هوشنك أوسي
(سوريا)

الإهــداء

إلى صديقي الذي مازلت أعجز عن الكتابة له وعنه. الشهيد جهاد عبدالله
إلى من علمتني كيف يغني الخريف
عمتي روناهي أوسي
إلى من تؤوب إليها الألوان والعطور والأضواء بعد التحليق في فضاءات الكلام.
سيدة الأزرق

بيروت وثلاثية المطر الأزرق

آية شقراء من نصٍّ أزرق
تجول في شرايين القصيدة
همساً أشقراً يختزل أغاني القرنفل للشفق.
بلا وجلٍ ، على عجلٍ
تتخاطفها الكلمات من ندى الأساطير الموءودة
وتراتيل الشمس المجنحة في حضرة عينيها.
فتتلألأ في حلق الحرف وطرفه
سنونوّةً من المطر والضوء
يعقد الزمن المهووس بها ذاته أقواس قزحٍ فوق
                            ابتسامتها
أمدُّ لها شِعراً مطراً ويداً من الأقاحي والحنين
فيجرّها السراب الحزين الكتيم
من معصم أغنيتها الجبلية الطعينة
وهي تجرني من قلبي صوب بحرٍ غائرٍ
في ذاكرة جودي*
بحر من العويل ذرفته غيوم ثكلى محلّقةً في حلم الأيائل
على ثرى ملحمة ميديّة* لا تريد أن تنتهي
فيسأل الجودي أسطورة نائيةً غافيةً خلف أبواب اللّه
إلى أين تقود آميتيدا* أنهاراً
شِعر آخر أمراء الماد* في وضح العشق
وبكّو* يجوب أزقة المجهول
شاحذاً حقده
شاهراً هاءً من هزيمةٍ بدأ القدر نسجها
باحثاً عن مم و زين* آخرين
إلى أين ؟؟!
إلى أين ؟؟!

يقين التراب حزناً

هناك ….. هناك
حيث ينحدر الزمن الكسيح من شامخ الكلام
كراتٍ ثلجيةً من ردهات الليل المقفل بالعويل .
فتتشظى مصطدمة بأحلامنا المتحجرة .
هناك تتناسل هزائمنا الصمّاء
والأباطرة الأقزام ينفخون في خامد الكلام .
هناك وطني المتبقي من وطني
الذي صار ذاكرة للريح والحزن .
هناك من لعنة السراب الكبرى
تجيءُ قوافل الندم ولا تجيءُ ،و التراب زبد .
يسألني القرمزيُُّ المتهدّجُ صوتُها :
كيف أوغل بنا التيهُ المراهق في شعاب الوهم والغدُ بدد؟
أَمطراً كان ما ذرفتهُ سحب الطيش هناك
حيث كل الماء ماءٌ ونصفهُ مارج؟
على بعد حلمين وموت من كرمتك الثكلى أنا
أراقب بزوغ عينيكِ قصيدتين للوطن
ولم أعلم أن كل الوطن أنتِ ونصفهُ أنا
حاضرة كالسماء غائبة كالمطر

الحرف تصدَّع في اقتفائهِ أثر صوتهِ الضائع
في سراب بيروت
والكلام المعاق يختلس السمع لخطى المعنى
المذبوح على شطآن بيروت
كل المعاني سيقت من أعناقها إلى أقبية الضباب
ومازال الشعر يشرق وينمو مطراً في زمن القفر المحموم
فيا قبّرتي الزرقاء
حطّي على غصن قصيدتي
تنسّمي عشقي
تفيّئي روحي الخضراء.
المتأرجح ألقاً في أفناء شِعري عيناكِ
والشامخ المتصدّع بين ركام الضباب وطني.
فيا أنتِ …أيتها المقدّسة الآتية من السّرِ الشهيد
طليتِ أُغنيتي …زمني …جنوني بأزرقيكِ
وعبرتِ بيّ فوق صراطِ العشق الممتدّ
بين آذار وقنديل*
وألقيتني في أول نهر صادفك
لِمَ يا رائعتي ؟ لِمَ ؟
من يدوزن مصيري عويلاً في لجّة الفواجع
من وشى لكِ : بأنني لست الوطن ؟ من ؟
من سيلملم هشيمي الذي ذرته نسائمكِ بين العواصمِ
                  والمنفى كفن
الجرح يصدح أسئلة يتيمةً مقفلة هي أنا
فانصتي بُكرةً وأصيلا
ولا تنسي أنك تركتِ هنا متيّماً هائماً قتيلا
أسقيتهِ* كأس الأمس
أضرمتِ غده حزناً على حزنٍ
سلي عنهُ أول فجر هناك يقبّل وجهكِ
ستجدينهُ في ألقهِ يضحك يبكي
يخطُّ على النسائم اسمكِ
                  ذكراكِ
                  هواكِ
                  فاقرئي
                  اقرئي

  • جودي : جبل جودي
  • ميدية : نسبة الى مملكة ميديا
  • اميتيدا :ابنة استياك اّخر ملوك ميديا
  • الماد : شعب ميديا
  • مم وزين : ملحمة شعرية كردية
  • قنديل : جبل في كردستان

بائعة الثلج والنار

ما بين البحر وعينيها
احتراقي وهذيان الزمن المتصدع المنتحر في نشيدي
وجهها الملائكي
آذاري المغلوب على فصله وعرسه
فكيف للنوروزِ أن يبثَّ عطره في بقايا غدي
إن غادَرتْ تلك الغيمةُ دمي؟
أنا والمساء ونهر دجلة
وحدنا نقرأ زقزقة كمان صوتها الكوجري*
ونستشف عمق الحزن والتهوّر الراسيين فيه
أجل يا صاحبي
أقول لها : سيدتي تبيعينني ثلجاً….ناراً
وتشترين عذاباتي
ياسيدةَ الزنابق والغيم ،آلهة الحرائق العذبة
تلك الغابة العطشى لهبوبك ، الزاحفة نحو دجلة
لم تكن قصائد ( جودي )
بل أشرعتي المبحرة عكس الصوت واللون
عابرةً برازخ الجنون نحو ثلجك المقدّس . قائلة:
أنا الصلصال الآثم المعفّر بالضجيج والأسئلة، فعمّديني.
اعزفي أيامي لحناً كوجرياً مضيئاً كوجهك.
فعلى ضفاف نغمة النهوند متراميةٌ أبعادي وملامحي
المخضّلة بالوجع ، والضباب تراب .

أتـُراه التيه الذي يشتهي خُطاكِ؟
أم تـُرانا أدمنّا الولوج في السراب!؟
نخبك قاتلتي …
فاليقين المنسحب من ذاته الرثّة ، نهرٌ يفضي على
نافذةٍ فرَّ منها أفق كلماتي الهائمة على لجينكِ.
اتركي ما للريح للريح
وما للطين للطين
فيا وطني المتبقي من وطني
دعيني أعِش فيكِ لحظةً وطني
في القصيد عشبٌ مُنّـدى وحلمٌ عذب
فلنُحلّق فيه بعيداً عن ثرثرة الطواحين
قريباً من الخبز وزقزقات الطفولة التي تملأ أرواحنا..
أجل يا صاحبي…
أعلم ولا أعلم من أين تهبّ هذه النغمة الشقراء نسيماً
على قصائدي؟
من أين تمطر على قلبي أسئلةً وأرقاً لذيذاً؟
لا أعرف، هل أنا أول قتلاها ،أم آخرهم ؟
أعلم أن الأجراس المعلقة في أعناق الجداول المذبوحة ،
مازالت ترّن وتزفّني لنيرانها الزرقاء
أعلم أنّي ماضٍ في المجهول إلى المجهول
أيامي المغشيّة على سنينها
حنينُ الغياب للإياب وظلالُُ مترعةُُ بالضجر و الغبار
كنتُ طفلاً يا صاحبي
صرتُ طفلاً يعبثُ به الخواء المعتوه و أزرقها اللاهب.
يلفّ حرفي عراء المعنى و مخاصمات اللفظ والصوت.
يا أخي في العشق والشعر والجرح
بالأمس كنّا نخطّ على عنق أيلول ذاكرة القيظ والقمر
برائحة التراب المبلل بأول زخّة مطر
كنّا نستيقظ كبراعم الأقحوان والجداء على خطى أمّنا
قبل تنحّي الليل وتثاؤبه.
عيوننا المثقلة بالقذى والأمل و العبث البريء.
عشيّة سوقِ شمالنا للمقاصل
لا أعلم من أية أغنية غجرية انبلجت راعيةُ
الظباء والأنهار ،كي تعتقل قلبي
رأيت الله مغتبطاً في عينيها
فصليّتُ ملء الشعر والطفولة والشفق
كي لا تعاود الغروب
مازلت أصلّي معلناً حبّي، باحثاً كظل معتوه
في مرايا الشام وفي ترانيم الياسمين والأضواء الحزينة عن وجهها
أبوح للأزقة .. للحدائق.. للشرفاتِ
للريح.للضجر. .. للأساطير والخرافات
للقناديل.. للمطر
لآناهيت ..عشتار وأفروديت ، قائلاً لهن :
أيتها الربات
أنا آخر أمراء الماد.. طريد الهزائم والعشق
قد اخترتها من بينكن وهي
أجملكن أجملكن …أجملكن

قيثارة الراهب

ذات فجرٍ
على صدر الدرباسية نسيت جبيني
في راحتيها المفتوحتين أفقاً على آفاق القفر
أودعت ذاكرة عينَيَّ .
وحفيدةُ الشمس الكبرى
تجرّ شطآن جرحي المطلة على شرفة اللّه
لتغتسل في إناء الطلِ بأنيني .
الدهر مثلي يطوف خصرها حاجاً مسكوناً
بدفءٍ مجنون فضيّ المذاق
بين نجمتيها المتقدتين الحائرتين أنا...
الهروب منها إليها
أنا الغروب الدروب
القبل البعد
القدر العاقر المصلوب
أنا.. ما أنا.؟
الطين المهرّب في زوارق ورقية ربانها الموت الفسيح.
والحزن المشعُّ من دم المسيح.
أنا الجوع الرغيف
حوار الأعناق والسيف.
فيا زهرة النار الغافية في نبض الماء
عبيركِ ترابٌ لغناء الحرف المحفور وشماً على زند الغيم.
يا زهرةً بابُها السماء
من أية تينةٍ على حافة (أُورمية)* سبرتِ أغوار أغنيتي ؟
حيث ينعدم العدم وتعود المشيئات والمصادفات أدراجها.
ترشقين بأقاحِ الوجد ذاكرتي
تعلّمين نشيد دمي مطلقةً في آذاري
رياحينَ... قُبّراتٍ ... كردستاناً نحو الشهداء.
يازهرةً نافذتها القمر الأرجواني
من أية سوسنة على حدِّ الليل تطلين بوحاً... توقاً
على ذاكرتي
فُكّي وثاق الكوكبين التوأمَيْن ليحلّقا في مدارات شفتي
مولاتي ...
عِمْتي نشوةً وتصبحين على توق مترفٍ بالشوكِ والجمر.
غداً عندما تمرّ بجواري درباسيتي لن تعرفني
سبحانكِ... أهذيان الغراب في الضباب ماقلتهُ ،
أم فلسفة الطين ؟
أهو الشكّ بالشك الذي يقتلني، أم اليقين ؟
اطعِمي رخامكِ لنصفي المثقل بالنار
روّضي نصفيّ المسكون بالريح كرنفالاً بالمطر.
أين ألقي نصفي الأزلي، طريد الموت، المعتقل في لحظةِ عشقٍ ورديّة.
أين؟… أين؟
كيف لي أن أكتب نصفي الخالد الفاني
          الموجود المفقود
          العبد المعبود
          كيف؟… كيف؟
لكِ الكلمات وسائدٌ من ريش الضوء.
لكِ الألحان قلائد من بريق النوء
لكِ كل ما أدري وما لا أدري
ولي عيناكِ
فحيثما استدار الكون، عيناكِ.
عيناك شمالٌ لزمنٍ خرافي لا جنوب له
عيناك شمالٌ للعشق ..للحرق
للنعنع البري ، لصهيل البرق.
عيناكِ شمالُ روحي
وكل الجهات في جرحي عيناكِ.
مولاتي...
عند منحدر الشفق،تشظّت أحلامنا الوثنية.
على حزنٍ افترقنا
التقينا على حزن
تقولين : نبقى أصدقاء
كما شئتِ ، نبقى أصدقاء.
لكن أللنهر أن يعكس وجهته ؟
أللتراب أن يغير هويته ؟
ما الجبل بجبلٍ إن نسي لحظةً قامته.
مذ كان الزمان نطفةً، أدمنت عشقكِ
خبأتكِ وطناً في مناقير نجمتي
ورحلتُ نحو أرقي
بالقلقِ بالحبقِ
بالزعتر البري ، بالزنبق أقفلتُ خلفي الأبد
سبحانكِ …
أنا وقصيدتي معلّقان بين الطعنات ،
إياك نعشق
فإيانا تعشقين ؟
غداً سيحطُ الفينيق ومالك الحزين المهاجران
من قصائدي على سفح ذاتي
ينبشان ،تراتيلي الموؤدة تحت غبطة الخرافة اللذيذة
غداً كلما خرجت روحي للنـزهة على
صراط الشكِ المتّوهجِ الوعر المطلْسم بقهقهات الذهب والخمر
سيُجلَد الجسد بفحيح الأسئلة الفجّة :
مَنْ قوّس عُمرَكَ قبباً من زبد ورماد ؟
من ألقت عليك خابيتيها ؟
وأحرقت كل فصول العشق وما احترقت !؟
روت كل العصور من قبلك وبعدكَ
          وما ارتَوَيْتَ !؟
          من أنتَ..؟
فتصرخ روحي من هناك إلى هناك
ملء الكون وما بعده
روزرين … روزرين .

حفلة مسمومة لمولد الفينيق

أيها الماضون في التيه إلى أمسكم
هاكم أعراسكم المعلقة بمناقير النجم رايةً
وتعويذة النيازك رمحاً.
في قوارير الزمن الآتي
صخب الضباب وفتات موائد الحريق.
يد السحاب تمسح وجنتي البراري
مميطةً اللثام عن وشم القمر النافر النازف.
يد السحاب الممتدة إلى صكوك الهواء
مَكَثَتْ بيقينها، العيون المترفة بالبريق
تصوغ نشيداً على هيئة الندم بملامح القسم
رجعه يقصُّ رداء النعاس مردداً!
"ولكم في الهزائم قصاصٌ يا أولي الألقاب،
وللريح منازل الهباء ودروب الثلج الأولى،
ولقوافلكم رائحة الشاي والتوابل والأنين،
لها كل ما تشتهي جراحكم من القيح والملح الصخري والبحري،
ولغيركم دمكم المهدور المراقُ عراءً للعراء
وأختاماً تدلّ على نبلكم"

** *

أيها الماضون في التيه إلى أمسكم
تريثوا.... تريثوا....
فللجنون الوطني بقيّة.
في الميمنةِ، الفتح الصحراوي يجهز على غاباتنا
قمراً... قمراً.
جبلاً... جبلاً
نهراً... نهراً
وفي الميسرة...
جِراء المغول الرابضة في أحلامنا
تلعق دم المسيح
تغتاب نار ( كاوا)* قائلةً:
فليعد( دوغانكم)* من رماده.
والشرق والغرب متواطئان على شمسكم.

** *

أيها الماضون في التيه إلى أمسكم
كان يا ما كان... كنتم
ولن تعودوا كما كنتم.
هكذا أدلى آب بأقواله في غرفة التحقيق.
فأعدّوا لهم ما استطعتم من فصاحة الليل وهديل الحروف،
تحاورون به سيّاف الحَمامِ وجلاد الورد.
أمدّوا بحيرات القلق بصدف الحمّى معيدين إليها ألقها
          ألق القبور الكراسي.
في أدراج الوقت المسموم بلهاث الوحل
أمراء الطيش، أسياد الأبد ومعتنقو فقه الحديد.
ينصبون الخشب إماماً للشرارات المقدوحة من الصوّان،
مبايعين الخراب غداً وبعد غد.
في أدراج الوقت المسموم بلهاث الوحل
أسفار اليتم المعيّن رسولاً للسغب المتفرّد بالكفر والبغاء
ومواثيق نوروز التي طعنها آذار في عنقها
على مرْأى من دم الفصول
في أدراج الوقت المسوم بلهاث الوحل
بكاء النار وشرذمات الروح الرهينة
في محاجر الخزف ومخادع الصقيع
تقصّان حكاية عبور المجازر بأرض العشق، والخطايا فردوسكم
واستيطانها رؤوسكم.

** *

أيها الماضون في التيه إلى أمسكم
لن يتورّع طنين التاريخ من إعادة ثقب مجرات الرصاص
ليلملم أشلاء الفصول قُبيل الأفول.
ولن ينثني الليل المُستَعرْ لذكرى المارد القاتل القتيل،
لن يحيد عن المطالبة بحقّه في إرث الشعراء الكرد الذين سقطوا من شرفات الخمر في غيهب اليقظة الأولى والأخيرة في سبيل الوجد والورد والمهد
مالكم تجهرون باعتناقكم لعقيدة الأبيض قبل عودة المسيح؟!
مالكم وطواحين الهواء النائمة على وشاح غرناطة ؟!
كيف للعبث والخرافة أن يزاودا على طيشكم النبيل؟!
القبور ترى....
أن توقدوا بشحم الوعول وزيت اليقين الشهيد فوانيسكم.

** *

أيها الماضون في التيه إلى أمسكم
لن تنالوا ما حييتم من الجراد مقتلاً يشفي غليل الحقول
والحجّاج في البصرة يخطب للسيوف والرماح:
أن رؤوسكم أينعت وحان حصدها.
ويزيدُ على مشارف الفرات، أوصد الزمان خلف الولاية
خشية عودة الحسين فيكم.
الجياد النهرية المسرجة بعلوم الصفصاف والزيزفون
تقود الكروم إلى محافل النحاس
واليعاسيب تطارد وجوهها في مرايا المطر.
الرُقم المسمارية الهاربة من المدافن النصف مقدّسة.
تلقّن الثيران المقدّسة دروس البيادق المنتصرة في التهام شعاب ذاتها
متيحةً للفراغ بكل تفاصيله ولأقفال القصدير الوثوب نحو بوابات النار.
بوابات النار المشرعة على العصيان الهلامي...
مرتع الأكاذيب النبيلة والحقائق التي تشكّ بذاتها.
بوابات النار المفضية على نهايات الأزل....
شقيق المطلق وحفيد الثواني الإلهية
شيّدها ببداهةِ أمراءِ ميتان*
الذي ذبح الدخان وبخار الكلام وخنق الصخر من معصمه...
سلطان الطلاسم المنتهكة.
سلوا ميترا* وآناهيتا*:
أين ستنتحر آخر غيوم العقل؟!
الذين يدقّون أوتاد الوهم في الماء
هم من صلب الفكاهة أم من فلذات الطوبى والزجاج؟
سلوا الجبل...جدكم الرزين.. القيّم على أحوال البازلت وغضاريف الزوابع:
أين خبّأت الكهوف وصايا الدم الاثني عشر؟
متى سيستلُّ* الصيف ذو الفقار الفكر
ماحقاً ظلال الشواش المزروع في دروبكم؟
مبشّرا بحلولكم ضيوفاً على أنفسكم
أيها الماضون في التيه إلى أمسكم.

أرخبيلات النجوم

الأرخبيل الأخير
قبل ولادة الأزرق بدمعتين وسنبلة

البحر وسفن خيال القرمز الممهور بآيات الذهب
يقتفيان أثر عينيك اللتين ترشقان عروش الشمس بشعبٍ من مرجان الروح
يبتهلان في مهرجان القمر والفضة للياقوت المتقد الذي يعتلي تلّتي الرخام المتلألئ
تحت خمار الثلج المختال بكنوزه ، كنوز المشيئة الكبرى
أما الليل …
فقد أثبت تورَّط الكلام في تجنيد اللون والعطر والدهشة
لصالح مغامرة الضوء السابعة الساعية الى فكّ السحر عن خلجانكِ
لسبر أغوار الكينونة البكر النائمة خلف الأمواج المرصودة بالندم .
للطفولة حصّة الليمون والريحان من كنوز المشيئة الكبرى
وللغبار جثّة الفراغ المصروع بنصل رائحة التفاح المقدس .
للطفولة هذا الأرخبيل بأكمله
وللقلم جزيرةٌ بيضاء تشتهي نسل الحرف.
للطفولة قرى الخيال الأرعن المزخرف بطلاسم الديمومة.
قرى الخيال الشاسعة المبهمة حدودها ، الخاوية من أبناء الزمن.
قرى الخيال التي اصطفت الحبر نديماً وشريكاً في بناء الفردوس
تأهباً لنـزولكِ من نجمة الشعر عروساً
فتحلّي بخرز الرأفة وزبرجد الحنين اللاهب وتفضلي
                                                  تفضلي

حانة الكلام
ومشادّات اللفظ والمعنى

ح..ل..م.. والطين الكليم
نسجا على نول الروح بخيوط القمر والمطر كوناً آخر
يتأرجح بين أدغال الأسئلة الشائكة ومآذن الجموح المنحدر من
نسل الجان المنفيين من المرئيات إلى معقل الفوضى الممزوجة بعبق الطيش والتهكم
نسجا معاً على مقام الكرد ، قبيل أفول آخر المجرات المنكوبة ، واحة للملائكة الإناث
ليغسلن بطلع النرجس نهودهن وغرّات خيول الشِعر
نسجا معاً عُشّاً تؤوب إليه القلوب الغضّة
بعد تحليقها في فضاء المنسيات ، الذي أودعه الزئبق نصف أسراره
ونصفها الآخر خبأه في لحظةٍ زرقاء خلف المصادفات الإلهية
        نسجا خلسةً قبل هبوب ترياق اليقظة
        عرائشَ تتدلى منها عناقيد من لغة السلسبيل المراهق في حواري اللاوعي وأزقة التهُّور
        أما خيول الشعر …
فقد ألقت بحدوات الوهم وأرساِنها لمتاهات الجنون وشغب الموت .
وأزقة الهذيان أرخت جفونها على كل المصادفات الإلهية.
إناث الملائكة عقدن صلحاً مع نسل الجان
مقدمة لهم براهين القمر والمطر ميثاقاً وعهداً على عقل الماء
وانبهار النار بالسديم - مهد الخطايا وموطئ ربّات البرق والشبق
اللاتي يصطدن النجوم لحياكة الفتنة والوساوس
وبثّها في نفوس اللامرئيات.

النادل وبوصلة الروح

هاتها عيوناً لوطن البرق
وأطيافاً من الأيائل المذبوحة ظلُّها بسيف الخوف
هاتها شمعاً … دمعاً … وموسيقى كنسية
ترثي قتلاكَ - أحفاد الينابيع وأصحاب العيون التي تُقِلُّ المساء
حيث تنتهي ملاحم مناجل الهواء وحوارات الغسق والشفق
هاتها رايةً لجيوش الكلام المهزوم المساقة لمجزرةٍ تُعدُّ بشراهة الموت للفراغ .
لاتمسك بمقود الحرف
اتركه حرّاً يغرّد بلسان الأجراس المعلّقة بأعناق الجداء .
اخفض سراج الوقت للجهة الراكدة الراسية في أعماق الأبيض
الذي تنحّى عن قيادة الصخب والصمت للأسود كي يغوي النجوم .
هاتها بلغة الحرائق التي تسكننا مثيرةً انتقامنا من أنفسنا
على ما اقترفه البريق بحق الفراشات ، و ما جنته الريح على النسائم وشقائق النعمان
هاتها جرعةً … جرعة
من الطوفان الصاعد أوج ضجيجه الهمجي
شريكنا في افتراسنا لأنفسنا الموءودة تحت ظلال الأوثان الآدمية.
لتكن مترعةً بمشافهات السحاب ومكاشفات الحجر
لتكن من نسغ التهوُّر الذي يعي ذاكرة الهواء وفحوى أوراق النار السرية
لتكن كما تكن …
بيوتاً للدهشة يسكنها ماكِثو الأرق والقلق الأبديَـْين
بفراسة الجذور وبداهة الزاجل العائد إلى سمائه
هاتها بقامة أحزان جلجاميش على أنكيدو
أو بنكهة الخرافة المتبصّرة المدونة نقشاً على أفاريز الشوق والنشوة
هاتها …
خمراً … جمراً هاتها
يُسكتانِ بلاغة الجرح في رثاء النواميس التي أودى بها النسيان تحت أقواس الخراب
كما هي هاتها …
واترُك لجام الأفلاك ملقىً على عتبة الظّن التي مرت منها مشيئة الصدفة .
لا تخشَ سطوة العقل الهرم الفاقد أمسه
هاتها … ولا تأسف كثيراً حزناً على مرور الفكرة بأرضٍ
خُصيت عقول حبرها وسبيَّ جلُّ تبرها
بعد أن فضّ الرماد جهاتها المرصودة

خطاب الصلصال لحطّاب الأغاني

ن…
والذين يصطلون بأنغام الماء المقدودة من خيال النار
منتظرين مرور القطا وفراخ السنونو بجراحهم
كي يضعوا بيوضهم على أغصان أغانيها .
يخطّون أرواحهم على مرايا القرنفل والفجر أسفاراً لحزنهم الممسود بالأبد
على كتفي الوجود الأول وِزر الفناء الأخير
وعلى الأزل تدبير مواعيد الأناشيد مع ساكني الأقحوان
وعليكم السلام أيها المنتظرون مرور القطا وفراخ السنونو بجراحكم
تلكم أقلامكم المنتحبة
أقلام السراب الحائرة بأمر الطّل وكنهه الذي صدّق ما دوّنته الظلال على الهواء وآمنت به
ذلكم ترابكم المهجور وأبراجكم المنكّسة حداداً على ضحايا الكلام الشرس اللذيذ .
أما أنت … يا أنا …
خلتك صديقَ الحرف والمطر
فانكفأتْ عني أيامي واحتمت بأسوار التشويش
خلتك نديم النغم
فخانتني باصرتي في كشف لغزك أيها المحتطبُ أغانيك الجبلية كي تتدفأ على اللحن الثمل وحيداً
نشواناً مع كلماتك اليتيمة الغريبة

الأرخبيل الأخير

بعد ولادة الأزرق بدمعتين وسنبلة

لا… لا … لم يكن الأمر كما كان
                ولا هكذا
ربما الكلمة التي أخفقت في تحديد مكان وزمان ولادتها
هي ذاتها التي نجحت في صياغة خطابٍ للضوء على هيئة الأزل .
خطابٌ يطاول خطاب الروح الذي مازالت أبجديته مجهولة
خطاب الضوء الموجّه للكلمة التي صاغته قائلاً :
ما جدوى النهر إن لم يكن جارياً
ما جدوى المعنى إن لم يكن غامضاً شفيفاً عارياً
ما جدوى الشعر إن لم يكن ليلاً من مطر
                خمراً من وجع السماء
                نافذةً من قمح
                وبوابة من شبق الطير والورد ؟؟
                ما جدواه ؟ …… ما جدواه ؟؟

الرجل الحطام وأنثى الجبل

إلى الشاعر كمال نجم

ياإله البحر الباكي
شمال عشقكَ جنوب الربيع
شرقا تسري نحوك غيوم القوافي الزرق
غرباً تشهد الأقاحي والخزامى مولد نجمة التراب
             أرجوحتك
عرس الماء يغتاب ناركَ
مختالاً بأنهاره والثلج المشحوذ بالليل .
أيها الإله البرتقالي مهلا ........
لمن ستورث ظلك ... حزنك وبقايا صوتك
             سيد الأصوات الكئيبة ؟
أِلتلكَ البنفسجية النائمة في شرك السراب؟
أم للعابرين تحت جنح الفجر النائي
مرتدين أغاني الرعاة في طقس الغبار
الذي هيأه بعناية صمتكَ المترهل الجميل؟
أم للعائدين من ذواتهم الى ذواتنا
من عرائهم الداخلي إلى أعشاش كلامنا مرددين :
هذا ما وعدت به نبوءة الحجل وصَدقَ التائبون.
مهلا ... مهلا...
ترجل من على صهوة ضبابك المقدّس
فقد أوغلت بك رياح الندم في الانهيار
رفقا بخمرِ الكلامِ الهائمِ في حزنكَ ، نديم الهزائم البكر
عشيق الشفق القطبي وثرثرة الحرف اللذيذ .
رفقاً بزغبِ الطلِ المتناثرِ على قامةِ عشقكَ
بكلِ السحب الآوية قصائدك
رفقا بأعداء حنجرة أمسك
فهم لم يشربوا بعد نخب هزيمتك الطازجة.
يا إله الآيات الحزينة الضاجرة من خلودك
يكفيك أختلاءً واختلاجاًًًًًًً
محتطباً أعماقك السمحاء
يكفيك بتراً لأصابعك الوردية
هاك قطعةً من السماء
ومقطوعةً من صوتها الهارموني الذي يتهجد في ملكوته
ألف كمان وعاصفتين بريئتين
ألف نايٍ وخريرُ جدولين من ضوءٍ ورنين
ألف عصفورٍ وأربعةُ جراحٍ عتيقة.
تلك البنفسجية أنثى الجبل
من يعلم في أي كهفٍ مسحورٍ هي الآن ؟
تعيد صياغةَ الليل على هيئتك
من ثم تغازله على نغمةٍ من مقام الكرد

تنفخ في نجمة التراب
             أرجوحتك
مثيرةً دون أن تدري في فناجين صباحاتكَ
زوابعَ من الوعول والأيائل والديّكة والأقمار والسنابل
تخبئ لك في نهدها الأيمن
ترنيمتين وربع قصيدة
وفي الأيسر جحيماً من الشوق والقرنفل
تلك البنفسجيّة أنثى الجبل
تشد ظلك المعقوف كمناجل الصيف إلى ظل الجبل
فتورق في حطامك المائج
موانئٌ شقراء مبحرةً صوب راحتيك.
توشّح دمك بريش الهلال وشماً وأختاماً تعكس عينيها.
تطلق في دمك أعراس الحجل المتبرئ من أمسه.
فلا تتبرأ من غدك
حذاري... حذاري...
إني رأيت أحد عشر كوناً
أحد عشر شمساً
أحد عشر بحراً


إحدى عشر ملحمةً
لك ولها ساجدين.

دمشق 5-10-2002

البعد الرابع للحزن

بصحوة الحجر التي تقطر الهواء
ذاهبون للنار كالحطب
في مهب التأجيل غناؤنا المكتنـز بالخطايا
وللتراب وصايا المطر
بحوزتنا رسوم الكلام الآثم
توءم البراري ونديم الليل المثخن بالظنون والأسئلة
نبتاع أرقاً نزقاً من البراعم التي تنتحل صوت أحلامنا
يصحبنا الضباب إلى عرسه المعقود لموتنا الماثل أمام العويل الأبكم
سوى الهزائم أمامنا هزائم
فعلى أي جرحينا تميل مواكبنا التي وكَّلت الرنين وصيّاً على إرث لا يدرك
أباطرة الجن المنفلتون من عقال المارج
تركوا نسلاً أدمن اصطياد الغبار على تخوم الماء
أورثوهم فقه الخراب وتعاليم الريح
أباطرة الجان ملوك التخمين البليد وأئمّة البلاغة البيضاء
عاثَوا طيشاً في مهد النبوءات القرمزية
آخذين معهم أبناء السماء سبايا لقصورهم المشيدة
بجماجم الطير واليعاسيب على عتبة اليباب
ذاهبون… ذاهبون:
للنار كالهشيم
معلنين انبثاق أمسنا الرجيم
مبشّرين بخيانة العشّ لطيره، والدرب لعابره.
نخصي خيول وجدنا لإعلاء صرح المارد المخصي
نحتفي برميم الذاكرة الموؤدة تحت جنح الخرافة في مهب الشتاء.
نحن قرابين الأكيدِ المختال بارتياده حانة الممكن
نحن فراسة الترقيم في تحديد نسل اللغة
نرصد في أعماقنا مولد جهة خامسة للفناء.
فيا نطاف الأنين المستوطنة ماءنا
خذي الضوء كله واتركي لنا ومضةً
خذي الأعياد كلها واتركي لنا لعبةً
خذي الطفولة كلها واتركي لنا بسمةً.
جوبي أرحامنا القفراء، موقدة فيها قناديل للربيع
كي يتفقد وجوه هزيمة المعنى في معتركه.
الخارجون من بلاغة الورد والشفق
صاروا من شيعة الندم والفراغ
لتوغّلهم سبراً في بلادة النيّة
وكّلوا المساء وصيّاً على كنوز التأويل
ليفصل بين أوزارهم وأطياف اللايقين.
الخارجون من بلاغة الورد والشفق
داخلون جَهراً في نبضِ المجهول الممل
حاملين لأجوبة المطلق سؤالاً من طين
يبتهلون من تلموذ اللون قبساً ينجي من ترهات الشكل وأبعاده
قبساً يشخّص ويفسّر رؤى رعاة الكرد الذين تاهت قطعانهم
في نحيب الفيافي والمروج على مقتل الوطن برماح جهاته.
الخارجون من بلاغة الورد والشفق
ارتموا في شرك الوعظ العاقر
يتلقفون بشراهة الدخان تعاليم الجمر والثلج
دونهم اللفظ الذابل أشرعة لسفن الجرح الغائر في صمتهم
وبهم العيون…
جداول المساء التي تحرث الصخب على مضض
سنون القيح والصديد
شرّعت نوافذها -بلهجة الملح والبدد- لكبريائهم الحزين.
والشجرُ يحصي سحب الخريف الشعثاء
مؤرخةً ذاكرة الهواء والتراب المصادرَيْن منها.
على صوتهم نما عشب البكاء والبراءة
والزمن فاتح فمهُ للصقيع
علّ بخار النشيج المتصاعد من ردهات الدهر
يَؤُمُّ زجاج التأمل متكثّفاً مطراً من ألم
ليغسل الهواءَ المدجّن المعترف علانية
بفشل الحبر في تحديد بعدٍ خامسٍ للحزن
بعد أن وشى الليل بقافلة أنجم تقتفي أثر قمر آذاريٍّ
كي ينشر على خيط الدم عصارة أوهامها واحتلامها العذري
المؤبّد في لحظة وحشية الولادة والجموح
مال الخزام والنسرين على كمان جرح أبى الاندمال نهايةً
وارتضى أن يكون وطناً لأناس من وجع وجنون
أناس يحرسون الصدى وظلال الوقت المعاق
يتقاذفهم الدمار والحريق كوباء مزمنٍ عتيق.
أناس يحتطبون عظام بعضهم
حافرين على مخارج الحرف نصباً للحجل
لهم في ذمّة الفاجعة هياكل القضايا المعدّة للذبح
لهم ما للعفن من الجدران والحديد
لهم ما لهم من المنافي والرطوبة
لهم ما ليس لهم من تيجان الشوك ومدن القش والطاعون
في بلدٍ اغتيل اسمه وعنوانه.
بلدٌ يتلو أوجاعه على أسماع المالك الحزين
فينتحر نيسان على كلكله اللازوردي
ماسحاً أعين جراحه بمنديل مطرز بالهديل
فينطفئ في آخر المطلق سراجُ اليقين
ويورق في أوله البَخورُ والسؤالُ، ألف ألف قتيل.

السماء الثامنة

السواقي المتشحات بالعيد والطفولة
تصغي بدهشة المعتوهين وفراسة تموز لناي قلبي.
والقلب يصغي لأنين عينيك الممطر مداً ليلكيّاً
عيناك تحلّقان في كنف الأزرق سماءً من عشق
لوجهي الواثب نحوي، وفق مشيئة اللازورد المترع بالفرح والجموح
بات حزيناً كنسائم الشتاء
خجولاً كشقائق النعمان
مكتئباً كأيلول
وجهي الذي خلعني من الشعر
ليعاودني نادماً تائباً،
مقدماً لي سماءً من بكاءٍ ورنين
والسماء السابعة لآذار عهداً عليه
كي أشفع له لديك.

***

إنها تمطر داخلنا....
فاتركي خيطاً من الأزرق
يسافر فوقه الموتى ذوو الأعين المفتوحة
والأرجل المرصودة إلى محافل البنفسج.
الموتى، هم الموتى غرقاً في العشق
هم تلاميذ الهوى والسحاب
الذين شرّدهم التراب والتفاح في الحزن.

***

إنها تمطر داخلنا......
فدعي رخامك الدافئ يسيل فوق شفتيَّ
ليستكشفا تضاريس اللجين الموغل في الصخب.
خليج الزنابق ينادي زورقي
يشتهيه مثقلاً بالشعر والجنون.
فلا للصوت... ولا للصمت
ولا لـ لاّ....
آناء سقوط القمر نشواناً من تبرّجه
بين خيال اللذة وارتجالات الحبر.
مرري ثلجكِ الخصب، و كرزكِ الخجول وأنفاسكِ المتعبة
على الزمن الفائض عن كونه.
الزمان الفار من عقاله
يبيّئ عينيك سماءً للكلام المولود تواً
من لحظةٍ فوق زمنية
إنها تمطر... تمطر...تمطر....
تمطر داخلنا
فدعي السماء تصعدنا
وليلحقنا التراب والمساء،
إن شاء الليل.

ربان بلا سفينة

إلى حكيم عامودا (هاوارو)

سيدي
بايعتك أبداً … أبدا
وهذا العمر المهرول من الغد إلى الأمس سدى
بايعتك بالنار بالغار بنشوة الهزيمة
بزقزقة الدم وبكائه تحت حافر الجريمة
بايعتك أرصفة القيظ
أزقة التراب
غيمةً وجرعةً من العبث الوطني القاني
حين ألقت بك إلى الجهات النائية في أعماقك.
مولاي …..
كل النوافذ المشرعة على طفولتك الموؤدة حرائق
كل البحار أمام حزنك مضائق
يا شامخاً أنينه
كيف لظلك المتلألئ تحت جنح الليل
أن يمسح دمع شرمولا * المتدفق أزلاً
كيف لعينيك الغائرتين في التيه الطفولي
أن يبرقا في هذا الزمن الساقط أملاً
تشيخ عامودا ومن عليها وتحتها
وحدك تبقى طفلاً
تدلـلّه الشوارع … الأحلام … النجوم
سخرية الحمقى والهموم
طفلاً لم يفطم على الرضاعة من ثدي الفاجعة علقماً
طفلاً رفض أن يقمط
حبل سرته دمع سغب شغب يبحث عن رحم
طفلاً يلوّح بعورته للسلطان
لتحتفي به الملائكة كل آذار
يا قامة تتشبث بها السماء
ما لقامتك بين قممنا سواء
كل القامات هوت
كل الرايات المخضبات
وحدها رايتك ما زالت تخفق عكس الريح
تضيق الأرض بالحقد بالكره
فتتكوّر كوكباً خجولاً جامعاً على صدرك الأخوة الأعداء
حذاؤك تاج للشرق العفن الهارب من سخط الجنوب
عفوك مولاي
فهذا الضجر اليائس البائس
أوغل بنا في الخطايا و الذنوب
كل منا يلهث وراء دربٍ
وحدك تلهث إليك كل الدروب
الليل ليلك
تحرثه حقلاً خرافياً لأناس خرافيين في زمنٍ خرافي
تنام عيون عامودا على مساحة الجرح المشتعل العتيق
وقلبك الندي يحرس قرنفلة هي أنت .
كلما هبت النار من جهة القرف الرمليّة
يورق فينا صوتك المألوف الغريب
البعيد القريب شجوناً خضراء
فتخلع نهاراتنا الكئيبة ملامحها تتعرى
لتتوضأ بابتسامتك الدافئة
مولاي …
بايعتك أستياكاً … زردشتاً
فأبيت إلا أن تكون شريداً برّي* الطبع
تجرُّ الدنيا خلفك كعلبة صفيح
تلقي بها صوب الزمن الأبكم
لتقيء فيها الريح

ترانيم على زجاج المعنى

هكذا ....
وعلى دهشةٍ من أمره
صار للهواء عكاز
وصار الحق الواثق الموثوق البّين مجاز

****

هكذا .....
ودونما سابق إنذار
مات الخريف
فصارت السنة بثلاثة أرجل
وأخضعت الطبيعة للإقامة الجبرية في ثوبها.

****

هكذا .....
أيقن الماءُ أن أشهر الصيف حمراء
والخريف صفراء
والربيع خضراء
والشتاء زرقاء
لكن التراب ما زال يشكُّ.

****

هكذا .....
ودون علم البرق
أفشى المطر بكل أسرار الغيم القتيل.

****

هكذا .....
وعلى عجلةٍ من أمرها
سارت السواقي إلى نحبها...
        فغدت نهراً
والأنهار إلى مثواها الأخير
        غدت بحراً
والبحار إلى صمتها البليغ
        غدت شعراً
فصفق القمر ورقص الليل.

****

ليس هكذا ...
بل بهدوءٍ أعمق من الصمت
سكب شاعرٌ كردي روحه لزهرة الثلج
ولقصائد الفجر والطفولة الرعناء خمراً .

****

وهكذا ....
قبل أن يوصد المعنى أبوابه أمام الترانيمِ
ساقت قوافٍ مجهولةٌ
شاعراً كردياً آخر إلى جنونه المألوف دون عودة
تاركاً لدمهِ الأول وكأسهِ الأخير ولنا
قصيدة بلا عنوان
وعنواناً مليئاً بالقصائد

مقطع أفقي لفصل الجمر الباكي

ماذا بعد ....
ألم تَصلي إلى كنه الشيء الذي يقول للشجرة:
آن الربيع فاخضَرّي.
ألم تنصتي لعويلكِ الداخلي بهدوءٍ يتقمّص وجه أيلول.
الشجر مرتّب على أرصفة المجهول وفق اشتهائه
وأيلول المستقيل...
رفض أن يكون معتقلاً لسبايا الريح.
هشّمَ كؤوس الصيف ومرايا نيسان قائلا:
ليختر الخريف غيري بدايةً لسحق الورد وطرد الطير.
يا امرأةً لم يصل إليها نبيذ المعنى ولا الصلصال المقعد في مقاهي الصمت:
لا أنصحكِ باختيار كبرياء الصلبان
فخصوبة الطين في أوج جمرها
والبراري تعتّق خمرها بعيداً عن تموز ومساء الكلام.
لم يدرِ الغيم بعد، لمن بكاء الجمر؟
ألعقيقِ رُخامك المنذور للسراب؟
أم للمواقد الرمداء التي تشكو البلوط لفؤوس الزمهرير؟
لا المكان بوسعه أن يشهد على اغتيال الزمان في صلاته
ولا الدم المبحر في الدم المكسور بإكسير الحناء.
لست أنا ....
بل البريق المتناثر من أعالي الغناء المترع بالجمر الباكي
له أن يدرك حزن عينيكِ الأسطوريتين،
البريق وحده ممعن في تأليب الضوء على شظايا الحريق ورذاذ المطر
النائمَيْن في نهديك.
البريق وحده له أن يوقظ أ لق الأشياء
لتمدح عذرية أرامل آذار
اللاتي تحولن إلى راهباتٍ في جلباب الأبد وأجراساً لإله الماء.
البريق وحده مفتون بأقوال البَرَد ورتوش الأخضر البليد
المستلقي بذخاً ،بوقار الطواويس العمياء على النفير والطوفان .
البريق وحده سئم استعراض عورات الأنبياء الخدّج
وتشطير الرقم المعدوم إلى ثلثين متساويين متناحرين وربعاً أبرص .
البريق وحده ملّ مما سيقال في مآتم أيلول من رثاءٍ للحجر.
لا البريق ولا قصائد طاغور لها أن تناجي عبقرية عطركِ المرئي
ليقرأ على أسماع الكون وشم صوتك المصكوك على زند النور
فحين تتوارى الأرواح عن أوانيها
ينبثق من لام السؤال الأوحدِ وجهك
ملوّحاً بالجواب الأكبر في آخر المشهد:
فصل الجمر الباكي آت لاريب فيه
والبرق ماثلٌ أمام محاكمات التراب في طقس الشمال الكئيب الطعين.
فألقوا بكل كنوز العبث خلفكم
وارتموا بأجسادكم الجوفاء كقشور الجوز العفن في حضن المجزرة
بعد أن تحرقوا فتاوى بغاياكم وحوافر بغالكم أيها الكفرة

ومضات ملوّنة

1 ـ الأزرق الدامي

تذرفان سيل أنجمٍ مخضّبات برذاذ البريق
تذرفان وطناً من وجع الجداول
فينتحر فيَّ الجديد العتيق

***

2ـ الأخضر اليابس:

مازال ومازال يقطف من النارِ ماءَ
وينثر التراب في الهواءِ هواءَ
فلم يعد القصيد خبز اليقين
ولا الذي سال في تعويذة الحرف دماءَ

***

3- الأصفر التافه:

لهاث التهافت
ولعاب الأعين الجائعة لا ترويه
حتى الموت في ظلّه وطلّه لا يرضيه

4- الأحمر الأعمى:

نهرٌ أعور
عيونهُ قلوبٌ ظمأى لعبور البنفسج
ضفتاه ليلٌ ونحيب
والقدر الدامس المقفل الموغل في العويل أعرج
نهرٌ نوقده بالطيش الوطني الفاخر
فيروي أحلام العوسج

***

5 - الأبيض القتيل:

للنحر صوتهُ
للبحر صمتهُ
يتيماً على الحراب يبكينا
عندما ساقوا وطننا للمقاصل.
وحيداً يشيّعُ لحزنه الأخير
قبل الطعنة الأخيرة قال له ماذا تريد ؟

أجاب :
سماءً لأطير

***

6 - الأسود الرخيم:

أنا سيد الأصوات الكئيبة
أشعُّ دماً يرقص على حواف التيه
مشدوهاً بالأغاني البيضاء المصادرة من حناجر الجبال
أهوي بسيوف الملح على جرحي
فيورق في كنه القلق ربع هلال
أنا السؤال الجائع للسؤال
سيدُ الأصوات الكئيبة .

***

أنا الضجر الغجري المعتوه المتكوّر قاعاً للقاع
المشدود أوتاراً من جمرٍ وتبغ وحنّاء
رمحٌ مشحوذُ بيقين الهواء
أنا هيولات الكون الأولى
وآخر أسفار الدم المراق
هراءً في الخواء
أنا رداء العراء
سيد الأصوات الكئيبة

*****

ها أنا أعود
حيث لا أعود آتياً
آتي حيث لا أتي عائداً
أغني عندما أهذي
أهذي عندما أغني
فأي الأوتار لها أن تعزف
أي الأقلام لها أن تكتب
أي العيون لها أن ترى وتقرأ
سيدَ الأصوات الكئيبة.

رتوش

آخر حزني أوله
أول عشقي آخره
بجعتي …
يا سليلة الضوء وتوءمة القمر الناضج في روحي
انثري مساءكِ على البياض الجائع لحرفي
لأطعم القصائد خبزاً لعيون الماء اللازوردي ،
لعصافير الوهم - نديم الفقر وشريك الكفر .
عندما اعتلى زيوس قمة أولمب ليرسم عينيك ،
كنتُ زردشتاً أعمّدكِ بالنار في بحيرة (وان )
هناك حيث يختال الثلج بلونه
والكرمُ بخمرهِ و الفجر بعطرهِ
كنتِ جالسة على ركبتي
تتبددين في دمي أزلاً من حلم
حافرة على شغاف الروح وطنناً للبكاء بهدبكِ
أما أنا فأرتِّلُ عينيك للمساء :
أجمل حرفٍ ، هو الذي لم يلفظ بعد ، أنتِ .
أبدع لوحةٍ هي التي لم ترسم بعد، أنتِ.
أروع لحنٍ هو الذي لم يعزف بعد،أنتِ .
أقدس كتابٍ، هو الذي لم ينزّل بعد ، أنتِ .
وأعمق أنينٍ عرفه الجرح أنا
عينا ميدوزا كانتا تحولان الناظر إليهما حجراً
أما عيناك فتحييِّ الحجر
فلتكن مثواي ومأواي عيناكِ.

****************

ارتجالات الأزرق- إصدار خاص- بيروت-كانون الثاني-2004

لوحة الغلاف: بعنوان (الغجرية) للفنان بشار عيسى
تصميم الغلاف: عبد الرحمن عثمان

**

صدر له : للعشق نبية للجرح شراعه- شعر- أيار 2001