقوه في الأرض ؟ وما الذي يربطني به ؟ ـ تسلل كشاف إضاءته تعمى البصر إلى داخلي، عرفت مساره، لمس نقطةً لم أكن أعي وجودها من قبل: أنا صائم العقل، ولست ميت العقل. هناك فرق.. الصيام رحمة، تجميد لوظائف لا ضرورة لها على الأقل الآن. فحيح حيات يصلني. تكاد ألسنتها الرفيعة الصيادة تقتنص جسدي. أشعر بمخابئها في مغارة السلم والجدران. لن تخيفني، ولن تغويني بالعودة. سأداوم على التقدم إلى الأمام، وإن تمدد الطريق أو تلاعب. صام عقلي حمايةً له. لن أفتش فيه عنوة. لقد خرج مرةً من الغيبوبة، وبعث بعض الدفء في خلاياه، فلأكتف الآن برحلتي إلى هذا النداء، تدفعني رغبة حقيقية في رؤية العراء من أعلى قمة. أصم أذني عن أصوات الانهيار والتفكك، وأعرف أنها لن تتحول إلي هشيم. هي خديعة لن تمسني بسوء إذا لم أسمعها. أصحو قرب الوصول إلي غايتي..
من أنا وسط هذه المتاهة ؟
محمود المصيلحى، لواء سابق في الجيش المصري. من مواليد 1935. خضت الحروب كلها عدا حرب يونيو، كنت مسافراً إلي الاتحاد السوفيتي للدراسة في كلية الأركان. تخرجت من الكلية الحربية بعد قيام الثورة بأسابيع. يؤكدون على أن جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة أجلوا حفل التخرج حتى يحضروه بأنفسهم. متزوج أو كنت متزوجاً من صافى زيدان، الأمر ليس محسوماً تماماً بعد، وفقا لما يتلى على من معلومات وأنباء. والمؤكد أن لي طفلاً وحيداً اسمه سمير، ولد لي بعد عودتي من موسكو عام 1968، أي أن عمره الآن حوالي الثانية عشرة، ويعيش مع أمه التي ترفض رؤيتي بعد الحادث.
حسب أقوال أمي ـ وهى المعلومات التي أصدقها على الفور ـ العمل كان حياتي الماضية كلها. تفرغت له تماماً، وأحببته، ولم يكن لي هدف منذ وعيت الدنيا في طفولتي سوى أن أكون ضابطاً في الجيش. تضحك وتقول عسكري وليس ضابطاً، وترجع ذلك إلى تعلقي بعمى رشدي ومواقفه، وحديثه عن الثأر بعد جرحه في حرب 1948. وحسب أقوالها أنا ابن المنتهى. ابن كل البيوت، فقد آخيت الجميع بالرضاعة، وتمتعت بحب لم تره حتى مع أبى الذي حماهم من بطش الهجانة في أحد الأيام ـ رغم أنه كان العمدة، أي أنه انقسم على السلطة، وهو أمر غريب على ما يحمله عقلي من تاريخ العمد والمشايخ في القرى المصرية ـ فهل يرفض عقلي أن أتذكر ما يخص أبى أو عائلتي، بنفس الدرجة التي يرفض بها مواجهتي بما يعرف عنى ؟ ـ الحب يسعدني، يشيع في نفسي هدوءاً ممتعا، أحاول أن أتخيل الملامح النفسية لهذا الشخص الذي يحبه الناس جميعاً، فلما أستقر عليها تفاجئني في وقت آخر بأن البلدة ترهبني وأن حادثاً واحداً لا يقع أثناء وجودي في العطلات ! كيف يا أمي ؟ تصمت. وأعيد أنا غزل ملامح أخرى، وتفلت من أختي كوثر ذات يوم جملة قالها أبى رحمه الله: " محمود اكتسب مهارتي في الصيد، وعنادي في الحياة، لكنه بلا قلب مثل جده عبد القادر، ومحب للغندرة مثل عمه حيدر !".
تتسع الفجوة بين الوجهين، فهل كنت متناقضاً إلى هذا الحد، أم أنني كنت اثنين ؟ تنفجر الحقائق في وجهي، وتبتعد الحلقات التي كنت أخال منذ لحظات أنني أصبحت أمتلكها.
عاد من الحوار مع نفسه السابحة في دهاليز السؤال، وتهيأ للقيام. انتبهت وديدة إليه، قالت:
ـ كنت أعتقد أن استشهاد عبد الحميد هو أمر وأقسى ما سأعيشه طوال حياتي. لقد احتملت فراقه، ساعدني الله على الصبر، وسأقضي باقي العمر أنتظر أن يصبح ابنه علاء رجلاً مثله. الشجرة مثمرة، وطبيعي أن يتساقط منها بعض الأوراق. لكنى رغم إيماني بما يعطيه الله لي، لا أستطيع أن أحتمل أن أراك تذبل أمامي دون أن تساعد نفسك يا محمود. ابذل جهداً من أجلى.
نظر إليها بهدوء، ثم انحنى يقبل يدها وقام من جوارها، قالت له:
ـ انتظر، عندي لك شئ، لا أعرف إن كان ما سأفعله الآن هو قرار صائب، أم هو قرار مبكر. لن أطيل عليك. سأحضره فورا.
غابت لدقائق، ثم عادت وفى يدها دفتر صغير أنيق في بساطة، وسلمته له:
ـ هذه يومياتك.
قال دهشاً: أنا ؟! أنا كتبتها بنفسي ؟ متى ؟
ـ لا أدرى. ربما تجيبك المذكرات نفسها على التوقيت. وجدناها في السيارة يوم الحادث، واحتفظت لك بها. كنت أتمنى أن تستعيد ذاكرتك دون مساعدتها، فسألت الطبيب الذي أخبرني أن الأدوية ستساعدك، لكن بشرط عدم الضغط، أو الاستعجال، فلم أعرف إن كانت المذكرات تعتبر ضغطاً أم لا ؟
قال يطمئنها:
ـ أذكر بعض الأشياء بنفسي. وأدرك أن أحداثاً بعينها تراوغني. أعرفها، وأراها أمامي، لكنى لا أستطيع أن أنقلها إلى أسماء، وأماكن. لا أستطيع أن أحكيها لنفسي. الغريب أنني أعرف المعلومات، وأشعر حين تُذْكَر أمامي أحداث بعينها، أن ما أشعر به حيالها ليس موقفاً حديثاً وليد اللحظة، لكنه موقف له جذور، له تاريخ، وأكاد أصدق أنه كان موقفي طوال الأعوام الماضية.
ـ صدق يا محمود، وسيأتي وقت تعوض كل ما فاتك.
مدت يدها بالدفتر.
ـ هذا هو، عدني ألا ترهق نفسك، وألا تعبر الأحداث قراءةً دون أن تربطها بما لم تكتبه. حاول أن تسترجع التفاصيل التي تكمل هذه الأوراق.
أمسك بالدفتر وفتحه على الصفحة الأولى، قرأ العنوان المكتوب بحروف كبيرة: 1956
ـ تزوج عمك حيدر من كريمان قبل الحرب بأسابيع، وحاربت أنت في القناة، ومرت أيام كنا متأكدين من استشهادك، لكن عمر الشقي بقى..اقرأ ما كتبت، وعد لأكمل معك الكلام عن هذه الفترة أو غيرها.
قبل يدها مرةً ثانيةً، وانصرف إلى غرفة المكتب.

هالة البدرى
روائية وقاصة ونائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون، ولدت في القاهرة في اكتوبر1954
عملت مراسلة في بغداد لمجلتي روزاليوسف وصباح الخير في الفترة من 1975 إلى 1980.

من مؤلفات الكاتبة
السباحة في قمقم على قاع المحيط - رواية 1988 - دار الغد
رقصة الشمس والغيم - قصص عام 1998