تجري العادة عند عرض أية مسرحية، أن تعرض المكتبات جميع المؤلفات التي تتناول مخرج المسرحية، مؤلفها أو موضوعها، وبمناسبة عرض مسرحية مأساة هاملت ضمن مهرجان مدينة إكس أون بروفانس بفرنسا، في يوليه 2002.
فقد تم اختيار هذا الكتاب لعرضه في ( رؤى ) لكونه إلى جانب كتاب ( نسيان شكسبير ) الصادر عن الدار نفسها، آخر مؤلفات المخرج بيتر بروك .
الفصل الأول : بيتر بروك وقرينه . ( حلقة التأويل ) بقلم : جورج بانو لا يمكن فصل مسرح بيتر بروك عن شكسبير، فقد أخرجه وشرحه وعقّب عليه طوال حياته كما داوم على العودة إليه، وإذا فسرنا ميل بروك إلى الاستعارات من الأحياء، فيمكن القول إنه يعد شكسبير ( غذاءه المفضل ) ليس كيميائياً بل طبيعياً ومحسوساً، قوياً وخصباً . يتغذى بروك بشكسبير مثلما يتغذى بالحياة، وهما منبعاه الأساسيان، فهو يشبههما ببعضهما إلى حد الخلط بينهما . لقد اقترب منهما بروك، أصغى إليهما، استكشفهما بالعناية والاهتمام نفسيها و لم ينفصل عنهما أبداً، ونصوصه الأخيرة المنشورة في هذا الكتاب تؤكد ذلك .
فالعلاقة السابقة متواصلة، الحوار يتلاحق وتستمر الرحلة . ومع شكسبير يقوم بروك بتقديم بداياته ونهاياته، وهو مقتنع بلا شك أنه بهذا الشكل من الانقطاع و العودة، تكتسب عروضه معانيها الرمزية . أخرج أول نص لشكسبير ( الملك جان ) وهو في العشرين من عمره، لكنه بدأ فعلياً في مهرجان ستانفور سنة 1964 بمسرحياته التي يصفها بالثانوية، والتي أمضى حياته لتأكيد أهميتها . ( الآلام الضائعة للحب ) كانت أولى نجاحاته .
وبعد ربع قرن ترك بروك فرقة مسرح شكسبير الملكية، بعد أن استكشف ( مسرح العوالم المتوازية ) مع ( العين بالعين ) أو ( روميو وجوليت ) بما لم يُسم بعد بمسرح القسوة مع ( تيتوس أندرونيكوس ) و أخيراً مسرح الرموز الكبيرة مع ( هاملت ) و بالأخص ( الملك لير ).
وليترك علامة لمغادرته الفرقة أخرج مسرحيته الشهيرة ( حلم ليلة صيف ) ، 1971 التي من خلالها أعاد عالمياً اكتشاف هذه المسرحية التي كانت إلى ذلك الوقت تزدحم بالكلام المحشو، وهي تتحدث عن عالم السحر البالي خاصة أنه أعاد للمسرح الرغبة المنسية للّعب، أما بالنسبة لمسرح بوف دو نور لُْخ ل مننُ فقد أعيد فتحه مرة أخرى للجمهور بعد رحلات البحث، ليجد من جديد مسرحه ( مسرح الأشكال البسيطة ) دعمه في نصوص شكسبير، فكانت مسرحية ( تيمون الأثيني ) 1974 وبما سمي ب ( حلقة القلب ). وسيظهر شكسبير آخر من خلال مسرحيته الرائعة ( العاصفة ) 1990. وسيكون شكسبير مرادفاً لحياة بروك بتواتر لا يمكن تكذيبه الفترة بين أي مسرحيتين لا تتجاوز الخمس سنوات -.
فهو لا يبتعد أبداً بشكل نهائي عن هذا المسرح الضروري حتى وهو في قلب ( حلقة العقل ).
وكانت مسرحية هاملت حجر الزاوية لتساؤل بروك حول مستقبل المسرح في القرن العشرين . ويبقى شكسبير الأرض التي يتغذى منها وقاعدته السرمدية . جعل بروك من السلاسة الشكسبيرية مزيته الأولى، لأنها مزية سينمائية من خلالها بحث وبلا ملل، لتقديم ما يوازيها مشهدياً، ويمكن القول إن الإخراجٍ المسرحي العظيم لبروك يشبه الأفلام، التي لم يستطع إخراجها و يحس أحيانا باشتياقه نحوها . وإذا كان قد أعطى من خلال مسرحيته ( الملك لير ) الترجمة السينمائية، فإن ( تيتوس ) أو ( حلم ليلة صيف ) أو ( تيمون ) كلها ذات مزايا فيلمية بفضل العمل المنجز ضمن هذا المنظور . أداء متلاشٍ يُوشِي شريط الفيلم الداخلي للجمهور المنبهر الذي عاش التجربة . نحن المؤتمنون على أفلام بيتر بروك غير المنجزة، وبمواصلة روايتها، فإننا نرعى الأسطورة، دون ضمان المحافظة على أثرها .
نحن لا نتكلم بوصفنا مؤرخين ولكن وبكل بساطة بوصفنا رواة للعمل الباهر لبروك عندما قابل صديقه الموثوق شكسبير . و تفيض السلاسة من كتابة نص لتكون مزايا العمل بأكمله، ليس فيها ما هو ثابت، ويصر بروك بأنها تشكل مجرة متحركة حيث تقع كواكبها بالنسبة للفنانين الراغبين في استكشافها على مسافات تتغير دون توقف .
العمل بمجمله يتجاوز الجمود في نبض مستمر، يسمح للمخرج بمباشرة الاختيار الذي يتفق مع حال العالم كما يتفق مع عالمه . ولأن نصوص شكسبير سلسة فإنها تقترن بتغيير الواقع ومثله السيرة الذاتية للمخرج . ومن خلال شكسبير يحفر بروك راسماً ذاته في القاع . وفي كتابه ( الفضاء الفارغ ) يصوغ بروك أمنيته بتعريف المسرح : مساوٍ - كما يقول - للعمود الذي تنظم حوله طقوس الفودو، لكن بروك لا يقدم حتى واحداً منها . و لا يريد أن يضحي بالمزية الأخرى ( النسبية ) ، لهذا فإن كل تعريف يظهر وكأنه مؤقت وفي كل مرة قابلاً أن يتحول إلى نقيضه . وبما أنه ليس معرفاً بشكل محدد، فإن بيتر بروك لم يفرض عالماً بل على العكس طور الديناميكية، فالتبديل الدوري يميزه، وسمحت له نصوص شكسبير أن يطور فنه المتغير والمتحول .
هنا و كما يقول بروك ( كل صورة مزدوجة ) ليس هناك ما هو محدد و فيها تجد لعبة التضاد أرضها المفضلة . وبفضل شكسبير القاسي والمقدس، السامي والواطي، يتشابك حسب قوانين تيار متناوب مقاوم للجمود على صعيد واحد، ويجد بروك نفسه في هذا العمل غير المشبع . وشكسبير يريحه في حاجته الخاصة للتحول . هذا المسرح يبدو للمخرج وكأنه آخر ملجأ قبل أن يستقر عهد الزخرفة . ومن خلاله لا يعترف بروك بانجذابه، بل يصيغ أيضاً رفضه إذ يخدمه شكسبير ككاشف للسر . لا شك بأن بروك أخرج شكسبير بشكل دوري، لكنه أيضا تحدث عنه في كثير من الأحيان، وإذا كان حديثه في البداية يمتلئ بنبرة جدلية بخصوص التقاليد المتصلبة والقوالب المتوارثة، لكنه يطور بعد ذلك منطقه الخاص المستقل المغاير للمضمون . ينسى بروك الآخرين، إنه لا يتكلم ( ضد ) بل يكرس لما يعدّه جيل دولوز الخطاب الوحيد المنتج ( الخطاب الإيجابي ) وهكذا يرسم صورة لشكسبير مؤهل بسلسلة متوالية رباعية : غموض، لا تاريخي، مجهول، سهل المنال . وعبر هذه الصفات يكون قد أعطى نفسه ليس فقط مفاتيح للقراءة، بل هي معركته لإيجاد مسرح ينضوي تحت تأثير هذه الصفات الشكسبيرية . وبذلك تتولد علاقة قوية متبادلة بينهما .
إن القرابة بين حديث بروك عن شكسبير وحديثه عن المسرح تصبح واضحة، ويتم مرور المعنى دون فصل أو تأخير، إذ يخضع كله لمبدأ الديناميكية الداخلية مغذياً الحركة الدائبة التي يمارسها بروك . يقترح بروك قراءة شكسبير ولكن دون أن يضع نفسه في موضع المفسر، ما يهمه هو الجهد المبذول في اقتباس عرضه المسرحي من شكسبير . إذ يساعده هذا أولاً على صياغة هويته، وبعد ذلك يعود إلى النصوص الشكسبيرية ليقربها من هذا المنظور، وهنا لا يوجد شيء له انتماء واحد، ستكون الحركة دائماً ذات اتجاهين .
إن العلاقة بين بروك وشكسبير تنضم إلى أخرى أساسية بين فرويد وأوديب، فالبحث في التراجيديا اليونانية نشّطت الفكر الفرويدي، الذي من جانبه أثّر وبشكل نهائي على تحليل النص اليوناني . إذا كان فرويد تغذى بأوديب فالنص لا يسمح بقراءته دون ذكر فرويد ..
إن مادة البناء في أوديب تخدم كمحرك للنظرية العامة، التي تؤثر فيما بعد على تفسير النص الذي استوحاه فرويد . وبذلك تنعقد ما سميت ب ( حلقة التأويل ) إنها أفضل ما يؤهل العلاقة التي تربط بروك بشكسبير، فالمؤلف غذّى المشروع البروكي الذي بالمقابل حدد مقاربة هذه النصوص بحيث تتكون علاقة دائرية . الدائرة شكل بروكي بامتياز .
وبحسب هذه الحركة الدائرية المستمرة، فإن الخطاب البروكي لا يفيض فقط بتعدد المعاني بل أيضا بالتألق الشكسبيري الذي يظهر هنا وهناك، مؤكداً لحميمية مصانة دائما . ما يهم هو ( أن تكون جاهزاً ) ينصح بروك مستعيراً عبارة هاملت . أو التمييز بين الحياة والموت ( نتيجة لتجربة مر بها لير ) . ويستخدم بروك استعارة شكسبير لتكون خاصة به في مجال عمله . ( لير ) يؤكد بروك قائلاً : يتقدم يرافقه مجنونه مثل الأعمى الذي يتقدمه كلبه ...... الصورة التي نراها في موضع آخر عندما يقدم بروك نصيحته للمخرج المسرحي بأن يترك نفسه منقاداً بجهل ( مجنونه ) ذلك الذي يذهب إلى مدى أبعد منه ويعني به ( الممثل ) لا يتغذى بروك بشكسبير بل إنه يعيش معه ... ويذكرنا قائلاً ( ما يهم ليس الوصول بل الرحلة ) ونجد بين بروك وشكسبير علاقة قابلة للانعكاس للمرافق(بكسر الفاء ) المرافق ( بفتح الفاء ) وبهذا تنشأ علاقة حقيقية اندماجية بين الموضوع والشيء، إذ يشغف أحدهما بالآخر . هذا التقارب يؤسس ( حلقة التأويل ) التي يربط محيطها المخرج وقرينه . أنشأ بروك الحركة الدائرية القريبة التي تسمح له بالانتظام حول مركز، وفي الوقت نفسه المحافظة على تعدد نقاط المشاهدة، ويستعير لذلك مصطلح لفيلسوف إيرلندي ( نقطة متحولة ) ، ولكن ليس هناك مؤلف أكثر من شكسبير مؤهل للشكل المنشوري، هو أصل ( حقل من الغموض ) حيث يتلاشى الوضع الشخصي لصالح نظرة مجهولة تستطيع بأحسن وجه إرضاء المطالب البروكية في الشكل الدائري . إنها تضمن هذه الحركة التي تحدد في الواقع ( المسرح المباشر ) المسرح الذي يعرف نفسه كما لو أنه الأفق البروكي . يمتلك ( المسرح المباشر ) صفات الكتابة الشكسبيرية، إنها تساعد بالضبط على التحديد بدقة المصطلح الثالث ( المسرح المباشر ) الذي يشغل مكاناً بين ( القاسي ) و(المقدس ) كينونته العبور، وجذوته رفض الجمود . وهناك في سترانفورد حيث امتدت يد الخطاط لتعين تاريخ مولد شكسبير، يتذكر جورج بانو في هذه اللحظة، أنه إذا كان شكسبير قد ساعد بروك فهو أيضاً - أي بروك - من جانبه قد ساعدنا على أن نعيش بشكسبير و(حلقة التأويل ) تسحر بقدر ما تنفتح لتحتوينا نحن ( الغاية الثالثة ) الجمهور . فلا شكسبير ولا بروك ينسياننا أبداً وهذا الاهتمام الموجه إلى الصالة واضح . بل إن بروك يجعله بحد ذاته واحداً من الأسباب لاستدعائه شكسبير، الوحيد المهتم بالتواصل مع المجتمع المديني بأكمله .
طوباويته تسمى شكسبير، ماضيه يحمل الاسم ذاته إنه قرينه المتخيل . ( حلقة التأويل ) ترسم حلقات يقل وضوحها كلما تقدم بها العمر، إنها تترابط وتتفكك ... كلام يهدأ، يتردد في تعكير الصمت للاعتراف . اليوم، وفي نهاية الطريق لم يقل السحر ولكن المسؤولية قد زادت . وفي النصوص الثلاثة نرى بروك يمتزج في شكسبير . ويمكننا القول مثل صديقه غروتوفسكي ( هناك حيث يختفي النهر، تنبثق الواحة ) . نسيان شكسبير : في الجزء الثاني من الكتاب يتناول بيتر بروك علاقته مع شكسبير منذ بدايتها حيث أولى ذكرياته عنه، هي غرغرة ودحرجة أصوات الممثلين الذين كانوا يؤدون أدوارهم بشغف دون اهتمام بالمعنى . ثم تأتي ثورة سترانفورد الكبرى ويصبح المعنى جوهرياً، فقد كان يناقش ويحلل ويطبق بواسطة نفوس متفتحة، وأصبح إلقاء الشعر حرفة واضحة ونزيهة وبفضل هذه المدرسة بدت الجمل القديمة المعروفة ذكية، واضحة ومليئة بالمعاني، وفي فترة خلط الممثلون بين الشعر والكلام اليومي وتصدى الجامعيون بقوة لهذا الأمر ووضحوا الفرق بين الشعر والنثر وشددوا على احترام الشكل . ولكن ظهرت بدعة جديدة سميت ( عرض النص ) أو ( مشاركة النص مع الجمهور ) ، حيث اقترح على بعض الممثلين الشباب أن يكونوا بشكل ما ( مقدمي ) هذه الكلمات الرنانة، بتركها تشرح نفسها، وبذلك ظهرت أسوأ الأمور فظاعة ألا وهي الصوت الشكسبيري . كما يتطرق بروك إلى اتجاه بعض الممثلين الشباب في يومنا هذا إلى ما يسميه بالاختزالية، أي تقليص أحجام كل ما هو مجهول أو غامض، وقد وقع هؤلاء في الشرك حيث يعتقدون أن حياتهم اليومية تعطيهم ما هو ضروري، وأنه باستطاعتهم تأسيس فهمهم على تجاربهم الشخصية فقط . وتجدهم يلصقون أنماطاً سياسية واجتماعية على مواقف أو شخصيات قد يكون غناها الحقيقي، أبعد بكثير من الأفكار البسيطة . يقول هاملت : ( تريد أن تلعب معي؟ وكأنك تعرف طاقاتي ! إنك تقتلع قلب غموضي ) .
واجب الممثل ليس أن يفكر في الكلمات كجزء من النص، بل أن يفكر وكأنها جزء من كائن بشري جرفه تيار الأحداث . يستطيع الممثل في السينما والتلفزيون والمسرح أداء دوره باستخدام لغته اليومية أو تلك القريبة منها دون، أن تثير لديه أية تساؤلات، ولكن في لحظة التحدي وهي تمثيل شكسبير يصبح كل شيء مشوشاً، فتوجيه اهتمامه من جهة إلى المؤلف، ومن جهة أخرى إلى الشخصية، هو عبارة عن تفكير مزدوج، والتفكير المزدوج ضياع للطاقة والتركيز . ( لهذا نستطيع القول إن الكلمات التي تستخدمها الشخصية، هي التي تبين لنا من هي ). الممثل الذي لا يرى سوى أفعال ( لير ) ربما يتوصل إلى نتيجة أن عجوزاً مجنوناً يمكنه التنازل عن مملكته لبناته، سوف يصحح فكرته هذه عندما يرى رجلاً مرهف التفكير في الأشياء وغموضها في وضع طارئ جداً بدلاً من التشكي، إذا من هو ؟ هذا السؤال ينقل الممثل إلى ما هو أبعد من فرويد، من يونغ وأبعد من الاختزالية، وهذا لن يوصلنا إلى الإهمال ولا إلى أقل قلق لتفاصيل الشعر، بل على العكس فإن كل مقطع يكتسب أهمية جديدة وكل حرف جديد، قد يصبح مفتاحاً أساسياً في إعادة بناء عقل ذي تعقيد مهول، إننا لا نستطيع أن نبدأ دائماً بفكرة أو نظرية حول الشخصية . لا توجد صورة مصغرة، كل المسرحية تصبح زخرفة كبيرة، فنقترب من الموسيقى، الإيقاع، غرابة الصور، المجانسات الصوتية وكذلك القوافي، كل هذا بدهشة وتواضع الاكتشاف، لأنها تعابير ضرورية لمبدعين من البشر فوق العادة . لم يكن شكسبير راغباً أبداً في أن يتعمق أحد في دراسة شكسبير . وليست مصادفة أن يختار التستر . إننا بنسيانه نستطيع البدء في العثور عليه . حديث عن شكسبير : يتطرق بيتر بروك في البداية إلى نصوص شكسبير، ويتساءل كيف أنه رغم مرور مئات السنين على كتابتها لماذا لا تعد هذه النصوص قديمة، رغم أننا نعد أن الجريدة الصادرة بالأمس قديمة ؟ ويجيب على ذلك أنه ربما اعتبرنا هذا السؤال تافهاً وسهلاً، ولكن في الواقع إذا تأملناه وفكرنا فيه فإن الإجابة السهلة لن تقنع أحداً . قد تكون الإجابة أن شكسبير كان عبقرياً . ما الإيضاحات التي تأتى بها كلمة ( عبقري ) أو ( كان شكسبير رجلاً عظيماً في عصره ) ، بماذا يساعدنا هذا الأمر في الفهم ؟ . ظهر اتجاه يطرح إذا ما كان شكسبير حقيقة . وبرزت عدة نظريات تطالب بتبديل اسمه بأسماء أخرى مثال ذلك بيكون، مارلو، أوكسفورد وغيرها، لا معقولية هذا كله أنهم يغيرون الأسماء، ذلك كل ما في الأمر، بينما يبقى الغموض شاملاً . وليكن منطلقنا أن شكسبير كان يتمتع بذاكرة خارقة لكتابة مسرحياته . ولا مجال للمناقشة بامتلاكه وراثياً مقدرة خارقة على الملاحظة والمقاربة والتذكر وقدرة فائقة على تسجيل ما يدور حوله ذهنياً إلى جانب ذلك، كانت لديه القدرة على الإبداع وهي صفة أساسية . نستطيع القول إنه شاعر ولن يغالطنا أحد ولكن ما الصيغة المحددة للأرضية التي تسمو منها هذه الظاهرة المميزة التي نطلق عليها ( شعراً ) ؟ وما هو جوهري أن الشاعر إنسان كأي منا، مع فرق إن أي منا لا يستطيع الدخول إلى مجمل حياته، كما لا يستطيع الولوج إلى لحظة استماعه الواعي، لاستيعاب كل الغنى الذي تشبعنا به طوال حياتنا، وقد يتطلب ذلك الأمر سنوات عديدة . أما الشاعر فهو مختلف، فميزته المطلقة التي تصنع منه ( شاعراً ) هي القدرة على رؤية العلاقات بين الأشياء في الأماكن، التي لا يمكن أن تكون فيها هذه العلاقات مؤكدة . ومن الواضح أن شكسبير كان يكتب مسرحياته بشكل عملي وسرعة كبيرة لتعرض في مسرح مستمر، ذلك إذا ما أخذنا في الاعتبار العدد الذي أنتجه، والسنوات التي كتب فيها .
ولم يثبت وجود أية مسودة أو منسوخة غير مستخدمة بل على العكس فكل شيء يوحي بأن أروع مسرحياته كتبت بحماس اللحظة وبشغف ملتهب، يحمله إلى كتابة ما يتخيله بالضبط . يبدأ شكسبير دائماً برواية حكاية، حيث يكن للحكايات احتراماً كبيراً، وله طريقته الخاصة وكان واعياً في كل لحظة ليس فقط للحدث بحد ذاته، ولكن كل ما له علاقة مع هذا الحدث وبكل درجاته . ويرى نفسه مجبراً على اختلاق آلة معقدة جداً ورائعة نسميها ( شعر ) وبفضلها يستطيع أن يعطينا في الوقت نفسه معنى الحكاية والصفات الإنسانية للشخصية، وذلك عبر اختياره للكلمة المناسبة من بين عشرين ألفاً يمتلكها، وإيجاده كلمات ذات صدى تجمع كل درجات التداعي التي تحملها . هذه الظاهرة تبين وجهاً آخر . فمسرحية لشكسبير ليست أطول من أي مسرحية أخرى، وفقرة منها تساوي في طولها فقرة في جريدة اليوم، ولكن الكثافة، كثافة اللحظة هو ما يهمنا أكثر . هذه الكثافة تأخذ في اعتبارها عدة عناصر وأولها لغة صورية . ولكن أيضاً الكلمات التي تأخذ حيزاً رائعاً بسبب كونها ليست ببساطة ( مفهوماً ). حتى لو كان المفهوم عنصراً ضرورياً في الخطابة، فهو ليس أقل تراجيديا من جزيء ليس ذا معنى من الخطاب . ( المفهوم ) هذا الاجتهاد الفكري الضعيف الذي بالغت الحضارة الغربية في إجلاله لعدة قرون . وهو موجود هنا، لكنه يتعدى وجوده، فهو ( حي عبر الصورة ) وفيما وراء المفهوم والصورة هناك الموسيقى ... وموسيقى الكلمات هي التعبير عن كل ما لا يمكن الإمساك به في الخطاب التصوري . التجربة الإنسانية التي لا يمكننا أن نخضعها للمفاهيم تعبر عن نفسها بالموسيقى . ومن هنا يولد الشعر، ذلك أنه في الشعر توجد علاقة مرهفة للغاية بين الإيقاع، والنغمة، والتردد والطاقة التي تمنح كل كلمة في اللحظة التي ينطق بها معنى . وللصورة في الوقت نفسه بعد آخر قوي جداً آت من الصوت، وموسيقى الفعل بمعناه الشاعري صفة دقيقة . ومما يؤسف له أن المدارس المسرحية في العالم اختصرت هذه التركيبات إلى سلسلة من القواعد، وإذا علمنا أن شكسبير كتب بطريقة التفعيلات الخماسية المبنية على نوع معين من الإيقاع، وحاولوا إدخال هذا الإيقاع في حديثهم، فإننا نحصل على موسيقى جافة، فارغة ليس لها علاقة مع الموسيقى الحية للكلمات . ثم يعود بروك إلى السؤال الرئيس : أين تكمن الحياة في هذه المسرحيات ؟ ما هي - ببساطة - ظاهرة شكسبير الذي كتب فيما أعتقد سبعاً وثلاثين مسرحية، وآلاف الشخصيات ؟ هذا يعني أن شكسبير ( الذي لا نعرف عنه الكثير ) قد حقق عملاً رائعاً ومتميزاً في تاريخ الأدب إذ استطاع في كل لحظة أن يندس في ما لا يقل عن ألف وجهة نظر متغيرة على أقل تقدير .
وإذا ما حاولنا اختزال شكسبير في وجهة نظر واحدة مهما كانت، فإننا نسيء إلى أنفسنا . حيث إنه يمتلك الرأفة بشكل متساوٍ، ويتماهى أيضا مع كل هذه المواقف المختلفة والمتغيرة التي يضعها بشكل دائم واحدة بمواجهة الأخرى . عندها نكتشف استحالة تحديد وجهة نظره . كان مسرح شكسبير مكاناً للّقاء بين الجمهور والممثلين، حيث يمكنهم رؤية لحظات قوية من الحياة ثانية بعد أخرى . وفي كل مكان يصاحب المرئي ببعد غير مرئي، ولهذا في كل المسرحيات يكون الحدث في الوقت نفسه عمودياً وأفقياً . وعندما يكتب شكسبير ( أمد مرآة ... نحن نمد مرآة إلى الطبيعة ) فهذا يتضمن انعكاس البشر في الحياة الحقيقية، ولكنه لا يتضمن أن يعكسهم بشكل طبيعي كما هم في الحياة ولا بشكل مصطنع . المسرح لا يعكس فقط الظاهر بل ما يختبئ خلف المظهر الخارجي من خلال تعقيدات العلاقات الاجتماعية، وخلف المعنى النهائي الوجودي لهذه الحركة التي نسميها الحياة . كل هذا يمكن رؤيته في المرآة الكبرى . وإظهار الحياة بهذا الشكل مهمة عسيرة تتطلب شكلاً وجهداً مكثفين لا يمكن تصورهما، لذا نعود مرة أخرى إلى المادة التي يمكنها ذلك وتتطلب كل منابع اللغة وأعني بذلك ( الشعر ) ، الشعر الذي قد لا يكون جميلاً ولكنه متماسك، لغة محملة بالكثافة . واليوم إذا رغبنا في إخراج مسرحية لشكسبير، فالتحدي يكمن في مساعدة الجمهور، ليرى وليسمع بعيون وآذان اليوم، وما نراه يجب أن يكون طبيعياً : ممثل يتكلم حاملاً كأس ماء، هذا طبيعي، وفجأة يبدأ في إلقاء الشعر، وفي خطبة معقدة جداً، وحركة غريبة هذا أيضاً قد يبدو طبيعياً بمعنى آخر تكمن المشكلة في تكثيف هذه المادة في اللحظة الحالية، حيث يجلس الجمهور هنا اليوم .
لكن هناك شرك ( الحاضر ) و(المعاصر ) فهما ليسا الشيء نفسه فقد يعرض مخرج ما أية مسرحية لشكسبير ويجعلها معاصرة بشكل عادي وغير متقن، مثال ذلك إدخال أفراد على دراجات نارية حاملين مسدساتهم يطلقون رصاصها وهم على الخشبة . هناك مئات الطرق لإيصال النص إلى حاضر يسهل التعرف عليها . والمخرج حر، لكن هذه الحرية تضعه بالضرورة أمام سؤال صعب ومؤلم، إنها تجبره على استكشاف النص ببقائه حتى النهاية محترماً له حساساً ومنفتحاً عليه . وبما أن النصوص المسرحية الغنية محدودة، يجب أن نعترف أننا نجازف بما قد لا يكون ذا جدوى . خلاصة القول إن المقالة في جريدة الأمس لها بعد واحد يمر سريعاً . عند شكسبير كل بيت شعر هو ذرة إذا ما عرفنا كيف نفجرها طاقة لا متناهية .
الأيام
15 أغسطس 2004