هدى حسين
(مصر)

أصابعي

هناك روح رعديدة تسكن أصابعي
أصابعي القابضة على ثمار التين الشوكي
وأوتار الجيتار
والكثير من الغراء المستخدم للصق فلاتر السجائر
في لوحة لم تنتهِ بعد.

أصابعي الحرة
تتنقل بين أحرف لوحة المفاتيح
كأنما تتنقل بين أصابع البيانو المدرسي
في حجرة الموسيقى
أثناء الفسحة
خلسة.

أصابعي المنفلتة تخترق الهواء
وتغزله
كعناكب خبيرة تعرف
كيف توقع الذباب.

***

الجدة ذات الرداء الأحمر

السيدة ذات العيون الداعرة
تفضحها ابتسامة خالية من الأسنان
لستِ قوية بما يكفي أيتها المرأة الخارقة.
هل تعرفين ماذا تعني الأسنان
بالنسبة لحيوانات متوحشة مثلنا؟

نحن الأطفال
يعلموننا كيف ننظف أسناننا
نبرد أظافرنا
نستعد
لعجوز خارجة لتوها من رعونة الغابة
بابتسامتها الخالية من الأسنان
وبسلة مليئة بالتفاح الأحمر
غبية بما يكفي لكي لا تأخذ المترو
أو تستقل سيارة أجرة ما إن ترانا نطلع
من الطريق السريع.

***

وهم الحياة

كل شخص
له أغنية محببة
مشروب مفضل
تسريحة شعر مميزة
أشياء تجعله هو ذاته
ذاته الحائرة بين اسم لم يختره
وواقع مفروض عليه
وعمر يتقدم به
إلى ذكريات
لم يشأ بالضرورة
أن يصنعها.

***

نداء

شبه عراة
يقرعون الطبول في الظهيرة الحارقة
يرفعون رؤوسهم للسماء بالصراخ المقدس
يحركون كل عضلة وكل عظمة في أجسامهم
ويلوحون للعالي في الأعالي
نحن هنا
أنقذنا
هل ترانا؟

نحن على كوكب الأرض
وهو واحد من الكواكب الدوارة
في أحدى المجموعات الشمسية
في المجرة اللبنية.
نحن هنا نلوح لك
هل ترانا؟
هل تسمع طبولنا؟

تنظر نملة نحو أصابع أقدامهم
الضخمة
التي تدب بلا هوادة
وتضرب كفا بكف
فتطير ذرة تراب
مذعورة من الانسحاق
بين كفي نملة عملاقة تحدث نفسها:
كم هو مؤسف أن تكون صغيرا
هكذا
بحيث لا يعي العالم وجودك بينه أصلا.

***

الباب

يرسم لي باباً
ويفتحه.
كأن الأبواب كانت موصدة قبله!

وسط الفراغ الأبيض
يقف باب
مفتوح على مصراعيه.
ماذا يصرع المصراع في الفراغ الأبيض؟!

يرسم لي باباً ويتركني له.
بلا منظور أقف
أمام الباب؟
خلف الباب؟

الباب هنا
الآن
باب واحد.
وأنا
في الفراغ الأبيض
أستقبل الصورة.

***

أحمد منيب

ليس من الوقار أن نرقص معاً
أيها الميت الدامي ذي البذرة الطيبة
أنت حزين جدا
وأنا أكثر حدة من لغة مندثرة
وأشد غضبا من نهر تغير مجراه قصراً
منذ عهد الفراعنة

هل كان ينبغي علينا أن ننزح معه للمصب
ونترك خلفنا سدودا تحجز اللغة بعيدا عن شفاهنا
ونستسلم هكذا بحكمة
لموت الأب؟..
أنت لي صاحب يا أحمد
وأنا لك نخلة مجنونة وعدٌها
أن تنزرع غريبة
في قلب العاصمة.

***

الساقية

نحن قطرات الماء العذب
نحن البلسم الشافي المهاجر في رحلة سامانية
سينزعوننا من بين أحضان أمهاتنا
ويرفعوننا في الهواء
لندخل قسراً
مساربهم.

نحن نفيض حباً
نعانق الأرض والهواء والنبات
وننتشر كالدم
في عروق الحياة النافرة.
فلا تصفعي وجوهنا هكذا
أيتها الساقية.

***

اعتراف

أنا
لا يعرفني الليل
ولا الخيل
ولا البيداء ولا الحضر
لكنني أعرفهم جيداً
إنهم يسوقونك بعماء
لدرجة أن تشك في وجودك
لو لم يعرفوك.

***

العالم الثالث

فيلم السهرة الأجنبي
في القناة التليفزيونية المصرية
الرسمية
يحكي قصة الحقد الدموي
التي دامت حربها قروناً
بين المستذئبين الجدد
ومصاصي الدماء
الذين صاروا بالمقارنة
في المرتبة الثانية من التوحش
بعد أن كانوا
قبل ظهور المستذئبين
يسيطرون على الجنس الأدنى:
الجنس البشري.

***

وردة

سقطت وردة من شجرة
وسط الشارع
بينما نمشي
لم نلحظها
هي التي سقطت
بيننا.

***

دخان

كلما تشاجرنا
تصنع دائرة من الدخان
وأنا أخرقها

***

قلبي

شاهدتني في قبري
كان الكفن مشجوجا عند الكتف الأيسر
صليت
ليستعيد أنوبيس قلبه المدفون
في معدتي.

***

رسالة

هنا أقامت القبيلة خيمتها
خرج الشباب لصيد الدب مع كلابهم
عندما عادوا
أهداني شيخهم الفراء احتفالاً
بالفريسة القادمة.

***

الحارس

التمساح الصغير عند باب الشقة
يحرس أحلامي
وأنا أحرس صغاره
التي فقص بيضها للتو
في ركن المطبخ.

لماذا لا يكون هذا أمرا واقعيا؟
فالماء المغلي
تفقس فقاقيعه هواءً صغيرا
بواسطة النار.

***

الشبح

ينبغي أن أدعي الموت
كي يمكنك أن تجمع شتاتك من الهواء
وتقف أمامي
يا مسكين
ألهذا الحد
تخيفك مادتي؟

***

صمت

الصمت
زجاج
يعوي كلب في عمق الليل
فنقول إنه يكسره.

***

شجرة

أظن أنني شجرة
لأنني أكلم الكراسي الخشبية
أكلمها باللمس
كشجرة
عمياء.

***

غضب

عندما رحلت جدتي
نسيت أن أغضب
كنت أراقب نصفها الذي يتحرك
يتبع نصفها المشلول
بشوق
إلى جدي الساكن
في بيت الجنة.

***

تحنيط الطائر

سأدفن في اللوحة
كل أعقاب السجائر التي طار دخانها
وسأصنع ثقبا لعين الطائر التي تبخرت
ثقب أزرق
يصلح لمومياء مدخنة.

***

سباق

أيها الفائز
طأطئ رأسك لهم الآن
سيُلبسوك الميدالية الذهبية.

***

اقتراحات

أقترح
أن نترك العالم
بمحض إرادتنا.
نحن مساكين.
كيف واتتنا الجرأة أن نكون مساكين هكذا
نتوسل يا أيتها الآلهة الجميلة
خذي أظافرنا
واتركينا نرعى كالقطط المنزلية..

خذي شعورنا التي نبتت فينا
نبتت
من لحمنا
خذيها
خذي أسناننا
عظامنا
لا تتركي شيئاً فينا
ودعينا
أحياء..

اقترح أن ندرب أنفسنا على التخفف قليلا
أولا
سنتخفف من حمل القرابين للآلهة
ثم نتخفف من حمل الطعام للبيت
ونموت سريعا
لا نحمل معنا للموت سوى مخالبنا
هياكلنا العظمية
كبرياءنا الأجوف الذي يشبه جماجمنا
أقترح ألاّ يعبث الدود فينا هكذا
ونحن لا حول لنا ولا قوة..
أقترح أن ينقض الدود علينا
أحياء..

قد نفكر في التخفف من الإنصات المستمر
لتفاصيل حياة الآخرين..
ثم نقرر ألا نصغي لتفاصيلنا..
نحن آخرون أيضا..
أحيانا...

جراب الذاكرة الثقيل يا إلهي
كيف لم أقترح حتى الآن
سكبه في أقرب صندوق قمامة
هذه هي الطريقة الوحيدة المتاحة
لكي يعيد التاريخ تدوير نفسه بنفسه
أي بدوننا
أقترح أن نتخفف من اعتماد التاريخ علينا
أو اعتمادنا عليه.

قد لا نتمكن من الانتظار
حتى نجد صندوق قمامة مناسب..
أقترح أن نصنع محرقة جماعية للذاكرة
يساهم فيها كل بنصيبه من الحكايات
هكذا يمكننا بسرعة أن نمحو الحكايات
ونترك للأشباح التي سكنتها فسحة
من السماء..

أقترح
أن نتخفف من السماء أيضاً
ولا نعود نشارك القردة على الأشجار
حلمها الأحمق
بالطيران..

أقترح
أن نزرع مآسينا
ونرويها بكل الحزن
ونحصدها في ربيع الكآبة
ونظل نبكي كثيرا
حتى يجف الماء تماما من أجسامنا

أن ندخل المصحات
ننتظر بلهف
طلة الممرضة النموذجية
كما نتخيلها
ونشفق كثيرا على أنفسنا..

يا للوقاحة
نتوسل
أيتها الممرضة الجميلة
خذي أحلامنا
عينات دمائنا بولنا وجلودنا
وداوينا ببسمة
نحن ضحايا الكسل المزمن
خذينا
واتركينا أحياء..

أقترح أن ندهن أحذيتنا بالورنيش اللامع
أن نختار شامبو ضد القشرة
ونفتخر بأناقتنا
أن تثير الأخبار شفقتنا الحنونة
على القتلى المساكين
حتى أننا نعطيهم بعضا
من وقتنا في الحديث
أثناء السمر.

أقترح
أن يقتلنا الملل
من شدة الرفاهية
ثم نبعث من جديد
أشباحا
زخرفها التمثيل
بالجثث.

***

طائر الهدهد

سمعت موسيقاك
فعرفتك
أيها الطائر الهدهد
لا تخف
أنت في النار
تقبض على جمرتك في يدك
شاقاً مركز الأرض
إلى العشب
إلى الدود.

تحت الريشات الثلاثة النافرة من رأسك
فوق عينيك
أرى
جمرتك
زمردتك النافرة من غليان دمك الملكي
جوهرة تاجك
عينك الثالثة.

***

الحية ذات الجرس

ستنزحين من الجهة الغربية
بعد رحلة طويلة من تهذيب الغافلين
عن قدرة الشمس
في اجتياز النفق المعتم.

أنتِ
ستحرسين نافذتي
وأنا سأتقي عينك الحمراء بالحق.
فلتقرعي أجراسك الآن
وتعلني
أن قلبي الذي يضوي ككهرمانة في جوفك
أخف من ريشة
وأوسع من مقبرة.

***

نصف دائرة القمر

أٌحب روحي
أيتها الجمجمة المبتسمة في السماء
أنا أيضا
أملك نصف قمر في رأسي
وعين مفقوءة
لطائر
لا يجرح حتى عين العدالة
العمياء.

***

ساق

كنبتة في الريح
لم تستطع ساقي أن تستقيم
لكن العاصفة مرت
بسلام
مرت
بحرب
مرت
على كل حال.

وأوراقي الساقطة تباعاً
تعلن للتراب
أن ثمة عاصفة مرت
من هنا
قوية
وانتهت.

***

صياح الديك

سيأتي يوم وتفهمني أيها العالم
هكذا يصيح الديك كل صباح بإلحاح
صوت الأمل
يجذب الملائكة.

***

مغرب الشمس

في المساء سأتحرك ببطء
بطء قدسي لا يخدش الهواء
أوقد شمعة أرجوانية
وأغوص في مفارقة أزرق اللهب وأصفره.
أتأمل سلحفاتي
على ضوء الشمعة الشاحب
أصلي
لروحي التي تسكن سلحفاة
وأستمر في البطء

أرسم طيورا بعيون صفراء فاقعة
أحنط بومة
وتمساحاً
وغراباً..
ثم أحدث نفسي عن المجرة
وعن تشريح الجسم البشري
عن طقوس عبادات السكان الأصليين لأمريكا
وأنتظر هجوما عسكرياً
يجعلني
أحد السكان الأصليين
لمنطقة الشرق الأوسط.

***

مشرق الشمس

أنفتح على العالم ببسمة
وبنظرة منكسرة تخفي دهاءً ما
أعرف جيداً
أن طيبي القلب يحبون المساكين
وأن المتعجرفين فقاعات من الخوف
لكنني ببساطة
هذا النهار
لا أبالي

فقط
أتلذذ بمذاق العرقسوس الساخن
الحلو في ذاته
وأكره السكر كالعادة..
وكطقس لاهوتي مقدس
أروي نخلتي القصيرة في الشرفة
وألقي التحية بالمحبة
على خريطة مصر الإدرية
المرشوقة بمسمار
على جدار حجرتي.

***

القلب الميت

أنا ميتة.
وليس لأحد غيري شأن بذلك.
فاتركوا الغربان تنقر عينيّ بسلام.
والضباع تأكل مخي بتلذذ.
وقلبي
تحوله البقرات إلى حجر فيروزي كريم..

بابتسامة قناع مخيف خرجت
أطلب من الله أن ينزع عن عينيّ بريقهما.
لم أعد أحتمل تكالبكم على الأشعة
سأصنع من عينيّ ثقبين أسودين
في فضاء رأسي
وسأمتص كهربائكم
وأعيد بطاقتها
ترتيب جهازي العصبي.

أنا جمجمة
وعظمتان
مدقوقتان كالوشم
على جسم
خرج عنه
لارتباك في النظام البشري
سلك الحقيقة العاري.

سأحفر بئرا عميقاً وأهبط إلى قاعه
هناك
سأفتح شراييني للمعادن
والصخور
والزيت.
قلبي سيتعلم ضخ البنزين
إلى الدورة الدموية.

مرحبا يا روحي.
كيف حالك؟
مازلت أحتفظ لك هنا
برسوماتك عن الطائر المجنون
فلوريسنتي العينين
الذي سقط على الكرة الأرضية كنيزك..
باستمتاع
حرق نفسه بالغلاف الجوي
وحفر قبره
في مركز الجاذبية.

من أسفل
لأعلى
على الجانبين
تتحرك ذراعاي
نافضتان عن كفيّ
ماء الحياة الذي
لازلت مع الأسف،
أسبح فيه.

***

نشيد الخفاشة

تركت الريش لصانعة التمائم
وخرجت
مموهة في الليل
أصرخ في الجدران
ألا تصدمني
بحدودها.

* هدي حسين
مواليد القاهر 1972
ليسانس آداب فرنسي جامعة القاهرة
بريد إلكتروني: mapoesie@hotmail.comأعمال منشورة:

  • 1996- ديوان شعر "ليكن"، سلسلة الكتاب الأول، المجلس الأعلى للثقافة.
  • - ترجمة لمجموعة قصصية لمرجريت دوراس بعنوان "الكتابة"، عن دار شرقيات، بالتعاون مع البعثة الفرنسية للترجمة.
  • 1998- ديوان شعر "فيما مضى"، مطبوعات الجراد.
  • - رواية "درس الأميبا"، سلسلة مختارات فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  • - ترجمة لروايتين لآني إرنو بعنوان "إمرأة وعشق بسيط"، عن دار شرقيات، بالتعاون مع البعثة الفرنسية للترجمة.
  • 2000- ديوان "عشوائية"، مطبوعات الجراد.
  • 2001- ترجمة لرواية لفرنك بيجو بعنوان "وضع حد"، عن المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة.
  • 2003- ديوان "أقنعة الوردة"، عن دار ميريت.
  • 2004- ترجمة لرواية لآني إرنو بعنوان "الحدث"، عن دار ميريت
  • - عرض لفيلم قصير بعنوان "لا داعي للخوف" بأسبوع سينما الشباب بمعهد جوتة الألماني

أعمال تحت الطبع:

  • رواية "الجسر"، عن دار ميريت
  • ديوان "نحن المجانين"، في اليمن
  • رواية "نلعب أفلام"

مهرجانات:

  • 1998- مهرجان "صوت البحر المتوسط" للشعر، لوديف، فرنسا
  • 2004- الملتقى العربي للشعراء الشباب، صنعاء، اليمن

أقرأ أيضاً: