حسين حبش
(سوريا/ألمانيا)
husseinhabasch@maktoob.com


في مدح الشعراء
  • مدائح
  • بيتهوفن والأكراد
  • الثالوث الناقص منتفضاً إلى رفاهيته المكتملة
  • على "الراين" مساءً
  • أقاليم
  • الصعود إلى قلعة (ALTENAHR)
  • القسوة الرباعية
  • كأني أنكِ
  • باجه مفيستو شيخ الحديد
  • في إثرك خطوي
  • طفولة قمينة بالثمالة، يدبرها ورق الحبق تدبيراً دقيقاً
  • لكزات حانية
  • تسجيل ودائع العبث
  • عشتار في كريستال الفرح والزعل
  • حبر يستأنف ذكاءه
  • ملكات النوم
  • عاشق وعاشق
  • هذا لقاؤنا الأول، هل لنا وقت لنفكر بالأخير؟
  • مرح على سلالم الحياة
  • بيضاء كالافتراس
  • حزن.. حزن.. حزن
  • هاء تائهة في الحاء والعكس
  • الإهداء

    إلى هيفا وهيام

    * * *

    مفتتح

    في مدح الشعراء

    ملوك الرهانات الخاسرة والألم الباهر

    غرقٌ في الوردرملوك الشفافية والهزال يغيبون في أنفاس فراشة أو على ظهر نحلة أو بين تلافيف معكوسة لجمهوريات بدائية. ينقبون في فجوات الخوف ويرحلون، يتعقبون نبضات الورود وعيون الغزلان. وهم هكذا يكيلون الهذيان وبراهين الغيب على الحياة ويتعرون كما شمس منتصف الظهيرة في نهار طازج أو ليل ملعون بالنجوم، ويغيرون بعتاد ما ـ ربما ورقة أو حبر ـ على كنوز الحب ويوزعون منها الخفة والأصداف وأسرة الفرح. يكتبون لا لإصلاح شيء ما أو عطب كائن أو سبب معقول. هم مجانين التيتم والألم، تقواهم الفوضى والمجهول، الغموض والكثافة... يهجرون الاستكانة، ويغمسون حزنهم في جذع شجرة لتنبت في عقلها نجمة أو زهرة بلون آخر ورائحة أخرى وغبار آخر وبقاء لا يتوارى في النسيان.

    * * *

    يحملون شموع النوم، لا يناسبهم العمل، جديرون جداً بالفشل والكسل والحرية والجاذبية والاستفزاز، يلمسون كاحل الأمكنة بسراب ما فتتغير وتغير مجدها المزيف والأغبر، لكن ليس بمواقيت أو إتقان أو بندول ساعة، إنما بمحض صدفة.

    * * *

    يجيزون ما لا يجوز ويستقيمون في التوابيت فقط.

    * * *

    سليلو اللغة، يطلقون ضحكتها الرهوانة ويخرجون من تلابيبها لآلئً وأمطاراً، يفتحون في سجونها كوَّات الأمل والرجاء ويضعون الديناميت بين سقوفها وأساساتها فتتفجر منهمرة بحرارة الدهشة ودفء الانهدام. ينصرفون من حانات الليل المسيجة برائحة الغيبوبة وتشظي الكمنجات في الألحان المستهترة، ويخلدون إلى التأمل والحزن والكآبة ويكتبون..

    * * *

    يقلِّدون الريح، حفيف الأشجار، أعاصير الوديان، النوم، الطيران، الموت و" النهر الذي لا يكرر نفسه مرتين ". يشبهون ظلالهم ويتسلحون بالنقص والضعف ويتكاملون في المرايا والحب والينابيع والأساطير.

    * * *

    هم ألق الجمال، ملوك الرهانات الخاسرة والألم الباهر، حاملو الرؤيا والإشراق، أطفال الله المدلَّلون " يقولون مالا يفعلون".

    حسين م حبش

    * * *

    مدائح

    نمتدح العمر كي لا يباغتنا
    ونحن عرايا الظل
    نخطف سيرته قليلاً
    أو طيفاً منه
    ونتكئ على سراديب الغفوة
    مسرجين للحلم أيكته الرهوانة.
    العمر إغواء وبهتان:
    هكذا قالت الريح.

    نمتدح البحر
    نمتدح لونه وخضابه ورفيق دربه.
    نمتدح أسماكه القرش
    حتى لا تسرق أجسادنا
    وثيابنا المرمية في سديم القاع.
    تعالي يا الدلافين
    تعالي يا الشبابيط
    تعالي يا المسرات الخافقة على حراشف
    السمك
    احرسن الماء من سطوته
    وعللن بهارج القناديل المنكوبة
    احرسن اللؤلؤ من هدر حاله
    ودفقنه إكسير اللمعان.
    البحر شهوة واستفزاز:
    هكذا قال المثلث من ضلعه
    المثقوب.

    نمتدح الهواء
    نمتدح قصة اقتحامه الخاطف للعدالة
    في شعري المسرح
    من خدمة أمكنته المطلقة.
    نمتدح الهواء وغموضه
    نفك طلاسم لسانه الغامق
    الصامت
    المنهوب
    المنكوب في طمي الكلام.
    الهواء هبة:
    هكذا قالت الجهات.

    نمتدح الطيران والعصافير
    تعبر حدود المشارط
    مودعة أرياشها قفاطين الأفق
    هكذا قالت الأجنحة
    وهي تذرف تلاويحها على شقائق
    الوداع.
    الطيران حيرة وجنون:
    هكذا قالت المناقير.

    نمتدح النار
    تنزلق الهتافات من أفواه النمل
    كراسي العروش تغلق رحمها الخشبي
    أرواح النساء الجميلات اللواتي قتلن
    تجول دهاليز الخيبة
    وتطرق أبواب الفراغ
    والنار تدحرج كرتها اللهبية
    على طغيان الملوك.
    النار حتف ونفخ:
    هكذا قالت الأقدار.

    نمتدح المديح لذاته
    المديح فتنة
    طلوع وإخفاق:
    هكذا قالت الشمس.

    حلب 15/8/1996

    ******

    الثالوث الناقص منتفضاً إلى رفاهيته المكتملة

    ليدٍ على يدٍ وتكتمل اليد الغائبة
    في المحنة السادسة
    ينتفض غبار القيامة عند انبثاق النرجس
    من ملكوت الأدغال في الصباح المتهدج
    تستيقظ جموع المزامير
    من غيبوبتها الطويلة
    تعزف لخيال التراب ضحكاً وظلالاً
    أشفع من دعاء اليعاسيب
    والعصافير الرؤومة.
    تتمايل الكؤوس المترعة
    تقود الغزلان إلى الثالوث الناقص لرفاهية
    تتوق للاكتمال الصاعق
    تستشيط أرداف الحب بالجنون في الرؤوس
    وتقول:
    اقطني وأرقصني على بوابات الضياع
    ثم أسكبني في دساكر اللامبالين
    الطالعة من فجر الثمالة
    تتقوس الرهافة العارمة
    تتململ في مجرات الحرائق
    وتلتهب ثياب الاقيانوس
    كلما دنت البحار من جسد الديمومة
    نغمس حزننا في الغموض،
    نقتنص اليد الثامنة ونكحلها بالمصافحات
    العميقة
    نفتح بها مدن النور،
    فتضيء الغربة بألفة مثيرة
    ننشغل بزئبق النبيذ
    فتتوسلنا قمصان النجوم
    وملاءات الأرصفة.
    نأتي باليد الثامنة
    ونمسح الغبار عن توتر القلب
    ثم نوقد ميعاداً خارج الانقراض
    نبحث في ربوع الوهم عن كنوز
    لم يدنِّسها غدر الذئاب
    نُزيل الخداع والاحتيال بالامحاء
    والهواء
    تسيل المهرجانات الخافتة
    من بتلات الورد
    وتطير فراشات ناجحة من شرانق
    الاستغفال
    في الأمكنة الخالية
    ليد ثامنة تدور كوهج تنين
    وتستمع إلى تدفق السحر
    نحو المساحات الغامضة
    ليدٍ ثامنة أصابعها غائمة بالحنان
    تواكب ألم الأكراد
    والجراح الجاثمة على صدر الغابات.

    كوبنهاغن 1997

     

    أقاليم

    المدن: ضجيج من لباس الكهنوت
    ونداء المكبرات المعلَّقة كالأقراط برؤوس المآذن
    في شموخ مديد كالقداسة
    ترصِّع رقابها قلادات من الضوء والحانات
    وصالات التهريج المهذبة بالصخب
    يثقب آذنها تعتعة السكارى ودبيب
    الحيوانات الآلية وباعة المكائد،
    حلاقون بمقصات "أوتوماتيكية"
    يقصون بها إمارات المخيلة،
    جزارون بسكاكين يلاعبون بها فكاهة
    الدَّ... م.
    بشر من صنوف الجوع والرثاء
    يفضُّون بكارة فجرها إلى حيث يبدأ عويل أياديهم
    ونكبة إراقتهم..
    مدن،
    فتن فاخرة تجرها عربات الحضارة إلى رحمها
    مزايا دنيئة لبشر يختلقون الازدحام
    ويزينون صدور أبوابهم بنحاس من صدأ أعمارهم.
    مدن،
    هي بسمة الضياع والإسفلت
    وأراجيح لرقاب المخطوفين من أقانيم
    الهدوء و"السيران"

    أذيال المدن: أعشاب من مخاط الوحل
    وقرَّاد يتشبث بأجساد المدن كبدويات
    يستظْلِلْنَ بعباءات أزواجهن
    خفايا...
    خفايا...
    يتسلل رجالها إلى مواخير المدينة ليلاً
    يمارسون فعل الغريزة واللذة
    ينسون مناديلهم على مؤخرات البغايا
    ويتركون نساءهم لمجاذيب المرح
    وهلوسة قرون الحيوانات
    يتعاركون لزلة الذباب على أنوفهم
    يتعاركون للتفاهة
    ميراثهم الحمق والبلادة والروث و"الكبرياء"
    والرهان.

    القرى: أحلام بعيدة عن ذكورة الضجيج
    تؤرخ لبياضها ذاكرة الفراشات وبراءة السنونو
    ترفو ضفائرها أسراب الغيوم وقطعان الماعز
    تسندها حبال من المطر والغابات المستحمة
    بأفكار الغزلان والصفصاف
    ضيوفها القادمون إليها
    ينامون على حصائر قلوبها ويخلِّفون
    وراءهم تساؤلات من ودٍّ وتكتمٍ وصهيل
    نساؤها ورود من الألفة البدائية
    ولحاف من براءة السوسن
    نساء من كرز وماء ونيلوفر
    ورجال من أكمام الصخور والاشتعال
    متأهبون حتى لعراك ظلالهم
    قرىً تقتلها فتنة الغيب وتعاويذ لياليها
    تربة منسوجة لغواية الصغائر
    والأفكار المصبوغة بالغضب
    والزعفران

    شيخ الحديد
    5 / 1 / 1995

    ******

    القسوة الرباعية

    ما كنت وليمة تتهافت على أشلائه
    ظلال الأشجار المنكسرة والمترهلة
    عاشقاً أجيء إلى أحزاني
    مكوماً كالقرفصاء على جذوري المشرشة
    في أعماق اللهيب.
    ما كنت فاكهة ولا نرجساً
    ينصت لخرير الألسنة الفارغة
    من النتوءات والتعاريج.
    ما كنت واعظاً
    أحمل في جراحي شفاء اللكنات البليدة
    نابذاً قوتي من جاذبية الغرق في زاوريب
    الدم الحالك
    أكيل حسناتي عليَّ
    تاركاً فضائي للاكتمال المطلق.
    ما كنت دوار السكون الممتلئ بالحيرة
    والسكون
    أبارك القسوة الرباعية
    والفتنة المعتقة في نواة النيران
    والهواء.
    ما كنت فردوساً
    تملي عليه السماء تكهناتها الحكيمة
    وطقوسها الغيبية
    أحصي غبار الأعالي في معراج الكون
    فاكراً في الذي يموت في رماد الغسق
    داخلاً برج العزاء
    منقذاً أصابعي من الكهرمانات
    والحكايات المسطحة على أنف السراب.
    ما كنت خاسراً
    أنتدب كرياتي إلى مواجع أكثر إيلاماً
    برهة وأفتت مدائحي للتي غزت دمي القزحي
    رشيقاً أمسح مساماتي من الزحمة
    المبعثرة فيها.
    ما كنت مستقيماً
    أحذو دروب الحكمة الشفافة
    التي يمحوها الهواء في هبوبه الطائش
    ماكراً كالطلع أهب عطائي على أجساد
    لا يروقها الهدوء.
    ما كنت حديداً يتناوبه الالتباس الأخرس
    فائق الحرب أغوص في الشظايا
    وأثقب طبلة الوجاهة.
    فائق الاكتراث أحبو على أزيز الخنادق
    دون أن أوقظ الانتباه في جهة الموت.
    فائق التصويب أجيء بأهدافي الخيالية
    فائق الاستهتار واللامبالاة ...
    ما كنت خائفاً من اللبوات الشرسات
    وهن يتبخترن رهن الأثداء.
    أعود في منتصف الليل بشموخ باهر
    ولهفة مجنونة
    ألهب ربيع الوديان من أعشابها الهائجة
    وأشعل القرميد على آخره
    ثم أبعثر تبعاتي كحبات النار عليًّ،
    عليَّ فقط !

    برلين 1998

    * * *

    رأيت دموع "حَسي خدر"

    تنهمر تلاوة رملٍ عنيدٍ
    على بياض "شيخ الحديد".
    رأيتها تكتب طقوساً مسائية
    تحلل طبائع الأشجار بسواعد الشمس
    وتَعِظ العصافير بالحذر والمزامير.
    "بدرخان ـ حامد" النائم هناك
    تحت الثدي الأخضر
    يحدق في الحلم على صهوة الحنين
    يربط خيل القصائد بعرجون الألم
    يبني كنيسته الخشبية بغجر الوقت
    مروضاً الأفاعي من جماجم الكتب العجوزة
    بعد تعب الألوان في عينيه.


    في مهب البيوت تهدل الحمائم خارج القيود
    وتهدأ في الزيتون والقمح..
    تكرس قبباً وبروجاً للورد والغمام
    كراسي حجرية
    مصاطب بيوت طينية تشبه ردهات الله
    تطير وفق مقتضيات "القيثارة".

    هناك في الأعالي
    تفرح رفوف النهر على غرار الجبل
    والعشب
    والزيزفون
    والنبع في أساساته يبيع عناية القبور والشواهد
    تعابير مزدحمة تتسع على وجه "باجه"
    يلعن هطول المطر
    ويختبئ في معطفه "الغوغولي"
    ويحن إلى الجنادب في تكافؤ الحقول.
    "علي عكاش" يوضِّب هندام الظِّل
    ويموسق انسياب الأساطير على الوتر
    يربط النهار بالليل والليل بالعرق
    ولا يصلي..
    لا يصلي.
    "باجه" يجر عائلة النمل إلى المآتم
    ولا يبالي إن ماتوا وإن بقوا أحياء
    يطلق وعوله إلى النجوم ويقترف النداوة
    ببداهة الهرم الأعلى على رأسه
    يتناوب مع الحباحب بإشعال حرائق الحب
    في قلب "شيخ الحديد"
    يدور حول الليل ويطلق عاصفته فجأة إلى الريح
    ويطير بريشتين قلقتين نحو الهذيان
    ولا يتبلل إلا بالذكرى.

    باسم الليل يغني الحزن
    باسم الصمت يجرف الكلام
    باسم القسوة ينفخ فمه بالمسبات
    ويرميها ثقيلة على قحف المطر.
    باسمه يكوِّن مطراً ذهبياً
    "باجه" ساعة متدلية من سقف السماء يبث
    الفوضى والجنون
    يهدم بمعول الخيال جنوح التعب
    هدم + هدم= باجه.

    حيرة في آخر النفق
    طائر الغراب يلبس قميصاً أزرق
    "باجه" يرمي حجراً إلى وسط الدائرة
    يبقى الهرم على رأسه
    يطير الغراب والحيرة تتبدد كنافورة ماء
    و.. كملاك ملعون يودِّع "باجه" معطفه
    ويلقي لعنته الأخيرة على المطر ويختفي في اللامرئي
    لا صنجٌ ولا بيارق
    شبحه يتراكض كأطياف الجن حول أسوار
    "شيخ الحديد"
    مزدرياً قبعات الشرطة والغرباء!

    مدينة بيتهوفن شتاء 1999

    إشارات :

    1. باجه: مجنون باهر من شيخ الحديد
    2. مفيستو: الشيطان في مسرحية " فاوست" لغوته
    3. شيخ الحديد: بلدة الشاعر
    4. حسي خدر: جبل يطل على شيخ الحديد
    5. حامد بدرخان الشاعر المعروف، صاحب ديوان "على دروب آسيا"
    6. علي عكاش: مغنٍّ ملحمي من شيخ الحديد

    طفولة قمينة بالثمالة، يدبرها ورق الحبق تدبيراً دقيقاً

    طفولة مدعوكة بالرثاء،
    منهوبة بالأكيد المعلَّق بسجل الطقوس الحائلة دوننا،
    دون رغوة العين المجروحة بالتَّوعد المهجور
    والمدحور هنا وليس هناك.
    باهظة أثمان الوقت إن تلت وجهها في أوان التوثيق،
    داخلةً في معصم التريث،
    التأهب،
    الحذر.
    طفولة قمينة بالثمالة، تنتشل قلبها الناري،
    يدبرها ورق الحبق تدبيراً دقيقاً.
    لا تتسرع، تمهل في وحدة القناطر.
    الجرَّافات ستخذل عذوبة الزيتون والجذوع المدماة
    بخيال العصور.
    الصور لن تغادر أطر الطفولة
    وإن شاخت جذور المكان وئيدةً
    دونك دوني
    يدوِّنون الحجل على أقفية الأبراج
    كأحجية تمارس فخاخ الضغينة
    واستبداد الأرواح الضيقة
    هنا وليس هناك.
    تفاحة ضرورية على ثالوث الجبل.
    سفير الطيش يوقن أن لا ملاذ غير الجبل
    يتجبَّر القمح كقوس مشدود على وترٍ نزقٍ،
    أليف ووحشي،
    قبرة تتموج سريعة وخاطفة على شامة الجبل.
    الزنبق يحبو من شرنقة الطبول الممزقة.
    أعمدة تجرها ذيول الخنفساء.
    جيدك زرد المقبرة تخميناً.
    البقاء الأوهن مهلهلاً كاسحاً طبقات العصيان
    تجديفاً وتحريراً.
    الكمد هناك وليس هنا
    طفولة قرينة الأبد والسحالي.
    قلِّد ضفدعي إن شئت أيها الوقت وتبختر
    كموجة على أرداف الأعالي
    لجباً كجيوش هصورة
    قف كالطُّود ومترس الفزع إدباراً أمام جحافل الكر.
    ألوذ بك حصناً هنا في الرمح
    الحياة هنا وليست هناك
    طفولة رعوية متيقنة بالبسالة والفصل البري.
    هيجان المفاصل الغضروفية،
    عراك النخاع، سيلان الأقحاف،
    بروز الإوز على ماء المائدة، مخالب الطحال،
    طواحين،
    طامة حثيثة تنزلق على القماش.
    الإطار خشب والفرشاة نصل والرسم مكواة
    في فم التبغ
    والطفولة مرسومة خبط الاتزان.
    طفولة ناعسة هنا، نائمة هناك
    وليس هناك وقت محدد للوقت.
    ركاب العرجون، قضاة مخصيون،
    لحاهم قريحة متدلية بجحود،
    ألسنتهم نياط الدجل،
    أقلامهم صكوك النشور الوهمي.
    فانتفضي أيتها الطفولة رغم الجروح العميقة
    والجور الكمائني،
    فالبقاء هنا وليس من شيء يرمم هناك
    طفولة تنظر بين الحين والحين إلى المرآة
    كي لا تزول كوهم من الكون
    طفولة رافلة في ذاكرة الحزن،
    مستعذبة كقطعة حلوى،
    كقطاف التوت،
    مسروقة،
    بريئة كالنخاع في تكوينه الجنيني،
    صافية وقلقة كالحب النادر
    خليج المتاهات،
    مهنتها ابتلاع الحياة.
    الجوارب أكفان الأرجل،
    الأحذية توابيتها
    والأرجل تسير إلى جهات البناطيل
    دون التفات إلى القبر.
    طفولة متيبسة هناك على أسيجة "شيخ الحديد"
    الفراغية،
    ترنو منفرجة القلب إلى الغسق في الطرف الآخر.
    طفولة تتباهى بالتمرد على الأبوة ووشم الإله
    كهرطقة بالغة الجمال
    هي العبث، في أذنيها أقراط البراري
    تصغي من ذؤابة جبينها إلى نداء الريح..
    الريح.

    بون 2000

    ******

    تسجيل ودائع العبث

    يروي الخصومة من كفن الغيوم مستوطناً العشب
    كرذاذ هابط من فك الحدة والملابسات
    والتلاعب والحنكة.
    يستبطن الأجران والأحواض كتعويذة
    غير مسجلة الماركة عند كهنة الغفران
    وصكوك المعابد الحديدية
    يخترق "التابوات" بمنطق مكتظ بالجنون
    والحيوات المستفيضة حتفاً،
    ارتجاجاً وانتهاكاً.
    يرفع عقيرة جمجمته المصقولة بحذاقة النهر عالية،
    عالية
    ويحفر بأزميله الفضاء الكائن حوله من الفراغ
    والغبار والثقوب كطبقة مغمى عليها
    مسجلاً الموت وودائع العبث الغرائبية باسمه،
    باسمه الثلاثي الكامل
    يلج سراديب عظام الموتى بهالة من الشموع الممغنطة
    والمثبتة على شمعدانات أبدية كقوادم نسر
    لا يعير للهبوط أي اكتراث أو امتحان أو ذهول
    وكأنه في حالته الراهنة تلك يمسك بسكين جراح
    ويفصح عن سبق إصرار وتكامل عن منمنمات
    وأسرار مخبوءة عن كسب غير مطلوب من أحد البتة،
    البتة !

    برلين 7/7/1998

    ******

    حبر يستأنف ذكاءه

    جثمان زئبقي يقعي على نتوء اللغة ويرفرف بجناحين لا مرئيين
    وكأنه يحمي النار من إغواء الملكوت ذي القامة الفارعة
    وعلى حرفها الحلزوني محارق من الحبر تستأنف ذكاءها
    وهي تتداعى مع فقه الضلال على ضريح الهواء وتعمِّر صرحاً
    من الحب
    دون أن ترتوي شغافها من هذا الأتون وهذا البذخ الارتجالي العميق.
    تلوك كلاماً فستقياً مستفيضاً
    ويتخصص قلبها في الارتزاق على أصباغ وعطورات معصورة من أقدام النارنج
    وألباب الأمكنة المطوقة من قبل اليعاسيب وأسيجة الياسمين وفهرس الشر
    تقطف الكلى ووظائفها النبيلة وتلك الأعداد الهائلة من الصيحات
    المنزوية في قاع الدَّم
    حين تدنو خواصها، يستعيذ الداخل بمحارق الجمال
    ويغوص في الدورة العبقرية وهي تصدر النيران الطيبة بلسماً للثقوب
    العقارية العتيقة والعميقة
    تملأ كأس الفردوس بشيفرات وشفرات حادة من الحصاد والألغاز المبطنة
    بالميتافيزيقيا وعلوم الغيب.
    تغيبك في لحظات الوعي الخاطفة وتخلق أشكال الزنبق راعفة في الغربة المميتة
    تحدوها ذاكرة تتفتق زبيباً ودواء مقشراً من الرمان وإبداعات التوت بامتياز
    تنتشلك حطاماً أو ركاماً أو رماداً وتحدق إليك بالبذخ الارتجالي
    بعد أن يستأنف الحبر ذكاءه بكفاءة،
    بكفاءة خالصة.

    إسن 22/6/1998

    ******

    عاشق وعاشق

    كنا اثنين
    اثنين فقط
    عبرنا بوابة مدينتنا
    القديمة...
    أحدنا كان "جمشيد"
    والآخر فينا كان "مَمْ"
    أحدنا كان يبحث
    عن بيت،
    و وطن،
    وحديقة.
    والآخر فينا كان يبحث عن
    امرأة،
    وشفاه،
    وقُبَلْ.
    لكن المدينة
    طاردتنا
    طاردتنا المدينة
    بعيداً... بعيداً
    بسياط من
    رصاص.

    حلب 1992

    ******

    مرح على سلالم الحياة

    الذين كلماتهم بلا أنوف
    ورؤوسهم بلا ثقوب.
    الذين أسنانهم تقرض
    كل شيء
    إلا ألسنتهم المعوجة،
    الذين أحناكهم تدور
    كبندول الساعة
    من الصباح حتى المساء،
    الذين يتساقطون
    في الخديعة
    ويتساذجون
    بالإشارات والأكتاف،
    الذين...
    وحدهم يمرحون
    على سلالم الحياة.

    حلب 1994

    ******

    حزن.. حزن.. حزن


    لا أعلم في هذا المساء
    لماذا رأسي يؤلمني؟
    لماذا تتكاثف في أفقي
    خيوط الدم؟
    وتتساقط الرشاقة
    من أجنحة فمي.
    لا أعلم لماذا تجف
    أنهار قلبي؟
    وتحاك في أصابعي
    مؤامرة ضدي
    تعيق بزوغ الحبر
    على جرح القلم.
    لا أعلم لماذا تبدو عيناي
    حزينتين؟
    يراودهما الشَّك
    ويلعب في محجريهما
    خفوت الضوء
    وتتكسر على أهدابهما
    سهام الحب والأمل.
    لا أعلم لماذا أطيل نومي؟
    أتكاسل في الاستيقاظ
    مبتور الحلم
    مقهور اللسان
    مكبل الشهيق.
    لا أعلم لماذا أتهاوى
    وأسقط
    وأنسى
    وأفقد عقلي
    أصمت
    وأصمت
    وأصمت
    ولا أملأ بصراخي
    جحيم العالم؟

    بون 2001

    ******

    بيتهوفن والأكراد


    أنظر إلى قامة بيتهوفن
    أراه حزيناً.
    جموع الأكراد
    يعاينون مركز المدينة بخطاهم
    ولا يعالجهم سوى الحنين.
    يبكي بيتهوفن.

    أنظر إلى الراين
    الذي يشطر المدينة إلى فلقتين
    أراه حزيناً
    أيحزن على الفرات؟
    والفرات حزين.

    مدينة بيتهوفن نهاية 2000

    ******

    على "الراين" مساءً

    البرد يخدش حياءَ الأشجار العارية
    امرأة غارقة في معطفها الأسود
    أنا... وهي
    هما الإثنان
    نتباعد خطوات... خطوات
    المطر ينقر ما تبقى من الأوراق
    الشاحبة
    وسفن الحمولات تعبر النهر
    المسافة تكبر بيننا
    ومصابيح الكهرباء.
    هما يتعانقان،
    وأنا أقبِّلها
    بالقرب من فاصلة الماء.
    يرتعش العشب
    من وهج العناق.
    الراين يصفق بالألوان
    ويغني لنا
    " دمتم سعداء".
    .....................
    .....................
    حفيف الأشجار يخطُّ أسطورة
    خضراء
    نحدِّث النهر كلٌّ في سره
    ما أجمل
    ما أبهر هذا المساء!

    مدينة بيتهوفن نهاية 2000

    ******

    الصعود إلى قلعة(ALTENAHR)

    كنا نصعد مع الشعراء
    إلى أعالي القلعة القديمة
    "نبي هوري"
    كان النهر يغسلنا بالقرى الدافئة
    وكانت القصائد تنهمر
    كسرب قبرات
    على الأحجار المقدسة
    مرددة صدى الأناشيد المتدفقة
    بعبق الله
    ورؤى الكائنات
    ...................
    ...................
    وهنا يوم 3/12/2000
    أقف على قمة قلعة ((ALTENAHR
    أشير بقلبٍ حزين للنهر
    الذي يثقب ظلال الأشجار الداكنة
    والقطار الذي يشطر الهدوء
    بسكين الدخان
    ماراً بلمح الوجع
    أتشظى
    أرتعش
    وألعن وداعة الغابة
    طاولات المقاهي
    وبرودة الناس
    حيث اصطفافهم الأشقر والرزين.
    ينجرف من ذاكرتي
    شوق طاغٍ
    إلى تعاويذ القبة المقدسة
    وشجرة العشاق
    أفتح قلبي لهواء أحجار
    القلعة القديمة
    إلى البعيد... البعيد
    حيث كان النهر يغسلنا
    بالحب والقصائد
    وتراتيل الشعراء.

    ******

    كأني أنكِ

    كأنك شمعة
    وكأني عود ثقاب
    أشعلك.
    كأنك حمامتان
    وكأني أفعى
    أقضم مناقير نهديك.
    كأنك قبة قصر عالٍ
    وكأني راية
    مرفوعة لأجلك.
    كأنك نابغة السُّكر
    وكأني مريض السُّكر.
    كأنك قرط
    في أذن الريح
    وكأني سليل الراكضين
    وراء الريح..الريح.
    كأنك بحة الله
    وكأني أردد سعالك
    الله...
    الله...
    كأنك رهافة الماء
    وكأني النهر
    أجري مع الرمل
    إليك.
    كأنك النار الهامدة
    وكأني واقدك اللهبي
    كأنك أنك
    وكأني أنك.

    كولن 1998

    ******

    في إثرك خطوي


    كلما نحيت إثرك
    تصغين أنت إلى اتجاه الهروب
    كلما ناديتك بصراخي
    تغطين أذنيك بالعتمة
    في إثرك خطوي
    من يشق لثة موتي بالحياة
    أذنيك مجد الريح والرهافة
    أنحدر بروحي
    إلى نياشين قلبك
    أسرق نجمة..
    في إثرك أهرول
    ببيتي..
    وسقفي..
    ترقطين كفي بدلالك القاتل
    يا لغناء مساماتي
    وتفرين كالمديح إلى الأعلى
    وتغيمين كنوزاً
    يالهطولك...
    يا لجموح شموخك
    في إثرك نافذتي
    وعلبة رأسي المنخورة
    يا لبعثرة ازدحامي
    أمام بابك.
    هكذا أنا في إثرك
    موتي بقائي، حشرجتي،
    وفوضى جثتي..
    دائماً في إثرك
    وفجأة تصبين عطرك النفَّاذ
    على رمادي
    يا لسعادة عظامي

    حلب 25/8/1995

    ******

    لكزات حانية

    ما كنت حاقداً لألعنك
    ما كنت ماكراً لأختلس النظر إليك
    من خلف شقوق الباب
    هي لكزة الروح على شرفات الولع
    هي زلة العينين والاشتياق
    يا فسيحة القلب
    يا واسعة القلق والبراعة،
    أية مدفأة ستحرق ياسمين الغرفة
    أي وجع سيلُّم بؤبؤ الوهج
    من رفوف الدم؟
    أي ذهب سيؤطر فصاحتك؟


    اسبي الحديد المارق وحدي
    يخترق لثة الصمت
    ويغني لك مواويلاً صدئة.
    كنِّسي الوقت
    والساعة
    والناس
    ولصوص الأسرار
    حين نمتطي موجة التوحد.


    العيد يزين أذنيه بأقراط الفرحة
    ومراجيح بطول الكآبة
    خاوٍ إذن مقعدك
    الإسمنت يتهادى على فضول الماء
    ويكالب عنق الوردة


    أسفري الجسد عن الأنقاض
    وأعلني انك "هيفا"
    تنتظر مناداة النار
    تهادي في غنج وارتباكات ذائبة
    ليصفق لك النحاس
    وظلال الهندسة
    سَعِّفِي جدائلك
    واسفحيها على بياض المرمر
    كوابل مطر أزلي

    حلب 1995

    ******

    عشتار في كريستال الفرح والزعل


    عشتار تدلل الآن بعلها
    المنديل على خاصرتها
    والإغواء يؤجج مفاتنها
    تنزف عشتار رقتها على ركبة
    العشب
    تبعثر خصلات شعرها
    وبعلها يصفق لكريستال جسدها
    وبهلوانات قدميها
    يصفق لكحل عينيها
    وتقصفات أردافها
    تُرَقِصُ عشتار أنوثتها
    البحر والهواء والآلهة المبجلين
    يرقصون لرقصها
    تميد روح بعلها
    موجاً تحت وقع خلاخيلها
    وكعبها العالي
    إنها عشتار الآن في نشوتها
    تسكب نبيذ جسدها
    رذاذاً ولآلئً
    على حلمة الزمان والمكان
    يناديها بعلها السكران
    ميلي يا عشتار
    بزيزفونك علي ميلي
    ميلي يا عشتار
    بجذعك عبقاً على خاصرتي
    ميلي...

    عشتار تنأى رويداً
    رويداً...
    بعيدة هي الآن
    تقرفص وحيدة على غيمة حزينة
    تتقن الاختباء كالعصافير
    تتشابه مع المرمر
    وتكسو جسدها بمرايا الندى
    تتأمل سفوحها
    وأوراقها الخضراء
    وتهدي نهديها حمامتين إلى المطر
    وعواء المدى...
    تتهامس عبر أسلاك السراب
    مع بعلها أنا يا بعلي مجروحة وحزينة
    قتلتني خناجر رعونتك
    قتلتني أنا... ك
    وطاردتني
    لن أعود إليك...
    لن أرخي ضفائري لعوسجك
    لن أسقيك من شفتيَّ
    ولن أضيئك بمصابيحي
    لن...

    يناديها بعلها الفتَّان
    سأغويك يا عشتار
    أنا إبليس الغواية
    تتدلى أغصان الشجرة
    من أصابعي
    وفي يدي تفاح الخطيئة

    تنادي عشتار:
    يا بعلي
    يا سواد ميراثي
    يا اتجاهين متباعدين "نحن" الآن
    يا تخوماً تفصل سناجب روحي
    عن بيادر التجلي

    لكن عشتار تشتاق إلى ماضيها
    ودفتر ذكرياتها
    تفتح خزانة ملابسها
    وعلبة زينتها
    تعيد خواتمها
    وأساورها وأمشاطها
    تسكب قارورة عطرها
    على جدائلها
    وتنادي بعلها
    يا حبيبي اشتقت إليك اشتقت
    اكتب على جسدي ملامس أصابعك
    وأهمس في أذني رحيق كلامك
    وأهدي تفاحتي المكورتين كالقمر
    قبلة الاحتراق
    سر خريراً عذباً في طرقاتي
    ودفئاً كالفاكهة في ممراتي
    واسقي شفتيَّ العطشتين
    منذ أول الفراق
    أنا امرأة الكون والأزل
    توجت ربة للجمال والحب
    في زفيري اندثار الخوف والحياء
    وفي شهيقي ياسمين الرقة والخلود

    حلب من 5 ـ 18/5/1995

    ملكات النوم

    لتكن لك الجسور
    لتكن لك المعاطف من شموع القلب الممدَّد في الأنين
    لتكن لك الحرائق
    لتكن لك المواقد وحديدها الملتهب بالجمر
    لتكن لك ومضات الأعضاء في هبوبها المكتنز رنيناً
    أيتها النائمة كشجرة خرنوب في قميص الربيع.

    الأشياء التي تبقى كالجرح مفتوحة تترامى في الريحان
    تهبط في الريحان، ترقد في الريحان
    وتتريحن بالآلهة مغتسلة بثروة الذبح هناك
    كحزم من بطاقات المديح في أعياد المدن القتيلة
    الأشياء تلك لا تعطى إلا كخواتم النهار للأعراس
    أيتها الوردة النائمة على قرون الظبي.

    يضيع الهواء في اللهاث
    القناطر والأقواس وعروة قميص الغريب أيضاً!
    يسيل المحراث وئيداً، مأخوذاً بالهذيان
    مكملاً شكله المسنون من الخطى المتكبرة على لباس الوقت
    لتكن ثرثرة الماء
    أيتها الثريات النائمة في بوصلة الاشتعال.


    الزنبق الذي داهمته الأنامل في الشفق على خصر الساقية
    يهيئ للعمر ضفتين من الكهولة
    وضفتين من النبيذ الذي يؤجج اللؤلؤ خلسة.
    أرقد بجانبي، داعب شعري
    وأنفض الغبار عن الثمار أيها الجريح الكثيف
    ولتكن لك أيتها النائمة في حصاد الصندل
    هذا الوجع الشاسع.

    أهدى الوريد شرفاته للغيوم وفتح مدارجه
    مطراً رمى
    دم ليس بضوضاء
    على امتداد عدوه المقدس خارج الرحم
    لتكن الرئة سليمة في الرخاء
    أيتها الحوذية النائمة في سلاسل العراء
    أيتها المباركة هكذا..

    رداء الإجاصات المضخمة بالجرار الأكثر عاطفة
    الأتقن ميثاقاً ورقة
    يتقصف في أخاديد القلب
    ليزيل عن الوميض نشيد الإعياء
    ليعوي النهر عند مضيق العشب كثيراً
    ولتطير الفراشات مترفة بالوعول والقرابين
    أيتها الفرس النائمة في الصهيل.

    عمت أيها الكوكب الصلصالي بكل العاشقات
    الصاعدات من خلخال الأنثى
    جرب الهتاف في مرادفات العاصفة
    لتفيض الشرارة من قزح الاحتمالات
    عمت أيها السيد في هذا الارتطام
    وليكن ما يكون المخدع، البقاء للجسارات
    لتكوني أنت الرجيمة والرحيمة
    أيتها الينابيع النائمة
    في سرادق المرمر.

    تنثال اللمسات على حقوي الكمثرى
    كاشفة مكامن الغابة الغامضة بعد دورانها الفرجاري
    ليكن الهبوط والصعود، الصعود والهبوط
    على أريكة العرق
    ولتتقدم الشعلة مفتوحة النار إلى عرين الفردوس
    ويزهر وراءك الجلنار كغمازتين
    أيتها النائمة في أمواج المنمنمات
    أيتها النائمة في الشرود

    هذه الحقائب وهذا الترف
    سجادة أضلعه الوفية للفضائح
    ينتهي السراب ويبدأ احتفال الموكب الهوائي
    ركاب الهتاف يتعرون في هذا الصقيع مؤمنين بنا
    هيئة الكراسي تستدرج النجوم والتداعيات
    الشديدة..
    هديل في العناق على قيثارة النهد الذي يقود عربة الذكريات
    لتكن لك نعمة الفخار وزبيب الكبد السكري
    أيتها الفراشة النائمة على مخدة الغابة المائية
    لتكن لك الجداول لأقود إليك جموع وعولي في الظهيرة الظمآنة.

    ميادينك كمائن الأنهار أيتها الأباريق
    خطوتان وتدخل العصافير إلى المائدة
    تأكل ذهول الباشق في قناع الصورة
    أيتها الأباريق لتكن همهماتك مصغية إلى حيلتي
    لتكن كواكبك عارية في طيش اللحظة الهادئة
    لتكن لك الجواهر أيتها النائمة في صندوق النقائض
    لتكن لك مباهج الكون أيتها الأم، الحبيبة المتعددة
    والمنهوبة لهنيهة طويلة
    لتكن لك ما تشائين من أقاصيصنا،
    ومنا.

    الطيف يخبئ السفرجل في قبعة اللامرئي والساحر
    كي يعمي عين الدليل
    وهو يتراشق بالحرير إلى واحة الجسد الخضراء
    ويقول السيد الطيف:
    لتكن لك الزهور ومناديل الأشجار، لتكن لك الزعانف
    أيتها الناسكة والنائمة على حقل جبيني
    أيتها النهار في الليل، أيتها الشمس في الفصول المجنونة.

    إسن 16/2/ 1998

    ******

    هذا لقاؤنا الأول، هل لنا وقت لنفكر بالأخير؟

    أمرنا بدأ برصيف
    ومقهى يبحر إلى خطانا الظامئة
    قرأنا مطالع شفاهنا
    على إيقاع يكتسي بلهيب النار
    قال أحدنا للآخر
    لننتظر حتى يستحم القرنفل
    بماء أعصابنا المشدوهة إلى أعصابنا
    المتوترة
    لهذا اللقاء البهيج
    انحدرنا إلى النهر،
    ارتعشنا للضفاف
    بدأنا..
    ودعونا المرافئ للاختباء خلف ضلوعنا
    وثيابنا.

    ارتجفنا
    قفزت من أرواحنا أحلام الورود
    والفراشات
    خطونا بعد حبِّ كبير وعناق طويل
    كما بدأنا
    تنمو على أطرافنا شعل المساء
    وتفصلنا عن الأرض خفة المسرات.

    تقولين لي:
    خرجت مني رجلاً يحمل على كتفيه
    نجوماً
    لا تسقط إلا علي
    وبدأت أنا بكِ
    مأخوذاً برائحتك
    يفور من قميصي عطرك
    الليل والنهار أجمعهما لك في أنفاسي
    أحسُّك
    وأشعر بأن الحاجة إليك أكثر
    من الهواء.

    بدأنا كوحشين طريين في لهاث
    نفترس اسمينا
    يطهرنا الضلال من قسوة الحجر
    يسحب يدينا إلى عبارة لا تطلع
    إلا من جسدينا
    بدأنا وكذا ملامحنا
    تتقاطع في برزخ الغيم تحت إرث يتقلب
    في المناديل
    ومناديلنا كانت تحمل في كتابها المزركش
    الأغنيات النائمات
    عرجنا كما بدأنا
    إلى شجيراتنا
    نشدُّ قطيع الشهوات إلى الظلال
    تجمعنا رائحة اللقاء
    شممنا بعضنا
    وتبادلنا الأدوار
    من سيفكنا من هذا اليقين العجيب؟
    هكذا ترحل قوافل الحكايات إلينا
    تشكر احتراقنا
    وتترك لنا أنحاءنا
    نتبادل فيها أطراف الجنون
    ولا تقتنع وردتنا بالعقل
    وننغرس كوجعين بعضنا في بعض.

    آخذك في الرقاد إلى صحوي وأرقد بجانبك
    وترقدين في صحوي ولا أرضى بواحة
    لا تشبهك
    تودين أن أدخل إلى ركبتك
    أستشرف منها أحوال البجع
    وحين دخلت
    وجدت هذيان أقاصيك
    جمعت صورك في كرياتي
    وبالدم كتبت
    هذا لقاؤنا الأول'
    الأول
    وهل لنا وقت لنفكر بالأخير؟

    بون 5/7/2000

    ******

    بيضاء كالافتراس

    اجلسي...
    اجلسي على ركبة السربر لكي تتساقط
    عليك فتن المساء
    اجلسي لكي تنعشك غيوم العاشق
    ولتدوخ ملائكة دمك من فورة اللهيب
    والوجع
    حين طغيان المجوس
    كزي على لؤلؤ أسنانك
    وعضي على شفتيك
    حتى تتقاطع ما بينك وبين الوسادة
    قلق الرعشات
    اجذبي نداوة المطر
    وغطي سفح السرير بالفضيحة
    واسبي خاصرة النجوم مرآة على زندي
    أوقدي مرافئك نواستين على مرمر البحر
    واعبري على قصبتين من توتياء
    إلى نزيف الخيزران
    دقي أجراس الريح خطايا
    دقي...
    حتى ينحني ظلي على نهديك
    وتتكسر أباريق الماء في يد الأنبياء.

    شارع يمتد من شهوة التوت
    إلى زفرات النخل
    وسفن راسية على الضفة
    تتنصت إلى حوار الماء
    مع أعراس الشمس
    غادري البرهة
    برهةً
    على وَلَهٍ إلى وَلَهٍ أبهى من النار
    ابحثي عن الفراشات ونحلات الحقل
    ابحثي عن العشب وحرائقه
    ابحثي عن الحنين وأشجانه
    ومزقي قميصك الهفهاف
    ثم خذي من الغابة غدائر الأزهار.

    جسد يضم الغمام وينبئ النار بالبروق
    جسد يحرر الفصول
    جسد قيثارة..
    تعالي إلى نشيد البدء إكليلاً للضوء
    مولاة القمر
    فكي الحصار عن التفاح بكبرياء العذرية
    ولا تخافي من حوار الغرباء
    أريحي الحلم من غربة الخيبة الكئيبة
    وأذيعي بيان الهواء في رواق الغسق
    حرري الرخام من الكدر
    لكي تتبعك الطواويس
    في خيلائها إلى أعراس الوهج.

    لولا تيجان القمح لما تتالت الأقدار
    على هودج المطر
    لما أمتزج الدم بالدم
    لما عانق الهواء هواءك
    ثرياتك تسحر عين العاشق إلى مداك
    وتجرفه كلما اقترف القراءة
    على تجاعيد اللوحة العارية.

    بيضاء...
    بيضاء تنام على جفون البحر
    ولا تكترث بجنون البلل
    تختل في أحلامها بين النبيذ
    وعصارات النرجس
    وتسافر من العسل إلى حرير الضوء
    تخلِّف للعاشق وراءها
    لذائذ الربوة في رغد
    ولوز متقد بالمخمل
    يستقر على قربتين
    تشرقان كنشيد الغجر
    تغمران نحول الرجل
    في تماس نزق بين التيار والغرق
    بيضاء..
    حتى سواد يربطها من تحت السرة
    ويقتفي أثر النورس على قوس الغرة
    بيضاء
    أينما ذهبت تتبعها حاشية البرق
    وأينما حلت تحرسها عيون الكائن
    بيضاء تحب ولا تحب
    تحب ولا تحب
    تحبني
    وتنفق زهرة الأقحوان
    تحت افتراس الأصابع.

    حلب 24/6/1996

    ******

    هاء تائهة في الحاء والعكس

    1

    أيتها الأميرة الصاخبة كالغجر
    أيتها السائرة على بحر السوسن والبنفسج
    أيتها الكنوز المخبأة في بريق المرمر
    تتلعثم أصابعي حين تصافحك
    تتلعثم قدماي حين تسير إليك
    تتلعثم الكائنات حولي
    أنا المسكون بالخبث قليلاً
    أمدُّ قامة قلبي بغمازتيه و"حانوته الأعظم"
    لقدومك.

    2

    أحبك
    أحب فيك العنق والأصابع
    وهي تزيح الشعر عن القبل
    أحب دلالك وأنت تقولين:
    "كفى يا طمَّاع"
    أحب مشيتك وموسيقى خصرك
    أحب نهديك الأزرقين
    وهما يفران كعصفورين إلى صدري
    يا لأزرار قميصك المغطاة بنقوش الفضة
    وماء البحيرات.

    3

    سلمتك قلبي وصومعتي وارتباكي
    سلمتك ارتعاشي وذوباني ولهاثي
    مذ قبلتك رائحة التفاح تغازل فمي

    4

    تحت شرفة السماء
    تحت ظلال أشجار الكينا
    عانقتك
    شكراً لهدوء الأحياء الراقية

    5

    تتبختر أوراق الأشجار لأنها كانت شاهدة علينا
    تتراقص أضواء القناديل المطفأة لأنها لم تعابثنا بضوئها
    تتآلف النجوم، الغيوم تارة، القمر متذرعاً بالاختباء،
    المطر في اختلاساته،
    ومباركات السماء أيضاً
    لأنها كانت ترافقنا دون أن تدري.

    6

    يا إلهي كم أحبك
    كم أحب طيشك وهفواتك الصغيرة
    كم أحب زلات لسانك
    كم أحبك حين تقولي:
    سأذهب الآن إلى أمي وتكذبين
    أو تتناسين ذهابك

    7

    نحتمي بالأصدقاء ونتحمل خفة ظلهم
    نسكب الشاي أو بالأحرى تسكبين أنتِ
    ما ألذ الأشياء من يديك

    8

    أنت مزيج من شذى الأوركيد والمانوليا والتوليب
    والغاردينيا والماريبوتا والكولونيا والناردين
    والأكاسيا وعباد الشمس
    حلو.. حلو اسمك المرصَّع
    بالهاء التي تشبه صدفة لؤلؤ بحري
    والياء الحالمة على سرير الوردة
    والألف المستقيمة كصراط الله
    والميم الشامخة الصدر كعذراوات الأساطير

    9

    تقودينني في زحمة المطر
    والسل يأكل رئتي
    تقولين: هات أصابعك يا ملعون
    لأضع "المحبس" في بنصرك
    كي لا تغافل النساء البريئات
    أو تغافلك الخبيثات

    10

    كم كنت أحمقاً حين غافلتك كل هذه السنين
    كان لابد أن أحيا بحبك منذ مولد شبحي
    كم كنت مذنباً لأني لم أعلق قلبي تحت شرفتك
    كي أمزق عنه شحوب ولادتي

    11

    كل ما قُلْتِهِ من كلام
    ستسطره العصافير في دفاتر الغيم
    وعندما يبزغ القمر في الأعالي
    ستساقط تيجاناً من الورود على رؤوس العشاق

    12

    كلماتي حشود غزلان ترعى على حقول ابتسامتك
    وسنارتي تلتقط الشمس خلخالاً من الضوء لقدميك
    لكي يخفق ظلك قمراً على روحي
    كم احتاج إلى حرية الماء
    وكم احتاج إلى ودك حتى أغرق في الورد
    ولا أفيق من جنوني

    13

    كان يومها يوماً لإشعال النار والرقص
    أحرقت بنهديك ذرى شفتيَّ
    وتسرَّبت "كالنوروز" إلى أعماقي

    14

    كنت تشعرين بالذنب وأنت تتقلصين تحت ذراعي
    كم قلت لك مراراً
    تعالي نسلِّم أنفسنا للبوليس
    وكنت تضحكين من فكاهتي وأضحك معك
    وتقولين: اللعنة على عقدي
    أحبك..
    أحبك..
    أحبك..

    حلب ـ نوروز 1995

    طفولة قمينة بالثمالة، يدبرها ورق الحبق تدبيراً دقيقاً

    طفولة مدعوكة بالرثاء،
    منهوبة بالأكيد المعلَّق بسجل الطقوس الحائلة دوننا،
    دون رغوة العين المجروحة بالتَّوعد المهجور
    والمدحور هنا وليس هناك.
    باهظة أثمان الوقت إن تلت وجهها في أوان التوثيق،
    داخلةً في معصم التريث،
    التأهب،
    الحذر.
    طفولة قمينة بالثمالة، تنتشل قلبها الناري،
    يدبرها ورق الحبق تدبيراً دقيقاً.
    لا تتسرع، تمهل في وحدة القناطر.
    الجرَّافات ستخذل عذوبة الزيتون والجذوع المدماة
    بخيال العصور.
    الصور لن تغادر أطر الطفولة
    وإن شاخت جذور المكان وئيدةً
    دونك دوني
    يدوِّنون الحجل على أقفية الأبراج
    كأحجية تمارس فخاخ الضغينة
    واستبداد الأرواح الضيقة
    هنا وليس هناك.
    تفاحة ضرورية على ثالوث الجبل.
    سفير الطيش يوقن أن لا ملاذ غير الجبل
    يتجبَّر القمح كقوس مشدود على وترٍ نزقٍ،
    أليف ووحشي،
    قبرة تتموج سريعة وخاطفة على شامة الجبل.
    الزنبق يحبو من شرنقة الطبول الممزقة.
    أعمدة تجرها ذيول الخنفساء.
    جيدك زرد المقبرة تخميناً.
    البقاء الأوهن مهلهلاً كاسحاً طبقات العصيان
    تجديفاً وتحريراً.
    الكمد هناك وليس هنا
    طفولة قرينة الأبد والسحالي.
    قلِّد ضفدعي إن شئت أيها الوقت وتبختر
    كموجة على أرداف الأعالي
    لجباً كجيوش هصورة
    قف كالطُّود ومترس الفزع إدباراً أمام جحافل الكر.
    ألوذ بك حصناً هنا في الرمح
    الحياة هنا وليست هناك
    طفولة رعوية متيقنة بالبسالة والفصل البري.
    هيجان المفاصل الغضروفية،
    عراك النخاع، سيلان الأقحاف،
    بروز الإوز على ماء المائدة، مخالب الطحال،
    طواحين،
    طامة حثيثة تنزلق على القماش.
    الإطار خشب والفرشاة نصل والرسم مكواة
    في فم التبغ
    والطفولة مرسومة خبط الاتزان.
    طفولة ناعسة هنا، نائمة هناك
    وليس هناك وقت محدد للوقت.
    ركاب العرجون، قضاة مخصيون،
    لحاهم قريحة متدلية بجحود،
    ألسنتهم نياط الدجل،
    أقلامهم صكوك النشور الوهمي.
    فانتفضي أيتها الطفولة رغم الجروح العميقة
    والجور الكمائني،
    فالبقاء هنا وليس من شيء يرمم هناك
    طفولة تنظر بين الحين والحين إلى المرآة
    كي لا تزول كوهم من الكون
    طفولة رافلة في ذاكرة الحزن،
    مستعذبة كقطعة حلوى،
    كقطاف التوت،
    مسروقة،
    بريئة كالنخاع في تكوينه الجنيني،
    صافية وقلقة كالحب النادر
    خليج المتاهات،
    مهنتها ابتلاع الحياة.
    الجوارب أكفان الأرجل،
    الأحذية توابيتها
    والأرجل تسير إلى جهات البناطيل
    دون التفات إلى القبر.
    طفولة متيبسة هناك على أسيجة "شيخ الحديد"
    الفراغية،
    ترنو منفرجة القلب إلى الغسق في الطرف الآخر.
    طفولة تتباهى بالتمرد على الأبوة ووشم الإله
    كهرطقة بالغة الجمال
    هي العبث، في أذنيها أقراط البراري
    تصغي من ذؤابة جبينها إلى نداء الريح..
    الريح.

    بون 2000

    ******

    تسجيل ودائع العبث

    يروي الخصومة من كفن الغيوم مستوطناً العشب
    كرذاذ هابط من فك الحدة والملابسات
    والتلاعب والحنكة.
    يستبطن الأجران والأحواض كتعويذة
    غير مسجلة الماركة عند كهنة الغفران
    وصكوك المعابد الحديدية
    يخترق "التابوات" بمنطق مكتظ بالجنون
    والحيوات المستفيضة حتفاً،
    ارتجاجاً وانتهاكاً.
    يرفع عقيرة جمجمته المصقولة بحذاقة النهر عالية،
    عالية
    ويحفر بأزميله الفضاء الكائن حوله من الفراغ
    والغبار والثقوب كطبقة مغمى عليها
    مسجلاً الموت وودائع العبث الغرائبية باسمه،
    باسمه الثلاثي الكامل
    يلج سراديب عظام الموتى بهالة من الشموع الممغنطة
    والمثبتة على شمعدانات أبدية كقوادم نسر
    لا يعير للهبوط أي اكتراث أو امتحان أو ذهول
    وكأنه في حالته الراهنة تلك يمسك بسكين جراح
    ويفصح عن سبق إصرار وتكامل عن منمنمات
    وأسرار مخبوءة عن كسب غير مطلوب من أحد البتة،
    البتة !

    برلين 7/7/1998

    ******

    حبر يستأنف ذكاءه

    جثمان زئبقي يقعي على نتوء اللغة ويرفرف بجناحين لا مرئيين
    وكأنه يحمي النار من إغواء الملكوت ذي القامة الفارعة
    وعلى حرفها الحلزوني محارق من الحبر تستأنف ذكاءها
    وهي تتداعى مع فقه الضلال على ضريح الهواء وتعمِّر صرحاً
    من الحب
    دون أن ترتوي شغافها من هذا الأتون وهذا البذخ الارتجالي العميق.
    تلوك كلاماً فستقياً مستفيضاً
    ويتخصص قلبها في الارتزاق على أصباغ وعطورات معصورة من أقدام النارنج
    وألباب الأمكنة المطوقة من قبل اليعاسيب وأسيجة الياسمين وفهرس الشر
    تقطف الكلى ووظائفها النبيلة وتلك الأعداد الهائلة من الصيحات
    المنزوية في قاع الدَّم
    حين تدنو خواصها، يستعيذ الداخل بمحارق الجمال
    ويغوص في الدورة العبقرية وهي تصدر النيران الطيبة بلسماً للثقوب
    العقارية العتيقة والعميقة
    تملأ كأس الفردوس بشيفرات وشفرات حادة من الحصاد والألغاز المبطنة
    بالميتافيزيقيا وعلوم الغيب.
    تغيبك في لحظات الوعي الخاطفة وتخلق أشكال الزنبق راعفة في الغربة المميتة
    تحدوها ذاكرة تتفتق زبيباً ودواء مقشراً من الرمان وإبداعات التوت بامتياز
    تنتشلك حطاماً أو ركاماً أو رماداً وتحدق إليك بالبذخ الارتجالي
    بعد أن يستأنف الحبر ذكاءه بكفاءة،
    بكفاءة خالصة.

    إسن 22/6/1998

    ******

    عاشق وعاشق

    كنا اثنين
    اثنين فقط
    عبرنا بوابة مدينتنا
    القديمة...
    أحدنا كان "جمشيد"
    والآخر فينا كان "مَمْ"
    أحدنا كان يبحث
    عن بيت،
    و وطن،
    وحديقة.
    والآخر فينا كان يبحث عن
    امرأة،
    وشفاه،
    وقُبَلْ.
    لكن المدينة
    طاردتنا
    طاردتنا المدينة
    بعيداً... بعيداً
    بسياط من
    رصاص.

    حلب 1992

    ******

    مرح على سلالم الحياة

    الذين كلماتهم بلا أنوف
    ورؤوسهم بلا ثقوب.
    الذين أسنانهم تقرض
    كل شيء
    إلا ألسنتهم المعوجة،
    الذين أحناكهم تدور
    كبندول الساعة
    من الصباح حتى المساء،
    الذين يتساقطون
    في الخديعة
    ويتساذجون
    بالإشارات والأكتاف،
    الذين...
    وحدهم يمرحون
    على سلالم الحياة.

    حلب 1994

    ******

    حزن.. حزن.. حزن


    لا أعلم في هذا المساء
    لماذا رأسي يؤلمني؟
    لماذا تتكاثف في أفقي
    خيوط الدم؟
    وتتساقط الرشاقة
    من أجنحة فمي.
    لا أعلم لماذا تجف
    أنهار قلبي؟
    وتحاك في أصابعي
    مؤامرة ضدي
    تعيق بزوغ الحبر
    على جرح القلم.
    لا أعلم لماذا تبدو عيناي
    حزينتين؟
    يراودهما الشَّك
    ويلعب في محجريهما
    خفوت الضوء
    وتتكسر على أهدابهما
    سهام الحب والأمل.
    لا أعلم لماذا أطيل نومي؟
    أتكاسل في الاستيقاظ
    مبتور الحلم
    مقهور اللسان
    مكبل الشهيق.
    لا أعلم لماذا أتهاوى
    وأسقط
    وأنسى
    وأفقد عقلي
    أصمت
    وأصمت
    وأصمت
    ولا أملأ بصراخي
    جحيم العالم؟

    بون 2001

    ******

    بيتهوفن والأكراد


    أنظر إلى قامة بيتهوفن
    أراه حزيناً.
    جموع الأكراد
    يعاينون مركز المدينة بخطاهم
    ولا يعالجهم سوى الحنين.
    يبكي بيتهوفن.

    أنظر إلى الراين
    الذي يشطر المدينة إلى فلقتين
    أراه حزيناً
    أيحزن على الفرات؟
    والفرات حزين.

    مدينة بيتهوفن نهاية 2000

    ******

    على "الراين" مساءً

    البرد يخدش حياءَ الأشجار العارية
    امرأة غارقة في معطفها الأسود
    أنا... وهي
    هما الإثنان
    نتباعد خطوات... خطوات
    المطر ينقر ما تبقى من الأوراق
    الشاحبة
    وسفن الحمولات تعبر النهر
    المسافة تكبر بيننا
    ومصابيح الكهرباء.
    هما يتعانقان،
    وأنا أقبِّلها
    بالقرب من فاصلة الماء.
    يرتعش العشب
    من وهج العناق.
    الراين يصفق بالألوان
    ويغني لنا
    " دمتم سعداء".
    .....................
    .....................
    حفيف الأشجار يخطُّ أسطورة
    خضراء
    نحدِّث النهر كلٌّ في سره
    ما أجمل
    ما أبهر هذا المساء!

    مدينة بيتهوفن نهاية 2000

    ******

    الصعود إلى قلعة(ALTENAHR)

    كنا نصعد مع الشعراء
    إلى أعالي القلعة القديمة
    "نبي هوري"
    كان النهر يغسلنا بالقرى الدافئة
    وكانت القصائد تنهمر
    كسرب قبرات
    على الأحجار المقدسة
    مرددة صدى الأناشيد المتدفقة
    بعبق الله
    ورؤى الكائنات
    ...................
    ...................
    وهنا يوم 3/12/2000
    أقف على قمة قلعة ((ALTENAHR
    أشير بقلبٍ حزين للنهر
    الذي يثقب ظلال الأشجار الداكنة
    والقطار الذي يشطر الهدوء
    بسكين الدخان
    ماراً بلمح الوجع
    أتشظى
    أرتعش
    وألعن وداعة الغابة
    طاولات المقاهي
    وبرودة الناس
    حيث اصطفافهم الأشقر والرزين.
    ينجرف من ذاكرتي
    شوق طاغٍ
    إلى تعاويذ القبة المقدسة
    وشجرة العشاق
    أفتح قلبي لهواء أحجار
    القلعة القديمة
    إلى البعيد... البعيد
    حيث كان النهر يغسلنا
    بالحب والقصائد
    وتراتيل الشعراء.

    ******

    كأني أنكِ

    كأنك شمعة
    وكأني عود ثقاب
    أشعلك.
    كأنك حمامتان
    وكأني أفعى
    أقضم مناقير نهديك.
    كأنك قبة قصر عالٍ
    وكأني راية
    مرفوعة لأجلك.
    كأنك نابغة السُّكر
    وكأني مريض السُّكر.
    كأنك قرط
    في أذن الريح
    وكأني سليل الراكضين
    وراء الريح..الريح.
    كأنك بحة الله
    وكأني أردد سعالك
    الله...
    الله...
    كأنك رهافة الماء
    وكأني النهر
    أجري مع الرمل
    إليك.
    كأنك النار الهامدة
    وكأني واقدك اللهبي
    كأنك أنك
    وكأني أنك.

    كولن 1998

    ******

    في إثرك خطوي


    كلما نحيت إثرك
    تصغين أنت إلى اتجاه الهروب
    كلما ناديتك بصراخي
    تغطين أذنيك بالعتمة
    في إثرك خطوي
    من يشق لثة موتي بالحياة
    أذنيك مجد الريح والرهافة
    أنحدر بروحي
    إلى نياشين قلبك
    أسرق نجمة..
    في إثرك أهرول
    ببيتي..
    وسقفي..
    ترقطين كفي بدلالك القاتل
    يا لغناء مساماتي
    وتفرين كالمديح إلى الأعلى
    وتغيمين كنوزاً
    يالهطولك...
    يا لجموح شموخك
    في إثرك نافذتي
    وعلبة رأسي المنخورة
    يا لبعثرة ازدحامي
    أمام بابك.
    هكذا أنا في إثرك
    موتي بقائي، حشرجتي،
    وفوضى جثتي..
    دائماً في إثرك
    وفجأة تصبين عطرك النفَّاذ
    على رمادي
    يا لسعادة عظامي

    حلب 25/8/1995

    ******

    لكزات حانية

    ما كنت حاقداً لألعنك
    ما كنت ماكراً لأختلس النظر إليك
    من خلف شقوق الباب
    هي لكزة الروح على شرفات الولع
    هي زلة العينين والاشتياق
    يا فسيحة القلب
    يا واسعة القلق والبراعة،
    أية مدفأة ستحرق ياسمين الغرفة
    أي وجع سيلُّم بؤبؤ الوهج
    من رفوف الدم؟
    أي ذهب سيؤطر فصاحتك؟


    اسبي الحديد المارق وحدي
    يخترق لثة الصمت
    ويغني لك مواويلاً صدئة.
    كنِّسي الوقت
    والساعة
    والناس
    ولصوص الأسرار
    حين نمتطي موجة التوحد.


    العيد يزين أذنيه بأقراط الفرحة
    ومراجيح بطول الكآبة
    خاوٍ إذن مقعدك
    الإسمنت يتهادى على فضول الماء
    ويكالب عنق الوردة


    أسفري الجسد عن الأنقاض
    وأعلني انك "هيفا"
    تنتظر مناداة النار
    تهادي في غنج وارتباكات ذائبة
    ليصفق لك النحاس
    وظلال الهندسة
    سَعِّفِي جدائلك
    واسفحيها على بياض المرمر
    كوابل مطر أزلي

    حلب 1995

    ******

    عشتار في كريستال الفرح والزعل


    عشتار تدلل الآن بعلها
    المنديل على خاصرتها
    والإغواء يؤجج مفاتنها
    تنزف عشتار رقتها على ركبة
    العشب
    تبعثر خصلات شعرها
    وبعلها يصفق لكريستال جسدها
    وبهلوانات قدميها
    يصفق لكحل عينيها
    وتقصفات أردافها
    تُرَقِصُ عشتار أنوثتها
    البحر والهواء والآلهة المبجلين
    يرقصون لرقصها
    تميد روح بعلها
    موجاً تحت وقع خلاخيلها
    وكعبها العالي
    إنها عشتار الآن في نشوتها
    تسكب نبيذ جسدها
    رذاذاً ولآلئً
    على حلمة الزمان والمكان
    يناديها بعلها السكران
    ميلي يا عشتار
    بزيزفونك علي ميلي
    ميلي يا عشتار
    بجذعك عبقاً على خاصرتي
    ميلي...

    عشتار تنأى رويداً
    رويداً...
    بعيدة هي الآن
    تقرفص وحيدة على غيمة حزينة
    تتقن الاختباء كالعصافير
    تتشابه مع المرمر
    وتكسو جسدها بمرايا الندى
    تتأمل سفوحها
    وأوراقها الخضراء
    وتهدي نهديها حمامتين إلى المطر
    وعواء المدى...
    تتهامس عبر أسلاك السراب
    مع بعلها أنا يا بعلي مجروحة وحزينة
    قتلتني خناجر رعونتك
    قتلتني أنا... ك
    وطاردتني
    لن أعود إليك...
    لن أرخي ضفائري لعوسجك
    لن أسقيك من شفتيَّ
    ولن أضيئك بمصابيحي
    لن...

    يناديها بعلها الفتَّان
    سأغويك يا عشتار
    أنا إبليس الغواية
    تتدلى أغصان الشجرة
    من أصابعي
    وفي يدي تفاح الخطيئة

    تنادي عشتار:
    يا بعلي
    يا سواد ميراثي
    يا اتجاهين متباعدين "نحن" الآن
    يا تخوماً تفصل سناجب روحي
    عن بيادر التجلي

    لكن عشتار تشتاق إلى ماضيها
    ودفتر ذكرياتها
    تفتح خزانة ملابسها
    وعلبة زينتها
    تعيد خواتمها
    وأساورها وأمشاطها
    تسكب قارورة عطرها
    على جدائلها
    وتنادي بعلها
    يا حبيبي اشتقت إليك اشتقت
    اكتب على جسدي ملامس أصابعك
    وأهمس في أذني رحيق كلامك
    وأهدي تفاحتي المكورتين كالقمر
    قبلة الاحتراق
    سر خريراً عذباً في طرقاتي
    ودفئاً كالفاكهة في ممراتي
    واسقي شفتيَّ العطشتين
    منذ أول الفراق
    أنا امرأة الكون والأزل
    توجت ربة للجمال والحب
    في زفيري اندثار الخوف والحياء
    وفي شهيقي ياسمين الرقة والخلود

    حلب من 5 ـ 18/5/1995

    ما هو الشعر ومن هو الشاعر؟

    لا أظن أن بمقدور الشاعر تعريف الشعر لأنه جزء من طريقة حضوره في العالم. الشعر هو الضرورة القصوى لقول ما لا يُقال بكلام آخر. إن القول مُدَاوَرَةً الذي هو أبرز مهارة من مهارات الاستعارة (جوهر الشعر)، ليس رديفاً للالتباس، إنما العكس من ذلك تماماً إنه جلاءٌ لما هو غامض في الفكر والوجدان.
    القول الشعري هو لحظة اقتناص ما يهرب عادةً من الفكر والوجدان بسبب طريقة عمل اللغة العادية، المنطقية التي هي لفرط تكرار صياغاتها ومألوفية جملها لم تعد تقول، أحياناً كثيرة، شيئاً ذا بال. الشعر هو المساحة الحرجة لكي يعبِّر السريِّ، المهجوس لكن المُراوغ، عن نفسِه. الشعرُ هو الكلام المنشق عن قوانين الكلام رغم أنه يعاود شكلياً تقليد النحو السليم. الشعر هو هذا التأرجح الخلاق بين المخيلة السادرة والوعي الصاحي النادر الذي يخصِّب اللغة ويجعلها مليئة بالبهجة والحكمة والمروق.
    الشعر هو التقاطٌ للصدف النادر على ساحل الحياة والموت، ومن هنا صعوبة اللقاء به دائماً بين ركام الكلام الذي ينحو منحاه ولا يفعل فعله.
    الشعر يشتغل على نوع أصيل من الغرابة والغواية بينما يفكر ملياً وبشكل جدي بمصير الأشياء والكائنات. هذه المفارقة لا توجد إلا بالكلام الشعري الذي لوحده من بين جميع ضروب الكلام يبدو في آن واحد سادراً ومفكراً. من هنا التقاء الأريحية واللذة بالعقل والفكر في الكلام الشعري. إنه جمال الداخلي الملتمع بخفوت ولكن الذي يبهر إشعاعه العيون.

    لا أستطيع أن أعرف الشعر إلا عبر أدواته هي نفسها التي تبدو جد ملائمة لتقديم تعريف له.