م.ج حمادي
(العراق/بلجيكا)


إلى عبد الرحمن سلمان
إلى الحب الذي أوليته للحياة

العزيز فنسنت
تحيتي..
تحيتي..
أيّها الأخ الكريم
يا أخي وشبيهي
يا أخ كل الفنانين المهمومين
والضائعين في عالم
أغرقه التجار والصيارفة بالاضطراب.
فتكاد تغيب عنّا ـ نحن المُغيبن ـ كلَّ يقظة أو منامٍ
كأني عشتُ زمنك
عرفتُك...
أحسستُ أساك، وأنا أنظر إلى امرأتك النائحة
ـ وكم رسمت من البائسين ـ
رأسها ما بين يديها المشدودتين
وقد زادتها خطوط الفحم
عتمةً وأسىً غامضاً
لا يُدرك.
عام 1883 أكتبهُ على الجدا ر
من أجل ألا أنسى.
كلّما ضاق النفَسَ.
وأنا أبدأ رحلتي حول الفن في بلاد بعيدة
ـ بعيدة وقريبة من كل إلهامٍ حرٍّ ـ
وكم رأيت.. من عذابات.. أنا وأصدقائي
على طرق مجهولة
يتوجه خيالي إليك... دوما.ً
كُنتَ تطاردَ النجوم... صبيّاً مشرّداً...
غايتكَ، وأنت تمنّيت هذا طوال عمرك،
أن تكون عيونًا للناس
لهذا الرأس الذي نحمله فوق
الأعشاب... والزوايا...
والكتفين اللذين يردان العواصف
عينان وأذنان.
غايتان لا تنضبان.
“Ik ben Vincent, een Hollandse schilder”
“إك بن فينسنت، أُن هولاندسه سخلدر”
“أنا فنسنت رسام هولندي”
وتمضي بعيداً.
بعيداً.
حتى وأنت تعود من رحلتك
خلفَ
النجوم.
تبتسمُ.
تتحمل فشلك,
تكتب إلى أخيك" تيو"، في رسائلك العديدة
وكأنها سجل حياةٍ تأبى على النضوب.
أو الغياب في البحر.
وها هي تشكل بعض ضمير الإنسان:
" أنظر ما الذي فعله بي الفن"
‘kijk wat kunst me heeft aangedaan’
"كايك وات كُنستْ مَي هيفت أن خِدان"
لأنك تحسّ وتعرف..
تبتسم برحمة لهؤلاء المُسغبين
الملوّثين بسخام الفحم والمحارق
في مناجم بلجيكا، أو
مناجم الأرض
الراقدة فى هذا الكون... تنتظر ..
آهٍ.. ماذا ؟
وأنتَ تعلّمهم كلمات الروح
ترجع إلى نفسك.
بعد أن شربوا خمرتك.
وأكلوا خبزك.
كان ذلك واجبك ، وهذا ما أحسستَ به
من وجودك
إنّهم بعضك...
سمّرت نفسك بينهم
وناءَ قلبكَ بحملك، في هذه الرحلة المقتضبة.
إنّها غايتك أن نتخفّف في الجسد
نحسّ الشجر والأغصان
مجرى النهر والغرفة الصامتة...
كصمتِ القناني التي رسمتَ عام 1884
بقهوائيتها وضوئها الأصفر الشاحب
فتعلَّمَ من فنّك موندريان وفان دونخن
وموراندي ـ برأسه الروماني العتيد ـ
الذي أمضى حياته كلها متعبّداً لما رأى إليه
يرسم القناني والصمت الدؤوب... المرين...
ثم يغلق نافذته حين يجُنَّ المساء.
لم تبحث عن اسعاد نفسِك
لم تبحث سوى المساواة مع المقهورين
عشتَ في كوخ متداعٍ قرب وسخ الإنسان
في مكان لا يرضى به أحد، فأغضبت الكنيسة!
تبشّر بكلمةِ المنقذ، وترسم تخطيطات الفحم المنتقمة..
طاقتك في الرسم لا يعتريها الإحباط أوالتردد
كنت ثورياً لا يرعشك الخوف أوالوهن..
وكم تمنيتُ هذا في بؤسي وبؤس الآخرين.
كان لديكَ من المهابةِ وامتلاء القلب ما يكفي
لأن تكون نبيّاً، أو أن تكون شريدا.
كنت ترى..
عيونك،
دليلٌ لا يتعب.
ترشدُنا إلى البداية.
والغراب ينعقُ ، والصدى يترجع ُ
في تلك الشوارع المدوّخة
ووجهكَ مُسودٌ، ونظراتُك زائغة..
ترشدنا إلى البداية
إنّها هناك... هناك..
خلف تلك العيون المطفأة
والوجوه المسوَدّة من السِخام.
الوجوه المتصلة بالليل
لعمال المناجم المُنهكين.
وو.. وو.. وو.. وو.. وو..
إنها حولنا في الأنحاء كلها.. برغم تساقط الصخور
الثقال بألوانٍ داكنة.
واو.. واو.. واو.. واو.. واو..
وتزايد المحمومون حول النجاح والربح
في هذه الجلجلة التي أرهقتك
أرهقت
الإنسانَ.
وها هو جالس عقب المغيب
في زُرْقةِ النيلي
وقد تغيرتْ هيئتهُ عن الآدميين!
قرب أشجار السرو و الدفلى
والشجر الباكي.

حبٌ إلى بلاد الشمس

" روح الإنسان تلتقي بعد مرور القرون!"
هكذا كان أمير بلادك القديم
سيد الرسامين “رامبرانت”
حين أجلس أصحابه المور.
وأنت أيها العزيز فنسنت..
لتبدي اعجابك ببلاد الشمس،
اعجابك بديلاكروا (Delacriox)
تعلنُ.. كائناً فرحاً:
“Ik heb eindelijk een model”
"إك هب أيندلك أن موديل"
“ها أنا أخيراً أملكُ موديلا ً"
وكما فعل رامبرانت..
كان اعجابك الخفي بالألوان والبلاد البعيدة
في إبتسامة الشاب الجزائري الذي أجلسته
ـ برغم ما يحيطك من استهجان أهالي آرل ـ
مُعتدّاً بزيّه الوطني
حمرة الرداء .. وقوة ضربات البياض الكثيفة في الخلف..
نقلت الضوء والعجائبية في الجلسة الهادئة..
هكذا.
كل الأرواح العظيمة تلتقي
ويهدأ أوار الإنسان في الجغرافيا والنوع
ضمن هذا السديم الكوني
الذي لا يحصينا ولا بحجمِ
ذراتِ التراب.

كانت تلك غايتكَ...
،كنت تسعى على حجرِ الطريق:
أن يحيا العالمُ، وتبقى أنت وحيداً..
لم يهمّك الأمر ..
مشيت.
وصلتَ.
..غايتُك.
غايتك.
لم تمتلك شيئاً سوى حريتك وفنّك
وضميرك الإنساني الذي لم يغادرك.
وَي..وَي..وَي..وَي..وَي..وَي..وَي..
"Ik heb liever honderd frank per maan
en de vrijheid daarmee te doen wat ik wil,
dan twee honderdf frank zonder vrijheid”
" إك هب ليفر هوندرد فرنك بر ماند أن ده فريهيت دارمَ
تُ دون وات إك ول، دان توي هوندرد فرنك زوندر فريهيت"
" أفضّلُ أن تكونَ لدي مئة فرنك كل شهر
والحرية بأن أفعل ما أريد
على أن تكون عندي مائتي فرنكٍ وبلا حرية"
فأنت فى (لابيرانت)الحياة لم تخرج منها.
انقذت الآخرين حولك
وانطفأ جسدك، مثل فنارٍ خافت، بعيد.
على ماء السِيان.
على جذامير الأطراف.
تحميها بغضبك وقلبك المتعب المفتّت..
وها نحن المشردون الجُدد في أقاصي
العالم..
نعيدكَ.
نعيدك.
قرب الأشجار والنهر
قرب اشتعالات قلبك الأولى
ما بين أهلك
ـ آهٍ من ذاك النابض ـ
قرب قلقك، وأنت تنجز أعمال فنّك االأولى
وأنت تنقلها معك ـ كنزك الوحيد ـ من مكان
إلى آخر..
ولا أحد ، لا أحد من أولئك المحترفين، في زمنك التعيس
ينظر إليها.. ويُجـِلـُــكَ.
نُعيدُك.
قرب أخيك " تيو.
الذي بكى كثيراً.
ـ وكم سعى طويلاً من أجلك، وتمعَّنَ بما ترسم ـ
خانته القوى ..
لم تسعفه الدموع
تبعك..
على الطريق .
الطريق.
الوحيد.
الوحيد.
إذ لا شفاء يُرجى.
ولا رجوع.
وَي.. وَي.. وَي.. وي.. وي.. وي
وَي.. وَي.. وي.. وي.. وي.. وي
حتى صديقتي في أكاديمية فنون بغداد:
ـ آهٍ ما هو اسُمها ؟... آهٍ الزمان؟ ـ
واو.. واو.. واو.. واو.. واو
كانت تمسك كتاباً بالعربية
عند الصباح، والإصباحات
عندنا
مشرقة كلها.
مشرقة.
كنا فوق السطح المنبسط على المراسم
وحدنا
إلا من نسيمات الهواء
وطيور، على البعد، تهاجر جنوباً.
ـ "..إنّها رسائل فان خوخ إلى أخيه تيو!"
وشدّت الكتاب إلى صدرها
بعد أكثر من ربع قرن مازلت أتذكر وقفتها
الخجلى ـ قبل أن يجيء البرابرة ـ
بشَعرٍ مفتوحٍ للريح.. كانتْ!
كانت!.
آ..آ..آ..آ..آ.. آآآآآآ
أتذكر سوادَ العينين
برقة الضوءِ
التي أرقدت الحزن في قلبي
حزناً شفيفاً.. منذ أكثر من رُبعِ قرن!
لم أتحرك أو أجب بأيّ شيء..
ما زلتُ حتى الآن
حين
أتذكر.
أتذكر.
لا أتحرك... لا أقول أيّ شيء ..!
وَي..وَي..وَي..وي..وي..
ربما تلكما العينان بعد تلك الحروب
الطاحنة.. كلها..
واو.. واو.. واو.. واو.. واو..
والعرا ق
بلدٌ في موعدٍ دائم
قد ترفَّق الترابُ بها قبلي
وأنا صامتٌ لا أتحرك!
أتذكر وقفتنا في الأعالي
ليس بعيداً عن مقبرة الإنكليز، شديدة الخضرة،
Yes.. I remember.. yes.. I remember
أتذكر عذوبة الهواء... صامتٌ
لا أقول أي شيء
الترابُ بعد أكثر من ربع قرن
قد ترفق بها..
وَي..وَي..وَي..وي..وي..
واو.. واو.. واو.. واو.. واو..
التراب.. إنّه التراب لا غير.. ربما..
في تساقط الندى
وبواكير الدمع... برغمها... هناك:
قوة.
قوة.
غامضة. غموض ولادة الطفل.
تدفع خيالي جنوباً إلى تلك النظرة
تسحبني.
عَلّيَ أقول شيئاً، إذاً..
شيئاً.
حريّ بي قوله...
لا أدري ما هو؟...
لكن عليّ قوله ـ حتى لو أنها في الحلم ـ
أتمشى معها قرب الأشجار... في مقبرة الإنكليز،شديدة الخضرة، خلوة العشاق ،
في محلة الوزيرية أين يغمز طلبة الجامعات عامدين
بأعين ساحرة.
إلى الآن لم استطع
أن أجلي غموضها ـ تلك العيون ـ
كمن يحمل شجرة
تهبُ الثمار كل عام
إلا أنها ثمارٌ مختلفة
فقط تحمل الدفءَ ومفاجأة اللـُــقــيا
وقبل أن ندلف من تلك العيون
إلى بوابة الأكاديمية، المُشرعة، ويضمنا الجمع الحبيب
الحبيب.
نكون قد صرخنا مرتين أو ثلاثة
وَي..وَي..وَي..وَي..وَي..وَي
واو.. واو.. واو.. واو.. واو..
آ..آ..آ..آ..آ..آ..آ..آآ..آآآ..آآآ
آه لو أستطيع أن أعيد الزمان
وأمسك بالهواء
أعيد ترحلنا في تلك الشوارع
تحت ظلال أشجار(الوزيرية) الباسقة
قرب غسان فيضي العاشق الدائم
ومساجلات الليل في الرسم والأشعار
قرب ضفاف دجلة.. التي إنحنت عليها
الأعذاق.
الأعذاق.
ورقابُ النخيل الطوال
وهمسات صمت الليل في عزّ الشتاء.
الشتاء.
وَي.. وَي.. وَي.. وَي.. وَي..
وَي..وَي..وَي..وَي..وَي..وَي

 

(نـــــــداء)
أيتها الرحمة
نحن المغلوبون
نحن المنفيون في الأرض
حلفاؤك الدائمون
تقبلي توبتنا
حين نـُخطيء.

(....)

بحثتَ الحب
كأي بشر
الحب الخائب دوما ًـ
بحثتَ عنه منذ الصبا
وها أنت َ تفرطُ.
تنهار.
لم تجده.
لكن.
وجدتَ الغبار.
مسكتَ روحك.
صرخت باللوحة..
بالحامل..
بالألوان
فتموجت نيرانُها على التلال
وأشجار الأثل، ومروج الأزهار
لم يحترق أي شيء
إلا أنتَ...
لكنكَ عطبتَ
عطبتَ...
وها هي النيران مشتعلة
في قناعتك.
في تنازلك.
المتوالي المتصاعد .. أدركت..
بأنّ الظفر
حيلة باهتة
والمنتصر
هو الخاسر الأبدي.
في تدرّج باهت تنحدر قواه
ولن يتدارك نفسه
ملتَ إلى عزلتك
وإله التأمّل والنظر
قنعت.
أمام المنظر والشجر
قبلت.
فكنت مقدسا أمام روحك
تجلّدت.
أن تكون بسيطاً في فقرك المدقع
وكنت.
وهاهو ما يحدث أمام قلبُك
تذهب (سين Sien) التي أردت أن تتزوجها وقد عدّها المجتمع من البغايا..
إلا أنت، منحتها حبّك.. وها أنت َ مع العذاب الكبير تفترق ..الكلّ ضدك ..لن
تلتقيا أبداً..وتبقى قصتكما لا يغمرها النسيان...
وَي.. وَي.. وَي.. وَي.. وَي..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي.. وَي..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي.. وَي..

(....)
كل شيء وهمٌ
إلا الحب.
واليمام على سقف بيت الجار يستريح
يتلامس بالمناقير ثم يهدل.
آه أيّها السيد المبجل وقلبك عامر بالجلال
لم تتراجع
ـ وكم كنت وحيداً خلف نجومك ـ
والبخار يتصاعد من صلب الأرض
أمام آكلي البطاطا
“de aardappeleteres”
"دَ آرد أبل إيتر"
وقد أخذ "كرخنر" وأصحابه المتطلعون
التعبيريون الألمان
ما عملت من تغيير في الأشكال
والإحساس الواقف دوماً عند الحافة
منهجاً في الرسم.
وفي مدينة نوينن “Nuenen” في بيت أهلك..
رسمتها..
وكانت الأخيرة.
كأنّك تعزي أمك
- التي منحتك حباً فائقاً.
عشت هذا، حين انكسرت رجل أمك،
وبَقيتَ كل الأيام قربها
تعزيها برحيل والدك.
تضع علامة حزنك على هذا الزمان
بالعتمة، وحركة الفرشاة المنطعجنة
وقد ران الظلام على الضوء الشحيح
وهذا المصباح.. كأنّ بيكاسو قد رأه
أخذه في الطرقات وحملَهُ على الكتف
كعاملٍ مُجد.
ليضعه في أعلى يسار كورنيكا.
رأيت هذا أمام لوحتك في أمستردام
صدمني الظلام والضوء
وتدرجات ألوان العتمة الواحدة.
هي رمادية لكنها عندك
كلها خضرة أرضية وسواداً..
هو فعلها في رماديته.
أراه واضحاً في وقفة خجلى وقت الضهيرة
والجمهور مزدحمٌ
حتى تكوين الإنشاء الداخلي للبناء
واخشاب السقف
والجدار الواقف المضاء.
أخذها بتأن واعجاب
لا يضرّ ذلك فالعذاب واحد.
معها لم يفهم أحد عملك
تألمت.
حتى صديقك المقرب رَبارت (Repard)
لم يفهم..
فانقطعت الصداقة وابتعد الطريق.
لكن ما فعلت وأنت ترى
وتجلس جلستك وتتأمل عام 1885
وتتألم لما يحدث للإنسان
وتأكد صبره والسلوان.
هو هذا وليس أكثرَ
ما يهزنا في روحك .. رغم عبور الزمان.
لكن..
هناك ابتسامة ما
إبتسامة.
والبخار يتصاعد
والأيدي غير مشغولة بعَّدِ الأيامَ
الزمان ملكهم في حدود الممكن
فلا الأوسمة
أو سمعة الانتصار
ـ وكم إضطربت عقول لذلك -
تقلق هذه الجلسة في الليل الحالك
إلا أنتَ
وهبت
بعض قلبك
بقى معلقاً هناك، بضربات فرشاتك الكثيفة المسرعة
ـ وفي جلسة واحدة رسمتها،
كأنك خائف من انقطاع النفس ـ
يرفدهم مع السنين التي عبرت
لم يحس بها أحد
مجرد وهم..
هيَ.
وطاريء غريب
لم ينظر إليه أيُ كائن إلا قلة
بتطلّعٍ مريب.
ويغيّر من نفسه.
حتى يقال أن لوحتك عن دكتور (رَيْ)
ـ بألوانها المبهجة وتطلعها الرصين ـ
كانت غطاءً لقفص الدجاج لمدة إثنتي عشرة سنة
ظلت هناك حتى اشتهر اسمك
فخجل هذا الرجل وأنت تهديه عن طيبةِ خاطر
ما أبدعتَ..
فبقي اسمه.
بقيتْ حياته كلها داخل المتحف
داخل خطوط يدك
على الوجه
والثياب.
والضوء المشعّ من عينيه
تــُـذكــّرنا
كلها..
بأن الإنسان يقوى دوماً
بأن يكون
بلا عينين .
بلا أذنين .
سوى الصدى يترجعُ
يتلاشى ما بين التلال والضفتين.


(غرفة نَومك عزيزي فنست)

" في الأشياء الصغيرة
نرى إلى الإنسان."
ـ هكذا يقال ـ
في أماكن الجنوب الظليلة والعنب المكتظ
وتحت الضوء العابر من النافذة المقابلة ..
أين يسكن جاري .
كما رسمت غرفة نومك أنت
بضربات فرشاة الزيت الكثيفة المسرعة
وكأنها تحاول الخروج من الإطار
أو تستنجد من شيء غامض
لا يعرفه أحد.
في عزلة الصمت .
الأشياء كلها .. برغم بساطتها
في الموضع اللائق على الطاولة الصغيرة
زجاجات شفافة ..
ماهي ؟ هل هي عطور الصباح ؟
ممكن ذلك..
قُربها أدواتُ تنظيفِ الوجه، فرشاة الشعر أوالملابس.. والفراش
مكانك القدسي.
يستنشق هواء الصباح
المضمخ بعطر زهور شجرة اللوز
كلها في موضعها.. هادئة .
كذلك الكرسي واللوحات المعلقة..
تهذيبك الأول وصفاؤك
يتابعانك.
هاهو البيت إذان: جلد الإنسان الثاني..
مطهراً كمعبد، أو طريق سلكه
آلاف البشر.. تأملوا لحظات
ثم مضوا..
رغم أن الوحوش تـُـخـَبِّطُ على زوايا جدران بيتك
وتتلصلص على
تعبدكَ الخاص .. بإصرار عجيب.

 

البيت الأصفر عام 1888

وأنت تحلم بالعالم
تحلم بالإنسان في حريته وفي عدله.
كانت البواخر العالية
ـ شامخةٌ كالجبال ـ
ذات الهياكل الصدِئة
والمكائن المدوية عبر البحار
وسواد دخانها المتصاعد الكثيف..
تغادر الأرصفة المتسخة بالزيوت
تنقل أحلام المهووسين بامتلاك
الأرض والبشر
وأعلى حدود العتو والصَلف.
أما أنت فقانع مع الحلم الصغير
تغدو باكراً
وقد مست وجهَك ندواةُ الهواء
تصبغ بيتك المتواضع....بالأصفر
ـ لون البهجة منذ القدم
عند كهنة أمون ورع ـ
على أن يجتمع فيه أحبتك
ذوو الرؤى ..
يرسمون ماحولهم
من بهجة الدنيا.. وماترى إليه العين
من الزهور وماء الترع...
حلماً صغيراً.. كان
لكنه في القلب
قلبك الذي لم
يحلّ فيه خراب الفانين ولا الجشع...
تحت سماء مغرقة
بفيضان النيلي
والنجوم الساطعة
فوق أشجار السرو
في الصباح الباكر والمساء.

(مجال الكسل)
عزيزي فنسنت
تكتبُ الى أخيك تيو
من أجل أن يكتمل العالم
ويبقى الإنسان واع ٍ لضميره.
وأنت تَعيَ ما يحلُ بنا:
“Maar de weg die ik ga, moet ik aanhouden
Als ik niet studeer, als ik niet zoek,
Dan ben ik verloren.
Dan ben ik te beklagen!”
"مار دي فَخ إك خا، موت إك أن هودن
ألس إك نِت دو ،ألس إك نت ستوديرن ،ألس إك نت
زوك، بن إك
فلورن. دان بن إك تَ بكلاخن"
"لكن الطريق الذي أذهب فيه ،علي الحفاظ
عليه، فإذا أنا لا أفعل،أولا أدرس، ولاأبحث،إذاً
أنا خسران .إذاً أنا فقط متشكٍ"
آه..آه..آه..آه..آه..آه..آه..آه..آه..
آ..آ..آ..آ..آ..آ..آ..آ..آ..آ..آ..
.........
.........
النائمون على عروش الكسل
يتذبذبون في مهب الريح
وأعرافُ ورد الكرز تُزهرُ
في هذا الربيع المفاجيء
دوماً مفاجيء.
فتضيء الأشجار بضوءٍ وردي
على الطرق المهملة.
أمسُّ إحداها وقد مسني الشعاع
فيسّاقط الوردي .
ويموج الهواء بكائنات الخدر الخفي
وأنت أيها الكائن الفذ
المهموم بحب العمل ورغبات الحياة
تُجلسُ رهطَ المتكاسلين
المتمادين في خدر المنام..
على يسارك.
لا تعبأ بجشعهم المفرط.. ولا مزايداتهم.
في دربهم تتركهم.. بعد أن قاومت كثيراً
تمنحهم الحب
وأنت في ألم.
يمناك طلقة..كذلك روحك .
صبيٌ يلعبُ.. لا يكف عن المزيد.. في حب الحياة
وما تبعثهُ من تلبداتِ المساء
Als men gezond is, moet men van een"
Stuk brood kunnen leven daarbij
De hele dag kunnen werken
en bovendien nog de kracht hebben te roken en
glaasje te drinken; dat heeft de men onder deze omstandigheden nodig.
"ألس مان خزوند إز،موت مان فان آن ستُك بروت كُنن ليفن، دارباي ده هيلَ داخ كُنن وركن آن بوفندين نوخ كراخت هَبن تَ روكن أن أين كلسجه تَ درنكن ؛دات هيفت دي منس أوندر ديزَ
اومستاندخهيده نودخ."
ــ"حين يكون الإنسان في صحة جيدة، يستطيع العيش بقطعة خبز ٍ واحدة ،ومعها اليوم كله إمكانية العمل،وفوق هذا هناك قوة باقية للتدخين وشربِ قدحٍ واحدٍ ؛ وهذا إحتياج مهم تحت الحالات الضرورية هذهِ."

...............
...............
(المُتحف(
على مروج البلاد الواسعة
بعيداً عن أمستردام
يطير الأوز برقابٍ طويلة
فيشعُ البياض على خضرة كأنها ضربة فرشاة واحدة.
على الحقول الواسعة والماء.. على الكيانات.. رغم صغرها
تدبُ.
تحت الضياء...
ومع الامتداد
مع القطار المسرع
ينطرح الأفقُ بعيداً...
كل هذهِ الأجواء من النداوةِ
وزهو الحياة..
كل هذهِ الرهافة
تتلقاك بحنوٍ غريب في باكورة الصيف
برغدٍ يملأ حضن الصدر ويتلطى..
تقعُ على الجانبين دون أن تدري
فيتلقفكَ النعاس بأن تحلم.. ثم
تروح في خلقِ أكوانٍ لا تنتهي
بها دعابة الإنسان ولطفهِ..
آهٍ من من ذاك المشهد
اذ يُصعـّـد الروح الى أعلى الزرقة
يعبرها الأوز الآن
الرقاب ممتدة ، على رهافتها،
بأستقامةٍ فارهةٍ..
تقطعُ المنظرَ.. رغم ثبوتهِ ، وهي تتلو إحداها الأخرى،
فتلوح الضَربات من تحت الفرشاة الخفية
تقفز الألوان في عمق ِ المنظر
خلتُ وأنا في صف الانتظار الطويل
ـ بعد أن رجعتُ ـ
أنَ المدينة فارغةٌ...
ليس هناك من أحدٍ أو مكان
في أمستردام.
تجمَّع الكلُّ أمام المتحف
متحفكَ أيها العزيز فان خوخ
جمعٌ من المندهشين...
أو طالبي الصفح والتبرك
تزاحموا من كلِ الأجناس
فقط ،لأنهم،أمام متحفك
إلا أنا
كمن أصيب بالدهشةِ
في هذا الخط الطويل من المنتظرين
أمام أجهزة الفحص الإلكتروني!
ـ “هل هي حربٌ...ها هنا؟"
.. سألتُ..قلقاً..
المرأة الواقفة، هيئة جندي
مُعَدة للقاءٍ مفاجيء
ـ لا .. من أجل الأمان”safty”. أجابت.
وهي تلمضُ بالشفتين “ كأنها تتلذلذ”
وتؤكد على الرجل الصيني، وأمرأتهُ المرتعبة تنظر، وطفلتهما
تكاد تبكي..
أن يذهب ويرجع مراتٍ ثلاثاً. فهناك معدن ما
في جسده أو ملابسه..والأجهزه تُحس بذلك..
وتزعق.. لم يحدث أي شيء..
كانت طباقات سترته المعدنيه تثير كل هذا الدوي ...
أي دخولٍ هو هذا الى متحفك
وأنت قد بحثت العزلة والأمان.. فها أنا أغضب
عما يحدث
في هذه المدينة المكتظة
" لم أحسب أنَ كل هذه
الجموع سيحصدها الموت ".
فهاتفتُ صديقتي وأنا أبحثُ عن طريق للهرب
دون أن أنظر ملياً..واللغطُ يصلني..يتداخل
ـ” لو أن فان خوخ يعود.. لو أن فان خوخ يعود.. ـ
أي تفتت، وجع، سحق، تهبه
المدينة.. والبشر يمرقون ـ مبهمون في سعادتهم ـ
يعدون مواعيدَ لا تنتهي..
ولا اللغط المكتظ ..
يتعالى... يتعالى... لا ينتهي
جلجلة صادحة...
حتى أصحابك
رَبارت Rappard
ماوفيَ Mauve
ويله Weele
وهم أساتذة في الرسم والمناظر وعشق التجدّد
لو كانوا هنا
لهرعوا هرباً إلى أكواخ في الأرياف
مخلفين الصوت والصدى
يقرعان الأبواب المغلقة
برتاجات من خشب ثقيل..
وحين يحين الصباح
يشربون القهوة الصافية
بعد أن غسلوا الوجه بماء صافي
وتأملوا المنظر
والإيقاظ الباكر للحياة.
****
وأنا أغادر المتحف أحسستُ أن رامبو يتنقل معك
تتبادلان النظر
ثمًّ... كل في طريق..
فعلت في الفن ما فعله هو في الشعر.
كلاكما أطلق قوة الأشياء
من تقيـّـدها.. برغم أنّها هناك
وضعها على الطريق.
احترق في شبابه
ومازال ممتداً كله الطريق
يذرعه مراراً.
لا ينثني.
هما معنا. أرواحهم.. لم تغادر
مخيلتنا تأبى ذلك.. تحملهما.. والكل يفقد غايته
أو
يكاد.
بلا أسف
هناك.
نعم هناك ـ لاتُقاوَم ـ
آفة تقرضنا. هي النسيان.

****
الربح كل الربح
هو أنك فعلت
ما لا يقوى عليه أحد.
واتخذت الفن طريقك
بعد إنسحاق قلبك في مناجم (البوريناج).
في هذا المشهد الليلي المطرز بالنجوم..
والأيائل تمخر عُباب السماء
بعرباتٍ مطهمةٍ بالذهب
يضحك الصبية...
الصبيات..
لعرش الاعياد الهابط، متلألىء الأضواء
من أعالي الزرقة.
ـ" هل مرت العجلات على الثلج المتساقط..
على بياضه الرهيف ؟"
ـ "مَنْ يدري؟ـ"
وأنت ترسم لوحة عن مطبوعة بالأسود والأبيض
موضوعاً عن الثلج
رسمه (مييه)..
الذي أعجبت به.. دائماً.. ومنذ البدء
حين كنت تتفحص الأشكال والمشاعر
وتجلس على تلة رمل
أمام البحر تنظر بين فينةِ وأخرى إلى المدينة غير البعيدة
ثم جاء (ديلاكروا)...
وضع بعض النار في مضجعك
وأنت تدري.
حملت النار.
كانت بعضك.
مثل عامل منجم
ذي طلعة غريبة
مكتوٍ بنار الأبد.
فتحول المكان، بقدرة روحكَ، اينما وطئتَ ..إلى مكانٍ مقدس
قبل أن ْيؤمه البشر
زارته الطيور..
لم تنعب في وحدتها
إلى أن تعالى الضجيج
وضاقت بها رحابة المكان.
...................
..................

The reward of it
Is doing it
.................
.................
الربح في كل ذلك هو فِعلَهُ
هذا ما تركه صياح الطير وأنينهُ
في الآفاق
وفي الدروب الواسعة.

 

حكيم يعبر

شخت في الزمان
قبل الأوان.
ولم تكُ بائعَ وردٍ
أو طيورٍ مغرّدة.
حساسيتُك العالية
حساسيةُ مثقفٍ جال ما بين الناس
أدركهم عن قرب
رأى البلاد.
ضحّى كثيراً.
وقبع قانعاً يستمع وينظر
إلى الحياة في وحدة مطبقة.
ومع كل الفنانين المحترفين الذين درست معهم
في أمستردام، بروكسيل وباريس،
كانوا لك شعلة لإضرام نارك.. وأنت مضيت
حيث مواطيء الجن
وآلهة الرؤى والكلام .
= قرأت بتمعن السيد المبجل شكسبير، كذلك ديكنز، فكتور هيغو.كما أعجبك زولا والكُتاب الطبيعيين الفرنسيين.كانوا كُتبك المقدسه للعصر الحديث؛ فرسمت كتاب: متعة العيش (Le joie de vivre) لزولا ـ بضربات فرشاة حيوية تذكر بفرانس هالس ـ مع الكتاب المقدس.
= كنت واعٍ في زمنك.. التقيت بمونييه وسوراه وديكَا المواظب الدائم، صادقت سينياك وتولز لوترييك.
كنت تدرك ماذا يفعلون.
كنت ترى.
= ثم جاءت صداقة (غوغان) فتصادمت.. عرف هو، من كل أعماقه ،ـ لكنه تمادى ومضى ـ، بأنك أبعد من كل ما يفكرون، وإن الانطباعية ليست هي إلا ّحديقة الألوان.. أشعلتها بوقيد روحك وموهبتك التي ولدت معك، كما ولدت مع السيد العظيم رامبرانت.
═ تقرأ بنهم كل الكتب، وهي دأبك الدائم، بلغات عدة: الانجليزية، الفرنسية ولغتك الأم: نيدرلاندس.
═ تقرأ الجرائد الانجليزية في زمنك: Harper’s weekly وكذلك The Graphic.
واتخذتَ من الكتاب المقدس محطة من محطات آلام قلبك الدائمة.
═ تدرس تاريخ الفن، تتعرف أسرار الفنانين القدامى .
فأعجبك رامبرانت، فرانس هالس، وآخرين.
═ وحين رأيت أعمال روبنس في أنتويرب؛ أعطيت الوقت الكافي لدراسة لوحة( الإنزال عن الصليب) في الكاتدرائية، كما فعل قبلك ديلاكروا أمام اللوحة نفسها، أثارهُ عنف اللون الأحمر...
وأخذت من ماستر أنتويرب بعض حيويته في حركة الفرشاة والألوان، خصوصاً اللون الأحمر،
هذه الحمرة المدوخة، تهب الشكل قوة وتميّزاً ، فكانت رفيقتك في كل أعمال الأشخاص والطبيعة، نجد تلك الضربة الحمراء.
═ درست عند الفنان كرومو Cromon في باريس.. مدينة المدن، وانقلاب العصر، لتعرف أسرار الانطباعيين وتمكنت منها.
═ كنت وأصدقاؤك تبحثون عن الجديد والتحدي...
أرواح هائمة خلف اسرار الليل.
الليل.
......................
......................

رأيت أشجار اللوز.. كما أرى الآن أشجارـ الكرز الياباني ـ المزهرة
والقرى غارقة في عطر الربيع
وما بين الطرق الصغيرة تسمع الشدو من عصافير ناحله
ما بين الأغصان المثقلة بالورد
فكم وقفتْ هذه الاشجارُ ونحن نمرّ عقب العصر
معجونون برغبات المساء
هي تقف لا تنتظر.
ببساطة تقف
تعبرها الفصول
العساكر والمدن...
لماذا أقول كل هذا وأنت قد عرفت..
عرفت وانشغلت؛
تحققت، آه....
فمن رسم منذ البدء لوحة( حزن)
فلقد رأى مبكراً جداً.. وتملكه إلهام دفين.
حتى وأنت تأخذ دروسك من صديقك( ماوفييه)
صاحب التكنيك الرفيع والذهن الهاديء ، وأحد رواد مدرسة دنهاخ. تجولت معه ما بين الحقل والساحل.. رأيت الأوز يطير.. وهو يخترق المنظر... ينعق..
قق هق.. قق هق.. قق هق..
قق هق.. قق هق.. قق هق..
قق هق.. قق هق.. قق هق..
كانت روحك السمحة في سماء الجنوب تذوب.
قق هق.. قق هق.. قق هق..قق هقٍ

****

العزيز فان خوخ
حين استيقظُ صباحاً
كأن شيوخاً قدامى
تجمعوا في جسدي
يحملونني إلى الأعلى
كأصحابك الشاربين ـ درنكز: drinkersـ
وقد عجنتهم الأرض رغم انفتاح السماء
رغم تجمع بكائي
على الأقدام... يحملـّونني سلاماً.
عندها..
يكون الضياء قد بدأ يغشي المعمورة
ويوقظ الطيور والحشرات والعظايا
حتى الفراشات الكسلى ترفرف
باجنحتها الملونة
فيتحرك .
يتموج .
الهواء بألوانٍ عدة .
بالونات صبية تتطاير
كأن الكون في عرس ضوئي
وتكاد الصرخة أن تفتح فمها
أنبهرُ... أسكنُ في بهوت
أبدأُ... وأنا أرى أشيائي حولي
أطعمُ السمكة الذهبية في حوضها الزجاجي
المركون في زاوية المطبخ
التي أسمتها صديقتي، لا أعرف، ولـَمْ أسأل
أي رغبة كانت عندها، باسم “جَفْ”
وهو مغني ذهبت حياته غرقاً في نهر.
“جَفْ” صديقي الصباحي
حياتهُ، هي أيضاً، غارقةً في الماء
الماء الذي لا مفر له منه
حياته هي الماء.
والماء هو حياته.
مرتبطان لا ينفكان أبداً.
إلاّ نحن .. لا نعرف هذا الخلاص.
أرواحنا تعجّ بها العواصف
نرقد مفتّحي العيون، ولم نرحل خلف النجوم،
النوم لا يصل قرارة أنفسنا..
أرواحنا مزلزلة.
كما هي روحك أيها السيد الماجد
حين رسمت الجمجمة المدخنة عام 1886
" سخادل مَت سيكارت schedel met sigart "
ـ أيام مدينة انتويربن
أقفُ أمامها في المتحف الذي وهبته أمستردام
لأسمك وبقايا روحك ـ
فكأن الزلزال حصارنا الدائم .
إلا أنَّ عليَّ أنْ أسترد قليلاً من نفسي
قليلاً كقبضة ماء... أو أكثر
"ـ آهٍ إنه عطشٌ دائم "ـ
فأحس التحرر داخل روحي
مع ذلك مفعمةٌ هي بالغدِ ..
بتلك الخضرة والأفياء
التي سكنها الأحبة في لمحةٍ خاطفةْ
ثم غادروا قلبي إلى وحشةٍ لا تطاق.
أفكر في هذا وأنا أطالع الأشجار
خارج شُباك المرسم
وغيوم الخريف وثمة دخان يتصاعد
من حرق أخشاب الغابة المندثرة رويداً رويداً
في البيوت البعيدة .. والتي لم يبق منها إلا الغبار
فالبرد هو ها هنا...
يخلخل العظام وراحة الذهن
ـ آه أيها الذهن الشائخ ـ
انظرُ بهدوء
أهيَّ كما نتصورها... هذه الحياة؟
أم أن الرحلة لم تكتمل بعد؟
ومفاجأت الطريق مازالت
توقعُ شباكها في انتظار تقدمنا
أصواتنا الخافتة.. تتصاعد دوماً
وتقلق كائنات أمنا الارض
لم تحتفظ بها الحشائش أو الأغصان
ـ وهي تتكسر... تحترق ويُسمع أزيزها مابين النجوم ـ
ولا حتى الحجارة أوتراب الطريق
المغرقان بالزرقة ـ زرقتك ـ
فى بخسهما، أيَ حزن، .. حتى هي لم تحتفظ بها...
أصواتنا أصواتٌ خائبة..
وأنا أتقدم إليكَ
لأستجمع عالمي.. الصغير..
خلال النظر.
كانت روحي تتماهى مع الحشيش والشجر
ونتف الغيوم
أكاد أمس شفافيتها
وهي تتشرّب بهجة
شعاع اليوم القادم ـ ها أنا أتسلهم مناظرك ـ
فتنغدق عسجدية الضياء
إلى داخل الأغصان وخضرة العشب
وروحي الجالسة بانتظار شخص ما.. أي شخص
يمرّ يقظاً مع تحيات الصباح
يمر أمام مرسمي ، بيتي ، المغرق بالسكون
يساندني
يقويَ من عزمي
وعلى كفيه التراب المندّى بالزعفران
وذهبِ التبن .
ينثرهما
من أجل العابرين
على الطريق .
و... يوشوش الأغاني
وقد ارتفع القمر شبه مكتملٍ
ـ آه قمر الليالي البعيدة ـ
على بيوت الطين في القرية العمانية المهملة
على النخلة السامقة
قرب الجدران الطينية العارية
عشرون متراً أو أكثر
أي جدرانٍ هذه !..
إنها سومر ..أمامي.. في زمن غامض
في القرن الواحد والعشرين
وعلى سدرة النبق المحملة بالثمار...
يمتد الشعاع منطرحاً منطرحاً
كسولاً كسولاً يتغير ببطء
"عمرها مئات السنين يا صديقي.
والنبق له مذاق خاص.. نتاج خبرة طويلة “.
الشاعر ( خميس قلم ) يؤكد لي
يبتسمُ ونحن نقف وسط قريته القديمة
حولنا الصبية يضحكون .. النخيل باسق حولنا ..
وصمت القرى المتصاعد
في الضوء الذي ينزل خلف الأفق
على سهول البلاد الشاسعة.. يشرق هذا القمر الحزين
على ذاك المجهول الذي مرّ ذات مساء ...
ــ" إلى أين أنت ذاهب .. يا (يحيى) .. ؟"
لم يسمعني.. في يده اليسرى زهرة ياسمين صغيرة
كان أشبه بالطائر
يشمها بين فينة وأخرى
تشمها نسائم المساء معه ...
عابراً جسر العمارة الحديدي.. ليستمتعَ برفقة الأحبة والصحاب
في مقاهي الخضرة والورد ـ مقاهٍ عجيبة ..في غفلةٍ عن الوحوش ـ
آهٍ....
تركني.
مغتماً متعبا ً.
أرى صورته أمامي..
لا تبهت.
ـ آه ـ
تركني .
الى أين؟...لا أعرف...
لازلتُ أتمنى
في صحوةٍ أو في غفوة ليل..
آهٍ مازلتُ.
مازلتُ.
لا أعرف متى تغرب عني هذه الأحزان؟
ولا الطيف الحبيب الملازم .. يقول وداعاً ؟
ولا متى ينتهي هذا النداء المقلق
للموت ؟
أفي يقظة أخرى .. ؟.
آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آآآآآآ
........................
آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آ آآآآآ
بعد أن وقفتُ طويلاً
في أماكنٍ وشوارعٍ مختلفة
في وحدتي المطبقة
أتامل حياتي وما كُنته
كينونتي الجريحه.
أتامل الزمانَ
وكيف يأخذنا في ذهول..
ـ "بعد أن جفت في القلوب الرحمة" ـ
مهدرين ما أحببنا من خصال
دون أن نعبأ
وبلا اِنتهاء.
وَي..وَي..وَي..وَي..وَي وَي وَي
وَي..وَي..وَي..وَي..وَي وَي وَي

(نداء)
كل هذا الخراب يمر بالعالم
وكأن شيئاً لا يحدث
يمر بطلاسمه .
يمر بعمق التكون .
بالصرخة الأولى .

(في مدينة آرل 06.07.2010)

أين الروح مثل صقر طائر
ندخل في ضباب الصباح واعتلال الهواء
مطأطِئي الهامات
أمام الخضرة .
أمام الحقول .
الملتهبة بكثافة الشعاع
كذلك براري عباد الشمس العديدة
تشعُّ بصفرة فاقعة
ـ"ولا أي طائر يغني إلا حشرة السيكال!" ـ
ـ "هناك" .. وأشارت باصبعها الرقيق
ـ "هناك" .
أشبهُ بالدمع مترقرقاً في عينيها ـ "ربما إنعكاس السماء"ـ
نظرتُ إلى البعيد ـ "حشرة السيكال تقرض الزمان" ـ
ـ " كان هناك البيت... اين سكن فان خوخ!"
نظرتُ ثانية..
متابعاً إشارتها
متابعاً ترقرق السماء في عينيها
لا شيء هناك..
ساحة فارغة ..
بعض الحشائش نمت وأشجار ناحلة هناك
الريح تعبرنا.. تمرّ هناك... هناك
أهيَّ مع الصباح .. سلاماً مبكرا ؟!
سلاماً اختزنته... كأنّها تعرف!... أهي تعرف ؟
ربما.
بمجئينا... بقلوبنا الواجفة... نستفقد المجلس
هذه الرياح الصغيرة ـ "ولا أي طائر يغني" ـ
تمسكُ صديقتي بعض الأعشاب
بخفة... تحسّ رطوبتها... "ـ تصمتُ من كفها حشرة السيكال ـ"
من هذا اللمس المتموج بخفة الهواء
ـ" إنها خضراء عميقة "
ونظرتُ مرة أخرى ..
ـ " نعم إنها خضراء "
فجأة .
دخلنا شارعاً... ـ "ابتعدنا عن حقول السيكال" ـ
كُنّا غرباء
غرباء .
مسكتُ يدها اليمنى ـ" الهدوء يصاحبنا"ـ
القلبُ يهدأُ
تقدمنا .
وصلنا.
والسكون مقيمٌ ..
كان البناء شامخاً مع الظلال.
رأينا الرجال عند الغسق
وفان خوخ يبدو منتشياً
يصيح بصديقه: " تعال معي !"
ـ " تعال معي! "
تبعناهما إلى مقهى المدينة .. وقد نظر النادل مرتبكاً
منْ هذين الزائرين بأزياء امرأء غرباء..
أو أزياءٍ كأسياد الغجر...
من هذا الساكن في البيت الأصفر بالضبط
ـ لون البهجة والحياة .. فرسم الفراعنة المرأة بهذا اللون ـ
من عينيه الناريتين
وهو ينظر الخلقَ ...
متعجباً من اكتشافاتٍ لاتنقطع
وبعد قدحين أو ثلاثة أخذ فان خوخ يصرخ بصديقه
والضياء المصفر يتشظّى قطع كريستال بارقة:
ـ " أنت أعظم فنان في العالم! "
وأخذ جرعة من (الباستوس) كافية..
تكفى لاثنين: " أنت أعظم فنان فى العالم ! "
اعادها للجموع التى خرست عن الكلام ..
روحه لا تنقطع عن السماح
لصديقه أن يتسامى
لا تقفُ عن العطاء ـ كيانه الفطري ـ
وهو يسمع طائراً يغني في صدره
أو مثل عوسجةٍ تحترق في قرّ البرد
يجلس عندها الغرباء المُهملون.
ـ" لا.. أنت أعظم فنان! "
يصرخ صديقه وهو يدفع عنه
غضباً منحدراً من فوق التلال
غضباً يجرح القلب.
وفي المقهى المزدحم تعاركا
فأخرجتهما أيادي الآخرين
إلى
الطريق ".. الطريق اللعين.. "
فجأة..
أخرستهما النجوم المتلألئة بلا خيار
وسماء رائقة كعين الديك
بكيا.
احتضن
أحدهما الآخر.
سمعا الغناء ثانية.
بكيا.
إنها الحياة التي رأيا بعيون مُفَتحة
وآذانٍ مرهفة
تمضي: دودة قزّ تعوف شرنقتها
إلى سعير اللهب.
كانا يداريان البؤس والفشل
يتعذبان.
يسمعاننا حكاية صافية
ونرى في حضرتهما صوراً ناصعة الألوان
قوية متحركة..
تكاد.
تغيب من قوتها عن الابصار
تحت كل هذه النجوم البارقة
وصلا اقصى الحدود.
تفَتحت الدواخل
وعرفا أنفسهما...
بعد جهد عظيم
مابين البشر
آ..آ..آ..آ..آ..آآآآآ
...............
................
إنهُ الفراغ .

(شخصية الصور)

من لا يستطيع ألاّ يرى وجهه
لا يستطيع أبداً أن يرى العالم .
Ik ben, een hollandseschilder"
إك بن أن هولندسَ سخلدر"
أنا رسام هولندي "
وتمضي بعيداً .
بعيداً .
فها أنت مثل جالسٍ تحت صخرة مشرفة على الفراغ
والوادي ذو عمقٍ مهولٍ شاسع ...
يغلف أعماقة الضباب..
ترسم وجهك على عجالة ـ كل مرة ـ
قبل أن ينقطع النَفَس
ـ هكذا أنت ـ
وقبل أن تتغير صور الأشياء
آه .. سبحان نفسك
من مرور الزمان .. سبحان عزتها
والرحلة التي خلتها ، ربما، لا تنقضي
ها أنت تبتعد..
تأخذُ روحكَ أبعادُ المنظر
خضرةُ الحقل وزهورُ اللوز النافرة
التي رسمتها متفتحة في رزقة أول المساء
رسمتها بدقةٍ وأناة
Dat ik met het meeste geduld en de meeste
precisie heb gemaakt
"فأنا مع صبرٍ كبير، ودقة عالية عملتها"
فأينعت بشكل دائم
قرب صورك وعينيك القادحتين
طائران هما..
يملآن الفراغ قبل أن ينغلق.
فتشف جبال الغيوم
ونرى ... صورك هناك
بارقة في القاع... هناك
هناك.
لوحاتك التي أصابت
بعضهم بالجنون
او.. او.. او.. او..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي..
او.. او.. او.. او..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي..

 

 

 

(نداء)
أيها الفعل الكوني
يا منقذنا
نكاد نسقط كلنا..
على أعتاب المنازل.

(إعتذار)
العزيز فان خوخ
إني أعتذر إليك
لتعذرٍ متمكن
وصعوبةٍ تخترق المكان
أن أتحدث عن صورك الشخصية
هي لك... هي بعضك.
هكذا أنت مسرعاً دوماً
فتراكمت على الطريق
ولا أحد له القدرة الكافية ـ أنت تعرف ـ
أن يفك ألغازك
أعتذر...
كذلك صديقي في هذه الرحلة (هنك فرهاس) HANK VERHAEST
ـ الذي ألقبه بحاصيَّ الورد(كونتابل ده فليغ) ـ LE COMPABLE DES FLEURS
ونحن نزور المدينة في صيف متحيّز
المدينة التي اقلقتك فيها كل الأيام..
والنادل يدعونا لنجلس
في المقهى، اين رسمت لوحة الليل، بنجوم تبرقُ دون ملل،
ثم يتركنا ننتظر .. ـ لم تكن هناك النجوم ـ ..
هناك .
في شرفة المقهى على ساحة دَ فوروم " du forum"
كان هناك الضجر
الضجر هناك.
وبعض الكراهية ؛ لأنكَ باقٍ ...
كل ما شعرنا به هو الاهمال والسخرية
مثلما سخروا منك بعد ان قطعت اذنك!
وأوطنوا قلبك في بلاد الخوف.
سدو عليك الطريق .
فرسمت وجهك المعصوب عام 1889
عيون لا تنظر إلى أي شيء
لا تنظر إلى البشر
ولا الحياة التي قربك.
رحت بعيداً ، وقد أتلفوا روحك الثكلى..
- ـ آه كيف كان أًلمك؟ ـ
- من سعير الاحتراق وتعسر اللقيا؟
برغم أنهم ـ وأنت فى زمنك نبيٌ فى منفى ـ
فلاحون يقتاتون من الحقل، الأبقار، والمرعى
فها هم بسطاؤك، اعذرنى، يقتلونك ثانيةً
بعد أن احترق قلبك فى مناجم بلجيكا
يتهمونك بالجنون: أهل اّرل!
وقد انغلق القلب وتخثر الدم
ضاع السمع.
ضاع البصر.
واو.. واو.. واو.. واو..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي..
واو.. واو.. واو.. واو..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي..

فكم كان الأجدى بنا ونحن في صحو كامل
نزور المدينة... كأننا نتفقدك
أن نصيح بجموع السائحين:
ـ "كم عجيبة هذه المدينة.. أيها الأخوة الأعزاء.. رفاق السفر ؟"
“ فليجمع الكل الحقائب.. ولنغادر.. ليس طلباً هذا وإنما رجاءً أخوياً
من فنانٍ في المنفى
أرجوكم فقط رجاءً أخوياً..
فالأخوة الفلاحون، فى طبعهم،
وقد تقدموا في الفلاحة
ارواحهم قد رحلت وبقى الجسد
فى تعثر متفاقم على ناصيات الدروب والحقول.
موانيءٌ هناك في اقصى الجنوب..
سفنٌ فارهةٌ تصدح فيها
الموسيقى،.. نظيفةٌ.. تصلح للرقص...
ستنقلنا إلى مجالات العجائب
حيث ينعشنا الهواء
ويتجدد كلَ حولٍ
هذا الجسد الذي نحتت فيه الأيام
دون كلل."
وَي.. وَي.. وَي.. وَي..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي..
وَي.. وَي.. وَي.. وَي..

(حشرة السيكَال ـ آرل)
الزنّانة على الحقول وأقصى الزوايا
جموعها ذات الهول المُرهب
تكاد أن تقلع البناء
الذي لايُضن بقوةِ احجاره
ـ ألتى أُخذت من الجبال القريبة منذ قرن مضى ـ
فهناك....
إز.. إز..إز.. إز
إز.. إز..إز.. إز
إز.. إز..إز.. إز
هناك.
ليس لك من صمت في حيرتك
أن تسلك درباً جانبياً
مابين حقول القمح وعباد الشمس
او تحيد عنه .
ماعليك إلا أن تنطلق شمالاً.. إن اردتها..
فالزنانة على كل مكان مطلق
هناك...
بعيداً عن الرعب المستقيم
مع كرات الثلج تُدحرج نفسك
بين اشجار الكستناء والأرز
لاتصل .
إز.. إز..إز.. إز
إز.. إز..إز.. إز
إز.. إز..إز.. إز

للحشرات عاداتها ــ فلتعرف ذلك
وقد سكنك الفزع المصعق الدائم
دون أن تقاوم
أو تفتح فمك.
إز ..إز ..إز..إز..إز..إز
إز..إز..إز..إز..إز..إز..إز

 

(جلوس كلوشاغ)

مشرد.. شيخ في الصباح الباكر
بعد أن شربنا قهوة صغيرة، حالكة السوا د
عند مدخل المدينة، ـ وكأن لا بناءَ هناك ـ
يجلس وحيداً يحيطه الصمت وأشجارٌ ضعيفة بلا كيان
إلا أنها أشجار
في هذا الصيف القائظ
محني الظهر.. هاديء لا يُبدي أي حراك
على مصطبة من خشب
خضراء متقشّرة الألوان
يجلس.
بانتظار المطر، ربما،
في ملابس زُرق باهتة
رثّة.
تكاد.
تسقط.
من على جسده.
يكاد يسقط هو.
إلى جمع التراب الراقد
على الأرض وعلى حذائه، كأنّه بعض لوحاتك،
حول الشيخ الناحب من عام 1890
Rounende oude man"
راونده أودَ مان"
وهو يضم رأسه بكفين مزمومتين
لا تستجديان أي شيء
حتى من النار التي تستعر قرب ساقه
يكاد من زرقة الملابس
أن ينتقل دون عائق
إلى عمق السماء
فيهدأ المكان
ويبهت.
ويشحب.
كشحوب هذا الجالس في وحشة الصباح
لا يستمع إليه أحد أو يشاركه الكلام
أو يشمّ التراب قربه
ـ حيث جلسنا صديقي وأنا ـ
أو..
ينظر كما نظرتَ أنتَ
أيّها السيد العزيز فان خوخ
فأبقيت دموعك
تلاحقنا.
على الورق المصفر وخطوط الفحم القوية
على أغصان الشجر..علينا نحن..ونحن نتقدم ببطء
ليس بفعل الذنب إنما بفعل
خوف
النسيان.
وعبّاد الشمس يستدير
كلّ صباحٍ
بصفرةٍ نافرة
لا يعبأ،..
أو هكذا يُخيّل إليناّ
في هذه القصة التي
تكاد أن تضيع مع أنين الريح، وهي تدفعنا..
يخفت
على إثرها النداء .
نداء الرحالة والصدى !

(نداء)
ما زالت هي كما هي
صرخة الدهشة.. بأننا ولدنا
وجئنا العالم بصرختنا الأولى
وعرينا
الصافي العظيم .

(قدسية المكان)

فتيات.
سيقان باسقات واثواب مشعّة
مع اضطراب الهواء
يجئن في زحمتهنّ
الى زيارة
المستشفى الصغير وسط ) آرل )
ـ أين عولجت بعد حادثة اذنك
وأمضيت بعض أيام آلامك
التي حملها معك أخوك تيو -
ـ هذا البناء لا يصلح للاحتفاء،
بل للهرب ..
من مدينة غاضبة
تصيب المرء بالاضطراب ـ
في لوحتك (ساحة مستشفى آرل)
De hof van het hospital te Arele 1889
"دي هوف فان هت هوسبتال تَ آرل"
يبدو المكان واسعاً رحباً
مع حوض ماء للأسماك الذهبية
وإذا أنا واقف، أين رسمت، مع صديقي (هنك)
أجد نفسي في مكان ضيق
لا يكاد أن يعطس فيه الإنسان
أن لم يجفل الآخرون...
تجفل الطيور
ـ الراحلة ـ
كم رحيمة هي روحك...
كم رحيماً هو خيالك...
لهذا البناء
.........
.........
تحول بعد عام 1989
بعد مئة عام على رحيلك
الى مكان يحمل اسمك، إنها ببساطة
سلطة المال يا عزيزي فينسنت.. سلطة المال
علينا أن نكذب...
هكذا.
رغم وضوحك .
وقد باعوا لوحتك حول عباد الشمس بمبالغ
طائلة لم تحلم بها القردة اجدادنا القدامى
ولا جامعو المال الخائفون
هكذا.
بعد أن تنزل الضربة
تُفرق الجمع
تُرجِعهم إلى الغابة
لأخذ النَفَس ومُداراة الحال
هكذا.
أما نحن طرائد المنفى
فنجمع
ما تبقى من ذكريات ثقال
من المخزون البعيد...
ننظر حولنا بتمهل.. ثم نرحل.
وها هنّ الفتيات المشعات
كقوارير من نور مع حركة الهواء
داخل الباحة والحديقة الصغيرة
مربعة الشكل في البناء القديم
المنسّقة جدا بأسلوب
كإحدى لوحاتك العديدة عن الزهور
وهذا المكان بالضبط
كأننا ننظر شيئاً حياً
لكنه باردٌ يهب مشاعراً أقل ما فيها القلق.
يضحكن بتواصل عابثات
والضوء يرسم سيقانهنّ المنتصبة
مع حركة الهواء بأرديةٍ كالرايات تتلوى ببطء
أراقب هذا التداخل بصمت
لا شعور لديّ سوى الأسى
وأنا أمسك بطاقة بريد
عليها لوحتك.
مشدود الراس بالضمادات وعينين غامضتين
أُريها الى صديقي
وهو ينظر.
واجماً... رافعاً يديه إلى صدره.. كأنه يمسك شيئاً.. يخاف أن يسقط..
يسألني: ـ هل تحب المكان؟
ـ لا.... لا أحب المكان!.
غادرنا...
ألمٌ.. حزنٌ..
صاحبنا.. وصفرة باهتة..
الى كل مكان.
غثيانُ.
وثُمةَ أيضاً
أصداء طائر صغير، يغني..
من بعيد
و.. يرهقنا.
فرنسا ـ آرل
7-7-2010

(عن باحة المستشفى)

إنها مفارقة، محيرة حقا، على الباحة الصغيرة هذه، تركوا مقاعد وطاولات للأكل... تحتل جزءا ًكبيراً من الساحة . ومع إنّ هذا المطعم تباع قربه، وعلى زاويته اليمنى بالضبط: التذكارت البريدية، عن أعمال فان خوخ وحياته؛ إلا أن النادلة، التي تواجهك بصمتها وغضبها الدفين، ترفض رفضا قاطعا أن تطلب فقط شرابا.
ـ هذا المكان ليس للشرب.. عليكم أن تأكلوا ايضا.
ـ لكن لم يحن الوقت للأكل!
ـ ليس هذا مهما!
وصمتنا.
أي تعاسة عليها هي هذه المرأة.
تُقاطع.
وهي تنظر خلف كتفك، كأن هناك قادم آخر؛ وما من أحد...!
المطعم فارغ جداً، كأن هناك، فقط، بعض الرعب، أن يأكل الإنسان شيئاً ما وهو يتذكر قطع اذن فان خوخ وعذابه...
الفن مهما طال الزمن قريبا ًوقريباً جداً من القلب.. هذا المكان الآمن.. وموطن الرعب.. أيضاً.
فعليه أن يكون التأمل والهدوء... التأمل والهدوء...
سيدا المكان لا غير.

(الرجوع من آرل)
الى الهباء الحياة كلها، كدت أن اقولها إلى جارتي، التى صعدت القطار من ليون وجاءت بطاقتها ذات الحجز الرقمي الألكتروني: على المقعد قرب النافذة بزجاجها الواسع، الذي تكاد أن تلقينا سعتها على حشائش المنظر، خارجاً، لكننا نبقى منطلقين بسرعة كبيرة.. خاطفة: انه (التي جي فْي )(TGV)القطار السريع الحديث، علامة من علامات الغرب الفارقة.. الفارهة، تطور مع مجيء القرن الواحد والعشرين. ينقلنا، في زمن قياسي، من أطراف آرل، إلى مدينة ليون، حيث صعدت جارتي، ثم وسط مدينة التمرد: باريس.. تعال أيها الغموض.. إذن . -”عفواً أنتِ من اية مدينة ؟” سألتها بعد إبتسامة متبادلة. كانت امرأة هادئة، طيبة الملامح، أمومية، مثيرة، وذات عطر طيب أيضاً. ما تحتاجه المرأة منذ زمن الغابات والصيد الوحشي.
- “انا من آرل “ قالت وهى تهبني إبتسامة، كرم جميل، مع إيماءة صغيرة بالرأس مؤكدة.
- مثير حقاً هذا أيتها السيدة..
مصادفة غريبة..
كنتُ في آرل!.
- “ آ.. كنتَ هناك..!
- “هل تشتغلين هناك ؟” سألت مباشرة.. أيضاً.
- “ نعم.. لدي مقهى.. أنا لست من آرل..
زوجي هو من آهالي آرل.
- “ أصابتني المدينة بالأضطراب
“ قلتها مباشرة.. واستمريت كأن لا وقت لدي...
“ كيف هم أهل المدينة هذه ؟”
- بعد عشرين سنة من العيش والعمل.. رغم أن زوجي منهم.. فهم بالنسبة لنا أهل الجنوب..
كائنات غريبة.
- “آه.. تقولين هذا!”
-” نعم...”
- ذهبت الى (آرل) لآن فان خوخ عاش هناك فترة.. وقرأت بأن آهالي المدينة
كانوا يشكونه الى متصرف المدينة، القيم، المسؤول، بسبب شكله وعاداته الغريبة وبيته الأصفر”. قلت ذلك دون توقف.
-” لا أستغرب ذلك.. والآن يجنون النقود لمرور فان خوخ عندهم.. ليس غريباً هذا.. أعرفهم من خلال عملي فى المقهى.... لا أحبهم .
- “ آه.. “ ثم صمتٌ .
والقطار العجيب مبتعداً .
سريعاً هو.
أحلم قليلاً بالوصول الى مدينة ( كَنت (Gent البلجيكية. وإنتظار سؤال صديقتي الهاديء:
“كيف كانت الرحلة الى آرل ؟ “ وصلنا مدينة (ليل) الحدودية، أقصى الشمال من باريس، ودعتُ جارتي التي وصلت غايتها، وتوجهت، أنا، مع شعور بالتحرر، الى القطار المتجه الى بلجيكا.
كانت أيام.

(إنّها المدينة)

ودون أن نلتفت
رغم اني التفت كالخائف (ربما يتبعنا المكان)
غادرنا المدينة الجاحدة
تتبعنا روح هائمة
وتصطبغ الجدران بلون الهواء
فضاء فارغ هي المدينة
وأيّ مدينة
خلنا.
أنّ أرواحنا
في انقباض
من المدينة.
een smerige stad
" أنْ سميرخه ستات "
" المدينة القذرة "
فعلينا أن نقوم بأفعال خارقة
نمرقُ عبر طرق الهواء.
نمرقُ عبر جدران الهواء.
عبر أطفال (آرل)
وهم يرمونك بالحجارة
عبر صراخهم.. في جنون.. في جنون ..
عبر الأشخاص.. وهم يتلصلصون عليك
من خلف شبابيك بيتك الأصفر...
نتماسك قليلاً في هذا الأسى
دون أن نشرق بالدمع
الذي ينهمر
لا نعرف من أين
إلا أنه ينهمر بكثافته
حتى من الأشجاروالضباب الذى أخذ يتفرّق ، ربما منه !
ــ ربما من أشجار الزيتون
من تدافع الخطوط المتوحشة
الواقفة الممتدة على الأفق المحصور
حشراً في مشقة الأنفاس
كذلك كل من ينظر " أشجار الزيتون من عام 1889 (أوليف بومَن)
Olijf bomen"
في متحف أمستردام
يُفاجأ بأنه محصورٌ في زاوية
رغم بعد الزمان .
آه.
كلما غادرنا
ونحن نغسل الوجوه والأيدي
تتابعنا الخطوط
... لانكفَ.
نزيح غباراً غريباً
التصق على الوجوه والأيدي
أرهقنا.
نزيح الخطوط ثانيةً
نحاول
آهٍ.
نزيح.
حتى وصلنا إلى مدينة أفينيون
بطرازها الكلاسيكي العتيد
الشوارع فارهة
مغمورة بهواء منعش
متفتح العطور.. رخيٌ.. رطبٌ.. بعد قيضٍ غريب
إنه لترحيب مبجل.. حقاً..!
الدخول في روح العالم ثانية
حتى رجال الشرطة والمرور
بأزيائهم المشعة الصفر المخضرة
ليس هم إلا علامات ضوء مرشدة!
نعم...
ـ “آهٍ ها هنا تنطلق الروح”
تهجدتها لصديقي.. تبسم..
وهو يقود السيارة في طرق واضحة
ـ “إنها مدينة مقدسة”
ـ”لماذا؟”
ـ”ها هنا تعبد الرهبانُ قروناً طويلة”
ـ”آه!...... آه نعم.. أشعر أرواحهم
معنا تُدوم.. أحسها..
في الهواء.. أحسها.. خيالي يستجيب لذلك”
واستمعنا إلى خطى الناس تدرج
على الطريق وسط المدينة المقدسة
انه احتفال اعياد المسرح
فجاءت الوفود.. المزركشة بالألوان
ترقص في الشوارع
ونحن نحمل في خلدنا سيمفونية عن الخلود
وصوت طائر صغير.. يشدو
من بعيد ويطربنا...
......
......
Alleen als ik aan mijn ezal sta te schilderen",
Voel ik iets van het leven.
" فقط حين أكون واقفاً قرب المسند وأرسم، اشعرُ بأن هناك بعض الحياة"
ألين آلس إك أنْ ماين إزل ستات سخلدرن، فول إك إتس
فان هت ليفن "
وها أنت مع الرعيل النادر
الذي بَكرَّ طفولة الحياة بغرته
فبقيَ دهشة في كيان العالم
(كرفاجيو) المتمرد العظيم
و(طرفة بن العبد) مقلق القبائل
ثم المعلم القاسي (رامبو)... وكل القلقين في عالم المنسيين
مضوا، كما مضيتَ، أبعد من الرؤى
التي أثكلتها تكالبات البقاء
وفي بساطة مطلقة
كان الطريق واضحاً
مترفاً بالحقول اليانعة
وصياح الطير
الذي لا ينقطع صباح مساء
كو..ككو.. كو.. ككو.. كو.. ككو.. كو..
ككو.. كو.. ككو.. كو.. ككو ...كو

(نداء)
أيها الأصدقاء
أيها الأحبة
In this Indian sammar
وقد أتعبكم الجهد في التحمل
لإبقاء الرحمة في القلوب
ومن كل هذه الاثقال التى تؤول إلى التراب
ها هو الإنسان
على قارعة الطريق
جلياً واضحاً
دون لَبس.
بلجيكا ـ مدينة كنت

16.07.2010في المرسم